هموم سجين سابق أو لاحق!!
كانت ندوة وورشة عمل مهمة جدًا لمناقشة أوضاع السجناء بين الواقع وطموحات المستقبل، فهي الفرصة التي لا تتاح إلا نادرًا جدًا لفتح هذا الملف الحساس، وبحضور سجناء سابقين، ونخبة من رجال القضاء والنيابة، وكذلك رجال الأمن من مصلحة السجون وغيرهم.
لم تكن الآمال عريضةً عندما تأسس المجلس القومي لحقوق الإنسان، الذي رعى هذه الندوة، ولكني رحَّبت بالدعوة، وشاركت في أعمال الندوة التي ازدحمت في يوم واحد، على أمل أن يتمكن المجلس- بجهوده المخلصة وبعد زياراته المتكررة للسجون- من تحسين أوضاع السجون، ورعاية أحوال السجناء إذا لم يتمكن من إطلاق سراح المعتقلين (وهم بالآلاف) تخفيفًا على الأقل، وهو من أخطر مشاكل السجون في مصر، بعد أن استولى السياسيون المعارضون على حقوق السجناء العاديين في السكن، كما استولى السياسيون الموالون على ثروات وحقوق المصريين العاديين خارج السجون.
غاب سجناء الحق العام البسطاء الضحايا، ولكن ظلَّ جرس كلمات أحدهم ترنُّ في أذني لحظةَ خروجي بعدة سنوات أشغال شاقة مؤقتة.. لا تنسونا يا دكتور كما نسيَنا كلُّ الذي أوصيْناهم من قبل.. إنهم المنسيون في ملف السجون..!! لقد حاولَت مصلحةُ السجون تطبيقَ سياسة عقابية متطورة، وتحسين أوضاع السجون في بداية الثمانينيات، بعد أن حكم مصرَ الرئيسُ أنور السادات، وهو سجين سابق، فقام في حركة مسرحية بارعة بتدمير جزء من ليمان طرة، وكتلك التي قام فيها بحرق أشرطة التنصت، ولكن والحق يقال إنَّ التعذيب توقف فترةَ السبعينيات قبل أن يعود وبقوة وقسوة وغلظة شديدة بعد اغتيال السادات، ويستمر كمنهج وسياسة متبعة حتى يومنا هذا.
وأيضًا لقد رسمَت وزارة الداخلية سياسةً عقابيةً تقوم على التقرير العقابي، وتصنيف المساجين، ووضعت خطةً لبناء سجن الاستقبال بطرة للقيام بهذه المهمة، ولكن قام السياسيون باحتلاله عندما قرر السادات التحفظ على خمسمائة وستين ارتفع عددهم بعد المظاهرات إلى 1536، وكنت أول ضيف يحل على استقبال طرة؛ لأنني خرجت من المنزل إلى الاستقبال دون المرور على القسم.
ومن يومها تغيَّرت مهمة هذا السجن الذي كان يمكن أن يكون بدايةً لسياسة جديدة، فأصبح رمزًا للتعذيب بعد أن تمَّ إخلاؤه قبل نهاية أكتوبر 1981م، فقد غادرت السجن يوم 17/10/1981م بعد أن حللت في التأديب لمدة يومين أو ثلاثة، وبدأ التعذيب بمجموعتنا التي رحلت إلى سجن المرج، الذي كان المكان الأمين للتحفظ على القيادات الكنسية، وهم غادروه إلى وادي النطرون لكي يحل المتهمون باغتيال السادات ومَن يُشتبه فيهم، ورأيت هناككمال حبيب الذي مثَّل لي مفاجأةً وقتها.
عندما اتضح للمحققين- الذين لم يتورعوا عن استخدام كل ألوان التعذيب معنا (من الإخوان والمتعاطفين معهم كنت أنا ود. أحمد عمر ود. أحمد أبو الفتوح (شقيق د. عبد المنعم)- أنه لا صلة لنا بالحادث، فقد تمَّ اعتقالنا قبله بشهر وأكثر، وتمَّ ترحيلنا من جديد إلى سجن الاستقبال، وكانت المفاجأة المأساة.. لقد تحول السجن المُعدُّ للتصنيف والتغريد إلى مسلخ بشري، وتمت فيه مذبحة للمعتقلين تحت إشراف اللواء فؤاد علاَّم ورجاله، كما تحوَّل سجن القلعة إلى مسلخة أخرى بجانب المرج تحت إشراف اللواء محمد عبد الفتاح عمر ورجاله.
لقد استقبلنا الجنود الذين كانوا يتعاونون معنا في تسيير شئون السجن لمدة شهر ونصف تقريبًا، ويحترموننا أكبر الاحترام بالضرب والإهانات وحلق الشعر واللحية، ونالنا- نحن المعروفين لهم- أكبر النصيب بعد أن تحولوا إلى وحوش آدمية.
الخطوة الثانية لحل مشاكل السجون كانت بناء عدد من السجون على النظام الحديث لتخفيف الازدحام ومراعاة آدمية السجين بوضع دورات المياه داخل العنابر، وإتاحة وصول الشمس إلى كافة الزنازين، ونظام تهوية جيد، وأفنية واسعة، ومكتبات وخدمات صحية معقولة، فإذا بالسياسة تتدخل من جديد لتفسد هذه الخطة الحديثة.
ففي منتصف الثمانينيات قررت الداخلية تنفيذ سياسة لاستدراج الجماعة الإسلامية إلى العنف، وتشويه صورة التيار الإسلامي المعتدل الذي بدأ يشارك بقوة في الحياة النقابية؛ مما شكل قلقًا شديدًا عبَّر عنه أحد القيادات الأمنية بقوله: ماذا تفعل إذا رأيت تيارًا سياسيًا وحيدًا ينجح ويسيطر على معظم مجالس النقابات، وكذلك نجاح الإخوان في الانتقال من التحالف المحدد الذي كان مجرد تنسيق فقط مع حزب الوفد عام 1984م إلى تحالف حقيقي وجاد وفعال ومؤثر مع حزبَي العمل والأحرار عام 1987م، فأصبح المهندس إبراهيم شكري زعيمًا للمعارضة والمأمون الهضيبي نائبًا لزعيم المعارضة.
كان الحل السياسي الأمني هو إضعاف لهيب العنف، فتمَّ اغتيال د. علاء محيي الدين، وماجد الطيفي في شوارع القاهرة والجيزة المزدحمة؛ لتنطلق حملة عنف كرد فعل متوقَّع استمرت عشر سنوات، وكان من نتيجتها استيلاء الأمن السياسي على خطة تحسين السجون، فامتلأت سجون الاستقبال مرةً أخرى وتشديد الحراسة (العقرب) بطرة ودمنهور والغريبات ووادي النطرون والوادي الجديد (آلاف المعتقلين السياسيين)، وكلها سجون حديثة كانت أملاً لعشرات الآلاف من السجناء العاديين.. كل هذا يشكل تحولاً في حياتهم داخل السجن.
كادت تنتهي المقالة دون أن أشير إلى أهم ما أُثير في الندوة.. الكلام كله جميل، والواقع طعمه مرير.. والذي طالبت به هو أن نبدأ باحترام الدستور، وتنفيذ القوانين الحالية، قبل أن نطالب بتعديلات تشريعية أو دستورية مع اقتراب تشريع جديد يتبنى سياسةً عقابيةً متطورةً تنظر إلى المجرم على أنه ضحية المجتمع وليس شريرًا بطبعه.
غياب دور النيابة التام والتي لم نرَها طوال فترات السجون التي عشناها وعاشها غيرنا، ومطالبتي أن تقوم النيابة بدورها القانوني بدلاً من أن نلجأ نحن إلى ضباط الداخلية خاصةً رجال أمن الدولة الذين أصبحوا أكثر تفهمًا ومرونةً من رجال النيابة.. أغضبَ أحد المستشارين فانسحب دون أن يكمل الندوة، وقد كانت له كلمةٌ فيها عن دور النيابة، فبدلاً من الرد على ما أُثير إذا به ينسحب غاضبًا لنفسه.
وطالبت بنقل تبعية السجون من الداخلية إلى الشئون الاجتماعية، ولتكتفي الداخلية بتأمين السجون من الخارج فقط، وأُثير الكثير عن جرائم ترتكب داخل السجون نتيجة تبعيتها للداخلية، مثل: خطف بعض السجناء والمعتقلين إلى مقار أمن الدولة لتحقيقات معهم.. التحقيق داخل السجون نفسها مع المعتقلين.. الإهمال في الرعاية الصحية؛ مما يؤدي إلى وفاة محتجزين نتيجة أمراضهم وعدم علاجهم، كما قدم العديد من المشاركين أوراقًا مهمة مثل أ.د. فوزية عبد الستار، والمحامي عبد الله خليل، والنشط في حقوق السجناء محمد زارع.
وعرض اللواء هاني الدغيدي جهود مصلحة السجون التي تتحمل عبئًا هائلاً في ظل ضعف الإمكانيات وقلة الموارد وتخبط السياسات وسيطرة السياسي على الأمني وتدهور الأحوال العامة في مصر.. النتيجة التي أرجوها: أنه بما أننا فتحنا الملف الهام والخطير فيجب ألا نغلقه إلا بعد الوصول إلى توصيان وقرارات بسيطة وعملية لإصلاح حال السجون في مصر.
ليس هذا حديثَ سجين سابق، بل يجب أن يكون اهتمام كل مصري حتى ولو لم يكن ناشطًا سياسيًا؛ لأنه يمكن أن يصبح سجينًا لاحقًا في المستقبل، وانظروا حولكم: أين يعيش الآن أيمن نور- زعيم حزب الغد.
جرى حديث طويل حول الحبس الاحتياطي الذي تحوَّل إلى عقوبة، وفتح القضايا بلا إنهاء لها أو تصرف من جانب النيابة نحوها يبقى معلقًا فوق رؤوس أصحابها، كما جرى حوار حول (العقوبات السالبة للحرية.. هل من بديل؟!).
المصدر
- مقال:هموم سجين سابق أو لاحق!!إخوان أون لاين