وحى رمضان .. كيمياء الأرواح

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
وحى رمضان .. كيمياء الأرواح

بقلم / الإمام حسن البنا

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَّشَاءُ) [الزمر: 23] من عباده.

و(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الحشر: 21].

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للهِ الأمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا) [الرعد: 31]، قرأت هذه الآيات الكريمة، فسبحت فى أخبار علوية، وتداعت المعانى بعضها إثر بعض للكشف عن أثر هذا القرآن العظيم فى النفوس والأرواح، لا بل فى الجمادات، ومختلف أنواع العوالم والكائنات.

قال أسيد بن حضير: بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس، فسكَتَ فسكَتَتْ، فقرأ فجالت الفرس، فسكت فسكتت، ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبًا منها، فأشفق أن تصيبه، فلما أخبره رفع رأسه إلى السماء، فإذا هو بمثل الظلة، فيها أمثال المصابيح، عرجت إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبى صلى الله عليه وسلم فقال: أتدرى ما ذاك؟ قال: لا، قال: تلك الملائكة، دنت لصوتك، لو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم.

ولقد سمعت الجن آيات هذا القرآن الكريم، فلم تتمالك نفسها أن قالت: (إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِى إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) [الجن: 1-2]

وسمع عمر بن الخطاب رضى الله عنه رجلا يقرأ سورة "الطور"، فغشى عليه وحمل مريضًا إلى بيته، وأخذ الناس يعودونه شهرًا تأثرًا بما سمع(.

وجاء عتبة بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفاوضه فى أمر رسالته، ويعرض عليه المال والجاه والملك والسلطان ليدعها، فأجابه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بقول الله تبارك وتعالى: (حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ) [فصلت: 1-4]، إلى أن وصل إلى قوله تعالى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) [فصلت: 13] الآيات، فرجع عتبة إلى قومه ترجف بوادره حتى قالوا: لقد رجع إليكم أبو الوليد بوجه غير الوجه الذى ذهب به، ثم أقبل عليهم يقول: والله لقد سمعت كلامًا ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر.

وهكذا يفعل القرآن فعل السحر الحلال فى الملائكة المقربين والجن -وهى الجن- والمؤمنين والكافرين؛ فيؤثر فى كل موجود، ويظل هكذا معجزة الوجود وآية الخلود.

وهل تغيرت الأمة العربية فى أنفسها وأوضاعها ومسالكها وطباعها بغير هذا القرآن الذى قادها إلى ما لم تكن تعرف، وجمعها على ما لم تألف؛ حتى صارت آية بين الأمم ومعجزة بين الشعوب.

ولقد ألم الرافعى رحمه الله بهذا المعنى إلمامة كريمة صاغها قلمه الملهم فى هذه الكلمات: "وأنت إذا تدبرت هذه القوة الروحية فى آداب القرآن الكريم، واعتبرتها بما آتاها فى الطباع ومساغها إلى النفوس، واشتمالها على سنن الفطرة الإنسانية؛ فإنك تتبين من جملتها تفصيل تلك المعجزة الاجتماعية التى نهض بها أولئك العرب؛ فنفضوا رمال الصحراء على أشعة الشمس فى هذا الشرق كله؛ فحيثما استقرت منها ذرة رفع وراءها عربى. وليس من دليل فى التاريخ على أن هذه الأرض شهدت من خلق الله جيلا اجتماعيًا كذلك الجيل الأول فى صدر الإسلام، حين كان القرار غضًا طريًا، وكانت الفطرة الدينية مواتية، وكانت النفوس مستجيبة على أنه جيل ناقض طباعه، وخالف عاداته، وخرج مما ألف، وخلق على الكبر خلقًا جديدًا،

ومع ذلك فإن الفلسفة كلها، والتجارب جميعًا، والعلوم قاطبة لم تنشئ جيلا من الناس، ولا جماعة من الجيل، ولا فتية من الجماعة كالذى أخرجته آداب القرآن وأخلاقه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى علو النفس، وصفاء الطبع، ورقة الجانب، وبسط الجناح، ورجاحة اليقين، وتمكين الإيمان، إلى سلامة القلب، وانفساح الصدر، ونقاء الدخيلة، وانطواء الضمير على أطهر ما عسى أن يكون فى الإنسان من طهارة الخلق، ثم العفة فى مذاهب الفضيلة من حسن العصمة وشدة الأمانة وإقامة العدل والذلة للحق، وهلم إلى أن نستوفى الباب كله، وهذا على كثرة عديدهم، وترادف تلك الآداب فيهم، وتظاهرها على جميعهم، واستقامتهم لها بأنفسهم، وإنما يكون مثل الرجل الواحد منهم فى الدهر الطويل، وفى الجيل بعد الجيل، وإنه على ذلك ليكون فى الأرض فى درة الفلك؛ بل يحمل هذه الأرض مثال السماء؛ لأنه فى نفسه مثال الملك" أ هـ.

"أما بعد" فيا أيها المسلمون الصائمون القائمون، ألا إن هذا القرآن بين أيديكم كما كان بين أيديهم، تسمعون إليه كما كانوا يستمعون، وتقرءونه كما كان يقرءون، لم ينقص منه حرف، ولم تضع منه آية، ولم تتبدل فيه كلمة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر: 9]؛ فما باله لم يفعل بكم ما فعل بهم، ولم يغير منكم ما غير من أخلاقهم وأوضاعهم وطباعهم؟.

ذلك لأنهم تلقوه مؤمنين، وقرؤوه متدبرين، واستمعوا إليه طائعين، وأقبلوا عليه منفذين، وأسلموه زمام النفوس والأرواح، وهو كيمياؤه التى لا تستعصى على فعلها العناصر، ولا يقف أمام فعلها جاحد أو مكابر؛ فأنشأهم قومًا آخرين، وجعلهم حجته على الظالمين.

وتستطيعون أن تكونوا كذلك إذا آمنتم بالقرآن إيمانهم، ونهجتم به فى أنفسكم وأوضاعكم نهجهم؛ فحللتم حلاله، وحرمتم حرامه، وأنفذتم أحكامه، وتدابرتم آياته، وسرتم بتوجيهاته، وكان هواكم تبعًا لما جاء به.. فهل أنتم فاعلون؟.


المصدر : جريدة الإخوان المسلمين اليومية – السنة الأولى – العدد 75 – صـ3 – 2رمضان 1365هـ / 30يوليو 1946م