عن سيد قطب والإخوان والمحرقة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
عن سيد قطب والإخوان والمحرقة


بقلم: أ. د. جابر قميحة

سيظل سيد قطب (1906- 1966) علَمًا من أعلام الفكر والعقيدة والإسلام على مدار التاريخ الإنساني كله, وقد رصد قلمَه لأداء الكلمة الحرة الصادقة مهما كانت مرارتُها، وكان قويَّ العارضة, حاضر الذهن، واسعَ الثقافة, قديرًا على الأداء، مؤمنًا بأن الكلمة عبَثٌ وضياعٌ إذا لم تنتصر للقيم الإنسانية عقيدةً، أو فكرًا، أو أدبًا.

وقد أبان عن وِجهتِه وطوابِعه هذه في كل ما كتب، ويسجل له التاريخ محاضرتَه الطويلة التي ألقاها في كلية دار العلوم سنة 1932م- وهو لا يزال طالبًا بها- وعنوانها (مهمة الشاعر في الحياة)، وقد طُبِعت في كتيب بعد ذلك، وجعل منها فصلاً ومنطلقًا في كتابه العظيم (النقد الأدبي.. أصوله ومناهجه)، وكتب مقدمة هذا الكتيب أستاذُه مهدي علام، ومما جاء فيها ".. وقصارى القراء أن أقول لهم إنني أعدُّ سيد قطب مفخرةً من مفاخر (دار العلوم)، وإذا قلت دار العلوم فقد عنيت دارَ الحكمة والأدب".

وتوالت مقالاته بعد ذلك، وألَّف عددًا من الكتب من أهمها (العدالة الاجتماعية في الإسلام) و(التصوير الفني في القرآن) و(مشاهد القيامة في القرآن)، ونظَّم عشرات من القصائد الشعرية جُمعت بعد ذلك في دواوين.

ألمحهم في خيالي قادمين

وفي الأربعينيات من القرن الماضي- وكان يعمل في وزارة المعارف المصرية- أخذ يهاجم في مقالاته الفسادَ الملكي، والإقطاع، والظلم الاجتماعي، والفساد في السياسة التعليمية، والاستعمار الإنجليزي وأذنابه من المصريين، أو "الإنجليز السُّمر" كما كان يصفهم سيد قطب، كان ينشر آراءَه الجريئة هذه في عدد من الصحف والمجلات، مثل البلاغ الأسبوعي، والأسبوع، والرسالة، والشئون الاجتماعية، ووجد متنفسَه الأرحب في مجلة (الفكر الجديد) التي أصدرها بتمويل محمد حلمي المنياوي- صاحب دار الكتاب العربي.

وضاق القصر الملكي والحكام بجرأةِ سيد قطب، فحلَّت وزارةُ المعارف هذه المشكلة بإيفاده في بعثة إلى الولايات المتحدة لمدة عامين (1948- 1950) لدراسة المناهج التعليمية، وقد رأى كيف ضجَّ الأمريكان بالفرحة وكيف تبادَلوا التهاني حين بلغهم مقتل الإمام حسن البنا، فانفتح قلبه وعقله للإخوان ودعوتهم، وعاد سنة 1950م إلى مصر صاحب رسالة ودعوة، كما يقول الدكتور صلاح الخالدي، "مزوَّدًا بالتجارب والخبرات؛ حيث كانت أمريكا بدايةَ المنعطف الجديد في حياته.. لقد وجد نفسَه وإيمانَه وإسلامَه هناك، فسار في طريقه حتى نال الشهادة".

وأذكر- في هذا المقام- أن الشهيدَ سيد قطب أهدَى الطبعة الأولى من كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) قائلاً: "إلى الفتية الذين ألمحُهم في خيالي قادمين يردون هذا الدين جديدًا كما بدأ.. يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون..."، وفي الطبعات التالية أهدى كتابه إلى "هؤلاء الفتية الذين أصبحوا حقيقةً واقعةً".

المحرقة وعام الحزن

وأقبلتُ على كل ما كتب وما يكتب سيد قطب، وخصوصًا "في ظلال القران" الذي كان يصدُر تباعًا في أجزاء، وكان الجزء يباع بخمسة قروش، وأصبح سيد قطب كاتبي الأثير، وفي بيتنا بالمنزلة- مسقط رأسي- خصَّصت حجرةً لمكتبتي التي ضمَّت عددًا كبيرًا من الكتب في الأدب والشعر والفكر الإسلامي.

وفي يوم من منتصف الخمسينيات- من القرن الماضي- عُدت من القاهرة إلى المنزلة لقضاء عطلة الصيف بعد أن أديت امتحاني في السنة الثانية من كلية دار العلوم، وشعرت بصدمة عنيفة وأنا أرى رفوف مكتبتي لا تحمل كتابًا واحدًا، ورأيت في عيون أبي وأمي وأفراد الأسرة نظراتٍ فيها انكسار وإشفاق؛ فهم يعلمون مدى اعتزازي بكل ورقة من كتاب، وصرخت هائجًا بصوت مرتعش:

- أين كتبي؟! أين كتبي؟!

وبدأ أبي يهدئ من ثائرتي:

- معلهش كل شيء يتعوض إن شاء الله..

- يتعوض؟! يتعوض يعني إيه؟!

- يا ولدي.. أنت عارف أنهم يقبضون على الإخوان، ودول ناس (جبَّارين) لا يعرفون الرحمة، فاضطررنا إلى.. ولم أتبين بقية كلمات أبي، فقد دارت بي الدنيا، واستنتجتُ ما حدث- وهو ما تأكد لي فيما بعد- فقد نقلوا الكتب على دفعات، وحرقوها دفعةً دفعةً في "فرن" بلدي ببيت أحد أقاربي المجاورين.

ولا أستطيع أن أصوِّر عمق حزني آنذاك.. إنه كحزن من فقد أبناءه جميعًا في محرقة لم تُبقِ منهم حتى الرماد، وكان حزني على أجزاء "في ظلال القرآن" أشد وأعتى؛ وذلك لأنني سجلت على هوامشه ملاحظات وتعليقات كثيرة جدًا، حاولت- فيما بعد- استعادة بعضها فعجزتُ عجزًا مطبَقًا، وكأن شدةَ الصدمةِ قد قتلت قدرتي على التذكر والاستعادة.

من الشهادة إلى العالِمية

ولكن وجه الخير في هذه المحرقة أنها ألهبت مشاعري بمزيد من حبي لسيد قطب، وعمَّقت إيماني بقلمه مفكرًا إسلاميًا وأديبًا وشاعرًا وناقدًا، فنال من إقبالي واهتماماتي الحظ الأوفى، وفي سنة 1971م- أي بعد تخرجي في كلية دار العلوم بثلاثة عشر عامًا- أُعرت للعمل بدولة الكويت لمدة أربع سنين، وكان من مهامِّي تدريس اللغة العربية والثقافة الإسلامية- بجامعة الكويت- للطلاب الأجانب.

وكنت أشعر بالسعادة وأنا أرى هؤلاء الطلاب وفي أيديهم كتب سيد قطب مترجمة إلى الإنجليزية والفرنسية والملاوية.. وغيرها، وسألت بعضَهم عما يعرفونه عن سيد قطب، فاكتشفْت أنهم يعرفون عنه وعن الإمام الشهيد حسن البنا الكثيرَ والكثيرَ.. لقد صدق الشاعر العربي الذي قال:

وإذا أراد اللهُ نشرَ فضيلة

طُويتٍ أتاح لها لسانَ حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يُعرف طيبُ عَرف العود
"فورد" للسيارات والإخوان المسلمون

وفي أحد أيام مارس 1972م أخبرني أستاذنا عبد السلام هارون (رحمه الله)- وكان رئيس قسم اللغة العربية بجامعة الكويت- أن أحد طلاب الدراسات العليا، وهو أمريكي الجنسية، يجمع المادة العلمية لكتابة أطروحة يحصل بها على درجة الدكتوراه، وبعثته على نفقة شركة "فورد للسيارات"، وموضوعها (الإخوان المسلمون)..!!

- عجبًا وما المنفعة التي تعود على الشركة من هذه الدراسة؟! إنهم حقًا أغبياء..!!

- لا ليسوا هم الأغبياء، ففي كل شركة من الشركات العالمية الكبري- غير العلماء والخبراء المتخصصين- لجنة فيها عالم جغرافي، وآخر قانوني، وثالث عالم بالأديان والمذاهب، ورابع عالم اجتماعي.. إلخ؛ وذلك للقيام بدراسة شاملة لأحوال البلد الذي سيفتحون فيه فرعًا، أو يتخذون فيه توكيلاً، وأثر هذه الأحوال في ترويج السلعة أو كسادها.

وذكَّرني- رحمه الله- بكساد مشروب "البيبسي كولا" في بلاد الشرق العربي، وكيف قاطعها المسلمون بعد صدور فتوى من عالم ديني بأنها حرام شرعًا؛ لأن مادة "الببسين" المستخرجة من كبد الخنزير تدخل في تصنيعها، وهذا يؤكد تأثير العامل الديني في الاقتصاد والحركة التجارية.

وفي النقد: ممنوع سيد قطب

ولا أقصد بهذه الكلمة السيد جابر عصفور، الذي كتب في الأهرام مقالات عن النقاد في القرن العشرين، لم يشر فيها-مجرد إشارة- لسيد قطب.. إنما أقصد واقعةً، خلاصتها أن وزارة التربية والتعليم المصرية قررت كتابًا باسم "فصول مختارة من النقد" على الصف الثاني من معاهد المعلمين (القسم الخاص سنتين بعد الثانوية العامة)، والكتاب يضم أكثر من عشرة فصول من النقد لأساتذة مختلفين، وفي الكتاب فصل لسيد قطب عنوانه (القيم الشعورية في العمل الأدبي)، وهو مستلٌّ من كتابه (النقد الأدبي.. أصوله ومناهجه) ولم يلتفت أي طالب لوجود هذا الفصل في الكتاب؛ لأنه لم يكن ضمن ستة فصول اختِيرت من الكتاب مقررًا.

وصدر أمر رياسي في منتصف الستينيات من القرن الماضي بجمع الكتاب من الطلاب، وإعادته لهم بعد نزع هذا الفصل وحرقه، ولم يُحضر الكتاب إلا قرابةَ نصف الطلاب,،وتم تشكيل لجنة في كل معهد لحرق الفصل المنزوع، مع أنه أدبي نقدي بحت، وأعيدت الكتب إلى أصحابها الذين لا يزيدون على النصف، واعتقد الطلاب أن في الفصل المنزوع ما هو مهمٌّ خطير فقرأه واستوعبه من لم يُحضروا كتبَهم, وتمكن الآخرون من قراءته كذلك..

بل إن بعض المكتبات طَبعت الفصل في كتيِّب صغير عنوانه (النقد المرفوض) بقلم سيد قطب، ووُزِّع هذا الكتيب على أوسع نطاق.

ولو "سكت" المسئولون العباقرة في وزارة التربية والتعليم ما التفت إلى هذا الفصل أحد، والفصل- كما أشرت- لم يكن مقررًا مع أنه كان ضمن فصول الكتاب، ومرةً أخرى يقفز إلى خاطري قول الشاعر القديم:

وإذا أراد اللهُ نشرَ فضيلة

طُويتٍ أتاح لها لسانَ حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يُعرف طيبُ عَرف العود

(2)

يعلم الله أنني لم أكتب هذه الكلمات عن شهيد الإسلام سيد قطب؛ "حرصًا مني على الاشتراك في المعمعة- أو المعركة- حول سيد قطب"، وهو ما ذكره الأستاذ حسنين كروم بصحيفة (القدس العربي)، ولكني كتبت ما كتبت اعتزازًا بالشهيد العظيم في ذكرى استشهاده، وليس هناك معركةٌ أخوض غمارَها ولا شبه معركة، وصاحب "السيادة" فيما أكتب هو قلمي يسجل- دون تخطيط سابق- بعضَ ما رأيت وبعضَ ما خطر لي بصورة عفوية حرة بلا انتظام زماني أو مكاني، فلأترك قلمي يواصل مسيرته دون "حظر" أو قيود.

طائفتان من الناس

رحم الله سيد قطب- شهيد الإسلام والفكر والإنسانية- فمن فضل الله علينا وعليه وعلى المسلمين أن الدعوة التي آمن بها وعاش لها واستُشهِد من أجلها.. انتشرت على أوسع نطاق على أيدي طائفتين متناقضتين من البشر:

الطائفة الأولى: تلاميذه ومريدوه ومن تربَّوا في مدرسة الإخوان.

والطائفة الثانية: طائفة الحقَدة والحاسدين الذين تمنَّوا بعض ما رزقه الله، فخابت أطماعهم، وأبَوا إلا تجريحه، والإزراء بما أعطى وقدَّم من فكر وأدب.

وبحقدهم هذا فتحوا عيون الآخرين على سيد قطب، فبحثوا عن الحقيقة، وقرأوا سيد قطب وجهده وجهاده، وعطاءاته القرآنية والأدبية، فعلموا ما لم يكونوا يعلمون، وارتفع سيد وفكره في أنظارهم، وأنوف الحاقدين في الرغام.

لماذا ظلال القرآن؟!

لقد قرأت كل ما كتب الشهيد سيد قطب، وكل ما كتب أثير عندي، ولكن كان للظلال مكانةٌ خاصةٌ في قلبي وعقلي، فقد صاحب معه في المحرقة تعليقات كثيرة سجلتُها على هوامش الأجزاء التي قرأتها منه، وقد يرجع هذا التقدير لمنهجه الجديد الذي لم يُسبَق إليه، ولِمَا يتسم به أداؤه التعبيري من جمالياتٍ في التصوير، وبراعةٍ في التعبير، ووجدانٍ متوهج صادق، مما يتفق مع حبي للأدب، واشتغالي به.

وقد أبان الشهيد عن منهجه في الظلال، وطوابعه الموضوعية والفنية، فجاء في صدر الجزء الأول "يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة من سوره شخصيةً مميزةً، شخصيةً يعيش معها القلب، كما لو كان يعيش مع روح حي مميَّز الملامح والسمات والأنفاس، ولها موضوع رئيسي، أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص، ولها جوٌّ خاص يظلل موضوعاتها كلها، ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو، ولها إيقاع موسيقي خاص، إذا تغير في ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة، وهذا طابع عام في سور القرآن جميعًا..".

في ظلال الظلال...

وبعد إعدام الشهيد سيد طُبِع الظلال عشرات الطبعات في البلاد العربية، وظهر كاملاً في مجلدات، وفي مطلع السبعينيات من القرن الماضي- وقد كنت في الكويت- قرأت الظلال كله، لم تكن قراءةً عاديةً، ولكنها كانت معايشةَ.. نعم معايشة خرجْت منها بعدة انطباعات: على رأسها إيماني اليقيني بالدلالة العظمى للعنوان "في ظلال القرآن".. فآمنت شعوريًا وروحيًا أنه تعبير لم يجاوز الواقع إلى المجاز.

وأشهد الله أنني ما جلست إليه قارئًا إلا وسيطر عليَّ شعور بأنني أخذت مجلسي على ربوة وثيرة، تحت سرحة وارفة الشذا والظلال، وأن نسيمًا رقيقًا لطيفًا يلامس وجداني في حنان وضيء، وأن زخات من الرضوان الرحماني تخلعني من الزمان والمكان وتزيدني شفافيةً، كلما مضيت في الظلال.

وأذكر أنني حاولت أن أسجل خواطري على هوامش الظلال، ولكن ذكرى المحرقة التي أقامها أهلي في منزل الأسرة بالمنزلة قبل تخرجي في دار العلوم.. هذه الذكري أسقطت القلم من يدي بقوة خفية قهارة، وفي ليلة ظلالية- وأنا في مسكني بالكويت- أخذتني نوبةٌ من نوبات "الإلهام الشعري"..

فحاولت أن أنظم بعض سبحات سيد قطب في الظلال، وخصوصًا وقفاته مع آيات المحن والشدائد، والشهادة والشهداء، ونظمت قرابة ثلاثين بيتًا على مرتين، وحمدت الله أن فُقدت مني، فقد أحسست أنني اقتحمت "حمى" لا حقَّ لي فيه، وقد يفهم بعضهم أنها محاولة "لنظم القرآن" لا بعض قطع من ظلال القرآن.

محرقة لسانية..

وحديثي عن الظلال يذكرني بواقعة مؤسفة تتلخص في أن أحد العلماء المصريين زارَ الكويت سنة 1974م، وهو معروف عنه في كتاباته بانتصاره للتراث العربي، وحملاته على التغريب، وأنا أشهد له بذلك، ومعروف أن "الديوانيات" لازمةٌ من لوازم المجتمع الكويتي، والديوانية قاعة واسعة تُفتح مساء كل خميس، ويحضرها من يشاء، وهم غالبًا من أهل الأدب والعلم وذوي الوجاهة في المجتمع، ويناقَش فيها موضوعٌ أو موضوعاتٌ متعددة بصورة عفوية، والكلام ذو شجون.

ورحب صاحب الديوانية بالعالم الضيف، ونقل إليَّ أكثرُ من واحد تفاصيل ما حدث: كان "العالِم" هو المتحدث الرئيسي، بل المتحدث الوحيد, وبدأ بدايةً سيئةً بالهجوم الشديد على الإخوان ومرشدهم حسن البنا، ووصفهم "بالعمالة"، وقدم الدليل "الحاسم جدًّا" على هذه الإدانة بأن جماعة الإخوان نشأت في منطقة الإسماعيلية؛ حيث يهيمن المستعمرون الإنجليز ويسيطرون على كل الأجهزة في الإسماعيلية ومنطقة قناة السويس.

فلما اعترض أحد الطلاب الجامعيين بقوله: هذا شأن كل الدعوات تنشأ في مناطق صعبة، وبلاد عديمة الإيمان، شأنها شأن مكة نهرَه الأستاذ الكبير بحدة، وصرخ في وجهه: أتشبِّه حسن البنا برسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟! يا "أخينا أنت".. يوم ما تعرف ازاي تتطهر من النجاسة "ابقى" تعال جادل أسيادك، وانسحب الطالب من الديوانية ومعه عدد من الحاضرين وهم يشعرون بالأسى والحزن.

وجاء الدور على سيد قطب

ولما سأله أحدهم عن رأيه في ظلال القرآن امتقع وجهه، وانطلق يجرِّح "سيد قطب" بألفاظ لا تصدر من مسلم يملك الحد الأدنى من الذوق والأدب؛ مما يدفعنا إلى إغفالها، وكان أكثر ما قاله اعتدالاً هو: الإخوان دول "دوشونا" بما يسمى "في ظلال القرآن"، وأنا أتحدى أي واحد يريني أين "التفسير" في كتاب قطب هذا؟!

واستأنف "الأستاذ الكبير" منظومتَه في تجريح الشهيد سيد وكل ما كتب- وخصوصًا "في ظلال القرآن"- ولم يعلق صاحب الديوانية على أية كلمة مما قاله "الضيف الأستاذ" تأدبًا منه وكرمًا، وأخذ الحاضرون يغادرون الديوانية واحدًا واحدًا، ولم يبقَ مع الضيف إلا خمسةٌ هم المضيف ورجال الأسرة، قال واحد ممن نقل إلينا الواقعة المؤسفة: قطعًا الرجل لم يقرأ في ظلال القرآن ولو قرأه لغيّر رأيه.

قلتُ: بل قرأه قراءة جيدة، وفهمه فهمًا دقيقًا، ورأي ما فيه من تفوق سيد قطب وعبقريته، ولكن الحسد أكل قلبه، وطمس عقله، فالرجل لا يملك سماحة العالم ونبْله، وسعة صدره، ولم يرزقه الله سعة أفق الداعية، وأسلوبه الواعي المتزن، ومن هنا جاء إخفاقه ذريعًا في تكوين "جماعة إسلامية" يضرب بها الإخوان ويوقف بها مسيرتهم.

ولكني أقول: "شكرًا" للرجل "الأستاذ جدًا"؛ إذ فتح بحقده من حيث لا يقصد على دعوة الإخوان، وعلى سيد قطب.. وما كتب، وخصوصًا "الظلال" بحقده الأسود- من حيث لا يقصد- عيونَ الناس وعقولهم وقلوبهم على الشهيد سيد قطب، وما كتب وخصوصًا "ظلال القرآن".

محرقة.. بالأقلام

وبعد إعدام سيد قطب رحمه الله عملت الأقلام عملها، ولا أقصد الأقلام المريضة التي تكتب في الصحف الصفراء الكالحة، ولكني أقصد ما شاهدته من كتب مطبوعة طباعة فاخرة، في بعض البلاد العربية، وتُباع بأسعار رمزية، وكلها مطاعن في الإخوان ودعوتهم وقادتهم، ونال سيد قطب منها الحديث الأوفى: فهو باطني، يدعو إلى عقيدة "الحلول" ووحدة الوجود..

وهو يناصر دعوة عبد الله بن سبأ اليهودي، وأنه عاش طيلة حياته رقيق الدين، مستهينًا بالعقيدة وأنه.. وأنه... ولو صحَّت هذه الافتراءات التي كتبها "علماء"(!!!) طوال اللحى- لكان سيد قطب زنديقًا مارقًا من الملة، والعياذ بالله.

ومرة أخرى حققت هذه الدعاوى والادعاءات الكاذبة عكس ما تغيَّاه أصحابها، وأصبح لدعوة الإخوان وسيد قطب وجود وكيان في هذه البلاد، ومنها- بل أهمها- ما لم يعرف الأحزاب من قبل.

إنها محارق ثلاث أُقيمت لدعوة الإخوان وكتبهم وكتب سيد قطب: المحرقة الأولى كانت بدافع الخوف عليّ من الحكومة الميمونة، وهي تلك التي أقامها أهلي فأتت على مكتبي بالمنزلة.

والمحرقة الثانية محرقة كلامية، تولّى كبرها بألسنةٍ حداد بالتجريح والكذب "الأستاذ" زائر الكويت, ومن دار في فلكه. والمحرقة الثالثة "محرقة قلمية" تمثلت في الكتب الفخمة التي أشرت إليها آنفًا، وهي تنضح بالكذب والتجريح لسيد قطب والإخوان، وكذبوا.. وهم بمحارقهم لا يحرقون إلا أنفسهم المخروبة، ومنطقهم الهش المنتفش.. أما الإخوان ودعوتهم فخرجوا من هذه المحارق كالذهب الإبريز، وهم- بحمد الله- في تزايدٍ ممتد، وقوة مطردة، ونشكر "الحاقدين المحروقين"، وأذكّر القراء بالبيتين الخالدين:

وإذا أراد الله نشرَ فضيلةٍ

طُويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعالُ النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرف العود

المصدر