سيد قطب .. نذكره ونحبه ونختلف معه ،د.عبد المنعم أبو الفتوح

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
سيد قطب .. نذكره ونحبه ونختلف معه ،د.عبد المنعم أبو الفتوح


بقلم : الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح

مقدمة

مائة عام وعام تمر على مولد الشهيد سيد قطب، الذي ولد في 9/10/1906م، صاحب "في ظلال القرآن" و"معالم فى الطريق" و"المستقبل لهذا الدين".. وأحد الروَّاد الكبار في الأدب العربي والفكر الإسلامي على السواء.

"التاريخ ليس هو الحوادث، إنما تفسير الحوادث، ومعرفة الروابط التي تجمع بين شتاتها، وتجعل منها وحدةً متماسكةَ الحلقات.. وفهم الحوادث وتفسيرها مرتبط بإدراك مقومات النفس البشرية؛ روحيةً وفكريةً وماديةً، وفهم مقومات الحياة الدنيا؛ غيبيةً وماديةً وأدبيةً..".

هذه الكلمات قالها سيد قطب رحمه الله، ولعلها تساعدنا نحن أيضًا بدورنا على فهم وتفسير كثير من المواقف والآراء لهذا الرجل الكبير، الذي توفاه الله شهيدًا يوم 20/8/1966م.

أحيانًا كثيرة أسأل نفسي: ماذا لو لم يكن سيد قطب على هذه الموهبة الأدبية العالية المرهفة، والتي شهد له بها الكافة، وكان فقط مفكرًا يتعامل مع الواقع تعامل المفكرين والفلاسفة.. أكان يذهب في آرائه إلى ما ذهب؟!

أو.. ماذا لو كان قد قدِّر له أن يذهب إلى العراق تلبيةً لدعوة رئيسها عبد السلام عارف بعد خروجه من السجن عام 1964م.. أما كان لهذه الرحلة إلى مجتمع جديد ومناخ جديد من أثر في تكوين رؤى وأفكار مختلفة، كما تكونت آراء وفتاوى مختلفة للشافعي - رحمه الله - حين رحل من العراق إلى مصر؟!!.

أو.. ماذا لو أمدَّ الله في عمره ووافق الرئيس عبد الناصر على تخفيض الحكم من الإعدام إلى السجن، كما طلب منه الكثيرون وقتها داخل مصر وخارجها.. أما كان الزمن وطول التفكر يمنحانه الفرصة للمراجعة وإعادة النظر فيما ذهب إليه من استنتاجات ومفاهيم؟! وهو ما حدث مع كثير من المفكرين في مراجعات عظيمة لما اعتقدوا في صوابه في فترات سابقة من حياتهم..؟! لكن الله سبحانه أراد له أن يكون شهيدًا، وهو سبحانه يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، وخلق كل شيء فقدره تقديرًا.

لا يشك أي منصف في أن سيد قطب- رحمه الله- رجل تجرد لدينه تجردًا مقدرًا، وأسلم وجهه لله وحده، وهو مؤمن تمامًا بقوة هذا الدين، وقدرته على إقامة الحياة الصحيحة في رحاب الاستخلاف وعمارة الأرض.. رجل وضع رأسه على كفه، وقدم روحه رخيصةً من أجل ما يؤمن به ويعتقده، قضى سنوات عمره الأخيرة سجينًا، يجلي الفكرة ويشرحها بقلمه وبيانه وأسلوبه، كرجل صاحب موهبة ومقدرة لم يختلف عليها أحد.

وحقيقة الأمر أن كتبه كانت ولا زالت تعطي قارئها دفعةً روحيةً ووجدانيةً عظيمةَ الأثر؛ لما بها من صدق وتجرد وحرارة وإخلاص، ولا بد لمن يريد أن يفهم سيد قطب أن يحيط بمراحل حياته وتطوره فيها؛ حتى يعرف حقيقة موقفه وقناعاته التي انتهى إليها.

أديبا لا فقيها

نفهم وندرك بوضوحٍ وجلاءٍ أن سيد قطب - رحمه الله - كان أديبًا شفافًا، ولم يكن فقيهًا ولا أصوليًّا، وحين يكتب الأديب لا يكون محددًا وقاطعًا في كلامه ولا مطلوب منه ذلك، بل يحلِّق في عالم النماذج والرموز والمثل باحثًا عن المعنى الأجمل والأغنى دائمًا، عكس الفقيه الذي لا مجال لأي لبس فيما يكتب ويقول، بل يجب أن يكون واضحًا ودقيقًا ومحددًا؛ حتى لا تلتبس آراؤه بعضها بعضًا فيَضِلَّ ويُِضِلّ.

إذا فهمنا هذه الخلفية واستوعبناها جيدًا ندرك أن ما كتبه سيد قطب كتبَه بعقل وقلب وضمير الأديب، الذي يحمل في كلماته المجاز والبلاغة وجمال العبارة وعدم المباشرة، حتى وهو يكتب ويفسر آيات القرآن الكريم، وحتى وهو يناقش المفاهيم والمصطلحات الإسلامية.

لا شك أن المرحلة الأهم في حياة سيد قطب هي مرحلة البحث في الإسلام والدعوة له، بوصفه عقيدةً ونظامًا للحياة، يقيم العدالة الاجتماعية، ويرفع الظلم والبؤس، ويرعى حقوق الفقراء والمستضعفين بالتشريع والتوجيه، وفي هذه الفترة - والتي أعقبت مجيئه من أمريكا - كان قد اختار الانضمام إلى دعوة الإخوان المسلمين؛ باعتبارها الكيان الفكري المنظَّم الذي يمكنه استيعاب أفكاره وآرائه في اتجاه الدعوة والإصلاح والتبشير بهذه القيم، وتسلَّم رئاسة قسم نشر الدعوة في الجماعة، وأشرف على تحرير مجلة (الدعوة) إلى أن سُجن، وكان السجن والتعذيب والمبالغة في الخصومة مما أثار حفيظته وألقى في روعه الكثير من الدهشة.

وطرح الكثير من الأسئلة الأولى عن طبيعة ما يحدث ويجري، وهو الأديب الرقراق الرهيف، والمفكر الذي لا يكف عن وضع علامات استفهام على كل شيء حوله؛ حتى يسكن فكره إلى فهم ما يدور، ولم تكن الخصومة السياسية كافيةً في حقيقة الأمر لتفسير كل هذه الدماء والأشلاء وألوان الاضطهاد والترويع التي يراها من حوله في الزنازين وغرف التحقيق!!

وقد ذكر أحد الإخوان المقربين منه وكان معتقلاً معه 1965م أن الأستاذ سيد قطب - عليه رحمة الله - قال له: إن الذي يمثل فكري هو كتبي الأخيرة: المعالم، والأجزاء الأخيرة من الظلال، وخصائص التصور الإسلامي ومقوماته، والإسلام ومشكلات الحضارة، وما صدر له وهو في السجن، أما الكتب القديمة فلا تمثل إلا تاريخًا لا أكثر؛ فقال له هذا الأخ: إذن أنت كالشافعي لك مذهبان: قديم وجديد، والذي تتمسك به هو الجديد؟! قال سيد رحمه الله: نعم، غيَّرت كما غيَّر الشافعي رضي الله عنه، ولكن الشافعي غيَّر في الفروع وأنا غيرت في الأصول!.

والحقيقة أنني أريد من خلال مقالي هذا أن أناقش موضوعين اهتمَّ بهما سيد قطب، وركَّز عليهما في كل كتاباته ودراساته، وشَغَلا الكثير من الباحثين والدارسين والكثير أيضًا من أبناء الحركة الإسلامية، وهما موضوع الحاكمية، وموضوع جاهلية المجتمعات.

الحاكمية عند سيد

فكرة الحاكمية أسيء فهمها كثيرًا، وحملت أكثر مما يراد منها فهمًا وتطبيقًا؛ فالحاكمية التي ركَّز عليها سيد قطب هي الحاكمية (التشريعية)، والتي مفهومها أن الله سبحانه هو المشرِّع لخلقه، وهو الذي يُحلّ لهم ويُحرِّم عليهم، وهذا ليس من ابتكار سيد قطب ولا حتى المودودي الذي اشتهر هو أيضًا بالكتابة في هذا الموضوع كثيرًا، بل هو أمر معلوم بالضرورة عند المسلمين جميعًا، وقرَّره علماء الأصول واتفق عليه أهل السنة جميعًا.

فالحاكمية التي قال بها سيد قطب والمودودي وجعلاها لله وحده لا تعني أن الله تعالى هو الذي يولي العلماء والأمراء، فيحكمون باسمه، بل المقصود بها (الحاكمية التشريعية) فحسب.

أما مصدر السلطة السياسية فهو للأمة.. الأمة هي التي تختار حكامها، وهي التي تحاسبهم وتراقبهم، بل وتعزلهم، وهذا الفهم عليه كثير من الضباب، ويصرُّ كثير من العلمانيين على تلبيس هذا الموضوع تلابيس خاطئةً؛ بغرض الوصول إلى النتيجة التي يريدونها من إقصاء الدين عن الحياة؛ فليس معنى الحاكمية الدعوة إلى دولة دينية على الإطلاق، بل هذا ما نفاه كل من سيد قطب والمودودي رحمهما الله، وهو ما أكده سيد قطب بوضوح حين قال: "ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم - هم علماء الدين - كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة كما كان الحال فيما يُعرف باسم الحكم الإلهي المقدس!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرَّره من شريعة مبينة".

والحاكمية - بهذا المعنى- لا تنفي أن يكون للبشر دور في التشريع أذِن به الله لهم؛ إنما هي تمنع أن يكون لهم استقلال وتفرد بالتشريع من دون الله، وهذا ما لا يقبله أي مسلم ولا يرضى به؛ كالتشريع في أمر العبادات والتشريع، الذي يحلُّ ما حرم الله ويحرم ما أحل الله، ويسقط ما فرض الله، أما التشريع فيما لا نص فيه أو في المصالح المرسلة؛ فهذا من حق المسلمين؛ ولهذا كانت نصوص الدين في غالب الأمر كليةً.. إجماليةً.. لا تخوض في التفاصيل المتغيرة بتغير الزمان والمكان والبشر، وتركت مساحة كبيرةً مما يسميه العلماء (الفراغ التشريعي) ليتاح للناس أن يشرعوا لأنفسهم ويملئوا هذا الفراغ التشريعي- الذي أفرغ قصدًا ورحمة- بما يناسبهم ويناسب تطور أمور حياتهم.

جاهلية المجتمعات

الموضوع الثاني هو فكرة (جاهلية المجتمعات) وهي الفكرة التي توسَّع واستطرد فيها رحمه الله إلى حدود محرجة، وإن من يقرأ الظلال والمعالم قراءةً كاملةً لا يسعه إلا أن يصل إلى حقيقة أن المجتمعات كلها قد أصبحت (جاهلية) جاهلية السلوك، وجاهلية العقيدة، وهو الكلام الذي يقرب صاحبه من فكرة (التكفير) بسهولة؛ حيث إن هذه المجتمعات لم ترضَ بحاكمية الله تعالى وأشركت معه آلهة أخرى، استوردت من عندها الأنظمة والقوانين والقيم والأفكار والمفاهيم، واستبدلوا بها شريعة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

لذلك وجب علينا أن نعرض (العقيدة) أولاً حتى يؤمن الناس بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً، وبالشريعة حاكمةً، مقدرًا أن الإيمان الحالي في نفوس الناس هو إيمان لفظي مجرد من تأكيدات الواقع، وهذا هو ما أشار إليه في كتابه (المعالم) فشبَّه مجتمعاتنا اليوم بمجتمع مكة في عهد الرسالة!! وعليه فالرسول لم يبدأ بالنظام والتشريع، بل بدأ بالعقيدة والتوحيد أولاً، كما رأى- عليه رحمة الله- أنه لا معنى في ظل هذا الفهم لما يطلق عليه تجديد الفقه الإسلامي، أو إحياء الاجتهاد، فلا فائدة على الإطلاق من ذلك كله ما دام المجتمع المسلم (غائبًا)؛ إذ يجب أن يقوم المجتمع المسلم أولاً ثم نجتهد له في حل مشكلاته في ضوء واقعنا الإسلامي!!

هذه المقاربة في تشخيص وفهم الواقع لم يقل بها أي من الدعاة والمصلحين من قبل، ناهيك عن الأستاذ البنا نفسه، والذي كان قد وضع أسس العمل الإسلامي على قاعدة أن المجتمع مسلم ينقصه بعض قيم وأخلاقيات الإسلام، وهذا دورنا وحقه علينا، ومن ثم كانت الدعوة، وأن الدولة مسلمة، ولكن عليها الاقتراب أكثر من الأحكام والتشريعات التي تقيم العدل والحرية والحياة الكريمة الآمنة لمواطنيها، ومن ثم كانت النصيحة الدائمة والتواجد القوي في المؤسسات التشريعية والرقابية والنقابية.

رأي سيد في الجهاد

أيضًا رأيه رحمه الله في (الجهاد) والذي دعا فيه إلى أن يعد المسلمون أنفسهم لقتال العالم كله!! حتى يُسلموا أو يعطوا الجزية، وحجته في ذلك آيات سورة (التوبة) وما سماه بعضهم (آية السيف) ولم يقف عند آيات كثيرة تقصر القتال على من يقاتلنا، وتمنعنا عمن لم يقاتلنا، بل ودعوتنا إلى البر والقسط مع المخالفين لنا إذا لم يقاتلونا في الدين، ولم يخرجونا من ديارنا، ولم يُظاهِروا على إخراجنا، كما تنص الآيات.. ويقول الشهيد- رحمه الله- في ذلك: "إننا لا نفرض على الناس عقيدتنا؛ إذ لا إكراه في الدين وإنما نفرض عليهم نظامنا وشريعتنا ليعيشوا في ظله وينعموا بعدله".

وهذا كلام يبدو غريبًا؛ إذ ماذا نقول للناس إذا رفضوا وقالوا: نحن أحرار في اختيار النظام الذي نرضاه لأنفسنا، فلماذا تفرضون علينا نظامكم بالقوة؟! هل نقاتلهم ونعلن عليهم الحرب؟! ثم كيف نرضى لهم اختيار عقيدتهم وفق قاعدة (لا إكراه في الدين) ونُكرههم على اتباع طرق وأساليب حياة محددة، وهو أمر لم يذهب إليه أحد من العلماء والفقهاء.. ناهيك عن أن التاريخ لم يرد فيه مثل ذلك.

كان الرجل - رحمه الله - مخلصًا غايةَ الإخلاص في مقاصده وتوجهاته، مأجورًا إن شاء الله في اجتهاده؛ لكون الإسلام كان مرجعه ومقصده، ليس هذا فحسب، بل ونحسب أن الرجل كان كله للإسلام، عاش للإسلام، ومات في سبيل الإسلام، فرضي الله عنه وأرضاه، وجمعنا به مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.. وغفر الله له ما نعتقد أنه أخطأ فيه، وله أجر المجتهدين الصادقين.. (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (الحشر: من الآية 10).

عضو مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين.

المصدر