الإسراء والمعراج الذى باركنا حوله .."للدكتور جابر قميحه " رحمة الله

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإسراء والمعراج الذى باركنا حوله .."للدكتور جابر قميحه " رحمة الله


بتاريخ : السبت 08 يونيو 2013


الذي باركنا “حوله”

الدكتور جابر قميحه

الإسراء والمعراج حقيقة بنص القرآن الكريم ، والسنة النبوية الشريفة .

ولكن أصحاب عقد النقص ، وأدعياء حرية التفكير، والقدرة على التمحيص يحملون ما يسمى بـ ” تجديد النص الديني ، واتخاذ موقف عقلي من المقدس ” :

ــ فبعضهم قد يعترف بالأسراء وينكر المعراج.
ــ وبعضهم يزعم أن ما جاء من نصوص عن الإسراء والمعراج ، صحيح ، ولكنه مجرد حلم رأه محمد صلى الله عليه وسلم في المنام .
ــ يقول أحدهم ” إننا نقول لمن ينكر هذه الواقعات: إنها ليست أحداثا جسدية مادية فلا تتسرع بالإنكار، ولكنها إشارات روحانية تحمل إعجازا أعظم بكثير مما تنكره من حركات المادة.

ونقول :لمن يلمح على أنها رحلات بدنية: رويدك فإنك لا تضفي على محمد المصطفى (صلى الله عليه وسلم) كرامة ولا سموا، لأن ما تتوهمه ليس في الواقع شيئا يذكر بجانب ما استحقه (صلى الله عليه وسلم) من كرامة ومنزلة، وليس من شأن هذه الحركات الجسدية أن ترفع منازل المصطفين الأخيار، وإنما هي شيء كبير في عين أصحاب النظرة السطحية والهمم الضعيفة.

ــ والإسراء لم يكن من مكة إلى بيت المقدس ولكنه كان من مكة إلى أرض الحجاز … إلى المدينة المنورة ، فكان تدريبا مناميا للرسول على الهجرة التي جاءت فيما بعد ، والبركة كانت حول المسجد النبوي والمدينة المنورة إذ أنه لم يكن في بيت المقدس مسجد .
ــ احتلت فلسطين من قبل المسلمين في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. وبدأ الناس في فلسطين في ذلك الوقت اعتناقهم الإسلام. تري كيف نتصور وجود مسجد في فلسطين في زمن النبي محمد (أي قبل احتلال فلسطين من قبل المسلمين) سواء سمي ذلك بالمسجد الأقصي , أو خلافه” ?

“إن تغيير القبلة من القدس إلي المسجد الحرام في مكة جاء دليلاً علي أن القدس لم تعد مركز العبادة لأتباع النبي صلي اللّه عليه وسلم. ومن ثم لم تعد تستحق الاحترام من جانب المسلمين. وإذا لم يُفهم الأمر علي هذا الأساس فإن تغيير القبلة لا يحمل في طياته أي معني ”.

ويمضي المغمور في هذا الهراء فيري أن الذي بني المسجد الأقصي هو عبد الملك بن مروان ليجذب المسلمين إليه بعد أن استقل عدوه عبد اللّه بن الزبيربالسيطرة علي مكة, ومنع عبد الملك الحج (أي أنه قام بعمل يماثل ما قام به أبرهةالأشرم – صاحب الفيل – من بناء كنيسة ليحج إليها العرب بدلا من الكعبة (, لذاشرع عبد الملك بتشييد جامع كبير في القدس, الذي كان بمثابة القبلة الأولي. ومنذ ذلك الحين بدأت تظهر تقاليد لإعلاء شأن الأهمية الدينية لهذا الجامع, وتحويله إلي ثالث الحرمين ” .

تري لو أن وايزمان , أو بن جوريون, أو شارون تناول هذا الموضوع.. أكان يكتب أشنع وأخس من هذا الكلام الذي أفرزه هذا المغمور الحافي العاري الذي يحمل اسمًا إسلاميًا?!!

تهل ذكري الإسراء والمعراج, فنشنف آذاننا, ونملأ عيوننا وقلوبنا من إشراقات قوله تعالي: ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1) . ويؤكد الوحي تحقق الحدث ووقوع الإراءة — أي تمكين النبي (صلي الله عليه وسلم) من رؤية ما عرضه عليه الله (سبحانه وتعالي) من آياته —

وجاء هذا التأكيد بوسيلتين:

الأولي: الحكم علي شخصية الرائي بالصدق المطلق , بنفي الضلال والغي والهوي عنه, فالوحي هو معينه الذي منه يستقي , وعليه تعتمد رسالته “إن هو إلا وحي يوحي”.
والثانية: الحكم علي الحدث ذاته بوقوعه في دائرة الرؤية الحقيقية بلا زيغ ولا توهم {ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم: 17, 18].
فهناك إذن “رحلة” أكرم الله بها نبيه (صلي الله عليه وسلم) تتمثل في الإسراء من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي, والمعراج من المسجد الأقصي إلي السماوات العلا.
وهذه الرحلة التي خص بها الله -سبحانه وتعالي- نبينا محمدًا (صلي الله عليه وسلم) جاءت لتحقيق “غاية” شاءها الله تعالي تتمثل في أن يري من آيات ربه ما شاءه “لعبده” , فكانت تسلية لنبيه بعد أن فقد أعظم نصيرين له: خديجة (رضي الله عنها), وعمه أبا طالب, وكانت رحلة تشريعية, فُرضت فيها الصلاة خمسًا في اليوم والليلة بثواب خمسين صلاة.
وكانت رحلة عرفانـية : رأي فيها رسول الله (صلي الله عليه وسلم) ما زاده يقينًا ومعرفة وعلمًا بقدرة الله وآيات عظمته, وكانت رحلة “كاشفة” نقّت الصف المسلم, ونفت عنه ضعاف الإيمان الذين كذّبوا حادث الإسراء وعادوا إلي الكفر .
لقد أفاضت كتب التفسير والحديث والسيرة في ذكر تفصيلات الإسراء والمعراج, وأغلب القراء والقارئات علي علم بكثير منها, ولكن أجدني مشدودًا إلي وصف المسجد الأقصي بقوله تعالي “الذي باركنا حوله” , فما معني “البركة” ? يقول الراغب الأصفهاني في كتابه القيم “المفردات في غريب القرآن”: “البركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء, كثبوت الماء في البِـِرْكة, ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يُحس, وعلي وجه لا يُحصي, ولا يحصر, قيل لكل ما يُشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك, وفيه بركة” ص54.
وفُسر المسجد الأقصي بأنه بيت المقدس, ويقول الألوسي في “روح المعاني”: “وبركته بما خص به من كونه متعبد الأنبياء (عليهم السلام), وقبلة لهم, وكثرة الأنهار والأشجار حوله, وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال” 15/16. وجاء في الأثر أن “البركة” تمتد فتشمل ما بين العريش إلي الفرات

فهناك إجماع إذن علي تفسير “حوله” بالمفهوم المكاني: أي ما أحاط بالمسجد الأقصي -أو بيت المقدس- من أماكن وأراض “باركها” الله , أي منحها من الخير ما يزيد علي المعهود المتعارف عليه في تقدير البشر وحساباتهم.

ولكن النظر في الآية والسياق القرآني يتسع كذلك إلي تفسير “حوله” بالمفهوم “القيمي” , والحول – في اللغة- معناه: القوة والقدرة والبراعة والدهاء.

واستصحاب الواقع التاريخي , واستقراء مراحله وأحداثه المختلفة يقطع بأن “منطقة المسري” -بيت المقدس وامتدادها- بارك الله في “حَوٍل” من عاش لها, وارتبط بها, ودافع عنها وعمل علي تخليصها من الأذي والبغي والعدوان. ومن الأماكن ما يبعث في نفوس أصحابها, ومن يرتبطون بها – فكريًا وعقديًا- طاقات روحية ونفسية تنعكس وتتجسد في أعمال هائلة يعجز عنها الوصف.

وكل ما قيل يحتاج إلى إثبات حاسم ، أكثر مما يحتاجه إثبات الإسراء والمعراج :

ــ فكلمة مسجد لا تتطلب وجود بناء وإنما تدل على مكان السجود .
ــ والإسراء منسوب إلى الله سبحانه وتعالى ( فستعمل الفعل أسرى ، لا الفعل سرى ) .
ــ وما دمنا قد سلمنا بأن أفعال الإسراء والإراءة ( نريه ) مسندة إلى الله سبحانه وتعالى ، كان علينا التسليم المطلق بهذا الحدث الرباني . وهذا الإيجاز لا يغني عن تفصيل حقيقة هذه المعجزة . وأبعادها ، وتفسير معطياتها وإيحاءاتها ، وعلاقة هذا التفسير بالواقع التاريخي .

“ كلمة التاريخ

وصور “الحول” الذي باركه الله في منطقة المسري وامتداداتها أكثر من أن تحصي, نكتفي منها – في مقامنا هذا- بصور منها ما هو في القديم, وما هوفي الحديث.

وأظهر الصور قديمًا نراها في معركة حطين (583هـ-1187م), وهي المعركة التي أنزلت بالصليبيين هزيمة ساحقة, فتحت أمام المسلمين أبواب فلسطين كلها, وكانت بداية قوية لانهيار حكم الصليبيين في المشرق العربي, وقبلها وحّد صلاح الدين – تحت راية الإسلام – مصر والشام والعراق والجزيرة.

كانت قوات الصليبيين لا تقل عن خمسين ألفًا, وجيش صلاح الدين لا يزيد علي نصف هذا العدد, وتمخضت المعركة عن انتصار ساحق مبين للمسلمين, وقُتل من الأعداء قرابة ثلاثين ألفًا, وأُسر غيرهم آلاف, منهم ملوك وأمراء مثل “الملك غي”, والأمير “رينو دي شاتيون” .

قال ابن الأثير: “وكثر القتل والأسر فيهم, فكان من يري القتلي منهم لا يظن أنهم أسر منهم أحد, ومن يري الأسري منهم لا يظن أنه قُتل منهم أحد”, وكان انتصار حطين نقطة انطلاق لجيش صلاح الدين إلي التحرير الشامل, فتم تحرير قلعة طبرية وعكا, ومجد بابا, والناصرة, وقيسارية, وصفا, واسكندرونة, والبيرة, وجبل الجليل, وتل الصافية, وتل الأحمر, والسلع, ويافا, وصيدا, ونابلس, وقلعة نابلس, وسبطية, وتبنين, وبيروت, والرملة, وعسقلان, وغزة, وبيت لحم, وبيت جبريل, والنطرون والخليل, وغيرها من عشرات المواقع والمدن والقري.

إنه العدد الأقل الذي “بارك الله حوله” فغلب – بل سحق- العدد الأكبر {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله} [البقرة:249].

وفي وقتنا الآني الذي نعيشه نري كيف بارك الله حول انتفاضة الأطفال, وجعل حجارتهم أشد لذعًا ولسعًا علي اليهود من الرصاص, وقد رأينا علي شاشة التلفاز كيف يهرول أعداد من الجنود الصهاينة أمام “قذائف الحجارة” من أيدي أطفال الأقصي, محاولين التماس “سواتر” تحميهم من زخات هذه الحجارة.

ورأينا ما لا يقل عن عشرة جنود يولون الأدبار في هلع أمام امرأة فلسطينية أرادوا اقتحام بيتها, فرفعت في وجوههم “مذراة” القمح, وهي قطعة خشبية لها أصابع كأصابع الكف يذري بها القمح في الهواء لفصل الحب عن التبن, وعلل بعضهم هربه بأن ما رأه في يد المرأة كان مدفعًا رشاشًا غريبًا له “مواسير” متعددة, وصدق تعالي إذ قال: “ولتجدنهم أحرص الناس علي حياة” وإذ قال: “وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي” .

ومن صور “الحول” الذي باركه الله ما رأيناه من بطل حماس “محمود هنود” الذي استطاع أن يهزم خمسمائة من الجيش الصهيوني, ويقتل ثلاثة من ضباطهم ويجرح آخرين, ثم يفلت بعد ذلك من أيديهم.

ورأينا “حماس ” , وقد ازدادت قوة وحولا في الجانبين العسكري والسياسي حتى آل إليها قيادة الشعب الفلسطيني بإرادة هذاالشعب .

ورأينا ما سجله ويسجله حزب الله من انتصارات باهرة على الجيش الإسرائيلي , وتحطيمه أسطورة ” الجيش الذي لايقهر ” ,وكيف استطاع هؤلاء المجاهدون أن يزرعوا الرعب في قلوب الصهاينة , ويدخلوهم الجحور والمخابئ لأول مرة في التاريخ .

والأمثلة في هذا المقام أكثر من أن تحصى . وما زالت المقاومة الإسلامية – وقد بارك الله فيها – صامدة تذيق العدو الأمرين ليل نهار .

إنها البَرَكة الإلهية الممتدة التي وسم الله بها “حول” المؤمنين وجهادهم علي مدي العصور ما ثبتوا علي إيمانهم “وكان حقًا علينا نصر المؤمنين”.

وهذا التفسير – ولا شك- يدفع المؤمنين إلي مزيد من اليقين والثقة في نصر الله, ويفتح أمامهم أبواب الأمل الصادق إلي تحقيق النصر المؤزر المبين.

وأخيرًا: نؤكد للقارئ الحقائق الثلاث الآتية:

1- أن الأقصي في التفسير الثاني يقصد به سكان منطقة الأقصي والمقيمين في فلسطين وما حولها من المؤمنين , وهذا ما يسمي في البلاغة “مجاز مرسل علاقته الحالية” , كما تري في قوله تعالي: “فاسأل القرية التي كنا فيها” والمقصود أهل القرية.
2- أن الفعل الماضي قد يُستعمل في القرآن وفي لغة العرب فيفيد المستقبل والديمومة والامتداد , فالبركة متجذرة في الماضي , وممتدة إلي الحاضر والمستقبل إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها.
3- أن التفسير الثاني الذي عرضناه أي التفسير القيمي لا يلغي التفسير المكاني للحول فهو الأصل وهو الذي أجمع عليه كل المفسرين على وجه التقريب .

البركة – النماء -الزيادة

سبحان الله: معناه تنزيهاً لله من الصاحبة والولد، وقيل: تنزيه الله تعالى عن كل ما لا ينبغي له أَن يوصف، قال: ونَصْبُه أَنه في موضع فعل على معنى تسبيحاً له، تقول: سَبَّحْتُ الله تسبيحاً له أَي نزهته تنزيهاً، قال: وكذلك روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم؛ وقال الزجاج في قوله تعالى: سُبْحانَ الذي أَسْرَى بعبده ليلاً؛ قال:منصوب على المصدر؛ المعنى أُسبِّح الله تسبيحاً.

قال: وسبحان في اللغة تنزيه الله،عز وجل، عن السوء؛ قال ابن شميل: رأَيت في المنام كأَنَّ إِنساناً فسر لي سبحانالله، فقال: أَما ترى الفرس يَسْبَحُ في سرعته؟ وقال: سبحان الله السرعةُ إِليهوالخِفَّةُ في طاعته، وجِماعُ معناه بُعْدُه، تبارك وتعالى، عن أَن يكون له مِثْلٌ أَو شريك أَو ندٌّ أَو ضدّ؛ قال سيبويه: زعم أَبو الخطاب أَن سبحان الله كقولك براءَةَ الله أَي أُبَرِّئُ اللهَ من السوء براءةً؛ وقيل: قوله سبحانك أَي أُنزهك يا رب من كل سوء وأُبرئك.

وروى الأَزهري بإِسناده أَن ابن الكَوَّا سأَل عليّاً، رضوان الله تعالى عليه، عن سبحان الله، فقال: كلمة رضيها الله لنفسه فأَوصى بها.

المعجـــزة

وينبغي أن نشير هنا إلى أن لفظة (المعجزة) ليست مصطلحا قرآنيا أو نبويا، وإنما هي من وضع رجال العلم، وقد عرّفوها بأنها: (العمل الخارق للعادة الذي يجريه الله على يد مدعي النبوة ليكون دليلا أمام قومه على صدقه في دعواه (.

وهذا يقتضي أن يتم هذا العمل أمام قومه، يشهدونه وهو يقع، ويلمسون نتائجه بأنفسهم. وإلا فهو ليس بأمر معجز. فإذا ادعى شخص أن أمرًا حدث له وهو في خلوته -وكان ما يدعيه بعيدا عن المألوف وعما جرت به العادات كان ذلك مدعاةلتكذيبه، وللمكذبين عذرهم في ذلك.

وأود أن أبين من الآن، أن تكذيب واقعة وردت في القرآن الكريم أو في الحديث الشريف لأمر ما، يوقع المكذب في غيابه الجهل وظلمات الكفر. أما تكذيب أحداث الواقعة استبعادا لحدوثها بسبب غرابتها أو صعوبتها فربما كان ذلك أشد جهالة وأعظم كفرا.. لأن المولى تبارك وتعالى إذا أراد شيئا فلا راد لما أراد..

فلنترك هذا الافتراض ولا شأن لنا الآن بمن يكذب الرسول (صلى الله عليه وسلم) أو يستبعد على الله -عز وجل- أمرا أراده.

ولكن جدير بنا أن نضع فيأذهاننا أن أعمال الله -جل وعلا- كلها هي من المعجزات.. بدءًا من جناح البعوضة إلى أعظم المجرات.

فماذا بالله عليكم في هذا الكون ما هو ليس بمعجز لكل الكائنات؟ هل هناك شيء في هذا الكون هو أبدع من خلق الله؟ إن من يرى في ما يسمونه “خوارق” شيئا أكبر من شيء آخر فهو لا يعرف لله قدره.

إن كل صغيرة أو كبيرة في هذا الكون معجزة كاملة بالنسبة لكافة المخلوقات.. وعجْزُ الناس عن خلق خلية أو ذرة واحدة هو مساوٍ بنفس القدر عَجْزَهم عن خلق بحر أو جبل أو قمر.

ولا بأس من أن نكرر مرة أخرى أن الآية الإلهية أو ما يسمونه “معجزة” لا يكون لها أي مغزى أو قيمة إذا كان شاهدها من جرت على يديه وحده، ذلك لأن المكذبين له سيمعنون في تكذيبه، والمصدقون له قد يفتن بعضهم ويقع في التكذيب، أما الموقنون به فهم يصدقونه من قبلها ومن بعدها ولا معنى لها بالنسبة لهم إذ أنهم لم يشاهدوها بأنفسهم لتترك أثرا ما.

كما أن المعجزة -أو ما يعتبرها البعض معجزة- إذا لم تكن عاملا بنَّاء في بيان صدق المدعي فإنها تكون عملا لا يتسم بالحكمة، لأنها عندئذ تعتبر عقبة في سبيل المدعي وفتنة شديدة لقومه. إنها لا تكون دليلا واضحا بل عاملا مربكا محيرا.

ومما يشار إليه هنا ما يزعمه بعض رجال الدين من أن هناك أمورا خارقة للعادة تشبه المعجزات، يسمونها (استدراجا)، لأنها تقع على يد الكاذب ليتمادى في كذبه.

الحق إن مثل هذا القول افتراء على الله الرحمن الرحيم، الذي يعامل الناس بالرأفة ولا يريد بهم التضليل والكيد.

كما أن مثل هذا الاستدراج يوقع الأبرياء في خطأ لا حيلة لهم في اجتنابه.

يقول كثير من العلماء بأن القرآن الكريم هو معجزة رسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم) الكبرى، وهذا قول صحيح لأن القرآن -وإن كان بلسان العرب- إلاأنهم لم يستطيعوا ولم يقدروا..

وإلى اليوم عاجزون.. أن يأتوا بمثله في نظمه وأسلوبه وجماله البياني. ولكن الأهم من ذلك، لهم ولغيرهم، أن العالمين جميعا لا يستطيعون أن يأتوا بما في سورة واحدة من سوره -طويلة أو قصيرة- من تشريع كامل أو حكمة بالغة أو تعليم رشيد أو مثل دقيق أو عقيدة طاهرة أو تعريف بصاحب الملك والملكوت أو نبأ غيبي لا يتخلف.. أو.. أو.. مما نعلمه اليوم، وما يتكشف لنا في الغد، من كنوز القرآن التي لا تفنَى، وخزائنه التي لا تبلى.

هذه هي المعجزة الحقة.. تغيب الشمس وتشرق، ولكن شمس القرآن باقية تملأ الدنيا هداية وسعادة، لمن أراد الهداية، ولمن طلب السعادة. إن حادثة الإسراء أو المعراج لو كانت بالجسد ما أضفت على مغزى الإسراء أو معنى المعراج مزيدا من الإعجاز..

ذلك لأن تحقق ما أشارت إليه أحداث المعراج، وتأويل ما ورد في واقعة الإسراء، تطَلَّبَ عَمَلَ آلاف مؤلفة من جند الله.

إن روايات الحادثتين تحكي لنا أن جبريل وملكا أو اثنين هم الذين اشتركوا في واقعة شق الصدر ورحلة السماء ورحلة الأرض، ولكن الأحاديث تحكي لنا أن سبعين ألف ملك نزلوا مع سورةالكهف وعلى رأسهم ملك الوحي، يحرسون السورة حتى يتحقق ما أشارت إليه من أنباء الغيب.

بل إن آلافًا من الملائكة نزلوا في معركة بدر الكبرى، ووعد الله المؤمنينبتأييد خمسة آلاف من الملائكة بعد معركة أحد. وفي هذا ما يكشف لنا عن أحداث تطلبت مددا سماويا أعظم بكثير مما تطلبته حادثة الإسراء أو حادثة المعراج.

وإذن فالمسألة ليست مسألة صعوبة أو غرابة أو إمكان حدوث، فحياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) زاخرة كل يوم بأحداث جسام، لا يمكن لإنسان أن يحققها وحده، ما لم تكن جنود العالم العلوي في ركابه. فمعركة الإصرار على كون الرحلتين بالجسد، أو إنكار الرحلة كليةً، باطلة بين طرفين لم يدركا حقيقة المعراج وحقيقة الإسراء، ومن ثم راحا يضربان بعضهما بالأدلة والبراهين التي قامت على مقدمات بعيدة تماما عن واقع الأمر وحقيقة الأحداث.

الإســـراء رؤيا

أما المقصد الرئيسي من هذا الكشف والغرض منه فأمر عظيم.

فقد أراد الله تعالى أن يخبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) ويريه المخرج القريب من تكذيب قريش ومعارضتها وتعذيبها لأتباعه من المؤمنين.. وذلك بهجرته (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة المنورة؛ وما يتعلق بهذا الانتقال من ظفر وانتصار للإسلام.

والمراد من رؤية بيت المقدس هو المسجد النبوي الشريف الذي بناه في المدينة المنورة.. التي بارك الله فيها وما حولها، وأعطاها من المجد والسلطان والعلو في الدنيا والآخرة أكثر من بيت المقدس، ولقد رفع مسجده فيها على كل مساجدالأرض غير المسجد الحرام.

أما لقاؤه الأنبياء وصلاتهم جميعا خلفه فتعبيره أن شريعته ودينه ينسخان كل ما سبق من شرائع الأنبياء؛ وأنه سيكون رسولا وهاديا ومبشرا ونذيرا لكل أمم الدنيا؛ وفيه إشارة إلى أن دعوته تنتشر في أطراف الأرض من أقصاها؛ وأن هجرته إلى مهجره ستكون سببا ومفتاحا لذلك. وفيه النبأ بأنه (صلى الله عليهوسلم) سيملك بيت المقدس وسيكون سيد ملوكها وعلمائها وأهلها أجمعين..

أنباء تحققت بالهجرة

ومن المناسب أن نطبق هذا التعبير في واقعة الهجرة ونتائجها على الآيات والواقعات:

لقد بدأ الله تعالى قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى}. وقوله {سُبْحَانَ} يُبيّن أن الإسراء ليس إلا رؤيا تتضمن نبأ عن أمر يكون في المستقبل ويظهر سبوحية الله عز وجل. وطبعا لا تثبت سبوحية الله بمجرد إسراء الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلى بيت المقدس، ولكنها تتجلى في الهجرة بصورة أعلى وأجلى.. إذ يتم هذا النبأ بواقعة الهجرة وكونها مدعاة لإتمام الأنباء القرآنية الأخرى، من جهاد وقتال وفوز ونجاح للإسلام، ودخول الناس في دين الله، وقيام حكومة ودولة إسلامية، وتأسيس مدنية دينية، واكتساح للشرك من جزيرة العرب.. فحصول كل هذه الأمور يدل على كون الله تعالى (سبوحا). وليس ثمة عاقل يداخله شك في أن أساس الفتوحات الإسلامية كلها هو الهجرة النبوية الكريمة.

أما قوله (ليلا) فمن المعروف أن المصطفى هاجر ليلا من مكة إلى المدينة، لقد كان جبريل مع النبي (صلى الله عليه وسلم) في الإسراء، وكذلك كان أبو بكر رضي الله عنه مع المصطفى في هجرته، وهذا إشارة إلى رفعة شأن أبي بكر عند الله تعالى إذ أقامه مقام جبريل (عليه السلام) .. كصاحب ومعين للرسول (صلى الله عليه وسلم) .

وما يجب ذكره أن موسى (عليه السلام) في رؤياه تلقى وحيا يشبه ما قاله الله تعالى عن إسراء الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقد قيل:

{ فَلَمَا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن في النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (النمل:9( .

وقيل في الإسراء:

( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إِلى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِيبَارَكْنَا حَوْلَهُ ( .

فكما بارك الله لموسى في الأرض التي ستكون فيها شريعته، بارك لمحمد (صلى الله عليه وسلم) في الأرض التي تقوم فيها شريعته.. وكلا الأمرين مصداق لسبوحية الله تعالى.

فبيت المقدس كان مركزا وسببا لتأسيس حكومة إسرائيل وقيام الشريعة الإسرائيلية، كذلك كانت المدينة المنورة والمسجد النبوي مركز الحكومة المحمدية ومهبط الشريعة الإسلامية التي أقامت دولة بني إسماعيل في العالم؛ لذلك نعتها الله.. أي المدينة المنورة.. بالمسجد الأقصى من حيث القدسية والبركة.

ولقد تم النبأ الإلهي {بَارَكْنَا حَوْلَهُ} في حق المسجد النبوي والمدينة المنورة، إذ أن الله باركها.

فقد بارك المدينة المنورة وما حولها، وجعلها حرما بفضل دعاء نبيها (صلى الله عليه وسلم) إذ قال: (إن إبراهيم حرَّم مكة ودعا لأهلها، وإني حرَّمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعا إبراهيم لمكة). صحيح مسلم.

وأما قوله {لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا} فكما سبق أن أشرنا من كثرة الآيات والمعجزات الباهرات والغزوات القاهرة للشرك وأهله التي وقعت بعد الهجرة.. وظهور الإسلام على أعدائه وإعلاء كلمته في جزيرة العرب وغيرها.. أكبر آية من آيات ربه (صلى الله عليه وسلم) ودونها الآيات الأخرى.

تهل ذكري الإسراء والمعراج, فنشنف آذاننا, ونملأ عيوننا وقلوبنا من إشراقات قوله تعالي: ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1) .

ويؤكد الوحي تحقق الحدث ووقوع الإراءة – أي تمكين النبي (صلي الله عليه وسلم) من رؤية ما عرضه عليه الله (سبحانه وتعالي) من آياته – وجاء هذا التأكيد بوسيلتين:

الأولي: الحكم علي شخصية الرائي بالصدق المطلق , بنفي الضلال والغي والهوي عنه, فالوحي هو معينه الذي منه يستقي , وعليه تعتمد رسالته “إن هو إلا وحي يوحي”.
والثانية: الحكم علي الحدث ذاته بوقوعه في دائرة الرؤية الحقيقية بلا زيغ ولا توهم {ما زاغ البصر وما طغى لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم: 17, 18].
فهناك إذن “رحلة” أكرم الله بها نبيه (صلي الله عليه وسلم) تتمثل في الإسراء من المسجد الحرام إلي المسجد الأقصي, والمعراج من المسجد الأقصي إلي السماوات العلا.

وهذه الرحلة التي خص بها الله -سبحانه وتعالي- نبينا محمدًا (صلي الله عليه وسلم) جاءت لتحقيق “غاية” شاءها الله تعالي تتمثل في أن يري من آيات ربه ما شاءه “لعبده” , فكانت تسلية لنبيه بعد أن فقد أعظم نصيرين له: خديجة (رضي الله عنها), وعمه أبا طالب, وكانت رحلة تشريعية, فُرضت فيها الصلاة خمسًا في اليوم والليلة بثواب خمسين صلاة.

وكانت رحلة عرفانـية : رأي فيها رسول الله (صلي الله عليه وسلم) ما زاده يقينًا ومعرفة وعلمًا بقدرة الله وآيات عظمته, وكانت رحلة “كاشفة” نقّت الصف المسلم, ونفت عنه ضعاف الإيمان الذين كذّبوا حادث الإسراء وعادوا إلي الكفر .

لقد أفاضت كتب التفسير والحديث والسيرة في ذكر تفصيلات الإسراء والمعراج, وأغلب القراء والقارئات علي علم بكثير منها, ولكن أجدني مشدودًا إلي وصف المسجد الأقصي بقوله تعالي “الذي باركنا حوله” , فما معني “البركة” ? يقول الراغب الأصفهاني في كتابه القيم “المفردات في غريب القرآن”: “البركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء, كثبوت الماء في البِـِرْكة, ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يُحس, وعلي وجه لا يُحصي, ولا يحصر, قيل لكل ما يُشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك, وفيه بركة” ص54.

وفُسر المسجد الأقصي بأنه بيت المقدس, ويقول الألوسي في “روح المعاني”: “وبركته بما خص به من كونه متعبد الأنبياء (عليهم السلام), وقبلة لهم, وكثرة الأنهار والأشجار حوله, وهو أحد المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال” 15/16. وجاء في الأثر أن “البركة” تمتد فتشمل ما بين العريش إلي الفرات

فهناك إجماع إذن علي تفسير “حوله” بالمفهوم المكاني: أي ما أحاط بالمسجد الأقصي -أو بيت المقدس- من أماكن وأراض “باركها” الله , أي منحها من الخير ما يزيد علي المعهود المتعارف عليه في تقدير البشر وحساباتهم.

ولكن النظر في الآية والسياق القرآني يتسع كذلك إلي تفسير “حوله” بالمفهوم “القيمي” , والحول – في اللغة- معناه: القوة والقدرة والبراعة والدهاء.

واستصحاب الواقع التاريخي , واستقراء مراحله وأحداثه المختلفة يقطع بأن “منطقة المسري” -بيت المقدس وامتدادها- بارك الله في “حَوٍل” من عاش لها, وارتبط بها, ودافع عنها وعمل علي تخليصها من الأذي والبغي والعدوان. ومن الأماكن ما يبعث في نفوس أصحابها, ومن يرتبطون بها – فكريًا وعقديًا- طاقات روحية ونفسية تنعكس وتتجسد في أعمال هائلة يعجز عنها الوصف.

المصدر