مرحلة ما بعد التعديلات الدستورية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مرحلة ما بعد التعديلات الدستورية


الاهرام المصرية


بقلم: د. عبد المنعم سعيد


قد يبدو الحديث عن مرحلة ما بعد التعديلات الدستورية نوعا من تجاوز الواقع‏,‏ والقفز إلي المجهول‏,‏ خاصة أن عملية الانتهاء من صياغة التعديلات لا تزال جارية‏,‏ كما أن طرحها للاستفتاء العام لا تزال مقبلة‏,‏ وما بين هذا وذاك فإن النقاش والحوار بين القوي السياسية المختلفة في مصر لا يزال حارا وساخنا‏.‏


ولكن كل ذلك في جوهره يظل جزءا من المستقبل القريب والبعيد معا‏,‏ فمن قبل ومن بعد فإن ما يجري حاليا‏,‏ وما جري خلال الشهور القليلة الماضية‏,‏ هو جزء من عملية تاريخية أوسع للإصلاح السياسي والاجتماعي تنتقل مصر بموجبها إلي صفوف الدول الديمقراطية الحقة‏,‏ أو هكذا نعتقد‏!.‏


وبالنسبة للمتشائمين في بداية التجربة‏,‏ والذين ظنوا أن التعديلات الدستورية لن يكون فيها ما هو أكثر من تمثيلية سياسية‏,‏ فربما وجدوا فيما جري خطوات متقدمة إلي الأمام بدت في عملية‏'‏ الضبط‏'‏ للمادة الثانية من الدستور من خلال النص علي مبدأ المواطنة كحجر الزاوية في بنية الدولة المصرية‏,‏ وربما اكتشفوا أنه مهما تكن الخلافات حول قيود المادة‏76‏ من الدستور‏,‏ فإن انتقالا سلميا لشكل السلطة نحو ساحة واسعة من القوي السياسية المدنية قد حل في النهاية ببلادنا بعد طول انتظار‏.‏


ومن المرجح أن هؤلاء سوف ينظرون إيجابيا إلي تطورات أخري مثل رقابة مجلس الشعب علي الموازنة‏,‏ ومشاركة رئيس مجلس الوزراء ومجلس الشعب لرئيس الجمهورية في عدد من القرارات المهمة‏,‏ وربما سعدوا لأن مجلس الشوري حصل علي بعض السلطات الإضافية التي تنقله من مجرد زائدة علي النظام السياسي إلي مهام تشريعية محددة‏.‏


ولكن المتفائلين كالعادة بأن التعديلات المرتقبة سوف تحقق النقلة التي طال انتظارها نحو نظام سياسي جديد تماما ديمقراطي التوجه‏,‏ ومتناسق الأجزاء‏,‏ وواضح الفلسفة‏,‏ ربما سيشعرون بقدر غير قليل من الإحباط‏.‏ فعند نهاية العملية فإن الأسئلة حول عملية انتقال السلطة‏,‏ والكيفية التي تقوم عليها الانتخابات الرئاسية والتشريعية‏,‏ بل وكل ما يتعلق بالتوازن بين السلطات المختلفة‏,‏ والحريات العامة في مواجهة سوء استخدام السلطة‏,‏ باتت أكثر إلحاحا مما كان عليه الحال من قبل‏.‏


وفي الحقيقة فإنه سوف يصبح علي الحزب الوطني الديمقراطي مهمة بالغة الصعوبة‏_‏ ولكنها ليست مستحيلة‏-‏ في إقناع المصريين أن الانتخابات المقبلة سوف تكون أكثر نزاهة من كل الانتخابات الماضية‏.‏ وهي مهمة ليست ضرورية فقط لإقناع الناس بالتوجه الإيجابي للتعديلات الدستورية‏,‏ وإنما أيضا بالذهاب إلي صناديق الاقتراع للاستفتاء علي تعديل الدستور‏.‏


وهنا تحديدا‏,‏ وبغض النظر عن التفاؤل والتشاؤم‏,‏ تبدو أهمية جدول أعمال ما بعد التعديلات الدستورية‏,‏ فهناك عدد من الخطوات والقوانين المكملة للتعديلات التي ستصدر خلال الشهور المقبلة والتي علي أساسها سوف يتحدد تقدير الناس للتعديلات الحالية‏.‏


وعلي سبيل المثال فإن النظرة إلي تعديلات المادة‏88‏ الخاصة بالإشراف علي الانتخابات سوف تختلف تبعا للطريقة التي علي أساسها سوف يتم اختيار اللجنة المشرفة علي الانتخابات وعما إذا كانت لجنة محايدة حقا ولديها ما يكفي من السلطات علي العاملين في وزارتي العدل والداخلية لإجراء انتخابات نزيهة‏,‏ أم أنه سوف يتم اختيارها من أعضاء ينتمون إلي حزب الحكومة أو يعينهم رئيس الجمهورية وآخرين تختارهم الأغلبية في مجلسي الشعب والشوري مما يعني عمليا أن يصبح الحزب الوطني الديمقراطي طرفا وحكما في المنافسة السياسية‏.‏


كما سوف تختلف النظرة كلية إذا ما فازت الحكمة خلال الأيام القليلة المقبلة وأضيفت فقرة إلي التعديلات الدستورية الراهنة تعطي السلطة القضائية حق الفصل في صحة العضوية ليس فقط لأن ذلك سوف يزيد من مصداقية التعديل الدستوري‏,‏ وإنما أيضا لأن ذلك هو التطبيق الصحيح لنظرية الفصل بين السلطات والتوازن بينها‏.‏


فلم يكن أبدا من قبيل الفصل بين السلطات أن تقوم السلطة القضائية بترك عملها الذي يخص المصالح الحيوية للمجتمع من أجل الإشراف علي الانتخابات لشهور طويلة‏,‏ بل كان ذلك إخراجا للقضاء من مهمته وحشره في ساحة سياسية محملة بالأهواء‏;‏ ولكن الفصل في صحة العضوية أمر آخر يقع في صميم مهمة القضاء في الفصل النزيه والمحايد في الخلافات والمنازعات‏.‏ وجهة النظر هذه تبناها كثرة من المفكرين وأصحاب الرأي الذين عرفوا بالنزاهة والاستقلال والنظر إلي المصلحة العامة ومنهم الأستاذ مكرم محمد أحمد وآخرون‏,‏ ولا تزال صالحة لكي يضعها مجلس الشعب ضمن التعديلات المرتقبة‏.‏


وسوف تتحدد النظرة للتعديلات الدستورية أيضا بالطريقة التي سوف يخرج عليها قانون الإرهاب‏,‏ وعما إذا كان سوف يمثل صياغة أخري لقانون الطواريء‏,‏ أو أنه سوف تكون مهمته الأساسية حماية البلاد من ويلات الإرهاب فقط ولا غير‏.‏ فالحقيقة أنه لا يوجد خلاف بين كافة القوي السياسية في مصر علي أن هناك خطرا حالا للإرهاب ينبغي مقاومته بكافة الوسائل‏;‏ ولكنه أيضا لا يوجد خلاف علي ألا يكون القانون سبيلا لإساءة استخدام السلطة ومخالفة حقوق الإنسان‏.‏


وهنا فإنه علي المشرع‏,‏ وعلي الحزب الوطني الديمقراطي الذي سوف يضع القانون‏,‏ أن يميز ما بين السلطات الكافية لإحباط العمليات الإرهابية‏,‏ وحقوق المواطن وحقه في محاكمة عادلة تتوافر لها كل اعتبارات التأني والعدالة والحفاظ الكامل علي إنسانية الإنسان‏.‏


كل ذلك وبغض النظر عن التفاؤل والتشاؤم سوف يشكل جدول أعمال مرحلة ما بعد التعديلات الدستورية‏,‏ وربما يكون الإعلان عن النيات الخاصة بهذه القوانين الآن معالجة لوضع سلبي ظهر أخيرا علي الساحة السياسية بعد أن قامت مجموعة من الأحزاب مثل حزبي الوفد والتجمع بالتعاطي الإيجابي مع التعديلات المقدمة من الحزب الوطني الديمقراطي رغم مواقفهما الأساسية من ضرورة تغيير الدستور كله‏.‏ فالصورة التي انتهي لها الوضع مع صياغة التعديلات الدستورية تضع مصر في حالة استقطاب حادة يكون فيها الحزب الوطني الديمقراطي في جانب وكل الأحزاب الأخري الممثلة في البرلمان في جانب آخر‏.‏


ولا بأس في ذلك وحسم المسائل علي قاعدة الأغلبية والأقلية عندما يكون الأمر المعروض من الأمور العادية والروتينية‏,‏ أو حتي القوانين المنظمة لحركة المجتمع‏;‏ ولكن المسألة تكون مختلفة تماما عندما يكون الأمر متعلقا بالتعديلات الدستورية وإعادة تشكيل النظام السياسي المصري من جديد‏.‏ فمثل ذلك يمثل لحظة للتوافق الوطني وليس للاستقطاب الحاد بين قوي الحكم وقوي المعارضة‏.‏


والحقيقة أن مصر بدت في لحظة من لحظات الحوار حول التعديلات الدستورية كما لو كانت مقبلة علي لحظة ديمقراطية تتقاطع وتتقابل وتتحالف فيها القوي السياسية المختلفة حسب الموضوع وليس حسب مواقف مسبقة من القوي الأخري في الحكم أو في المعارضة‏.‏


فعندما طرحت المادة الثانية من الدستور للنقاش العام‏-‏ رغم أنها لم ترد في التعديلات المطروحة‏-‏ فإن درجة التلاقي بين الغالبية في الحزب الوطني الديمقراطي وجماعة الإخوان المسلمين‏_‏ المحظورة والمشروعة معا‏-‏ كان خاطفا للنظر بما فيه من حماس وزخم‏,‏ بينما وقفت القوي الليبرالية واليسارية‏-‏ الموقعة علي بيان مطالبة رئيس الجمهورية بتغيير المادة أو تعديلها‏-‏ علي الجانب الآخر‏.‏ وبالطبع كان الحزب الوطني الديمقراطي علي توافق في عدد من الموضوعات‏,‏ خاصة تلك التي تخص المواطنة‏,‏ مع حزبي الوفد والتجمع وعدد من الأحزاب الصغري الأخري‏,‏ بينما وقف الإخوان علي الجانب الآخر بين متشكك ومهاجم‏.‏


مثل هذه الحالة من‏'‏ الصحة الديمقراطية‏'‏ وصلت إلي نهايتها مع صياغة التعديلات حينما أعلن حزب الوفد عن رفضه لها‏;‏ ولو كان الحزب الوطني الديمقراطي أكثر مرونة فيما تعلق بتعديل المادة‏88‏ الخاصة بالإشراف علي الانتخابات والمادة‏179‏ والخاصة بالتعامل مع الإرهاب لتم تجاوز حالة الاستقطاب المتوقعة‏.‏ هذه الحالة‏-‏ علي أية حال‏-‏ ومهما تكن صفاتها سوف تترك آثارها علي فترة الشهور القليلة المقبلة والتي لن يكون فيها فقط إقرار القوانين المكملة للتعديلات الدستورية بل أيضا إجراء انتخابات مجلس الشوري‏,‏ وقبل ذلك كله الأسلوب الذي سيتم به الإشراف علي الاستفتاء الخاص بالتعديلات الدستورية خلال الأسبوع الأول من أبريل القادم وعما إذا كان سيتم تحت الإشراف الكامل للقضاء كما هو القانون الحالي والمراد تغييره‏,‏ أو أنه سيتم وفقا للقانون الجديد الذي لا يمكن إقراره قبل إقرار التعديلات الدستورية ؟‏!.‏


هذا اللغز لن يكون أول الألغاز ولا آخرها‏,‏ وبالتأكيد فإنه سوف يجد حلا فقهيا أو آخر‏,‏ فالمدينة مزدحمة بكثرة من فقهاء القانون القادرين علي إجراء الملاءمات والمواءمات‏,‏ وفي المدرسة الفرنسية القانونية التي يحبها أهل القانون في مصر عباءة واسعة للاغتراف والتقليد‏.‏


ولكن نتائج الشهور الماضية سوف تبقي معنا خلال السنوات المقبلة وسوف يصبح علينا أن نتعامل معها باعتبارها حلقة من حلقات تطور الدولة المصرية‏,‏ وسوف يكون لها وعليها الكثير من قبل الذين سوف ينظرون لهذه الفترة من تاريخ مصر مع مطلع القرن‏.‏


وهي كما في كل الحلقات السابقة سوف تظهر فيها وجوه مضيئة وأخري شائهة‏,‏ ولكن التعديلات الدستورية لن تقول كل الحكاية‏,‏ ففي القصة مشاهد أكبر وأوسع مما نعتقد وتتعلق بموقعنا علي خريطة المنطقة‏,‏ والتطورات الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية الجارية‏,‏ ففي النهاية فإن مصر أكثر تعقيدا بكثير مما تبدو عليه‏,‏ والنيل الهاديء الذي يمضي متراخيا من المنبع إلي المصب يحمل في داخله نبوءات تاريخ طويل تقلبت فيها الأزمان وتغيرت فيها الأجيال والحقب‏.‏