يوسف الدجوي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الشيخ يوسف الدجوي

يقدم موقع (إخوان ويكي):

بقلم: السيد شعيب

الشيخ يوسف الدجوي .. الفقيه البحاثة الداعية

لم يخل عصرٌ من العصور الإسلامية من العلماء والمصلحين الذين يحيون ما أمات الناس من سنن، وما أفسدوا من شرائع، وما عطلوا من أحكام، ويرجعون بالناس إلى الدين في سهولته وهدايته كما كان في الصدر الأول، ويجمعون كلمة المسلمين على ما أجمعوا عليه قبل التفرق والاختلاف.

ويعد الشيخ يوسف الدجوي أحد هؤلاء العلماء والمصلحين الذين جدووا في المسلمين أمور الدين والدنيا، وأوقفوا حياتهم على خدمة الإسلام والمسلمين.

مولده ونشأته

الشيخ يوسف الدجوي
هو الشيخ يوسف بن أحمد بن نصر بن سويلم الدجوي ينتهي نسبه إلى حبيب بن سعد إحدى قبائل العرب الحجازية.
وُلد الشيخ الدجوي في قرية دجوة بمحافظة القليوبية عام 1870م، ونشأ بها وحفظ القرآن الكريم.
أُصيب في طفولته بمرض الجدري حتى كُفَّ بصره، ولم يمنعه ذلك من استكمال تعليمه وتحقيق طموحه.
نشأ رحمه الله في بيت علمٍ وفضلٍ ووجاهةٍ، إذْ كان والده رئيس قريته، ومنزله محط الغادين والرائحين، ومثابة مَن يفد على القرية من العلماء والأعيان، وله مكتبة عامرة بكتب الفقه والأدب والتاريخ، وقد دفع بولده الصغير إلى مَن يُحفِّظه كتابَ الله فبدت دلائل النبوغ على الطفل الناشئ إذْ تمتع بذاكرةٍ حافظة تستوعب ما يُراد استيعابه دون جهد.
وكان يسمع الحوار العلمي في منزل والده فيعيه على حداثة سنة فاتجهت الرغبة إلى إلحاقه بالأزهر الشريف بعد أن درس في القرية مبادئ الفقه والنحو والسيرة النبوية المطهرة.
تلقَّى العلم على كبار علماء عصره كالشيخ هارون عبد الرازق البنجاوي والشيخ سليم البشري شيخ الأزهر وغيرهما.
وما كاد ينتظم في دروسه حتى برز بين أقرانه؛ لأن ما درسه من مبادئ العلوم كان سُلَّمًا إلى ارتقاءِ ذهنه، وقد أُوتي جلدًا على الدرس فكان لا ينقطع عن حلقات الدروس بالأزهر، فهو دائم التردد على مجالس الأساتذة حتى أصبح موضع الثقة بين زملائه يفزعون إليه حين يحتاجون إلى استعادة ما قال الأستاذ في درسه، ويذهبون في المساء إلى منزله ليتذاكروا معًا مسائل العلم، ولم يمر زمن طويل حتى أخذ يُدِّرس لإخوانه كتب الأزهر قبل أن ينال الدرجة العالمية فيجتمع حوله الطلاب واثقين بعلمه.
نال الشيخ الدجوي شهادة العالمية من الدرجة الأولى الممتازة سنة 1316هـ ثم عمل بالتدريس بالأزهر، وكان لعلمه العميق وفهمه الناضج وأسلوبه البليغ أثر عميق في اجتذاب الطلاب إلى الدراسة والالتفاف حوله، وتخرَّج على يديه كثيرٌ من العلماء وكبار الأساتذة ورؤساء المحاكم الشرعية والمحامين.
وكان امتحانه النهائي يومًا مشهودًا، إذ اجتمع له الأفذاذ من علماء الأزهر مقدرين مكانته وفي مقدمتهم شيخ الأزهر العلامة سليم البشري، فأطالوا نقاش الطالب ليكشفوا عن معدنه النفيس ومنحوه أعلى الدرجات، وسارع بعضهم إلى زيارة منزله مهنئين واثقين بما سيجرى عليه من خيرٍ للعلم، ورأت المشيخة أن تسند إليه الكتب العويصة على غير عادتها مع زملائه فالتفَّ حوله الطلاب، وشهدوا بإحاطته الشاملة وبصره النافذ في الدقائق المشتبهة.

صفاته

كان الشيخ الدجوي آيةً في الذكاء وسرعةَ الخاطر وجودةَ البيان وقوة الذاكرة وسعة العلم، يحضر حلقات دروسه في الأزهر الشريف مئات من العلماء، وطلبة العلوم وتتوارد إليه استفاءات من شتى الاقطار والجهات.
كما كان سمحًا كريمًا يعطف على الغرباء ويهشُّ لتلامذته وطلابه.

جهوده العلمية

تنوعت دروس الشيخ الدجوي فلم تقتصر على فن واحد؛ لذا أراد الشيخ أن يتسع بعلمه إلى أرحب مجال فدعا إلى دروسٍ في عامةِ التفسير يلقيها بالرواق العباسي تشبهًا بالإمام محمد عبده رحمه الله فاتسعت حلقة درسه وحضر الطلاب بأوراقهم ليسجلوا ما يفتح الله به على الشيخ.
على أن جهد الشيخ يوسف لم يقتصر على الطلاب إذ رأى أن تكون الصحافة بعض ميادينه العلمية، وكانت شبهات الضالين من الكُتَّاب تتردد في بعض المجلات متسترة وراء الحرية العقلية ومتجهةً إلى رمي العلماء بالجمود والرجعية فكان الشيخ الدجوي يتعقب هذه الشبهات ليرد عليها.
برع الشيخ الدجوي في الرد على الدهريين والماديين الغربيين باستعمال منطقهم وأقيستهم العقلية، وألقى محاضرات عدة في الرد على بعضهم، فقد دعته جمعية الشبان المسلمين للرد على أصحاب النظريات الإلحادية من الغربيين، فألقى محاضرةً بعنوان "علم الطبيعة وصلته بالإلحاد" فابتدأ الشيخ الدجوي بقول العلامة الإنجليزي "سبنسر": "ليس الغرض من تعلُّم الطبيعة معرفة الظواهر وإنما الغرض هو الوصول إلى الأسباب الباهرة التي نُفسِّر بها هذه الظواهر مع صعوبة هذا الوصول واستحالته في كثيرٍ من المسائل"، والإلحاد لا يجتمع مع التعمق في الدراسات الكونية؛ لأن نسقها المحكم الدقيق يدل على وجود إلهٍ مدبرٍ يُدير الكون.
وتابع الشيخ مستشهدًا بأقوال العلماء بأنَّ ما حصل من الاكتشافات العلمية يدل على أن الكثير منها لا يزال طي الخفاء؛ لأن العلماء يكشفون اليوم ما كان مجهولاً بالأمس، ولو سلَّمنا جدلاً بأنهم عرفوا كل القواميس الطبيعية فإن ما عرفوه ينحصر في مشاهد الأرض وحدها، فلهم أن يقولوا إنا عرفنا عناصرها وتركيبها ولكنهم لا يستطيعون أن يقولوا إنهم عرفوا ما اشتملت عليه العوالم الفسيحة من أسرار، فليست أرضنا إلا ذرة صغيرة بإزائها ويكفي أن تعلم أن الأرض جزء من ألف ألف وثلاثمائة جزء من الشمس، وليست الشمس إلا شيئًا صغيرًا بجانب غيرها.
ونحن لا نجد الدليل على المجهول وعدم الدليل لا يدل على عدم المدلول، أما كنا نجهل الميكروبات والكهرباء آلاف السنين ثم كشف العلم عنهما؟ أيكون جهل الأقدمين بهما دليلاً على عدم الوجود؟ وإذا كان العلم ينقض في غده ما أثبته في أمسه فكيف يكون حجةً قاهرةً على ما جاء به القرآن من أسرار؟ وكيف ينجح من يعلم القليل فينكر وجود خالق السموات والأرض؟
إذا كانت الافتراضات غالبةً في تعليل العلماء فكيف يكون الغرض الاحتمالي يقينًا لا جدلَ فيه؟
وبعد إفاضة مشبعة تملأ عدة صفحات ينقل المحاضر قول العلامة "كاميل فلامريون" إنه من الضلال أن نصدق كل ما يقال، ويساويه في البطلان ألا نعتقد شيئًا أصلاً، ويمضي في تفسير هذا القول ليؤكد قصور الملحدين وأخذهم بالقشور دون اللباب.
وهكذا استطاع الشيخ الدجوي أن يخاطب الجمهور بالأدلة والبراهين العقلية مؤيدةً بأقوال كبار العلماء من أساتذة أوروبا، وهو اتجاه محمود لأنه يضيف إلى الأدلة النقلية أدلة أخرى عقلية تشق طريقها إلى البعض ممن لا يعترفون بالأدلة النقلية من القرآن والسنة.
وفي محاضرةٍ أخرى في جمعية الشبان المسلمين حول إثبات الروح استجابةً لاقتراح بعض المشككين سلك الشيخ الدجوي مسلكه السابق في الاستعانة بالأدلة المنطقية والبراهين العقلية الدامغة.
ولقد انتشر صدى هذه المحاضرات العلمية للشيخ الدجوي في الأوساط العلمية المختلفة وتلقفها رجال التربية وعلماء النفس والاجتماع، وأخذ طلاب البعثات الأوربية يرجعون إليه حين يجدون بعض الشبهات فيما يدرؤون من مسائل العلم الحديث.
خاض الشيخ الدجوي كثيرًا من المعارك الفكرية مع بعض علماء عصره حول بعض المسائل الشرعية، وأبرزهم العلامة الشيخ رشيد رضا والشيخ محمد بخيت المطيعي، ومع ذلك لم يكن الشيخ الدجوي من ذوي التعصب لرأيه بل كان يُقدِّم لفتاويه بأنها محض اجتهاد وأن رأيه ليس الأوحد الذي لا محيدَ عنه، وقد أُثر عنه قوله إنه حين يُسأل عن حكمٍ فقهي يذكر ما يُرجحه من آراء العلماء في هذا الحكم، وليس معنى ذلك أنه لا خلافَ فيه بل معناه أن المختار هو ما يتجه إليه، وقلما نجد مسألةً مما يُسأل عنه لا خلافَ فيها.
كما انضمَّ الشيخ الدجوي إلى هيئة كبار العلماء في دفاعها عن الإسلام وتفنيد مزاعم الشيخ علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" الذي زعم فيه أن الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة لا علاقةَ لها بالحكم، ولا دخلَ لها بالسياسة والتنفيذ في أمور الدنيا.

قالوا عنه

يقول الإمام البنا عن الشيخ الدجوي: "كنتُ أقرأ للشيخ يوسف الدجوي- رحمه الله- كثيرًا، وكان الرجل سمح الخلق، حلو الحديث، صافي الروح، وبحكم النشأة الصوفية كان بيني وبينه- رحمه الله- صلة روحية وعلمية تحملني على زيارته الفينة بعد الفينة، بمنزله بقصر الشوق أو بعطفة الدويداري بحي الأزهر".
ويقول عنه الدكتور علي مبارك: " الأستاذ يوسف الدجوي عالم من هيئة كبار العلماء وهو ذو نفوذ كبير في الأزهر والمعاهد الدينية وأكثر العلماء الممتازين اليوم من تلاميذه، ويكاد يعدُّ الشيخ الدجوي خليفةً للغزالي في هذا العصر، ففيه تقريبًا كل خصائصه من القدرة والاستخلاص وقوة النفوذ وبغض الفلسفة والحذر من أن يتجاوز العقل ما له من حدود".

أثر الشيخ الدجوي في الأجيال اللاحقة

أثَّر الشيخ الدجوي في جيلٍ من الشباب الذين تربوا على فكره وتوجيهاته، من بينهم طلائع الحركة الوطنية في ثورة 1919م أمثال الشيخ محمود أبو العيون والشيخ مصطفى القاياتي وعبد الله عفيفي، وقد كان هؤلاء وغيرهم ثمرة من ثمار جمعية النهضة الإسلامية التي ألفها الشيخ الدجوي لمقاومة الإلحاد في شتى مظاهره، واختار لها ذوي الغيرة الدينية من رجالات مصر، فكانت الجمعية الدينية الثانية في مصر إذ سبقتها جمعية مكارم الأخلاق الإسلامية وقد بذلت الجمعيتان جهدًا ذاتيًّا ملحًّا في مقاومة الجمعيات التبشيرية.

من جوانب عظمته

لقد كان هذا الشيخ بالرغم من علو مكانته رقيق العاطفة يتألم لألم المسلمين ويحرص على وحدة الصف الإسلامي في مواجهة تيارات الإلحاد القوية، وينسى خصوماته الفكرية مع غيره من العلماء، ولا يتحرج أن يأنس لكلام أحد تلامذته ويتعاون معه في خدمة الإسلام والمسلمين.
من المواقف التي تدلل على ذلك ما ذكره الإمام البنا في مذكراته عن لقائه بالشيخ الدجوي وإصراره على كسبه لرأيه، يقول رحمه الله: انتقلنا جميعًا إلى منزل الشيخ محمد سعد- وهو قريب من منزل الدجوي- رحمه الله- وتحريت أن يكون مجلسي بجوار الشيخ الدجوي مباشرةً لأستطيع الحديث فيما أريد، ودعا الشيخ محمد سعد بحلويات رمضان، فقدمت، وتقدم الشيخ ليأكل فدنوت منه، فلما شعر بي بجواره سأل: مَن هذا؟ فقلت: فلان.
فقال: أنت جئت معنا أيضًا؟ فقلت: نعم يا سيدي، وسوف لا أفارقكم إلا إذا انتهينا إلى أمر. فأخذ بيده مجموعة من النقل (قطع الحلوى) وناولنيها وقال: خُذْ وإن شاء الله نُفكِّر، فقلت: يا سبحان الله، يا سيدي، إن الأمر لا يحتمل تفكيرًا، ولكن يتطلب عملاً، ولو كانت رغبتي في هذا النقل وأمثاله لاستطعت أن أشتري بقرش وأظلُّ في منزلي ولا أتكلف مشقة زيارتكم.. يا سيدي، إن الإسلام يُحارب هذه الحرب العنيفة القاسية، ورجاله وحماته وأئمة المسلمين يقضون الأوقات غارقين في هذا النعيم.. أتظنون أن الله لا يحاسبكم على هذا الذي تصنعون؟ إن كنتم تعلمون للإسلام أئمة غيركم وحماة غيركم، فدلوني عليهم لأذهب إليهم، لعلي أجد عندهم ما ليس عندكم!!
وسادت لحظة صمت عجيبة، وفاضت عينا الشيخ- رحمه الله- بدمعٍ غزيرٍ بلل لحيته، وبكى بعض مَن حضر، وقطع الشيخ- رحمه الله- هذا الصمت بأن قال في حزن عميق وفي تأثر بالغ: "وماذا أصنع يا فلان؟" فقلت: يا سيدي، الأمر أيسر، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.. لا أريد إلا أن تحصر أسماء مَن نتوسم فيهم الغيرة على الدين، من ذوي العلم والوجاهة والمنزلة، ليفكروا فيما يجب أن يعملوه.. يصدرون ولو مجلة أسبوعية أمام جرائد الإلحاد والإباحية، ويكتبون ردودًا وكتبًا على هذه الكتب، ويؤلفون جمعيات يأوي إليها الشباب، وينشطون حركة الوعظ والإرشاد.. وهكذا من هذه الأعمال. فقال: جميل. وأمر برفع (الصينية) بما عليها، وإحضار ورقة وقلم. وقال: اكتب.
وأخذنا نتذاكر الأسماء، فكتبنا فريقًا كبيرًا من العلماء الأجلاء، أذكر منهم: الشيخ رحمه الله، وفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ عبد العزيز جاويش، والشيخ عبد الوهاب النجار، والشيخ محمد الخضري، والشيخ محمد أحمد إبراهيم، والشيخ عبد العزيز الخولي رحمهم الله.
وجاء اسم السيد رشيد رضا- رحمه الله- فقال الشيخ: اكتبوه اكتبوه؛ فإن الأمر ليس أمرًا فرعيًّا نختلف فيه، ولكنه أمر إسلام وكفر، والشيخ رشيد خير مَن يدافع بقلمه وعلمه ومجلته.. وكانت هذه شهادة طيبة من الشيخ للسيد رشيد- رحمهما الله- مع ما كان بينهما من خلافٍ في الرأي حول بعض الشئون، وكان من الوجهاء: أحمد باشا تيمور، ونسيم باشا، وأبو بكر يحيى باشا، ومتولي بك غنيم، وعبد العزيز بك محمد، وعبد الحميد بك سعيد- رحمهم الله جميعًا، وكثيرون غير هؤلاء. ثم قال الشيخ: وإذن؛ فعليك أن تمر على مَن تعرف، وأمرُّ على مَن أعرف، ونلتقي بعد أسبوع إنْ شاء الله".
وهكذا كان الشيخ يوسف الدجوي رحمه الله عظيمًا، لا تشغله التوافه والخلافات الشخصية عن عظائم الأمور، ولا تسخفنه المواقف عن تدبرها والانصياع للحق وإن كان صادرًا من أحد تلامذته.

مؤلفاته

قضى الشيخ يوسف الدجوي عمره في الدفاع عن الإسلام وبيان أوجه عظمته وسر خلوده، وترك وراءه ثروة علمية في شتى الأمور الإسلامية حوتها كتب ومقالات كثيرة؛ حيث كان له في كل يومٍ مجلس علم في الصباح وندوة دينية في المساء.
ولم يلتف إلى نفسه فيجمع مئات المقالات ومئات الفتاوى في كتبٍ يسهل تداولها بين الناس، ولكنه ترك الكثير من آثاره، ففي أنهار الصحف متفرقًا غير مجموع حتى نهض مجمع البحوث الإسلامية فجمع بعض بحوثه في مجلدين كبيرين تقرب صفحاتهما من ألف وستمائة صفحة.
من أهم كتاباته:

وفاته

تُوفي الشيخ يوسف الدجوي بعد حياة حافلة بالعلم والعطاء في شهر صفر 1365هـ يناير 1946م، وصلى عليه شيخ الجامع الأزهر ودفن في عزبة النخل.

ما كتبه الأستاذ حسن البنا عن الشيخ يوسف الدجوي

كنت أقرأ للشيخ يوسف الدجوي – رحمه الله – كثيرا وكان الرجل سمح الخلق حلو الحديث صافي الروح. وبحكم النشأة الصوفية كان بيني وبينه رحمه الله صلة روحية وعلمية تحملني على زيارته الفينة بعد الفينة، بمنزله بقصر الشوق أو بعطفة الدويداري بحي الأزهر، وكنت أعرف أن له صلات بكثير من رجال المعسكر الإسلامي من علماء أو وجهاء، وأعرف أنهم يحبونه ويقدرونه فعزمت على زيارته، ومكاشفته بما في نفسي، والاستعانة به على تحقيق هذه الفكرة والوصول إلى هذه الغاية وزرته بعد الإفطار، وكان حوله لفيف من العلماء وبعض الوجهاء، ومن بينهم رجل فاضل لا أزال أذكر أن اسمه” أحمد بك كامل” وإن لم ألتق به بعد هذه المرة.

تحدثت إلى الشيخ في الأمر فأظهر الألم والأسف وأخذ يعدد مظاهر الداء والآثار السيئة المترتبة على انتشار هذه الظاهرة في الأمة، وخلص من ذلك إلى ضعف المعسكر الإسلامي أمام هؤلاء المتآمرين عليه، وكيف أن الأزهر حاول كثيرا أن يصد هذا التيار فلم يستطع، وتطرق الحديث إلى جمعية” نهضة الإسلام” التي ألفها الشيخ، هو ولفيف من العلماء، ومع ذلك لم تجد شيئا، وإلى كفاح الأزهر ضد المبشرين والملحدين، وإلى مؤتمر الأديان في اليابان، ورسائل الإسلام التي ألفها فضيلته وبعث بها إليه، وانتهي ذلك كله إلى أنه لا فائدة من كل الجهود، وحسب الإنسان أن يعمل لنفسه وأن ينجو بها من هذا البلاء.

وأذكر أنه تمثل بهذا البيت، الذي كان كثيراً ما يتمثل به، والذي كتبه لي في بعض بطاقاته في بعض المناسبات:

وما أبالي إذا نفسي تطاوعني على النجاة بمن قد مات أو هلكا، وأوصاني أن أعمل بقدر الاستطاعة، وأدع النتائج لله”لا يكلف الله نفساً إلا وسعها”لم يعجبني طبعا هذا القول، وأخذتني فورة الحماسة وتمثل أمامي شبح الإخفاق المرعب إذا كان هذا الجواب سيكون جواب كل من ألقى من هؤلاء القادة فقلت له في قوة: “ إنني أخالفك يا سيدي كل المخالفة في هذا الذي تقول.

وأعتقد أن الأمر لا يعدو أن يكون ضعفاً فقط، وقعوداً عن العمل، وهروباً من التبعات: من أي شيء تخافون؟ من الحكومة أو الأزهر؟.. يكفيكم معاشكم واقعدوا في بيوتكم واعملوا للإسلام، فالشعب معكم في الحقيقة لو واجهتموه، لأنه شعب مسلم، وقد عرفته في القهاوي ، وفي المساجد، وفي الشوارع، فرأيته يفيض إيماناً، ولكنه قوة مهملة من هؤلاء الملحدين والإباحيين، وجرائدهم ومجلاتهم لا قيام لها إلا في غفلتكم، ولو تنبهتم لدخلوا جحورهم.

يا أستاذ ! إن لم تريدوا أن تعملوا لله فاعملوا للدنيا وللرغيف الذي تأكلون، فإنه إذا ضاع الإسلام في هذه الأمة ضاع الأزهر، وضاع العلماء، فلا تجدون ما تأكلون، ولا ما تنفقون، فدافعوا عن كيانكم إن لم تدافعوا عن كيان الإسلام، واعملوا للدنيا إن لم تريدوا أن تعملوا للآخرة، وإلا فقد ضاعت دنياكم وآخرتكم على السواء”!.

وكنت أتكلم في حماسة وتأثر وشدة، من قلب محترق مكلوم، فانبرى بعض العلماء الجالسين يرد علي في قسوة كذلك، ويتهمني بأنني أسأت إلى الشيخ وخاطبته بما لا يليق، وأسأت إلى العلماء والأزهر، وأسأت بذلك إلى الإسلام القوي العزيز، والإسلام لا يضعف أبدا والله تكفل بنصره.

وقبل أن أرد عليه انبرى أحمد بك كامل هذا وقال: "لا يا أستاذ، من فضلك هذا الشاب لا يريد منكم إلا الاجتماع لنصرة الإسلام.

وإن كنتم تريدون مكاناً تجتمعون فيه فهذه داري تحت تصرفكم افعلوا بها ما تريدون، وإن كنتم تريدون مالاً فلن نعدم المحسنين من المسلمين، ولكن أنتم القادة فسيروا ونحن وراءكم. أما هذه الحجج فلم تعد تنفع بشيء".

هنا سألت جاري عن هذا الرجل المؤمن: من هو؟ فذكر لي اسمه – وما زال عالقاً بذهني ولم أره بعد – وانقسم المجلس إلى فريقين فريق يؤيد رأي الأستاذ العالم، وفريق يؤيد رأي أحمد بك كامل، والشيخ – رحمه الله – ساكت. ثم بدا له أن ينهي هذا الأمر فقال: على كل حال نسأل الله أن يوفقنا للعمل بما يرضيه، ولا شك أن المقاصد كلها متجهة إلى العمل، والأمور بيد الله. و أظننا الآن على موعد مع الشيخ محمد سعد فهيا لنزوره.

وانتقلنا جميعاً إلى منزل الشيخ محمد سعد – وهو قريب من منزل الدجوي رحمه الله – وتحريت أن يكون مجلسي بجوار الشيخ الدجوي مباشرة لأستطيع الحديث فيما أريد.

ودعا الشيخ محمد سعد بحلويات. رمضان فقدمت وتقدم الشيخ ليأكل فدنوت منه، فلما شعر بي بجواره سأل: من هذا؟ فقلت: فلان.

فقال: أنت جئت معنا أيضاً؟ فقلت: نعم يا سيدي، وسوف لا أفارقكم إلا إذا انتهينا إلى أمر. فأخذ بيده مجموعة من النقل وناولنيها وقال: خذ وإن شاء الله نفكر، فقلت يا سبحان الله يا سيدي إن الأمر لا يحتمل تفكيرا، ولكن يتطلب عملا، ولو كانت رغبتي في هذا النقل وأمثاله لاستطعت أن أشتري بقرش وأظل في منزلي ولا أتكلف مشقة زيارتكم.

يا سيدي إن الإسلام يحارب هذه الحرب العنيفة القاسية، ورجاله وحماته وأئمة المسلمين يقضون الأوقات غارقين في هذا النعيم.

أتظون أن الله لا يحاسبكم على هذا الذي تصنعون؟ إن كنتم تعلمون للإسلام أئمة غيركم وحماة غيركم فدلوني عليهم لأذهب إليهم، لعلي أجد عندهم ما ليس عندكم !!

وسادت لحظة صمت عجيبة، وفاضت عينا الشيخ رحمه الله بدمع غزير بلل لحيته، وبكى بعض من حضر. وقطع الشيخ رحمه الله هذا الصمت بأن قال في حزن عميق وفي تأثر بالغ: وماذا أصنع يا فلان؟ فقلت يا سيدي الأمر يسير، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

لا أريد إلا أن تحصر أسماء من نتوسم فيهم الغيرة على الدين، من ذوي العلم والوجاهة والمنزلة، ليفكروا فيما يجب أن يعملوه: يصدرون ولو مجلة أسبوعية أمام جرائد الإلحاد والإباحية، ويكتبون كتباً وردوداً على هذه الكتب ويؤلفون جمعيات يأوي إليها الشباب، وينشطون حركة الوعظ والإرشاد.. وهكذا من هذه الأعمال. فقال: جميل.

وأمر برفع” الصينية” بما عليها، وإحضار ورقة وقلم. وقال: أكتب. وأخذنا نتذاكر الأسماء، فكتبنا فريقاً كبيراً من العلماء الأجلاء أذكر منهم: الشيخ رحمه الله، وفضيلة الأستاذ الشيخ محمد الخضر حسين، والشيخ عبد العزيز جاويش، والشيخ عبد الوهاب النجار، والشيخ محمد الخضري، والشيخ محمد أحمد إبراهيم، والشيخ عبد العزيز الخولي رحمهم الله.

وجاء اسم السيد رشيد رضا – رحمه الله – فقال الشيخ: اكتبوه اكتبوه فإن الأمر ليس أمرا فرعياً نختلف فيه، ولكنه أمر إسلام وكفر، والشيخ رشيد خير من يدافع بقلمه وعلمه ومجلته وكانت هذه شهادة طيبة من الشيخ للسيد رشيد رحمهما الله، مع ما كان بينهما من خلاف في الرأي حول بعض الشئون.

وكان من الوجهاء: أحمد تيمور باشا ، ونسيم باشا وأبو بكر يحيى باشا، ومتولي غنيم بك ، وعبد العزيز محمد بك – وهو عبد العزيز باشا محمد الآن – وعبد الحميد سعيد بك رحمهم الله جميعاً، وكثيرون غير هؤلاء.

ثم قال الشيخ: وإذن فعليك أن تمر على من تعرف، وأمر على من أعرف، ونلتقي بعد أسبوع إن شاء الله. التقينا مرات، وتكونت نواة طيبة من هؤلاء الفضلاء وواصلت اجتماعها بعد عيد الفطر، وأعقب ذلك أن ظهرت مجلة” الفتح” الإسلامية القوية يرأس تحريرها الشيخ عبد الباقي سرور نعيم رحمه الله، ومديرها السيد محب الدين الخطيب، ثم آل تحريرها وإدارتها إليه، فنهض بها خير نهوض، وكانت مشعل الهداية والنور لهذا الجيل من شباب الإسلام المثقف الغيور.

وظلت هذه النخبة المباركة من الفضلاء تعمل حتى بعد أن فارقت دار العلوم، وظل يحركها نفر من هذا الشباب المخلص حتى كانت هذه الحركات” جمعية الشبان المسلمين” فيما بعد.

رد العلامة الشيخ يوسف الدجوي على الشوكاني في مسألة تقليد المذاهب

جاء هذا الرد ضمن مقالات الشيخ رحمه الله المنشورة في مجلة (الأزهر)، حيث ورده سؤال حول كلام للشوكاني يذم فيه من يقلدون المذاهب.

وقد جاء من ضمن السؤال نقل عن كلام الشوكاني جاء فيه:

((ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانبا، وعمدتم إلى رجال هم مثلكم في تعبد الله بهما وطلبه منهم للعمل بما دلاّ عليه وأفاداه، فعملتم بما جاءوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق، ولم تعضد بعضد الدين.. فدعوا أرشدكم الله وإياي كتبا كتبها الأموات من أسلافكم واستبدلوا بها كتاب الله خالقهم وخالقكم ومتعبدهم ومتعبدكم ومعبودهم ومعبودكم، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم وما جاءوكم به من الرأي أقوال إمامكم وإمامهم وقدوتكم وقدوتهم، وهو الإمام الأول محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم.)).

فكان جواب الشيخ الدجوي ما يلي:

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه.وبعد:

فهذا كلام لا يصدر إلا ممن غلظ فهمه وجمدت عواطفه وقسا قلبه وقل احتياطه، فاستهان بإجماع العلماء وكلام أئمة الهدى الذين لا يقولون في الدين بشيء إلا إذا كان لهم مستند من كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، كما سنبينه.

وذلك منه اغترارا بما زعمه لنفسه من زعامة كاذبة واجتهاد باطل، ولو احتاط في أمر الدماء وتحرج من خطر التكفير، أو احترم اتفاق المسلمين وكلام غيره من العلماء المبرزين، لم يجازف بإلقاء القول على عواهنه ضد أمة بأسرها، وفيها من العلماء والفضلاء والأولياء والمحدثين والمفسرين وعلماء التوحيد والفلسفة ما أدهش التاريخ وأنطق أعداء الإسلام بفضل الإسلام.

و ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقي لها بالا يهوي بها في النار سبعين خريفا)).

وكل من قدس نفسه واتبع هواه فلا بد أن يضل عن سبيل الله، وكل من امتلأ أنانية وكبرا فلا بد أن يحتقر المسلمين ولا يحترم العلماء السابقين( إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير).

هؤلاء إذا حللنا نفوسهم وجدناها مملوءة قسوة لا تقل عن قسوة قطاع الطريق، الذين يستهزئون بسفك الدماء وقتل الأبرياء، غير أن أولئك يسفكونه ليلا وهؤلاء يسفكونه نهارا لو قدروا، وأولئك يسفكونه خائفين وجلين، وهؤلاء يسفكونه فرحين متبجحين وأولئك لا يصفون بألسنتهم الكذب ولا يتقولون على الله، وربما رجعوا إليه نادمين مستغفرين، وهؤلاء يلصقون ذلك بدين الله مفترين على الله الكذب قائلين: هذا حلال وهذا حرام، هذا كفر وذاك إسلام.

فجدير بهم أن يغلق باب التوبة في وجوههم، فإنهم من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، فكيف يتوبون أو يستغفرون (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).

هذه النَّزعة، نزعة تكفير المسلمين والاستهانة بدمائهم، هي نزعة الخوارج الذين هم شر الطوائف، حتى ذهب كثير من العلماء – وتشهد لهم الأحاديث الصحيحة – إلى تكفيرهم، وما نرى طائفة على نقيض ما جاء به الأنبياء من الشفقة والرحمة والمحبة والوئام وعدم الانقسام مثل هذه الطائفة.

وبعد فالقول بوجوب الاجتهاد وتحريم التقليد على كل واحد يجافي المعقول قبل أن يخالف المنقول، فما أدري بأي قلم يكتبون وبأي عقل يتفكرون، فإن الناس خلقوا على درجات متفاوتة لا يحصيها إلا الله (وإنما العلم بالتعلم) ومبنى هذا الوجود على أن الصغير يرجع إلى الكبير، والجاهل يرجع إلى العالم، والضعيف يرجع إلى القوي.

وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا فإن شفاء العَي السؤال)

قال ذلك في قوم أفتوا مجروحا أن يغتسل ويغسل جرحه ولا يتيمم، فمات. رواه أبو داود وابن ماجه .

وقال تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)

وقال: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)

فعِلَّة الأمر بالسؤال هو الجهل، والأمر المقيد بالعلة يتكرر بتكررها، ومعلوم أن العلماء لم يزالوا يُستفتون فيفتون ويتبعهم الناس من غير إبداء المستند، ثقةً بدينهم وأمانتهم ومزيد معرفتهم، حتى شاع وملأ البقاع ولم ينكره أحد، فكان إجماعا.

ولو أوجبنا على كل أحد أن يؤهل نفسه للأخذ من الكتاب والسنة وما يجب لذلك لأدى الأمر إلى إبطال المعايش والصنائع، ولكان تكليفا بما لا يطاق.

ولا يمكننا أن نطيل في النصوص الآن، ولا فيما ورد من خطر تكفير المسلم وعدم احترام دمه وماله وعرضه، ولكن نقول: إن سنة الله في البشر أن يرجع الناس في كل شيء إلى العارفين به المبرزين فيه، ولو لم يفعلوا ذلك لاختلّت أمورهم وفسد نظامهم، ولأصبح العالم فوضى، ولكان الهلاك أسرع إليه من السلامة.

وانظر لو اجتهد كل إنسان برأيه في الطب، أو ذهب المريض إلى من لا يحسن علاجه، فماذا تكون النتيجة، وكيف يكون الحال إذا ألقينا بقيادة الحروب إلى الجهال الأغرار أو الجبناء الأغمار، أو خولنا كل أحد حرية الرأس ورسم الخطط في مجالدة الأعداء والذود عن بيضة الإسلام، أفلا تكون النتيجة خراب البلاد وهلاك العباد !. وقل مثل ذلك في التجارة والزراعة وكل حرفة من الحرف وصنعة من الصنائع، وها أنت ترانا إذا أردنا طبيبا لمرض من الأمراض لم يقنعنا أن نذهب لطبيب عام بل إلى الطبيب المختص بذلك الفرع الذي وجه كل عنايته إليه، علما منا بسعة العلم وأن الأمور تشتبه وأن الجهل غريزة في البشر، والضعف طبيعة في الإنسان، وشعورا بأنه لا يكاد يخلص من سلطان الوهم وظلمات المشكلات والمتشابهات إلا من قتل العلم بحثا، وأحاط بمناحي التفكير خبرا، وعرف ضعف نفسه فلم يسارع إلى أول رأي فطير ولا أسبق خيال طائش.

هذا كله مركوز في الطباع، يعرفه الجاهل والعالم والصغير والكبير والرجل والمرأة، فليت شعري هل أصبحت الشريعة أهون من ذلك كله مع ما فيها من الأسرار الدقيقة والمشكلات الخفية والمتعارضات القوية والمرجحات المختلفة والمنسوخات المتروكة والمطقات المقيدة والعمومات المخصصة والمفاهيم المعطلة والمجملات التي قد يخفى بيانها والظواهر التي لا يراد ظاهرها والمجازات التي تدق قرينتها والكنايات التي تخفى إشارتها وتبعد غايتها ومواقع الإجماع والاختلاف ومباحث القياس المتشعبة ومسالك العلل الخفية وقوادحها المترامية، إلى أقوال الصحابة المختلفة وآرائهم المتباينة، وما يحتاج إليه ذلك كله من دقة الفهم وإصابة الرأي وأهلية الحكم وسعة الاطلاع وطول الباع، بعد معرفة اللغة العربية وفنونها، إلى آخر ما ذكره الأصوليون في مباحثهم الطويلة العريضة، خصوصا شروط الاجتهاد المبينة هناك، حتى قال كثير منهم: إن الاجتهاد لا يتجزأ لجواز أن يكون لبعض الأبواب علاقة بغيره، إلى آخر ما قالوا.

فلا بد إذن من الرسوخ في جميع الأبواب والإحاطة بمظانها وما عسى أن يكون فيها من مقيد ومخصص ومعارض ومرجح، إلى غير ذلك، وهذا بحر لا ساحل له، ومَهَامِهُ فيحاءَ يضل فيها الخِرِّيت، ولذلك كان كثير من السلف الصالح يتحرجون من الفتيا غاية التحرج (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار).

وقد عرض الخليفة المنصور العباسي وحفيده هارون الرشيد على الإمام مالك أن يحملا الناسَ على الموطإ فأبى، وإذا حَلَّلْتَ ذلك الإباء وبحثت عن سره وجدته الإخلاص البالغ والدين القيم، واتهام النفس وعدم تقديسها، فهو يجوِّز على نفسه أن يكون مخطئا وأن يكون الحق مع غيره، تاليا قوله تعالى: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) وقوله عز وجل: (وخلق الإنسان ضعيفا) (إنه كان ظلوما جهولا).

وإن أول شروط الاجتهاد عندي نور البصيرة وصفاء الذوق وقوة الإخلاص وشدة المراقبة واتهام النفس الباعث على شدة التحري ومزيد الاحتياط، ولا يكفي في ذلك سعة العلم ولا كثر الاطلاع.

وكم قد رأينا من كبار الحفاظ من هو أكثر حديثا من بعض المجتهدين، ولكن لم يسمح له دينه أن يدعي الاجتهاد، علما منه بأنه لم يخلق له ولا وجد فيه استعداده الذي يعرف به روح الشريعة في كل شيء وذوقها في أحكامها ومراميها، وقد قالوا: إن المحدث كالصيدلي والمجتهد كالطبيب.

ولا بأس أن أفكهك بشيء طريف له مغزى شريف عن بعض هؤلاء المجتهدين العصريين، ثم نردفهم برؤسائهم المتقدمين الذين كانوا من سعة العلم بالذروة العليا، ولكن ليس فيهم أناة الأئمة ولا تحريهم ولا رزانتهم ووقارهم، بل كانوا أنانيين متبجحين، وقلما يأتي المتبجح بخير أو يهدي إلى صواب، وقد قال تعالى: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).

أما هؤلاء الطائشون فلا يعرفون الصبر ولا الإيقان، وعلى الجملة فالأمانة تحتاج إلى استعداد خاص في طينة النفس وتكوينها (والناس معادن كمعادن الذهب والفضة) والنحاس لا يكون ذهبا أبدا، وإن راقتك صفرته وخفيت عنك حقيقته.

وقد شط بنا القلم، فلنعد إلى تلك الفكاهة:

سئل بعض مجتهدي العصر عن قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) هل يبقى التحريم في لحم الخنزير إذا أوصلناه من الغليان إلى درجة تقتل كل ما فيه من الديدان التي اكتشفوها الآن ؟

فأجاب مجتهدنا الظريف بأنه لا وجه للتحريم حينئذ، ويمكننا أن نستنبط ذلك من آخر الآية حيث تقول: (إلا ما ذكيتم) والتذكية هي التطهير، فحيث طهر لحم الخنزير مما فيه كان حلالا داخلا في هذا الاستثناء.

ولم يفرق حضرته بين التذكية – بالذال – وهي الذبح، وبين التزكية – بالزاي – وهي التطهير (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) ولا حقق ما يرجع إليه الاستثناء في الآية، وهذا من البدهيات التي يعرفها صغار الطلبة، فماذا تقول في هذا الاجتهاد وذك التجديد العصري ؟

أليس هذا أشبه شيء بقول من قالت: إن النساء أفضل من الرجال بنص القرآن، ثم استدلت بقوله تعالى: (أصطفى البنات على البنين) غير مفرقة بين همزة الوصل وهمزة الإنكار، فظنت أنه إخبار عن فضلهن ؟

فلا أكثرَ اللهُ من هؤلاء المجتهدين ولا هؤلاء المجتهدات !

((لون آخر))

جاء في تفسير ابن كثير هذا الحديث الذي رواه الحاكم عن عبادة بن الصامت أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: (أيكم يتابعني على ثلاث ؟) ثم قرأ قوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم..) الخ الآيات، ثم قال: (فمن وفَّى فأجره على الله..) الحديث.

قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه.

فعلق عليه ذلك المجتهد بقوله: لكنه غير صحيح المعنى، فإن الوصايا خمس لا ثلاث، ولم يبين حضرته في الحديث علة تقدح في صحته غير ما أبداه من فهمه السقيم، فإنه فهم أن الثلاث هي الوصايا، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد بها الآيات لا الوصايا، والآيات ثلاث بلا شك، وقد جاء التصريح بذلك في رواية غير الحاكم، فقد رواه الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت، وفيه: (أيكم يتابعني على الآيات)، ثم تلا (قل تعالوا..) إلى ثلاث آيات.

فانظر إلى تسرع الشيخ واجتهاده الذي يبنيه دائما على شفا جرف هار، وكم لهؤلاء من أمثال هذه التعليقات الحمقاء، فرحم الله امرءا عرف قدره فلم يتعد طوره.

ولنترك هذه الطبقة المتفيهقة المتشدقة على ما بهم من جهل وسخافة ولنرجع إلى من قبلهم من رؤسائهم وأئمتهم لنرى إمامهم ابن تيمية الذي قدموه على جميع الأئمة، وهم في تلك النزعات الخبيثة على الرغم من دعوى الاجتهاد، مقلدون له فانون في تقليده، كيف منع من شد الرحال لزيارته – صلى الله عليه وسلم – وجعل السفر للزيارة سفر معصية لا يصح فيه قصر الصلاة، خارقا بذلك إجماع المسلمين، غير مستحي من سيد المرسلين !

ودليله الذي استند إليه واستنبط منه ما لم يستنبطه أحد من الأولين والآخرين هو منعه – صلى الله عليه وسلم – من شد الرحال إلا لأحد المساجد الثلاثة، ففهِم من ذلك النهي أن الرحال لا تشد للزيارة، بناء على خيال قام برأسه أن القصر حقيقي لا إضافي، ولو كان كما فهم ذلك المجتهد الكبير لكان شد الرحل لصلة الرحم أو زيارة الأخوان أو التجارة أو غير ذلك محرما، فإذن تقف مصالح العالم وتتعطل أمور الدين والدنيا !

ولو تبصر قليلا لعلم ما أراد – صلى الله عليه وسلم – من أن المساجد متساوية في الفضل فكلها سواء إلا هذه المساجد الثلاثة، وذلك ظاهر لا خفاء فيه، فإن الأصل أن الشيء يستثنى من جنسه القريب، فإذا قلنا: ما مات إلا زيد، كان معناه: ما مات إنسان إلا زيد، وليس معناه: ما مات حيوان إلا زيد، ومن فهم ذلك كان من الحيوان لا من الإنسان.

على أننا لو جعلنا القصر حقيقيا لفسدت أمور العالم كما قلنا، والشريعة إنما جاءت بالصلاح لا بالفساد.

ويلتحق بذلك ما رأيناه في (فتح الباري) من قول ابن تيمية المذكور: إنه لم يجمع بين قول إبراهيم وآل إبراهيم في رواية من الروايات التي وردت في تعليم الصلاة عليه – صلى الله عليه وسلم – حين سئل عن ذلك، مع أن الجمع بينهما وارد في البخاري، وهو لدى الحفاظ بمنزلة الآجرومية في النحو، إلى غير ذلك مما هو معروف عنه.

وهو من كبار – أو كبير – أولئك المجتهدين، ولو لم يكن له إلا ما هو معروف عنه وعن تلميذه ابن القيم خصوصا في نونيته من إثبات الجهة لله تعالى أخذا بالمتشابهات واغترارا بظواهر الآيات لكان كافيا لكل منصف في تقدير ما لهم من علم وعقل ثم انظر بعد ذلك كله إلى كلام الشوكاني الذي ذكره السائل وإلى فهمه الكاسد وقياسه الفاسد، وهو من كبار هؤلاء أيضا.

فإن الأحبار والرهبان كانوا يحللون ويحرمون من عند أنفسهم قائلين: ما حللناه في الأرض فهو محلول في السماء وما ربطناه في الأرض فهو مربوط في السماء، كما هو معروف عنهم ومسطر في كتبهم المقدسة، فضلا عن تاريخ الكنيسة أو التاريخ العام.

وأما أئمة المسلمين فلم يدعوا لأنفسهم ذلك المنصب الذي لا ينبغي أن يكون إلا لله، وحاشاهم أن يقولوا ذلك أو يصدروا عن غير قول المعصوم وسنته التي هم أعرف الناس بها وأحرصهم عليها.

وقد صرحوا بذلك فقالوا: إذا خالفنا الحديث الصحيح فاضربوا بقولنا عرض الحائط، فكيف يحل له بعد ذلك أن يقول: إنكم اتبعتم آراءهم ولم تتبعوا الكتاب والسنة، وكل إنسان يعلم أنهم لم يقولوا من عند أنفسهم، وإنما يقولون: هذا قول رسول الله وذاك فعله وتلك سنته، وهم أعرف الناس بذلك وأقدرهم على تعرف ما جاء فيه.

وقد وثق الناس بهم فلم يتهموهم في دينهم ولا علمهم ولا أمانتهم بعدما عرفوا أنهم يتمسكون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحاشاهم أن يشرعوا من عند أنفسهم وهم خير القرون، فإن لم يجدوا شيئا في كتاب الله ولا سنة رسوله، اجتهدوا ما استطاعوا، وهم أعرف بروح الشريعة ومقاصدها ومناط أحكامها، ولو لم يفعلوا ما فعلوا لكانت الشريعة الآن لعبة بيد الجهال كما رأيت فيما تلوناه عليك.

وبالجملة فهؤلاء الأئمة قد نظروا في الشريعة نظر العالم المدقق والأمين الحذر، فما وجدوه مجمعا عليه عضّوا عليه بالنواجذ، وما كان فيه اختلاف أخذوا منه الأقوى والأرجح، لكثرة من ذهب إليه أو لموافقته لقياس قوي أو تخريج صحيح من الكتاب والسنة.

وقد كان هذا ميسرا للطراز الأول من المجتهدين حين كان العهد قريبا والعلوم غير متشعبة ومذاهب الصحابة والتابعين معروفة، على أنه لم ينتشر ذلك أيضا إلا لنفوس قليلة، ومع ذلك فقد كانوا مقتدين بمشايخهم معتمدين عليهم، ولكن لكثرة تصرفهم في العلم صاروا مستقلين.

وكيف يقيس عاقل هؤلاء الأئمة على أولئك الرهبان الذين لم يدعوا لأنفسهم منصب النبوة فحسب، بل تخطوا ذلك إلى منصب الإلهية، فإن النبي يقول من عند نفسه (وما ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحى) ولذلك قالت الآية (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) كما المسيح ابن مريم، فسوت بينهما وقالت في آخرها (سبحانه وتعالى عما يشركون).

فهل ترانا أشركنا الأئمة بالله تعالى، أم ذلك كلام من يرسل لقلمه العنان بما يوجب سخط الله والملائكة والناس أجمعين ؟.

وقد استتبع ذلك ما لا يحصى من المفاسد التي يرتكبها هؤلاء الجهلة ويتشدق بها أغمار من ينتسبون إلى العلم من زعانف القوم وأراذلهم، وقد جرّ ذلك إلى استباحة الأعراض، بل الأموال والدماء، فهي من السيئات الباقيات التي عليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.

فإن تشبثوا بالقياس والاستنباط، قلنا: ذلك لا بد منه على رغم أنوفهم بمقتضى الدلائل العقلية، حتى قال بعضهم: إن من لا يقول بالقياس لا يعد من العلماء ولا يعتبر من أهل الإجماع.

وإجمال القول أنهم إذا قالوا: إن كل إنسان يأخذ من الكتاب والسنة ولو لم يعرف الفاعل من المفعول، فضلا عن دلالة الإيماء والاقتضاء ومسالك العلة وقوادحها ومعرفة المنطوق والمفهوم وما فيه من جدل وكبير عمل، ومعرفة ما صح وما يعمل به في فضائل الأعمال، وما يحتج به في الحلال والحرام، وما قيل في المرسل والمسند، إلى غير ذلك، فضلا عما قيل في الرجال من تعديل وجرح، وهو بحر لا ساحل له، وما عسى أن يكون في الحديث من علة خفية، مع معرفة تاريخ الأحاديث ليتميز الناسخ من المنسوخ، ومعرفة المرجحات عند التعارض ومواقع الاختلاف والاتفاق، حتى لا يخرقوا الإجماع..الخ.

نقول: إذا أباحوا للناس أن يأخذوا من الكتاب والسنة مع الجهل بذلك كله، فقد عرضوا الدين للضياع والشريعة للهزء والسخرية، وكان ذلك منهم جنونا أو فوق الجنون، وإن قالوا إنه يقل العالم في ذلك كله فقد هدموا ما بنوا وقوضوا ما شيدوا فأين يذهبون.

"وهل هذا إلا رجوع للتقليد الذي منعوه وتفسير للماء بعد الجهد بالماء".

وبعد فإني أعجب كيف يكلفون أرباب الحرف والصناع وعامة السوقة المشتغلين بمعاشهم وعيالهم أن يأخذوا من الكتاب والسنة، وليس ذلك في وسعهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ؟.

ولا أراني محتاجا بعد ذلك للإضافة في الدلائل النقلية والكلام عليها، فإن الأمر أوضح من الشمس وأبين من الحس، ولولا ظهور تلك الطائفة التي اقتدت بأسلافها من الخوارج الذين هم أسرع إلى تكفير المسلمين واستباحة دمائهم من الفَراش إلى النار، لما تحرك به قلم ولا تفكر فيه أحد.

ولنختم كلمتنا هذه بتلك الحكاية التي تخفف عنك ما لاقيت من تلك الترهات التي يخجل منها العلم ويبكي لها الدين.

قال مولانا الشيخ محمد عليش – رحمه الله – في فتاويه: إن ابن حزم كان له مناظرات مع الباجي، وهو من كبار علماء المالكية، فلقي أخاه إبراهيم بن خلف الباجي يوما فقال له: ما قرأت على أخيك ؟

فقال: قرأت عليه كثيرا

فقال له: هلا اختصر لك العلم فأقرأك العلم في سنة ؟

فقال: أنا أحب ذلك

فقال له: أو في شهر ؟

فقال له: ذلك أشهى إلي

فقال له: أو في جمعة أو دفعة ؟

فقال: هذا أحب إلي من كل شيء

فقال له: إذا أوردت عليك مسألة فاعرضها على الكتاب، فإن وجدتها فيه وإلا فاعرضها على السنة، فإن وجدت ذلك فيها وإلا فاعرضها على مسائل الإجماع، فإن وجدتها وإلا فالأصل الإباحة فافعلها.

فقال له إبراهيم الباجي: أرشدني إلى ما يفتقر إلى عمر طويل وعلم جليل، لأنه يفتقر إلى فهم الكتاب ومعرفة ناسخه ومنسوخه، ومؤوله وظاهره، ومنصوصه ومقيده وعمومه وخصوصه إلى غير ذلك من أحكام، ويفتقر أيضا إلى حفظ الأحاديث ومعرفة صحيحها من سقيمها ومرسلها ومعضلها وتأويل مشتبهها وتاريخ المتقدم والمتأخر منها، إلى غير ذلك، ويفتقر إلى معرفة مسائل الإجماع وتتبعها في جميع أقطار الإسلام، وقل من يحيط بهذا.

وقد قال الإمام أبو بكر بن العربي في حق هذه الطائفة في القواصم والعواصم: إنها أمة سخيفة تسورت مرتبة ليست لها، وتكلمت بكلام لم تفهمه، تلقفوه من إخوانهم الخوارج حين حكم علي – رضي الله عنه – يوم صفين، فقالوا: لا حكم إلا لله، وما أدري أيهما أجهل وأخطر: أطائفة الباطنية، أو طائفة الظاهرية ؟

هذا وإني ألفت نظرك إلى ما أتى به الخوارج والروافض والمعتزلة والظاهرية والوهابية مما تقشعر منه الأبدان بناء على اجتهادهم المبني على الوهم دون الفهم.

أهم المراجع