الإستعمار.. وصناعة الهُوية البديلة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث


صنع الاستعمار الغربي في عالمنا العربي والإسلامي نوعين من الإرتحال، الأول إرتحال من وطن إلى وطن، ونتج عنه ما يُعرف بـ (الوطن البديل)، والثاني إرتحال من هُوية إلى هُوية، ونتج عنه ما يُعرف بـ (الهُوية البديلة).

وما يحدث من أحداث في الوطن العربي والإسلامي من غطرسة صهيوأمريكية غربية ضد العالم العربي والإسلامي إلا نموذج لإيجاد هذه الهوية البديلة التي تداهن الصهاينة وتسالمهم وتطيع أوامرهم.

هذا بالضبط ما فعله الاستعمار الغربي بنا على مدار عقود، حين سلخ مصر وشعبها من الهوية الاسلامية الجامعة الممثلة في الدولة العثمانية، والتي في ظلها نشأت الوطنية المصرية التي واجهت الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، ثم حملة فريزر الانجليزية عام 1807، ثم أحمد عرابي وعبد الله النديم والزعيم مصطفى كامل ومحمد فريد وعبد العزيز جاويش وغيرهم..

ولقد تم هذا السلخ على خطوتين، مرة بسلخها عن الدولة العثمانية باتفاقية لندن عام 1840، ثم اكتمل هذا السلخ مع بداية الحرب العالمية الأولي عام 1914، عندما تم إعلان مصر محمية بريطانية! وبين الخطوتين تم سلخ السودان عن مصر عام 1899! لتنشأ بعدها هُوية (مصرية) بلا عروبة ولا إسلام، وهُوية (سودانية) بلا عروبة ولا إسلام! كل ذلك في ظل سيطرة إنجليزية كاملة، لتخرج مصر من رحابة الإنتماء الإسلامي، إلى التبعية الكاملة للغرب الاستعماري!

ولم يتم هذا السلخ إلا بعد حملة عنيفة شنها الاحتلال الانجليزي على الوطنية المصرية، تلك التي قاومت هذا الاحتلال الانجليزي ومخططاته، ورافق ذلك تشجيع الاحتلال لنخبة جديدة قبلت التطبيع مع الهوية الجديدة..

يقول المستشار طارق البشري: (إن هذه الحدود التي حُدَّتْ بها مصر، ليست إلا نتاج عمل استعماري غربي أقرَّتْه ووقَّعتْه معاهدة لندن في 1840، ورُسم هذا الحدُّ في لندن، ولم تجتمع الدول الأوروبية الكبرى على أمر كما اجتمعت على هذا الأمر وقتها) [١]

يسلط هذا البحث على هذه الأحداث، خاصة غلبة الرواية الاستعمارية لتاريخ الوطنية المصرية، منذ محمد علي وإلى اليوم..

تحويل مصر إلى (مستعمرة) انجليزية

دفعت فرنسا بمحمد على في مواجهة الدولة العثمانية، فأمدته بما ساعده على إنهاك الدولة واستنزافها، حتى إذا ما كان على بعد أميال من الأستانة، أوقفه من دفع به، ثم هاجموه وحطموا أسطوله في موقع نفارين 1840، وأجبروه في لندن على التوقيع على معاهدة تُقلَّم فيها أظافرُه، ليبدأ من هذه اللحظة التغلغل في مصر من خلال الامتيازات الأجنبية، فلم يعد بمقدور الحكومة أن تصدر قانونًا نافذًا إلا إذا صدقت عليه الجمعية التشريعية للمحاكم المختلطة! أي إن تلك المحاكم مارست سلطة البرلمان!! [٢]

يقول المستشار طارق البشري: (ان معاهدة لندن عام 1840 لم تعزل مصر فقط عن الدولة العثمانية لتنفرد بها أوربا، إنما أفضت إلى مزيد من الهيمنة الأوربية على الدولة العثمانية جمعاء) [٣]

كما شهدت هذه الفترة انقلابا هائلا في المجتمع المصري، وتحطيم بنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية، وإنشاء دولة على النمط الغربي الحديث، كان أسوأ ما فيها، الانخلاع التام من الدولة العثمانية، ثم الدخول التام في التبعية الأجنبية على سائر المستويات، المالية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والقانونية، حتى لقد شهدت مصر نمطا قانونيا غريبا وغير مسبوق يجعل الأجانب قادرين على استصفاء كل الموارد إلى جيوبهم، وذلك من خلال المحاكم القنصلية ثم المحاكم المختلطة والتي كانت تستطيع الحجز على أموال الخديوي نفسه، وعن طريقها كان الفقير في أوروبا يهاجر إلى مصر فيصبح في عدة أعوام من الأثرياء بما استطاع اقتطاعه من أموال المصريين بقوة النفوذ والقضاء الأجنبي [٤]

وهكذا نجح الاستعمار الانجليزي في فرض هُوية جديدة على المصريين، تحولت مصر بمقتضاها إلى (مستعمرة)! يحكمها محمد علي وأبناؤه، معزولة عن العالم الاسلامي وتنظيمه السياسي الوحيد في ذلك الوقت (الدولة العثمانية)، وفي المقابل مرتبطةً بالمستعمر ثقافياً واقتصادياً وسياسياً! وهذا هو ما جرى مع كل الدول المستعمرة (التي رسمت حدودها القوى الاستعمارية في القرنين التاسع عشر والعشرين، حيث صُمِّمت تلك الدول لتكون في ذاتها أداة للحكم الأجنبي، فاقتصادها تابع، وأراضيها منكشفة عسكريًا، كما صُمِّمت لكل دولة من تلك الدول عقيدة سياسية تجعل منها وطنًا، ومن شعبها أمة)، وبدأت إرهاصات هذا الميلاد الجديد مع الاكتشافات الأثرية خلال الحملة الفرنسية، ثم شبّت عن الطوق في عهد الاحتلال البريطاني الذي بنى مؤسساتها ورسم حدودها[٥]

لكل هذا قامت الحركة الوطنية المصرية بمقاومة هذا التغول الانجليزي على مصر التاريخية..

الوطنية المصرية.. في المواجهة

شكَّلت الوطنية المصرية سداً منيعاً، أمام أطماع الاستعمار في بلادنا، وقد تميزت هذه الوطنية بأنها (إسلامية) المشرب (عثمانية) الهوي، مما أكسبها مناعة من الذوبان في مشروع الاستعمار، وقدرة على تعبئة الجماهير في مواجهته، فحتى بداية القرن العشرين كانت الحركات الوطنية مرتبطة بالاسلام لا تكاد تنفصل عنه، وكانت الشعوب العربية والاسلامية وهى تقاوم الاستعمار، إنما تنهض تحت راية الاسلام. وبهذا التصور نفهم حركة عبد القادر الجزائري في الجزائر وحركة عبد الكريم الخطابي في المغرب وحركة المهدي في السودان والأفغاني ومصطفى كامل في مصر. [٦]

وكان الزعيم مصطفى كامل أبرز مثال لهذا الارتباط حين دعى إلى (الجامعة الإسلامية) وجعلها عنواناً لنضاله، تلك الدعوة التي دشَّن فكرتها السيد جمال الدين الأفغاني وبشَّر بها وتبنَّاها السلطان عبد الحميد الثاني وحاول أن يستعيد بها قوة وتماسك الدولة العلية في مواجهة الهجمة الاستعمارية الغربية الشرسة، حيث أنه كان يرى أن (الدين هو الأساس الذي يُبنى عليه الاستقلال الصحيح والمجد الأبدي، وأن الوطنية لا تكون صادقة قوية شديدة إلا إذا كانت ثمرة التمسك بالدين ونتيجة من نتائجه)[٧]

وقد استطاع الزعيم مصطفى كامل (1874-1908م) بعث الوطنية المصرية بعد هزيمتها الكبرى باندحار الثورة العربية واحتلال بريطانيا لمصر 1882م، حيث تشكلت حوله العديد من الجمعيات السرية المقاومة للاحتلال الانجليزي بوصفه عدواناً على الدين والدولة العثمانية، مثل جمعية شمس الإسلام التي كانت تُدار من إسطنبول، وجمعية مكارم الأخلاق وعضويتها تُقدَّر بالآلاف ولها فروع في أكثر المدن المصرية، وهي جمعية إسلامية تهدف إلى النهوض بالإسلام، والحفاظ على شعائره وأخلاقياته ونظامه الاجتماعي، ومثل جمعية التضامن الأخوي السرية والمرتبطة بالحزب الوطني القديم، الجمعية التي أُسست لتقوم بالعمل الفدائي المقاوم للاحتلال الإنجليزي في مصر، والتي كان نص القسم الخاص بأعضائها (أقسم بالله العظيم أن أهب نفسي ومالي وما أملك فداء لوطني، وأن أُنفذ أوامر الجمعية دون تردد وبأمانة وإخلاص، وألا أُفشي سرها، وألا أشرب الخمر، ولا أغشى الفجور، وإلا كان جزائي الإعدام، والله على ما أقول شهيد) [٨]

وترافق مع ذلك وجود الخديوي الشاب عباس حلمي (1874-1944) الذي كان - خلافاً لأبيه توفيق - معادٍ للتواجد الانجليزي بمصر، ومؤيد للدولة العثمانية، وقريب من الحركة الوطنية، وقد سبَّب الخديوي عباس الكثير من المتاعب للمعتمد الانجليزي بمصر اللورد كرومر، بل كان سبباً في إقالته من منصبه بعد حادثة دنشواي، وقد روى اللورد كرومر في كتابه الذي ألَّفه بعد رحيله عن مصر - وهو كتاب يقع في 110 صفحة - وقائع صراعه مع الخديوي عباس الثاني ولم ينشره إلا بعد خلع الخديوي فى عام 1914 في بداية اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث أشار فيه إلى ما سماه «حركة إسلامية» كانت قيد التشكُّل حول «عباس»[٩]

بطبيعة الحال كانت الحركة الوطنية بهذا الشكل، تمثل إزعاجاً للاحتلال ونقضاً لمخططاته، في تحويل مصر إلى (مستعمرة) تابعة للمشروع الاستعماري وخادمة له، وهو ما أرسته اتفاقية عام 1840، فبدأ البحث عن (وطنية) بديلة، تقبل بالتطبيع مع الوضع الجديد لمصر (المستعمرة)، وكتمهيد لذلك لابد من ضرب الحركة الوطنية لفتح الطريق لوطنية جديدة!

الاستعمار.. وضرب الوطنية المصرية

في يومين متتالين إكتمل (سلخ) مصر من المحيط العربي والاسلامي في ظل الدولة العثمانية، وضرب الحركة الوطنية المصرية..

  • إعلان الحماية البريطانية:

ففي 18 ديسمبر (كانون الأول) سنة 1914، أعلنت إنجلترا حمايتها على مصر، ونشرت "الوقائع المصرية" في اليوم نفسه إعلان الحماية!

  • خلع الخديوي عباس الثاني:

وفي اليوم التالي لإعلان الحماية أعلنت إنجلترا خلع الخديوي عباس الثاني، وتولية الأمير حسين كامل عرش مصر، ونشر إعلان ذلك في الوقائع المصرية يوم 19 ديسمبر! [١٠]

  • التضيق على الحركة الوطنية:

على إثر عزل الخديوي عباس الثاني وتنصيب حسين كامل سلطانا من قبل الاحتلال، كان أول عمل للسلطة الجديدة "اضطهاد الوطنيين" الرافضين للحماية البريطانية، يقول عبد الرحمن الرافعي: (تولت السلطة العرفية حكم البلاد خلال الحرب، فكان أول عمل لها اضطهاد الحزب الوطني ومطاردة رجاله، فضبطت أوراقه ودفاتره وسجلاته، وشتتت شمل أعضائه أو الذين اشتبهت بأنهم من أعضائه أو أنصاره، واعتقلت الكثيرين منهم.. ونفت بعضهم إلى مالطة وأوروبا).

وتبع ذلك مصادرة المطبوعات والصحف المعارضة للاحتلال، مثل (العروة الوثقى) و(الثورة التحريرية الكبرى) ومجلة (الاستاذ) لصاحبها عبد النديم، كل هذه الجرائد واجهت المنع والمصادرة من حكام تلك الفترة بإيعاز من الاحتلال الانجليزي، كما عمل الاحتلال على التخلص من قيادات الحركة الوطنية، مثلما حدث مع عبد الله النديم حين سعى الاحتلال لترحيله من مصر، ومثلما حدث مع الشيخ جمال الدين الأفغاني. [١١]

  • الحركة الوطنية لم تستسلم:

حين اعتزم السلطان حسين كامل زيارة مدرسة الحقوق، قرر طلبة المدرسة الامتناع عن الحضور في اليوم المحدد لهذه الزيارة السلطانية 18 فبراير 1915، فكان هذا الإضراب شبه مظاهرة صامتة ضد الحماية والانقلاب.

لقد كان من مظاهر هذا السخط أن اعتُدِيَ عليه (السلطان) مرتين، الأولى بالقاهرة يوم الخميس 8 أبريل سنة 1915، إذ أطلق عليه شاب يدعى محمد خليل تاجر خردوات من المنصورة عيارا ناريا حين مرور موكبه بشارع عابدين، فأخطأ وأصاب العربة التي كانت تقله، ولم يحدث بها سوى ثقوب في جلدها، وقُبض على الجاني وحوكم أمام مجلس عسكري بريطاني، وحُكم عليه بالإعدام شنقا، ونفذ فيه الحكم يوم 24 أبريل سنة 1915"

وبعد مرور شهرين على هذا الحادث وقع حادث آخر، "ففي يوم الجمعة 9 يوليو سنة 1915 بينما كان السلطان سائرا بموكبه في الإسكندرية قبيل ظهر ذلك اليوم من قصر رأس التين إلى مسجد سيدي عبد الرحمن بن هرمز لأداء فريضة الجمعة ألقيت عليه قنبلة من نافذة أحد المنازل المطلة على شارع رأس التين فسقطت القنبلة على ظهر جواد من جوادي المركبة السلطانية ثم تدحرجت على الأرض ولم تنفجر"

وتهيأت الأجواء بذلك لصعود نخبة جديدة تتبنّى موقفا أكثر انفتاحا ومرونة مع الاحتلال.. وقد أشار كرومر في أحد تقاريره الدبلوماسية، إلى أن في مصر جماعة صغيرة آخذة في التشكل، وصفهم بأنهم غير متأثرين بدعوة «الجامعة الإسلامية»، وأنه قد اختار أحدهم على سيل التشجيع والتجربة لوزارة المعارف ألا وهو سعد زغلول [١٢]

البحث عن (وطنية) بديلة

وقد تكفل بهذا الأمر مهندس المستعمرات البريطاني اللورد كرومر الذي بحث وشجَّع على إنبات هذه (النخبة) الجديدة وفي تربة غير تربتها، والتي تكونت أساساً من أصحاب البعثات العلمية إلى أوربا، وأبناء الطبقة البرجوازية المتوسطة من ملاك الأراضي وطبقة الأعيان، والتي تشكلت مع فشل المشروع الاحتكاري لمحمد علي عام 1840 والبدء في خصخصة الأراضي ومنحها للسكان المحليين عوضًا عن احتكارها في يد النخبة الحاكمة ومن الأتراك وعائلة محمد علي.

استفاد اللورد كرومر من جهود فرنسا في هذا المجال، وتحديداً منذ بدأت البعثات العلمية في عهد محمد علي لأوربا، فقد تأثر هؤلاء المبتعثين بما رأوه في الغرب، وامتد هذا التأثر إلى حدِّ تبني القيم الغربية ذاتها! ولم يكن هؤلاء المبتعثين على درجة واحدة من التأثر بتلك القيم، وأبرز مثال على ذلك رفاعة الطهطاوي، فرغم إعجابه بما رآه في الغرب، إلا أنه بقىَ معتزاً بالقيم الاسلامية التي تربَّى عليها [١٣]

وقد وجد كرومر بغيته أخيراً، في رجلين أسلمهما كرومر مجال الصحافة (لطفي السيد) ومجال التربية (سعد زغلول)..

احمد لطفي السيد

يقول ألبرت حوراني: "كان لطفي كغيره من المفكرين المصريين لا يحدد الأمة على أساس اللغة أو الدين، بل على أساس الأرض، وهو لم يفكر بأمة إسلامية أو عربية، بل بأمة مصرية: أمة القاطنين أرض مصر" ص [216]

وأن "لمصر في نظره ماضيان: الماضي الفرعوني والماضي العربي، ومن المهم أن يدرس المصريون الماضي الفرعوني، لا للاعتزاز به فحسب!، بل لأنه يلقنهم قوانين النمو الارتقاء" ص [216-217]

وقد ذهب لطفي السيد في غلوه إلى القول بأن "القومية الإسلامية ليست قومية حقيقية، وأن الفكرة القائلة بأن أرض الإسلام هي وطن كل مسلم إنما هي فكرة استعمارية تنتفع بها كل أمة استعمارية حريصة على توسيع رقعة أراضيها ونشر نفوذها"! ص[218] [١٤]

ويقول مجيد خدوري :" وكان اللورد كرومر قبل مغادرته مصر بقليل، قد أعجب باعتدال هذه الكتلة -أي مدرسة محمد عبده- وراح يشجعها على تأسيس حزب الأمة، بغية مجابهة نفوذ أتباع مصطفى كامل من الوطنيين" (عرب معاصرون، ص: [315]). ويقول عنه -أيضًا- :" كثيرًا ما لام الوطنيين لمعارضة بريطانيا"! (المرجع السابق، ص: [331]). ويقول فتحي رضوان: " إنك لتقرأ كل ما كتب لطفي السيد في الجريدة في موضوع علاقة مصر ببريطانيا، وفي موضوع علاقة مصر بتركيا، فإذا به في الموضوع الأول لطيفًا، كأنه مر النسيم، يخاف أن يخدش خد الاستعمار، أما في الموضوع الثاني فهو متحمس غضوب فما سر هذا، وما تفسيره؟" عصر ورجال، ص [443] [١٥]

فكر لطفي في إنشاء حزب سياسي يضم أو يُمثل الأعيان من كبار ومتوسطي الملاك المصريين لمعارضة الأتراك والإنجليز والتفكير في مصالحهم كمصريين أو كبرجوازيين مصريين، وكتب لطفي بعد ذلك في الجريدة أن حزب الأمة المُزمع تأسيسه "جاء لتمثيل أصحاب المصالح الفعلية في البلاد، هؤلاء الذين زعم اللورد كرومر أن لا خصومه بينهم وبين الاحتلال"، بل ويضيف الباحث تميم البرغوثي إن لطفي لا يقبل عملية التحديث المفروضة من الاستعمار وحسب بل هو يقول بصراحة أن قبولها والإجادة فيها هو شرط تحقيق الاستقلال. [١٦]

في مذكراته ذكر اللورد لويد المندوب السامي البريطاني الذي أتي بعد كرومر مع انتهاء الحرب العالمية الأولى "أن الفضل في تأسيس حزب الأمة وما تبعه من تيار سياسي يعود إلى كرومر في الواقع لا لطفي"

تأسيس حزب الأمة

أسس أحمد لطفي السيد مع جماعة من أعيان مصر في تأسيس حزب الأمة سنة 1907م، وتولى هو سكرتارية الحزب، ورأس صحيفته المعروفة باسم (الجريدة)، وقد استمرت رئاسته للجريدة سبع سنوات وبضعة أشهر توقفت بعدها تمامًا، بعد أن لفظ حزب الأمة أنفاسه الأخيرة. وكانت سياسة الجريدة تقوم على الدعوة إلى فكرة (مصر للمصريين)، ومهاجمة الجامعة الإسلامية التي كان يدعو إليها السلطان عبد الحميد الثاني، ويعبر أحمد لطفي السيد عن هذا الاتجاه بقوله: "نريد الوطن المصري والاحتفاظ به، والغيرة عليه كغيرة التركي على وطنه، والإنجليزي على قوميته، لا أن نجعل أنفسنا وبلادنا على المشاع، وسط ما يسمى بالجامعة الإسلامية..". وازدادت هذه السياسة وضوحًا بدعوته إلى حياد مصر من هجوم إيطاليا على ليبيا، حين رأى تعاطف المصريين مع الدولة العثمانية، وقيامهم بجمع التبرعات، وحشد المؤن والأسلحة لإرسالها إلى الجيش العثماني في طرابلس بليبيا، يقول لطفي السيد: "وقد أخذت أنبه على استحياء إلى واجب مصر من هذه الحرب، وهي أن تكون على الحياد، وأن سيادة تركيا لا تجلب لمصر منفعة ولا تدفع عنها ضرًا"، غير أن دعوته لم تلقَ استجابة، وضاعت وسط عواطف المصريين، وتعلق قلوبهم بدولة الخلافة العثمانية. وسلكت الجريدة مسلكًا مهادنًا مع الاحتلال البريطاني، بل نوهت بالتحسن المادي والإداري الذي وصلت إليه مصر في عهد الاحتلال، وقبل أن يرحل اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر إلى بلاده أقيم له حفل وداع بالأوبرا، في (ربيع الأول 1325 هـ / مايو 1907م)، وكان في مقدمة المحتفلين أعضاء حزب الأمة، وأفردت الجريدة ملحقًا عن حياة المعتمد البريطاني وأعماله في مصر، فأشادت بأعماله المالية والاقتصادية، ونددت بأعماله السياسية؛ "لأنه حرم مصر من حياة سياسية تطمح إليها كل أمة حية".[١٧]

سعد زغلول

عبر الحاضنة التي باركها كرومر وأسهم في صناعتها، تشكَّل صالون الاميرة نازلي، وهناك يتأهل واحدا من النخبة الصاعدة ، سعد زغلول، فيتزوج بترشيح من نازلي ابنة مصطفي فهمي باشا رئيس الوزراء، إلى أن حدثت حادثة دنشواى الخطيرة، فتأجج الغضب في صدور المصريين، وكان لابد من مخرج ينفِّس هذا الغضب المكتوم، تقول عفاف لطفي السيد “بعد دنشواي كان لابد من تغيير فكان تعيين سعد زغلول وزيرا للمعارف وربما كان سعد زغلول هو المصري الوحيد الحائز علي اعجاب كرومر” [١٨]

وطنية حائرة.. ومستقبل غامض

تصاعدت هذه النخبة الجديد، وبدأ يظهر المدي الذي يمكن أن تصل إليه في مواجهة الاحتلال الانجليزي لمصر، وذلك في المقابلة التي تمت بالقاهرة صباح يوم الأربعاء 13 نوفمبر 1918، حيث قابل ثلاثة كان سعد زغلول أحدهم ممثل الاحتلال الانجليزي (رنجلد ونجت). يقول شهدي عطية أن بداية الحركة (التيار العلماني) كانت مهادنة، وأن مقابلة 13 نوفمبر أسفرت عن (مطالب متواضعة كل التواضع، وسبيلها أشد تواضعًا للتفاهم والمفاوضة والمساومة، ثم التحالف والضمانات) [١٩]

وقد انعكست تلك الوطنية الحائرة بين الرغبة في صناعة الجماهيرية وبين الرغبة في عدم إغضاب سلطة الاحتلال الانجليزي، على الواقع المصري حتى عام 1928، حيث ظهر من يدبًّ الحياة من جديدة في الوطنية المصرية التي ظن المستعمر الانجليزي أنه قضى عليها..

المصادر

  1. قضية الاستقلال في المفاوضات المصرية البريطانية https://hadaracenter.com/%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%82%D9%84%D8%A7%D9%84-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D8%A7%D9%88%D8%B6%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7/
  2. تاريخ تسلل التشريع الأجنبي إلى مصر https://ar.islamway.net/article/7737/%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%AA%D8%B3%D9%84%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AC%D9%86%D8%A8%D9%8A-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D9%85%D8%B5%D8%B1?__ref=iswy
  3. كتاب البشري الحوار الاسلامي – العلماني
  4. العلاقات المصرية التركية: الجذور والثمار https://ikhwanwiki.net/index.php?title=%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D8%AA_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A9:_%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B0%D9%88%D8%B1_%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%85%D8%A7%D8%B1
  5. تميم البرغوثي، الوطنية الأليفة: الوفد وبناء الدولة الوطنية في ظل الاستعمار
  6. المستشار طارق البشري – مقدمة الفكر السياسي للأمام حسن البنا
  7. مصطفى كامل باشا في 34 ربيعا نقلا عن (ما أخفاه العلمانيون من تاريخ مصر)
  8. قصة ميلاد الإسلام السياسي من رحم الحركة الوطنية https://www.aljazeera.net/midan/intellect/groups/2019/12/4/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B0%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%84%D9%8A%D9%81%D8%A9-%D9%82%D8%B5%D8%A9
  9. «كرومر» والإسلاميون https://www.alarabiya.net/politics/2021/02/25/-%D9%83%D8%B1%D9%88%D9%85%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%88%D9%86
  10. عبد الرحمن الرافعي في كتابه "ثورة 1919.. تاريخ مصر القومي من سنة 1914 إلى سنة 1921
  11. موجز تاريخ مصر في الحقبة العلمانية
  12. طارق البشري، دراسات في الديموقراطية المصرية
  13. كتاب ما أخفاه العلمانيون من تاريخ مصر الفصل الرابع: رفاعة الطهطاوي الاسلامي الذي سرقه العلمانيون
  14. الفكر العربي في عصر النهضة – ألبرت حوراني
  15. نقلاً عن (أحمد لطفي السيد – طريق الاسلام) https://ar.islamway.net/article/29219/%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D9%84%D8%B7%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%AF?__ref=iswy
  16. الوطنية الأليفة – تميم البرغوثي
  17. https://ar.islamway.net/article/29219/%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D9%84%D8%B7%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%AF?__ref=iswy
  18. عفاف لطفي السيد- مصر وكرومر- بالانجليزية- ص 176
  19. تطور الحركة الوطنية المصرية 1882–1956 – شهدي عطية الشافعي