ملاحظات حول مناهج التعليم وطرقه
بقلم / الإمام حسن البنا
(1) فى مصر اليوم أنواع كثيرة من التعليم: فيها التعليم الأولى الذى يشمل الإلزامى والمشروع والقديم ورياض الأطفال، وفيها الابتدائى والثانوى، وفيها التعليم العالى الذى يشمل الجامعتين الأزهرية والمصرية، وغيرهما من المدارس العالية، وفيها التعليم الخصوصى بأنواعه، ولكن هذه الأنواع جميعًا تبدو مفككة الروابط متباعدة الحلقات غير واضحة الغاية، ولاسيما بعد الإصلاح الحديث وتعديل نظم التعليم، فما صلة الأولى بعضه ببعض؟ وما صلته بالابتدائى وبغيره من أنواع التعليم المصرى؟ وما هى الغاية منه؟
وهل تتحقق هذه الغاية بدراسة برامجه الحالية؟ وما صلة المدارس الأولية والابتدائية بالتعليم الخصوصى؟ وما صلة الجامعة الأزهرية وفروعها بغيرها من فروع التعليم ومعاهده؟
كل هذه أسئلة يبدو الجواب عليها غامضًا، وحبذا لو كان هناك دور أولى عام يشمل كل أبناء الأمة، وتكون رياض الأطفال جزءًا منه يخصص لأبناء الطبقة الراقية ومن فى حكمها، ثم يتفرع من هذا الدور المدارس الأولية التى تعد طلبتها للجامعة الأزهرية، والابتدائية التى تعد طلبتها للمدارس الثانوية فالجامعة المصرية، ومن الأولى والابتدائى تستقى المدارس الخصوصية، وعلى كل فليس من مهمتى أن أعالج ذلك وإنما أكله إلى الفنيين من رجال التعليم، مذكرًا إياهم بتلك الضجة التى قامت حول توحيد التعليم الأولى والابتدائى.
(2) ويلاحظ أن فى مصر ثقافات مختلفة تجعل التفاهم بين طبقات الأمة شبه متعذر: فهذا حامل شهادة المدارس العليا لا يستطيع أن يتفهم آراء حامل شهادة العالمية مثلاً وهضمها، والآخر كذلك، وإنما كان هذا نتيجة لسببين هامين: أولهما: تفكك الروابط بين معاهد التعليم. والثانى: تباين المناهج تباينًا تامًا.
وحبذا لو عملنا على تقريب مسافة الخلف بين الثقافتين فزودنا طالب المدارس بما يحتاج إليه من الدين واللغة، وزودنا طالب المعاهد بما لابد منه من العلوم العصرية حتى لا يكون التفاوت عظيمًا فى نوع التفكير، وربما حقق الإصلاح الأزهرى الحديث الغرض الثانى، فهل لوزارة المعارف أن تعمل على تحقيق الغرض الأول؟
(3) وطول المناهج وكثرة المواد أمر واضح جدًا، وخصوصًا فى المدارس الأولية والابتدائية والثانوية، ونحن بذلك نحاول أن نحشو أذهان التلاميذ بكل شىء ولكنهم لا يتمكنون من فهم شىء.
ذلك إلى أن كثيرًا من المواد التى تدرس فى المدارس الابتدائية لا يتناسب مع ميول الأطفال ومداركهم، مع مخالفة ذلك لقواعد التربية الحديثة وقلة جدواه على التلاميذ، ولابد فى وضع المناهج وتخير المواد من مراعاة ميول الطفل ومداركه وصلة المعلومات التى تلقن له بحياته.
يقول الأستاذ (صلى) فى كتابه علم النفس للمدرس: إن من النتائج الجلية القيمة التى أنتجتها تعاليم التربية الحديثة أنه من العبث أن يحاول المدرس الاندفاع بالطفل فى ميدان الدراسة النظرية من نحوية وغيرها، وأن تهذيب الفهم يجب أن يبدأ بتدريب الطفل تدريبًا منظمًا على الملاحظة بالحواس، وأن الوقت الذى يخصص لهذا القسم الأساسى من الأعمال المدرسية يعوضه وزيادة ما يكسبه الطفل من المواد العقلية التى ادخرها، فهذه المواد المدخرة تزيد فى سرعة كل العمليات الفكرية الراقية وتجعل نتائجها أتم وأكثر قيمة.
ويقول الأستاذ وليم جيمس فى كتابه محادثات مع المعلمين فى علم النفس ما ترجمته: "إن عملية كسب المدركات الكلية تسير طبقًا لترتيب غريزى معين، وهناك ميل طبيعى لهضم بعض أنواع الأفكار فى سن خاص، وهضم أنواع غيرها فى سن تال، ففى السبع السنوات أو الثمان الأولى من سنى الطفولة يكون أكثر اهتمام العقل بالخواص المحسوسة للأجسام المادية، وأكثر الغرائز نشاطًا هى الغريزة الإنسانية، وبطرق الأجسام ونشرها بلا انقطاع، وبإلباس الدمى الصغيرة ثم نزع ثيابها،
وبتركيب الأشياء بعضها مع بعض ثم فصلها، لا يدرب الطفل فقط عضلاته على التوفيق بين حركاتها، بل هو فوق ذلك يكدس مقدارًا من المدركات الطبيعية يبقى طول حياته أساس معرفته بالعالم المادى"، ويقول: "عليك بتغذية الآدمى الناشئ بتجارب من النوع الذى يظهر شغفه الطبيعى به من سنة لسنة، وإذ ذاك ترى أنه ينسج لنفسه متى شب نوعًا قويًا من النسيج العقلى، ولو أن عمله قد يبدو مضيعة للوقت فى أعين أولئك القوم الذين لا يرون سبيلاً للعلم غير الكتب والمعلومات التى تنقل باللفظ".
ومن ذلك نعلم أن طول المناهج واكتظاظها بالمواد النظرية لا يفيد التلميذ كثيرًا، وأن الطريقة المثلى فى إفادة التلاميذ وتثقيف عقولهم اختصار هذه المناهج وحذف المواد التى لا تتصل بحياة الطفل، والتى لا تقوى سنه على إدراكها، واستبدال المواد العملية بها كالأشغال وفلاحة البساتين وما إليها، ويجب أن تحذف اللغة الأجنبية من مدارس الأطفال، ولا يبدأ فى تعليمها إلا بالمدارس الثانوية؛ فإن الطفل الذى لا تقوى مداركه على فهم العلاقة بين الاسم والمسمى فى لغته -والذى هو فى حاجة إلى دراسة لغته وتفهمها- لا يستطيع بحال أن تجمع إليها لغة أخرى بعيدة كل البعد عن بيئته وحياته.
فى فرنسا تبدأ دراسة اللغة الأجنبية عادة فى الفرقة السادسة التى توازى الأولى الثانوية عندنا، وفى إنجلترا ينصح معظم الكتاب فى التربية بعدم البدء فى تعلم اللغة الأجنبية قبل سن الحادية عشرة، وقد أصبحت اللغات الأجنبية اختيارية فى امتحان الدخول للجامعات، والامتحان فيها لمن يختارونها لا يخرج عن ترجمة قطعة سهلة، وكتابة موضوع إنشائى قصير فى غرض متناه فى البساطة، فهل نحن خير من هؤلاء فى ذلك؟
إننا لا نقول بعدم تعلم اللغة الأجنبية، بل ذلك من أمس الضروريات لنا، ولكن دراستها للطفل الصغير يجهد عقله كل الإجهاد، ويضيع عليه فرصة عظيمة من المواد الأخرى التى يحتاج إليها عقله الصغير، ويسند بعض كتابنا قصور متعلمينا فى اللغة الأجنبية إلى هذا البدء المبكر فينشأ الطفل على كراهة هذه اللغة وعدم إساغتها، وما أظرف قوله فى ذلك: إننا نكلف طلبتنا أن يقرءوا شكسبير وماكولى وبيكون، ولكنا انتهينا دائمًا بأن نكتشف أن الطالب لا يستطيع فهم روبنصن كروزو ولا يجيد كتابة خطاب إنجليزى إلى تاجر يشترى منه قميصًا، فخير لنا وللطفل إذن أن نؤخر دراسة اللغة الأجنبية حيث يشب عقل الطفل ويقوى، ونعوضه عنها بما هو خير له وأنفع.
وطول المناهج كثيرًا ما يؤدى إلى أن يمر المدرس بالمسائل مر السحاب دون بحث أو تمحيص حتى يتمكن من إنجاز المنهج، بل قد يتخطى بعض النقط أو يترك جزءًا عظيمًا بدون تدريس مطلقًا، وهو معذور فى ذلك، ويكون نصيب التلميذ من كل ما يدرس من العلوم حفظ قشور ينساها بمجرد خروجه من المدرسة دون أن تتربى عنده ملكة الفهم والبحث، ولعل هذا هو السبب فى أن كثيرًا من خريجى مدارسنا العليا يحفظون كثيرًا من نظريات العلوم وقوانينها دون أن يستطيع أحدهم إجراء تجربة تؤيد ما حفظ. حقًا إن بالمدارس المعامل الكافية لإجراء التجارب اللازمة ولكن أين الوقت الذى يسمح بشرح النظرية وإجراء التجربة واستيفاء المنهج؟ ولقد كانت هذه الدراسة النظرية سبب تأخر الأمم اللاتينية عن الأمم الأنجلوسكسونية التى أخذت بالدراسة العملية، وقد أفاض فى ذلك جوستاف لوبون وإدمون ديمولان فى كتابه "سر تقدم الإنكليز السكسون" وكتابه "التربية الحديثة" بما لا يدع مقالاً لقائل، فرجاؤنا إلى الوزارة العاملة أن ترحم المدرسين من عبء وطول المناهج، وتدع لهم الوقت الكافى لإفادة تلاميذهم إفادة عملية حقيقية.
(4) نرجو أن تهتم الوزارة بالتعليم الدينى الاهتمام اللائق بأثره فى تهذيب النفوس وتطهير الأرواح، وتجعله كمادة أساسية يتوقف عليها ثلث التربية الكاملة وهى التربية الخلقية، فلا يكاد الدين يدرس فى مدارسنا إلا فى السنوات الأولى والثانية والثالثة الابتدائية، وله حصة فى الأسبوع فى المدارس الثانوية وقد نما عقله وقوى إدراكه وانبعثت عاطفته، وأصبح فى دور المراهقة والبلوغ أحوج ما يكون إلى الوازع الدينى الذى يعصم نفسه ويحول بينه وبين الفساد الخلقى، وهو فى هذه السن عرضة للشكوك والتقلبات الفكرية، فهو أحوج إلى ما يبث فى نفسه عقيدة دينية صحيحة.
نعم إن لدراسة الدين فى المدارس الابتدائية أهمية وخطرًا، ولكن أهميته العظمى وفائدته الجلى فى المدارس الثانوية حتى يستطيع التلميذ أن يقمع بدينه عاطفته الثائرة وعقله الوثاب، ويلزمهما حد الفضيلة والكمال، وحبذا لو قررت الوزارة زيادة الحصص فى المدارس الثانوية، وقررت ذلك فى المدارس العالية وجعلت منهج الدين يشمل جزءًا من القرآن يحفظ بعد تفهمه وإدراك حكمة التشريع فيه، وأصبح الدين مادة أساسية يتوقف عليها النجاح، وجعلت له درجات تحريرية وامتحانًا تحريريًا أسوة بباقى المواد، ولا تعجز الوزارة عن إيجاد حل يوفق بين هذه الأمنية وبين اختلاف أديان الطلبة، فليكن الامتحان الدينى خاصًا وإن كان يتوقف عليه نجاح التلميذ أو رسوبه.
وهناك مشكلة لابد أن تفكر الوزارة فى حلها وهى مشكلة تحفيظ القرآن.
كانت المكاتب القديمة تقوم بهذه المهمة، ويتخرج فيها طائفة من الأمة تحفظ القرآن الكريم، ولكن هذه المكاتب تنقرض بانتشار التعليم الإلزامى والابتدائى فأين يحفظ القرآن؟ المدارس الإلزامية لا تعنى به ولا تتسع له، والمدارس الأولية تنقرض هى الأخرى، والابتدائية لا تدرسه ويقولون: إن هناك قسمًا يسمى بقسم الحفاظ، ولكنا لم نعلم نظامه ولا نتيجته ولا مبلغ الإقبال عليه، على أن تحفيظ القرآن فى السن المبكرة قضية فيها نظر، فما هو موقف الوزارة أمام هذا الموضوع الهام؟ لا نريد أن يكون كل متعلم فى الأمة يحفظ القرآن فإن هذا لا يتفق مع نشر التعليم الإجبارى، ولكن الذى نريده هو أن يحفظ كل متعلم جزءًا من القرآن، وأن تكون هناك طائفة كثيرة تحفظ القرآن كله.
فلتفكر الوزارة وفضيلة الأستاذ الكبير شيخ الجامع الأزهر تفكيرًا جديًا فى هذه النقطة الهامة.
(5) ومما يلاحظ بجلاء فى مناهج التعليم عدم إعطاء التاريخ الإسلامى القسط الكافى من العناية، نعم إن المدارس الابتدائية عندنا تدرسه ولكن بطريقة غير مجدية، إذ يحفظ التلميذ بضعة أسطر من إملاء أستاذه، وفى المدارس الثانوية والعالية حتى التى يتخصص طلبتها بالتاريخ لا تتوفر العناية بهذه المادة الهامة، التى يقدر المربون جميعًا مبلغ فائدتها العالمية والتهذيبية، وكل جهود طلبتنا منصرفة إلى تاريخ أوروبا، ونحن لا نريد أن يمنع تدريس تاريخ أوروبا ولكن نود أن تكون دراسة التاريخ شاملة لدراسة التاريخ الإسلامية بطريقة واسعة مجدية.
(6) وبما أن المدرسة هى معهد التربية، والتربية تعليم وتهذيب، فيجب على المدرسين أن يعنوا بالجانب الخلقى التهذيبى من أبنائهم، وأن يبثوا فى نفوسهم روح الفضيلة، ولا يقصروا جهودهم على تلقين العلوم وشرحها، وليربوا فى نفوس تلامذتهم حب العلم والشغف به حتى يشغلوا وقت فراغهم بعد التخرج فى المدرسة بالبحث والاستقصاء، وإن فريقًا من شبابنا يودع العلم بوداع المدرسة، مع أن المدرسة لا تزوده من العلم إلا بالمبادئ التى تمكنه فيما بعد من التبحر والاختصاص.
نكتب هذه الملاحظات والمناهج المصرية الحديثة لا تزال "مؤقتة" ويد "الإصلاح" فى الوزارة تتناول كل شئون التعليم، راجين ألا يكون الإعجاب بثقافة الغرب وروحه العلمية داعيًا لنا إلى الجرى وراءه وتقليده تقليدًا مطلقًا، فإن الغرب يحافظ على روحه، وإن لنا روحًا علينا –أيضًا- أن نحسن المحافظة عليها. والله لا يضيع أجر المحسنين.
المصدر: مجلة الشبان المسلمين الشهرية، السنة الثانية، المجلد الأول، الجزء الرابع، شعبان 1348ه/ يناير 1930م، ص(280-285