حتى لا يذوب الداعية في المجتمع

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

بقلم: أحمد صلاح


حتى لا يذوب الداعية في المجتمع

حتى لا يذوب الداعية في المجتمع

إذا كانت دعوة الإسلام دعوة منفتحة ، تدعو للحوار مع الجميع وتقبل الآخر والتعايش معه ، رغم اختلاف الأفكار و تنوع الآراء وحتى تعدد الديانات ، فإنها في الوقت ذاته تحذر من الانجراف وراء ألفاظ و سلوكيات وعادات يلتقطها الداعية من هنا وهناك ، ويحاول تطبيقها كنوع من التقارب و الانفتاح ، ومع الوقت وتكرار المواقف و الأحداث ، سيجد الداعية نفسه قد فقد شيئاً من الشخصية الإسلامية التي تستمد قوتها من الإسلام ذاته بعقيدته و تعاليمه و عاداته ، وسيجد نفسه قد تجاوز الخط الفاصل بين أن يكون منفتحاً على الجميع مشاركاً لهم في مساحات الاتفاق و المناطق المشتركة ، وبين أن يتأثر بسلوكهم وأفكارهم ، وهنا تحدث مشكلة يمكن وصفها بالخطيرة ، اسمها : الذوبان في المجتمع.

وعندما يذوب الداعية في المجتمع تصبح هويته مهددة ، وتصبح شخصيته أضعف ، وينتقل هذا الضعف تلقائياً إلى دعوته نفسها ، فيصبح أقل مصداقية وأقل تأثيراً وأقل نجاحاً .

ورغم قلة عدد المسلمين في بداية الدعوة ، ورغم أنه يمكن وصف كل المسلمين بعد مرور ثلاث عشر سنة في مكة أنهم ( أقلية مسلمة) ، إلا أنهم كانوا من الحنكة والمهارة الدعوية و الذكاء الاجتماعي و الفهم لمضمون الرسالة وجوهرها ، بحيث يظلون محتكين بالمجتمع متعايشين معه ، يتعاملون في كل شئون الحياة في البيع والشراء والتواصل الاجتماعي ، حتى الزواج ( قبل أن تنزل التشريعات المحددة للزواج من غير المسلمين ) ، فكان الصحابي يعيش مع أب كافر و أم كافرة وأخوة كافرين ، لكنه يبر والديه ويعامل إخوته بالحسنى ، ويدعو أصدقائه و أقاربه ، ولكنه من قوة العقيدة والإيمان ، ما يجعله لا ينساق إلى تصرف يتنافى مع إيمانه تحت أي مسمى أو مبرر ، ومن الشجاعة وقوة الشخصية ما يجعله لا يذوب في مجتمع هو مسئول عن دعوته وتغييره و الارتقاء به .

والأصعب من ذلك هو موقف المسلمين المهاجرين للحبشة ، والذين كانوا يتعرضون لغربة الأهل بالإضافة إلى غربة العقيدة ، وفى الغربة يضعف الإنسان وتفتر همته و تتغير مفاهيمه وقناعاته ، فيبدأ في قبول التنازلات واحداً تلو الآخر ، لكن السنوات الطوال في الحبشة ، لم تنجح في أن تغير المسلمين ، أو تشوه عقيدتهم ، أو تبلبل أفكارهم ، لأنهم كانوا يتذكرون دائماً أنهم أصحاب رسالة إلى العالم ، جاءوا ليغيروا الدنيا لا لتغيرهم الدنيا ، وظلوا كذلك حتى أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى المدينة .

أنواع من الذوبان

لا ينتبه البعض للخط الفاصل بين الانفتاح على المجتمع و الذوبان فيه، فيفاجئ من حوله، ويفاجأ هو نفسه، بأنه يكتسب سلوكيات و أفكار المفروض أنها لا تتفق مع دعوته وهويته، وربما تأخذ هذا الأخطاء الأشكال الآتية:

أولا ً: الألفاظ

هناك فئات من المجتمع ضحلة الثقافة و بعيدة عن التدين ، لديها هواية بين الحين والآخر أن تخرج على المجتمع بألفاظ غريبة ، تهين الذوق و اللغة العربية وتجرح الفطرة ، وأحيانا تخدش الحياء ، وللأسف يأخذ جهابذة الفن هذه الألفاظ ليسوقوها عبر أفلام لا تقل ضحالة وتفاهة عن مخترعيها ، لتخرج للعالم كله ، فيسمعها الكبير و الصغير ، ونفاجأ أنها انطلقت في الشوارع كفيروس يصعب السيطرة عليه ، وتنتقل هذه الألفاظ الغريبة من الفئات الضحلة الثقافة إلى الفئات المتعلمة من شباب الجامعات ، حتى أنني فوجئت في إحدى المرات بكتاب يشبه القاموس ، يحوى عدداً هائلاً من الألفاظ الغريبة التي يتناولها لشباب ، حتى أنها لتصبح لغة جديدة للشباب لا يمكن أن تتحاور معهم بها ، إلا إذا درستها وفهمت معناها .

إلى هنا يصبح ألأمر ظاهرة سلبية ينبغي على الداعية أن يتصدى لها بثقافته و شخصيته ، إلا أن المفاجأة المحزنة ، هو أننا نجد عدداً من الدعاة الشباب ، ممن ينطق بهذه الألفاظ ، ويتناولها في أحاديثه سواء مع هؤلاء الشباب أو غيرهم ، بمعنى انه لم يقر الأمر فقط ، بل ساعد في انتشارها أيضاً . وبمرور الوقت ، سيجد هذا الداعية الشاب نفسه قد اعوج لسانه ، وانحط مستوى مفرداته ، وأصبح صعباً عليه أن ينطق اللغة العامية المهذبة الرفيعة ، التي تليق بداعية يجرى القرآن على لسانه ليل نهار .

إن الله يرفع شأن الداعية إلى أقصى مدى ، لأنه هو الذي يضئ طريق الناس و يبصرهم ، يقول تعالى : ( ‏‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا) ‏‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏45- 46‏]‏،

ثانياً : السلوكيات

لا يتصور أبداً أن يقبل شاب ملتزم دعوة أصدقاء له يدعونه لفيلم في احد دور السينما مثلاً ، أو الجلوس معه في مقهى مشبوه بدعوى التقارب و الألفة بينهم، فهنا لابد أن تظهر الخطوط الفاصلة ، وأن تتضح بشجاعة ولطف في نفس الوقت ، دون أن تقطع روابط الصداقة والود بين الأطراف .

كما لا يتصور أيضاً أن يشاهد احد سائقي التاكسي الملتزمين وهو يتعارك مع زملائه السائقين وزبائنه من الركاب بنفس ألألفاظ و نفس التصرفات التي يراها من زملائه غير الملتزمين .

وهنا يتنازل الداعية عن مبدأ الخيرية الذي شرف به الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنها هي التي تحافظ علي مبدأ الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر حتى و إن تنازل عنه كل الناس :

يقول تعالى :

( ‏‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر)ِِ‏[‏آل عمران‏:‏110‏]‏، وربما يعد نموذج الزواج من النماذج الواضحة في الذوبان في المجتمع ، فبعض الدعاة قد ينادى يتيسير الزواج على الشباب وعدم التحامل عليهم ، إلا انه عند التعرض لنفس الموقف ، يجد نفسه يحاكى المجتمع بدلاً من أن يقدم نموذجاً حياً لمواجهة عادات أسهمت في مشكلة اجتماعية خطيرة .

ثالثاً :الأفكار

في عصر الفضائيات والسماوات المفتوحة والانترنت ، و العالم الذي تحول إلى قرية صغيرة ، انطلقت الأفكار - كل الأفكار- بلا قيود أو حدود ، وأصبح لزاماً علينا أن نمرر ما يرد إلينا من أفكار وبسرعة على الإسلام بأصوله و ثقافته و حدوده ، دون أن ننبهر بأفكار وافدة ، قبل أن نغربلها وندرك تأثيرها وخطورتها ، ولعل فكرة الحرية ( رغم جمالها وموافقتها للإسلام ) والتي ضغطت بقوه على المجتمع العربي في العشر سنوات الأخيرة ، والتي تدخلت فيها السياسة الأمريكية بشكل رئيسي ، هي من أكثر الأفكار التي تثير الجدل و البلبلة ، وهى فكرة عدم فهمها جيداً في إطار الإسلام ، وعدم دراستها بعلم وروية ، سيجنح بنا إلى مشكلات أخرى ربما تعانى مجتماعتنا منها الآن ، خصوصا أنها مجتمعات مكبوتة ، لم تتربى على الحرية ، و لم تعرف ان لها ضوابط ، وان الله وضع حداً بين الحرية والفوضى ، و أن المسئولية والواجب هما اللذان يحميان الفرد والمجتمع من هوس الرغبات اللانهائية التي لا تفكر إلا في ( الأنا ) وفقط .

كيف يواجه الداعية الذوبان في المجتمع .

على الداعية أن يتسلح بأسباب ثلاثة ، تجعله قادراً على التواصل مع المجتمع دون أن يـتأثر سلبياً به ، وهى :

أولاً : الروح الإيمانية العالية

تمثل قوة الإيمان والاتصال بالله ، الحصن الحصين ضد الذوبان السلبي في المجتمع ، فالالتزام بالعبادات من الصلاة في جماعة وصلاة النوافل و قراءة الأذكار و الورد القرآني وصيام السنن ، هو الذي يعطى مناعة للمسلم ضد أي أفكار سلبية تفد إليه، فيسهل عليه مقاومتها بما لديه من رصيد إيماني يجعله يرى الله في كل شئ ، ويجعله دائماً على بصيرة بما يرى أو يسمع ، ويرزقه الله الهداية فلا يضل و لا يشقى .قال تعالى : ( و الذين اهتدوا زادهم هدى و أتاهم تقواهم ) محمد 17

ثانياً : قوة الشخصية

لا يمكن أن يؤثر الداعية فيمن حوله إلا إذا كان متمتعاً بشخصية قوية ، لا تقبل التنازلات و لا تنقاد لأفعال خاطئة تحت دعوى الإحراج و الخجل ، أو تحت مبرر أن الكثرة تغلب الشجاعة ، وقوة الشخصية لا تعنى العصبية ولا المشاجرات المستمرة ، بل تعنى إبداء وجهة نظرك بثقة وهدوء ، و عن علم وقدرة على الحوار ، و التمسك بما تراه صحيحاً رغم ما تواجهه من ضغوط ، وأن تفهم الطرف الأخر بأن لديك خطوطا حمراء في التعامل لا يمكن تخطيها ، لأنها تخالف ما تؤمن به من أوامر الإسلام ، وان رضا الله مقدم لديك على رضا الأصدقاء ، وذكاء الداعية يجعله يرسل هذه الرسالة لمن حوله في ود و لطف وهدوء ، بما يحافظ على استمرار العلاقة بينهم ، فلا يقطعها فيفشل في دعوته .

ثالثاً : العلم والثقافة

لكي تستطيع أن تتواصل مع المجتمع بكل أطيافه و تعدد آرائه ، في نفس الوقت الذي تحافظ فيه على هويتك و شخصيتك الملتزمة التي لا تقبل تهاوناً في حق الله ، لابد أن تتسلح بالعلم الشرعي أولاً ، ثم تصقل هذا العلم بالقراءة الحرة في كل المجالات ، و الثقافة التي تجعلك تستطيع أن تقف على أبواب أي موضوع فتستطيع فتحه و الحوار حوله بثقة واتزان ، وهو شئ سيجعل الآخرين يقبلون آرائك حتى لو خالفتهم ، لأنك تتحدث عن علم ودراية ، فيحترمون اختلافك معهم في نفس الوقت الذي يستمرون في الاستماع إلى دعوتك دون ضجر .

قال تعالى : قلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي}‏‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 108‏]‏ إن الداعية الماهر هو الذي يصنع لديه مناعة تحصنه من فيروسات المجتمع ، فهو كالطبيب الذي يعالج المجتمع من وباء منتشر ، في نفس الوقت الذي يحرص فيه جيداً على ألا يصاب بالمرض.