الفكر الإسلامي والتحديات التي تواجهه في مطلع القرن الخامس عشر الهجري

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الفكر الإسلامي والتحديات التي تواجهه في مطلع القرن الخامس عشر الهجري


الأستاذ: أنور الجندي

لاريب في أن نشأة الفكر الإسلامي في حضانة الدعوة الإسلامية له جذوره العريقة وأصوله الأصلية المستمدة من القرآن الكريم والسنة المطهرة واللغة العربية وسيرة الرسول وتاريخ الإسلام والأدب العربي وقد اكتمل مفهوم الإسلام في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم "اليوم أكملت لكم دينكم" وقد كانت قواعد الفكر الإسلامي الأساسية قد بدأت ونمت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مستمدة من القرآن وأن هذه القواعد لم تغير من بعده ولم تجر أية إضافة إليه فظلت قيمتها الأساسية كما جاء بها وحي السماء والقرآن وسنن النبي في تفسيرها وتطبيقها.

وإنما جرت حركة العمل من داخل الإطار الذي رسمه القرآن.

ولقد كان اتصال المسلمين بالفلسفات اليونانية والفارسية والهندية تجربة قاسية انتهت بانتصار الإسلام بمفهوم "السنة الجامعة" وهزمت جميع محاولات السيطرة والاحتواء والغزو الفكري كما نسميه بلغة العصر وبقيت الحقائق الأساسية قائمة.

إن الإسلام ليس ديناً كسائر الأديان ولكنه حركة اجتماعية واسعة تشمل الاعتقاد والمجتمع والدولة ومختلف نظم الاقتصاد والسياسة والأخلاق وأن ميزة الإسلام أنه نظرية كلية شاملة وأنه لم يجزئ الحياة بل نظر إليها نظرة كلية كما نظر إلى الإنسان كوحدة نفسية وجسمية لا تنفصل.

وفي العصر الحديث وفي إبان الحملة الاستعمارية والصهيونية والماركسية واجه الإسلام تحديات خطيرة أبرزها:

أولاً: إثارة الشبهات حول حقيقة الإسلام والتشكيك في طبيعته الجامعة التي ميزته عن سائر الأديان وهو أنه منهج حياة ونظام مجمتع وإثارة الشبهات حول مفهوم الدين المنزل من السماء والوحي بصفة عامة والدعوة إلى هدم الأديان عن طريق ما يسمى (علم الأديان) المقارن أو القول بأن الأمم بدأت وثنية ثم عرفت التوحيد بعد ذلك.

وهو قول معارض للحقيقة التي جاءت بها الكتب المنزلة والتي تثبتها كل الدلائل التاريخية والكشوف الأثرية، وهي أن البشرية بدأت موحدة ثم اعتراها التغير واستسلمت للفكر البشري الوثني والمادي وأن آدم أبو البشرية كان نبياً وهو موحداً.

وهناك تلك الأطروحات الباطلة التي استمدها خصوم الإسلام من غير المسيحية بالقول بأن الإسلام دين عبادي وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نبياً روحياً وأنه لم يكن حاكماً وما أقام دولة وهو وهم باطل كشفت البحوث الصحيحة عن فساجه وعن أن الذين قالوا به إنما استمدوه من المسيحية ومن مفاهيم الاستشراق المعادية للإسلام كذلك فإن مفهوم التوحيد الذي عرفته بعض الأديان السماوية التي انحرفت تفسيراتها ليس هو مفهوم التوحيد الخالص الذي جاء به الإسلام، وأن هؤلاء القوم يدعون أن لهم إلهاً خاصاً بهم، أما الإسلام فيقرر أن الله تبارك وتعالى هو رب العالمين كذلك فإن ما يدعيه البعض من توحيد إخناتون لم يكن في الحقيقة هو التوحيد الصحيح الذي جاءت به أديان السماء وأن التوحيد كان دعوة أديان السماء المنزلة منذ آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولم تكن قاصرة على دين واحد هو الدين الذي أنزل على موسى عليه السلام كما تحاول أن تطرح ذلك نظريات فاسدة.

وقد تداولت البشرية التوحيد الذي جاءت به الأديان رسولاً بعد رسول ونبياً بعد نبي وفي خلال الفترات التي كانت تعود إلى الوثنية وإلى الفكر البشري ولكنها كانت تعرف التوحيد منذ نشأة الحياة الإنسانية.

وقد تميز الإسلام عما سبقته من مفاهيم حول الله تبارك وتعالى بأنه جمع بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وأنه غاير مفهوم الوثنية ومفهوم التعدد والتثليث والشرك وغيره بأن أقر المسلم بالله تعالى رباً خالقاً وبكل ما قدر الله من أمر وهو ما تمثله عبارة القرآن في فاتحة الكتاب "إياك نعبد وإياك نستعين".

ثانياً: إثارة الشبهات حول مفهوم الاجتماع الإسلامي، في شأن ثبات القيم الأخلاقية وارتباطها بالدين والدعوة إلى هدم الأخلاق عن طريق مذاهب الوجودية الفرويدية وهدم الأسرة عن طريق مذاهب تدعي أن الأسرة ليست الفطرة وتحاول هذه المذاهب التي عرفت باسم مدرسة العلوم الاجتماعية أن تشكك في ثبات القيم الأخلاقية وارتباطها بالإنسان والدعوة إلى أخلاق متطورة تختلف باختلاف البيئات والعصور.

ويدخل في هذا تلك النظريات التي طرحها فرويد وسارتر ودوركايم.

وأخطر ما يواجه المسلمين من هذه النظريات الوافدة المطروحة في أفق الفكر الإسلامي أن يظن البعض أنها علوم ومفاهيم علمية مقررة والحقيقة أنها مجموعة من الفروض التي قدمها بعض الفلاسفة والمفكرين وأن كثيراً منها ثبت فساده وفشله وأن أبرز ما يدلل على اضطرابها هو عجزها عن العطاء أو عن الثبات مع الزمن أو البيئة وعدم صلاحيتها للتطبيق بعد قليل مما جعل أصحابها ودعاتها يغيرونها بالحذف والإضافة ومع ذلك فهي من الفكر البشري الذي لا يثبت أمام المفاهيم الربانية الحقة التي قدمها الإسلام في مجال النفس والاجتماع والأخلاق.

بل لقد تبين أن هذه النظريات الداعية إلى التحرر من القيم الأخلاقية إنما هي مفاهيم تلمودية قد صنعت بدقة في أسلوب علمي براق زائف وأن بروتوكولات صهيون كشفت عن ذلك صراحة.

وأن أغلب هذه النظريات إنما كانت موجهة في الحقيقة ضد الدين الذي عرفته أوربا والذي لم يحقق لها استجابة صحيحة مع أشواق النفس الإنسانية فحال بينها وبين ممارسة الحياة الاجتماعية الطبيعية حين فرض عليها "الرهبانية" ومن ثم كانت هذه الموجة العاتية التي يطلقون عليها ثورة الجنس للوصول إلى أقصى الطرف الآخر في الإباحية وتحرير مفاهيمهم من أغلال المفاهيم المسيحية الجامدة.

وهذه القضية بجملتها ليست مطروحة في أفق الفكر الإسلامي الذي دعا دينه إلى حق المتاع الدنيوي بالطعام والمرأة في أوضاع صحيحة وضوابط كاملة دون أن يحرم الإنسان منها شيئاً.

ولقد كانت نظرية فرويد بالتفسير الجنسي للتصرفات الإنسانية موضع نقد وتجريح من علماء النفس أنفسهم فضلاً عن معارضتها للفطرة الإنسانية وقد تبين في العصر الأخير أن العامل الجنسي ليس هو المصدر الأوحد للتصرف الإنساني ولمنه واحد من عوامل كثيرة منها تأكيد الذات ومركب النقص والإيمان بالعقيدة ذلك الدافع الخطير إلى الموت في سبيل الحق.

ومن منطلق حرب اليهودية للجوييم أو للأميين كانت محاولتهم لهدم كل قيم الأخلاق والاجتماع والأسرة على النحو الذي قام به فرويد ودوركايم الذي كانت نظريته في علم الاجتماع قائمة على إنكار القواعد الأخلاقية والدينية التي قررها الدين الحق وإنكار فطرة الدين والأسرة والزواج ودوركايم هو الذي روج للنظرية القائلة بأن الدين لم ينزل من السماء وإنما خرج من الجماعة نفسها وهو يدعو إلى ما يسمى بالعقل الجمعي الذي ينكر مسؤولية الإنسان عن عمله والتزامه الأخلاقي الذي هو مصدر الحساب والجزاء الأخروي، كما أنه ينفي القداسة عن الدين والأخلاق والأسرة ويشكك فيها ويدعو إلى تحطيم الدين لأنه يعوق التطور، هذه الأفكار المسمومة التي روجتها التلمودية والفقكر الغربي بعد أن سقط أسيراً للتلمودية، يحاولون الآن طرحها في أفق الفكر الإسلامي لإخراجه عن فطرته وذاتيته ومفهومه الرباني الجامع القائم على التوحيد والرحمة والإخاء البشري.

ولعل من أخطر ما يواجه اليقظة الإسلامية في مطلع القرن الخامس عشر الهجري هو هذه التحديات التي تتصل بالمجتمع والأسرة والطفل والمرأة، المستمدة من هذه النظرة المادية الخالصة التي يقوم علم الاجتماع وعلم النفس كما يدرس الآن في الجامعات حيث ينشئ أجيالاً تقوم عقليتها على أساس النظرة المادية الخالصة إلى الإنسان وحيث تنظر في سخرية وامتعاض إلى الأخلاق والدين والأسرة.

ونرى أن هذا الذي تعلمه ليس مجرد نظريات لها مقابل في الفكر الإسلامي أكثر أصالة وأعمق نظرة بل هو من الحقائق العلمية والمسلمات التي لا مرد لها، بينما هي لا تعرف وجه الحقيقة بالنسبة لمفهوم الإسلام الحق الذي هو فطرة الله.

فطرة الله التي فطر الناس عليها وهو المفهوم الذي يقرر أن الإنسان روح وجسد وعقل وقلب وأنه لا يمكن تفسيره عن طريق المذاهب المادية التي تعامله كالحيوان أو المناهج التجريبية التي تعامله كالمادة الصماء.

ولاريب أن نظرية دوركايم في علم الاجتماع حين تلتقي بنظرية فرويد في علم النفس ونظرية ماركس في الاقتصاد من شأنها أن تشكل إنساناً مضطرباً مزعزع الوجدان.

ومن عجب أن تبرز هذه المفاهيم في مختلف مجالات الثقافة والتعليم والصحافة بينما تختفي مفاهيم الإسلام في النفس والأخلاق وتتضائل ولا تعرض حتى على أنها وجهة نظر الأمة التي تواجه تلك القضايا والتحديات بل لعله في الحقيقة ليس هناك مفهوم أعمق وأصدق من هذا المفهوم الإسلامي وأن مفهوم الغرب كان مصدر الكارثة التي تحل بالبشرية اليوم لا نفصاله عن الفطرة والعلم ودعوته إلى الانشطارية بين الروح والمادة والعقل والقلب وهو مصدر التمزق والغثيان والغربة التي هي أزمة الحضارة الغربية المعاصرة.

ثالثاً: من أخطر التحديات التي تواجه الفكر الإسلامي ما طرحه الوافد في أفقه من تفسيرات غربية وماركسية وصهيونية وهي جميعها تفسيرات مضللة مستمدة من التفسير المادي للتاريخ الذي طرحه إنجلز وماركس وهو مفهوم ناقص لأنه يتجاهل عوامل كثيرة لها أثرها في توجيه التاريخ.

إن تفسير التاريخ الإسلامي عن طريق مناهج التفسير الغربي هو بمثابة عجز عن النظرة الصحيحة لحركات ووقائع التاريخ الإسلامي فقد قاس الكتاب الغربيون الوقائع الإسلامية على ظروف الامبراطورية الرومانية وغيرها مع اختلاف الظروف والمقاييس.

كذلك فقد كانت نظرة الغربيين إلى تاريخ الإسلام ناقصة وقاصرة لأنها صدرت عن ذلك الاعتبار الخاطئ بأن تاريخ الغرب هو تاريخ البشرية وأن ما عدا ذلك ليس تاريخاً ولا يدخل إلى ساحة المقاييس أو الصورة العامة.

وأشد أنواع الخطأ هي فكرة "الحتمية" التاريخية و "الجبرية" الاجتماعية التي يجرى تطبيقها على التاريخ الأوربي، وأشد ما عجزت عنه تفسيرات الغربيين للإسلام هي عجزهم عن فهم ذلك الجانب المعنوي والروحي: والوحي والنبوة والرسالة السماوية وما يتصل بها من بناء القوة القادرة بإيمانها على هزيمة القوة المادية التي هي أكبر منها عدة وعدداً؟

وتتمثل المعالجة الغربية الظالمة لتاريخ الإسلام في أن علماء الغرب فرضوا التقسيم الغربي للعصور التاريخية على تاريخ العالم وتعميم مقايستهم فيها، فالعصور الوسطى مثلاً هي عصور الظلام في رأيهم ما دامت أوربا كانت في الظلام متجاهلين الحضارة العربية الإسلامية التي كانت متألقة في تلك العصور وتاريخ أفريقيا السوداء يبدأ عندهم حينما دخلها الرحالة الأوروبيون، أما قبل ذلك فليس لها تاريخ، وتمتد هذه النظرة إلى الفكر العالمي الذي هو عندهم الفكر الغربي.

وقد تجسدت هذه النظرة في نظريات ولدت في الغرب قسمت شعوب العرب إلى فئات: دماء بعضها نقية زرقاء، ودماء بعضها الآخر سوداء، وإلى أجناس عليا وأجناس دنيا.

ومن منطلق التفسير المادي للتاريخ عجز المؤرخون الأوروبيون عن تفسير الأحداث الكبرى في تاريخ الإسلام وخاصة تفسير سرعة انتشار الإسلام فما زالوا يقيسون ذلك بالمقياس المادي وكذلك انتصار المسلمين بالعدد الأقل على الروم والفرس بالأعداد الضخمة وهم يسقطون من حسابهم القوة المعنوية: قوة الإيمان التي هي في تقدير التفسير الإسلامي للتاريخ عامل مواز إن لم يكن أهم من القوة المادية.

كذلك فقد عجز كتاب الغرب ومؤرخوه عن ضبط النفس في تقدير المواقف المشتركة كمعركة بواتيه والحروب الصليبية والاستعمار الحديث فانحرفوا في تفسيرها مع أهوائهم ومع غرورهم واستعلائهم وبروح الاحتقار والانتقاص للشعوب الضعيفة والمستعمرة.

وكما حمل التفسير المسيحي للتاريخ روح الخصومة، كذلك حمل التفسير الصهيوني للتاريخ الإسلامي روح الحقد، وكان التفسير الماركسي للتاريخ أكثر حقداً وخصومة، وقد عملت هذه التفسيرات على إعلاء شأن الحضارات القديمة والأديان الوثنية السابقة للإسلام أو الإدعاء بأن العرب كانوا ناهضين ومتحضرين ولم يكن ينقصهم إلا قائد لينهضوا ونسوا أن العرب حاربوا الرسول ثلاثة عشر عاماً ووقفوا بالخصومة إزاء كلمة الإسلام حتى فتح الله لها أفقاً جديداً في يثرب.

رابعاً: الدعوة إلى إثارة العصبية والعنصرية وإعلاء الأجناس البيضاء وذلك في محاولة لفرض النفوذ الاستعماري الغربي على الأمم الملونة والقول بوصاية زائفة للجنس الأبيض على العالم والبشرية.

كما عمدوا إلى إذكاء رياح الدعوة إلى الإقليمات والقوميات الضيقة للقضاء على روح الوحدة الإسلامية الجامعة بين الدول الإسلامية والعربية والتي كانت تجمعها تحت راية الخلافة الإسلامية سواء منها ما كان تابعاً للدولة العثمانية (كالعرب والترك) أو بقية البلاد الإسلامية التي كانت تدين بالولاء للخليفة المسلم أمام المسلمين.

ولقد حملت دعوات الإقليمية والقومية رياح العصبية والعنصرية الغربية وكانت محاولة خطيرة لوضع الحواجز التي تجمعها رابطة العقيدة والثقافة والتوحيد.

ولقد استهدفت هذه الدعوة في البلاد العربية إلى إعلاء طابع الاستعلاء الجنسي المغلق في مواجهة الأمم الإسلامية، وخلق طابع الانعزال والانفصال الكاملين في التاريخ والتراث والمقومات الإسلامية واستهدفت كذلك خلق وجود معاصر منفصل تماماً عن الإسلام وعن العالم الإسلامي متصل بالغرب في تفسيراته وطوبعه.

لقد كان هدف هذه الدعوة إعلاء شأن القوميات حتى في الأمم الإسلامية ذاتها فضلاً عن فصل هذه الأمم عن الفكر الإسلامي وفصل العرب عن الامتداد الإسلامي.

خامساً: من أخطر التحديات التي واجهت الفكر الإسلامي إحياء الماضي السابق للإسلام في البلاد العربية والإسلامية جميعاً، كالدعوة إلى الفرعونية والفينيقية والآشورية والبابلية في البلاد العربية وإحياء تراث كورش في إيران أو الهندوكية في البلاد الهندية الإسلامية وغيرها في باقي أجزاء العالم الإسلامي.

كمحاولة لإحياء تاريخ ما قبل الإسلام وحضارته وتراثه الوثني وتجديده.

وقد جرت هذه الدعوات شوطاً في محاولة من النفوذ الأجنبي للقضاء على الذاتية الإسلامية ولكن الأمر لم يلبث أن تكشف عن عجز كامل في تحقيق عودة المسلمين إلى تاريخ ما قبل الإسلام على أي نحو من الأنحاء وتبين أن دعوة الإسلام بالتوحيد الخالص خلال أربعة عشر قرناً قد أنشأت كياناً فكرياً وروحياً واجتماعياً قوياً عميق الجذور لا يمكن هدمه أو النيل منه وأن هناك ما عرفه علماء التاريخ بالانقطاع الحضاري بين ما قبل الإسلام وما بعده في جميع البلاد التي دخلها الإسلام وأنه في مقابل هذا "الانقطاع الحضاري" فإن هناك ما يسمى بالاستمرارية الحنيفية الإبراهيمية القائمة الآن في البلاد العربية والإسلامية والممتدة منذ دعوة إبراهيم إلى دعوة محمد صلى الله عليه وسلم والممتدة عبر الديانتين المنزلتين على موسى وعيسى عليهما السلام وأن هذه الانقطاعية بين الدعوة الحنيفية في تلك المناطق جميعاً قد اشتملت على الفكر والثقافة والعقيدة بالرغم من معالم المدنية الحضارية المادية، وتؤكد المصادر كلها على وجود الأرضية العربية السابقة للإسلام في مصر والعراق وسوريا وأن الفينيقية والآشورية والفرعونية والبربرية وغيرها هي موجات خرجت من الجزيرة العربية واندلحت في هذه المنطقة شرقاً وغرباً وكانت توسيداً للموجة الإسلامية العربية الكبرى بعد الإسلام واستكمالاً لها.

وقد تبين لدعاة هذه الحضارات الفارسية والفرعونية والفينيقية وغيرها أنه لا توجد أرضية يمكن البدء منها سواء أكانت هذه الأرضية تراثاً ثقافياً أو لغوياً أو دينياً وأن هذه الجذور القديمة للغات السريانية والقبطية والعبرية وغيرها قد زالت وانتهت ولم يبق منها شيء وقد غلب عليها طابع التوحيد الخالص بمفاهيمه القرآنية الخالصة.

سادساً: جرت المحاولات لإحياء التراث الجاهلي والوثني تحت اسم الفلكور او الأدب الشعبي وهي إحدى المحاولات التي استهدفت التأثير في نصاعة الفكر الإسلامي وروحه وربانيته القرآنية الخالصة، بإعلاء تلك الصور الساذجة التافهة من الأزجال والأغاني والمواويل والأمثال العامية والوثنية البائدة التي تتعارض مع سمو التراث الإسلامي العربي القائم على البيان العربي البليغ والمضمون السامي وقد انتشرت هذه الدعوة في السنوات الأخيرة وشملت أقطاراً عربية وإسلامية عديدة وخدعت كثيراً من البسطاء والسذج والإغرار في مجال اللهو والتسلية في محاولة لخداع الجماهير بأساليب تحمل طابع الرقص والغناء والاستعراضات المسرحية لإحياء التراث الجاهلي والوثني الذي قضى عليه الإسلام قضاءً تاماً واعتبره من سقط المتاع وحطمه تحطيماً لأنه يتعارض مع مفهوم التوحيد الخالص ومن دعوة الإسلام للخروج من طفولة الإنسانية والمفاهيم الجاهلية والبدوية الجافة والساذجة القائمة على الأساطير والخرافات وحيل العرافين وأكاذيب الدجالين إلى مفهوم أصيل في الإيمان بالله والتعرف على آياته في الكون والثقة بأن الغيب لله تبارك وتعالى.

والهدف معروف هو تغليب العامية والأساطير والقصص الشعبي والأغاني الساذجة والأمثال العامية على البيان القرآني وبلاغة السنة والأدب الصادق والفن الرفيع والفكرة الإنسانية، ارتداداً بالعقول والنفوس التي رفعها التوحيد إلى ذروة الإيمان بالله إلى سذاجة الخرافة وفساد طفولة البشرية وابتعاداً عن الذوق العربي الإسلامي المتسامي بالقرآن الكريم والحديث النبوي والأدب العربي في بلاغته والحكمة الإسلامية في فصاحتها وارتفاعها عن التدني والحيوانية والفساد. نعم.

إذابة الذوق الإسلامي العالمي في ألوان ضعيفة ساذجة وثنية تقلل من قدر بيان القرآن وترد الناس إلى مستوى ضعيف يقطع الصلة بمستوى الثقافة الرفيع الذي خلقه القرآن وخلقته السنة ولاريب أن هذا واحداً من أهداف الدعوة إلى العامية كما سيجيء.

سابعاً: العمل على تبني دعوات ضالة كالقاديانية والبهائية والإدعاء بأنها من حركات النهضة الإسلامية كذباً وبهتاناً واستعمالها لضرب الإسلام من الداخل.

وتعمل القوى التغريبية جميعاً ممثلة في الاستشراق والتبشير والغزو الثقافي عن طريق الصحافة والثقافة والمدرسة إلى تبني هذه الحركات الهدامة واحتضانها وخداع البلاد الإسلامية ومن يعالج هاتين الدعوتين المبطلتين البهائية والقاديانية يعرف أنهما استهدفتا ضرب حركة اليقظة الإسلامية التي كانت قد قطعت مرحلة كبيرة في طريق التماس المنابع الأصلية وجوهر الإسلامك بمفهوم التوحيد الخالص وإن كلا الحركتين قد نشأ في أحضان النفوذ الأجنبي واستهدف ضرب الإسلام في أعظم قيمه الأساسية وهي فريضة الجهاد.

وقد كشفت الأبحاث التاريخية عن علاقة أكيدة بين هاتين الدعوتين وبينل الاستعمار والصهيونية والهندوكية.

وأنهما حاولتا بث الفتنة وزعزعة العقائد وإثارة الشبهات وإضعاف شوكة المسلمين وتثبيط عزائمهم في المكافحة ضد النفوذ الأجنبي والكيد للإسلام.

وتضليل المسلمين عن حقيقة عقيدتهم وتفريق وحدتهم.

ولم يعد هناك ريب في أن هذه الطوائف الدخيلة تلقى المعونة والتوجيه من المستعمرين والقوى المعادية للإسلام تحت اسم ما يسمونه "حرب الإسلام من الداخل".

وقد واجه رجال اليقظة الإسلامية كلتا الدعوتين منذ اليوم الأول وكشفوا عن فسادهما وزيف فكرهما وسمومهما التي خدعت بعض المسلمين ولاريب أن الدارس للبهائية يجد هدف تقويض الإسلام من الداخل واضحاً في مخططاتها وتاريخها كله، ويجدها واضحة العلاقة بالركام الباطني القديم مجددة إياه في أسلوب حديث براق.

يغرري بعض السذج من أبناء أمتنا الذين لم يستكملوا تعليمهم الديني والخلقي.

فضلاً عن الارتباط بالصهيونية التلمودية كثمرة من ثماء البروتوكولات ومن هنا كانت دعوتها إلى دين بشري تنصهر فيه الأديان السماوية.

ثامناً: محاولة إحياء الفكر الباطني والوثني والإباحي عن طريق إحياء الفلسفات اليونانية والمسرحية الإغريقية والأساطير البابلية والفكر الغنوصي وكانت بعض هذه الوثنيات قد ترجمت إبان العصر العباسي وأدخلت إلى مفهوم الإسلام كثيراً من البلبلة والاضطراب وقد واجهها الإسلام مواجهة صارمة وكشفوا زيفها وردوها وبينوا أن الفلسفات اليونانية ليست إلا علم الأصنام القديم وهاجموا كلا النظريتين:

1-اليونانية الهلينية القائمة على الحس وعبادة الجسد والإباحية.

2-الغنوصية الشرقية القائمة على الحدس والإشراق وغيرها.

وقد تجددي المحاولة في العصر الحديث مرة أخرى في النيل من الإسلام وإعادة طرح هذه المفاهيم مرة أخرى بإحياء هذا التراث وتجديد شبهات الفلسفات والفكر الباطني والتصوف الفلسفي والاعتزال والمجوسية وغيرها لإغراق شباب المسلمين في هذه السموم وحتى يحال بينهم وبين مفهوم التوحيد الخالص بما يؤدي إلى توهين روح الصمود في نفوس المسلمين وتفسيخ القيم الخلقية الإسلامية بادعوة إلى إذاعة المجون والمجاهرة بالخلاعة والانحراف الجنسي وهو نفس الأسلوب الذي اتخذته حركة احتواء الإسلام، كان ذلك في الماضي لحساب المجوسية الفارسية ولتمكين القرامطة والباطنية من السيطرة على الدولة الإسلامية واليوم يجرى نفس المخطط لحساب الصهيونية والاستعمار والشيوعية.

تاسعاً: محاولة إخراج اللغة العربية من مفهومها الذي تختلف فيه عن اللغات بوصفها لغة القرآن، وفرض مناهج في علم اللغات للتحكم فيها وتصويرها بأنها لغة قومية فحسب، أي لغة أمة، وإذا كان هذا كمنهج علمي لكل لغات العالم فإنه يعجز عن إقرار ذلك بالنسبة إلى اللغة العربية لأنها إلى جانب أنها لغة أمة، فهي لغة فكر وثقافة وحضارة ودين، وأنها تتصل بمليار من المسلمين يعبدون الله بها ويقرأون بها القرآن الحديث.

ولاريب أن هجف الحملة على اللغة العربية هو خلق عامية تقضي على لغة الفرآن وتمزق وحدة الفكر الإسلامي.

ومن هنا تسقط كل محاولات الفكر الوافد في إثارة الشبهات حول اللغة العربية ومقارنتها باللغة اللاتينية التي ماتت ودخلت المتحف، بعد أن تفرعت منها لهجات إقليمية.

وليس مثل هذا يمكن أن يحدث للغة العربية التي ما زال القرآن يظاهرها ويجعل ما كتبت به منذ أربعة عشر قرناً مقروءاً إلى اليوم بينما لم يحدث ذلك مطلقاً لأية لغة من اللغات الحية التي تتغير كل بضعة قرون.

فإمرؤ القيس السابق للإسلام نقرأه نحن الآن ونفهمه بينما شكسبير لا يفهمه قومه وقد مضى عليه ثلاثمائة عام تقريباً، وهذه الظاهرة تجعل اللغة العربية أكبر من أن تخضع لعلم اللغات الذي يحاول أن يحكم على كل اللغات بظواهر عامة مشتركة.

وقد كانت اللغة العربية بطبيعة تركيبها وتميزها بالقدرة على الاشتقاق والتوالد عاملاً هاماً في مكانتها.

وقد وصفها (أرنست رينان) بأنها خلافاً لكل اللغات ظهرت فجأة في غاية الكمال غنية أي غنى بحيث لم يدخل عليها حتى يومنا هذا أي تعديل مهم فليس لها طفولة ولا شيخوخة وأنها ظهرت في أول أمرها تامة مستحكمة ومن خلال هذا بالفهم علينا أن نواجه التحديات التي يطرحها التغريب من القول بتطوير اللغة أو إعلاء شأن العاميات أو الإدعاء بأنها لغة خاصة بأصحابها ونفهم أن هذه كلها محاولات ترمي إلى:

أولاً: عزل المسلمين عن العرب وعزل العرب عن الوحدة الكاملة بينهم.

ثانياً: عزل المسلمين عن العرب على مستوى البيان في القرآن الكريم.

ولاريب أن اللغة العربية جديرة بأن تبقى دائماً في مستوى بيان القرآن الكريم وأن يرتفع الناس إليها ولاريب أن الدعوة إلى إقامة لغة وسطى بين الفصحى والعامية هي إحدى محاولات الغزو الكفري وليس لها هدف إلا إنزال اللغة العربية درجة عن كيانها الذي يرتبط ببلاغة القرآن وبذلك تنهدم ركيزة من ركائز الإسلام وهي حجب المسلمين وعن فهم القرآن واستيعابه وهو أمر خطير وهام ويحتاج إلى دوام المحافظة على بلاغة اللغة وروحها، فاللغة أساساً هي فكر الأمة والعربية الفصحى مرتبطة بذاتية الإسلام ومزاجه النفسي والاجتماعي.

عاشراً: الدعوة إلى إحياء الحضارات التي سبقت الإسلام وإعادة عرض الوثنيات والفسلفات والخرافات والأوهام.

وتلك محاولة ماكرة مضللة ولكنها فاسدة فقد استطاع الإسلام خلال أربعة عشر قرناً أن يقيم منهجاً عقلياً وروحياً وأن ينشئ مزاجاً نفسياً وذوقاً خالصاً مرتبطاً بالتوحيد والقرآن ومتصلاً بأسباب الإيمان بالله له ضوؤه الباهر الذي لا تستطيع الظلمات أن تقهره.

حادي عشر: الدعوة إلى ما يسمى بالأدب العربي المعاصر، والفكر العربي المعاصر، والثقافة العربية المعاصرة، على أن تبدأ هذه الدراسات منذ حملة نابليون وربطها بالإرساليات والنفوذ الأجنبي كأنما هي من معطياته، وهي محاولة ماكرة تهدف إلى اجتثاث الفكر والأدب والثقافة (العربية والإسلام) من أصولها والفصل بين حاضر العرب والمسلمين وبين ماضيهم، وخلق ثقافة "لقيطة" لا جذور لها بل إن هناك محاولة مضللة تهدف إلى الحيلولة دون ربط الأدب أو الفكر أو الثقافة بتاريخها القديم وماضيها العريق.

ومن الحق أن اليقظة الإسلامية المعاصرة في الفكر والأدب والثقافة جميعاً بدأت من دائرة القرآن وأن جميع الحركات الوطنية والقومية إنما استمدت قوتها من مصادر الإسلام وأنه لا سبيل إلى بناء أدب حديث أو فكر أو ثقافة منفصلاً عن اللغة العربية والإسلام.

ثاني عشر: محاولة الإدعاء بأن منطقة البحر الأبيض المتوسط شهدت حضارة واحدة هي التي بدأها الفراعنة والفينيقيون ونماها الإغريق والرومان، ثم أتمها الأوروبيون المعاصرون وأن دور العرب في هذه الحضارة كان دوراً ثانوياً، والحقيقة أن هناك حضارتين لكل منهما طابعه المميز وهما حضارة التوحيد وحضارة الوثنية.

وأن الإسلام هو صانع الحضارة التي استمت بهذا المفهوم في مواجهة حضارات بدأت بمفاهيم الوثنية وانتهت بمفاهيم المادية وكانت في مختلف مراحلها معارضة للحق والعدل والرحمة والأخلاق فكانت تضرب واحدة بعد الأخرى وتسقط لأنها تعارض سنن الله في الكون.

ثالث عشر: محاولة لقاء بذور الشبهات حول صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في العصر الحديث والإدعاء بأنها شريعة صحراوية موقوتة بعصرها وبيئتها.

وكل الدلائل العلمية والتاريخية تكذب هذا الإدعاء وأقربها مؤتمرات القانون الدولي 1931 م، 1937 م، 1952 م وكلها أشارت إلى أن الشريعة الإسلامية شريعة مستقلة لها كيانها الخاص وأنها تحمل منهجاً إنسانياً لم تصل إليها البشرية بعد وتجرى المحاولة التي يفرضها النفوذ الغربي بالدعوة إلى ما يسمى تطوير الشريعة ووضعها موضع الاحتواء من القانون الوضعي.

رابع عشر: استطاعت القوى الاستعمارية فرض نظام الاقتصاد الغربي في أغلب أجزاء العالم الإسلامي وهو نظام قائم على أساس الربا ومعارض أصلاً لمنهج الشريعة الإسلامية ولقد قامت حركة اليقظة الإسلامية بدراسات وساعة للكشف عن فساد نظام الربا والاقتصاد الغربي وجرت محاولات متعددة لإقامة المصرف الإسلامي على غير أساس الربا والعمل على وضع نظام تحرير المسلمين من قيود النظام الاقتصادي الوافد والكشف عن عظمة الفكر الاقتصادي الإسلامي.