الإسلاميون والمقاربة البديلة للحداثة والعولمة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإسلاميون والمقاربة البديلة للحداثة والعولمة

العدد السابع عشر

السنة الخامسة / أبريل - مايو 2006

بقلم المهندس محمد علي العمري

مقدمة

كتابات سيد قطب.jpg

لا يختلف اثنان في أن الحركة الإسلامية أصبحت على المستوى الإقليمي، تتمتع بثقل سياسي مؤثر، مقارنة بالقوى السياسية الأخرى في دول المنطقة، مهما اختلفت درجات التسامح والتضييق على هذا التيار، لأنها تعبر عن تطلعات قطاعات واسعة من شعوب هذه المنطقة.

إلا أن ذلك يفرض على التيار الإسلامي العديد من الاستحقاقات، خاصة في مجال تطوير أطروحاته وأساليبه في العمل السياسي، خاصة وأنه اكتسب العديد من الخبرات العملية في أغلب الأقطار والساحات، وتزايد الإقبال على الأحزاب الإسلامية في العالمين العربي والإسلامي في الظرف الراهن المتميز بحدة الأزمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي يعرفها هذا الإقليم الممتد من الرباط إلى كابول، إذ إن جماهير الأمة

"تعيش (فوبيا) الهوية، أي ذلك الخوف الكبير وحتى المرضي على الهوية والانتماء، وجزء من هذا الخوف مفهوم بالنظر إلى التحولات العالمية التي حملتها موجة التغيّرات العالمية التي جاءت مع العولمة، معززة بالتطور الهائل في وسائل الإعلام وتكنولوجيا الاتصال، والتي أصبحت تسوق نمطا يكاد يكون وحيدا في الثقافة والقيم وأنماط العيش والسلوك" (1).

إلا أن العلمانيين وأغلب النخب غير المطلعة على أدبيات الإسلاميين ترى أن "الحركة الإسلامية تعاني من فقر شديد في الرؤى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية البديلة، بالإضافة لغياب تصور واقعي وعقلاني للمشاكل القائمة، وخاصة إشكاليات الحداثة والديمقراطية والعولمة" (2).

ورغم نسبية هذا الطرح وعدم موضوعيته وطبيعة الوضع الإقليمي والدولي ووضع العرب والمسلمين الذاتي والموضوعي فإن ما يمكن تأكيده هو أن مستقبل التيار الإسلامي يعتبر واعدا استنادا إلى :

  1. افتقار أغلب الأنظمة الحاكمة للاجتهادات السياسية الصحيحة، الأمر الذي يساعد القوى الوطنية المعارضة ومن بينها الإسلامية، على التقدم لسد هذا الفراغ.
  2. الحيوية التي تتمتع بها الحركات الإسلامية، وقدرة بعضها على المواءمة بين متطلبات العصر وروح وجوهر الإسلام.
  3. المحاولات الجارية لترسيخ الهيمنة الأمريكية والصهيونية يضاعف من احتمال ولادة جيل وطني يواجهها، تعتمد اغلب عناصره في منطلقاتها على خطاب إسلامي زاخر بالقيم.


مفهوم الحداثة وتطابقه مع الإطار المفاهيمي للإسلاميين

الحداثة هي "بنية جديدة دخلت فيها المجتمعات الإنسانية منذ خمسة قرون أو أربعة في رقعة معينة وأخذت منذ قرن ونصف في الانبساط على كل المعمورة.

وهذه النقلة النوعية التي هي من عمل التاريخ، شهدت بالطبع الهزات والنكسات وصعوبات كثيرة، سواء في موطنها الأصلي أم خارجه، لان التراكيب القديمة كانت تدافع عن وجودها وبقائها.

فلم تأت الحداثة بمفعول قرار إلهي أو قضائي، بل دخلت في زمنية متراكبة متراكمة" (3).

أما التعريف الأكثر تبسيطا فيعتبر الحداثة هي "كل ما يساعد في رفاهية الناس، ويؤدي إلى تسهيل شؤون حياتهم اليومية في المجالات المختلفة، مستخدما وسائل متطورة تحقق أعلى منفعة، بصورة تتواءم مع روح ومقتضيات العصر، ومستخدما المناهج العقلانية والتجريبية" (4).

في حين تمثل الحداثة اصطلاحا الخط الثقافي الذي يتناول القضايا القانونية والسياسية والاجتماعية، ويتحرك في الواقع الإنساني على أساس العقل بما يعني ضرورة أن يكون العقل منطلقا لحركة الإنسان.

ومن الطبيعي أن العلم يختزن في العقل على اعتبار أن الأول هو نتاج للعقل التأملي والعقل التجريدي، وبالتالي فــ "الحداثة من موقعها الذاتي - الموضوعي، لا تنفتح على الماورائيات كقاعدة للبحث" (5)، مما جعل العديد من الحداثويين، أدعياء الانتساب للحداثة، يؤكدون على أن الدين لا علاقة له بحركية الإنسان في الحياة في الجوانب العامة، وأنه نتاج عوامل ثقافية واجتماعية وإنسانية معينة، مما يعني عزله عن الغيب وما وراء الطبيعة كحقيقة، بل يؤكد هؤلاء أن:

-لا علاقة للدين بالتشريع ولا بالسياسة والاجتماع.

-الدين لو كان حقيقة فإنه يمثل علاقة الإنسان بربه.

-الحداثة لا تنسجم مع الدين لأنه يقع خارج إطارها.

انطلاقا من ذلك، وعلى ضوء قراءة التجربة الغربية وأطروحات اليسار العلماني، فإن موقف الإسلاميين من الحداثة كمنهج هو المراوحة بين الاحتراز على المفهوم والرفض المطلق، وهو ما يؤكده السيد حسين فضل الله بقوله:

"إن موقفنا الإسلامي من الحداثة - كمنهج عام- لا يمثل موقفا ايجابيا بالمطلق، ولكننا نستطيع أن نأخذ من الحداثة عقلانيتها باعتبار أن الدين والإسلام بالذات يجعل العقل أساسا لكل عقائده ولكل منهجيته في الحياة" (6).

وبالتالي يمكن استخلاص رؤية الإسلاميين بالقول إن:

-التجارب والثقافات المعينة تخلق "عقلا على صورتها أو بمحدوديتها"، بل هي تناقش وتحاور الآخر من خلال ذلك.

-العلم قيمة عليا، وذلك يعني أن الإسلاميين مع "الحداثة" في احترامها العقل وتدبيره.

-العقل لا ينفي "الدين" ذلك أن نفي الشيء يحتاج إلى دليل.

-العقل لا يملك أن ينفي "الغيب" وإن كان لا يجد الأدوات لإثباته ذاتيا والدخول في تفاصيله.

-العقل يؤسس قاعدة الإمكان في الغيب وينفتح على إثبات النبوة.

إلا أن هذه الرؤية يقابلها الآخر- المقابل للإسلاميين - بالسؤال: "وماذا إذا تعارض النص الديني مع العقل؟".الإجابة تنطلق من أن:

الفكر الإسلامي يؤكد على العقل ويعتبره أساسيا في إنتاج المعرفة، وإذا "ما تعارض العقل القطعي مع النص الديني، فلابد من أن نؤول النص الديني لمصلحة العقل، لأنه لا يمكن أن يكون هناك نص مخالف للعقل القطعي، قد لا يستطيع العقل أن يؤكد نصا دينيا لأنه لا يملك الوسائل إليه، ولكنه لا يملك أن ينفيه" (7).


إطار تصور الإسلاميين للحداثة

يؤكد الإسلاميون في كتاباتهم الفكرية أنهم ينطلقون من موقع العقل لمناقشة الكثير من الأفكار والمفاهيم رفضا للتخلف وقراءة للماضي، أي ما أوجده السلف من تراث فكري وسياسي وتجارب حياتية، تحركت فيها الأمة على أساس عقل السلف الخاضع ضرورة لتجاربهم الثقافية والبيئية.. ولكن لابد من التأكيد :

-على "الإيمان القطعي" باختلاف تلك التجارب الماضية عن تجاربنا في الفقه والفكر والمناهج المتعلق بأغلب المناحي الحياتية.

-على انه لا يمكن الانطلاق من "عقدة التحديث" لنناقش تلك التجارب تماما مثلما لا يصح تقديس الماضي في بعده الزمني.

-على وجود المقدس داخل الفكر الإسلامي: القرآن والنبوة.

يؤكد الإسلاميون أن أبناء الأمة يملكون الحرية في مناقشة تراثهم باعتباره نتاج العلماء بطريقة موضوعية وعقلانية، ضمن الضوابط العقلية الأساسية ككل ضابط في أي علم، بعيدا عن أن التحديث كعقدة ضد الماضي، بل نتحدث عن المبدأ وهو إمكانية مخالفة الأقدمين، كما كان الأقدمون يخالفون بعضهم بعضا، وكان هناك جيل متأخر يخالف الجيل المتقدم، وكان من في الجيل المتقدم ربما ناقشه الجيل المتأخر والعكس صحيح..

وذلك تأسيس للحداثة بمعنى آخر، بل إن الحداثة بذلك المعنى هي إطار متحرك في عملية إنتاج العلم، والبحث عن أسرار الكون، في محاولة للانفتاح على الكون كله، لإنتاج البرامج المتعلقة بحاجات الإنسان وقضاياه.

إن الحداثة ليست مقدسا بل خطا ثقافيا يستند على أبعاد معينة، وينطلق من خلال حركة الفكر في الإنسان، وقد يخطئ وقد يصيب، مما يعني أن الدين كعقيدة وشريعة هو في قلب الحداثة، طبعا على افتراض مفهوم الحداثة الذي يتضمن الموضوعية في البحث، والعقلانية في الحكم وفي التصور.

إن مشكلتنا الأساسية والتي أكدت عليها اغلب الأدبيات السياسية للحركة الإسلامية، والتي نعانيها في اغلب الأوضاع، هي مشكلة الانفعال الذي يحتضن التخلف وينطلق من الجهل، لأنه كلما ازددنا عقلانية وموضوعية ازددنا انفتاحا، واستطعنا أن نكتشف أن الدين يمثل حقيقة كبرى، وأن مجاله هو قلب العصر.


بين الحداثة والديمقراطية

إن الديمقراطية بما هي تعبير الشعب عن آرائه، وكونها تمثل رفضا للاستبداد ضد الدكتاتوريات بأنواعها المختلفة، هي أولوية من أولويات الحركات الإسلامية الوسطية والمعتدلة والمتبصرة بقضايا الأمة، والمنادية بتوفير الحرية للجميع، بما في ذلك الآخر مهما كانت آراؤه من الدين والحياة والكون، لان ذلك هو الطريق الوحيد لرقينا.

إضافة لكل ذلك، لابد من التذكير بأن أغلب الحركات الإسلامية ترى أن نظام الحكم الذي عُـرف بالخلافة كان نظاما تاريخيا، ولم يُـعتبر "مقدّسا أو ثيوقراطيا"، وبالتالي، فإن مسألة الحكم تبقى مسألة اجتهادية و"ليست مسألة مقدسة".

وأنه "لا يوجد في النصوص التأسيسية ماينفي الطموح نحو تأسيس نظام ديمقراطي" (8).

إلا أن القول بالخلط بين المفهوم المذكور وبين "إخراج الله من حساب الحياة العامة للإنسان، وأن هذا الأخير هو مصدر السلطة الوحيد" فذلك خلط غير مبرر ومردود على أصحابه.

في حين أن الحداثة باعتبارها تعبير، كتعبير العصرنة ليست بالمفهوم الفكري الذي يرتكز على قاعدة تختلف عن القاعدة الدينية، فهي تعبر عن المنهج الذي يجعل الإنسان في كل عصر من العصور يدرس كل قضاياه وكل مفاهيمه وخططه من موقع عقلاني وموضوعي، بحيث "لا يمثل الامتداد الأعمى لما قبله، ولا يقدس النتاج البشري القديم، بل يعتبر أن كل جيل من الأجيال، ولكل عصر من العصور فكره ومنهجه وخططه، التي قد تلتقي مع بعض ما كان في الماضي، وقد تؤسس في الحاضر ليكون الانطلاقة في المستقبل" (9).

إن الحداثة بذلك المفهوم هي جوهر رؤية الحركة الإسلامية، لأن الإسلام كدين يعتبر الماضي البشري انطلاقة للمستقبل، ومن الطبيعي أن يقدس الوحي الإلهي وكل ما يتصل به، ذلك أن الوحي يركز على عقلانية الفكر، ويرفض التعامل مع الماضي بأسلوب التقديس والتعظيم المفرط والمبالغ فيه:

"قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على أثارهم مقتدون" (10)، "وإذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون" (11).

ثم إن الله سبحانه وتعالى يؤكد على تحمل كل جيل مسؤولية أعماله وفكره: "تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون" (12).

لهذا لا يبتعد الإسلام عن الحداثة إذا أردنا بها اعتبار العقل أساسا للتفكير، لأن الإسلام يعتبر أن العقل هو الأساس للعقيدة، فلا يجوز لك أن تقلد في العقيدة. أما بالنسبة للشريعة فإنها تمثل القاعدة التي هي الامتداد الطبيعي لمعطيات العقيدة" (13).

إن الحداثة قد تنشط باتجاه ما فلا تلتقي مع الإسلام وجوهره، وقد تلتقي به بمفهومها السالف الذكر.

ولطبيعة عصرنا الممتلك لتقنيات لم تمتلكها العصور السابقة، وبالتالي فالحركة الإسلامية لا تتبنى الحداثة التي يراد منها الدفع بالإنسان نحو الإلحاد والعلمنة والمادة، لأنها تختلف مع ذاك الفكر وتلك الثقافة، رغم إيمانها بالإطار الإنساني الواسع، والتعايش بين الأمم والشعوب.

بل إن الحركة الإسلامية عادة ما تقدم نفسها كطرف حداثي عندما تقدم الإسلام بأسلوب جديد وبصورة أخرى، وذلك من اجل تنشيطه في الواقع المعاش، لأن المسلمين كلما اكتشفوا العالم أكثر اكتشفوا الله أكثر "إنما يخشى الله من عباده العلماء"(14).

إن نظرة الحركة الإسلامية للحداثة تختلف باختلاف المفهوم:

  1. لا للحداثة إن كانت تنطلق من القاعدة المادية، التي تعتبر المادة أساسا لكل شيء، وأنه لا مجال لله ولا للدين.
  2. نعم للحداثة إن كانت منهجا للفكر يرتكز على أساس العقل والموضوعية في مواجهة الاختلافات.

إن الحداثة التي يتبناها الإسلاميون هي الحداثة التي تكون منهجا لحركة الإنسان في اكتشاف الأشياء على مستوى المفاهيم وعلى مستوى العقيدة والواقع والبحث العقلاني والموضوعي، وتدفع إلى الأمام بمفردات العقل وحركته، إذ لا قيمة لعقيدة بلا عقل، ولكن العقل بما هو إدراك قد يأخذ من الثقافي بمفهومه الواسع، وبالتالي يصبح تقييمه مرتبطا بتقييم الثقافي المرتبط به، ذلك أن العقل المقدس هو العقل الفطري.

أما العقل التجريبي والثقافي فإن نتائجه غير حاسمة بشكل قطعي فــ"لينطلق العقل بكل رحابته وليتحرر من الغريزة ومن تقليد الآباء والمألوف ونحن نؤمن بنتائجه، ومن المعروف أن العقل رسول من الداخل كما إن الرسول عقل من الخارج" (15).


مدى الحداثة

إن التحديث لابد وأن يطال الفقه في قواعده وفي أساليبه ومناهجه وفي طرق عرضه، كما لابد من تحديث الأصول والأساليب التربوية والتفسير، ولكن ليس بمعنى الشطب الكلي بل المراجعة الموضوعية للمجهود البشري، أي إبقاء الأصل كاحتمال تصحيحه ومراجعته، من خلال فهمه بطريقة عقلانية وموضوعية لغاية خدمة الدين والأمة.

أما السؤال الأهم فهو أي علاقة للتحديث بالعقائد؟ :لا شك أن علماء الأمة من الأسلاف قد فهموا العقيدة في إطار مفرداتها وبطرق شتى، وقد نختلف معهم اليوم، أو نكتشف خطأهم في التفاصيل طبعا.

والمسألة هنا ليست في فرض الحداثة على العقيدة، بل كل القضية أن العقيدة منها ما يتصل بالعقل، ومنها ما يتصل بالنص، والفقهاء المعاصرون يمكن أن يفكروا عقلانيا كما فكر السلف في ما يتصل بالعقل، ولكن المعاصرين لا يمكن أن يدعوا الحقيقة المطلقة.

أما النص فقد فهمه أسلافنا بالتناسب مع حجم معارفهم، وبالتالي يمكن كنتاج لتطور المعارف والعلوم والتكنولوجيا أن يفهم النص بطريقة أخرى، لأنه لا تقديس لغير المقدس، الذي لا يخضع ضرورة للماضي والحاضر والمستقبل.


أي مفهوم للعولمة؟

مثلما وقع التأكيد على أن الحداثة المرفوضة إسلاميا هي تلك التي تشتمل على جملة الخطوط الفكرية التي يتداولها البعض في الفلسفة المادية، فإن العولمة المرفوضة أيضا هي تلك التي تنطلق من حالة سياسية – الموقع السياسي الأمريكي الحالي - لإلغاء الخصوصيات الفكرية والقومية للشعوب، وكل مواقع القوة، وتذويبها، وبالتالي إلغاء الجانب الإنساني منها، مما يكون نتيجته السيطرة على العالم، مما يمكن الغرب – وأساسا الأمريكان - من فرض نفسه ثقافيا وسياسيا واقتصاديا على كل الواقع المعاصر.

بل إن "الشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات النقدية الدولية التي تقود حملة دون هوادة لنهب وابتزاز جميع الشعوب والأمم، وتعمل من أجل تفقيرهم وتجويعهم أكثر فأكثر، وذلك تحت يافطة موت الإيديولوجيا وسيطرة الرأسمالية، ولكنها تخفي في كنهها، في داخلها، طبيعتها المتوحشة والمتأسسة على الاستغلال والاضطهاد.."(16)، فلا أحد بإمكانه نفي ما جلبته الرأسمالية اليوم من خراب ودمار لجميع الشعوب دونما استثناء (17).


مفهوم العولمة كما ينبغي أن يكون

يمكن فهم "العولمة" - على وجه العموم - من الناحية الاصطلاحية بأنها حركة تهدف إلى تعميم تطبيق أمر ما على العالم كله.

فمثلاً عبارة "عولمة تنقية البيئة" تعني جعل البيئة في جميع أنحاء العالم، بيئة نظيفة ومناسبة، لأن تحيى الكائنات الحية فيها حياة صحية.

وتعني عبارة "عولمة الاقتصاد" جعل الاقتصاد في جميع أنحاء العالم يتبع النظام نفسه، ويطبق الأساليب ذاتها، ويستخدم آليات بعينها، لصالح جميع الشعوب دون تمايز بينها. وتعني عبارة "عولمة السلام" أن تتعاون جميع الدول لحفظ السلام في العالم، كما تتعاون على قتال المعتدين.

وهذا المفهوم يستتبع استفساراً مهما عن إجراءات الأخذ بهذه العولمة. فهل تتبنى مختلف دول العالم هذه "العولمة" اختيارًا، بمعنى أنها تستشار في صياغة أسسها، وتخطيط أساليبها، وتحديد آلياتها، وأنها تتمتع بالحرية المطلقة في قبولها أو رفضها في النهاية؟ إذا كانت إجابة الأسئلة السابقة "نعم" فإن العولمة حين تسود جميع دول العالم، يكون ذلك بناءً على اختيار حر وإرادة مستقلة منها. وتكون العولمة بذلك ظاهرة صحية (18).


نحو عولمة بديلة

أما إذا كان المراد إيجاد فكر عالمي يلتقي عليه كل الناس على أساس ما يكتشفون فيه من حقيقة وان يكون هناك اقتصاد، فالرد واضح وجلي :

الإسلام كدين هو دعوة عالمية وجاء للناس كافة وحتى بدايته احتفظ بالتنوعات " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم" (19).

فقد أكد الجانب الإنساني الأشمل، وجعل خصوصيات الشعوب والقبائل وسيلة من وسائل التعارف الإنساني. والتعارف ينطلق من خلال تبادل الخبرات وتكامل الطاقات. بل إن مفكري الحركة الإسلامية رحبوا بتلك العولمة ضمن هذا المفهوم بل ودعوا إلى:

-اقتصاد عالمي تتكامل فيه الشعوب بحيث ينفتح اقتصاد شعب على اقتصاد شعب آخر فيعطي كل شعب مما لديه ويأخذ مما يحتاجه.

-أن تكون السياسات متناسقة لنحفظ للشعوب حرياتها وعاداتها وخصوصياتها على المستوى الإنساني.

-الاحتفاظ بالتنوعات والخصوصيات لتتحول إلى وسائل للتعارف الإنساني الذي ينطلق من خلال تبادل الخبرات وتكامل الطاقات.


بين العالمية والعولمة

إن معنى العولمة في ظاهره يقترب من معنى العالمية الذي جاء به الإسلام، وأكده القرآن في سورة مكية، مثل قوله تعالى:

"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (20)، "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ً" (21)، "إن هو إلا ذكر للعالمين. ولتعلمن نبأه بعد حين" (22).

ولكن الفرق كبير بين مفهوم "العالمية"، ومفهوم "العولمة" التي يدعو إليها اليوم الغرب عامة، وأمريكا خاصة كما أسلفنا، فالعالمية في الإسلام تقوم على أساس تكريم بني آدم جميعا "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر..." (23)، فقد استخلفهم الله في الأرض، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه.

وكذلك على أساس المساواة بين الناس فـي أصل الكرامة الإنسانية، وفي أصل التكليف والمسؤولية، وأنهم جميعًا شركاء في العبودية لله تعالى، وفي البنوّة لآدم، كما قال الرسول الكريم أمام الجموع الحاشدة في حجة الوداع: "يا أيها الناس، إلا أن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى…".

ومن هنا يتضح الفرق الكبير بين العالمية والعولمة:

- العولمة جبر، والعالمية اختيار.

- العولمة تفرض منهجها الحضاري وترفض الحوار المتكافئ مع الحضارات الأخرى. أما العالمية فهي انفتاح على باقي الحضارات والقبول بالحوار مع الغير.

- للعولمة جذور علمانية، بينما تقوم العالمية على أسس إسلامية وإنسانية.


لماذا يطلق الغرب المصطلحات، ونفكر نحن فيها؟

-إن العولمة المتحدث عنها اليوم هي محصلة للنظام العالمي الذي كان يسود أرجاء الأرض بعد الحرب العالمية الثانية، حيث انقسم العالم يومها إلى قسمين:

شرقي مادي الفكر والعقيدة ويرفض الملكية الخاصة، ومعسكر غربي يحترم الملكية الخاصة ويعتمد الديمقراطية السياسية واقتصاد السوق ويحمي حرية الأديان، ولكنه يفصل بين الدين والدولة، بل يوظف الدين لمصالحه الذاتية.

وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وتفتت المعسكر الشرقي مع بداية تسعينات القرن الماضي آلت السيادة للمعسكر الغربي، واعتبر ساسة ومفكرو الغرب وعلى رأسهم "هنتجتون" و"كسينجر" و"كروث هامر" و"فوكوياما" وغيرهم من سدنة الفكر السياسي الغربي وكهنته أن النظام الغربي هو النظام الأمثل الذي يجب أن يفرض على العالم بهيمنة أمريكية.

- إن الولايات المتحدة الأمريكية تملك موازين القوة في الاقتصاد وفي السياسة والأمن والثقافة، مما جعلها موضوعيا في حركة دائمة من اجل تحريك القوة للوصول إلى أغراضها، بينما الأقطار العربية والإسلامية لا تملك القوة، بما يعني أنها لا تملك ساحة واسعة للتحرك، وبالتالي لا تجد أي من هذه الأقطار حتى لو توفرت الإرادة لديها، أي فرصة للمبادرة وإطلاق الأفكار، وبالتالي فنحن لا نستطيع كعرب ومسلمين إطلاق العولمة الاقتصادية، لأننا لا نملك شركات عالمية تستطيع أن تتجاوز الحدود، ولا نملك المراكز الثقافية والعلمية، التي تنفتح على كل العالم، حتى تدعو العالم وتقنعه بما عندها.

- إن المشكل الأساسي لأمتنا هو أن غيرها هم الذين يمتلكون زمام المبادرة في الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لأنهم استطاعوا أن يأخذوا أسباب القوة ومواقعها.

ومع الأسف صار دور مفكرينا ونخبنا هو التفكير بما يطلقه الغرب من اجل حماية أنفسنا، وبالتالي ضمن المناخات التي يعدها الآخرون، في حين لابد من إطلاق الفكر الإسلامي من خلال أصالته، ما يعني أن نبني الفكر الإسلامي ونؤصله ونطرحه للناس، وهو ما دعا إليه المفكر الجزائري مالك بن نبي والشهداء محمد باقر الصدر، سيد قطب والدكتور راجي إسماعيل الفاروقي.

- إن المسلمين في فتوحاتهم هم أول من دعا إلى التقاء الشعوب وتآلفها. فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أسلمة العالم:

"وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا"(26)، " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا"(27).

وامتد العالم الإسلامي يومها من حدود الصين والهند إلى وسط آسيا والقوقاز وإلى الشام ومصر وكل إفريقيا الشمالية والأندلس.

بل لقد استوعبت العولمة الإسلامية يومها كل الأصول الإيرانية والهندية والتركمانية من ناحية، والثقافات الإغريقية والتنظيمات الرومانية المنتشرة في حوض البحر الأبيض المتوسط، كما امتدت إلى شرق إفريقيا وجنوب شرق آسيا، وأنشأت علاقات تجارية مباشرة مع الصين وبلاد الروس والبلطيق وأوروبا.

- إن العولمة في مضمونها الموضوعي(28) باعتبارها حالة تاريخية، ناتجة عن تطور عام للبشرية ككل، أسهمت فيه جميع حضاراتها وشعوبها، وبالتالي فالعولمة الموضوعية ليست قرينا للعولمة الأمريكية، التي هي نمط من الهيمنة، سوف يتعاظم رفض العالم له، بل إن الولايات المتحدة أعجز من الاستجابة للعولمة الموضوعية بكامل مفرداتها في الوقت الراهن، والدليل أنها اتخذت إجراءات جمركية حمائية أمام ظاهرة "الإغراق" بالسلع والبضائع والمصنوعات من طرف الصين واليابان وأوروبا.


خلاصة

إن الغرب الذي يروج لمفهومي العولمة والحداثة ويبشر بهما، هو ذاته الغرب الذي يتحدث الآن عن صدام الحضارات والمواجهة والحرب الاستباقية، والممارس الجيد لسياسة الكيل بمكيالين وازدواج المعايير، التي تجاوزت الأطر الجغرافية نحو المعتقدات الفكرية والثقافية.

كل ذلك وأمام السيل الجارف لمشاريع الإصلاح ومقولات نشر الديمقراطية، يلزم قيادات الحركة الإسلامية ومناضليها ونخبها وكل أبناء التيار الإسلامي وكل التيارات الوطنية والقومية، الانتباه إلى جانب هام من الصراع ألا وهو الطرح الفكري والثقافي، وإيجاد بدائل فكرية ورؤى بديلة ومكملة ومصححة لما هو سائد أو موجود، وتقديم قراءات جديدة ومعمقة لمفاهيم في متناول الجماهير والعمال والطلاب للحداثة والعولمة والديمقراطية، تنطلق أيضا من عالمية الإسلام وتخدمها وتضعه في قلب العصر وضمن معادلة خدمة الإنسانية جمعاء، وبالتالي تعبئة الفراغات الموجودة، وحتى تنتهي ازدواجية القوى الشرقية والغربية إلى قوة واحدة متعددة اللغات والخيرات والخبرات، من أجل أن يسعد الناس كل الناس والأرض كل الأرض.