مجزرة تدمر في الشعر المعاصر
بقلم:جابر قميحة
مما لاشك فيه أن كثيرا من مآسي التي مرت بأمتنا خلال صراعها المرير مع أعدائها وخصومها ؛ استطاع الشعر أن ينقلها إلى الأجيال القادمة دامية القوافي، دامعة الأحاسيس ! !
اقرؤوا إن شئتم قصيدة أبي البقاء الرندي في رثاء الأندلس ، أو قصيدة ابن الرومي ،وهو يرثي البصرة ، أوالقصائد التي صورت مذابح التتار في بغداد ؟ ! أو الشعر الذي يتحدث عما فعله الصليبيون بيت المقدس ، وديار المسلمين !
ولعل الرندي استطاع أن يجمع المشاعر والأحاسيس التي ستنتاب قارىء هذه القصائد المؤسية ببيته الشهير :
لمثل هذا يموت القلبُ من كمد ٍ إن كان في القلب إسلام وإيمانُ
فماذا يعرف السوريون والعرب والمسلمون عن مجزرة تدمر ؟
من المفارقات – كما يقول الأستاذ محمد الحسناوي يرحمه الله ، في كتابه ( تدمر المجزرة المستمرة ) : أن الشعب السوري لايعرف من تدمر إلا الوجه المظلم ،وهو ( سجن تدمر العسكري ) ، أما الأجانب فلا يعرفون من تدمر إلا وجهها المشرق ،( آثار تدمر التاريخية) وشتان ! ! ولعل العرب والمسلمين يجهلون عن تدمر كل شيء ؟ !
فما الذي جرى في سجن تدمر العسكري ؟ ولماذا بكى الشعراء ، واتشح الشعر الذي قيل بالحزن والألم ؟ ؟
في الساعة الخامسة من صباح يوم 27 / 6 / 1980 . اتجهت إلى مطا ر تدمر عشر طائرات عسكرية ، وعلى متنها 200 عنصر لاقتحام السجن ،وقتل مَن فيه ؟ ! ! مع أوامر إلى مدير السجن والحماية بتسهيل المهمة ! وتم قتْل أكثر من ألف سجين سياسي ، أكثرهم من ذوي الاتجاه الإسلامي ؟ ! بعضهم كان رهينة ، وآخرون أُحيلوا خطأ ، وكثير منهم لايعرفون التهمة التي أحضروا ببسبها ، وكلهم تقريبا لم يقدموا لمحاكم ،ولم تصدر في حقهم حتى ولو أحكام باطلة ............. ؟ ! وتكتم المنفذون على الجريمة! ولكن شاء الله أن تنكشف المذبحة بعد إلقاء القبض على عدد من المشاركين فيها ،في الأردن ، ممن أُرسلوا لاغتيال رئيس الوزراء الأردني ؟!
وهذه الحادثة التي أذهلت كل من سمع اعترافات المشاركين في تنفيذها ؛ لم توقف مسلسل الذبح في ذلك السجن الذي ضمت الصحراء المحيطة به جثث الآلاف من خيرة شباب سورية الجريحة ؟ !
أَسمعْتَ بشعب يحكمه
- جلادٌ يفخر بالقتل ِ ؟
بحرائر ترسف في القيد ِ؟
- بالطفل يُهدَّد في المهدِ؟
أسمعتَ بأهل الأخدود
- بنزيف دماء في بلدي
صبرا ياأهلَ الأخدود
- فبتدمر أخدودي الأكبر ( 1)
ويتحول اسم تدمر الصحراء إلى تدمر الحمراء ؛ لكثرة ماأريق فيها من دماء ، ويخاطب أحد الشعراء المدينة باسمها الجديد ، وهو يقصد السجن الرهيب فيها ، وقد هالته الجريمة ، وفجرت في نفسه كوامن الغضب :
يـاتدمر الحمراء في حلل الدم iiِ**
- مـهـلا فـلاعـشنا إذا لم iiننقم
فدمي يسيل على الشفاه مغاضبا
- يـسـري لهيبا ثائرا ملء iiالفم
سـنـقـيدها نارا ، لهيبا iiعاتيا
- ثـأرا لـبيت حولوه لمأتم ii(2)
وفي ( غضبة الشام ) تشتد بالشاعر لواعج الحزن حين تفاجئه أخبار المذبحة ، وهو لايملك في غربته داخل وطنه سوى حسرات ودموع تفيض أشعارا حزينة وقوافي باكية :
يـا ويح قلبي ! بُغاثُ الأرض iiيُمطرهم
- مـن حـقـده حـمما يهوي لها الجبل iiُ
ألـفٌ يـذوقـون كأسَ الموت مترعة
- بـالـحقد غدرا ، وهم في القيد قد iiقُتلوا
سَـلْ سـجـنَ تدمر عن أشبال مجزرة
- فـالـسـجنُ – واللهِ – لا سجَّانه iiخجِلُ
هـذي الأكـف عـلى البيداء قد iiنُثرت
- غـدرا ، وكـان لـهـا في نفعها iiشغل
وتـلـك أقـدامهم – والله – ما iiانتقلت
- إلا لـخـيـر ، فـمـا لـلشر iiتنتعل
أمـا الـجـبـاه فـلـم تسجد لطاغية
- أفـدي جـبـاهـاً لـباريها بها iiوجل
قـد كـفـنـوهـم بـأثـواب iiممزقة
- مصبوغة ، خجلتْ في زهوها الحلل(3)
وأما قصيدة (شهداء تدمر ) فهي قطعة من كبد حرَّى ، فتتها الحزن والأسى ، فقد مضى أحباء الشاعر وهم يحملون شواهد غدر المتجبرين ، يمضون وقد تواعدوا فيما بينهم على لقاء في جنات أعدها الله لمن قُتل في سبيله :
يا راحلين ؟ وخلفهم قلبي ، وفي
- خَـلَدي تقيم طيوفهم إن iiساروا
بـالأمس كنتم كالأهلة iiللورى
- والآن فـي جـنـاتـكم iiأقمارُ
حـزنـي عـليكم قاتل، iiوأمرُّه
- حـزن يـطـوف بأهلكم iiزوّار
هـذا الفؤاد غدا غداة َ iiرحيلكم
- أضـرى غـراما ،والمحبة iiنار
أنا عشت حاديكم ، فكيف iiأحبتي
- طـابـت لكم من دونيَ iiالأسفار
إنـي أَحِـنُّ إلى لقاء iiوجوهكم
- ما زارني ليلٌ ، ولاح نهار ii(4)
وفي ( زهرة الصحراء ) التي بدل القاتلون ربيعها خريفا ، وأفراحها حزنا يصور أحد الشعراء عودة الجنود غير الحميدة بعد تنفيذ المجزرة ؛ وأياديهم تقطر من الدماء البريئة :
عاد الجنودُ إلى القواعد سالميْن
- عادوا كما عادت جموع الفاتحين
ما حاربوا في القدس أو أرض الخليل
- ما حرروا الجولان
لم يعبروا بيسان ؟ !
- كلا .... ولا مروا على جبل الجليل
كانوا هنالك عند تدمر يحفرون
- أخدودهم للمؤمنين ؟!!(5)
وفي ( يا لثارات تدمر ) يصور الشاعر ما حل بأولئك الرجال الأطهار، وهم في قيودهم داخل الزنازين ؛ فتنفجر أحزانه غضبا على قاتليهم :
أجريتم بالدم المهراق أودية
- وأدمعا قد جرت يا ويل مجريها
هذي الدماء ستبقى نور مشعلها
- فالله نوّرها لا بغي يطفيها (6)
وفي ( دع عنك تدمر ) يتوجه الشاعر إ لى الغافلين والمتغافلين , وهو يعذرهم ؟ لأنهم لا في المواجهة مع الباطل ينفعون ، ولافي البكاء على مَنْ رحلوا يشفون :
دع عـنـك تـدمـر أجسادا iiوأرواحا
- واصرف عن القلب طيف الشام إن لاحا
واضـرب بـكـل خـيـال لاتُسَرُّ iiبه
- وجـه الـزمـان ، ونم كالشاة iiمرتاحا
دع عـنـك تدمر ، دع فرسان iiساحتها
- لايعرف الساح مَن لم يقحم الساحا (7 ii)
و أما في ( أتذكر يا عويمر ) فيقف الشاعر قرب جبل عويمر ، وقد حفر القتلة في سفحه أخاديد واسعة ، ثم حملوا الجثث لتلقى فيها ، وليصبح الجبل وما يحيط به مناطق محرمة :
عُـويـمرُ أيها الجبل الحبيبُ
- ويـا قمما تضمِّخها iiالطيوبُ
مررتُ به ، وبي شوقٌ iiوحب
- وخوف أن يُحس بي iiالرقيبُ
أقـول : هنا أ ُحيبابي iiفأجثو
- كما فعل المَشوقُ iiالمستريب!
أتـذكر يا عويمرُ يوم iiجاؤوا
- بـأحـبابي وقد برزتْ iiنُيوبُ.
فـأحبابي النجوم َُ! وأيُّ iiنجم
- ترى قد ضمَّه الجَدَثُ الرطيب
يتذكرهم .... وهو يعرف منهم الكثيرين والكثيرين ! فلم يكونوا واحدا فيُنسى ! فكيف وهم ألف أو أكثر :
فـكـم مـن قـمـة كانوا iiعليها
- تُـطـاوِِل ألـفَ نـجم لا iiيغيبُ
تـعـاتـبـني ؟ وبي حزن عليهم
- وكـيـف العيش بعدهمُ يَطيب ؟!
وتـعجب من همومي iiواكتئابي؟!
- لَعمْرُكَ ، فالسرورُ هوالعجيبُ !(8)
وتمضي هذه الكوكبة .... كما مضى غيرَها إلى جنات ونهر عند مليك مقتدر ....!!
ويسرح القتلة ، ويمرحون وهم معروفون بأسمائهم وأشخاصهم ومراتبهم !؟ غيرَ كبيرهم الذي عَلمهم القتل ، فقد طواه الموت وهو بين يدي جبار السماوات والأرض .
وما أجمل ما قيل : بَشِّر القاتل بالقتل ولو بعد حين .
هوامش :
1) ملحمة تراتيل على أسوار تدمر ص49
2) ديوان حروف من رصاص ص15
3) المجزرة المستمرة ص96
4) المجزرة المستمرة ص89
5) المجزرة المستمرة ص91
6) المجزرة المستمرة ص92
7) المجزرة المستمرة ص95
8) ديوان حروف على درب الخلود ( مخطوط ) .
رابطة أدباء الشام