ماذا بقي من الهجرة؟

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ماذا بقي من الهجرة ؟
الهجرة 2.gif

سؤال يُشعر القارئ بأن الهجرة كانت حدثًا تاريخيًّا له أسبابه ودواعيه؛ التي جعلته ضروريًّا في الوقت الذي وقع فيه، وحيث إن الأسباب والدواعي قد انتهت فقد انتهى الحديث وانقضى ولم يبقَ مجال لتكراره مرة أخرى، وإنما الذي بقي هو الاستفادة من كيفية التنفيذ وعبقرية التخطيط ودقة الإعداد وروعة الأداء.. ممثلاً في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجلال التضحية وصدق الإخاء.. ممثلاً في شخصية الصديق رضي الله عنه، والشموخ الأنثوي العظيم.. ممثلاً في أسماء بنت الصديق، والذكاء وحسن التقدير.. ممثلاً في عبد الله بن أبي بكر، وروعة الحب والفداء.. ممثلاً في علي بن أبي طالب، وذروة الشهامة والرجولة.. ممثلةً في عامر بن فهيرة، وقمة الأمانة والشرف.. ممثلةً في الدليل الذي قاد قافلة النبوة عبد الله بن أريقط.

هذا ما سيشعر به القارئ الذي يقرأ عنوان المقال، وهو شعورٌ مقبولٌ ومعقولٌ لمن يعتبر حدث الهجرة حدثًا تاريخيًّا وقع وانتهى، وعندها فإن الحديث عن الهجرة يأخذ شكلاً موسميًّا لا يُقبل ولا يستساغ إلا عند حضور المناسبة كحدث الإسراء والمعراج، وكمناسبة المولد النبوي الشريف، ومناسبة غزوة بدر أو ليلة القدر أو موسم الحج.. وغير ذلك من المناسبات.

وكذلك الهجرة فإن مناسبتها هي بداية العام الهجري.. أما الكلام عن الهجرة في غير هذا التوقيت فإنه سيكون مستغرَبًا وربما يُستهجَن؛ لأنك تتحدث خارج المناسبة، أو تغرِّد وحدَك خارجَ السرب، مع العلم بأن الهجرة لم تقع في أول المحرم، وإنما كانت في الأيام الأولى من شهر ربيع الأول، وتم وصوله صلى الله عليه وسلم في الثاني عشر من هذا الشهر الكريم.

إن من يتناول الهجرة بهذا التصوُّر سيكون معذورًا إذا قال لم يبقَ من الهجرة إلا هذه الدروس، وحيث إن الدروس قد قتلت بحثًا وظهرت للمتناول في وضوح وجلاء نتيجة تكرار المناسبة واجتهاد المحللين من العلماء والباحثين على مدى مئات الأعوام؛ فإنه لم يبقَ من هذه الدروس إلا إعادتها للتذكر؛ نظرًا لاختلاف الأجيال وتعاقبها، وننسى أننا بهذا الفهم وهذا التصور قد جنَينا على الهجرة المباركة وحرَمنا الأمر سرّ وجودها ومكمن عزّها، وأسباب سعادتها وسيادتها؛ بتعطيل الاستفادة من هذا الحدث العظيم، وهو ما يجعلنا في حاجة ماسَّة إلى ضرورة إعادة النظر في تصورنا لهذا الحدث، وكيف يمكن الاستفادة منه على الوجه الذي شُرع من أجله.

إن الهجرة في لساننا العربي تعني كما يقول صاحب لسان العرب: "الهجر: ضد الوصل. هجره يهجره هجرًا وهِجرانًا: صرمه. وهما يتهاجران ويهتجران، والاسم الهجرة، وفي الحديث: "لا هجرة بعد ثلاث"؛ يريد به الهجر ضد الوصل، يعني فيما يكون بين المسلمين من عتَب وموجدة أو تقصير يقع في حقوق العشرة والصحبة دون ما كان من ذلك في جانب الدين، فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة على مر الأوقات ما لم تظهر التوبة منهم، ويرجعوا إلى الحق؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما خاف على كعب بن مالك وأصحابه النفاق حين تخلَّفوا عن غزوة تبوك أمر بهجرانهم خمسين يومًا، وقد هجر صلى الله عليه وسلم نساءه شهرًا، وهجرت عائشة رضي الله عنها ابن الزبير مدة، وهجر جماعة من الصحابة جماعةً منهم وماتوا متهاجرين.. قال ابن الأثير: ولعل أحد الأمرين منسوخ بالآخر، ومن ذلك ما جاء في الحديث: "ومن الناس من لا يذكر الله إلا مهاجرًا" يريد هجران القلب وترك الإخلاص في الذكر، فكأن قلبه مهاجر للسانه غير مواصل له، ومنه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: "ولا يسمعون القرآن إلا هجرًا" يريد الترك له والإعراض عنه، وهجر فلان الشرك هجرًا وهجرانًا، وهجرة حسنة والهِجرة والهُجرة: الخروج من أرض إلى أرض، والمهاجرون الذين ذهبوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مشتق منه.

ومن يتأمل في كلام ابن منظور عند تناوله لمادة "هجر" يلاحظ التركيز الشديد والاهتمام الكبير للمعنى الأصلي للكلمة وهي الهجر بمعنى الترك والقطع الذي هو ضد الوصل، وهو بهذا التناول يؤكد أن المعنى الأصلي للهجرة هو المقاطعة والمصارمة والمخاصمة، وهو ما أشار إليه بقوله: "فإن هجرة أهل الأهواء والبدع دائمة على مرّ الأوقات ما لم تظهر منهم التوبة والرجوع إلى الحق"، وهذا ما نفهمه من قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة".

فالهجرة بهذا المعنى إيمان قلبي يجده المرء في نفسه عندما يرى الباطل والزور فينكره ويهجره مغاضبًا مخاصمًا غير لله سبحانه حتى يعلم توبة صاحب الباطل أو الزور فيعود ليواصله حبًّا في الله ورغبة في تحصيل ثواب المهاجر في سبيل الله الذي أعده الله للمؤمنين الصادقين المجاهدين من عباده بقوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (22)﴾ (التوبة).

إن قصر الهجرة في الآية الكريمة على المعنى الضيق لها وهو الانتقال من مكان إلى مكان يفقد الآية مضمونها، ويفوت على المسلمين الأجر الذي رتبه سبحانه وتعالى على الإيمان ومقاطعة الباطل ومجاهدة المبطلين إلى يوم القيامة، بحجة أن الهجرة حدث وقع وانتهى، وعندها لن نجد أساسًا لحرمان الأجيال التي لم تشهد الهجرة من مكة إلى المدينة، ونريد أن يكون لها شرف الإيمان والمصابرة والمهاجرة والمجاهدة في سبيل الله. ليكون لهم عند الله أعظم الدرجات ويكونون من الفائزين، ويستحقون من ربهم أن يبشرهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم.

إن قصر مفهوم الهجرة على معنى الانتقال من مكان إلى مكان والوقوع في "شرك" الحدث التاريخي الذي حدث بانتقال الرسول- صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة تضييق للمعنى الإيماني المتجدد والمقصود من معاني الهجرة، وتعطيل للمعنى الحركي الإيجابي التغييري الذي ينبغي أن يمارس في كل لحظة من لحظات المؤمن في كل زمان ومكان، ويوم نفعل ذلك نكون قد فقهنا عن رسولنا- صلى الله عليه وسلم- قوله: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا" فلقد حدد الحديث الشريف أن هجرة الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام قد توقفت وانتهت بفتح مكة وصارت بلاد المسلمين جميعًا كلها دار إسلام.

ومن هنا تنتفي وتسقط المفاهيم الخاطئة والساذجة التي ذهب إليها بعض الشباب من المتسرِّعين والسطحيين ممن لم يفقهوا حقيقة المفهوم الإيماني التغييري لمعنى الهجرة، فأوردهم هذا الفهم الخاطئ موارد التكفير والعزلة وما يترتب على التكفير من أحكام في الدماء والأموال والأعراض، فحكموا على أنفسهم بالعزلة والطرد خارج أسوار الإسلام المحصَّنة بمعاني الوعي والفهم والتسامح والوسطية والتوازن والاعتدال.

وما أوردهم هذا المورد إلا المفهوم الخاطئ لمدلول كلمة الهجرة، وقصرهم معناها على الجانب المادي وحده، وهو الانتقال من مكان إلى مكان.

إن الأمة كلها مدعوَّة اليوم لكي تراجع فهمها للهجرة في ضوء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" وعندما نفهم الهجرة في ضوء هذا الحديث سنعلم أن كل فرد في هذه الأمة مطالب بممارسة التهاجر يوميًّا؛ لأنها ستعني كراهية الباطل وهجره ومحاولة تغييره.

وهذه عملية يمارسها المسلم في كل لحظة من لحظات حياته؛ لأنها ثمرة من ثمرات الحب في الله والبغض في الله، وغيرة الدائمة على هذا الدين.

إن الهجرة في معناها الحقيقي هي الدعوة إلى إصلاح أحوال الأمة بالعودة إلى أصولها الصحيحة، وإحداث حالة من التحوُّل السلوكي والأخلاقي والثقافي والاجتماعي، إلى الإسلام ممارسةً وانتماءً وأخلاقًا ومعاملات، وهذا التحوُّل لن يكلف صاحبه إلا النية الصادقة والثبات على ما يدعو إليه من حق؛ مهما كلفه هذا الثبات من تضحيات، وهذا هو الجهاد الذي نفهمه من قول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "... ولكن جهاد ونية" في الحديث السابق.

عندما نفهم الهجرة هذا الفهم الصحيح فإننا نستطيع الإجابة عن السؤال الذي هو عنوان المقال فنقول: "لقد بقيت الهجرة كلها ولم يذهب منها إلا الانتقال البدني من مكان إلى مكان، وهو أمرٌ لم نعد بحاجة إليه اليوم، ولن نحتاج إليه في المستقبل بعد أن قامت دولة الإسلام وامتدت لتشمل معظم بقاع الأرض".

وإنما الحاجة ستظل ماسةً إلى ممارسة الدعوة، وتعديل المفاهيم، وإيقاظ الهامد من المشاعر، وإثارة الخامل من الأحاسيس، وتحويل المعلوم من الدين إلى ممارسة عملية؛ حتى تتخلَّص الأمة من حالة الفصام الكريه بين ما تعتقده عقيدةً وما تمارسه سلوكًا، ويومها يستطيع كل فرد من أفراد الأمة أن يجد لنفسه مكانًا ونصيبًا مع الذين عناهم الحق سبحانه وتعالى بقوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ) (21)﴾ (التوبة).

ولا يحسب القارئ الكريم أن أمر الهجرة صعبٌ عسيرٌ، بل هو أمرٌ ميسورٌ إذا توفَّرت له النية الخالصة، والرغبة الصادقة في مجاهدة الأهواء، وإلجام النزوات، وترشيد الميول، وضبط الشهوات، وربما كان توفُّر النية ووجود الرغبة هو أشقَّ ما في الهجرة؛ فذلك أمرٌ لا يتيسَّر لكثير من الناس.

ومن هنا رأينا غالب الناس لا ينشطون إلى محاسبة أنفسهم وحملها على الطاعة والالتزام بالحق؛ لأن سلطان النفس، واستحكام العادة، وإثبات الراحة، ووسوسة الشيطان كلها تجتمع لتفسد في القلب تلك النية، وتطفئ في الضمير تلك الرغبة فيؤثر الارتكاس في وحله والتلبُّط في جهله، والركون إلى ضلاله القديم.

إن كل إنسان يستطيع- إن أراد وكان صادقًا- أن يمارس الهجرة إلى الله، إذا هو فكَّر في أمر نفسه فعلم أنه ميت لا محالة، وأدرك أنه بعد الموت موقوف بين يدي خالقه، وأنه منذ ولدته أمه ماضٍ في الطريق وصولاً إلى الله، وأن الطريق يوشك أن ينتهي، وأن أمرَ الحياة يوشك أن يُطوَى وينقضي، فإذا علم ذلك واستيقنه فإنه لا بد أن يعود إلى نفسه، ويستدرك الفارق من أمره، ويطلب العون من ربه، ويندم على ما سلف من ذنبه، ويعزم عزمة الصدق على الهجرة إلى الله، فيهجر كل حرام يفسد دينه؛ بفصل المنكرات أو بترك الواجبات، ويهجر كل ما يُفسد عقله من الشبهات والخرافات والمحذورات، ويهجر ما يُفسد عرضه مما يُوقع في الشهوات ارتكاب المحظورات، ويهجر ما يُفسد ماله من كسب الحرام ومنع الزكوات، ويهجر ما يُفسد نفسه ويهدم بدنه بالبعد عن الموبقات.

إن المهاجرة من الجهل إلى العلم، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الفسوق إلى الإيمان.. حالةٌ من المفاعلة والمجاهدة؛ تحتاج إلى استنفار قُوى النفس جميعًا، ويوم يجتمع في كيان المؤمن نية صادقة، ومجاهدة خالصة، وإقبالٌ على الله؛ يكون قد هاجر فأحسن الهجرة، وآمن فاستكمل الإيمان، وعندها نكون قد فقهنا قول نبينا صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا".