جامعة شعوب عربية
بقلم / الإمام حسن البنا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
والله أكبر ولله الحمد.
حضرات السادة الفضلاء رئيس وأعضاء اللجنة التحضيرية لمؤتمر الوحدة العربية السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: ففى هذه الساعات التاريخية الفاصلة فى مستقبل الأمم والشعوب عامة والأمة العربية خاصة قدر لكم أن تعقدوا اجتماعكم هذا، وأن تطلعوا بأجل مهمة فى تاريخ العالم العربى الحديث، بينما يتطلع إلى جهودكم مائة مليون عربى من أقصى العراق إلى أقصى المغرب، ومن ورائهم ثلاث مائة مليون مسلم (والإسلام عروبة بعد العروبة) والجميع يرقبون بلهفة وشوق وأمل عظيم ما تقررون، وينتظرون منكم وضوح المؤمنين، وعزائم المجاهدين، وصلابة الذين لا يخافون فى الحق لومة لائم، ويسعدهم أن يفتدوا حقوقهم بأنفسهم وأولادهم ودمائهم وأموالهم. فلا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
وإنى باسم الإخوان المسلمين فى أنحاء المملكة المصرية وفى بلدان العالم العربى والإسلامى المختلفة أرفع إليكم أطيب التهنئات وأجمل التحيات، سائلا الله تبارك وتعالى أن يبارك عملكم، وأن يرفع العقبات من طريقكم، وأن يوفقكم لخير أمتكم وبلادكم. إنه نعم المولى ونعم النصير.
أيها السادة الفضلاء:
إنكم لتدافعون عن أعدل وأنجح وأوضح قضية فى التاريخ، فمن البديهيات التى لا تقبل الجدل أن العرب أمة، واحدة وأن هذا التعبير ليساوى فى أحقيته ووضوحه واستقراره فى النفوس والأذهان قول القائلين: "السماء فوقنا والأرض تحتنا"، فقد اصطلحت على تكوين هذه الوحدة العربية وتدعيمها كل العوامل الروحية واللغوية والجغرافية والتاريخية المصلحية، وأن العرب من خليج فارس إلى المحيط الأطلسى يتحدون بوحدتهم أية أمة متحدة فى القديم والحديث، وليست تعوز هذه القضية الأدلة والبراهين ولكنها يعوزها ثبات المؤمنين وعدالة المنصفين، فإذا حققتم فى نفوسكم الأولى وهو العهد بكم، وحقق حلفاؤكم الثانية وهو الظن بهم، فقد عاد الحق إلى أهله ووضعت الأمور فى نصابها، ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ*بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾[الروم: 4-5].
أيها السادة الفضلاء:
إن بين يدى مؤتمركم ولجنتكم أمورا كثيرة أنتم مطالبون بدراستها وتمحيصها، وأهدافا كثيرة أنتم مطالبون كذلك بتحقيقها والوصول إليها، وإن من الخير للقضية العامة أن تصارحوا الشعوب والهيئات بما بين أيديكم، لتكون لكم مددا وعونا، وأن تصارحكم الشعوب والهيئات بما ترى ليكون ذلك لكم مكاشفة ونصحا، ولهذا أتقدم إليكم باسم الإخوان المسلمين بهذه الخواطر، راجيا أن نكون بذلك قد أدينا بعض الواجب وساهمنا فى هذا الجهاد المبرور.
ومن تلك الأهداف:
أ- تحقيق مظاهر الوحدة العامة.
فهنالك خطوات أولية تعتبر وسائل عملية للوحدة المنشودة وهى فى الوقت نفسه من حق الحكومات العربية الخالص التى لا ينازعها فيه منازع، ومن تلك الخطوات:
1- رفع الحواجز الجمركية.
2- إلغاء جوازات السفر ومنح حرية المرور والتنقل فى أى قطر من الأقطار العربية لكل عربى بعد التأكد من شخصيته، وإباحة الهجرة والاستوطان على نظام واسع ميسر.
3- التوسع فى التعاون الاقتصادى وتأليف الشركات العربية الواسعة النطاق من سكان البلاد العربية جميعا فى أى قطر من هذه الأقطار، ودراسة المشروعات العربية العامة دراسة مشتركة وإحياء ما تعطل منها؛ كمشروع سكة الحديد الحجازية التى أنشئت بأموال العرب والمسلمين جميعا وأوقافهم.
4- تنمية التعاون الثقافى والتشريعى والعسكرى، بتوحيد برامج التعليم ومناهجه، وتوحيد منابع التشريع وقواعده، وتوحيد نظم التدريب العسكرى وأساليبه.
ومؤتمر الوحدة العربية مطالب من العرب جميعا بأن يعمل على تقرير هذه الخطوات، ورسم الخطط الموصلة إلى تحقيقها، وجمع الحكومات والشعوب العربية عليها.
ب- تحقيق الأمانى القومية ومساعدة الأمم الناشئة على نيل استقلالها واستكمال نهوضها، ويأتى بعد الخطوة خطوة ثانية، فإن للبلاد العربية مطالب قومية وحقوقا سياسية لم تنلها بعد، ولا فائدة من ذكر العوامل التاريخية والحوادث التى أدت إلى انتقاص هذه الحقوق واغتصابها، ولكن الذى يفيد ويجدى الآن أن نواجه الأمر الواقع والوضع القائم ونجاهد فى سبيل تحقيق هذه المطالب وتخليص تلك الحقوق، وعلى مؤتمر الوحدة العربية ولجنته التحضيرية أن يرسم للشعوب والحكومات طرائق هذا الجهاد المشترك، وأن يقرر تكاتف الجميع فى سبيل كسب هذه القضايا التى منها:
1- العمل على استكمال استقلال مصر والمحافظة على وحدة وادى النيل، فكل محاولة يراد بها انتقاص استقلال مصر أو تقييد هذا الاستقلال أو تمزيق وحدة وادى النيل عمل ظالم، يؤثر فى كيان الأمة العربية العام. وعلى كل شعب عربى وحكومة عربية أن يشد أزر مصر حكومتها وشعبها فى سبيل هذه القضية حتى تفوز فيها ويجب أن يكون مفهوما للرأى العام العالمى كله أن مصر حين تتمسك بوحدة وادى النيل لا تعتدى بذلك على شعب من الشعوب ولا تستعبد أمة من الأمم ولا تطمع فى توسعة حدودها أو زيادة مساحة أرضها أو تنمية ثروتها على حساب غيرها، فكل هذه مزاعم باطلة لا وجود لها، ولكن مصر حين تتمسك بالنيل الأعلى تحقق ذلك وحدة شعبها، فمصر والسودان أمة واحدة تحافظ على صميم كيانها وتضحى بكثير من مواردها وثروتها وجهودها، وإن حاجة هذا الجزء من الأرض إلى مصر لأعظم بكثير من حاجتها هى إليه.
2- العمل على استكمال استقلال البلاد الشامية على اختلاف أقسامها، وإذا أصرت لبنان ومثيلاتها على المحافظة على استقلالها فليكن ذلك لها، حتى يقنعها الزمن وتثبت لها الحوادث أن من خيرها -بل من ألزم اللوازم لها- أن تعود إلى أحضان أمها "سوريا الكبرى" وإن ذلك لقريب.
فنحن فى عصر الوحدات القوية والكتل الشعبية الجامعة، وما دامت ستتفق مع غيرها من الشعوب العربية على كل مقومات الوحدة العملية فحسبنا ذلك منها الآن، ولعل من الخير للمؤتمر وللبلاد الشامية خاصة والعربية عامة ألا يجعل من هذه القضية عقبة نصطدم بها فى فورة الشعور وثورة الحماسة، حتى يفصل فيها الزمن والزمن جزء من العلاج.
3- العمل على حل قضية فلسطين حلا يتفق مع وجهة النظر العربية ويؤدى إلى سلامة هذا الجزء من الوطن العربى وهو منه بمثابة القلب من الجسد، وإلى المحافظة على أن يظل عربيا خالصا، وإلى دفع العدوان اليهودى وذبذبة السياسة الدولية عنه بكل الوسائل، فإن العرب جميعا -وفى مقدمتهم أعضاء اللجنة- يدركون مدى الأخطار العظيمة التى تهدد كيان الأمة العربية وتحطم آمالها إذا استقرت قدم اليهود فى فلسطين، والشعوب العربية كلها قد وطدت العزم على أن تنقذ فلسطين مهما كلفها ذلك من الجهود والتضحيات.
وإننا لنعطف على اليهود فى محنتهم، ولكن ليس معنى هذا العطف أن يكون إنصافهم ظلم غيرهم وإيواؤهم بإخراج سواهم من ديارهم أو مضايقتهم فى أوطانهم. وفى ممتلكات الدول الحليفة وأراضيها ما يتسع لأضعافهم وما هو فى حاجة ماسة إلى كفايتهم ونشاطهم.
4- مساعدة بقية أقطار الجزيرة العربية (العراق وملحقاتها والمملكة السعودية وملحقاتها واليمن وملحقاتها) على استكمال استقلالها ونهضتها ودفع الدسائس السياسة المختلفة عنها، وبخاصة وهى الآن فى مهب عاصفة قوية من التنافس الدولى الشديد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، هى أمامها أحوج ما تكون إلى من يشد أزرها ويبصرها بمواقع الخير والشر لحاضرها ومستقبلها، وليست هناك فرصة للنظر والاختيار أبدع ولا أوسع من هذه الفرصة التى إن أفلتت اليوم فلن تعود إلا بعد حين.
5- العناية بتحرير الأقطار العربية فى شمال إفريقية وإدخالها فى دائرة الوحدة.
فلوبيا بقسميها "برقة وطرابلس" يجب أن تعود إليها حريتها واستقلالها، وأن يظل قطرا واحدا تحت لواء حكومة من أهلها بعد أن زال عنها سلطان الغاصب المعتدى، وإن شأنها فى ذلك شأن الحبشة سواء بسواء، فإن كان البريطانيون قد حاربوا وحدهم الطليان حتى أجلوهم عن الحبشة ثم سلموها موحدة مستقلة لإمبراطورها السابق، فإن من واجبهم -وقد طردوا هذا العدو البغيض عن لوبيا لمساعدة أهلها ومساعدة الشعوب العربية لهم فى ذلك- أن يعيدوها لأهلها موحدة مستقلة كذلك، وليس هناك ما يدعو إلى تمزيق وحدتها وتقسيم أرضها ومعاملتها بغير الأسلوب الذى عوملت بها سابقتها.
وتونس والجزائر ومراكش بلاد عربية وقعت تحت الاستعمار الفرنسى باسم الحماية تارة والاستعمار تارة أخرى، وقد جاهدت فى سبيل حريتها واستقلالها بها جهاد الأبطال، ولم تعترف بهذه الأوضاع التى رسمتها لها السياسة الاستعمارية فى يوم من الأيام، ثم ساهمت أخيرا فى المجهود الحربى للحلفاء مساهمة عظيمة أطلقت ألسن زعماء الأمم المتحدة بالثناء عليها وسجلها المستر تشرشل فى خطبه بالإعجاب والإكبار، وما كان جيش فرنسا الحرة الذى حارب فى صفوف الحلفاء فى شمال إفريقية وفى إيطاليا وفرنسا إلا هؤلاء الجنود البواسل من أبناء هذه الديار العربية الصميمة.
ومن واجب المؤتمر العربى أن يطالب بحقوق هذه البلاد كاملة، وأن ينقذ من براثن الظلم والعدوان عشرين مليونا من العرب لا يزالون مستمسكين بعروبتهم مطالبين بحريات بلادهم مهما أراد المستعمرون أن يظهروهم بغير هذا اللون.
لقد حاول هؤلاء الغاصبون خلال هذه السنوات الطوال أن ينالوا من وطنية هؤلاء العرب المجاهدين بالتجنيس وبالإرهاب والضغط الشديد، وأن ينالوا من عروبتهم بالثقافة الأجنبية ومحاربة اللغة العربية والغزو الاجتماعى، وأن ينالوا من دينهم بالتبشير ومقاومة الأوضاع الإسلامية فلم يجدهم كل ذلك نفعا، وما زال شمال إفريقية وسيظل عربيا مسلما.
ونرى أن من واجب اللجنة أن تدعو إلى المؤتمر ممثلين من أبناء هذه البلاد ومن أبناء فلسطين [و] أن يبسطوا أمامهم قضاياهم ومطالبهم.
ونحن حين نرى أن يطالب مؤتمر الوحدة بهذه الحقوق للبلاد العربية ويلح فى المطالبة بها والثبات عليها، وأن يحتفظ لنفسه وللشعوب العربية والحكومات العربية بحق التمثيل فى مؤتمر الصلح القادم ـ لا نعتمد فى ذلك على قوة السلاح وكثرة الجيوش والأساطيل، فحسب العالم ما قاسى من الاعتماد على القوة ونبذ القانون والعدالة، ولكنا نعتمد على أن هذا حق العرب الطبيعى، وعلى أن ميثاق الأطلنطى الذى قيد به الحلفاء أنفسهم وأيدوه بكثير من التصريحات قد ضمن هذا الحق لكل الشعوب.
وعلى أن الشعوب العربية قد ساهمت فى المجهود الحربى مع الحلفاء مساهمة جليلة لاشك أنها كانت من عوامل النصر والظفر لهم- وقد اعترفت بذلك حكوماتهم وشعوبهم وصحافتهم. وتعتمد أخيرا على هذا التطور فى التفكير العالى وهذه اليقظة فى الضمير الإنسانى. ويا ويح الدنيا إذا كانت ستسوسها وتصرفها من جديد الأفكار الرجعية وتتحكم فيها المطامع الاستعمارية.
وإنا لنعلم حق العلم أن الطبيعة البشرية فى كثير من الأحيان تنسى إنصافها الذى أعلنته ساعة الشدة لتعود إلى ظلمها الذى ألفته حين الرخاء ﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ﴾[الزمر:8]، ولكنا نعلم كذلك أن الدرس الحاضر كان من القسوة والفظاعة وعمق الأثر فى النفوس والأرواح والشعوب والحكومات بحيث لا يعرض له النسيان بمثل هذه السهولة.
ولاشك أن من الخير -كل الخير- للأمم المتحدة أن تقوم فى الشرق أمة عربية قوية لها من حقها ومجدها وجلال تقاليدها فى ماضيها وحاضرها ما يجعلها أقوى دعائم السلام فى أسيا وإفريقية خاصة وفى مستقبل البشرية عامة.
ج- الكيان السياسى العام للأمم العربية المتحدة:
وتأتى بعد الخطوة السابقة خطوة ثالثة يكمل بها بناء الوحدة العربية تلك هى لون الكيان السياسى العام لهذه الحكومات العربية المتحدة.
ولا نظن أن الوقت قد حان أو أن الظروف قد تهيأت لمثل هذا البحث، كما لا نظن أن مهمة المؤتمر أن يختار شكل الحكومات، فإن ذلك متروك للشعوب نفسها يتخير كل شعب منها لنفسه النوع الذى يريد، ولكن الذى يجب أن يعمل له المؤتمر بهذا الخصوص ويقرره من الآن:
أن يحتفظ للحكومات العربية المستقرة بحق التمثيل فيما إذا أجرى استفتاء للشعوب العربية المحررة أو التى لم تستقر حكوماتها الوطنية بعد.
وأن يقرر من الآن لونا من ألوان الارتباط السياسى بين الحكومات العربية كمجلس استشارى أعلى تستطيع بواسطته أن يتصل بعضهما ببعض بطريقة دائمة منظمة، ويكون أساسا لوحدة أتم وأكمل فى المستقبل إن شاء الله.
د- تحديد الصلة بين البلاد العربية وجاراتها من الممالك الإسلامية غير العربية:
وهذا المعنى وإن كان لا يتصل بمهمة المؤتمر صلة مباشرة، إلا أنه مما يعزز الوحدة العربية وتهتم له الحكومات والشعوب معا.
فهناك أقطار ليست عربية ولكنها تجاور بلاد العرب وتجمعها بها جامعة المصلحة والجوار من جانب والعقيدة الإسلامية والذكريات التاريخية من جانب آخر؛ كالأفغان وتركيا وإيران وغيرها.
وإذا كنا فى العصر الذى تحاول فيه كل أمة من الأمم أن تتلمس الروابط والجامعات بينها وبين غيرها، فإن من واجب المؤتمر العربى أن يقرر أن بين العرب وبين هذه الأمم محالفة طبيعية، وأن يعلن أن من خير العرب، وأن من خير هذه الشعوب معا أن تدعم هذه المحالفة الطبيعية بمحالفات سياسية واتفاقات يتحقق بها تعاون الجميع على خيرهم وخير الإنسانية، وبذلك يضع المؤتمر لبنة أخرى فى بناء التعاون الإنسانى المنشود.
هـ- المطالبة بحقوق الشعوب الإسلامية المظلومة ورعاية الأقليات المسلمة فى مختلف البلاد والأقطار:
وهناك شعوب إسلامية وأقليات وجاليات عربية فى كثير من البلاد والأقطار، بلاد الحلفاء وبلاد الأعداء، كالشعب الأندونوسى، والتركستان، والمسلمين فى الهند، والمسلمين فى الصين والفلبين، والمسلمين فى روسيا وفى البلقان، وكل هؤلاء يضرب عليهم الاستعباد باسم الاستعمار، وتهضم حقوقهم، ويحال بينهم وبين الرقى والنهوض، فإذا كان هذا الوقت هو الوقت الذى يترقبه المظلومون لينالوا حقوقهم وليصلوا إلى حريتهم، فإن أول من ينطق بلسان هؤلاء ويطالب بحقوقهم هو المؤتمر العربى بحكم الروابط الكثيرة بين العرب وبين هذه الجماعات، فعلى المؤتمر أن يطالب باسم الإنسانية وباسم التطور الجديد فى نظام العالم بتحرير الشعوب المستعبدة من هؤلاء، وإنصاف المظلومين من هذه الأقليات، ودراسة القضايا المعلقة التى طال عليها الأمد ولم تمتد إليها يد العدالة والإنصاف.
ولون الحضارة التى يجب أن تصطبغ بها الأمة العربية.
ولعل من أهم واجبات المؤتمر أن يعنى بدراسة هذه الناحية دراسة دقيقة، وأن يكون لنفسه رأيا يوجه به الأمم والحكومات العربية، فذلك أجدى من هذه الذبذبة فى التفكير والتنفيذ معا.
ولعل هذه الناحية الاجتماعية لا تقل أهمية عن الناحية السياسية إن لم تزد عنها.
والرأى العام العربى يذهب فى هذه الناحية مذهبين مختلفين، فمن الناس من يدعو إلى الحضارة الغربية ويحض على الانغماس فيها وتقليد أساليبها (خيرها وشرها وحلوها ومرها ونافعها وضارها ما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب). ويرى أنه لا سبيل للنهوض والرقى إلا بها (ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع).
ومن الناس من ينفر من هذه الحضارة أشد النفير ويدعو إلى مقاومتها أشد المقاومة ويحملها تبعة هذا الضعف والفساد الذى استشرى فى الأخلاق والنفوس، ولا شك أن كلا الطرفين قد تطرف، وأن الأمر فى حاجة إلى دراسة أعمق وأدق، وإلى حكم أعدل وأقرب إلى الإنصاف والصواب.
لقد وصلت الشعوب الغربية من حيث العلم والمعرفة واستخدام قوى الطبيعة والرقى بالعقل الإنسانى إلى درجة سامية عالية يجب أن نؤخذ عنها ويجب أن يقتدى بها فيها، وهى ـ إلى جانب ذلك ـ قد عنيت بالتنظيم والترتيب وتنسيق شؤون الحياة العامة تنسيقا بديعا يجب أن يؤخذ عنها كذلك، وهذه الحقائق لا يكابر فيها إلا جاهل أو معاند.
ولكن هذه الحياة الغربية والحضارة الغربية التى قامت على العلم والنظام، فأوصلها إلى المصنع والآلة وجبى إليها الأموال والثمرات، وملكها نواصى الأمم الغافلة التى لم تأخذ فى ذلك أخذها ولم تصنع صنيعها.
هذه الحياة المادية الميكانيكية البحتة مع ما صحبها من خصومة حادة بين علماء الدنيا وحراس الدين، قد أعلنت هذه الأمم عن أخص خصائص الإنسانية فى الإنسان، عن الغرائز ومستلزماتها، والمشاعر ومطالبها، والنفس وعالمها، وطرائق تنظيم ذلك كله وضبطه ضبطا يضمن خيره ويحبس شره، ودفعت بها دفعا عنيفا إلى التبرم بالعقائد والأديان والخروج عليها خروجا قاسيا شديدا وإقصائها إقصاء تاما عن كل نواحى الحياة الاجتماعية العملية.
فأسقطت الحياة الغربية من حسابها جلال الربانية، والتسامى بالنفس الإنسانية، والاعتقاد بالجزاء الأخروى، واضطربت بذلك بين يديها المقاييس الخلقية، وانطلقت غرائز الشر من عقالها تحت ستار الحرية الشخصية أو الاجتماعية، ونجم عن ذلك أن تحطمت الفضائل فى نفوس الأفراد، وتهدمت الروابط بين الأسر، وفسدت الصلات بين الأمم، وصارت القوة -لا العدالة- شريعة الحياة،واندلعت نيران هذه الحرب فتذوق جمرها المحاربون والآمنون على السواء.
وقد أدرك هذه الحقيقة أخيرا ساسة الأمم الغربية أنفسهم، فهبوا ينادون بوجوب العناية بالشئون الروحية، ويتغنون بالمثل الخلقية العليا، ويهيبون بالحكومات أن تصبغ المدارس ومناهج التعليم والتربية بعد الحرب بهذه الصبغة، وأن تعود بالشعوب إلى العقائد والأديان الموروثة فى الكتاب الأبيض الذى أصدرته الحكومة الإنجليزية للتعلم بعد الحرب، وفى تقارير الأحزاب التى وضعت فى ذلك، وفى مناقشات مجلسى العموم واللوردات.
ونحن العرب قد ورثنا مفاخر هذه الحياة الروحية ومظاهرها، فأقطاب الرسالات العظمى وأنبياؤها المطهرون فى أوطاننا نشؤوا، وعلى أرضنا درجوا، ورموز الديانات المقدسة لا زالت شامخة باذخة فى ديارنا تهوى إليها قلوب المؤمنين بالكتب والرسل فى أنحاء الأرض، وهذا القرآن الكريم الذى ورثناه -نحن العرب- فخلد لغتنا، ورفع الله به ذكرنا، وخاطب فيه نبينا العظيم: ﴿وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ﴾[الزخرف: 44] كما خاطبنا فقال: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾[الأنبياء: 10].
هذا القرآن قد حدد الأهداف الروحية تحديدا دقيقا مبسطا بعيدا عن الأوهام الخيالية والفروض الفلسفية، ووفق بينها وبين مطالب الحياة العملية توفيقا عجيبا لم يستقم لغيره من الكتب ولم يتح لسواه من مناهج الحياة ونظمها.
فإذا كنا نحن العرب نملك هذه الثروة الروحية الجليلة التى:
- تصل القلب الإنسانى بجلال الربانية فتملؤه بذلك إشراقا وريا.
- وتكرم فى الإنسان معنى الإنسانية فترفع فى عينه قيم الفضائل العليا.
- وتذكر الناس بجزاء الآخرة، فتسمو بهم عن الوقوف عند أغراض الحياة الدنيا.
- وتوثق بين بنى الإنسان رابطة من الأخوة لا تمتد إليها يد التفرق والبلا.
- وتقيم ميزان العدالة الاجتماعية بين مختلف الطبقات على أساس من التعاون والرضا.
- وتضع لأصول المشاكل حلولا ترتكز على الحق لا على الهوى!
إذا كنا نملك هذا كله، فإن من العقوق لمجدنا وكتابنا وللإنسانية كذلك ألا نتقدم للدنيا بهذا الدواء الواقى والعلاج الشافى.
ولهذا نعتقد أن من واجب المؤتمر: أن يقرر وجوب تمسك البلاد العربية بقواعد حضارتها التى تقوم على ما ورثت من فضائل نفسانية وأوضاع أدبية ودوافع روحية، على أن تقتبس من الحضارة الغربية كل ما هو نافع مفيد من العلوم والمعارف والصناعات والأساليب، وعلى أن تدعو أمم الغرب إلى الانتفاع بهذا الميراث الروحى الجليل ونبصرها بما فيه من خير، ونذكرها بما يحتويه من نفع وبر، وبذلك تقوم الصلة بيننا وبينهم على أساس من التعاون المشترك، يتآزر فيه العقل والقلب على إنقاذ الإنسانية واستقرار الأمن والسلام.
وقد يقال: إن هذا المعنى ينحدر بالعاملين له والداعين إليه إلى معنى من التعصب الدينى أو التحزب المذهبى يمزق وحدة الوطن المجتمع ويفرق بين المسلم وغير المسلم، وهذا وهم خاطئ؛ فنحن إنما ندعو إلى الفضائل الروحية والمثل الدينية العليا التى يدعو إليها أهل الأديان جميعا، كما ندعو إلى الانتفاع فى حياتنا العملية بهذا التراث "القرآن المجيد" الذى هو للمسلم دين ونظام، ولكل عربى قومية ومجد، وللدنيا بأسرها طمأنينة وسلام.
أيها السادة الفضلاء:
حين نريد لأوطاننا وشعوبنا على أيديكم الوصول إلى هذه الأهداف والحصول على كامل الحرية والاستقلال، لا ننكر ولا نغفل أن بيننا وبين دول العالم وشعوبه صلات يجب أن تبقى، ومصالح يجب أن تنظم، حتى يقوم التعامل على أساس من الحب والتعاون والإنصاف.
وإن من واجب مؤتمركم الموقر أن ينظم ذلك كله بحيث لا تسوى مصالح الدول والشعوب على حساب العرب، كما لا يحال بين دولة وبين مصالحها الحقيقية التى لا تنتقص من استقلالنا، وألا تقف عقبة دون رقينا ونهوضنا.
أيها السادة الفضلاء:
إن يومكم هذا له ما بعده، وإنكم لتضعون بقراراتكم التى تقررون لبنات الأساس فى نهضة العرب الحديثة، بل فى نهضة العالم الإسلامى كله.
وإنكم متى سموتم عن الاعتبارات الشخصية ونصحتم بتقدير المصلحة العامة على المصالح الفردية، فإنكم بإذن الله موفقون. فاقدروا تبعتكم، وحققوا الأمل فى وطنيتكم، وثقوا بمقدرة شعوبكم وتأييد الله إياكم. والله معكم.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
المصدر: جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (421)، السنة الثانية، 1ذو القعدة 1366ه- 16 سبتمبر 1947م