مع قدوم شهر رجب... شهر الله الحرام

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
مع قدوم شهر رجب... شهر الله الحرام

بقلم:الإستاذ محمد مهدي عاكف

مقدمة

رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.. وبعد، فقد أهلَّ هلال شهر رجب، أحد الأشهر الحرم التي خصَّها الله بالذكر والفضل، قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (التوبة: 36)، وهي الأشهر الأربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم- ثلاث متواليات- وشهر رجب.

وكانت العرب تحرمها وتجلها قبل الإسلام، فزادها الإسلام تحريمًا وإجلالاً؛ جريًا على نهج تشريعه العظيم أن يُقرّ ما وجده من خير، ويعترف به، ثم يُصفيّه من أدران الجاهلية وشوائب الشرك، ثم ينميه ويعظم الإفادة منه، فيشير بذلك إلى منهج التعامل مع ما لدى الآخرين، من انفتاح عليهم، وتواصل معهم، مع وعي وتدبر حصيف، يتتبع الخير ويحتفي به، "فالحكمة ضالة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحق الناس بها"، ويترك الشر، ويحذر منه، ويحاربه، لترتقي البشرية قُدُمًا في مدارج الحضارة، وتُفيد من تجاربها وخبرات جميع أبنائها.

وقد حرَّم الله تعالى في هذه الأشهر التظالم والبغي ﴿فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ (التوبة: 36)، وهو حرام في الأشهر كلها، وإنّما خصَّه بالذكر في هذه الأشهر الحرم؛ لأن الظلم فيها أبلغ في الإثم، وأشنع في العمل، كما غلَّظ العقوبة والإثم على المعصية في مكة البلد الحرام، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (الحج: 25) مع تحريم المعاصي في المواضع كلها.

وفي ذات الوقت جعل الله تعالى ثواب العمل الصالح في هذه الأشهر الحرم أعظم من غيرها، كما ورد في عديد من الأحاديث؛ فهي أسواق الخير العميم، ونفحات الله التي ينبغي التعرَّض لها، فطوبى لمن انتهز فرصتها، واغتنم مقدمها، وتدبر آلاء الله فيها، وشمَّر عن ساعد الجد، وأماط عن قلبه وعقله حجب الغفلة، وطهر نفسه فيها وزكاها، فصار إلى ربه أقرب.

ذكرى الإسراء والمعراج في رجب وتحرير بيت المقدس

ويرتبط شهر رجب في وجدان كثير من المسلمين بذكرى الإسراء والمعراج، بكل جلالها ومعانيها، وقد وقعت هذه المعجزة الباهرة لنبينا- صلى الله عليه وسلم- في السابع والعشرين من شهر رجب تبعًا لأشهر الروايات، وهو اليوم نفسه الذي قُدّر أن يتحرر فيه بيت المقدس، ويعود إلى أحضان المسلمين على يد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، سنة 583هـ، بعد أن ظلَّ أسيرًا في أيدي الصليبيين الغزاة زيادةً على تسعين سنة.

وكان فتح المسلمين له فتح رحمة ونبل، أبهر أعداءهم، وارتفع الأذان للصلاة من جديد فوق مآذن المسجد الأقصى بعد عقود من الغربة والامتهان، فما يئس المسلمون آنذاك مع تطاول عمر الاحتلال وجرائمه، ودمويته وعنفه، وما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا، وما استكانوا لأعدائهم، ولم يكن جهاد صلاح الدين ونصره إلا تتمة لسلسلة طويلة من مصابرة المجاهدين وبذلهم، من عامة الناس وعلمائهم، وقادتهم وزعمائهم، فلما صدق العزم، وخلصت النية واستقام الصف، وامتُلكت أسباب القوة جاء النصر ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (آل عمران: 126)، ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: 7)، وما ذهبت دماء الشهداء هدرًا، وما أزهقت نفوس الأبرياء ظلمًا بغير ثمن، وما استبيحت الأعراض والحرمات والمقدسات دون مقابل، فكان النصر العزيز بلسمًا وشفاءً.. ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ* وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة:14-15).

إن ساحات المسجد الأقصى اليوم، وإن جنبات الأرض المقدسة في فلسطين السليبة، وإن دماء الشهداء وأنَّات الثكالى والمعذبين هناك، لتستصرخ المسلمين اليوم لنصرٍ كنصر صلاح الدين وإخوانه، وإن جيوش المجاهدين وعزمات القادة الأفذاذ ومصابرة العلماء وبصائر الشعب هناك اليوم لتبعث فينا الأمل بأن جيلاً يستأهل النصر والتمكين يتكوَّن، وأن لَبِنَات مجد الإسلام تتعالى، وأن يوم النصر ليس بعيدًا، وليس السابقون في صنعه، والمتسابقون إلى ساحاته كالقاعدين والمتخاذلين، أو المرجفين والمثبطين ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً* أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا﴾ (الأحزاب: 18-19).

فريضة الجهاد ودعم المجاهدين

وإن جهاد أعداء الله تعالى- الذين اعتدوا علينا، واحتلوا بلادنا، وقتلوا أبناءنا ورجالنا ونساءنا وأطفالنا، ونهبوا خيراتنا، ووصمونا مع ذلك كله بالإرهاب والعدوان- فريضة ماضية، ومن لم يستطع طولاً أن يقوم بها، وحبسه العذر، فليس أقل من أن يستصحب نية الجهاد، ويدعم إخوانه في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير وغيرها من بلاد الإسلام الممتحنة، "ومن جهز غازيًا فقد غزا"، وتلك قربة من أعظم القُرب، بل هي أعظمها في هذا الظرف التاريخي الدقيق.

وفي هذا الشهر الفضيل من الأشهر الحرم نشدُّ على أيدي إخواننا المجاهدين، ولا نكف عن الدعاء لهم، لعل الله تعالى يمنُّ علينا بظفر قريب، ويكفَّ عنا أيدي الظالمين وعدوانهم ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً﴾ (النساء: 84)، كما نحيي صمود أسرانا في فلسطين وغيرها، ومحاولتهم لفت انتباه العالم إلى ما يلاقونه من معاناةٍ وقهر وتضييق، يمثل عدوانًا صارخًا على كل القوانين والأعراف الدولية التي تتصل بحقوق الأسرى وحقوق الإنسان، وإدانة للضمير العالمي الصامت عما يجري لهم.

وحدة صفوف المؤمنين

وفي شهر رجب- أحد الأشهر الحرم- نُذكِّر بأهمية وحدة الصف الإسلامي، وتآخي المسلمين وتوادهم، وحرمة التدابر والتقاطع والاقتتال بينهم، وهو في هذه الأشهر أعظم حرمة، وهو في حال الجهاد والمقاومة ودفع إجرام العدو أشد خطرًا ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (الصف: 4)، وإننا لنؤكد على ضرورة تحقيق الوحدة الداخلية بين أبناء شعبنا في فلسطين، وأهمية الحوار بينهم بغية توحيد الصف ومواصلة الجهاد وإنضاج تصورهم للمستقبل.

كما نحيي تلك المظاهر الرائعة لتوحد شعبنا في العراق، السنة والشيعة معًا، في مقاومة العدوان الأمريكي عليهم، الذي تجاوز كل الحدود في جرائمه في النجف الأشرف والفلوجة وبغداد وغيرها، وإن قصف المساجد وانتهاك الحرمات وقتل الأبرياء لن يزيد المقاومة إلا اشتعالاً، وسوف يعمقِّ مشاعر الكراهية للاحتلال، ويؤكد عزلة عملائه، وإن تربعوا فوق كراسي الحكم، وعلى كل حاكمٍ لا يستمد شرعية حكمه من رضا شعبه والوقوف معه في خندق واحد ضد محتليه وظالميه أن يعتبر بمن سبق، وفي التاريخ القريب والبعيد العظة والعبرة.

أما أهلنا المنكوبين في دارفور بالسودان فإننا نذكرهم بحرمة دمائهم فيما بينهم، وهم أتباع دين واحد، وقبلة واحدة، وشريعة واحدة، وقد قال نبينا- صلى الله عليه وسلم-: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه"، وقد آن الأوان أن يفيقوا من غفلتهم، وينتبهوا لخطورة ما يُراد لهم، وما يحاك لبلادهم من مؤامرات ينبغي ألا يكونوا أداة لتحقيقها، إن الهدف من تغذية الصراعات بينهم هو تفتيت السودان وتقطيع أوصاله، ونهب خيراته وخيرات دارفور نفسها التي لم يستطع أهلها التنعم بها، ثم تهديد مصر بإشعال النيران في الجنوب منها، والعبث في موارد النيل ومصادر المياه والحياة فيها.

فيا أهل دارفور ويا أبناء السودان، اللهَ اللهَ في دمائكم وأموالكم ووطنكم، نحن في شهر حرام فلتعظموا حرمته، ويكفينا ما بجسد أمتنا من جراحٍ لا تحتمل جرحًا جديدًا، ويا جموع المسلمين أغيثوا إخوانكم هناك، وبخاصة في هذا الشهر الفضيل من الأشهر الحرم التي يتضاعف فيها أجر الصالحات، ولا يجوز أن تتركوهم نهبًا لمنظمات الإغاثة المشبوهة التي تستغل حاجاتهم لتغيير هويتهم وملّتهم، وطمس معالم الإسلام في نفوسهم، أو تحريضهم ضد بني وطنهم وإخوانهم في الدين.

رياضتنا عبادة

ولا ينبغي، وساحات الحرب على الإسلام والمسلمين مشتعلة، أن يشغلنا الإعلام العالمي والمحلي في هذه الآونة بدورة الألعاب الأوليمبية في أثينا، فينصرف بذلك انتباهنا ويغيب وعينا عما هو مطلوب منَّا نحو إسلامنا وتجاه ما يجري لإخواننا.

وإذا كنا نحن كإسلاميين نقف على حذرٍ من ذلك فإننا نؤكد أن للإسلام نظرته التي تشجع ممارسة الرياضة ضمن منظومة متكاملة لامتلاك أسباب القوة الروحية والمادية، ونحن أتباع دين يقول كتابه الكريم: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ (الأنفال: 60).

ويُعلي قيم التنافس والسبق إلى فعل الخيرات، ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ (الواقعة: 10-11)، ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ (المطففين: 26)، ويقول رسوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف".

وقد كان رسولنا- صلى الله عليه وسلم- مثالاً في القوة، يصارع الأقوياء فيغلبهم، ويتقي به أصحابه حين البأس، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، وقد كان يحضُّ أصحابه على اكتساب القوة الجسدية اللازمة لجهاد الأعداء ونفع الأمة، فيسابق بينهم، ويحضُّ على تعلم الرمي، ويقول: "مَنْ عُلِّم الرمي ثُمَّ تَرَكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا".

والإسلام يحرص على أن تكون هذه القوة الجسدية مطيّة للحق والعدل، لا وسيلة للتفاخر والبغي، وأن تأخذ القوة الروحية المخبتة لله تعالى بزمامها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"، ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه يغضب لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة من حرمات الله، وإن اجتهد المرء أن يمتلك أسباب القوة الجسدية- عبادةً لله تعالى- ثم لم يستطع أن يتميز فيها، لقدرٍ قد قسمه الله له، فلا تثريب عليه، وقد كانت قَدَمَا عبدالله بن مسعود أثقل عند الله تعالى من جبل أحد، وهو النحيف الضعيف البدن، لكنه قوي الإيمان، صادق النية، سليم القلب.

والرياضة فى الإسلام- بعد ذلك- ليست عملاً تمارسه الصفوة، وتُهدر في سبيله أموال الأمة بسفهٍ ونزق، وتصبح بذلك تلك القلة رمز البطولة ومثار الإعجاب، يتسلى بمشاهدتها المتبطلون والفارغون، بل هي عبادة مطلوبة من كل مسلم لتحقيق غايات أسمى وأجل، إعزازًا للأمة، ورفعًا لمكانتها، وإعلاءً للدين، وإجلالاً لشأنه: ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ (الأحزاب: 4)،

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.