قمة الأمم المتحدة بين طموحات الدول الفقيرة واستبداد الدول الغنية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
قمة الأمم المتحدة بين طموحات الدول الفقيرة واستبداد الدول الغنية

بقلم:الإستاذ محمد مهدي عاكف

مقدمة

بسم الله، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وبعد..

تُعدُّ قيم العدل والمساواة والحرية قِيَمًا عالميةً، تشترك البشرية جمعاء في طلبها والسعي إليها، فيما تنفر النفس البشرية من الظلم والفقر والجوع، وترى فيها أشدَّ أنواع الازدراء والتنكيل بالإنسان.

وعلى مدى العصور ومنذ بدءِ الخليقة جاءت الرسائل السماوية لتُرشدَ الإنسان إلى الهداية، ولتبين له نُبلَ وثوابَ السعي لتحقيق العدل والمساواة والحرية، كما قام المصلِحون والفلاسفة والمفكِّرون على مرِّ العصور ومن كل الحضارات والثقافات بجَهدٍ واضحٍ في الدعوة إلى هذه القيم.

وكما أن النفس البشرية بها نفحةُ الروح التي تجعلها ترنو إلى السموِّ وتجعلها تتعلَّق بالنبيل من القِيَم فإن بها- أيضًا- ثقلَ الطين الذي يجذبها إلى أسفل، ويحضُّها على ممارسة الظلم والقهر والإجحاف، وقد شهدت صفحات التاريخ الحديث والمعاصر صنوفًا من ظلمِ واحتلالِ شعوبٍ وأممٍ لشعوبٍ وأممٍ أخرى، لا لشيء إلا لامتلاك المحتل الظالم لعناصر القوة وأدوات البطش..!!

وإذا كان النظام العالمي الحالي- سواءٌ في شقه السياسي أو الاقتصادي- قد صِيغ عقب الحرب العالمية الثانية بما يؤدي إلى تكريس هيمنة الغرب المتقدم على سائر شعوب العالم، فإن الدعوات والصرخات لرفع الحيف والظلم الذي يحتويه هذا النظام والقضاء على ما أنتجه من شرور وآثام طالت غالبية البشرية بما فيها فقراء المجتمعات الغربية لم تتوقف في يوم من الأيام.

وكان من المأمول أن تخرج قمةُ الأمم المتحدة بالتزاماتٍ تشجِّع كلَّ جهد يُبذَل للقضاء على الثلاثي الكريه: الظلم، والفقر، والجوع، إلا أن استمرار سعي الدول الكبري لعرقلة أي محاولة لإضفاء العدالة على المجتمع الدولي وداخل المنظمات الدولية حالَ دون أن تحقق القمة الآمالَ التي علِّقت عليها.

المسألة الحضارية

رغم اعتراف إعلان قمة الأمم المتحدة بالتعددية الحضارية على مستوى العالم، يتجه الخطاب العام للإعلان الصادر عن القمة إلى فرض الحضارة الغربية وما يتفرع عنها.. من تحررية (الليبرالية) وديمقراطية كقيمة عالمية، ومرجعية لكل الشعوب غير الأمريكية وغير الأوروبية، وفي الإصرار على تبنِّي "الإعلان" للنموذج الليبرالي وترويجه للنظام الرأسمالي تضامنٌ مع السياسات الأمريكية والأوروبية، وإسقاطٌ لحقبة طويلة من تاريخ الليبرالية، صاحَبَها العديدُ من الحروب غير العادلة والغزو والاحتلال والدعم للنظم المستبدة، بشكل أساء للشعوب وولَّد كثيرًا من المظالم، وهو ما يهمل ويتجاهل الخصوصيات الحضارية للشعوب، رغم مساهماتها الخلاَّقة في نهضة البشرية، وقيامها بأدوار مهمة في التاريخ البشري، وقد أحسن الوفد الإيراني صنعًا عندما أشار- وهي إشارة تستحق التقدير- إلى دور الإسلام كحضارة ما زالت تقوم بدور مهم في الحياة الإنسانية يتأسس على العدالة كقيمة عالمية.

"الإرهاب" والدفاع الشرعي وحقوق الإنسان

ثار جدل كبير- خلال الفترة الماضية- حول ضرورة تعريف "الإرهاب"، أو ما يمكن تسميته عملاً إرهابيًّا، ولم يفلح العديد من المؤتمرات الدولية في التوافق على تعريفٍ له، وفي اجتماع القمة العالمية الأخير- المنعقد في مقر الأمم المتحدة- ظل تعريف العمل الإرهابي مسألةً خلافيةً، غيرَ أن الإعلان الصادر عن القمة وضع إطارًا لتعريف العمل الإرهابي؛ حيث ذكر أنه عملٌ يستهدف الإضرار بالمدنيين غير المحاربين، ومنع المنظمات الدولية من تأدية عملها.

هذا الإطار يُسقط عن عمد ويَتجاهل عن قصد حالاتِ الكفاح ضد الغزو الأجنبي وضد الاحتلال، وهو يوفر بذلك تكأةً لبعض الحكومات لوصف أعمال المقاومة من أجل التحرير بالإرهابية، وهو ما يتعارض مع مواقف سابقة للأمم المتحدة دعمت حصول الشعوب الواقعة تحت الاحتلال على حق تقرير المصير، كما دعمت حركات التحرر فيها، وكان موقف وفد "الجزائر" لافتًا؛ إذ إنه رأى ضرورة التمييز بين "الإرهاب" و "حق الدفاع الشرعي" للشعوب الواقعة تحت الاحتلال، حيث الفارق كبير بين الاثنين.

وقد وضع الفقه الإسلامي ضوابط للتعامل مع غير المحاربين في وقت السلم أو الحرب، فقد أمَّن المستأمنين والمعاهدين والشيوخ والمرأة والأطفال، ودُور العبادة، وحتى الزروع أو المعايش، وهو ما يُعرف بالإطار العام للضوابط الأخلاقية.

وتقتضي هذه المرحلة دعم حق الإنسان في مواجهة القوى المغتصبة لأرضه وحرياته الأساسية، فيتساوى حق الدفاع الشرعي مع حقوق الإنسان الأخرى: الأمن، وحرية التعبير، والعمل، والانتقال.. إلخ، فهذه حقوق لصيقةٌ بالفرد، لا يمكن تجزئتُها أو إهمالُ أيٍّ منها.

الظلم.. والفقر.. والجوع

تشير تقديرات الإحصائيات الدولية إلى أنه رغم بذل جهود كثيرة في معالجة قضايا الفقر والجوع زاد حجم الفقراء والجائعين على مستوى العالم؛ إذ بلغ عدد الجائعين- وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة 2005م- 843 مليون نسمة، كما بلغ عددُ من يحصلون على أقل من دولار في اليوم إلى أكثر من مليار نسمة.

وهذه التقديرات وإن كانت مخيِّبةً للآمال فهي تكشف عن الوضع المرير الذي تعيشه البشرية، من ناحية تتسع الفجوات الاقتصادية والتنموية بين الشعوب، ومن ناحيةٍ أخرى تستشري ظاهرة التسلط والظلم، وهذا ما يشكِّل دائرةً شريرةً تتنافى وتتعارض مع القوانين الإلهية التي أمَّنَت معايش الأفراد وحاجاتهم من المأكل والمشرب.. قال تعالى: ﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (فصلت:9) ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ (فصلت:10).

إن استمرار وجود هذه الثلاثية لا يبشر بخير للشعوب والأمم، واستمرار الظلم بين البشر هو الظاهرة التي تقود إلى هلاك محقَّق؛ حيث تشير كثيرٌ من تجارب الشعوب إلى حقيقة التلازم والسببية بين الظلم، والفقر، والجوع.

لا جديدَ في نظام الأمم المتحدة

رغم مطالب دول عدة وذات شأن في النظام الدولي بإعادة النظر في نظام الأمم المتحدة بما يؤدي لحدوث توازن بين الأجهزة الرئيسة فيها- مجلس الأمن، والجمعية العامة، والأمانة العامة، والتعامل مع الأعضاء على قدم المساواة- لم يطرأ تطورٌ ملموسٌ في نظام الأمم المتحدة، وهو ما يمكِن أن يشير إلى استمرار الهيمنة في النظام الدولي، أو إعادة إنتاجها مرةً أخرى، وبما يتوافق مع أساليب سيطرة مبتكرة، بما يكرس السياسات الانفرادية.

فإنه باستثناء الإشارة إلى تكوين "مجلس حقوق الإنسان"، والاعتراف بدور أوسع على المستوى الدولي للمنظمات الدولية الإقليمية، والمنظمات غير الحكومية، والقطاع الخاص، لم يحدث تغييرٌ يُذكر في اختصاصات أو نظام عمل الأجهزة الرئيسة في الأمم المتحدة، وهو ما يشير إلى استمرار اختلال توازن المنظمة الدولية لصالح "مجلس الأمن الدولي"- وهو أحد أجهزتها- وهو ما يعني استمرار احتكار مجموعة صغيرة من الدول لصناعة القرارات الدولية، وهذا الوضع مرشَّحٌ للاستمرار حتى في ظل احتمال التوسع في عضوية "مجلس الأمن"؛ وذلك لأن توسع العضوية في المستقبل سوف يخضع لرغبة الأعضاء الدائمين في "مجلس الأمن".

تنمية التخلف

ظهرت دعواتٌ لضرورة إحداث تنمية اقتصادية وبشرية خلال السنوات الماضية، وتبنَّت بعض الدول المتقدمة اقتصاديًّا هذه الدعوة رغبةً منها في تقليل الهجرة إليها من الدول الفقيرة، ولإيجاد أسواق لإنتاجها من السلع والخدمات.

وفي هذا الشأن دار جدلٌ كبيرٌ بين الدول الغنية من جهة والدول الفقيرة من جهة أخرى حول توفير الموارد اللازمة لتشغيل البرامج والمشروعات المرتبطة بالتنمية في الدول الفقيرة، كان من نتيجتها إبداءُ بعض الدول الغنية التزامًا بتخصيص 1% من الدخل الوطني لكلٍّ منها في إطار برامج المساعدات الدولية، ورغم تخفيض هذه النسبة في القمة العالمية المنعقدة بالأمم المتحدة 2005م إلى 0.7% من الدخل الوطني لم يحظَ التخفيض بقبول بعض الدول الكبرى، فضلاً عن عدم التزامها بما أَلزمت به نفسَها في السابق في الاستمرار، وتفضل أن تتم القروض والمساعدات في إطار ثنائي مع الدول الفقيرة، وبما يحقق مصالح مباشرة للدول الغنية.

ويزيد تنصل بعض الدول من التزاماتها أو من الالتزام باتفاقات ومبادرات دولية الشكوك في جدية الحكومات التي تطالب بإعمال مبادئ وقواعد المحاسبة والشفافية ومكافحة الفساد والحكم الرشيد؛ حيث إن عدم تحملها لالتزامات دولية أو أخلاقية يعني أن سياساتِها تجاه الدول الأخرى- وخاصةً الفقيرة منها- سوف لا تستند إلى معايير موضوعية بقدر ما تستند إلى مصالح ذاتية، سواءٌ كانت أمنيةً أم إستراتيجيةً، ولهذا نجد من الدول الكبرى مَن يساند حكومات يستشري فيها الفساد والاستبداد، رغم تعارض ذلك مع مقتضيات وضوابط التنمية، وما يمثله من إعانة للحكومات الفاسدة على شعوبها.

لعل المشكلة التي تلازم برامج ومشروعات التنمية المطروحة دوليًّا هي أنها- الدول الغنية والمؤسسات الدولية- ترى أن التنمية تحدث فقط من خلال نظام رأسمالي ولا تسمح بوجود تداخل أو تعاون مع نظام اقتصادي آخر، وتعتبر أن النظام الرأسمالي حل أخيرًا لإنقاذ البشرية، رغم آثارِه السلبية على اقتصاديات الدول الفقيرة، فضلاً عن حالات الكساد التي تشهدها اقتصادياتُ الدول الغنية ذاتها.

احتكار المعرفة

تنص المواثيق الدولية على حرية نقل المعلومات والخبرات التكنولوجية واستخدامها في الأغراض السلمية، كما تعتبرها حقًّا للأمم والشعوب، وما يحدث على أرض الواقع لا يتطابَق مع ما تقر به المواثيق الدولية؛ حيث تشهد احتكارًا محكَمًا للتكنولوجيا المتقدمة، سواءٌ من قِبَل الشركات متعددة الجنسيات أو من بعض الدول، إلا أن اللافت للنظر هو أن تُحرَم الشعوب من تطوير خبراتها التكنولوجية، وتُمنع من امتلاك أسباب التقدم.

يكشف ذلك عن المواقف والسياسات الانتقائية ضد بعض الشعوب، وخاصةً تلك التي تختلف ثقافتُها وقيمُها مع توجهات حكومات بعض الدول الكبرى، فما تشهده المسألة النووية الإيرانية يوضِّح عدم التزام تلك الحكومات بالمواثيق الدولية، وإصرارها على كبح أي محاولةٍ للتطور في العالم الإسلامي؛ حيث رفضت أن يكون لدى "إيران" استخدامٌ محدودٌ للطاقة النووية.

دعوة للنهضة

ويسعنا في هذا الشأن الدعوة لنهضة الأمة حتى تحتفظَ بمكانتِها وحقوقِها بين الأمم والشعوب الأخرى، وهذا ما يتطلَّب التعاملَ بجديةٍ مع التحديات التي تواجهها، ولعل أهمها تحقيق الحرية للشعوب؛ حيث إنه في ظل الاستبداد لا يمكن الحديث عن تقدم اقتصادي أو استثمار أو حقوق مدنية أو مجتمع مدني، فالنظم المستبدة أوقَفَت تقدمَ الشعوب، كما استلبَتْ حريتَها وأعاقت نهضة الأمة.

وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم.. والله أكبر ولله الحمد.