علي أحمد باكثير شهيد الفكر الإسلامي.. ورائد المسرح الإسلامي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
علي أحمد باكثير شهيد الفكر الإسلامي.. ورائد المسرح الإسلامي

المستشار عبد الله العقيل

(1328 ـ 1389هـ =1910 ـ 1969م)

توطئة:

استعرتُ هذا العنوان من أخي الدكتور محمد أبوبكر حميد، الذي يمثِّل قمَّة الوفاء لـ(باكثير)، وتراثه وآثاره، وهذا العنوان ينطبق تمام الانطباق على أديبنا الكبير علي أحمد باكثير، الذي أحببته وشغفتُ بأدبه وأنا في مقتبل عمري في المرحلة الثانوية، ثم ازددتُ به تعلقاً حين سافرت إلى مصر سنة 1949م للدراسة الجامعية، وكان الأستاذ باكثير مقيماً فيها، كما كنتُ حريصاً على قراءة مسرحياته ورواياته، التي كان ينشرها في جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية التي صدرت سنة 1946م، ثم توقفت أواخر سنة 1948م حين حُـلَّت جماعة الإخوان المسلمين في 8/12/1948م، وأوقفت صحفها ومجلاتها وصُودرت دورها وممتلكاتها، واغتيل المرشد العام للإخـوان المسلمين الإمام حسن البنا في 12/2/1949م.

وقد أقبلتُ على قراءة قصصه ورواياته ومسرحياته وأشعاره، وإنني لأذكر جيداً كيف استغرقتُ في الضحك بصوت عال حين قراءتي مسرحية (أبودلامة: مضحك الخليفة) لطرافتها وجمال تأثيرها، وكان ذلك أواخر سنة 1953م في بلدة الزبير، في العراق.

كما أذكر جيداً كيف بكيتُ بحرقة، وانهمرت الدموع بغزارة، وعلا النشيج وأنا أقرأ مسرحية (ملحمة عمر) التي شدتني إلى شخصية الفاروق، ومواقفه ومسيرته وذلك سنة 1973م بالكويت.

إن هذا الأديب الكبير الذي يملك ناصية البيان، وينتزع القارئ من واقعه، ليعيش في ظلال قصصه ومسرحياته ورواياته، لهو كاتب متمكِّن، وصاحب أسلوب رائع، وملكة فنية مبدعة، تأسر قارئيها، وتستحوذ على مشاعرهم وعواطفهم.

إن الأستاذ باكثير عاش حياته صادقاً مع نفسه، معبراً عن آماله وطموحاته، مسخراً كل طاقاته الفنية، وإبداعاته الجمالية، وسحر بيانه، لخدمة فكرته وعقيدته، وعلاج مشكلات أمته، ووصف واقعها المعاصر، وأمجاد ماضيها العاطر، ليعرف الجيل الحاضر موقعه من الحياة، ورسالته فيها، ودوره المستقبلي الذي يجب أن يضطلع بمسؤوليته، بكل اقتدار وجد، وعزم وتصميم، فالحياة الكريمة، والبيئة الفاضلة، تتطلب وجود نوع من الرجال، يعرفون حقيقتهم، وموقعهم ودورهم ورسالتهم في الحياة.

مولده ونشأته ومسيرته:

ولد الأستاذ الأديب علي أحمد باكثير سنة 1328هـ 1910م، في مدينة (سورابايا) بإندونيسيا، من أبوين حضرميين عربيين، ولما بلغ التاسعة من عمره، أرسله والده إلى موطنه الأصلي في (حضرموت) ليتقن اللغة العربية، والعلوم والدين، على أيدي مؤدبين عرب يلقنونه حب العربية، ويسقونه عشق الإسلام، كعامة الحضارمة في المهجر في إرسال أبنائهم إلى أوطانهم الأصلية، وقد ظهر نبوغه مبكراً، واتسعت مداركه وثقافته منذ صباه، ونظم الشعر، وهو في سن الثالثة عشرة، وأصدر سنة 1350هـ 1930م مجلة باسم (التهذيب) في حضرموت، استمرت لمدة عام، وكان متأثراً بالمدرسة السلفية الحديثة في مصر، متمثلة في السيد محمد رشيد رضا، والسيد محب الدين الخطيب، ومجلته (الفتح)، وقد تلقى رسالة منه، وأخرى من السيد محمد رشيد رضا يحثّانه على السفر إلى مصر.

وفي سنة 1352هـ 1932م، فقد زوجته الشابة بعد مرض عضال أصابها، عانت معه الكثير من الآلام المبرّحة، فحزن حزناً شديداً على فراقها، وضاقت به الأيام، فلم يحتمل البقاء في حضرموت، فسافر إلى عدن، وبقي فيها قرابة العام، ثم غادرها إلى المملكة العربية السعودية، وبقي فيها قرابة العام أيضاً، في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والطائف، وجدة، وهناك أصدر باكورة مسرحياته وهي: (همَّام في بلاد الأحقاف) كما أصدر ديوان شعر.

وفي سنة 1934م سافر إلى مصر، والتحق بكلية الآداب (قسم اللغة الإنجليزية)، وتخرج سنة 1939م، ثم حصل على دبلوم التربية بكلية المعلمين سنة 1940م، وعمل مدرساً للغة الإنجليزية في المدارس الثانوية لمدة أربعة عشر عاماً، وكان يكتب في مجلات: (الرسالة، والثقافة، والأسبوع، وأبوللو، والرسالة الجديدة، والفتح، والمعرفة، والوادي).

وفي سنة 1951م حصل على الجنسية المصرية، وشارك في رحلات ثقافية وعلمية مع البعثات إلى فرنسا، والاتحاد السوفييتي سنة 1956م، كما شارك مع الأدباء المصريين في مؤتمر كتاب آسيا وإفريقيا الذي عقد في مدينة «طشقند» سنة 1958م.

ولقد سعدت بلقائه في الكويت عند الأخ عبدالعزيز السيسي بمكتبة «دار البيان»، وقد اتفق معه على طباعة (ملحمة عمر) وغيرها من مؤلفاته، وقد تمّ ذلك، واشـترينـا لوزارة الأوقـاف أعـداداً كـبيرة مـن هـذه الملحمة وزعـت فـي أنحاء العالم الإسلامي من خلال المراكز والجمعيات والمؤسسات الإسلامية.

انصرف الأستاذ باكثير عن الشعر، وتوجّه لكتابة المسرحية، ومن أشهر مسرحياته: (سر الحاكم بأمر الله، جحا، سر شهر زاد)، ومن أشهر رواياته: (الثائر الأحمر) التي تسببت في نقمة الشيوعيين عليه، وحاربوه حرباً شعواء لا هوادة فيها، عندما كانوا متسلطين على أجهزة الإعلام المصرية، ومن رواياته: (سلاَّمة القس) و(وا إسلاماه)، وغيرهما، وقد بلغت أعماله المسرحية والروائية أكثر من سبعين عملاً، كما أن له شعراً كثيراً لم يطبع بعد، باستثناء ما قام به الدكتور محمد أبو بكر حميد من إصدار ديوان: (أزهار الرّبى في شعر الصبا) الذي يضم أشعار باكثير في حضرموت والسعودية قبل سنة 1932م.

وله أعمال مخطوطة كثيرة يواصل الدكتور محمد أبوبكر حميد جهوده المباركة لجمعها، وتهيئتها للطباعة بمساعدة الغيورين على تراث باكثير من العرب والمسلمين.

ولقد حصل الأستاذ باكثير على جوائز كثيرة،، منها: جائزة الدولة التشجيعية لسنة 1962م عن مسرحية (هاروت وماروت)، كما حصل على وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى، وكذلك حصل على وسام عيد المعلم، ووسام الشعر، وكان عضواً في لجنة الشعر، ولجنة القصة، بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية.

ونظراً لما يتمتّع به الأستاذ باكثير من تفوّق أدبي في ميدان الرواية والمسرحية والشعر والأدب، ولأنه من الأدباء الملتزمين بمنهج الإسلام، فقد تعرّض لحملة شرسة من الاضطهاد والتعتيم في حرب غير معلنة ضده من العناصر اليسارية والماركسية في الأجهزة الثقافية، وخاصة المسرح، وذلك في السنوات العشر الأخيرة من حياته.

نماذج من شعره:

يقول في قصيدة بعنوان: (صوت الشهيد):

فيم احتشادكم هذا لتأبيني

أنتم أحق بتأبين الورى دوني

فما الشهادة إلا ميتة كرمت

عن ميتة الداء أو ميتة الهونِ

إني نزلتُ بدار الحق في رغد

بين الخمائل فيها والرياحين

في جنة ما بها خوف ولا حزن

لولا رثاء لحال العرب يشجيني

قامت عليهم وحوش البغي قاطبة

من ثعلبان ومن دب وتنين

فيم انتظاركمُ والحق حقكمُ

يُعدى عليه ليعطى للملاعين

لا تطلبوه احتكاماً في مجامعهم

بل استردوه قسراً في الميادين

والمسلمون جميعاً من ورائكمُ

بإندونسيا وباكستان والصين

لا تندبوني فإني لم أمت جزعاً

فإن علمتم عليّ الذل فابكوني

وإن تريدوا لوجه الحق تكرمتي

فابغوا الشهادة للدنيا وللدين

فابن الوليد على اليرموك يرقبكم

وليث أيوب يرعاكم بحطين

وقال:

ليت لي مليون ساق

أنبري رقصاً بها في المعمعه

ثم لا تسلم منها واحدة

لترى نعشي والنصر معه

وقال:

الصلح للعرب لحدٌ يُقبرون به

وللعدا هو مهد يكفل الولدا

إياكمو أن تزلّوا زلة عمماً

فتفتحوا لهم الأبواب والسُّددا

إذن تبيدوا على أقدامهم ضعة

إذن يعيشوا على أشلائنا رغدا

وقال:

وددتُ لو اني في فلسطين ثائرٌ

لأهلي تنعاني الظبا لا القصائدُ

أو اني في اسكندرونة شاهر

حسامي عليه من دم الوحش جاسدُ

وفي برقة أو في الجزائر قاصم

ظهور العدا والباترات رواعدُ

فتلك بلادي لا أفرّق بينها

لها طارف في مجد قومي وتالدُ

ثمانون مليوناً يباهون كلهم

بخير لغات الأرض والذكر شاهدُ

وقال:

ومن تجرد عن دين وعن خلق

فليس يرفعه علم ولا أدبُ

والعلم والدين والأخلاق إن جُمعت

لأمة بلغوا في المجد ما طلبوا

وقد حدثني زميلي في الدراسة بمصر الأخ التـركي الداعيـة محمد أمين سراج أن الأستاذ باكثير حين زار إستانبول ورأى مساجـدها وطراز قبابها ومآذنها، استحضر في ذهنه مواصفات الشعب التركي المسلم المتمثّلة في الجهاد لنصرة الإسلام، فقال بيتين من الـشعر في وصف القباب كأنها الخوذات على رؤوس المجاهدين، وفي وصف المآذن كأنها الرماح في صدور الكافرين.

كأن قبابها خوذات صلب

وُضعن على رؤوس مجاهدينا

ومن ينظر مآذنها يجدها

رماحاً في صدور الكافرينا

أهم مؤلفاته:

همّام في بلاد الأحقاف، نظم البردة «شعر»، شيلوك الجديد، شعب الله المختار، إله إسرائيل، التوراة الضائعة، أخناتون ونفرتيتي، روميو وجولييت، قصر الهودج، الشيماء شادية الإسلام، فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية (محاضرات ألقاها في المعهد العالي التابع للجامعة العربية بالقاهرة)، أبودلامة..

مضحك الخليفة، الفرعون الموعود، عودة الفردوس، سر الحاكم بأمر الله، مسمار جحا، مسرح السياسة، إمبراطورية في المزاد، الثائر الأحمر (تمثيلية إذاعية)، دار ابن لقمان، سلاّمة القس، واإسلاماه، ليلة النهر، السلسلة والغفران، الدكتور حازم، مأساة أوديب، سر شهر زاد، سيرة شجاع، الدنيا فوضى، أوزوريس، قطط وفيران، هاروت وماروت، جلفدان هانم، الفلاح الفصيح، حبل الغسيل، هكذا لقي الله عمر، الزعيم الأوحد، الدودة والثعبان، الملحمة الإسلامية الكبرى (عمر) في 18 جزءاً، أزهار الربى في شعر الصبا «ديوان شعر»، أحلام نابليون، باكورة الشعر (ديوان شعر)، مأساة زينب، حرب البسوس، الوطن الأكبر، قضية أهل الربع، فاوست الجديد، شلبية، عرائس وعرسان، لباس العفة، الحجازيات (ديوان شعر)، عاشق من حضرموت، العدنيات (ديوان شعر)...

وقد مُثِّلت بعض رواياته في السينما، كما مُثِّلت بعض مسرحياته على المسرح، «والثائر الأحمر» تمثيلية إذاعية.

ويقول الدكتور محمد أبو بكر حميد: إنه عثر في تراث باكثير على تمثيليات سياسية، وإسلامية قصيرة نشرت في مجلة رابطة أدباء الشـام الألكترونية، بإشـراف عبد الله الطنطاوي، وكتابات سياسية، وخمس مسرحيات شعرية مجهولة، وترجمات لأربع مسرحيات نقلها بنفسه إلى الإنجليزية، ومخطوطة عنوانها (شعراء حضرموت) وقصائد تكفي لطباعة ثلاثة دواوين، ومذكرات شخصية عن رحلاته إلى الاتحاد السوفييتي وأوروبا.

ويعكف الأستاذ الدكتور محمد أبوبكر حميد على تراث باكثير، فقد عمل على تحقيق وإعداد الكثير منه مثل: (ديوان صدى عدن، وأنفاس الحجاز) و(على أحمد باكثير يتحدث)، و(في نصرة الملك عبدالعزيز)، و(ولا غالب إلا الله)، و(شخصيات بلا ظلال)، و(أصوات بلا صدى)، و(حركات التجديد في المسرح العالمي الحديث) وغيرها كثير.

وللأستاذ أبي بكر حميد كتاب: (علي أحمد باكثير في مرآة عصره) يتضمن أقوال بعض معاصري باكثير فيه.

إن جهود الدكتور محمد أبوبكر حميد تحسب له في ميـزان الوفـاء للرجـال، الرجـال أمثـال باكـثير الذين يريـد خصوم الإسـلام من الملاحدة والشيـوعيين وعملاء الغرب وكتاب المارينز، إسدال الستار على جهودهم، وحجب تراثهم عن الجماهير، مستغلين مواقعهم في الإعلام المسموع والمنشور والمشاهد، وإبراز الأقزام المهازيل من الذين يرضعون لبان أسيادهم المستشرقين والمستعمرين، ويكررون مقولاتهم كالببغاوات التي تهرف ولا تعرف.

من أقواله:

«... في التاريخ العربي والإسلامي مواقف عظيمة رائعة ينبغي أن يعيها الجيل العربي الحاضر، حين تصوّر في صورة درامية مؤثّرة، وشكسبير كتب كثيراً من المسرحيات التاريخية التي استلهم فيها تاريخ بلاده، والمعروف أن التاريخ يربط حاضر الأمة بماضيها، ولا حياة لأمة مبتورة الصلة بماضيها.

لقد عالجتُ القضايا العربية كلها تقريباً من خلال مسرحياتي، واهتممت بقضية فلسطين بالذات، لأنها قضية العرب الكبرى، وكتبتُ أول مسرحية عن فلسطين سنة 1944م، وهي (شيلوك الجديد) قبل النكبة، وبعدها (شعب الله المختار) و(إله إسرائيل)، وأخيراً (التوراة الضائعة) بعد نكسة 5 حزيران سنة 1967م.

إن ما صدر من مؤلفات عن القضية الفلسطينية أنا راض عن القليل منها، وإن كنتُ أعتقد على العموم أنها جميعاً دون مستوى القضية بكثير، وما زالت القضية الفلسطينية تنتظر العمل الأدبي الذي يتكافأ مع جلالها وخطرها وأهميتها بالنسبة لمستقبل الأمة العربية والإسلامية. إن الرسالة التي يحملها الشعراء والأدباء هي أن يعمّقوا إحساس الأمة بالمأساة الفلسطينية ويذكروها بأنها قضية حياة أو موت، قضية مصير الأمة العربية والإسلامية كلها».

وكان باكثير يردد عبارته المشهورة:

«لأن أكون راعي غنم في حضرموت، خير لي من الصمت المميت في القاهرة».

قالوا عنه:

قال عنه الأستاذ عبد الله الطنطاوي: «إني لأفخر أني أول من كتب بحثاً في مجلة (الآداب) البيروتية، قبيل وفاة باكثير بشهرين، أثبتُّ فيه أن باكثير هو رائد شعر التفعيلة بلا منازع، وأني أول من أصدر كتاباً عن باكثير بعنوان: (دراسات في أدب باكثير) عام 1975م.

رحم الله باكثير، فقد كان رائد الأدب الإسلامي، وعملاقه، ولم يأت من بعده من سد مسده في حومة الأدب الإسلامي، بأجناسه الشتى، وخاصة في الرواية والمسرح، وكل النقاد مقصّرون في تقديم أدبه الأصيل إلى الناس، ليطرد الأدب الهزيل الذي يملأ الساحة بترهاته».

ويقول الأستاذ الكبير أحمد عبدالغفور عطار:

«... أما علي أحمد باكثير، فهذا الإنسان نموذج رائع في مكارم الأخلاق، ومن ناحية العقيدة.. فالرجل غلبت عليه الشهرة في الرواية والشعر والفن الأدبي، وغلب على عمله التقيد بالتوحيد والفقه، وكان الرجل شديد التمسك بالسنة المحمدية، كما أنه شديد التدين، حتى إنه يكون جالساً في المقهى، فإذا جاء المغرب بادر إلى الصلاة لأنه يعرف أن وقت المغرب ضيّق، ثم يعود لمتابعة عمله الأدبي».

ويقول عنه الأديب د. نجيب الكيلاني:

«... لقد كان الأستاذ علي أحمد باكثير يتميز بخطّه الإسلامي، وفكره السياسي المبلور، وتعبيره الواعي من خلال مسرحياته وقصصه عن قضايا إسلامية معاصرة، ومشاكل اجتماعية شائعة، ويستلهم التاريخ في الكثير من قصصه ومسرحياته.

ثم كانت القضية الحاسمة «قضية الشيوعية».. إن علي أحمد باكثير المسلم المؤمن بقيم السماء يرفض بشدة تلك التيارات الملحدة الزاحفة نحو ديارنا، وباكثير الابن البار للحضارة الإسلامية، تلك التي غذّته بلبانها، وأمدته بحكمتها وصدقها وشموخها، لم يكن ليقف مكتوف اليدين، إزاء ذلك الخطر الذي يهدد أغلى ما يؤمن به من مبادئ وسلوك وأفكار، فكان كتابه «الثائر الأحمر» صيحة أدبية رفيعة في وجه الغرور والحقد والمروق، كما كان إيقاظاً للنائمين من أبناء الجيل الجديد الذي كاد اللون الأحمر البراق بالترهات والأكاذيب أن يضمهم تحت جناحه الغادر.

ولعل هذا الأمر تسبب لباكثير في التعرّض للاضطهاد والمعاناة والجحود، ففي فترة من الزمن تسلل (الملحدون) إلى الصحف والمجلات ومنابر الإذاعات والتلفزيونات، فكان أن دبروا لباكثير حملة ماكرة من التشويه أحياناً والتجاهل أحياناً أخرى، وكانوا يغمزون نحوه في مجالس الأدب ومنتدياته ويقولون عنه في سخرية: (علي إسلامستان) حسبما روى لي بنفسه، وكان يضحك في هدوء، ويبدو بريق السعادة والثقة في عينيه خلف نظارته الطبيّة البيضاء ويقول: «إنه لشرف عظيم لي أن أُتهم بالإسلامية فيما أُقدمه من أدب».

ويقول د. حلمي محمد القاعود:

«كان علي أحمد باكثير من ذلك الطراز الذي لا يخافت بصوته الإسلامي، ولا يساوم على تصوره الإيماني، وكان في الوقت نفسه رائداً من رواد أدب الحدس الصادق، وهو الأدب الذي يستشرف المستقبل، من خلال الماضي والحاضر، فكان سابقاً عصره، وكان غريباً في زمانه، لأنه رأى ما لم يره غيره، أو رآه غيره وسكت عنه، فقد رأى ولم يسكت، ولكل هذا فإن «باكثير» عاش محنة التفرد والتميز والريادة والمكاشفة، ودفع الثمن غالياً عندما تعرض للحصار الأدبي والقمع الفكري والتجميد الوظيفي.. بل اتهمه أحد الزعماء الماركسيين بأنه ضالع في مخطط (رجعي) ضد التقدمية والاشتراكية».

ويقول د. محمد أبو بكر حميد:

«لقد عاش باكثير حياته كلها قانعاً براتبه الذي لا يكاد يسد حاجته، لا يركض خلف مال يجنيه من كتبه، مكتفياً بانتشارها وذيوعها، منصرفاً عما يتهالك عليه الناس في دنياهم إلى جو روحي خالص لنفسه، يشعر دائماً بالاطمئنان إلى المستقبل، فلم يشعر يوماً أنه فقير أمام صاحب مال، مؤمناً بأن غناه في نفسه وعلمه وأدبه».

ويقول الأستاذ علي محمد الغريب:

«في وقت ساد فيه العبث حياتنا الثقافية والأدبية، وفي فترة من الزمن تسللت (شلل) الملحدين إلى وسائل الإعلام المختلفة، كالأدب والصحافة والمسرح، يُـقْصُون كل من كان مؤمناً بقيم هذه الأمة، يدبّرون له المكائد، وينصبون له الشراك، حتى يختفي من حياتهم أو يموت كمداً.

في هذه الأجواء الرهيبة، وفي هذه العتمة الحالكة، قدم من حضرموت إلى القاهرة سنة 1934م شاب يرغب في دراسة اللغة العربية والدين الإسلامي في الأزهر، لكنه ما لبث أن غيّر رأيه ودخل كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً)، وكان هذا الاتجاه ناجماً عن تشجيع من العالم والأديب محب الدين الخطيب، ليدرس الآداب الأجنبية حتى يستطيع أن يرد السهام التي يرمي بها دعاة التغريب في الأدب والحياة، في وجه التيار الإسلامي، ولقد صدقت فراسة الشيخ الخطيب، فأثبت الشاب باكثير فيما أنتجه من أدب فيما بعد أنه خير من حمل لواء الدفاع عن الاتجاه الإسلامي، مقتحماً عش (الدبابير) فكان نسمة لطيفة محمّلة بعبق مجد مجيد، ورحيق تاريخ تليد، هذا الشاب هو: علي أحمد باكثير».

ويقول عنه الأستاذ خيري حماد:

«أبصرتُ الدمعات تتساقط من عيني الأستاذ علي أحمد باكثير وهو يقف عند شريط الحدود الفاصل بين قطاع غزة والأرض المحتلة على بعد أمتار قليلة، وهو يرى (الثكنة الإسرائيلية) وقد ارتفع عليها العلم الإسرائيلي.. رأيت عَبَرات باكثير فلم أتعجّب، فلقد أحب باكثير فلسطين كما أحب وطنه حضرموت والقاهرة وكل وطن عربي، بل إن لفلسطين مكانة خاصة في نفسه رافقته طوال حياته، فلقد أحب باكثير فلسطين حباً عميقاً».

ويقول د. عبده بدوي:

«الحقيقة أن باكثير كان كاتباً إسلامياً ملتزماً لا يسير في صدى ما يحدث، ذلك لأنه في كثير من الأحيان كان يسبق ما يحدث، وكان في الوقت نفسه ينظر من منظور إسلامي شفّاف، متعاطف مع كل الإنجازات الإنسانية العظيمة والنظر إلى الأشياء بطهارة ونقاء.. وكان صادقاً مع حضارته حين كان يركّز على عنصر الخير في أعماله، وكان ينتقل من المحسوس إلى المجرّد».

وفاته:

توفي في مدينة القاهرة بمصر آخر يوم من شعبان سنة 1389هـ 10-11/1969م إثر نوبة قلبية، وكانت آخر صرخاته:

«لقد ذبحوني» في إشارة لمحاربة الشيوعيين بأجهزة الإعلام له ومحاصرته في كل الميادين الثقافية التي يتحكّمون بها بتفويض من الطاغية جمال عبدالناصر وبطانته من المرتزقة والمأجورين.

رحم الله أستاذنا باكثير رحمة واسعة، وغفر الله لنا وله، وأدخله فسيح جناته مع النبيين والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. والحمد لله رب العالمين.

المصدر