كلمة الإمام البنا لنصرة فلسطين في مؤتمر الأزهر
أيها الإخوان
ليس لهذا العدوان الذي اجتمعنا اليوم من أجل التفكير في وسائل رفعه عن أرض العروبة والإسلام نظير في تاريخ البشرية كلها، فلم يحدث أن تآمرت طائفة من الناس على وطن أمة من الأمم فاحتلته بالخديعة، ثم اقتطعت منه ما شاءت بالإرهاب، ثم سخرت أمم المادة والشهوات لتحكم لها بما أرادت بشراء الذمم واحتكار الضمائر والمساومة على الأصوات، ثم زعمت أنها ستقيم دولة وتنشئ حكومة لتعيش بين هذه المجموعة الضخمة من الأمم رغم أنفها.
هذه قصة من الظلم والجور لم تشهد الدنيا لها نظيرًا، ولكنها الليالي من الزمان حبالى التي تحدث عنها الشاعر الغابر (1).
ضرر عام لا خاص
وإن قرار التقسيم الظالم الذي يقر قيام دولة صهيونية في قلب بلاد العرب لا ينال فلسطين وحدها، ولكنه يتعدها إلى كل وطن عربي آخر بجوارها، ثم إلى الأوطان الإسلامية جميعًا.
فإن اليهود لا يخفون نواياهم، ولكنهم يجاهرون بها ويهتفون بأن ملك إسرائيل من الفرات إلى النيل، ويخطب بذلك خطباؤهم، ويرسمون في الخرائط صورة دولتهم المستقبلة في زعمهم على هذا الوضع، بل إنهم ليحلمون بيثرب موطن بني قريظة وبني النضير سابقًا، ومهوى قلوب المسلمين وأفئدتهم جميعًا اليوم، ومستقر أكرم إنسان عرفته الإنسانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
إنهم ليقولون ذلك في صراحة ويفكرون فيه ويرسمون له الخطط والوسائل ولن يصلوا إلى شيء بإذن الله: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا﴾ (الكهف: من الآية 5).
جس نبض وفاتحة لا خاتمة
على أن هذا القرار- فيما أعتقد- عنوان لكتاب ضخم صفحاته محاولات الاستعمار التالية، وهو- ولا شك- خلل في الدماغ العالمي وعرض لمرض خطير هو الجشع والنهم في نفوس الدول المستعمرة، إن تهاون العرب وأمم الشرق جميعًا في مقاومته بكل وسيلة، فسيتلوه خطوات ترمي كلها إلى فرض العبودية على هذه الأمم العربية والإسلامية والشرقية من جديد، ويومئذ نقول كما قال الأول "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، ولات (2) حين مندم (3)!، على أننا استفدنا من هذا القرار كثيرًا ورب ضارة نافعة، فقد انكشفت غشاوة التضليل والثقة بأقاويل أمم الغرب ودوله وحكوماته ومواثيقه عن بصائر وأبصار العرب والمسلمين والشرقيين الذين أخلصوا كل الإخلاص لمبادئ العدالة والإنصاف العالمية، وأرادوا بصدق أن يتعاونوا مع هؤلاء المضللين على تحقيقها واعتمدوا عليهم في ذلك، وضحوا في سبيل انتصارهم بالكثير، في الوقت الذي لم تتغير فيه طبائع الجشع الاستعماري في أنفسهم ذرة.
وقد جمع هذا القرار الكلمة المفرقة والجهود المبعثرة، ودفعنا دفعًا إلى وحدة الكلمة وتسوية الصف، ولا يجمع القلوب كالمصائب، ولا يوحد الجهود كالنكبات، ولا يدفع الأمم إلى العمل المشترك كمثل هذا العدوان الصارخ، وأقنعنا هذا القرار أخيرًا بأن ملاذنا الأخير هو الإسلام الحنيف والعروبة المجيدة والشرق المضيء؛ المضيء بلمع الحضارات وأنوار الرسالات وشموس الفلسفات منذ وجدت الأرض إلى أن يرثها الله ومن عليها، وها قد وقف دعاة الخير والحق والنور والعدالة وجهًا لوجه أمام أنصار المادية والظلم والعدوان وعبيد الذهب وأسرى الهوان والأهواء، وسيكون النصر بإذن الله لنا: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (النساء: من الآية 19) والعاقبة للمتقين.
سنقاوم بكل شدة
إن العرب والمسلمين في بقاع الأرض سيقاومون بكل ما فيهم من شدة هذا العدوان الصارخ ولن يستسلموا أبدًا لمشيئة الأمم المتحدة المزيفة ولا لإرهاب الصهيونية الذليلة وقوتها المصطنعة، وسيرى الذين يشكون- أو يشككون- في مقدرة العرب وقوتهم واستعدادهم للدفاع أنهم واهمون.
لئن كنا قد تراخينا في الماضي عن حقنا ولم نستعد له الاستعداد المسلح- كما فعلت الجماعات الصهيونية- فذلك لأنه كان عندنا بقية من إيمان وأمل في الضمير العالمي ومبادئ الحق والخير التي هتف بها هؤلاء الساسة في ساعة العسرة، وكنا نريد أن نسد الذريعة ونقطع مادة الاتهام وسوء الظن ونقف عزلاً أمام العالم لنبرهن على رغبتنا الأكيدة في أن يسود السلام.
أما الآن وقد فجعنا في كل هذه الآمال وكفرنا بهذا الإيمان بهذه الحكومات الجاحدة المضللة حكومات الغرب ودوله، فإننا بحمد الله نملك من القوة المادية والمعنوية ما نصل به إلى النصر إن شاء الله: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ﴾ (الشعراء: من الآية 227).
عندنا القوة بإذن الله
إننا معشر العرب على اختلاف أدياننا ومذاهبنا قد تعلمنا سر الشهادة وتذوق أسلافنا حلاوتها من قبل، والمسيحية الرحيمة- وهي هدية فلسطين إلى البشرية- قامت على دماء الشهداء ولا زالت شهادتهم تاريخًا يذكر لأخلافهم من بعدهم والإسلام الكريم- وهو هدية مكة إلى الناس جميعًا- فرض على كل مسلم أن يكون جنديًّا للحق يذود عنه بنفسه وماله ودمه وروحه ولا يتردد في ذلك أبدًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ (التوبة).
وأرض فلسطين المباركة قد روى ثراها بدماء عشرات الآلاف من صحابة نبينا- صلى الله عليه وسلم-، وتركوا لنا هذه الأمانة من بعدهم لنكون حراسها الأقوياء وجندها الأشداء، ولن تؤتى من قبلنا أبدًا.
إننا نؤمن بأن آجالنا محدودة وأيامنا معدودة: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (النحل: من الآية 61). وإننا نؤمن بأنه لن يصيبنا ضر إلا بقضاء الله، وأن ما أصابنا منه سنأخذ عليه أعظم الأجر وأجزل المثوبة: ﴿... ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)﴾ (التوبة).
ونؤمن بعد ذلك كله بأن الله لن يتخلى عنا أبدًا: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)﴾ (الحج: من الآية 40). ومتى كان الله معنا فلنا الغلب بإذنه: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ﴾ (آل عمران: من الآية 160).
نحن نؤمن بهذا كله، وهو سر قوتنا وانتصاراتنا من قبل، وسيكون- بتوفيق الله- سر قوتنا وانتصاراتنا من بعد. وهذه هي قوتنا وعدتنا الروحية التي لا تغلب، والتي هي أساس قوتنا المادية، والمال والسلاح والعتاد سيبارك الله في القليل الذي بأيدينا منه وسنضيف إليه الغنائم من عدونا، وسنحصل عليه من كل مكان بأية وسيلة، وإذا صدق العزم وضح السبيل.
لقد مات لنا بالكوليرا عشرة آلاف ويزيدون بحسب الإحصاء الرسمي، وهم- لا شك- أضعاف ذلك، ماتوا- رحمهم الله- غرقى في القيء والآلام والسقام، ونحن على استعداد لنقدم أضعاف أضعاف هذا العدد ليموت في أكرم ميدان غريقًا في الدم الزكي الحار الطهور، دم الشهداء الأعزة الأقوياء.
وقد علمنا أن الفناء في الحق هو عين البقاء: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ﴾ (آل عمران: من الآية 169).
أمة موحدة في الجهاد
وسيرى أولئك الشاكون أننا ننهض بهذا العبء جميعًا أمة واحدة متراصة الصفوف موحدة الجهود، وها هي ذي بشائر هذه الوحدة تتجلى في هذا الاجتماع الذي يحضره الآباء الكرام ممثلو غبطة البطريرك ومواطنينا الأعزة الأقباط. وإني لأبعث إليهم من هذا المنبر تحية التقدير والإكبار لهذه المشاركة المباركة التي أعادت إلى نفوسنا أجمل الذكريات. وأسأل الله تبارك وتعالى أن يحفظ على هذا الوطن وحدته ويضاعف قوته حتى يصل إلى حقه كاملاً بإذن الله.
اللجنة العليا
إن واجبنا منذ هذه اللحظة العمل، فلم يعد في الوقت متسع يضيع في التردد أو التفكير أو الكلام. ولهذا سنقترح عليكم تأليف لجنة عليا تقوم بتنظيم الجهود وتنسيقها في سبيل استعادة فلسطين العربية، وتشرف على جمع التبرعات وتجهيز المتطوعين بالتدريب والعتاد والسلاح والاتصال بالهيئات واللجان في الداخل والخارج بهذا الخصوص، وتشرف على كل ما يتصل بهذا الجهاد المرير المبارك المثمر إن شاء الله، وستباشر هذه اللجنة مهمتها وسنطلب إلى الحكومة أن تيسر لها سبيل النهوض بها، فإن استجابت لها فذاك، وإلا فإن الشعب سيعرف كيف يحاسبها على ذلك أشد الحساب والكلمة للشعب على كل حال.
ومن الإنصاف أن نقول إن الجامعة العربية قد تبنت هذه القضية تبنيًا كريمًا وأن الحكومات المشتركة في الجامعة قد سارت قدمًا بخطوات طيبة إلى الآن.
وإن عليها بعد ذلك ألا تتراجع وأن تنفذ قراراتها بحزم وعزيمة، وأن تأخذ الأهبة من الآن لكل الاحتمالات وأن تساعد الشعوب المتحمسة على أداء واجبها، فإن قصرت في ذلك فإن إثم التقصير سيقع عليها ولن تصبر عليها الشعوب، فإن الوقت وقت جد لا هزل معه.
موقف الأجانب واليهود
ولقد عرض أحد الخطباء لموقف الأجانب في مصر والمواطنين من الإسرائيليين فيها.
وأحب أن أكون صريحًا واضحًا في هذه النقطة وأن أقول بوضوح: إن موقفنا منهم سيكون بحسب موقفهم من قضيتنا، وهم لا يطمعون منا في أكثر من المساواة، ونحن الآن في محنة نبذل لها من أنفسنا ودمائنا وأموالنا، فليكونوا هم كذلك، وبقدر ما يقدمون من دليل على هذه المشاركة سيلقون من تقدير الأمة واحترام الهيئات والأفراد، ولن تغني البلاغات الرسمية والتصريحات الحكومية شيئًا عن هذه الحقائق الواقعة، فخير حماية للأجانب أو غيرهم هي عملهم وحسن تصرفهم وكسب عواطف هذا الشعب الطيب المسالم الكريم بمشاركته في محنته ومساعدته في حمل هذه الأعباء الثقال.
إلى النصر إن شاء الله
أيها الإخوة الفضلاء: نحن اليوم في مؤتمر للدراسة والتذكير وأمامكم بعد ذلك مراكز التطوع للتمرين والتدريب، وجزى الله الأزهر الشريف- علماءه وطلابه وكلياته- خير الجزاء، فقد سبقوا الجميع إلى إعداد المراكز والتبرع بالمال والإعلان عن التطوع، وغدًا- إن شاء الله- نلتقي في الميدان، وبعد غد النصر إن شاء الله: ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).
والله أكبر.. الله أكبر.