رسالة نحو النور
بقلم: الإمام حسن البنا
مقدمة
رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً
القاهرة عاصمة الديار المصرية في رجب 1366هـ
حضرة صاحب ...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد , فإنما حملنا على التقدم بهذه الرسالة إلى مقامكم الرفيع رغبة أكيدة في توجيه الأمة التي استرعاكم الله أمرها , ووكل إليكم شأنها في عهدها الجديد , توجيها صالحا يقيمها على أفضل المسالك , ويرسم لها خير المناهج , ويقيها التزلزل والاضطراب , ويجنبها التجارب المؤلمة الطويلة .
ولسنا نبغي من وراء ذلك شيئا إلا أن نكون قد أدينا الواجب وتقدمنا بالنصيحة ... وثواب الله خير وأبقى .
تبعة الراعي
يا صاحب ...
إن الله وكل إليكم أمر هذه الأمة , وجعل مصالحها وشؤونها وحاضرها ومستقبلها أمانة لديكم ووديعة عندكم , وأنتم مسؤولون عن ذلك كله بين يدي الله تبارك وتعالى , ولئن كان الجيل الحاضر عدتكم , فإن الجيل الآتي من غرسكم , وما أعظمها أمانة وأكبرها تبعة أن يسأل الرجل عن أمة : (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) .
وقديما قال الإمام العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (لو عثرت بغلة بالعراق لرأيتني مسؤولا عنها بين يدي الله تبارك وتعالى لِم لَم أسوّ لها الطريق؟) .
وصوّر الإمام عمر بن الخطاب عظم التبعة في جملة فقال : (لوددت أن أخرج منها كفافا لا لي ولا علي).
مـقدمــات
( أ ) عهد الانتقال :
وإن أخطر العهود في حياة الأمم وأولاها بتدقيق النظر عهد الانتقال من حال إلى حال , إذ توضع مناهج العهد الجديد وترسم خططه وقواعده التي يراد تنشئة الأمة عليها والتزامها إياها , فإذا كانت هذه الخطط والقواعد والمناهج واضحة صالحة قويمة فبشر هذه الأمة بحياة طويلة مديدة وأعمال جليلة مجيدة , وبشر قادتها إلى هذا الفوز , وأدلتها في هذا الخير ,بعظيم الأجر وخلود الذكر وإنصاف التاريخ وحسن الأحدوثة .
( ب ) على مفترق طريقين :
ولقد كانت المهمة ذات شطرين :
أولهما : تخليص الأمة من قيودها السياسية حتى تنال حريتها , ويرجع إليها ما فقدت من استقلالها وسيادتها.
ثانيهما : بناؤها من جديد لتسلك طريقها بين الأمم , وتنافس غيرها في درجات الكمال الاجتماعي .
والآن وقد وضع النضال السياسي أوزاره إلى حين , وأصبحتم تستقبلون بالأمة عهدا جديدا , فإنكم سترون أمامكم طريقين، كل منهما يهيب بكم أن توجهوا الأمة وجهتها وتسلكوا بها سبيله، ولكل منهما خواصه ومميزاته وآثاره ونتائجه ودعاته ومروجوه. فأما الأول فطريق الإسلام وأصوله وقواعده وحضارته ومدنيته، وأما الثاني فطريق الغرب ومظاهر حياته ونظمها ومناهجها.
وعقيدتنا: أن الطريق الأول طريق الإسلام وقواعده وأصوله هو الطريق الوحيد الذي يجب أن يسلك وأن توجه إليه الأمة الحاضرة والمستقبلة.
( ج ) مزايا التوجه الإسلامي :
وإننا إذا سلكنا بالأمة هذا المسلك استطعنا أن نحصل على فوائد كثيرة؛ منها أن المنهاج الإسلامي قد جرب من قبل وشهد التاريخ بصلاحيته، وأخرج للناس أمة من أقوى الأمم وأفضلها وأرحمها وأبرها وأبركها على الإنسانية جميعاً؛ وله من قدسيته واستقراره في نفوس الناس ما يسهل على الجميع تناوله وفقهه والاستجابة له والسير عليه متى وجهوا إليه، فضلا عن الاعتزاز بالقومية والإشادة بالوطنية الخالصة. إذ أننا نبني حياتنا على قواعدنا وأصولنا ولا نأخذ عن غيرنا. وفي ذلك أفضل معاني الاستقلال الاجتماعي والحيوي بعد الاستقلال السياسي.
وفي السير على هذا المنهاج تقوية للوحدة العربية أولاً، ثم للوحدة الإسلامية ثانياً، فيمدنا العالم الإسلامي كله بروحه وشعوره وعطفه وتأييده، ويرى فينا إخوة ينجدهم وينجدونه ويمدهم ويمدونه، وفي ذلك ربح أدبي كبير لا يزهد فيه عاقل.
وهذا المنهاج تام شامل، كفيل بتقرير أفضل النظم للحياة العامة في الأمة عملية وروحية. وهذه هي الميزة التي يمتاز بها الإسلام، فهو يضع نظم الحياة للأمم على أساسين مهمين: أخذ الصالح و تجنب الضار.
فإذا سلكنا هذا السبيل استطعنا أن نتجنب المشكلات الحيوية التي وقعت فيها الدول الأخرى، التي لم تعرف هذا الطريق ولم تسلكه، بل استطعنا أن نحل كثيراً من المشكلات المعقدة التي عجزت عن حلها النظم الحالية , وإنا نذكر هنا كلمة جورج برنارد شو:
(ما أشد حاجة العالم في عصره الحديث إلى رجل كمحمد يحل مشكلته القائمة العقدة بينما يتناول فنجان القهوة).
وبعد ذلك كله، فإننا إذا سلكنا هذا السبيل، كان تأييد الله من ورائنا، يقوينا عند الوهن، وينقذنا في الشدائد، ويهون علينا المشاق، ويهيب بنا دائماً إلى الأمام:
(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:104) .
( د ) المدنية الغربية الآن :
ومن تمام هذا البحث أن نقول : إن مدنية الغرب، التي زهت بجمالها العلمي حيناً من الدهر، وأخضعت العالم كله بنتائج هذا العلم لدوله وأممه، تفلس الآن وتندحر , وتندك أصولها وتنهدم نظمها وقواعدها , فهذه أصولها السياسية تقوضها الدكتاتوريات، وأصولها الاقتصادية تجتاحها الأزمات , ويشهد ضدها ملايين البائسين من العاطلين والجائعين , وأصولها الاجتماعية تقضي عليها المبادئ الشاذة والثورات المندلعة في كل مكان، وقد حار الناس في علاج شأنها وضلوا السبيل , مؤتمراتهم تفشل , و معاهداتهم تخرق , و مواثيقهم تمزق , وعصبة أممهم شبح لا روح فيه ولا نفوذ له , ويد العظيم فيهم توقع مع غيره ميثاق السلام والطمأنينة في ناحية , ثم تلطمه اليد الثانية من ناحية أخرى أقسى اللطمات , وهكذا أصبح العالم بفضل هذه السياسات الجائرة الطامعة كسفينة في وسط اليم , حار ربانها وهبت عليها العواصف من كل مكان .
الإنسانية كلها معذبة شقية قلقة مضطربة , وقد اكتوت بنيران المطامع والمادة , فهي في أشد الحاجة إلى عذب من سؤر الإسلام الحنيف يغسل عنها أوضار الشقاء ويأخذ بها إلى السعادة .
لقد كانت قيادة الدنيا في وقت ما شرقية بحتة ، ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان غربية ، ثم نقلتها النبوات الموسوية و العيسوية و المحمدية إلى الشرق مرة ثانية ، ثم غفا الشرق غفوته الكبرى ، ونهض الغرب نهضته الحديثة ، فكانت سنة الله التي لا تتخلف , وورث الغرب القيادة العالمية ، وها هو ذا الغرب يظلم ويجور ويطغى ويحار ويتخبط ، فلم تبق إلا أن تمتد يد "شرقية" قوية ، يظللها لواء الله ، وتخفق على رأسها راية القرآن ، ويمدها جند الإيمان القوي المتين ، فإذا بالدنيا مسلمة هانئة ، وإذا بالعوالم كلها هاتفة: (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ) (لأعراف:43) .
ليس ذلك من الخيال في شيء , بل هو حكم التاريخ الصادق ,إن لم يتحقق بنا , (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) (المائدة:54) .
بيد أننا نحرص على أن تكون مما يحوزون هذه الفضيلة , ويكتبون في ديوان هذا الشرف , (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) (القصص:68) .
الإسلام كفيل بإمداد الأمة
ليس في الدنيا نظام يمد الأمة الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر كما يمد الإسلام بذلك كله أممه الناهضة , ولقد امتلأ القرآن الكريم بتصوير هذه الناحية خاصة , وضرب الأمثال فيها بالإجمال تارة وبالتفصيل تارة أخرى , وعالج هذه النواحي علاجا دقيقا واضحا , لا تأخذ به أمة حتى تصل إلى ما تريد .
أ ـ الإسلام والأمل
تحتاج الأمة الناهضة إلى الأمل الواسع الفسيح , وقد أمد القرآن أممه بهذا الشعور بأسلوب يخرج من الأمة الميتة أمة كلها حياة وهمة وأمل وعزم , وحسبك انه يجعل اليأس سبيلا إلى الكفر والقنوط من مظاهر الضلال , وإن أضعف الأمم إذا سمعت قوله تعالى :
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ , وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ) (القصص:5-6) .
وقوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ , إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران:139-140) .
وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) (الحشر:2).
وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214) .
إن أضعف الأمم إذا سمعت هذا التبشير كله , وقرأت ما إليه من قصص تطبيقية واقعية , لابد أن تخرج بعد ذلك أقوى الأمم إيمانا وأرواحا , ولابد أن ترى في هذا الأمل ما يدفعها إلى اقتحام المصاعب مهما اشتدت , ومقارعة الحوادث مهما عظمت ,حتى تظفر بما تصبو إليه من كمال .
ب ـ الإسلام والعزة القومية
وتحتاج الأمم الناهضة إلى الاعتزاز بقوميتها كأمة فاضلة مجيدة لها مزاياها وتاريخها , حتى تنطبع الصورة في نفوس الأبناء , فيفدون ذلك المجد والشرف بدمائهم وأرواحهم , ويعملون لخير هذا الوطن وإعزازه وإسعاده .
هذا المعنى لن نراه واضحا في نظام من النظم عادلا فاضلا رحيما كما هو الإسلام الحنيف , فإن الأمة التي تعلم أن كرامتها وشرفها قد قدسه الله في سابق علمه وسجله في محكم كتابه فقال تبارك وتعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران:110) , وقال تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة:143) , (وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون:8) , لهي أجدر الأمم بافتداء عزتها الربانية بالدنيا وما فيها.
ولقد عملت الأمم الحديثة على ترسيخ هذا المعنى في نفوس شبابها ورجالها وأبنائها جميعا , ومن هنا سمعنا : (ألمانيا فوق الجميع) , (إيطاليا فوق الجميع) , (وسودي يا بريطانيا واحكمي) .
ولكن الفارق بين الشعور الذي يمليه المبدأ الإسلامي وبين الشعور الذي أملته هذه الكلمات والمبادئ , أن شعور المسلم يتسامى حتى يتصل بالله , على حين ينقطع شعور غيره عند حد القول فقط من جهة , ومن جهة أخرى فإن الإسلام حدد الغاية من خلق هذا الشعور وشدد في التزامها , وبين أنها ليست العصبية الجنسية والفخر الكاذب بل قيادة العالم إلى الخير , ولهذا قال تبارك وتعالى : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (آل عمران:110) .
ومعنى ذلك مناصرة الفضيلة ومقارعة الرذيلة واحترام المثل الأعلى وملاحظته عند كل عمل , ولهذا أنتج الشعور بهذه السيادة في السلف المسلم منتهى ما أثر عن الأمم من عدالة ورحمة , أما مبدأ السيادة في نفس الأمم الغربية فلم يحدد غايته بغير العصبية الخاطئة , ولهذا أنتج التناحر والعدوان على الأمم الضعيفة , فكان المبدأ الإسلامي أخذ خير ما في هذه الناحية , وأراد أن ينطبع بذلك أبناؤه , وجنبهم ما فيها من شر وطغيان ,ولقد وسع الإسلام حدود الوطن الإسلامي , فالوطن في عرف الإسلام يشمل :
1 – القطر الخاص أولاً.
2 – ثم يمتد إلى الأقطار الإسلامية الأخرى فكلها للمسلم وطن ودار.
3 – ثم يرقى إلى الإمبراطورية الإسلامية الأولى التي شادها الأسلاف بدمائهم الغالية العزيزة فرفعوا عليها راية الله , ولا تزال آثارهم فيها تنطق بما كان لهم من فضل ومجد , فكل هذه الأقاليم يُسأل المسلم بين يدي الله تبارك وتعالى لماذا لم يعمل على استعادتها.
4 – ثم يسمو وطن المسلم بعد ذلك كله حتى يشمل الدنيا جميعا , ألست تسمع قول الله تبارك وتعالى : (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ) (لأنفال:39) .
وبذلك يكون الإسلام قد وفق بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة بما فيه الخير كل الخير للإنسانية جميعا : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات:13) .
ج ـ الإسلام والقوة الجندية
وتحتاج كذلك الأمم الناهضة إلى القوة وطبع أبنائها بطابع الجندية , ولا سيما في هذه العصور التي لا يضمن فيها المسلم إلا بالاستعداد للحرب , والتي صار شعار أبنائها جميعا : (القوة أضمن طريق لإحقاق الحق).
1والإسلام لم يغفل هذه الناحية , بل جعلها فريضة محكمة من فرائضه , ولم يفرق بينها وبين الصلاة والصوم في شيء , وليس في الدنيا كلها نظام عني بهذه الناحية , لا في القديم ولا في الحديث , كما عني بذلك الإسلام في القرآن وفي حديث رسول الله وإنك لترى ذلك ماثلا واضحا في قوله تعالى :
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (لأنفال:60) , وفي قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) (البقرة:216) .
وهل رأيت منشورا عسكريا في كتاب مقدس يتلى في الصلاة والذكر والعبادة والمناجاة كهذا المنشور الذي يبتدئ بالمر المنجز في قوله تعالى :
(فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ) ثم بين الجزاء بعد ذلك : (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:74) .
ثم يتلو ذلك باستثارة أنبل العواطف في النفوس وهي استنقاذ الأهل والوطن فيقول :
(وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (النساء:75) .
ثم يوضح لهم شرف غايتهم ودناءة غاية عدوهم , ليبيّن لهم أنهم يجودون بثمن غال هو الحياة على نص عريضسلعة غالية وتربوا عليه وهي رضوان الله ,على حين يقاتل غيرهم لغير غاية , فهم أضعف نفوسا وأخزى أفئدة, فذلك قوله تعالى :
(الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) (النساء:76) .
ثم يندد بالذين جنبوا عن أداء هذا الواجب , وأخذوا التكاليف السهلة وتركوا تكاليف البطولة , ويبين لهم خطأ موقفهم هذا , وأن الإقدام لن يضرهم شيئا بل سيكسبون به الجزاء الكبير , والإحجام لا يغنيهم شيئا فالموت من ورائهم لا محالة فيقول بعد الآيات السابقة مباشرة :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً , أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (النساء:77-78) .
بربك أي منشور عسكري في هذه القوة وفي هذا الوضوح يبعث في نفس الجندي كل ما يريد القائد من همة وعزة وإيمان ؟؟
وإذا كان قوام الحياة العسكرية في عرفهم أمرين , هما النظام والطاعة , فقد جمعهما الله في آيتين من كتابه فقال تبارك وتعالى :
(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف:4) , كما قال تعالى : (فَأَوْلَى لَهُمْ , طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) (محمد:20-21) .
وإنك إذا قرأت ما جاء به الإسلام في إعداد العدة واستكمال القوة وتعليم الرمي ورباط الخيل , وفضل الشهادة وأجر الجهاد وثواب النفقة فيه ورعاية أهله واستيعاب صنوفه , لرأيت من ذلك ما لا يحصيه الحصر , سواء في الآيات الكريمة أو الأحاديث الشريفة أو السير المطهرة أو الفقه الحنيف : (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (طـه:98).
ولقد عنيت بذلك الأمم الحديثة فبنت نفسها على هذه القواعد , ورأينا أساس فاشية موسوليني ونازية هتلر وشيوعية ستالين أساسا عسكريا بحتا , ولكن الفرق بين ذلك كله وبين عسكرية الإسلام فرق عظيم , فإن الإسلام الذي قدس القوة هذا التقديس , وهو الذي آثر عليها السلم فقال تبارك وتعالى بعد آية القوة مباشرة: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) (لأنفال:61) .
وهو الذي حدد ثمن النصر ومظاهره فقال تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ , الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:41) .
وهو الذي وضع أساس القانون الدولي الحربي فقال تعالى : (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (لأنفال:58) .
ولأمر ما كانت وصية الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه من بعده لقواد جنودهم أروع مظاهر الرحمة والرفق : (لا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا امرأة ولا طفلاً ولا شيخاً كبيراً ، ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تجهزوا على جريح ، وستمرون بأقوام ترهبوا في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له).
كذلك كانت العسكرية في الإسلام بوليس العدالة وشرطة القانون والنظام , أما عسكرية أوربا الآن فقد علم الناس جميعا عنها أنها جيش الظلم وجند المطامع , فأي الفرقين خير مقاما وأحسن نديا؟
د ـ السلام والصحة العامة
ولما كانت الأمم الناهضة في حاجة إلى هذه الجندية الفاضلة , وكان قوام هذه الجندية صحة الأبدان وقوة الأجسام , فقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في بيان قصة أمة مجاهدة تحفزت للنهوض بعبء النضال في سبيل حريتها واستقلالها وتكوين نفسها , فاختار الله لها زعيما قوي الفكر وقوي الخلق , وجعل من أركان نهوضه بعبئه قوة بدنه , فذلك ما حكاه القرآن الكريم عن بني إسرائيل في تزكيته طالوت : (قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (البقرة:247) .
ولقد شرح رسول الله هذا المعنى في كثير من أحاديثه , وحث المؤمنين على المحافظة على قوة أبدانهم , كما حثهم على قوة أرواحهم , فالحديث الصحيح يقول : (المؤمن القوى خير من المؤمن الضعيف) ويقول (إن لبدنك عليك حقا) .
ولقد بين رسول الله للأمة كثيرا من قواعد الصحة العامة وبخاصة في علم الوقاية , وهو أفضل شطري الطب فقوله صلى الله عليه وسلم : (نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع) وتحريه فيما يشرب من ماء , وفي الحديث : (كان يستعذب الماء) , ونهيه عن البول والتبرز في المياه الراكدة , وإعلانه الحجر الصحي على البلد المطعون وأهله , فلا يتركونه ولا ينزله غيرهم , وتحذيره من العدوى وطلب الفرار من المجذوم , وأخيرا عنايته بكثير من فروع رياضة البدن كالرمي والسباحة والفروسية والعدو , وحث أمته عليها وعلى العناية بها حتى جاء في الحديث : (من تعلم الرمي ثم نسيه فليس مني) , ونهيه نهيا مشددا عن التبتل والترهب وتعذيب الجسوم وإضوائها تقربا إلى الله تبارك وتعالى , وإرشاد الأمة إلى جانب الاعتدال في ذلك كله , كل هذا ينطق بعناية الإسلام البالغة بصحة الأمة العامة وتشديده في المحافظة عليها وإفساح صدره لكل ما فيه خيرها وسعادتها من هذا الجنب الهام.
هـ ـ الإسلام والعلم
وكما تحتاج الأمم إلى القوة تحتاج كذلك إلى العلم الذي يؤازر هذه القوة ويوجهها أفضل توجيه ، ويمدها بما تحتاج إليه من مخترعات ومكتشفات ، والإسلام لا يأبى العلم ، بل يجعله فريضة من فرائضه كالقوة ويناصره ، وحسبك أن أول آية نزلت من كتاب الله تعالى :
(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ , خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ , اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ , الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ , عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق:1-5)
وأن رسول الله قد جعل من فداء المشركين في بدر أن يعلم أحدهم من الأسرى عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة ,عملا على محو الأمية , ولم يسو الله بين العلماء وبين الجاهلين , فقال تبارك وتعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ) (الزمر:9) , وقد وزن الإسلام مداد العلماء بدم الشهداء , ولازم القرآن بين العلم والقوة في الآيتين الكريمتين : (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ , يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:122-123) .
ولم يفرق القرآن بين علم الدنيا وعلم الدين ، بل أوصى بهما جميعاَ ، وجمع علوم الكون في آية واحدة ، وحث عليها وجعل العلم بها سبيل خشيته وطريق معرفته ، فذلك قول الله تعالى :
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) وفي ذلك إشارة إلى الهيئة و الفلك و ارتباط السماء بالأرض , ثم قال تعالى: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا) وفي ذلك الإشارة إلى علم النبات و غرائبه و عجائبه و كيميائه , (وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ) وفي ذلك الإشارة إلى علم الجيولوجيا و طبقات الأرض وادوارها وأطوارها , (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ) وفيها الإشارة إلى علم البيولوجيا و الحيوان بأقسامه من إنسان وحشرات وبهائم فهل ترى هذه الآية غادرت شيئا من علوم الكون ؟ ثم يردف ذلك كله بقوله تعالى : (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر:27-28) .
أفلست ترى من هذا التركيب العجيب أن الله يأمر الناس بدراسة الكون ويحضهم على ذلك , ويجعل العارفين منهم بدقائقه وأسراره هم أهل معرفته وخشيته ؟
اللهم فقه المسلمين في دينهم .
و ـ الإسلام والخلق
والأمة الناهضة أحوج ما تكون إلى الخلق .. الخلق الفاضل القوي المتين والنفس الكبيرة العالية الطموحة ، إذ أنها ستواجه من مطالب العصر الجديد مالا تستطيع الوصول إليه إلا بالأخلاق القوية الصادقة النابعة من الإيمان العميق والثبات الراسخ والتضحية الكثيرة والاحتمال البالغ , وإنما يصوغ هذه النفس الكاملة الإسلام وحده ، هو الذي جعل صلاح النفس و تزكيتها أساس الفلاح ، فقال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا , وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:9-10) .
وجعل تغيير شئون الأمم وقفا على تغير أخلاقها وصلاح نفوسها فقال : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11) .
وإنك لتسمع الآيات البالغة في مفردات الأخلاق الكريمة فتراها القوة التي لا تغالب في إصلاح النفوس وإعدادها وتزكيتها وتصفيتها , مثل قوله تعالى في الوفاء : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً , لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) (الأحزاب:23-24) .
وفي البذل و التضحية و الصبر و الاحتمال و مغالبة الشدائد : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ , وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (التوبة:120-121) .
وليس كالإسلام عاملا على إيقاظ الضمير وإحياء الشعور وإقامة رقيب على النفس وذلك خير الرقباء ، وبغيره لا ينتظم قانون ما إلى أعماق السرائر وخفيات الأمور
ز ـ الإسلام والاقتصاد
والأمة الناهضة أحوج ما تكون إلى تنظيم شؤونها الاقتصادية , وهي أهم الشؤون في هذه العصور , ولم يغفل الإسلام هذه الناحية بل وضع كلياتها ولم يقف أمام استكمال أمرها , وها أنت ذا تسمع قول الله تبارك وتعالى في المحافظة على المال وبيان قيمته ووجوب الاهتمام به : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء:5) .
ويقول في موازنة الإنفاق والدخل : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) (الإسراء:29) .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما عال من اقتصد) وهو كما يصدق في الفرد يصدق في الأمة مع قوله صلى الله عليه وسلم : (نعم المال الصالح للرجل الصالح) , وأي نظام اقتصادي فاضل يرحب به الإسلام ويدعو الأمة إلى تشجيعه ولا يقف أبدا في سبيله , والفقه الإسلامي مملوء بأحكام المعاملات المالية , وقد فصلها تفصيلا لا يدع زيادة لمستزيد .
وبعد فإن الأمة إذا توفرت لها هذه الدعائم من الأمل و الوطنية و العلم و القوة و الصحة و الاقتصاد فهي بلا شك أقوى الأمم والمستقبل لها , ولا سيما إذا أضيف إلى ذلك أنها قد طهرت من الأثرة والعدوان والأنانية والطغيان , وأصبحت تتمنى الخير للعالم كله , وإن الإسلام قد كفل ذلك فلا حجة لأمة تريد النهوض في النكول عنه والعدول عن طريقه.
ح ـ نظم الإسلام العامة
هذه ناحية من نواحي الجمال في بعض النظم الإسلامية وهي النظم الخاصة بنهضة الأمم , على اعتبار أننا نستقبل عهد النهضة , أما كل نواحي الجمال في كل النظم الإسلامية فذك ما يحتاج إلى مجلدات ضخام وبحوث واسعة مترامية الأطراف , وحسبنا أن نقول كلمة مجملة كل الإجمال وهي : إن نظم الإسلام فيما يتعلق بالفرد أو الأسرة أو الأمة حكومتها وشعبها , أو صلة الأمم بعضها ببعض , نظم الإسلام في ذلك كله قد جمعت بين الاستيعاب والدقة وإيثار المصلحة وإيضاحها , وإنها أكمل وأنفع ما عرف الناس من النظم قديما أو حديثا . هذا حكم يؤيده لتاريخ ويثبته البحث الدقيق في كل مظاهر حياة الأمة .
ولقد كان هذا الحكم يشهد به كل منصف , وكلما تغلغل الباحثون في بحوثهم كشفوا من نواحي الجمال في هذه النظم الخالدة ما لم يكن قد خطر ببال سلفهم , وصدق الله القائل :
(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53) .
موقف الإسلام من الأقليات والأجانب
يا صاحب ...
يظن الناس أن التمسك بالإسلام وجعله أساساً لنظام الحياة ينافي وجود أقليات غير مسلمة في الأمة المسلمة ، وينافي الوحدة بين عناصر الأمة ، وهي دعامة قوية من دعائم النهوض في هذا العصر ، ولكن الحق غير ذلك تماماً ، فإن الإسلام الذي وضعه الحكيم الخبير الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها قد احتاط لتلك العقبة وذللها من قبل ، فلم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الذي لا يحتمل لبساً ولا غموضاً في حماية الأقليات ، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص:
(لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8) .
فهذا نص لم يشتمل على الحماية فقط، بل أوصى بالبر والإحسان إليهم ، وأن الإسلام الذي قدّس الوحدة الإنسانية العامة في قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات:13) .
ثم قدس الوحدة الدينية العامة كذلك فقضى على التعصب وفرض على أبنائه الإيمان بالرسالات السماوية جميعا في قوله :
(قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ , فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ , صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) (البقرة:136-138) .
ثم قدس بعد ذلك الوحدة الدينية الخاصة في غير صلف ولا عدوان فقال تبارك وتعالى :
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:10) .
هذا الإسلام الذي بني على هذا المزاج المعتدل والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعه سببا في تمزيق وحدة متصلة , بل بالعكس إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط .
وقد حدد الإسلام تحديدا دقيقا من يحق لنا أن نناوئهم ونقاطعهم ولا نتصل بهم فقال تعالى بعد الآية السابقة :
(إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:9) .
وليس في الدنيا منصف واحد يكره أمة من الأمم على ترضى بهذا الصنف دخيلا فيها وفسادا كبيرا بين أبنائها ونقضا لنظام شؤونها .
ذلك موقف الإسلام من الأقليات غير مسلمة , واضح لا غموض فيه ولا ظلم معه , وموقفه من الأجانب موقف سلم ورفق ما استقاموا وأخلصوا , فإن فسدت ضمائرهم وكثرت جرائمهم فقد حدد القرآن موقفنا منهم بقوله :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ , هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) (آل عمران:118-119) .
وبذلك يكون الإسلام قد عالج هذه النواحي جميعا أدق العلاج وأنجحه وأصفاه .
موقف الإسلام من العلاقة مع الغرب
وقد يظن الناس كذلك أن نظم الإسلام في حياتنا الجديدة تباعد بيننا وبين الدول الغربية ، وتعكر صفو العلائق السياسية بيننا وبينها بعد أن كادت تستقر ، وهو أيضاً ظن عريق في الوهم ، فإن هذه الدول إن كانت تسيء بنا الظنون فهي لا ترضى عنا سواء تبعنا الإسلام أم غيره ، وإن كانت صادقتنا بإخلاص وتبودلت الثقة بينها وبيننا فقد صرح خطباؤها وساستها بأن كل دولة حرة في النظام الذي تسلكه في داخل أرضها ، مادام لا يمس حقوق الآخرين فعلى ساسة هذه الدول جميعاً : أن يفهموا أن شرف الإسلام الدولي هو أقدس شرف عرفه التاريخ ، وأن القواعد التي وضعها الإسلام الدولي لصيانة هذا الشرف وحفظه أرسخ القواعد وأثبتها.
فالإسلام الذي يقول في المحافظة على التعهدات وأداء الالتزامات: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الاسراء:34) ، ويقول: (إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4) , ويقول: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) (التوبة:7) ، ويقول في إكرام اللاجئين وحسن جوار المستجير: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة:6) ، وهذا بالمشركين فكيف بالكتابيين؟
فالإسلام الذي يضع هذه القواعد ويسلك بأتباعه هذه الأساليب: يجب أن يعتبره الغربيون ضمانة أخرى ، تضمن لهم . نقول إنه من خير أوربا نفسها أن تسودها النظريات السديدة في معاملات دولها بعضها لبعض، فذلك خير لهم وأبقى .
أصول النهضة في الشرق غير الغرب
يا صاحب ...
من الأسباب التي دعت بعض الأمم الشرقية إلى الانحراف عن الإسلام واختيار تقليد الغرب دراسة قادتها للنهضة واقتناعهم بأنها لم تقم إلا على تحطيم الدين وهدم الكنائس , والتخلص من سلطة البابوية وإلجام القساوسة ورجال الكهنوت , والقضاء على كل مظاهر السلطة الدينية في الأمة , وفصل الدين عن سياسة الدولة العامة فصلا تاما , وذلك إن صح في الأمم الغربية فلا يصح أبدا بالأمم الإسلامية , لأن طبيعة التعاليم الإسلامية غير طبيعة تعاليم أي دين آخر , وسلطة رجال الدين المسلمين محصورة محدودة لا تملك تغيير الأوضاع ولا قلب النظم , مما جعل القواعد الأساسية في الإسلام على مر القرون, تساير العصور وتدعو إلى الرقي و تعضد العلم وتحمي العلماء .
فما كان هناك لا يصح أن يكون هنا , وتلك بحوث واسعة وضعت فيها الكتب الكثيرة , ومهمتنا الآن أن نلم بالموضوع إلمامة قصيرة من باب التذكرة والقضاء على الشبهات , ونحن على يقين من أن كل منصف معنا في هذه القاعدة , وعلى ذلك فلا يجوز أبدا أن يكون هذا الشعور رائدنا في نهضتنا الجديدة , التي يجب أن ترتكز أول ما ترتكز على دعائم قوية من الخلق الفاضل والعلم الغزير والقوة السابغة , وهو ما يأمر به الإسلام .
رجال الدين غير الدين
ومن المبررات التي اتخذها بعض الذين سلكوا سبيل الغربيين , أنهم أخذوا يشهرون بمسلك رجال الدين المسلمين من حيث موقفهم المناوئ للنهضة الوطنية , وتجنيهم على الوطنيين وممالأتهم للغاصبين وإيثارهم المنافع الخاصة والمطامع الدنيوية على مصلحة البلد والأمة , وذلك إن صح فهو ضعف من رجال الدين أنفسهم لا في الدين ذاته , وهل يأمر الدين بهذا؟ , وهل يمليه سيرة الأجلاء الأفاضل من علماء الأمة الإسلامية الذين كانوا يقتحمون على الملوك والأمراء أبوابهم وسدودهم , فيقرعونهم ويأمرونهم وينهونهم ويرفضون أعطياتهم ويبيّنون لهم الحق ويتقدمون إليهم بمطالب الأمة , بل ويحملون السلاح في وجوه الجور والظلم , وما نسي التاريخ بعد كتيبة الفقهاء في صف ابن الأشعث في شرق الدولة الإسلامية , ولا ثورة القاضي بن يحيى الليثي المالكي في غربها .
هذه تعاليم الدين وهذا ماضي رجاله من فقهاء المسلمين فهل فيه شيء من هذا الذي يزعمون؟ وهل من الإنصاف أن يتحمل الدين تبعة رجال انحرفوا عنه؟
وعلى هذه المزاعم إن صحت في قوم فليست صحيحة للجميع , وإن وقعت لظرف خاص فليست تسار كل الظروف, وهذا تاريخ النهضات الحديثة في الشرق حافل بمواقف رجال الدين المسلمين في كل أمة من الأمم , وما موقف الأزهر في مصر والمجلس الأعلى في سوريا الجنوبية (فلسطين) وسوريا الشمالية (لبنان) ومولانا أبي الكلام وإخوانه من جلة العلماء الهند وزعماء المسلمين في إندونيسيا بمنسي ولا ببعيد , فتلك إذاً مزاعم يجب ألا تتخذ ذريعة لتحويل الأمة عن دينها باسم الوطنية المجردة , أو ليس الأنفع للأمة أن تصلح رجال الدين وتصطلح عليهم بدلا من أن تقف منهم الموقف المبيد .
على إن هذه التعبيرات التي سرت إلينا تقليدا ومنها (رجال الدين) لا تنطبق ولا تتفق مع عرفنا , فإنها إن كانت مع الغرب خاصة (بالأكليروس) , فأنها في العرف الإسلامي تشمل كل مسلم , فالمسلمون جميعا من أصغرهم لأكبرهم رجال دين .
خطوة جريئة ولكنها موفقة
يا صاحب ...
بعد كل ما تقدم لا عذر لنا إن جانبنا طريق الحق : طريق الإسلام , واتبعنا طريق الشهوات والزخارف : طرق أوربا , وفي طريق أوربا زينة وبهرج , وفيه لذائذ وترف , وفيه تحلل وإباحية , وفيه ما تهوى الأنفس من متعة , وكل ذلك إلى النفس حبيب وقد قال تعالى :
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (آل عمران:14).
ولكن طريق الإسلام عزة ومنعة , وحق وقوة , وبركة واستقامة , وثبات وفضيلة ونبل , فاسلكوها بالأمة وفقكم الله :
(قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران:15) .
وإنما أهلك الأمم الترف , وإنما زلزلت أوربا المتع والمطامع :
(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الاسراء:16) .
وإن الله تعالى قد أرسل رسوله رحمة للعالمين إلى يوم القيامة , وبعث معه كتابه الحق نورا وهدى إلى يوم القيامة , وإن زعامة الرسول صلى الله عليه وسلم باقية بسنته , وإن سلطان القرآن قوي بحجته , وإن الإنسانية صائرة إليهما لا محالة بعز عزيز أو بذل ذليل من قريب أو من بعيد حتى يتحقق قول الله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (الفتح:28).
فكونوا أول من يتقدم باسم رسول الله بقارورة الدواء من طب القرآن لاستنقاذ العالم المعذب المريض .
إنها خطوة جريئة ولكنها موفقة إن شاء الله تعالى والله غالب على أمره : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ , بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:4-5)
بعض خطوات الإصلاح العملي
يا صاحب ...
بعدما وضحنا ما يجب أن يسود الأمة في نهضتها الجديدة من شعور روحي , نحب أن نعرض ختاما لبعض هذه المظاهر والآثار العملية التي يجب أن يمليها هذا الشعور , وسنذكر هنا رؤوس موضوعات فقط ونحن نعلم تمام أن كل مطلب من هذه المطالب يحتاج إلى بحث فسيح واسع دقيق تتوافر فيه جهود الأخصائيين وكفايتهم , كما أننا نعلم أننا لم نستقص بعد كل حاجيات الأمة ومطالبها ومظاهر النهضة جميعا , ولسنا نعتقد أن تحقيق هذه المطالب من الهنات الهينات بحيث يتم في عشية أو ضحاها , كما أننا نعلم أن كثيرا منها أمامه من العقبات المتشعبة ما يحتاج إلى طول الأناة وعظيم الحكمة وماضي العزيمة , كل ذلك نعلمه ونقدره , ونعلم إلى جانبه أنه إذا صدق العزم وضح السبيل , وان الأمة القوية الإرادة إذا أخذت في سبيل الخير فهي لا بد واصلة إلى ما تريد إن شاء الله تعالى , فلتتوجهوا والله معكم , أما رؤوس مناحي الإصلاح المرتكز على الروح الإسلامي الصحيح فهي :
أولا : في الناحية السياسية والقضائية والإدارية:
1 – القضاء على الحزبية وتوجيه قوى الأمة السياسية في وجهة واحدة وصفّ واحد .
2 – إصلاح القانون حتى يتفق مع التشريع الإسلامي في كل فروعه .
3 – تقوية الجيش والإكثار من فرق الشباب وإلهاب حماستها على أسس من الجهاد الإسلامي.
4 – تقوية الروابط بين الأقطار الإسلامية جميعا , وبخاصة العربية منها تمهيدا للتفكير الجدي العملي في شأن الخلافة الضائعة.
5 – بث الروح الإسلامي في دواوين الحكومة بحيث يشعر الموظفون جميعا بأنهم مطالبون بتعاليم الإسلام .
6 – مراقبة سلوك الموظفين الشخصي وعدم الفصل بين الناحية الشخصية والناحية العملية .
7 – تقديم مواعيد العمل في الدواوين صيفا وشتاء حتى يعين ذلك على الفرائض ويقضي على السهر الكثير .
8 – القضاء على الرشوة والمحسوبية والاعتماد على الكفاية والمسوغات القانونية فقط.
9 – أن توزن كل أعمال الحكومة بميزان الأحكام والتعاليم الإسلامية , فتكون نظم الحفلات والدعوات والاجتماعات الرسمية والسجون والمستشفيات بحيث لا تصطدم بقاعدة بتعاليم الإسلام , وتكون الدوريات في الأعمال على تقسيم لا يتضارب مع أوقات الصلاة.
10 – استخدام الأزهريين في الوظائف العسكرية والإدارية وتدريبهم.
ثانيا : في الناحية الاجتماعية والعلمية :
1 - تعويد الشعب احترام الآداب العامة , ووضع إرشادات معززة بحماية القانون في ذلك الشأن , وتشديد العقوبات على الجرائم الأدبية .
2 - علاج قضية المرأة علاجا يجمع بين الرقى بها والمحافظة عليها وفق تعاليم الإسلام ، حتى لا تترك هذه القضية التي هي أهم قضايا الاجتماع تحت رحمة الأقلام والآراء الشاذة من المفرطين والمفرطين.
3 - القضاء على البغاء , بنوعيه السري والعلني , واعتبار الزنا مهما كانت ظروفه جريمة منكرة يجلد فاعلها .
4 - القضاء على القمار بكل أنواعه من ألعاب ويناصيب ومسابقات وأندية .
5 - محاربة الخمر كما تحارب المخدرات , وتحرمها وتخليص الأمة من شرورها .
6 - مقاومة التبرج والخلاعة وإرشاد السيدات إلى ما يجب أن يكون , والتشديد في ذلك بخاصة على المدرسات والتلميذات والطبيبات والطالبات ومن في حكمهن .
7 – إعادة النظر في مناهج تعليم البنات ووجوب التفريق بينها وبين مناهج تعليم الصبيان في كثير من مراحل التعليم .
8 – منع الاختلاط بين الطلبة والطالبات , واعتبار خلوة أي رجل بامرأة لا تحل له جريمة يؤاخذان بها .
9 - تشجيع الزواج و النسل بكل الوسائل المؤدية إلى ذلك , ووضع تشريع يحمي الأسرة ويحض عليها ويحل مشكلة الزواج .
10 - إغلاق الصالات والمراقص الخليعة وتحريم الرقص وما إلى ذلك .
11 - مراقبة دور التمثيل وأفلام السينما والتشديد في اختيار الروايات والأشرطة .
12 - تهذيب الأغاني واختيارها ومراقبتها والتشديد في ذلك .
13 - حسن اختيار ما يذاع أو يعرض على الأمة من برامج ومحاضرات وأغاني وموضوعات واستخدام الإذاعة والتلفاز في تربية وطنية خلقية فاضلة .
14 - مصادرة الروايات المثيرة والكتب المشككة المفسدة والصحف التي تعمل على إشاعة الفجور وتستغل الشهوات استغلالا فاحشا .
15 - تنظيم المصايف تنظيما يقضى على الفوضى والإباحية التي تذهب بالغرض الأساسي من الاصطياف .
16 - تحديد مواعيد افتتاح وإغلاق المقاهي العامة ومراقبة ما يشتغل به رواده وإرشادهم إلى ما ينفعهم وعدم السماح لها بهذا الوقت الطويل كله .
17 - استخدام هذه المقاهي في تعليم الأميين القراءة والكتابة ويساعد على ذلك هذا الشباب المتوثب من رجال التعليم الإلزامي والطلبة
18 - مقاومة العادات الضارة اقتصاديا أو خلقيا أو غير ذلك وتحويل تيارات الجماهير عنها إلى غيرها من العادات النافعة ، أو تهذيب نفسها تهذيبا يتفق مع المصلحة وذلك كعادات الأفراح والمآتم والموالد والزار والمواسم والأعياد وما إليها ، وتكون الحكومة قدوة صالحة في ذلك .
19 - اعتبار دعوة الحسبة ومؤاخذة من يثبت عليه مخالفة شئ من تعاليم الإسلام أو الاعتداء عليه ، كالإفطار في رمضان وترك الصلاة عمدا أو سب الدين وأمثال هذه الشؤون .
20 - ضم المدارس الإلزامية في القرى و المساجد وشمولها معا بالإصلاح التام من حيث الموظفين و النظافة وتمام الرعاية , حتى يتدرب الصغار على الصلاة ويتدرب الكبار على العلم.
21 - تقرير التعليم الديني مادة أساسية في كل المدارس على اختلاف أنواعها كل بحسبه وفى الجامعة أيضا.
22 - تشجيع تحفيظ القرآن في المكاتب العامة الحرة , وجعل حفظه شرطا في نيل الإجازات العلمية التي تتصل بالناحية الدينية واللغوية , مع تقرير حفظ بعضه في كل مدرسة.
23 - وضع سياسة ثابتة للتعليم ، تنهض به وترفع مستواه , وتوحد أنواعه المتحدة الأغراض و المقاصد , وتقرب بين الثقافات المختلفة في الأمة , وتجعل المرحلة الأولى من مراحله خاصة بتربية الروح الوطني الفاضل والخلق القويم .
24 - العناية باللغة العربية في كل مراحل التعليم وإفرادها في المراحل الأولى عن غيرها من اللغات الأجنبية .
25 - العناية بالتاريخ الإسلامي والتاريخ الوطني التربية الوطنية وتاريخ حضارة الإسلام.
26 – التفكير في الوسائل المناسبة لتوحيد الأزياء في الأمة تدريجيا.
27 - القضاء على الروح الأجنبية في البيوت من حيث اللغة والعادات والأزياء والمربيات والممرضات ..الخ ، وتصحيح ذلك وبخاصة في بيوت الطبقات الراقية .
28 - توجيه الصحافة توجيها صالحا وتشجيع المؤلفين والكاتبين على طرق الموضوعات الإسلامية الشرقية.
29 - العناية بشؤون الصحة العامة , من نشر الدعاية الصحية بمختلف الطرق والإكثار من المستشفيات والأطباء والعيادات المتنقلة وتسهيل سبل العلاج .
30 - العناية بشأن القرية من حيث نظامها ونظافتها وتنقية مياهها ووسائل الثقافة والراحة والتهذيب فيها.
ثالثا : في الناحية الاقتصادية :
1 – تنظيم الزكاة دخلا ومنصرفا بحسب تعاليم الشريعة السمحة , والاستعانة به في المشروعات الخيرية التي لابد منها كملاجئ العجزة والفقراء واليتامى وتقية الجيش .
2 – تحريم الربا وتنظيم المصارف تنظيما يؤدي إلى هذه الغاية , وتكون الحكومة قدوة في ذلك بإلغاء الفوائد في مشروعاتها الخاصة بها كبنك التسليف والسلف الصناعية وغيرها .
3 – تشجيع المشروعات الاقتصادية والإكثار منها , وتشغيل العاطلين من المواطنين فيها واستخلاص ما في أيدي الأجانب منها للناحية الوطنية البحتة.
4 – حماية الجمهور من عسف الشركات المحتكرة وإلزامها حدودها والحصول على كل منفعة ممكنة للجمهور.
5 – تحسين حال الموظفين الصغار برفع مرتباتهم واستبقاء علاواتهم ومكافأتهم وتقليل مرتبات الموظفين الكبار.
6 – حصر الوظائف وخصوصا الكثيرة منها , والاقتصار على الضروري , وتوزيع العمل على الموظفين توزيعا عادلا والتدقيق في ذلك.
7 – تشجيع الإرشاد الزراعي والصناعي والتجاري , والاهتمام بترقية الفلاح والصانع من الناحية الإنتاجية.
8 – العناية بشؤون العمال الفنية والاجتماعية , ورفع مستواهم في مختلف النواحي الحيوية .
9 – استغلال الموارد الطبيعية كالأرض البور والمناجم المهملة وغيرها.
10 – تقديم المشروعات الضرورية على الكماليات في الإنشاء والتنفيذ .
وبعد , فهذه رسالة الإخوان المسلمين , نتقدم بها, وإنا لنضع أنفسنا ومواهبنا وكل ما نملك تحت تصرف أي هيئة أو حكومة تريد أن تخطو بأمة إسلامية نحو الرقي والتقدم , نجيب النداء ونكون الفداء , ونرجو أن نكون قد أدينا بذلك أمانتنا وقلنا كلمتنا والدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم .
وحسبنا الله وكفى ... وسلام على عباده الذين اصطفى ...