رسالة دكتوراه في المشروع النقدي لأديب القرن العشرين

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
رسالة دكتوراه في المشروع النقدي لأديب القرن العشرين

متابعة- عمرو محمود

- سيد قطب من أعلام النقد في القرن العشرين

- بدأ مشروعه مع العقاد وانتهى إلى مذهب الرافعي

- اختلف مع طه حسين في كون القرآن الكريم نثرًا أم لا

عرفت الحركة الأدبية سيد قطب شاعرًا وناقدًا، منذ أن كان طالبًا ينشر إنتاجه في الصحف، كالبلاغ والجهاد وروز اليوسف والأسبوع وأبللو.. إلخ، وكان كتابه الأول دراسة نقدية بعنوان (مهمة الشاعر في الحياة) الصادر في العام 1933م، ونُشر ديوانه الأول (الشاطئ المجهول) في العام 1935م.

سار سيد قطب على خطى العقاد حتى صار حامل لواء اتجاهه الأدبي، والمدافع الأول عن مدرسة العقاد الأدبية، ويعتبره كثيرون الناقدَ الأدبي الأول لمجلة الرسالة، بَيد أن سعيَه الحثيث إلى التفرد والاستقلال جعله يُخرج مجموعةً من الكتب النقدية والأدبية، مثل التصوير الفني في القرآن عام 1945م، وكتب وشخصيات عام 1946م، ومشاهد القيامة في القرآن، والنقد الأدبي في عام 1947م، وبالطبع فإن إنتاج سيد قطب الأدبي أكبر بكثير من هذه الكتب، ذلك أن مقالاته النقدية ضاع منها الكثير..

ما بين إهمالٍ في جمعِها من الصحف والمجلات وبين أجهزة الأمن التي استولت على عدد كبير من الأعمال المخطوطة، فأصبحت في حكم المعدومة.

لذلك لم يكن غريبًا أن يصبح المشروع النقدي لسيد قطب محل دراسات أكاديمية عديدة، من بينها رسالة الدكتوراه التي أعدها الدكتور أحمد البدوي بجامعة الخرطوم وطبعتها الهيئة المصرية العامة للكتاب.

رحلته مع النقد

تثبت الرسالة من سطورها الأولى أن سيد قطب كان مهتمًا في مشروعه النقدي بالشعر، وسبب ذلك في رأي د. أحمد البدوي هو دأب سيد قطب على قرض الشعر وموالاة نشر قصائده في الصحف والمجلات، ولا يعني هذا أنه أغفل الأجناس الأدبية الأخرى، لكنها لم تحتل مكانة الشعر في مشروعه النقدي، فهو يحاول تحديد ماهية الشعر على أنه فرع من شجرة الفنون الجملة التي يفضل تسميتها "المُثُل الرفيعة"؛ لما في ذلك من دلالة قوية على مهمة الفنون ودورها في الرقي بالنفس الإنسانية إلى ما هو أسمى من المعهود والمألوف.

غير أن تأثره بمدرسة العقاد جعله عنيفًا في نقده لشعر أحمد شوقي ومصطفى الماحي؛ مجاراةً لأستاذه، بل كان يرى في العقاد مثلاً أعلى للشعر (رغم أنه في الحقيقة لم يكن كذلك) وهكذا ظل سيد قطب يجاري العقاد في مذهبه النقدي إلى أن جاء موعد صدور كتاب (التصوير الفني في القرآن)، وذهب به إلى العقاد متوقِّعًا استقبالاً حسنًا، فإذا بالمقابلة تنمُّ عن حقدٍ ظاهر على إنجاز سيد قطب الذي كان يرى في العقاد أستاذًا له، وهنا بدأ قطب يُعيد ترتيب فكرته عمن كان يظن فيه المودة والثقة، والحقيقة أن العقاد لم يُعرف عنه أبدًا الترحيب بإنجاز أدبي يرى في نفسه إمكانية القيام به، وكان معروفًا عن العقاد ثقته المفرطة في مواهبه حتى وصفه كثيرون بالتكبر والاستعلاء والأنانية.

بين الرافعي والعقاد

التطور هو سنة الله في الحياة.. هذا ما يؤكده موقف سيد قطب من كل من العقاد والرافعي، فقد بدأ معجبًا بالأول وانتهى إلى الدعوة إلى مذهب الثاني في الأدب الإسلامي، فعندما كتب محمد سعيد العريان ترجمةً لحياة الرافعي في مجلة (الرسالة)، تناول فيها الخلاف بين الرافعي والعقاد، وجاء فيها أن الرافعي كتب مقالاً عن ديوان العقاد (وحي الأربعين) عام 1933م، فردَّ عليه العقاد في جريدة (الجهاد) فجرحه واتهمه في وطنيته، وكان رأي العريان أن مقالَ الرافعي من خير ما كُتب في نقد الشعر، فما كان من سيد قطب إلا أن تصدَّى له مشيرًا إلى كثرة الإسفاف والشتائم في نقد الرافعي، وانتهى إلى عقد موازنة بين الرجلين فالعقًَّاد أديبُ الطبع والفطرة السليمة، والرافعي أديبُ الذهن الوضَّاء، والعقاد منفتح النفس، ريان القلب، والرافعي مغلق من هذه الناحية منفتح على العقل وحده، وطاقة العقاد وعالمه أرحب من طاقة الرافعي وعالمه.

غير أن العريان يعلق على ما كتبه سيد قطب قائلاً: ما أتى به من النقد ليس بشيء عندنا، ثم ينتدب محمود شاكر ليتولى الرد على سيد قطب، ودارت المعركة بين القطبَين الكبيرين قطب وشاكر، لكن الأيام تدور دورتها، وتنقطع أوصال علاقة قطب بالعقاد ويدعو قطب إلى مشروع الأدب الإسلامي، أي أنه دعا إلى المذهب الذي كان يتبناه الرافعي.

سيد قطب والأدب الإسلامي

يؤكد د. أحمد البدوي أن أولى التفافات سيد قطب إلى الإفادة من التراث الإسلامي في الأعمال الأدبية كانت تنحصر في خَلْق طرائق التغيير، مثل الجمال الفني في القرآن الكريم، فدعا إلى "تملي طريقة القرآن في التصوير والتظليل، فهي أعلى طريقة فنية للأداء، وأن نقلها إلى عالم الأدب خليقٌ بأن يرفع هذا الأدب إلى آفاق رفيعة لم نصل إليها حتى الآن، فهلموا إلى النبع الأصيل نبع القرآن" ليستقي الأدب من ذلك الينبوع، مفيدًا من طريقة القرآن في التصوير الفني الذي سبق أن كتب عنه دراسةً فريدةً متميزةً، ولم يلبث سيد قطب أن ربط الجانب الشكلي الفني بمحتوى فكري؛ لأن الكاتب يصدر عن موقف فكري شامل: "ينبع من تصور معين للحياة ولعلاقة الإنسان بالكون وبأخيه الإنسان، ومن العبث تجريد الأدب من قيمه؛ إذ لا يبقى بعد التجرد إلا عبارات خاوية، أو خطوط صماء"؛ لأن سيد قطب يرى أنه لا بد أن يكون الأدب دالاًّ على موقف فكري، فإنه لا بد أن يكون للإسلام أدبه الذي يحمل سماته، وهنا تبلور لديه مفهوم الأدب الإسلامي في مشروعه النقدي، الذي لم يتيسر له النشر والترويج اللائقان به، خاصةً فيما يتعلق بجهود سيد قطب في التنظير له.

وعندما تولى رئاسة تحرير مجلة الإخوان المسلمين عام 1954م نهض من العدد الأول للدعوة إلى أن الأدب الإسلامي أدبٌ موجّه بطبيعة التصور الإسلامي للحياة، وهي طبيعة حركية دافعة للانتماء والإبداع، ذلك أنه من المحال أن تقع العقيدة الإسلامية في قلب وتظل سلبيةً.. إنها تدفعه للإبداع فلا يسير الأدب في ظل التصور الإسلامي أسيرًا اعتباطيًّا عشوائيًّا، بل يصدر عن قيم، وتمده حركته بالحيوية الزاخرة، وتبرز في مظاهر تلك الحركة، ونعرف منه أن الإسلام لا يحارب الفنون والآداب في ذاتها، ولكن له مواقف من بعض القيم التي يمكن أن تحتويها الآداب والفنون.

والإسلام لا يحتفل كثيرًا بتصوير لحظات الضعف البشري، ولا يتوسع في عرضها، وصحيح أن الأدب الإسلامي يتناول تلك اللحظات، ولكنه لا يلبث أن يطلق البشرية من الضعف البشري وينطلق بها من عقال الضرورة وضعفها، فهو لا يؤمن بسلبية الإنسان، بل يهتف لهذا الكائن بأشواق الاستعلاء والطلاقة والترقِّي، وهو يعني بذلك عدم جعل لحظات الضعف البشري- كالزنا مثلاً- غايةً في ذاتها، ويركز عليها ويبرز تفاصيلها بإلحاح، بل يسمو بها ويجعلها وسيلةً إلى الصعود لا مدعاةً للهبوط والسقوط، وقد شهدت مجلة الإخوان المسلمين مناقشاتٍ كثيرةً حول الأدب الإسلامي شارك فيها كثير من الأدباء والنقاد.

سيد قطب والأدب الإسلامي

كان سيد قطب من أبرز نقاد جيله؛ لذلك كانت له مواقف محددة من الأسماء الكبيرة اللامعة أو التي بدأت تشق طريقها نحو النجومية، فكان موقفه من قضية تسمية تصنيف القرآن ضمن النثر أو تصنيفه كجنس أدبي لا ينتمي إلى النثر؛ حيث قرر سيد قطب أن القرآن الكريم هو نثر في أعلى درجات النثر؛ مخالفًا في ذلك د. طه حسين الذي كان يرى عدم تصنيف القرآن من النثر، وقد كان سيد قطب واعيًا لخطورة عدم وضع القرآن الكريم ضمن النثر؛ حيث إن هذا التصنيف يفضي إلى إسقاط التحدي البلاغي الذي جاء لتثبيته، واعترف الأديب الروائي الكبير نجيب محفوظ بفضل سيد قطب عليه، ورغم ذلك لم يبدِ أي تعاطف إنساني في قضيته.

وكتب عنه سليمان فياض (اليساري)، مشيرًا إلى ثقافته ناقدًا وشاعرًا، وكذلك أنصفه عددٌ من النقاد، لكنَّ الغالبة المتحكمة في المنابر الثقافية في عالمنا العربي تتعمد تجاهل المشروع النقدي لسيد قطب، رغم ريادته غير المسبوقة الفني في النقد الأدبي.

مع نجيب محفوظ وطه حسين

بعد أن كان سيد قطب متفرغًا للعمل الأدبي تحول في النصف الثاني من الأربعينيات إلى الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والسياسية وقضايا الإسلام والمسلمين، ثم سافر إلى أمريكا في بعثة دراسية، ومن هناك كتب ردًّا على خطاب أرسله له صديقه الناقد أنور المعداوي، جاء فيه: "تنتظر عودتي لأخذ مكاني في ميدان النقد الأدبي.. أخشى أن أقول لك إن هذا لن يكون، وإنه من الأولى لك أن تعتمد على نفسك إلى أن ينبثق ناقدٌ جديدٌ..

إنني سأخصص ما بقيَ من حياتي وجهدي لبرنامج اجتماعي كامل، ويكفي أن أجدك في ميدان النقد الأدبي، وما هذا البرنامج الاجتماعي إلا الانصراف إلى الدعوة الإسلامية وترك كل شيء سواها، وعندما عاد سيد قطب من أمريكا كان انضمامه إلى جماعة الإخوان المسلمين، التي وجد فيها حلمه الذي اقتنع بإمكانية تحقيقه إذا تعاون مع العاملين في هذه الجماعة، وما لبثَ أن صار سيد قطب أحد العقول الكبرى في جماعة الإخوان المسلمين، وظل فيها حتى لقيَ ربه شهيدًا وشاهدًا على عصر الظلم والطغيان والاستبداد.

رحم الله الشهيد سيد قطب الناقد، العالم، المفسِّر، الوفِيِّ لدينه وعقيدته، وحقًّا ما قاله رحمه الله: " إن كلماتنا تظل عرائسَ من شمع، حتى إذا متنا دبَّت فيها الحياة".

المصدر