صلاح النفوس هو صلاح الأمة
بقلم/ أ. جمعة أمين عبدالعزيز
مقدمة
كثُر الحديث عن الفساد والمُفسدين، وتسمع هذه الكلمة تتردد كثيرًا على الألسنة في مناحي الحياة المختلفة- الاقتصادية منها والاجتماعية، والتعليمية والسياسية-، وكلما زُرْت مكانًا أو قصدتَ مؤسسةً من المؤسسات سمعت قصصًا عن الفساد والمفسدين في هذه المؤسسة أو تلك، حتَّى وصل هذا الحال إلى المستشفيات والمدارس، بل الأندية والملاهي، إلى أماكن التثقيف والتعليم، وأصبحنا نرى وكأن مؤسسات الدولة- التي نعيش فيها- كعصا "سليمان" ظاهرها القوة، وباطنها الوهن والضعف، وهذا لونٌ من التشاؤوم المذموم، "إذ إن الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة"، كما أخبرنا بذلك المعصوم- عليه الصلاة والسلام-، فهو غير منقطع ولا ممنوع، وهيهات أن يجتمع الخير والشر في مكان واحد، إذ لابدَّ أن يوجد رجال يصلحون ما أفسده المفسدون.
والغريب أن تسمع أن هناك صيحات تنادي بالإصلاح هنا وهناك، لكنها صرخات في واد سحيق، لا تسمع إلا صداها الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، لأنها دعوات ذات بدايات "إسبرينية" تُزيل ألم الصداع إلى حين، ولكن أصل الداء باقٍ؛ لأنه لم يكن العلاج السليم، كما أنه لم يتصدَّ له الطبيب الماهر الحاذق الذي يُجيد التشخيص ويحدد الجرعات ويبدأ العلاج من بداياته الصحيحة.
من أين نبدأ
لقد بُحَّ صوتُنا، وأصبح حديثنا عن العلاج معادًا ومكررًا، وليست العبرة بتحديد الدواء السليم، ولكن الأهم استعداد المريض لتعاطيه والتعامل معه كما نصح به الطبيب، والحكيم الذي حدَّد الدواء عندنا هو الذي أعطى كل شيء خلْقَه ثم هدى، وهو الذي أعلم بمن خلَق؟ بل أعلم بعلاج القلوب والصدور قبل الأجساد والأبدان، ومن هنا فإن ما يدلُّنا عليه هو الأقدر والأرشد والأصلح، وهو سبحانه القائل: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية11).
إن صلاح النفوس هو صلاح الأمة، وتغيير النفوس هو تغيير الأمة، حتى إن الرسول- صلى الله عليه وسلم- حصر أفضل العمل في حسن الخلق، فقد روى أن رجلاً أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- من قِبل وجهه فقال: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: حسن الخلق، ثم أتاه عن يمينه فقال: أي العمل أفضل؟ قال: حسن الخلق، ثم أتاه عن شماله فقال: أي العمل أفضل؟ قال: حسن الخلق، ثم أتاه من خلفه فقال: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ فالتفت إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: ما لَك لا تفقه؟! هو ألا تغضَب إن استطعت!.
فما أحوجَنَا اليوم إلى أن نقول لمن ينازعنا الأمر، ويسخر مما نقول حين ندعو إلى بداية الإصلاح التي ننادي أفراد المجتمع إليها ألا وهي صلاح النفوس، ونقول لكل منهم، مالك لا تفْقَه، فليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي، ليت قومي يعلمون وأنا أناديهم، (وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) (غافر:41)، ليت قومي يفقهون لمَ وصفَ ربُّنا رسولَنا الكريم بهذه الصفات الأخلاقية (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4)؟!، مع أنه كان أعلمَ مَنْ في الأرض، وعلَّمه الله ما لم يكن يعلم، ليت قومي يبدأون هذه البداية المباركة والدواءَ الناجع، والذي يقضي على كل فساد، قبل أن يعلو الخبث، ويتحقق ما قالته السيدة عائشة- رضي الله عنها- حين سئِلت: أنهلك وفينا الصالحون؟ قالت: "إذا علا الخبث".
الدعامة القوية
إن حسن الخلق هو الدعامة القوية في بناء الأمم والأفراد والجماعات، فكَمْ انهارت حضارات من سوء الخلُق!! (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت:40).
إنك لن تستطيع أن تحقق حضارة الإسلام إلاَّ إذا ذُقت لِحُسن الخلق طعمًا، فالفرق بين حضارتنا وحضارة الآخرين هي الأخلاق والقيم، هي المبادئ والمُثل، هي العقائد والشرائع القائمة على حسن الخلق، والتي تنهَى عن الفحشاء والمنكر، وتأمر بكل معروف، وتنهى عن كل منكر، هي التي تحلّ الحلال، وتحرم الحرام، هي التي تجعلك لا تقول للناس إلا حسنًا، هي التي تصبغك في قولك وفعلك، في حركاتك وسكناتك، في حبك وبغضك، في أخذك وتركك.. حسن الخلق، فإذا بالمجتمع الذي يتحلَّى أفرادُه بهذه الأخلاق يُشيِّد حضارةَ الأخلاق لا حضارة المتع والشهوات، وإذا بالمسلم إنسان يبحث عن الحقيقة التي دلَّه عليها محمد- صلى الله عليه وسلم-، ومُواطِنٌ يَنشد الكرامة لأهله ووطنه وبني جنسه في خير مجتمع لخير أمة، ينادي فيه كل مسلم... (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام:162-163).
إنَّ حُسن الخلق يظهر أثرُه في الأقوال والأعمال وليس كلامًا يقال، ولا شعارات تُرفع، فما أكثرَ الحديث عن الأخلاق الحسنة في الكتب، بل وتسمعه في المحاضرات من المُلحد والشيوعي والعلماني والرأسمالي، بل والبوذي وكل من يحمل عقيدةً فاسدةً أو صالحةً يصدع رأسك بالمطالبة بحسن الخلق، لدرجة أنك تسمعه من شارب الخمر، ولاعب الميسر، وآكل الربا، ومقترف الزّنا، وتسمعه من اللّصّ والقاتل وقاطع الطريق، من النباش والطرّار، من الجبار والمتصلت على رقاب الخلق، تسمع من هؤلاء جميعًا حديثًا عن ضرورة حسن الخلق... ولك أن تتعجَّب إذ لا أثَر لما تسمع!!
ما الذي نقصده بحسن الخلق؟
إننا نقصد بحسن الخلق الإحساس به في القلوب تربيةً؛ حتى يصبح الأساسَ العمليَّ عند الفرد المسلم، فيجعله الحد الفاصل الذي لا يتخطَّاه إلى غيره، حتى ولو تحقق بغيره التقدُّم المادي، فلسنا من الذين يقولون "الغاية تبرر الوسيلة"؛ لأن غايتنا فاضلة، وأهدافنا شريفة، ووسائلنا نظيفة، وحضارتنا أخلاقية.
إن المجتمع إذا تحلَّى أفرادُه بالأخلاق الفاضلة يصبِح مجتمعًا فاضلاً، لا يعكِّر صفوَه الخطوبُ والأحداث، يعيش كل فرد فيه مطمئنَّ البال، لا يشغله أمن أولاده ولا أسرته ولا ماله؛ لأن الذئب في هذا المجتمع يرعى الغنم ولا يأكلها، فالكل هادئ النفس قوي العزيمة، والإيمان لا يقف خيرُه عند حدوده، بل يتعدَّى خيرُه إلى غَيره، فيؤْثِر على نفسه ولو كان به خصاصة، هذه الروح هي في الواقع لبُّ الإنسانية وما تَنْشده بحقّ.
وهكذا يسبق ترتيبَ المجتمع وتنظيمَه وتخطيطَه ودستورَه وحدةُ المشاعر، التي تفيض بها عقيدةُ التوحيد رقّةً وحبًّا، وتزيدها العبادة صلةً وعمقًا، وتجمِّلُها مكارمُ الأخلاق إخلاصًا وتضحيةً وإيثارًا، وبهذا كله ساد المسلمون وانتشروا في مشارق الأرض ومغاربها، بعد أن راعُوا أمورًا ثلاثةً سبقت إقامتهم لحضارتهم الإسلامية:
أولاً: إصلاح القلوب.
ثانيًا: الشعور بالمسئولية؛ حتى يكون القلب حسّاسًا كميزان الذهب.
ثالثًا: المظاهر العملية، وهي أن تتجمَّل بمكارم الأخلاق؛ لتتحقق وحدة المشاعر بين الأفراد.
أفقهْتَ لِمَ كانت (بروتوكولات حكماء صهيون) تركِّز على ضَيَاع أخلاق المسلمين؟!
أفهِمت لِمَ كان مؤتَمَر بكين ودعوته إلى الأسرة المثالية وغيرها من الدعوات الهدَّامة؟!
إنَّ المؤمن كيِّسٌ فطِنٌ... فكنْ على حذَرٍ وحافظ على الأخلاق في خُويِّصَة نفسِكَ وأهلك، وادْعُ
ليها غيرَك لتبْني الجدارَ الواقي، الذي يحفظ هويّتكَ وحضارَتك.
- المصدر: إخوان أون لين