الإخوان وقضية فلسطين
((إن كل أرض يقال فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله هي جزء من وطننا له حرمته وقداسته والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره)) حسن البنا
لم يكن اهتمام الإخوان بقضية فلسطين وليد الحوادث الأخيرة التي أعقبت قرار التقسيم ولكنه سبق ذلك التاريخ بزمن طويل فالإخوان ((كهيئة إسلامية عالمية)) كانت تضع في برنامجها مهمة الدفاع عن القضايا الإسلامية في مختلف أنحاء المعمورة وآانت دورهم دائما موئلا للمجاهدين الأحرار من مختلف بلاد العروبة ومواطن الإسلام وكان لفلسطين دائما المقام الأوفى من عنايتهم واهتمامهم فهي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وهي تحتل مكانا وسطا في البلاد العربية وضياعها يعزل العالم الإسلامي بضعه عن بعض ولو نجح اليهود في احتلالها لأصبحت دائما مباءة خطرة لعناصر الشر وبرآانا زاخرا بالنار يزعزع أمن البلاد العربية وسلامها .
وحين وضحت نيات السياسة البريطانية في فلسطين أخذ الإخوان يعقدون المؤتمرات تباعا ويبينون للشعوب والحكومات حقيقة هذا الخطر الذي يهدد كيانهم ومستقبلهم حتى نجحوا في إشراك العالم الإسلامي كله في هذه القضية وباتت قضية المسلمين والعرب لا قضية أهل فلسطين وحدهم وحين قامت القلاقل في فلسطين أخذوا يمدون المجاهدين بما يقع في أيديهم من مال وسلاح حتى كانت ثورة ( 1936 ) حين نجح عدد من شبابهم في التسلل إليها والاشتراك مع الثوار في جهادهم وبخاصة في مناطق الشمال حيث عملوا مع المجاهد العربي الكبير ((الشيخ عزالدين القسام)) وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية أخذ الإخوان يعملون للقضية عملا إيجابيا فأرسلوا وفودا من دعاتهم وشبابهم يؤلبون العرب ويستحثونهم للكفاح ويتولى نفر منهم تدريب الشباب الفلسطيني تدريبا سريا ولقد نجحوا في ذلك إلى حد بعيد حتى أصبحت شعبهم ودورهم هي مراكز القيادة وساحات التدريب ولا يزال أهلفلسطين يحمدون للداعية الإسلامي ((سعيد رمضان)) مواقفه الكريمة وأثره البالغ في توجيه الشباب العربي وجهة خالصة ويذآرون بالفخار والإآبار جهود الأساتذة ((عبد الرحمن الساعاتي ؛ وعبد المعز عبد الستار ؛ وعبد العزيز أحمد )) وغيرهم من آرام الدعاة والمدربين وما آان لهم من حسن التوجيه وطيب الأثر .
ولقد أدرك اليهود ما ينطوي عليه هذا التدخل من خطر شديد على أهدافها وخططهم فقاموا ينشرون المقالات الطوال في صحف أوربا وأمريكا ويفعمونها بالتهم الخطيرة عن الإخوان المسلمين وحقيقة خطرهم على الولايات المتحدة وبريطانيا وكانوا يحاولون بذلك استعداء الحكومةالأمريكية لتقوم بعمل حاسم وسريع وتستأصل هذا الخطر الإسلامي الذي يهدد مصالحها بالزوال وليس أدل على ذلك من مقال آتبته فتاة صهيونية تدعى ((روث آاريف )) ونشرته لها جريدة ((الصنداى ميرور )) في مطلع عام ( 1948 ) ونقلته جريدة ((المصري )) لقرائها فيحينه ونحن ننقل بدورنا أهم ما جاء به من التهم ليرى القارئ مدى النجاح الذي أحرزته الدعاية اليهودية حين أقنعت حكومات أوروبا بخطورة حرآة الإخوان ودفعتها لمحاربتها بشده قالت الكاتبة في مقالها :
((إن الإخوان المسلمين يحاولون إقناع العرب بأنهم أسمى الشعوب على وجه البسيطة وأن الإسلام هو خير الأديان جميعا وأفضل قانون نحيا عليه الأرض آلها )).
ثم استطردت تصف خطورة حرآة الإخوان إلى أن قالت :
(( والآن وقد أصبح الإخوان المسلمون ينادون بالاستعداد للمعركة الفاصلة التي توجه ضد التدخل المادي للولايات المتحدة في شئون الشرق الأوسط وأصبحوا يطلبون من كل مسلم ألا يتعاون مع هيئة الأمم المتحدة فقد حان الوقت للشعب الأمريكي أن يعرف أي حركة هذه وأي رجال يتسترون وراء هذا الاسم الرومانتيكي الجذاب اسم ((الإخوان المسلمين )).
وقالت - وهذا هو بيت القصيد -:
((إن اليهود في فلسطين الآن هم أعنف خصوم الإخوان المسلمين ولذلك كان اليهود الهدف الأساسي لعدوان الإخوان وقد قام أتباعهم بهدم أملاك اليهود ونهب أموالهم في كثير من مدن الشرق الأوسط ويعدون الآن العدة للاعتداء الدموي على اليهود في عدن والبحرين وقد هاجموا دور المفوضيات والقنصليات الأمريكية وطالبوا علنا بانسحاب الدول العربية من هيئة الأمم المتحدة )).
وبعد هجوم عنيف على سماحة المفتى الأكبر وعلى فضيلة الإمام الشهيد ختمت مقالها قائلة :
((وإذا كآان المدافعون عن فلسطين -أي اليهود يطالبون الآن مجلس الأمن بإرسال قوة دولية لتنفيذ مشروع التقسيم الذي أقرته هيئة الأمم المتحدة فإنهم لا يطالبون بذلك لأن الدولة اليهودية في حاجة إلى الدفاع عن نفسها ولكنهم يريدون إرسال هذه القوة الدولية إلى فلسطين لتواجه رجال الإخوان المسلمين وجها لوجه وبذلك يدرك العالم آله الخطر الحقيقي الذي تمثله هذه الحرآة ))
(( وإذا لم يدرك العالم هذه الحقيقة في وقت قريب فإن أوروبا ستشهد ما شهدته في العقد الماضي من القرن الحالي إذ واجهتها حرآة فاشية نازية فقد تواجهها في العقد الحالي إمبراطورية إسلامية فاشية تمتد من شمالي أفريقيا إلى الباآستان ومن ترآيا إلى المحيط الهندي )).
ولم يكن هذا المقال هو الأول من نوعه إذ دأبت الصحف على نشر مقالات مطواة من هذا النوع ولم يضيع الإخوان جهدهم في مناقشة هذه الأقوال إذ كانوا يعدون العدة لمناقشتها عمليا حين تلتحم الأسلحة ويبدأ دورها الرهيب فمضوا في خطتهم واستمرت وفودهم ودعاتهم يؤدون دورهم الجليل حتى تشكلت المنظمات العسكرية .
وحين تشكلت المنظمات العسكرية العربية وأخذت تمارس تدريبها قام خلاف بين قواد ((النجادة)) و((الفتوة)) وفطن الإخوان للخطر الكبير الذي ينطوي عليه هذا الخلاف فقاموا بمحاولات كثيرة للتوفيق بين وجهات النظر المتعارضة انتهت باختيار المجاهد الكبير ((الصاغ محمود لبيب )) وكيل الإخوان المسلمين حينئذ للشئون العسكرية منظما لهذه التشكيلات فقبل هذا العمل الجليل وسافر إلى فلسطين وأخذ يباشر تنفيذ برنامجه الحافل الذي أعده لتدريبها وتنظيمها ولكن لم تمض إلا فترة وجيزة حتى فطنت حكومة الانتداب إلى هذه المحاولة وفهمت أن الدعوة الإسلامية تريد أن، تزاحم لتحتل مكان القيادة في النضال المنتظر ومعنى ذلك بوضوح أن تنقلب خطط الإنجليز رأسا على عقب وتفشل سياستهم في فلسطين فقاموا بمطاردة دعاة الإخوان وشبابهم وأمر ((الصاغ محمود لبيب )) بمغادرة البلاد ولقد قدر لكاتب هذه الصفحات أن يشهد بنفسه ناحية من نواحي الإرهاق التي عاناها الإخوان في فلسطين خلال تلك الفترة القاسية .
هذا في فلسطين أما فيمصر فقد كان دور الإخوان رئيسيا في تيسير الأمور على النحو الذي سارت عليه ويحذر بنا قبل أن نتكلم عن دور هم العسكري خلال الحرب أن نبين أثرهم البالغ في تهيئة الأمة لقبول فكرة الحرب إذ المعروف أن الجيش المصري لم يشترك في الحرب الفلسطينية إلا استجابة لرغبة الشعب وتمشيا مع إدارته تلك الإدارة التي ظهرت بوضوح في المظاهرات الكبرى التي قادها الإخوان وعمت أنحاء البلاد مطالبة الحكومة بالتدخل الحاسم للقضاء على الدولة الصهيونية الوليدة قبل أن تستقر أقدامها ويصلب عودها وكان إجماع الشعب على هذا الرأي إعلانا لروح جديدة أخذت تسرى في أوصاله بعد أن مزقه الاستعمار ونجح في قتل روح الجهاد في نفوس أبنائه وعلمه زعماؤه نوعا سقيما من الجهاد لا يتجاوز إلقاء خطب (عصماء) أو السير في مظاهرة عاتية تحطم واجهات المتاجر وتقلب عربات الترام وتصل إلى أقصاها من العنف والقوة حين تقذف وجوه رجال البوليس بالحجارة !
وكانت هذه الروح وليدة كفاح مرير دام عشرين عاما وثمرة جهاد متواصل لعوامل الضعف والانحلال لتحويل الشعب عن هذا الطريق الخاطئ وتهيئته تهيئة صحيحة لتحمل أعباء الجهاد المنتج والإقبال على تضحياته وتكاليفه ولقد وضحت هذه النتيجة بأجلى مظاهرها حين أصر الشعب كله على ضرورة العمل الإيجابي السريع لإنقاذفلسطين والوقوف أمام أطماع الصهيونية ولو أدى ذلك إلى تدخل الجيش للمساهمة في القضاء على الدولة الآثمة ولقد ساعد الإخوان في تحقيق هدفهم هذا آثرة شعبهم التي امتدت في مدن القطر وقراه واجتمع فيها خلاصة شباب مصر المؤمن وكثرة خطبائهم ودعاتهم الذين كانوا يجوبون المدن والقرى داعين الناس إلى الجهاد الديني لإنقاذ الأرض المبارآة من خصوم الإسلام الألداء فقامت في البلاد ثورة إسلامية عنيفة آان من ثمارها تلك الحشود الهائلة من شباب مصر التي آانت تتوجه لمراآز الدعوة وكلها شوق إلى القتال وتحرق للجهاد والاستشهاد ولن يستطيع مكابر أن ينكر على الإخوان جهادهم في هذا السبيل أو يقلل من أهمية هذا الدور التمهيدي للحرب الذي قاموا به فنجحوا في تعبئة القوى الشعبية وتوجيهها وجهة صالحة ونجحوا في حمل الأمة على قبول فكرة الحرب بل والمطالبة بها في إصرار وعناد ووقوف الشعب كله بعد ذلك يؤيد جيشه المحارب ويتحمل في سبيل ذلك الكثير من الضغط والتضييق في حريته وأرزاقه .
وأود أن أبين أن هذه النتيجة ليست بالأمر الهين الميسور إذ تقدم الدول المحاربة وساستها كثيراً من الجهد والمال في سبيل إقناع شعوبهم بالحرب وتهيئتهم لخوض صعابها والوقوف أمام مصائبها وويلاتها ويحدثنا التاريخ القريب كيف قام (هتلر) ليقنع الأمة الألمانية أن الحرب هي الوسيلة الوحيدة لألمانيا لتخليصها مما نزل بها من ظلم صارخ وما فرض عليها من قيود قاسية أملتها معاهدة (فرساي) وظل يؤجج نيران هذه الأحقاد فترة طويلة من الزمن وينفق في سبيل ذلك ملايين الجنيهات حتى أصبح آل فرد في ألمانيا يؤمن بالحرب وينادى بالاستعداد لها ولم تكن هذه الأموال والجهود لتنفق عبثا إذ ثبت أ، هذه العقيدة هي التي جعلت ألمانيا تقدم على محاربة دول العالم جميعها وتتقبل الهزائم بعزيمة وجلد وتظل تحارب بشجاعة رغم تفوق خصومها وانهيار حلفائها حتى آخر شبر من ((الأرض العزيزة )) آما كانوا يسمونها .
ولأهمية هذه الناحية في الحروب يجعل العدو أقصى تحطيم روح المقاومة في الشعب حتى ينقلب على كحكومته ويرغمها على الخروج من مسرح القتال وعدم المضي فيه آما في حدث في روسيا في إيطاليا في ختام الحرب العالمية الثانية حين ثار الشعب على حكومته بفعل الهزائم المتوالية واستغلال دعايات الحلفاء لها - كانت النتيجة تسليم إيطاليا واغتيال زعيمها والمحرك الأول لتلك الحرب ولعا هذا ما كان يرمى إليه اليهود من غاراتهم على القاهرة خلال الحرب الفلسطينية ولعلهم كانوا يأملون إضعاف روح المقاومة في الأمة نتيجة الغارات وما تحدثه من هدم وتدمير فتؤثر السلامة والابتعاد عن مسرح القتال .
غير أن تربية الإخوان وتعاليمهم لم تضع هباء إذ ظل الشعب حتى آخر مراحل القتال وما صاحبها من هزائم وانسحابات يتمتع بروح معنوية عالية بل رأيناه يعمد إلى القوة ليرغم الحكومة الضعيفة على عدم قبول الهدنة والتقيد بقرارات مجلس الأمن ومواصلة القتال في عنف وشدة ولا تزال هذه الروح تتألق في صفوفه حتى اليوم هذه الروح التي نأمل أن تواتيها الظروف مرة أخرى لتواصل الجهاد من جديد حتى تقوض أرآان الدولة الباغية وتعيد لفلسطين المبارآة عروبتها وإسلامها .
وبعد أن علمنا أثر هيئة الإخوان في تهيئة الشعب للحرب وبعد أن علمنا أهمية هذه النتيجة في الجولة الماضية وما يتبعها من جولات نستطيع أن نحكم على عظم الدور الذي لعبه الإخوان في هذه المرحلة الفاصلة من تاريخ الأمة الإسلامية .
والإخوان بعد ذلك لم يكونوا مبتكرين ولا مجددين حين أولوا هذه الناحية آل عنايتهم لأن الإسلام قد أولاها عظيم اهتمامه حين جاء ليثبت هذه المعاني في نفوس المسلمين ويوضح لهم الطريق الذي تسلكه الأمم الحية إن أرادت أن ترد حقا مغتصبا أو تذود عن حياضها بحد السيف وصدق الله العظيم { يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال } {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس }{ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون آما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وآان الله عليما حكيما} .
العقبات في طريق الإخوان
{قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً } قرآن كريم
لم تكن بريطانيا تجهل خطورة حركة الإخوان كدعوة إسلامية وأثرها على مصالح الاستعمار في مختلف بلاد الإسلام ولقد راع الإنجليز وزاد في مخاوفهم ما رأوه من إقبال الشباب على الجماعة وانتظامهم في سلكها حتى تجاوز عددهم مئات الألوف وتجاوزت فكرتهم حدود مصر إلى غيرها من مختلف بلاد العروبة ومواطن الإسلام حيث مناطق النفوذ البريطاني وحيث (( الأرض الطيبة )) التي حسبت بريطانيا أنها وقعت تحت يدها إلى قيام الساعة 0
رأى الإنجليز ذلك ورأوا معه أن هذه الجماعة تنحو منحى جديدا في التنظيم والتكوين فهي تعتمد على تربية الشباب وتركيزهم لا على استغلالهم في تهريج حزبي رخيص وهي تجمع الشباب حول فكرة الإسلام ومبادئه القوية القويمة لا حول أشخاص كل بضاعتهم أنهم يحسنون التغرير بالجماهير البائسة وتسخيرها لخدمة أغراضهم ومصالحهم رأى الإنجليز هذا فأيقنوا أنهم أمام الخطر الذي يهدد مصالحهم بالزوال.
ورأيت الأحزاب أن سامرها قد انقضت سوقه وخلت إلا من بعض الوصوليين الذين المأجور الذي يقتات من صناعة المظاهرات والهتافات بحياة الزعامات الخاوية ولا يعلم له غاية يجاهد من أجلها ولا هدفا يعمل في سبيل تحقيقه.
رأت الأحزاب الرجعية ذلك فلم تتفق على أمر طول حياتها بقدر ما اتفقت على محاربة الإخوان ومكافحة دعوتهم واشتدت المعركة بين عوامل الهدم وعوامل البناء المعركة الأزلية بين قوى الخير وقوى الشر وهنا أيضا التقى الاستعمار والحزبية التقوا على محاربة فكرة الإسلام وإطفاء نور دعوته حتى يعم الظلام من جديد وفي الظلام يستطيع الاستعمار أ، ينهب قوة الشعب ويسلبه عصارة حياته وفي الظلام يستطيع الزعماء الحزبيون أن يضللوا الشعب ويبقوا فوق عروش القيادة وحشود الشعب البائس تحملهم على أكتافها كما يحمل الغزاة الفاتحون !
وحين أزهرت سياسة الإنجليز في فلسطين وأشرقت على الإثمار والنضوج انتفضت البلاد الإسلامية في ثورة عنيفة منابعها دور الإخوان ومراكزها ولما وضحت الحرب وأصبحت حقيقة لا مفر منها قام الإخوان يفتحون المعسكرات ويدعون شبابهم لحمل السلاح ويمدون المجاهدين العرب بكميات وفيرة من العتاد ورأى الإنجليز ما في هذه الحركات من خطر يصيب سياستهم في الصميم فعولوا على إبعادهم عن الحرب ومنعهم من دخولها بكل وسيلة لقد رأينا ما كان من أمر ((الصاغ محمود لبيب )) وغيره من دعاة الإخوان وشبابهم وكيف طاردتهم سلطات الاحتلال وأرغمتهم على مغادرة البلاد ثم أحاطت الحدود بحراسة شديدة دقيقة لتمنع أيا منهم من دخول البلاد مرة أخرى 0
ولقد حاولت بنفسي دخول البلاد في نوفمبر (1947) فوجدت صعوبة كبيرة وأرغمت على العودة أكثر من مرة حتى اضطررت إلى قطع مسافة طويلة سيرا على الأقدام وطللت أنتقل بحذر حتى استقر بي المقام في مدينة (يافا) وكانت الحركات العسكرية قد بدأت تتسع وتزيد حدتها 0
وأذكر أنني بعد وصولي بأيام كنت أقود دورية من دوريات الاستكشاف والمعارك على أشدها في الشمال وكان الوقت ليلا ووجهتنا ضاحية من الضواحي المحطة ((بتل أبيب )) وفجأة رأينا السيارات الإنجليزية المدرعة تلاحقنا وتحيط بنا ثم ترغمنا على التسليم ولم نكن نملك وسائل المقاومة أما هذه القوة المسلحة فسلمنا ونزل الجنود الإنجليز يفتشون ملابسنا ويصادرون ما معنا من سلاح وذخيرة ثم يقتادوننا في آخر الأمر لأقرب مركز من مراكز الجيش وهناك بدأ استجواب الأسرى البائسين 0
قال الضابط الإنجليزي : ((أنتم يا معشر الإخوان تحاولون إثارة القلاقل في فلسطين لا تدعون فرصة تمر حتى تنتهزوها للوصول إلى هذه الغاية ولقد قمنا وراءكم الليلة بناء على معلومات حصل عليها أحد عيوننا المكلفين بمراقبتكم وتقصى أخباركم ))0
ثم أخذ يوجه إلى الأسئلة وقد علم أنني مصري الجنسية من ((البطاقة)) التي وجدوها معي وكنت أجيبه بشده أغاظته فأمر جنوده فدفعوا بي إلى إحدى الحجرات المظلمة وهو يهدد ويتوعد وظللت ساعات في تلك الحجرة الكريهة ثم فتح الباب أحد الحراس واقتادني إلى الخارج فوجدت إخواننا وقد شحنوا في السيارات المدرعة تمهيدا لنقلنا جميعا إلى مركز رئاسة الجيش في المنطقة 0
وخشيت سوء العقاب وكان أقلها إلقائي في السجن دون سؤال أو تسليمي لليهود كما حدث بل أيام حين اعتقلت السلطات الإنجليزية أعرابيا يحوم حول إحدى المستعمرات وسلمته لليهود لمحاكمته في تل أبيب وحوكم فعلا أمام محكمة يهودية وبرأته المحكمة وأطلقت سراحه في شوارع المدينة ! ولكنه لم يعد إلى أهله إذ أغرى اليهود بقتله في إحدى حدائق البرتقال 0
كنت أفكر في هذا المصير والسيارات تنقلنا إلى هدف مجهول ولاحظت أن السيارة تمر بإحدى الحدائق الكثيفة فقذفت بنفسي منها وانتقلت إلى داخل ا النارية تلاحقني ولكنى نجوت وظل الإنجليز فترة طويلة يبحثون عنى دون جدوى إذ كنت قد اختفيت في الريف حتى تهدأ العاصفة 0
أما إخواننا الآخرون فقد حوكموا وسجنوا وأما الأسلحة فقد صودرت وذهبت هذه الواقعة مثر لطغيان الإنجليز ومدى تآمرهم مع الغزاة المعتدين 0
ولم تكن هذه الخطط لتصرف الإخوان عن مواصلة الجهد إذا أخذت مراكزهم وشعبهم في فلسطين تنظم حركة المقاومة على قدر ما تسمح به مواردها المحدودة وأخذ شباب الإخوان في مصر يتسللون فرادى للاشتراك مع العرب في حرب العصابات التي قامت على أشدها في ذلك الحين ومما يجدر ذكره في هذا المجال أن اليهود كانوا يعتبرون الإخوان ((مجرمي حرب )) وعلى ذلك فلا يجوز معاملتهم كأسرى بل كانوا يقتلونهم ويشوهون أجسامهم ولقد رأيت بعيني اليهود يمسكون بالمجاهد الكريم ((مختار منصور)) من إخوان القاهرة في إحدى المعارك التي دارت حول مدينة (يافا) ويقذفون به إلى إحدى مصفحاتهم ولم أعرف مصيره حتى التقى بي بعض العرب ممن اشتركوا في المعركة وكان نصيبهم الأسر فقالوا لي : إن اليهود استلوه من بينهم وأطلقوا عليه النار وقد عرفوه من (البطاقة) التي يحملها ومن لحيته الخفيفة التي كانت تستدير حول وجهه وأعود إلى موقف بريطانيا من الإخوان فأقول : إن هذه الحالة كانت تجرى على الإخوان وغيرهم من المجاهدين بحجة المحافظة على فلسطين وأمنها وقت أن كان البحر يقذف الألوف من المهاجرين ممن تم تدريبهم وإعدادهم في بلدان أوروبا وأمريكا ويحرس سفنهم الأسطول البريطاني المغوار!
ظلت هذه الحالة قائمة على أشدها فالإنجليز يطاردون المجاهدين العرب ويحرمون عليهم القيام بالغارات على المستعمرات وتشترك مدرعاتهم في حماية القوافل اليهودية وتتعاون معهم فعلا في كثير من المعارك ولقد شاهدت بعيني خلال شهر ديسمبر عام (1947) عددا كبيرا من الضباط الإنجليز يدربون فتيانا وفتيات (الهاجاناه) على أعمال العصابات في (وادي اللطرون) على مقربة من القدس وأخيرا يختم الإنجليز احتلالهم البغيض بتسليم اليهود أمهات المدن والموانئ العربية كما حدث ليافا وحيفا وعكا وغيرها من المدن والموانئ 0
جاء شهر مايو من عام (1948) وكان بداية تحول كبير في مجرى الحوادث إذ أنهي فيه الإنجليز انتدابهم وختموا آخر صفحة لسياستهم في فلسطين وغادروها غير مأسوف عليهم ودخلت الجيوش العربية من الشرق والغرب والجنوب لتعبد الأمن إلى نصابه 0
وظن الإخوان أن عهد التضييق والإرهاب قد انتهي بانسحاب الإنجليز وأنهم يستطيعون الآن إدخال قواتهم دون خوف أو وجل وأن الوقت قد آن ليفي مرشدهم العظيم بوعده فيدخل إلى فلسطين عشرة آلاف مجاهد كدفعة أولى كما سبق له أن قرر في برقيته المشهورة التي بعث بها إلى زعماء الدول العربية في اجتماعهم ((بعالية))0
ظن الإخوان ذلك ولكن جاءت الحوادث لتخلف ظنهم وتقنعهم أن سياسة الإنجليز باقية وإن انسحبت جنودهم من الميدان وأنهم لا يزالون يحركون سياسة الحرب من وراء ستار 0
طلب الإخوان إلى حكومة النقراشى السماح بإدخال فوج من مجاهديهم ليرابط في الجزء الشمالي من صحراء النقب فرفضت الحكومة هذا الطلب وأصرت على عدم السماح لهم بذلك مما اضطر بعضهم إلى طلب السماح لهم بالقيام في رحلة علمية إلى ((سيناء)) فوافقت حكومة النقراشى بعد إلحاح شديد وحضرت تلك المجموعات إلى سيناء وتسللت منها إلى فلسطين سراً حيث لحقت بها دفعات أخرى تسللت بطرق مختلفة
وكانت حيلة دخلوا بها إلى فلسطين وبدخول هذا الفوج في فبراير عام (1948) بدأ القتال الفعلي في صحراء النقب فأخذ يهاجم المستعمرات اليهودية بعناد وصلابة رغم قلة عدده وضعف أسلحته وتجمع حوله المجاهدون من أهل فلسطين وبدأت حرب عصابات منظمة كانت تبشر بنجاح رائع ومر شهران وعلمت الحكومة فطلبت إلى المركز العام سحب قواته من النقب وكان طبيعيا أن يرفض الإخوان فلم تجد الحكومة بداً من قطع الإمدادات والتموين ومراقبة الحدود بشده لتضمن عدم وصول
شىء منها للمجاهدين حتى تضطرهم للعودة الى مصر ورأي المجاهدون أنفسهم خلال قتالهم الرائع يعيشون أياما طوالا على التمر والماء وعلى الخبز اليسير الذى يشترونه من نقود قليلة يرسلها أهلوهم بين حين وآخر ولكن أين تذهب هذه الشدائد فى نفوس هيأها الله لحمل رسالته والجهاد فى سبيله ؟ ألم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يربطون على بطونهم الأحجار إذا أعوزتهم المئونة واشتد بهم الجوع ؟ تلك هى المثل العليا التى وضعها الإخوان أمام أعينهم وعاهدوا أنفسهم على الوصول إليها إذن فلتضرب حكومة النقراشى رأسها فى الصخر ولتقطع التموين والإمداد ولتمنع الهواء إن استطاعت فإن ذلك لن يغير من الموقف شيئا وسيظل المجاهدون فى ميدانهم حتى ينتصر الحق وتعلو كلمة الله 0
بقي المجاهدون في ميدانهم يعملون ووجدوا من إخوانهم العرب كل معونة ورعاية حتى دخل الجيش المصري البلاد وأخذ يهاجم المستعمرات اليهودية في النقب واشترك الإخوان ف معظم العمليات الحربية التي قام بها كان طبيعيا أن ينقص بفعل المعارك الطاحنة وما سقط منهم فيها من الجرحى والشهداء 0
وحتى في تلك الأوقات الحرجة لم تحاول الحكومة أن تراجع موقفها وأن تسمح للإخوان بدخول الميدان لتعويض هذه الخسائر الكبيرة في الأفراد بل شددت رقابتها أكثر من ذي قبل وكان الإخوان في مصر يعلمون حقيقة الموقف حائلا دون التنفيذ مما اضطر كثيرا منهم إلى المجيء سيرا على الأقدام ولازلت أذكر ذلك اليوم الذي حضرت فيه جماعة من الإخوان قوامها خمسة عشر شابا لم تكن تزيد أعمارهم على السادسة عشرة وكانوا كلهم طلابا في المدارس الثانوية وسألتهم عن سبب مجيئهم فقالوا : إنهم يرغبون في تأدية فريضة الجهاد بعد أن نجحوا في امتحاناتهم لهذا العام ثم أخذوا يقصون على أبناء رحلتهم الشاقة وكيف غافلوا رجال البوليس وقفزوا إلى عربات البضائع في قطارات السكك الحديدية وكيف ساروا مسافات شاسعة ف صحراء سيناء الموحشة بمعونة دليل من البدو وكنت أستمع إليهم وقد بلغت الدهشة منى كل مبلغ والأسئلة تتوارد على ذهني يلاحق بعضها بعضا أهكذا تفعل تربية الإسلام في نفوس الشبيبة ؟ وما الذي دفع هؤلاء الفتية الأحداث وجلهم من الطبقة المترفة إلى تجشم هذه الصعاب وركوب هذا المركب الصعب ؟ أليس في مصر ألوف مؤلفة من أمثال هذا الشباب يقضون أوقاتهم بين المسارح ودور اللهو ؟ وكان الجواب حاضرا : إنها العقيدة التي تسيطر على النقراشى فتملؤها قوة وعزما إنه الإسلام الخالد قد عمل عمله في هذه القلوب الفتية الغضة وسيرها حسب مشيئته ووفق إرادته 0
وتذكرت ذلك الطفل اليافع الذي صحب رسول الله في إحدى غزواته وقائل بشده حتى استشهد بطلا فأكرمه رسول الله ودفنه بيديه الشريفتين حتى تمنى أحد كبار الصحابة وهو عبد الله بن مسعود أن لو كان مكانه ونال ما ناله من إكرام رسول الله وإعزازه وتذكرت تلك الحملة الصليبية من الأطفال الذين جرفتهم العقيدة فغادروا أحضان أمهاتهم بليل وركبوا المخاطر والصعاب حتى لقوا حتفهم في آخر الشوط في الديار المقدسة وكانوا طعاما لحيتان البحر وأسماكه تذكرت ذلك وتمنيت يومها أن أعيش حتى رأى هذا الجيل المسلم وقد أمسك بعجلة القيادة في أمته ومضى يوجهها نحو الخير والعظمة على أساس من هدى الإسلام ونوره 0
وأفقت من تأملاتي على صوت أحدهم وهو يسأل عن موعد التدريب ولما يجف عرقه بعد الرحلة الشاقة التي قاساها فأجبته بما طمأنه وبعثت بهم إلى ((عنبر الراحة )) لينالوا قسطا من الراحة والغذاء قبل البت في مصيرهم 0
وأسلمت نفسي إلى تأملات عميقة وأنا أردد قول الله تعالى :
{إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى }0
يتخطون العقبات
(( لقد أمنا وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق والله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ))((سعد بن معاذ))
عز على الحكومة السعدية أن يستمر الإخوان في جهادهم فأرادت أ، تكيد لهم من طريق آخر فأمرت بوليسها أن يمنع المجاهدين الذين يغادرون الميدان لزيارتهم أهلهم في إجازات قصيرة حتى ينقص عددهم وينتهي أمرهم وفطنا إلى الحيلة عد مده فألغينا الإجازات وقررنا نسيان الأهل والولد حتى نضيع على الحكومة فرصتها ونستمر في جهادنا في هذا الجو المعتم كان الإخوان يقتلون اليهود في فلسطين ومن حق القارئ أن يتساءل بعد ذلك عن سبب هذه السياسة المتعنتة التي وقفتها الحكومة النقراشى تجاه الإخوان ف فلسطين فنقل : إنها سياسة رسمها الاستعمار وترك لهذه الحكومة مهمة تنفيذها حتى لا يظهر على مسرح ظهورا سافرا ولقد قال لي أحد كبار المسئولين في الميدان وقد حمل إلى أمر تسريح الإخوان من عرب فلسطين الذين ضممناهم إلينا في الميدان 0
((إن الحكومة تنظر بعين الريبة إلى حركات الإخوان وتخشى أن يؤلفوا جيشا في فلسطين يكون بعد ذلك خطراً كبيراً على سلامة الدولة ولست أدرى أي دولة تلك التي تهمهم سلامتها ؟ حقا 00 لقد كان الإخوان خطرا كبيرا على دولة إسرائيل ولقد فهم المستعمر أين يكمن الخطر الحقيقي على دولته الوليدة فأوحى إلى رجاله وأشار إليهم فكانوا عند حسن ظنه كالعهد بهم وقاموا بسرعة مجنونة يلبون نداءه ويجيبون رجاءه وانتهي الصراع بالمذبحة التي لا تزال عالقة بالأذهان حتى الآن والتي عرفت باسم قضايا الإرهاب وقضايا الأوكار وغير ذلك من المسميات ولو أنصفوا التاريخ والواقع لأسموها: ((مذبحة الإسلام في وادي النيل ))0
نحج الإخوان المسلمون في التسلل عبر الحدود رغم الخطط التي فرضها الاستعمار وأذنابه ولم تمض أسابيع ليلة على بداية الصدام حتى حمل الإخوان لواء الجهاد الشعبي ونجحوا في لإدخال عدد كبير من خبرة شبابهم من مصر وسوريا وشرق الأردن 0
ففي الوقت الذي كانت فيه القوة الأولى ترابط في النقب وتفتتح أولى معارك الجنوب في ((كفار ديروم)) في (14 إبريل ستة 1948) كانت القوة الثانية بقيادة اليوزباشى (محمود عبده) تنتقل إلى معسكر ((قطنة))بسوريا لتستكمل تدريبها ثم ترابط فترة في النقب وتشترك مع زميلتها الأولى وأخبرا تصحب الشهيد ((أحمد عبد العزيز)) في جولته الموفقة قبل أ، يستقر في جنوب القدس ويكون من نصيب هذه القوة أ، يوكل لها مهمة الدفاع عن مرتفعات ((صور باهر)) الحصينة وهناك تلحق بها قوة كبيرة من الإخوان المسلمين في شرق الأردن بقيادة المجاهد ((عبد اللطيف أبو قورة رئيس الإخوان في عمان وتندمج القوتان في فرقة واحدة متحدة القيادة ليكون لها الفضل بعد ذلك في المحافظة على تلك المرتفعات وعرقلة الخطط اليهودية التي كانت ترمى إلى احتلالها لتتحكم في القوات المصرية المتطوعة المرابطة في مناطق ((الخليل وبيت لحم ))0
ولم يكن الإخوان في سوريا بأقل نصيبا من غيرهم إذ أدخلا قوة من رجالهم يقودها الأستاذ ((مصطفي السباعي)) رئيس الإخوان في دمشق عملت بهمة ونشاط في مناطق ((المثلث ))والقدس)) وساهمت فعالة في الدفاع عن هذه المناطق الحيوية وكانت القوات غير النظامية التي شكلتها شعب الإخوان في فلسطين تعمل منذ بداية الحركة في المناطق الشمالية والوسطى تحت القيادات العربية المحلية وتقم بغارات ناجحة على مستعمرات اليهود وطرق مواصلاتهم رغم الضعف الشديد الذي كانت تعانيه سواء في التسليح أو التدريب 0
ولقد اضطر الإخوان إزاء القيود التي فرضتها الحكومة إلى تقديم شبابهم للعمل تحت قيادة الجامعة العربية فتشكلت منهم ثلاث كتائب أتمت تدريبها في معسكر ((الهاكستب)) ثم تسللت إلى فلسطين قبيل زوال الانتداب البريطاني وكان يقود الكتيبة الأولى الشهيد (( أحمد عبد العزيز )) الذي قام بنشاط ملحوظ في مهاجمة مراكز اليهود في النقب قبل أن يتخذ موقفا دفاعيا عن مناطق جنوبي القدس وكانت الكتيبة الثانية لمتطوعى الجامعة العربية بقيادة البكباشى ((عبد الجواد طبالة)) ترافق الجيش المصري وتشترك معه في الدفاع عن منطقة غزة وتتولى حصار بعض المستمرات وتقوم بحراسة بعض النقط الهامة في خطوط المواصلات ثم تستقر بعد ذلك مع زميلتها في ((بيت لحم)) عقب استشهاد المرحوم ((أحمد عبد العزيز))0
وتتجمع هذه القوات في تلك المنطقة وتنجح في المحافظة عليها وتسليمها للجي العربي الأردني بعد حصار شاق طويل وهجمات عنيفة من العدو أظهرت في صدها الكير من ضروب البطولة 0
وهذه القوات المتطوعة وإن كانت خليطا من الإخوان وغيرهم من الشباب المصري الحر ممن لا يكفر سعيهم ولا ينكر جهادهم إلا أ، الكثرة الساحقة من الإخوان فيها قد طبعتها بطابع الدعوة الخاص وبهذا الطابع عرفها أهل تلك المناطق حتى إن الحكومة السعدية حينما أرادت اعتقال مجاهدي الإخوان في بيت لحم وصور باهر عقب إعلان الهدنة وفك الحصار لم يستطع التمييز بين الإخوان وغيرهم فاعتقلت مجموعة ضخمة منهم وأودعتهم المعتقل العسكري في ((رفح))على حدود مصر الشرقية 0
وهكذا ورغم تلك القيود القاسية التي فرضها الاستعمار وحافظ عليها أذنابه من بعده فقد اشترك الإخوان في الحرب بأعداد كبيرة كانوا يتحملون الإنفاق على معظمها ويتكبد مركزهم العام ألوف الجنيهات في شراء الأسلحة والمعدات 0
ولا أظنني في حاجة لأؤكد للقارئ أنني لا أسجل للإخوان فخرا ولا منة ومعاذ الله أن نمن على أمتنا مهما قدمنا لها من جهد وتضحيات وكل شئ نقدمه نعتبره صغيراً تافهاً بالنسبة لما نريده لها من عز وإسعاد ولست أتهم أحدا دون وجه حق ولكنني أعتقد أن من حق الأمة علينا أن نوضح لها الحقيقة المجردة لتستطيع أن تفرق بين الخصوم والأصدقاء والمخلصين والأدعياء.
وإن لي من وراء هذا السرد وهذه المقارنة غرضين : أولهما تبيان حقيقة المزاعم التي شغلت بها الأقلام المغرضة والصحافة الموبوءة فترة من الزمن لطمس هذه الحقائق والتقليل من أهمية هذه التضحيات خدمة للمستعمر وإرضاء لشهوات حزبية جامحة فكان أن سمع الرأي العام بتلك النغمة المرذولة عن التدريب السري في فلسطين والاستعداد لحركة ثورية عند الرجوع لأرض الوطن 0
ولسنا في حاجة بعد الذي ذكرنا التدليل على كذب هذا الادعاء إذ لو كان الإخوان يرجون من وراء جهادهم تلك الأغراض التي ذكرها دعاة السوء لما أقدموا على الحرب واندفعوا فيها هذا الاندفاع ولوقفوا موقف المتفرج ولا لامهم أحد من الناس ولكانت الحجة لهم لا عليهم والإنجليز وحلفاؤهم يمنعونهم من دخول الحزب بكل وسيلة ولكنهم اندفعوا لقتال اليهود بشدة وعنف ولسوف يظل ذلك مفخرة لهم كلما ذكرت الجولة الأولى من حرب فلسطين ولو ترك الإخوان على سجيتهم دون أ، توضع أمامهم كل هذه العراقيل لرأى دعاة السوء كيف أغرقوا أرض فلسطين بسيول من قواتهم زكتائبهم ولتغيرت نتيجة الحرب لامحالة 0
هذا غرض والغرض الثاني الذي نرمى إليه من سرد هذه الوقائع هو أننا نؤمن إيمانا راسخا بأن حربنا مع اليهود لم تنته بعد ولم تكن الجولة الأولى منها إلا مقدمة لحرب طويلة المدى فإسرائيل خطر كبير على كيان الوطن العربي لا يقلل من خطورته ما ينشره دعاة التردد والهزيمة من وجوب الإسراع بعقد الصلح معها حتى تنتهي حالة التوتر ونحني رءوسنا أمام الأمر الواقع 0
واليهود إن لم نكرس جهودنا لقتل دولتهم الباغية فهم يعملون جاهدين لتقويض أركان دولنا وإقامة إمبراطورية يهودية تمتد من النيل إلى الفرات 0
وإذاً فمن واجبنا أن نضع نصب أعيننا دروس الماضي وأخطاءه وأن نجعل من الجولة الأولى مزرعة ((للتجارب العسكرية)) تماما كما كانت الحرب الأهلية التي قامت في أسبانيا ستة (1937) والتي كانت (مزرعة) استنبتت فيها بذور الحرب العالمية الثانية وكانت فرصة طيبة اغتنمتها الدول الكبرى فجربت فيها خططها وأسلحتها أو كهذه الحرب التي نشبت في أواخر العام (1950) في كريا والتي نعتبرها تجربة غيرة لحرب عالمية ثالثة فكل دولة من الدول التي تجرب فيها آخر ما وصلت إليه من خطط القتال وأساليب الفتك والتدمير ومزرعتنا هذه زرعت فيها بذور مختلفة فمنها الذي مات لساعته ولم يبد له أثر ومنها الذي أينع ثم هاج فرأيناه مصفرا ومنها الذي أينع وترعرع حتى آتى أكله بإذن ربه والويل كل الويل لنا إن لم نستفد من هذه التجارب التي كلفتنا الكثير من الدم والمال ولن يختلف اثنان في قيمة التربية الإسلامية وأثرها في تكوين المحارب الناجح
لعل هذه هي خلاصة النتائج التي وصلنا إليها حيث راجعنا كشف الحساب عند نهاية الحملة وحين أنعمنا النظر في مزرعة تجاربنا فوجدنا أن بذرة الإسلام هي وحدها التي نمت وترعرعت وخرجت من الحرب أقوى ما تكون حبا للقتال حين مات غيرها ولم يستطع الثبات أمام ضغط الحوادث وصدق الله العظيم :{ أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم والله لا يهدى القوم الظالمين }