خطر يتهدد الأمة وينذر بفنائها
بقلم / الإمام حسن البنا
كيف ولم نلتمس لتحديد النسل حكم الإسلام والمنطق الصحيح فى هذا التحديد؟
من خطبة لفضيلة المرشد العام فى الجمعية الطبية
نشكر للجمعية الطبية أن أتاحت لنا هذه الفرصة لنتحدث فى هذا الموضوع الدقيق "موضوع تحديد النسل"، وأرجو أن تتكرموا حضراتكم بملاحظة أننى حين أتكلم فيه سأعرض إلى ناحية محدودة، هى الناحية الإسلامية، بمعنى أننى سأوضح -ما استطعت- نظرة الإسلام إلى هذه الفكرة، وسأصدر فى ذلك عن رأيى الشخصى بحسب ما علمت، لا عن رأى جماعة الإخوان المسلمين التى أشرف بالانتساب إليها.
يا حضرات السادة:
جاء الإسلام نظامًا كاملاً يشمل كليات الشئون الإنسانية عملية وروحية، ووصف نفسه بأنه دين البشرية جميعًا، ورسالة الله على يد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[الأنبياء: 107]، والإسلام دين فطرى، لا يركن إلى الخيال ولا يعتمد عليه، بل يواجه حقائق الأشياء ويحترم الواقع ويطوعه، ونحن نعلم أن كل تشريع لا تحميه قوة تنفيذية تشريع عاطل مهما كان عادلاً رحيمًا، لا يظفر من النفوس إلا بدرجة من الإعجاب لا تدفعها إلى اتباعه والنزول على حكمه، فلابد إذن من قوة تحمى التشريع وتقوم على تنفيذه، وتقنع النفوس الضعيفة والمتمردة التى لا تحتمل البرهان ولا تنصاع للدليل بإجلاله واحترامه.
والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا
- فالحرب أجدى على الدنيا من السلم.
لهذا شرع الإسلام الجهاد، وفرض على بنيه جندية عامة، غايتها مناصرة الحق أينما كان، والذود عنه حيثما وجد بدون ظلم أو إرهاق، واستغلال مادى أو استعمار نفعى، بل كما قال القرآن الكريم: ﴿حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ﴾[الأنفال: 39]، وأجمل ما تكون القوة مع الحق، وليست القوة عيبًا فى ذاتها ولا عارًا على أهلها، وليس الاستعداد للطوارئ إلا صفة من صفات الكمال، وإنما العيب أن تستخدم القوة فى تثبيت الظلم، ويكون الاستعداد وسيلة العدوان.. ومن هنا أمر الإسلام بالقوة والاستعداد فى قول القرآن الكريم: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾[الأنفال: 60]، ثم وجه هذه القوة أفضل توجيه وأكرمه فى قوله: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾[المائدة: 8].
وإذا كانت هذه هى فكرة الإسلام ورسالته، وكانت القوة أول ما تكون بالعدد الكثير من العاملين، وكانت القاعدة الأصولية أن: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، كان لنا أن نستخلص من هذا نتيجة منطقية طبيعية هى: "أن الإسلام يأمر بالإكثار من النسل ويحض عليه، ويدعو إليه وبالعكس لا يرى التحديد والضبط وتطبيقًا على ذلك، وتحقيقًا له وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [أخبار]. تحث على الزواج، وتبين أن الغاية منه الأولاد قبل كل شىء، ومن ذلك ما يلى:
1- عن معقل بن يسار رضى الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنى أصبت امرأة ذات حسب ومنصب ومال إلا أنها لا تلد أفأتزوجها؟ فنهاه. ثم أتاه الثانية فقال بمثل ذلك، ثم أتاه الثالثة فقال له: "تزوجوا الودود الولود فإنى مكاثر بكم الأمم" رواه أبو داود والنسائى والحاكم..
2- وعن معاوية بن حيدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "سوداء ولود خير من حسناء لا تلد، إنى مكاثر بكم الأمم" رواه الطبرانى..
3- نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزوبة للقادر على الزواج، ونهى عن أن يخصى أحد من بنى آدم فى روايات عدة..
هذه نظرة، وهى القاعدة الأصلية التى جرى عليها الإسلام وأجمع على قبولها المسلمون، وثم نظرة أخرى، وهى أن الإسلام وهو التشريع الذى جاء ليكون عامًا خالدًا وضع فى حسابه ظروف الأفراد والأسر والأمم التى تختلف باختلاف أحوال الحياة وحوادث الكون، فجعل العزائم والرخص، وقرر أن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه لا ضرر ولا ضرار، وأن الاستثناء قد يعرض للقاعدة الكلية وخصوصًا فى المصالح المرسلة والشئون العارضة، ومن هنا اختلفت النصوص والآراء وكثير من المسائل ومنها هذه المسألة.
وإنا نوجز ما ورد فيها فيما يلى: وردت أحاديث بحرمة العزل.، وأنه الموءودة الصغرى، وبها أخذ فريق من أئمة الفقهاء فمنعوه وحكموا بحرمته مطلقًا.
ووردت أحاديث تبيحه وتبين أنه لا يؤخر من قضاء الله شيئًا، وبها أخذ فريق من أئمة الفقهاء أيضًا فحكموا بالإباحة مطلقًا أو مع الكراهة.
وتوسط فريق ثالث فاشترط للإباحة إذن الزوجة، وتفرع على هذا الأصل حكم تعاطى الأدوية لمنع الحمل وتقليل النسل.
فالذين حرموا العزل حكموا بحرمته، والذين أباحوا العزل حكموا بإباحته، والذين توسطوا اشترطوا رضاء الزوجة فى هذا أيضًا.
وبعض الذين أباحوا العزل حرموا منع الحمل بتعاطى الأدوية ومحاولة تقليل النسل بأية وسيلة من الوسائل، ومن هؤلاء جمهور المالكية وبعض فقهاء الشافعية، وإليك بعض أقوال هؤلاء:
1- نقل البرزلى. عن القاضى أبى بكر بن العربى أن تعاطى ما يقطع الماء عند الرجل أو يبرد الرحم عند المرأة لا يجوز..
2- وقال الحطاب الجزولى. فى شرح "الرسالة": "لا يجوز للإنسان أن يشرب من الأدوية ما يقلل نسله"..
3- قال صاحب "المعيار".: "إن المنصوص لأئمتنا رضوان الله عليهم المنع من استعمال ما يبرد الرحم أو يستخرج ما هو بداخله من الماء، وعليه المحصلون والنظار".
4- نقل فى شرح الإحياء عن العماد بن يونس. والعز بن عبد السلام. وهما من أئمة الشافعية أن يحرم على المرأة استعمال دواء مانع للحمل، قال ابن يونس: ولو رضى به الزوج..
أما تعاطى الأدوية لقتل الحيوان المنوى بعد وصوله إلى الرحم فقد فرق الأئمة بين حالتى قبل التخلق وبعده، فأما بعد التخلق فالإجماع على حرمته تقريبًا، وأما قبل التخلق ففيه الخلاف المتقدم.
إذا تقرر هذا ولاحظنا معه أن الإسلام لم يغفل ناحية القوة فى الأبناء، والصحة فى الإنتاج، بل أوصى بذلك ونبه إليه، فعن أسماء بنت يزيد قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تقتلوا أولادكم سرًّا فإن الغيل يدرك الفارس فيدعثره عن فرسه" أخرجه أبو داود.. والغيل: أن يقرب الرجل امرأته وهى ترضع فتضعف لذلك قوى الرضيع، فإذا بلغ مبلغ الرجال ظهر فيه أثر هذا الضعف.
علمنا من أن الإسلام مع وصيته بالإكثار من النسل وإرشاده إلى أسباب القوة فيه قد جعل رخصة تستخدم إذا توفرت الأسباب والدواعى التى تدعو إليها.
وعلينا إذا أردنا أن نستخدم هذه الرخصة أن نسأل أنفسنا الأسئلة الآتية:
1- أليست هناك أسباب تدعو إلى الإكثار من النسل؟
2- هل ثبت بأدلة قوية وقرائن صادقة أن هناك من الأسباب ما يدعو إلى التحديد، وهل تأكدنا أن كثرة النسل هى السبب فى الضائقة الاجتماعية؟
3- هل لا يمكن استخدام علاج اجتماعى آخر؟
4- هل وثقنا من أنه سوف لا تنجم عن هذا التحديد أضرار خطيرة؟
5- هل اتخذت الاحتياطات الكافية لمنع هذه الأضرار؟
6- ما الوسائل التى ستتخذ وهل يبيحها الإسلام؟
7- هل وثقنا من أن هذه الرخصة ستستخدم بالقدر الضرورى فقط، وأنه سيستخدمها الذين يراد منهم استخدامها، وأن العودة إلى القاعدة الكلية وهى ترك التحديد سيكون ممكنًا إذا دعت الحاجة إليه؟
8- وأخيرًا هل الأفضل فى ذلك أن يعالج بصورة عامة أو بصورة فردية خاصة؟
9- أليس من الجائز أن تسفر هذه التجربة عن عجز عن معالجة الأضرار المزعومة كوفيات الأطفال مثلاً، فتظل هذه الدواعى كما هى ويضاف إليها الأضرار التى ستنجم عن التحديد؟
10- وملاحظة أخرى قد تكون بعيدة عن تفكيرنا المحدود بالواقع والبيئة الخاصة وإن كانت صحيحة فى ذاتها، هى أن الإسلام لا يتقيد بهذا التقسيم السياسى فى الوطن الإسلامى العام فهو عقيدة ووطن وجنسية، وأرض المسلمين فى نظره وطن واحد، فالزيادة فى جزء منه قد تسد نقصًا فى جزء آخر.
وعلى ضوء البيانات التى سمعتها فى هذه الدار الكريمة من حضرات الباحثين الفضلاء -أمثال: الدكتور الوكيل، والدكتور فليب بشارة، والدكتور نجيب محفوظ باشا.، والأستاذ عيسى عبده.- أستطيع أن أستخلص النتيجة الآتية:
أن هناك من ظروف الأمة المالية فى نهضتها الجديدة ما يدعو إلى تكثير النسل، فأمامنا الجيش وأمامنا السودان، وأمامنا الأرض البور فى مصر وهى تبلغ ثلاثة ملايين من الأفدنة، أى: نصف المزروع إلى الآن.
وأن أسباب الأضرار المشكو منها اقتصاديًا وصحيًا واجتماعيًا لا ترجع إلى كثرة النسل، بل إلى ارتفاع مستوى المعيشة من جهة وجهل الأمهات من جهة أخرى، وأسباب كثيرة يضيق المقام بحصرها وسردها.
وأن نجاح التشريع غير مضمون فى القرى بتاتًا؛ فإن أولاد الفلاح هم رأس ماله وثروته، والفلاحون فى أشد الحاجة إلى الإكثار من هذه الذرية.
وأن المشاهد أن الطبقة التى تستخدم التحديد هى الطبقة المتعلمة التى ينتظر منها الإكثار، وذلك ضار بالأمة؛ فإن القادرين على التربية هم الذين يفرون من كثرة الأبناء، ولهذا نحن فى الواقع نخشى إن استمر بنا هذا الحال قد نجد أنفسنا فى المستقبل أمام مشكلة هى كيف نكثر من النسل لخدمة الوطن الذى تحتاج إلى كثرته البلاد، ولا يصح أن تحمل عليها الأمة، بل تستخدم بصورة خاصة فردية بحتة مع الذين تتوفر عندهم دواعيها فقط
المصدر: جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (2)، السنة الخامسة، 18ربيع الأول 1356ه/ 28مايو 1937م، ص(1، 13).