نظرات في سورة الحجرات

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
نظرات في سورة الحجرات


بقلم : الشيخ محمد محمود الصواف


المقدمة

مقدمة الحلقة الثالثة من المكتبة القرآنية

اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.ولك الشكر على نعمائك وفضلك وإحسانك.

اللهم إجعل التقوى زادنا . وإجعل الجنة مآبنا.وأرزقنا شكرا يرضيك عنا,وورعا يجزنا عن معاصيك , وألهمنا الصواب والسداد في فهم كتابك الذي أنزلته نورا وضياء وشفاء للمتقين, ودستورا ونظاما محكما وهداية للعالمين , والذي هو عصمة لمن تمسك به, ونجاة لمن إتبعه.وصل وسلم – يا ربنا – على خير خلقك, وسيد رسلك " محمد " المبعوث رحمة للناس كافة بشيرا ونذيرا, وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. وبعد :

فهذه الحلقة الثالثة من " المكتبة القرآنية " التي بدأت بعد التوكل على الله العلي الكبير إصدارها ونشرها بين الناس رجاء الإنتفاع بها أو الإستفادة من ثمرات هذا القرآن العظيم , الذي جعله الله مصدر عز هذه الأمة. وينبوع خيرها وفضلها ومجدها, وحياتها. فهي بخير ما دامت راعية لكتاب الله , محتفظة بآدابه وأحكامه وأوامره ونواهيه. فهو قمة المجد فيها , وهو العلم الهادي , ينير لها دروب الحياة , ويسلك بها إلى أقوم طريق , وأهدى سبيل. وسوف أكون بعون الله في سيري بإخراج هذه السلسلة من المكتبة القرآنية كساع في حديقة غناء تسر الناظرين يبتهج فيها بما يرى من عظيم صنع الله عز وجل بما أصابها من وابل وإن لم يصبها وابل فطل. ثم يشتهي أن يرى الناس ما رأى , فيقتطف من كل غصن من كتاب الله زهرة فواحة ندية عطرة ويجمع منها باقة من الزهور متناسقة الشموس والبدور .

أو كداخل جنة ملتفة الأغصان وارفة الظلال , عظيمة الثمار . يتفيء ظلالها , ويأكل من ثمارها ثم يتمنى أن يشاركه الناس في هذا الخير فيجني من كل غصن ثمرة , ومن كل شجرة فاكهة شهية طرية بهية , ثم يقدمها هدية هنيئة مريئة إلى إخوانه الذين سرتهم هذه السلسلة من المكتبة القرآنية وفرحوا بها وشجعوها في حلقتيها الأولى والثانية فجزاهم الله أوفر الجزاء وأجزله .

وفي هذه الحلقة الثالثة وددت أن أقدم لإخواني القراء سورة قرآنية معجزة بلفظها ومعناها , وهي مبهجة ومنجية لمن أخذ بها وعمل بما فيها , وهي من السور المباركة المليئة بالآداب العالية. والأخلاق السامية , والمثل النيرة التي تقود الإنسانية إلى الكمال والعلياء , إنها سورة " الحجرات " وسميت الحلقة : " نظرات في سورة الحجرات ".

ولعل من المفيد النافع أن ألخص وأجمل هنا أهم الأغراض التي إشتملت عليها هذه السورة العظيمة .

ففي هذه السورة بيان للآداب مع الله عز وجل والأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وفيها آداب عامة لتعامل المسلمين بعضهم مع البعض الآخر.

وهذه السورة قررت الحرية الشخصية للمسلم داخل بيته , حتى لا يباح لأحد أن ينقب عنه. إذ أن بيت الرجل حصن له. لا يدخله أحد إلا بإذنه .

وفي هذه السورة حفظ للمسلم عرضه في غيبته وحضوره.

كما فيها النهي عن التفاخر بالأنساب , والنهي عن فعل الجاهلية الأولى, وفيها طلب التثبت في الأخبار وعدم الأسراع في تصديق أنباء الفاسقين.

وفيها التنبيه والتوجيه من الله عز وجل للمؤمنين إلى طريق المجد الحقيقي في الدنيا والآخرة. كما حث الله فيها على العمل حتى جعلت الأعمال جزءا من الإيمان .

وفي هذه السورة ندب للمسلم أن يكون معوانا على الحق , نصيرا له ولأهله , يدفع الظالمين , ويقف في صف المظلومين حتى ينصفوا إنصافا كاملا .

وفي سورة الحجرات الدعوة إلى الجهاد بالنفس وبالمال في سبيل نصرة الحق وإعلاء كلمة الله . ونحن أمة مجاهدة والجهاد ماض فينا إلى يوم القيامة . وما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا .

وهذه السورة الجليلة , ذات الثمانية عشرة آية تعتبر من عظائم السور القرآنية . حيث تضع للمسلم أروع المثل الإنسانية العليا في الأخلاق والآداب , والأعمال والمعاملات وهي جديرة بالدراسة , حرية بالفهم وإمعان النظر . لما فيها من كنوز هذا القرآن العظيم . وحاجة أمتنا إلى آداب هذه السورة تبرز اليوم . والأمة الإسلامية تجتاز أخطر محنة في حياتها الطويلة . فقد تكالبت عليها دول الكفر والضلال . وأطلقت عليها عميلتها القذرة دولة الغدر والخيانة والظلم والفساد إسرائيل , تلك الأمة اليهودية الخاسئة التي لعنتها الأرض والسماء , وجاء لعنها في أربع كتب سماوية كما قال إبن عباس رضي الله عنهما. إذ لعن الله بني إسرائيل في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن .وهي أهل اللعن لأنها أمة تسعى في الأرض فسادا . فعليها وعلى من والاها وأيدها مثل هذه اللعنة إلى يوم الدين . وما علمت هذه الدولة الكافرة هي ومن شايعها , إن قوة الله هي أكبر من قوتها , وبطش الله أقوى من بطشها , وأننا بإذن الله مهما طال الأمد , فالنصر لأمتنا و ديننا , والهزيمة الأكيدة والدمار المحقق , لإسرائيل المجرمة ومن أيدها و ناصرها من دول الكفر. فأمة القرآن لن تغلب , وأمة الإسلام لن تقهر , ما دام الله معها , وما دامت هي مع الله . وإن كان الدهر قد كبابها يوما . فإن عهد هذه الكبوة قد إنتهى وبدأ برعاية الله عهد النصر والوحدة والنهوض , فإلى القرآن من جديد أيها المسلمون . فالنصر لنا من ربنا والله معنا ولن يترنا أعمالنا , والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون , والجهاد الجهاد فهو سنام الإسلام , وهو طريق المجد والعزة والكرامة , والله يقول الحق وهو يهدي السبيل , وصلوات الله وسلامه على إمام المجاهدين وقائد الغر المحجلين , محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

مكة المكرمة

محمد محمود الصواف

نظرات في سورة الحجرات

سورة الحجرات من السور القرآنية المعجزة بلفظها ومعناها . وهي من السور المدنية , التي تنزل بها الوحي الأمين على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة المنورة مستقر الأنصار , ومهاجر رسول الله , ومنطلق الدعوة الإسلامية والخلافة الراشدة , وموئل المهاجرين . ومأزر الإيمان والمؤمنين . وسورة الحجرات , مليئة بالآداب العالية , والأخلاق السامية , والمثل النيرة التي تقود الإنسانية إلى العلياء والكمال , والحصافة والسماحة والجمال .

تمهيد

أهم أغراض السورة

وفي سورة الحجرات بيان للأدب مع الله عز وجل , والأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفيها آداب عامة لتعامل المسلمين بعضهم مع البعض الآخر . وقد إشتملت هذه السورة على أروع المثل الإسلامية والإنسانية .

وفي هذه السورة قررت الحرية الشخصية للمسلم داخل بيته , حتى لا يباح لأحد أن ينقب عنه . إذ أن بيت الرجل حصن له , لا يدخله أحد إلا بإذنه .

وفي هذه السورة حفظ للمسلم عرضه في غيبته وحضوره . وفيها النهي عن التفاخر بالأنساب , والنهي عن فعل الجاهلية الأولى .

وفيها طلب التثبت في الأخبار وعدم الإسراع في تصديق أخبار الفاسقين .

وفيها التنبيه والتوجيه من الله عز وجل للمؤمنين إلى طريق المجد الحقيقي في الدنيا والآخرة . كما حث الله فيها على العمل . حتى جعلت الأعمال جزءا من الإيمان تنويها بما لها من الشأن عند الله تبارك وتعالى في الدنيا والآخرة.

وفي هذه السورة ندب للمسلم أن يكون معوانا على الحق , نصيرا له ولأهله , يدفع الظالمين , ويقف في صف المظلومين , حتى ينصفوا إنصافا كاملا .

وفي السورة دعوة إلى الجهاد بالنفس والمال في سبيل نصرة الحق وإعلاء كلمة الله عز وجل .

والخلاصة : إن سورة الحجرات ذات الثماني عشرة آية من الآيات , من عظام السور القرآنية , التي تضع للمسلم أروع المثل الإنسانية العليا , في الأخلاق , في الآداب , والأعمال , والمعاملات . وهي جديرة بالدراسة , حرية بالفهم والنظر إلى ما فيها من كنوز هذا القرآن العظيم , الذي أنزله الله رحمة للعالمين . والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد .

أسباب النزول

ذكر المفسرون أسبابا متعددة لنزول هذه السورة , وكلها تلتقي عند معنى واحد . بل ذكروا أسبابا خاصة لآيات في هذه السورة نزلت من أجل تلك الأسباب .

قال الامام الواحدي النيسابوري المتوفى سنة 468 في كتابه "اسباب النزول ":عن ابن أبي مليكه أن عبد الله ابن الزبير أخبره أنه قدم ركب من بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال أبو بكر : أمر القعقاع بن معبد . وقال عمر : بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر : ما أردت الا خلافي . وقال عمر : ما أردت خلافك ، فتحاربا حتى ارتفعت أصواتهما . فنزلت أوائل هذه السورة .

وفي رواية أخرى قال ابن أبي مليكه : كاد الخيران أن يهلكا : أبو بكر و عمر رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم ، حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بلأقرع بن حابس وأشار الآخر ، برجل آخر ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت الا خلافي ، وقال عمر : ما أردت خلافك . وارتفعت أصواتهما في ذلك . فأنزل الله تعالى : "لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي …." وقال ابن الزبير : فما كان عمر بعد ذلك يسمع كلامه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآيه حتى يستفهمه . وعن مخارق عن طارق ، عن أبي بكر قال : لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : " ان الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ". آليت على نفسي أن لا أكلم رسول الله الا كأخي السرار .

قصة المفاخره

وذكر الوقدي نفسه رحمه الله عن جابر بن عبد الله قال : جاء بنو تميم الى النبي صلى الله عليه وسلم فنادوا على الباب : يا محمد اخرج الينا ، فان مدحنا زين ، وان ذمنا شين ، فسمعهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فخرج عليهم وهو يقول : انما ذلكم الله الذي مدحه زين ، وذمه شين ، فقالوا : نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا و خطيبنا نشاعرك ونفاخرك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخار أمرت ، ولكن هاتوا ، فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبانهم : قم فاذكر فضلك وفضل قومك ، فقام فقال : الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه ، وآتانا أموالا نفعل فيها ما نشاء ، فنحن من خير أهل الأرض ومن أكثرهم عدة ، ومالا وسلاحا ، فمن انكر علينا قولنا فليأت بقوا هو أحسن من قولنا ، وفعال هي خير من فعالنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس وكان يلقب بخطيب رسول الله : قم فأجب فقام فقال : الحمد لله ، أحمده وأستعينه و أومن به ، و أتوكل عليه ، وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له ، وأشهد ان محمدا عبده ورسوله ،دعا المهاجرين والأنصار من بني عمه ، أحسن الناس وجوها ، وأعظمهم أحلاما . فأجابوا : فالحمد لله الذي جعلنا أنصاره ، ووزراء رسوله ، وعزا لدينه ، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا اله الا الله ، فمن قالها منع منا نفسه وماله ، ومن أباها قتلناه ، وكان رغمه من الله تعالى علينا هينا ،أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين و المؤمنات .

فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبانهم قم يا فلان فقل أبياتا تذكر فيها فضلك وفضل قومك فقام الشاب فقال :

نحن الكرام فلا حي يفاخرنا

فينا الرؤؤس وفينا يقسم الربع

ونطعم الناس عند القحط كلهم

من السرف اذا لم يؤنس القزع

اذا أبينا فلا يأبى لنا أحد

انا كذلك عند الفخر نرتفع

قال : فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الى حسان بن ثابت . فانطلق اليه الرسول . فقال : وما يريد مني وقد كنت عنده ؟ قال : جاءت بنو تميم بشاعرهم و خطيبهم ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس فأجابهم وتكلم شاعرهم ، فأرسل اليك تجيبه ، فجاء حسان فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبه فقال حسان :

نصرنا رسول الله والدين عفرة

على رغم سار من معد و حاضر

ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى

اذا طاب ورد الموت بين العساكر

ونضرب هام الدراعين وننتمي

الى حسب من جرم غسان قاهر

فلولا حياء الله قلنا تكرما

على الناس بالحقين هل من مفاخر

فأحياؤنا من خير من وطىء الحصى

وأموالنا من خير أهل المقابر

قال : فقام الأقرع بن حابس فقال :

اني والله لقد جئت لأمر ما جاء له هؤلاء ، وقد قلت شعرا فاسمعه ، فقال : هات ، فقال :

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا

اذا فاخرونا عند ذكر المكارم

وانا رؤؤس الناس من كل معشر

وأن ليس في أرض الحجاز كوارم

وأن لنا المرباع في كل غارة

تكون بنجد أو بأرض التهائم

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

قم يا حسان فأجب ، فقال :

بني دارم لا تفخروا ان فخركم

يعود وبالا عند ذكر المكارم

هبلتم علينا تفخروا وأنتم

لنا من بين ظئر و خادم

وأفضل ما نلتم من المجد والعلى

ودافتنا من بعد ذكر الأكارم

فان كنتم لحقن دمائكم

وأموالكم أن تقسموا في المقاسم

فلا تجعلوا لله ندا واسلموا

ولا تفخروا عند النبي بدارم

والا ورب البيت مالت أكفنا

على هامكم بالمرهفات الصوارم

قال:

فقام الأقرع بن حابس فقال : ان محمدا المولى ، انه والله ما ادري ما هذا الأمر ، تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا ، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر من شاعرنا، ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أشهد أن لا اله الا الله ، وأنك رسول الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما نصرك ما كان قبل هذا ، ثم أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساهم وارتفعت الأصوات وكثر اللغط عند رسول الله ، فأنزل الله هذه الىيه : "لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ، الى قوله -وأجر عظيم " – وقد أجزل لهم النبي صلى الله عليه وسلم العطاء وأكرمهم فأسلموا .

قصة وحديث لثابت بن قيس

قصة فيها عبرة وذكرى بهذا الصحابي الجليل ، وكيف كان يتأثر بالقرآن . وثابت هذا : هو ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي يكنى أبا محمد ، وكان خطيبا بليغا معروفا بذلك ، وكان يقال له خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛كما يقال لحسان شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والقصة ذكرها الامام القرطبي رحمه الله في تفسيره قال : وقال عطاء الخراساني : حدثتني ابنة ثابت بن قيس قالت : لما نزلت : "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " الآية : دخل أبوها بيته وأغلق عليه بابه ؛ ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل اليه يسأله ما خبره ، فقال : أنا رجل شديد الصوت ؛ أخاف أن يكون حبط عملي .فقال عليه السلام : "لست منهم . بل تعيش بخير وتموت بخير " . قال " ثم أنزل الله : " ان الله لا يحب كل مختال فخور" فأغلق بابه وطفق يبكي ؛ ففقده فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، اني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي . فقال : لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة " . قالت : فلما كان يوم اليمامة ، خرج مع خالد بن الوليد الى مسيلمة فلما التقوا انكشفوا ، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيفه : ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قتلا ؛ وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة ؛ فمر به رجل من المسلمين فأخذها ؛ فبينا رجل من المسلمين نائم أناه ثابت في منامه فقال له " أوصيك بوصيه " فاياك أن تقول هذا حلم فتضيعه ؛ اني لما قتلت أمس ، مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس ، وعند خبائه يسنن في طوله ، وقد كفأ على الدرع برمة ، وفوق البرمة رحل ؛ فات خالدا ، فمره أن يبعث الى درعي فياخذها ، واذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم _ يعني أبا بكر _ فقل له : ان علي من الدينكذا وكذا ، وفلان من رفيقي عتيق وفلان ؛ فأتى الرجل خالدا فأخبره ؛ فيعث الى الدرع فأتى بها . وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته . قال : ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت بن قيس رحمه الله . أبو عمر في الاستيعاب ".

وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل : يا رسول الله ؛ أنا أعلم لك علمه ؛فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه ؛ فقال له : ما شأنك ؟ فقال : شر ! من كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله وهو من أهل النار . فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا . فقال موسى : فرجع اليه المرة الآخرة ببشارة عظيمه ؛ فقال : أذهب اليه فقل له : وانك لست من أهل النار . ولكنك من أهل الجنة ".

رحم الله ثابتا الشهيد البطل و أأسكنه الجنة وسائر صحابة رسول الله الكرام ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين .

الشرح والتفسير والبيان

الآيه الأولى : يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ...

قال الله تبارك وتعالى في أول سورة الحجرات :
"يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، واتقوا الله ان الله سميع عليم ".

من المعروف أنه كان عند العرب جفاء وغاظة . وشدة في الحديث والاسلام العظيم انما جاء ليبعث فيهم مكارم الأخلاق . ويربيهم ومن آمن به من الأمم . على الكمالات الانسانيه والفضائل العليا السامية . وهذه الآية من تلك الآيات القرآنيه التي رسمت لهم طريق الهدي والرشاد . وفيها بيان للأدب الرفيع ، أدب الله به عباده المؤمنين فيما يجب أن يعاملوا به رسوله الأمين محمدا صلى الله عليه وسلم من التوفير ، والتبجيل ، والاحترام ، والاكرام . فناداهم وقال لهم : "يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ". فهي أمر بمكارم الأخلاق ، ورعاية أدب الخطاب ، مع أشرف مخاطب ، وأنبل انسان ، وأكرم رسول ، وخير العالمين ، وسيد المصطفين الأخيار.

وقوله تعالى : لا تقدموا بين يدي الله ورسوله : أي : لا تسرعوا في الأشياء بين يديه . أي : قبله . بل كونوا تبعا له في جميع الأمور وفي كل الحالات .

قال ابن عباس رضي الله عنه : " لا تقدموا بين يدي الله ورسوله " . لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة . وقال الضحاك: لا تقضو أمرا دون الله ورسوله من شرائع دينكم .

وقال الراغب : لا تسبقوا بالقول والحكم . بل افعلوا ما يرسمه لكم ، كما هو شأن عباده المكرمين من الملائكة : " لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " .

وخلاصة المعنى على هذه الوجوه : النهي عن الاقدام على أمر من الأمور دون التقيد بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معنى قول الله عز وجل : " وما أتاكم الرسول فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله ، ان الله شديد العقاب " .

أي : لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله . وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا . ومن قدم قوله أو فعله على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قدمه على الله تعالى ، لأن الرسول انما يأمر عن أمر اللع عز وجل . " وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى ".

ويدخل في عموم هذا الأدب الشرعي حديث معاذ بن جبل رضي اللع عنه حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه الى اليمن : "بم تحكم ؟ " قال : بكتاب الله تعالى : قال صلى الله عليه وسلم : "فان لم تجد ؟ " قال : بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فان لم تجد ؟" قال رضي الله عنه : اجتهد رأيي . فضرب في صدره وقال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله " .

ولقد أخر معاذ رضي الله عنه رأيه ونظره واجتهاده الى ما بعد الكتاب والسنة . ولو قدمه قبل البحث عنهما لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله ، وقد نهى الله تبارك وتعالى عنه في هذه الآية الكريمة من أول سورة الحجرات . وهذا الأمر عام شامل لكل أمر ولكل حكم فلا يجوز للمسلم أن يقدم أي عمل ما لم يكن موافقا لكتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم . والا كان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله . وهذا ما يجب أن يتحاشاه المسلم . ففي التقديم بين يدي الله ورسواه الهلاك والخسارة واحباط العمل .

واتقوا الله :

أي اجعلوه وقاية بينكم وبين سخط الله ، وغضبه ، وعذابه الأليم الشديد ، ولا تبتنى هذه الأسوار الواقية ، ولا تتحقق هذه التقوى المنجية التي أمر الله بها الا باتباع أوامره تعالى واجتتاب نواهيه . والوقوف عند الحدود التي بينتها للناس وحذرهم من تعديها . ومن تقوى الله الا يقدم المسلم بين يدي الله ورسوله ، قولا ،أو فعلا أو عملا أو خلقا لم يأت به الاسلام ،فهو وقاف عندما أوقفه الله . لا يتحرك خطوة الا في طريق واضحة بينة يأمن فيها الزلل والعثار ، لأنها طريق الله وسبيل المؤمنين ، وطريق رسوله والصحابة والتابعين .

ان الله سميع عليم :

يسمع ما تنطقون ، ويعلم ما تعلمون ،لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، فهو عز وجل يعلم المسموعات كلها . وسيجاري عليها ان خيرا فخير ، وان شرا فشر .

وكل موضع أثبت الله فيه السمع للمؤمنين ، أو نفاه عن الكافرين أو حث عليه في كتابه الكريم ، فالقصد به تصور المعنى والتفكير فيه والاعتبار به قال تعالى : " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " .

وقال تعالى : " ان في ذلك لآية لقوم يسمعون " .

والله سبحانه يعلم المسموعات ، ويعلم المراد منها ، ويعلم ما في ضمير الانسان ، ويعلم ما توسوس به نفسك وهو أقرب اليك من حبل الوريد . فأين تذهب بالمعصية وهو معك أينما كنت ؟ وأين تذهب بقالة السوء ؟ وهو يسمع سرك ونجواك ؟

قال تعالى : " ما يكون من نجوى ثلاثة الا هو رابعهم . ولا خمسة الا هو سادسهم . ولا أدنى من ذلك ولا أكثر الا هو معهم أينما كانوا . ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ان شاء الله بكل شيئ عليم . "

" شكوى امراة يسمعها الله عز وجل من فوق سبع سماوات "

والى القراء أسوق هذه القصة التي سمعها الله تعالى من فوق سبع سماوات ، وقد روتها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكانت تتبين وتسمع بعض الكلام ولا تسمع البعض الآخر منه . قالت عائشة رضي الله عنهل : تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء ، اني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول : يا رسول الله : أكل مالي وأفنى شبلبي ونثرت له بطني حتى أذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني ، وان لي صبية صغارا ان ضممتهم اليه ضاعوا ، وان ضممتهم الي جاعوا .

فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :ما عندي في أمرك شيء .

وروى أنه قال لها حرمت عليه . فقالت : يا رسول الله ما ذكر طلاقا وانما هو أبي ولدي ، وأحب الناس الي فقال : حرمت عليه . فقالت أشكو الى الله فاقتي ووجدي . وكلما قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم حرمت عليه هتفت بقلب منكسر وشكت أمرها الى الله السميع العليم .

قالت عائشة رضي الله عنها : فما برحت حتى نزل جبريل بقول الله تبارك وتعالى : " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله ، والله يسمع تحاوركما ان الله سميع بصير . "

فقد سمع الله شكوى هذه المرأة من فوق سبع سماوات وعائشة رضي الله عنها كانت تسمع بعض الكلمات ولا تكاد تسمع البعض الآخر. وهي ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد حضرت هذا المشهد العظيم الذي تجلى عليه الله بلطفه وعطفه وحنانه فأنزل قرآنا يتلى إلى يوم الدين بشأن هذه المرأة وهي خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت , وكان به لمم وكان إذا إشتد لممه يظاهر من إمرأته وإذا ذهب عنه لم يقل شيئا.

والظهار كان طلاق الجاهلية , ولكن هذه الحادثة أنزلت الفتوى وحدت من شأن الرجال في إستعمال الظهار كعقاب للنساء فقال تعالى: " الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم , إن أمهاتهم إلا الائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور".الآية.

وما دمت قد تطرقت إلى هذه القصة فأحب أن أتمها ففيها بالغات,وكانت خولة بنت ثعلبة تقول: في والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة. كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه. فدخل علي يوما فراجعته بشيء فغضب فقال: أنت علي كظهر أمي. قالت : ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل علي. فإذا هو يريدني عن نفسي.فأبيت وقلت : كلا والذي نفس خويلة بيده, لا تخلص إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه.

ثم قالت : فخرجت إلى بعض جاراتي فإستعرت منها ثيابا. ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه. فذكرت له ما لقيت منه وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه, قالت : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فإتقي الله فيه. قالت: فوالله ما برحت حتى نزل في قرآن.

فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه ثم سري عنه فقال لي: يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا, ثم قرأ علي:"قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير.إلى قوله:"وللكافرين عذاب أليم.

قالت : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :"مريه فليعتق رقبة".فقلت: يا رسول الله ما عنده ما يعتق , قال:" فليصم شهرين متتابعين", قالت: فقلت: والله إنه لشيخ كبير ما له من صيام. قال: فليطعم ستين مسكينا وسقا من تمر. قالت : فقلت : والله يا رسول الله ما داك عنده . قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا سنعينه بفرق من تمر . قالت : فقلت : يا رسول الله وأنا سأعينه بفرق آخر . قال:" قد أصبت وأحسنت فإذهبي فتصدقي به عنه , ثم إستوصي بإبن عمك خيرا .قالت ففعلت.

هذه قصة خولة بنت ثعلبة , وكل إمرأة منذ نزلت هذه الآية في سورة المجادلة إلى الآن وإلى يوم الدين فهي خولة بنت ثعلبة. فإذا طلقت المرأة بغير سبب و إعتدى عليها زوجها ففارقها ظلما وعدوانا , ثم شكت أمرها إلى الله فالله تبارك وتعالى يسمع شكواها ويستجيب لندائها ودعائها : " وإتقوا دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".

لقاء عمر مع خولة

وذكر الرواة عن لقاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه لخولة بنت ثعلبة. هذه المرأة التي أكرمها الله . فسمع لشكواها من فوق سبع سماوات ، ورفع عز وجل من شأن المرأة بهذه الاستجابة الربانية لهذه المرأة المظلومة.

قالوا :لقيت امرأة عمر يقال لها خولة بنت ثعلبة وهو يسير مع الناس . فاستوقفته . فوقف لها ، ودنا منها ، وأصفى اليها رأسه ووضع يديه على منكبيها ، حتى قضت حاجتها ، وانصرفت ، فقال له الرجل : يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذه العجوز ، قال : ويحك وتدري من هذه ؟ قال : لا . قال : هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات . هذه خولة بنت ثعلبة والله لو لم تنصرفعني الى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها الى أن تحضر صلاة فأصليها ثم أرجع اليها حتى تقضي حاجتها " .

هذه قصة فيها عبر وذكريات جسام عن تقدير الاسلام واهتمامه بشأن المرأة ، ففي الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله " ز أي قبل أربعة عشر قرنا من أحقاب هذا الزمن ، كانت المرأةفي العالم كله الى ذلك الحين لا تعتبر انسانا مخلوقا . ولا تشارك الرجل في انسانيته فلا تملك ولا تملك ، ولا يعتبر لها مقام في مجتمعها الذي تعيش فيه .

ولكن الاسلام العظيم الذي جاء رحمة بها. كما هو رحمة للعالمين فرفعها مكانا عليا ، وساواها بالرجل ، وأعطى القيادة والرئاسة ، ووضعها في مكانها الطبيعي حيث سلمها للرجل وقال : " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجل عليهن درجة " ثم أوصى بها ، ووضع لها المكان الائق بها ، وسما بها سموا لم تعرفه ولم تشهده قبل الاسلام . حتى سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات ، فلله الفضل والمنة وله الحمد في الأولى وفي الآخرة وله الحكم واليه ترجعون .

عود الى الآية الأولى

نعود قليلا الى الآية الأولى من سورة الحجرات . فانها تقرر اصلا عظيما من أصول الاسلام ، وجدير بنا ان نشير الى هذا الأصل العظيم الذي هو دعام’ الاسلام ، وعليه تشاد معاقله وتبنى حصونه . هذا الأصل هو : أن الحكم لله وحده ، لا معقب لحكمه وهو أحكم الحاكمين . ولا يجوز لأحد كائنا من كان أن يقدم بين يدي الله ورسوله أمرا ، أو حكما ، أو نظاما ، أو دستورا لا يرضى عنه الله تبارك وتعالى ولا رسوله الأمين .

الآية الثانية : يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا لا تَرفَعُوا أصواتَكم فَوقَ صَوتِ النَّبيِّ ...

) يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا لا تَرفَعُوا أصواتَكم فَوقَ صَوتِ النَّبيِّ ولا تَجهَروا لَهُ بِالقَولِ كَجَهرِ بَعْضِكُمْ لِبَعضٍ أنْ تَحبَطَ أعْمالُكُمْ وأنْتُم لا تَشْعُرونَ (

كانت الآية الأولى لبيان الأدب مع الله عز وجل ، وهذه الآية الثانية وآيات بعدها ، لبيان الأدب مع رسول الله r فقد أمر الله المؤمنين ألا يجعلوا أصواتهم عند الحديث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتفعة فوق صوته وألا يكون خطابهم إياه كخطاب بعضهم بعضاً من الجهر وعلو الصوت وارتفاع الكلام .

وقيل أن الأول : لا ترفعوا أصواتكم . يخص حال مكالمته صلى الله عليه وسلم وكأنه قيل : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوته إذا نطق وتكلم وتحدث . والثاني : ولا تجهروا له بالقول . حال صمتهصلى الله عليه وسلم وكأنه قال : ولا تجهروا له عند دعائه إذا سكت وتكلمتم .

ويلزم من هذا كله . أن يكون صوتهم أخفض من صوته صلى الله عليه وسلم ، وأن يراعوا في دعائه ومخاطبته اللين في القول ، واللطف في المخاطبة أدباً مع مقام النبوة وجلالها وعظيم قدرها فيجب أن يخاطب بأدب وسكينة ووقار وتعظيم .

وقد كره العلماء رفع الصوت عند قبره الشريف صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته وبين يديه لأنه صلوات الله وسلامه عليه محترم حياً وفي قبره دائماً وأبداً .

قال القاضي أبو بكر بن العربي : حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته حياً ، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثالُ كلامه المسموع من لفظه ، فإذا قرئ كلامه ، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه ، ولا يُعرض عنه ، كما كان يلزم ذلك في مجلسه عند تلفظه به . وقد نبَّه الله سبحانه على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " .

وكلامه صلى الله عليه وسلم من الوحي ، وله من الحكمة مثل ما للقرآن ، " إلا معاني مستثناة ، بيانها في كتب الفقه " انتهى ما ذكره القرطبي في تفسيره ، وكره بعض العلماء رفع الصوت في مجالس العلماء تشريفاً لهم لنهم ورثة الأنبياء .

وقال الإمام القرطبي في تفسيره :

وليس الغرض برفع الصوت ، ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة . لأن ذلك كفر . والمخاطبون مؤمنون . وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جرسه غير مناسب لما يُهاب به العظماء ويوقر الكبراء ، فيتكلف الغض منه ورده إلى حد يميل به إلى ما يتبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير . ولم يتناول النهي أيضاً رفع الصوت الذي يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك ، ففي الحديث أنه قال عليه السلام للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين " أصرخ بالناس " وكان العباس أجهر الناس صوتاً . " يروى أن غارة أتتهم يوماً فصاح العباس : يا صباحاه ! فأسقطت الحوامل لشدة صوته " انتهى .

لقد أدب الله المؤمنين بهذا الأدب الرفيع الرقيق فأخذوه فرحين ، وطبقوه مغتبطين ، مع انهم كانوا غلاظاً وكانوا حديثي عهد بجاهلية ومن سمات الجاهلية الجفاء في الخطاب ، والإغلاظ في القول . ولكنهم رضي الله عنهم ما كادوا يسمعون لأمر الله عز وجل إلا وخفضت أصواتهم ، وهدأت مخاطباتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومع بعضهم للبعض الآخر . بل ومع الناس أجمعين .

فقد روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعد نزول هذه الآية قال : يا رسول الله : والله لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله .

وكان إذا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفود ، أرسل إليهم من يعلمهم كيف يُسَلِّمون ، ويأمرهم بالسكينة والوقار .

وروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ارتفعـت أصواتهما فجاء فقال : أتدريان أين أنتما ؟ ثم قال : من أين أنتما ؟ قالا : من أهل الطائف ، فقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً .

وقد أدبهم الله بهذا الأدب الرفيع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهاهم عن الغلظة ، ومن شأن النهي أن يردعهم ويصدهم عما الفوه – وقد فعلوا – وأن يمكن فيهم عادة اللين والأدب في القول والعمل ، وأن تطرد تلك العادة مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع غيره من المؤمنين ، فإن هذا الأدب كما هو أدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو أدب مع المؤمنين بعضهم مع البعض . ولا نجد رجلاً ليِّن القول لين المعاملة سهلاً عند الحديث سهل العريكة غلا وهو ذو نفس مهذبة ، صقلته الأيام ، وحنكته التجارب . وفاض عليه طيب عنصره ، وكرم أرومته ، وغمرته سحائب الرحمة من أخلاق دينه القويم وطريقه المستقيم .

وقد أدبهم الله بهذه الآداب ونهاهم عما يؤذي النبي عليه الصلاة والسلام ، مع العلم أن النبي لم يكن جباراً في الأرض ولا متكبراً مختالاً ، بل كان جم التواضع ، عظيم الحلم ، كثير الحياء . توقفه الأمَةُ في الطريق لتحدثه فلا يتركها حتى تتركه هي ، وقال لرجل دخل عليه وهو يرتجف من هيبة الرسول صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد " إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثير التفكير بحمل ذلك العبء الجسيم في هذه الدعوة المباركة العظيمة الجليلة .

" إنا سنلقي عليك قولاً وثقيلاً " وكان عليه الصلاة والسلام كثير الشواغل يتلقى الوحي من ربه ثم يبلغه للناس ويبينه ، ويسوس المسلمين دنيا وأخرى . ويفكر في عزتهم ودفع الأذى عنهم وينظر في حرب من يحاربه وسلم من يسالمه ، ويسعى لتوفير الخير للمسلمين . وهو مع ذلك بشر تؤذيه الغلظة ، وتقلق باله الفظاظة ، ومن كان هذا حاله ، وجب أن يوفر له الهدوء والسكينة ، وأن يباعد عنه كل شيء مشوش للخاطر . وقد أكرمه الله بذلك فطبع المسلمين على هذه الآداب العالية وأمرهم أن يتمسكوا بها في حياتهم الدنيا . وأمرهم معها بأن يقولوا للناس حسناً . فاستمسكوا بكل حسن من الأقوال والأفعال ، وأطاعوا الله ورسولـه ، حتى استحقوا أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله . وكانت آدابهم أرفع الآداب وأخلاقهم أسمى الأخلاق . بل كانوا غرة في جبين الدهر . ودرة في سماء المجد جعلنا الله منهم وحشرنا جميعاً معهم . إنه تبارك وتعالى نعم المولى ونعم النصير ، والحمد لله رب العالمين .

قوله تعالى : ) أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ( .

ومعنى هذه الآية الكريمة : أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم خشية أن يؤذيه تصرفكم هذا ، ويزعجه صوتك المرتفع بغير داع ولا سبب فيغضب من ذلك ، فيغضب الله تعالى لغضبه فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري ، كما جاء في الحديث الصحيح مما يماثل هذا . وهو : " ان الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالاً يكتب له بها الجنة ، وأن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض " .

وقوله تعالى : " أن تحبط أعمالكم " .

أي : تفسد ، وتبطل ، وتذهب سدى ، لا يكتب لكم بها أجر ولا ثواب لمخالفتكم لأمر الله عز وجل في أمور نهاكم عنها . فلم تنتهوا فأحبط أعمالكم من حيث لا تشعرون . فاحذروا هذا المسلك المعوج الوعر الشائك فإن ارتكاب المحرم قد يكون داعياً إلى استمرائه والاسترسال فيه من غير مبالاة لعقوبة الله . فتكثر السيئات وتحبط الأعمال ، من حيث لا يشعر الإنسان . فالرذيلة تكون أولاً حالاً وعرضاً ، ثم تصير ملكة ومرضاً . وكذلك الفضيلة . وقد نقل عن أفلاطون قوله : لا تصحب الشرير فإن طبعك يَسْرق وأنت لا تدري .

أوْجُه حبوط الأعمال

حبوط الأعمال يكون على ثلاثة أوجه ومن الخير أن ننبه إليها ، ليتجنب الناس تلك المزالق الخطرة التي تحبط أعمالهم وتذهب بها أدراج الرياح فيكونون قد خسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين .

الوجه الأول : أن تكون الأعمال دُنيوية خالصة لا يؤمن صاحبها بالله ولا باليوم الآخر . فهذه الأعمال وإن كان منها صالحاً كإنفاق النفقات والمشاركة في الأعمال الخيرية الخاصة أو العامة فإنها لا تغني في الآخـرة شيئاً عن صاحبها . إذ لا ينفع عمل مع الكفر بخالق العامل والعمل . وليس بعد الكفر ذنب ، وليس بعد الكفر قرب . قال تعالى في حق أمثال هؤلاء :

" وقَدِمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً " .

الوجه الثاني : أن تكون الأعمال أخروية ولكن صاحبها لم يقصد بها وجه الله تبارك وتعالى ، إنما قصد بها أموراً أخرى كالرياء والسمعة والمفاخرة . فهي محبطة أيضاً . وليس لصاحبها ثواب عند الله تعالى ، وفيمـا رواه الإمام مسلم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم العبرة والدليل والكفاية . فقد قال :

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتِيَ به فعرفه نعمه فعرفها فقال : ما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت قال : كذبت ولكنك قاتلت لن يقال جرئ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى القي في النار . ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال : ما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن قال : كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم ، وقرأت القرآن ليقال قارئ . فقد قيل . ثم أمِرَ به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار .

ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال : فما عملت فيها ؟ فقال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت فيها لك قال : كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد . فقد قيل . ثم أمِرَ به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار . نعوذ بالله ونستجير به من حبوط العمال وسوء الأحوال . فمن لم يُرِد وجه الله بعمله خالصاً مخلصاً فقد حبط عمله وبطل أمله .

الوجه الثالث : أن يقوم المرء بأعمال صالحة كريمة ولكنه إلى جانب ذلك يقوم بسيئات كبيرات تطغى علـى هـذه الأعمـال الصالحة فتحبطها وتأكلها أكلاً لمّا ، كما تأكل النار الحطب ويكون ذلك الإنسان كمن خلطوا عمـلاً صالحاً وآخـر سيئـاً . فهذا أيضاً من الذين ستحبط أعمالهم ولا ينالون بها ثواب الله عز وجل .

روى الإمام مسلم وغيره عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة . ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا . فيعطي هذا من حسناته ، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار.

فهذه ثلاثة أوجه ومسالك ، تحبط فيها الأعمال وتبطل ، فلا يستفيد منها صاحبها ، ولا تأتي بثمراتها الطيبة . فليحذر العبد سلوكها والتورط فيها . فقد حذرنا الإسلام منها ودعانا إلى الإخلاص الكامل في الأقوال والأعمال . ولا حجة للناس بعد بيان الله وتحذيره لهم . فلا جزاء ، ولا ثمرة ، للعمل إلا إذا كان خالصاً لوجه الله تبارك وتعالى . ومن عمل عملاً أشرك فيه غير الله ، فهو لمن أشرك وليس له عند الله نصيب .. وهل يجازي ويكافي غير الله الغني القوي العزيز الحكيم ؟ قال تعالى : " فادعوه مخلصين له الدين " . وقال تعالى : " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين " . سورة البينة : 5

ورد في الحديث الشريف عن محمود بن لبيد ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر . قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء . يقول الله يوم القيامة . إذا جزى الناس بأعمالهم يقول : إذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا . فانظروا ، هل تجدون عندهم جزاء ؟

فلا قبول للعمل إذن إلا مع الإخلاص التام لله رب العالمين . وحقيقة الإخلاص هو أن يقصد المرء بقوله وعمله وجهاده وإنفاقه وجه الله تبارك وتعالى وابتغاء مرضاته ، من غير نظر إلى مغنم أو جاه ، أو لقب ، أو مظهر . حتى يرتفع عن نقائص الأعمال ، ورذائل الأخلاق ويتصل بالله مباشرة . فلا يريد إلا وجهه ، ولا يعمل إلا له في جميع أعماله وسائر تصرفاته ويحقق هذا قوله تعالى :

" قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له . وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ". الأنعام : 162

هذا هو الإسلام . أن يتجرد المسلم من كل هوى ، ويبتعد عن كل مبتغى ليس فيه وجه الله سبحانه .

روى ابن أبي حاتم عن طاووس أن رجلاً قال : يا رسول الله . إني أقف المواقف أريد وجه الله ، وأحب أن يرى موطني ؟ فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزلت هذه الآية : " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً " . الكهف : 110

وقد جعل الإسلام الإخلاص دليلاً على كمال الإيمان . ومن كمل إيمانه فهو في عليين ، ومن خير البرية .

روى أبو داود والترمذي بسند حسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله فقد استكمل الإيمان " . وطوبى لهؤلاء المخلصين فهم مصابيح الدجى تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء . وهم النجوم الزاهرة التي يهتدي بنورها السالكون ، فبالإخلاص والنية الصالحة يبلغ المرء الذروة من السمو والرفعة . وينزل بهما منازل الأبرار الأطهار من المهاجرين والأنصار يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم :

" طوبى للمخلصين : الذين إذا حضروا لم يعرفوا .. وإذا غابوا لم يفتقدوا … أولئك هم مصابيح الهدى تنجلي عنهم كل فتنة ظلماء " رواه البيهقي عن ثوبان .

ولقد كان التحلي بحلية الإخلاص سبباً في تطهير أنفس الصحابة الكرام من الرياء والنفاق والكذب . وكانوا بحق مصابيح الدجى والهدى . انجلت عنهم كل فتنة ظلماء . واندفعوا إلى غاياتهم الكبرى . وأهدافهم السامية ينشدون إقامة الحق والعدل ويبتغون وجه الله وإعلاء كلمته . فمكن الله لهم في الأرض وفتح لهم مشارقها ومغاربها وجعلهم قادة الدنيا ، وسادة العالم ، وأئمة النصر والفتوح .

والاتصاف بصفة الإخلاص والصدق يكسب الفرد النجاح والظفر ، والجماعة التي تتألف من أفراد مخلصين تتجه إلى الخير ، وتتنزه عن الدنايا ، وتترفع عن شهوات الدنيا ، وتسير إلى غاياتها تظللها المحبة ، ويعمها الأمن والرخاء والسلام .

- والإسلام العظيم الذي ربى النفوس على أنبل الأخلاق وأسماها يريد من المسلم أن يكون سره كإعلانه ، وظلمة ليله كضوء نهاره . فإذا اختلف الظاهر والباطن ، وتعارض القول والعمل ، وتأرجح الإنسان بين دوافع الخير ونوازع الشر ، كان النفاق الذي يفقد المرء شخصيته فلا يقدر على الجهر بالحق، ولا يقوى على المصارحة ، ولا يقف موقف البطل الشجاع .

روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أن أناساً قالوا له : إنا ندخل على سلاطيننا . فنقول لهم بخلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم . قال ابن عمر: كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ومن يرد أن يتتبع الآثار السيئة التي يتركها عدم الإخلاص في المجتمع البشري ، وفي الحياة الإنسانية ، ومدى ما أحدثه الرياء والنفاق وفساد الأخلاق ، من اضطراب في النظم ، وتغيير للعرف الصالح ، وتَعْويق عن النهوض والارتقاء . بل والانحطاط إلى أسفل الدركات ، فلينظر إلى حالتنا الحاضرة ويتفحص ما وصلنا غليه من تدهور وانحطاط فإن نظرة واحدة تكفيه عبرة عما كنا عليه وما أصبحنا فيه . وما ذلك كله إلا لفقدان الإخلاص في مجتمعاتنا الإسلامية . وانتشار النفاق والرياء . ومن شأن الرياء أن يحجب المرء عن الله وينزل به إلى مستوى الحيوان ، فلا تزكو له نفس ، ولا يقبل منه عمل ، ذلك أن المرائي والمنافق لا رأي له ولا مبدأ ولا عقيدة ولا دين ، ولكنه كالحرباء يتلون بكل لون ويميل مع كل ريح . وتُفْقد منه الرجولة والأنفة والشجاعة ، ولا يهمه من أمر الدنيا إلا نفسه الأمارة بالسوء . وخداع الناس ومخادعة الله عز وجل قال تعالى : " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءُون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً " . النساء 142 .

وهؤلاء من الذين سيحبط الله أعمالهم في الدنيا والآخرة ويجعلهم الأخسرين الأسفلين وهم في الدرك الأسفل من النار : " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " .

ثناء الناس لا يحبط العمل

من الناس أناس يعملون العمل لله ويُسِّرون ذلك العمل ويخفونه عن الناس خشية أن يقعوا في الرياء وهم صادقون في إخلاصهم ، ثم يطلع الناس على أعمالهم دون قصد منهم ، فيثنون عليهم ، ويحمدون لهم ما صنعوا . ويذكرونهم بكل خير وشكر ، فيعجبهم هذا الثناء وينزل منهم منزلة الماء البارد على القلب الولهان . فهؤلاء العاملون المخلصون وإن أعجبهم هذا الثناء ، وظهرت أعمالهم بين الناس ، فإن هذا لا يُحبَط معه عملهم ، ولا ينقص شيئاً من أجرهم وثوابهم . ما داموا مخلصين لله تبارك وتعالى . روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال : يا رسول الله ، الرجل يعمل العمل فيُسِّره . فإذا اطُلِع عليه أعجبه ذلك ؟ . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " له أجران : أجر السر ، وأجر العلانية " .

بل قد يكون ثناء الناس على أعمال هؤلاء المخلصين الذين أخفوا أعمالهم لله ، ولكن الله أظهرها . قد يكون هذا من البشريات المعجلة لهؤلاء الصادقين . فقد ورد عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير فيحمده الناس عليه ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تلك عاجل بشرى المؤمن " . رواه مسلم .

إتقاء الرياء

ولعل خير ما نختم به تفسير هذه الآية الكريمة : " أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " ، هو في كيفية الاتقاء من الرياء . ولا شك أن اللجوء إلى الله عند الملمات هو الطريق الأقوم ، والسبيل الأسلم . وقد أرشدنا المعلم الأكبر ، رسول هذه الأمة الإسلامية ، ومبعوث الله إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً محمد صلى الله عليه وسلم إلى طريق الاتقاء والرياء ، فقد روى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال :

يا أيها الناس : اتقوا هذا الشرك ، فإنه أخفى من دبيب النمل ، فقال رجل : وكيف نتقيه ؟

قال : قولوا : " اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلمه " .

ونحن نقول صادقين ومنيبين إلى الله عز وجل : " اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلمه " والحمد لله رب العالمين .

الآية الثالثة : إنَّ الّذينَ يَغُضُّونَ أصْواتَهُمْ ...

) إنَّ الّذينَ يَغُضُّونَ أصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ، أولَئِكَ الّذينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُم لِلتَّقْوَى ، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وأجْرٌ عَظِيمٌ (

ذُكر في أسباب النزول : فيما ورد عن أبي سلمة قال : لما نزلت : " لا ترفعوا أصواتكم " قال أبو بكر رضي الله عنه : والذي بعثك بالحق لا أكلمك بعد هذا إلا كأخي السرار .

وقال عبد الله بن الزبير : لما نزلت : " لا ترفعوا أصواتكم " ما حدث عمر عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فسمع كلامه حتى يُستفهمه مما يخفض فنزلت : " إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى . لهم مغفرة وأجر عظيم " . وقد تضمنت الآية الكريمة السابقة التحذير من رفع الصوت . وتضمنت هذه الآية الترغيب في القول اللين وخفض الصوت .

وقد جعل الله جزاءه المغفرة والجر العظيم ، وذلك ما تصبوا إليه نفوس المؤمنين ويتعشقونه من قريب أو بعيد ويتخذون كل الأسباب لنيل مثل هذا الجزاء وهذا الأجر العظيم . وحسبه أن الله تبارك وتعالى وصفه بالعظيم ، وجعله من نصيب أولئك الذين يغضون أصواتهم ويتكلمون بأدب ووقار مع الله ورسوله ثم من بعد ذلك مع المؤننين ومع الناس أجمعين .

وفي وصية لقمان لابنه وهو يعظه ويوجهه لأسمى الأخلاق وأنبل الصفات قوله تعالى : " واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير " ففي الوقت الذي أمر الله سبحانه فيه بغض الصوت وخفضه ، استنكر رفع الصوت وجعله من أخلاق البهائم المنكرة المستقبحة : " إن أنكر الأصوات لصوت الحمير " . وهذا يمثل منتهى البشاعة وغاية الزجر والنهي لمن يرفعون أصواتهم حتى تستقبح وتستنكر ، كما تستقبح وتستنكر أصوات الحمير .

والمعنى العام للآية الكريمة :

إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله قوم أخلص الله قلوبهم وصفاها وأعدها للتقوى . وقد عرف الله قلوبهم بالتجربة والاختبار – وهو العليم بكل شيء – فظهرت أنها قلوب معدة للتقوى متهيأة لكل خير ولكل عمل صالح ومقبول ، فهؤلاء لهم مغفرة وصفح عما اقترفوه من السيئات ولهم أجر عظيم على ما كسبوه من الصالحات فطاعتهم لله وللرسول ، وسمعهم وتطبيقهم لأوامر الله وهم راضون شاكرون لله تبارك وتعالى .

قال الإمام أحمد رحمه الله في كتاب الزهد عن مجاهد قال : كتب إلى عمر بن الخطاب أمير المؤمنين : رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها أفضل ، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها ؟

فكتب عمر رضي الله عنه : إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها . " أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم " . والامتحان – كما هو معروف – معناه الاختبار والتجربة ، والأصل اللغوي فيه هو : إذابة الذهب ليخلص إبريزه من الخبث وينقى من الدنس حتى يكون ذهباً خالصاً بعد أن تكون النار قد أذابته وأخذت قسطها الوافر منه .

والله تبارك وتعالى يبتلي المؤمنين بالمحن ليزكي نفوسهم ويطهرها ، وهل يُزكى الذهب إلا بالنار ؟ وكذلك النفوس المؤمنة لا تزكى إلا بالمحن والشدائد الكبار . قال تعالى : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه : متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب " البقرة .

قال ابن مسعود وابن عباس رضي عنهما : البأساء – الفقر . والضراء – السقم ، وزلزلوا – خوفوا من الأعـداء . زلزالاً شديداً وامتحنوا امتحاناً عظيماً كما جاء في الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت قال : قلنا يا رسول الله : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه . ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه عن دينه " .

ثم قال : " والله لَيُتِمَنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ، ولكنكم قوم تستعجلون " .

وفي يوم الأحزاب أصاب الصحابة رضوان الله عليهم من البلاء ما هَدَّ قواهم وزلزلهم زلزالاً شديداً فضاقوا به ذرعاً واستجاروا بالله عز وجل بعد أن زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وظن بعضهم بالله الظنون . واهتبلها المنافقون فرصة فأخذوا يشككون في موعود الله بالنصر للمسلمين ويقولون للمؤمنين بهمس وخبث : ما وعدكم الله ورسوله إلا غروراً .

وفي عز المحنة واشتداد الكرب والأزمة ، وضيق النفوس وتلوعها بالعذاب ، في تلك الساعات الحرجة جاءهم نصر الله ورفع عنهم البأساء والضراء ففر أعداء الله هاربين لا يلوون على شيء ورجع المسلمون فرحيـن مسرورين مبتهجين منتصرين شاكرين لله فضله وإحسانه ونصره المؤزر لعباده المجاهدين . قال تعالى : " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين " .

وقد وصف الله سبحانه حال الصحابة يوم الأحزاب أبلغ وصف إذ قال : " إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا . هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً . وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً " . فالصبر على المحن كفيل بزوالها ونصر المؤمنين الصابرين الصامدين . كما أن المحن تكشف عن خبايا النفوس وكثيراً ما تظهر مطاوي القلوب وحقائق الرجال . والحكمة ما امتحن الله قلوب الأنبياء والأصفياء والعلماء والدعاة إليه بإحسان ، قال تعالى : " ألم ، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صبروا وليعلمن الكاذبين " .

ولما سأل هرقل أبا سفيان : هل قاتلتموه ؟ " يعني محمداً صلى الله عليه وسلم " قال : نعم قال : فكيف كانت الحرب بينكم ؟ قال : سجالاً يدال علينا وندال عليه . قال : كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة .

" فإذا امتحن الله قلب المؤمن للتقوى أو للجهاد أو للعبادة أو للإنفاق فصبر على الامتحان ونجح فيه فقد كفل الله عز وجل له المغفرة والأجر العظيم وكتبه في عليين مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً " .

قال ابن عباس : امتحن الله قلوبهم للتقوى : " طهرهم من كل قبيح وجعل في قلوبهم الخوف من الله عز وجل " .

وقال عمر رضي الله عنه : " أذهب عن قلوبهم الشهوات " .

الآية الرابعة : إنَّ الّذينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءَ الحُجُراتِ ...

) إنَّ الّذينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءَ الحُجُراتِ أكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ . وَلَوْ أنَّهُم صَبَروا حَتّى تَخْرُجَ إليْهم لَكانَ خَيْراً لَهُم واللهَ غَفور رَحيم( .

روى ابن جرير رحمه الله عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال :

اجتمع أناس من العرب فقالوا : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يك نبياً فنحن أسعد الناس به ، وإن يك ملكاً نعش بجناحه قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا . فجاءوا إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه وهو في حجرته يا محمد يا محمد . فأنزل الله تعالى : " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون " . قال : فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني فمدها فجعل يقول : " لقد صدق الله تعالى قولك يا زيد ، لقد صدق الله قولك يا زيد " . ابن كثير ج4 : 208 .

وقد تأذى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ندائهم على هذه الصفة المنافية لأبسط قواعد الآداب والأخلاق ، خاصة وكان صلى الله عليه وسلم قد أخذ راحته فنام للقيلولة ، وصحا على أصواتهم وهم ينادون بأعلاها : يا محمد يا محمد أخرج إلينا .

لذا فقد حكم الله عز وجل على أكثرهم بعدم العقل إذ قال : أكثرهم لا يعقلون . وعدم العقل جاء من ناحية الجهل بقانون الأدب في النداء ، والجهل بما ينبغي أن يكون عليه الطالب من تخير الوقت ، تخير المكان ، وتخير الألفاظ في الطلب والنداء . وقد كان عليه الصلاة والسلام لا يحتجب عن الناس إلا حيث تتقاضاه دواعيه الخاصة في بيته ، فليس من الحق ولا من العدل بل ولا من الدب ألا تترك له لفرصة للاستجمام والراحة إلى نفسه وأهله .

وهذا الأدب الرفيع كما هو أدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون أدبنا مع الناس كافة في حياتنا الإجتماعية ، فليس من الأدب ولا من العدل والإنصاف أن تزعج الناس في بيوتهم وقد أووا إليها في أوقات راحتهم وانسهم بلقاء أهلهم وأطفالهم .

وللزيارة أدب ووقت ، وللسؤال كذلك أدب وزمان وباب يفتح في غبان فأت البيوت من أبوابها إذا كنت حريصاً على قضاء حاجتك .

أما هؤلاء الذين جاءوا من وراء الحجرات ، وخاطبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ونادوه من الطرقات فقد استهجن الله عز وجل طريقهم ومقتها ووصف أكثرهم بعدم العقل والإدراك . وهذا يكفي لترك مثل هذه الأخلاق الجافة الفظة الغليظة . والتأدب بأدب الله سبحانه وهو أسمى الآداب .

والحجرات جمع حجرة ، كغرفة وجمعها غرفات . والحجرة هنا هي الغرفة في بيت النبي صلى الله عليه وسلم .

وأود هنا أن أذكر ما كانت عليه حجرات النبي الأمين صلى الله عليه وسلم الذي هدى أمة ، وكوّن دولة ، وأسس حضارة عظيمة ، وبنى ملكاً ومجداً خالدين على مدى الدهر . وجاء من ربه بأعظم رسالة سماوية .

فقد أخرج البخاري رحمه الله في الأدب عن داؤد بن قيس قال : رأيت الحجرات من جريد النخل مغشاة من خارجها بمسوح الشعر .

وعن الحسن رضي الله عنه قال : كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان فأتناول سقفها بيدي ، وقد أدخلت في المسجد في عهد الوليد بن عبد الملك وبكى الناس لذلك .

وقال سعيد بن المسيب رضي الله عنه إذ ذاك : " والله لوددت أنهم تركوها على حالها ليراها النشء من أهل المدينة ويَقُدُم القادم من الآفاق فيرى ما اكتفى به النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ، فيكون ذلك داعياً إلى ترك التفاخر والتكاثر " .

ولو أن هؤلاء الأعراب صبروا حتى تخرج إليهم لكان ذلك الصبر خيراً لهم وأجدر بأمثالهم . ومع هذا فالله غفور : يغفر مثل هذه الزلات التي لم تصدر عن سوء قصد ولم يكن سببها إلا تلك الطبيعة الجافة التي لم تهذب من قبل بعلم ولا دين ولا تجربة . ورحيم : يرحم مثل هؤلاء . ومن رحمته أنه ينزل من القرآن آيات خالدة يؤدب بها عباده بالآداب السامية الرفيعة التي ترضاها النفوس الكريمة وتتقبلها الطباع الشريفة . ومن رحمته أنه تبارك وتعالى اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ، والأنفس ملك يمينه عز وجل وكذا الأموال ومع ذلك فهو المتفضل المتكرم على عباده في كل شيء .

وهكذا نجد القرآن العظيم يدخل في جميع شؤون العباد ، فيعلم عظائم الأمور ، كما يوجه إلى صغائرها ، حتى علمهم طريق النداء وطريق الاستئذان ، بل وطريق دخول البيوت وطريق السؤال في الحاجات والملمات .

وقد حكي عن ابن عبيد قال : ما دققت باباً على عالم حتى يخرج في وقت خروجه .

وكان ابن عباس رضي الله عنهما : يذهب إلى أبي في بيته لأخذ القرآن عنه ، فيقف عند الباب ولا يدق حتى يخرج أُبيّ رضي الله عنه .

هكذا فعل القرآن في نفوسهم ، صقلها ، وهذبها ، وأدبها بأدبه الرفيع ، ورباها على أخلاقه السماوية الطاهرة ، ولن تسمو النفوس حتى تسترشد بالقرآن وتهتدي بهديه المنير .

الآية الخامسة : يا أيـُّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأ ...

) يا أيـُّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا . أنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُم نَادِمين (

توطئــــة

هذه آية كريمة ، تقرر أصلاً عظيماً ، له خطره وأثره في الحياة ، فالتثبت في الأخبار والصدق في نقلها ، من قواعد هذا الدين الذي شاد صرح الخلاق على أمتن القواعد وأقواها ، وثَبّت هذه الأسس وأرساها . رب عظيم في كتاب عظيم ، نزل على نبي عظيم صلوات الله وسلامه عليه .

والصدق دعامة الفضائل ، وعنوان الأخلاق والرقي ، ودليل الكمال ، ومظهر من مظاهر الرجولة والإنسانية والسمر النفسي ، وهو الذي يضمن رد الحقوق ، ويوطد الثقة بين الأفراد والجماعات ، لا يستغني عنه عالم ، ولا حاكم ، ولا قاض ، ولا تاجر ، ولا رجل ، ولا إمرأة . ولا صغير ، ولا كبير ، ما داموا جميعاً يعيشون في مجتمع ، ويتعاملون فيه مع الآخرين .

والصدق من صفات الله عز وجل وهو من صفات الأنبياء والمرسلين .

قال تعالى : ومن أصدق من الله حديثاً .

وقال تعالى : واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً .

وإذا كان للصدق هذه المنزلة الرفيعة ، وهو من أخلاق الرحيم الرحمن جل وعلا . فإن الكذب ضد هذا تماماً . وهو من صفات الشيطان ، ومن قادهم الشيطان من بني الإنسان ، إلى حزبه وجعلهم من أصحاب الوجوه المُسْوَدَّة . قال تعالى :

" إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون " .

وقال : " ويم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة " .

وكم قد فرق الكذب بين المتحابين ! وكم سفك من دماء ، وكم شن من غارات ، وأثار إضاً ونعرات، وكم قد فرق بين الأخ وأخيه ، والولد وأبيه ، والوالد وبنيه ، وكم ورطت العجلة أناساً فأسقطتهم في مهاوي الظلم ، وجعلتهم يندمون ويتأسفون على فرطوا وتعجلوا ولات ساعة مندم . وكم من دم أهريق نتيجة الخبار الكاذبة والتعجل في تصديقها ، وكم من بريئة قد قتلت ، ولا تعلم بأي ذنب قتلت !

فالله تبارك وتعالى يأمرنا بالتثبت في خبر الفاسق . والاحتياط الدقيق في تلقي الأخبار ، لئلا نحكم بقول الفاسق الكاذب ، فنكون كاذبين ومخطئين ، ومتجنين ، على من حكمنا عليه ، قبل التثبت والتأني في خبر ما سمعناه منه ، ونقلناه عنه .

ولما للصدق من أثر في بناء المجتمعات على قواعد سليمة محكمة متينة ، فقد أمر الله بالصدق ونهى عن الكذب فقال تعالى :

" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " .

وفي الحديث الشريف عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالصدق . فإن الصدق يهدي إلى البر ، والبر يهدي إلى الجنة " ، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق ، حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً " . رواه البخاري ومسلم .

وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " اضمنوا لي شيئاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة ، أصدقوا إذا حدثتم ، وأوفوا إذا وعدتم ، وأدوا إذا أؤتمنتم ، وأحفظوا فروجكم ، وغضوا أبصاركم ، وكفوا أيديكم " . رواه الإمام أحمد وابن حبان .

ورسالة الإسلام كلها الصدق ، ورسول الإسلام عليه الصلاة والسلام جاء بالصدق ، وصدق برسالته المؤمنون . وصَدَقُوا فيما عاهدوا الله عليه فأثنى الله عليهم ، إذ وَفَّوا بما عاهدوا عليه الله . من الصبر في الحرب . والشجاعة في لقاء العدو ، والثبات . ولم يهنوا ولم يستكينوا . وما بدلوا تبديلاً . قال تعالى : " والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون " .

وقال تعالى : " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " .

أسباب نزول الآية

قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حدثنا محمد بن سابق حدثنا عيسى بن دينار . حدثني أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول :

قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام . فدخلت فيه وأقررت به . ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت : يا رسول الله ارجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي دفعت زكاته وترسل إليّ يا رسول الله رسولاً إبّان كذا وكذا . ليأتيك بما جمعت من الزكاة ، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له ، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه . احتبس عليه الرسول ولم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله . فدعا سَرَوات قومه فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقّت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة ، وليس من رسول الله الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة . فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي هذا الحال وهم يتحادثون مجتمعين ويتذاكرون في سبب تأخير المبعوث من قبل رسول الله إلى الحارث وجماعته .

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة ابن أبي معيط إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة ، فلما أن سار الوليد بن عقبة ، حتى بلغ بعض الطريق فَرَقَ – أي خاف – فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :

" يا رسول الله إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي ، فغضب رسول الله وبعث البعث إلى الحارث رضي الله عنه . وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا هذا الحارث ، فلما غشيهم قال لهم إلى من بعثتم ؟ قالوا : إليك . قال : ولم ؟ قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهث الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله . فقال رضي الله عنه : لا ، والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني . فلما دخل الحارث على رسول الله قال : " منعت الزكاة وأردت قتل رسولي ؟ " قال : لا . والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني ، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن يكون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله . فنزلت هذه الآية الكريمة من سورة الحجرات : " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ، أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " .

وقال مجاهد رضي الله عنه وقتادة في رواية أخرى :

بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم فتلقوه بالصدقة فرجع فقال : إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك . زاد قتادة . وأنهم قد ارتدوا عن الإسلام .

فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم وأمره أن يتثبت ولا يعجل . فانطلق خالد حتى أتاهم ليلاً فبعث عيونه فلما جاءوا . أخبروا خالداً رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام . وسمعوا أذانهم وصلاتهم . فلما أصبحوا أتاهم خالد بن الوليد فرأى الذي يعجبه ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية :

" يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا " الآية .

قال الإمام الحسن رضي الله عنه في هذه الآية :

" فوالله لئن كانت الآية نزلت في هؤلاء القوم خاصة، إنها لمرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء ".

والقاعدة الأصولية المعروفة . أن العبرة في كتاب الله بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

والفساق والكذابون في كل زمان وأوان يملأون أطباق الثرى . فعلى المرء أن يتثبت ، ويتأنى . ولا يتعجل بالحكم على أحد ، وقد أمره الله بهذه الآية بالتثبت والتبين ، فإذا أطاع وتثبت فقد عبد الله وأمن على نفسه من الوقوع في عاقبة الحكم على الناس بالباطل والإفك والبهتان . على أن خطر الأخبار لا يجيء من ناحية الفسق وتعمد الكذب وحده ، بل قد يجيء من نواح أخرى ، فقد يكون الرجل عدلاً أميناً صادقاً . لكنه لا يعرف كيف يسمع الخبار ، ولا كيف ينقلها . فلا يحسن السمع ، ولا يحسن الداء . فيقع تحت طائلة الكذب .

وقد يكون الرجل عدلاً . ولكنه ذو غفلة . فتدس إليه الأخبار من الكاذبين وينقلها إلى الغير عن صفاء نية ، وعلى ظن الصدق فيقع كذلك في أسر الكاذبين .

والتثبت في الأخبار فضيلة ، تدل على الرجولة ، وضبط النفس . ولكنها – مع مر السف – ليست كثيرة عند الناس ، وأكثر الناس يقعون في تصديق الأخبار من حيث لا يشعرون . ولبعض مهرة الكذابين حيل وأساليب قد تخفى على أشد الناس تثبتاً . وعقلاً ، وحكمة ، وإدراكاً . خصوصاً في زماننا هذا . وقد أصبحت أسلحة الدعاية والكذب فيه من أفتك ما نُحارب به ، بل أصبح للكذب معامل ومصانع ومطابخ تهيئ الكذب وتجدمله وتزينه وتصقله ، ثم تدس سمه في الدسم وتقدمه طعماً للغافلين الأبرياء من الناس ، فتوقعهم في شباك الكذب من حيث لا يشعرون ، وإذا كان رجال المس يتثبتون للخبر مرة واحدة ، فيجب علينا نحن اليوم أن نتثبت ألف مرة ومرة ، وقد كثرت بيننا الوشايات وساءت بيننا العلاقات ، وتقرقنا أيدي سبأ ، بفعل الخائنين والكذابين والدساسين ، وبعل المؤامرات والمخططات الجهنمية التي حاكها ضدنا الاستعمار والصهيونية والشيوعية ومن لفّ لفهم من أذنابهم وخدامهم العملاء الخونة . حتى ساد بعضهم المجتمعات الإسلامية ، وحكموا شعوبها بالقسر والقهر وهم العبيد الأذلاء . قال المتنبي:

سادات كل أناس من نفوسهمـوا

وسادة المسلمين الأعبُـدث القُـزُمُ

والناس جميعاً في أشد الحاجة إلى العمل بهذه الآية الكريمة لتستقيم أخلاقهم وترتاح ضمائرهم . والذين هم أشد حاجة من جميع الناس للعمل بهذا الطراز من الخلق الرفيع ، هم الذين بيدهم مقاليد الأمور ، وكثيراً ما يقع عدم التثبت من الكبراء والرؤساء . ويديئهم ذلك من ناحية استبعاد أن تكذب عليهم بطانتهم . وهو مدخل للخطر عظيم ، فقد تكون هذه البطانة من أكذب الناس وأشدهم حقداً وحسداً للآخرين ، فتوقع رئيسها في طائلة الظلم والكذب والتسرع في الأمور ، وتوقع المظلومين فريسة لها .

وفي هذه الآية – إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا – الأدب العظيم الذي لا بد منه لتكميل النفس ، وإعدادها لتعرف الحق وتعمل به ، ولتعرف مواطن الباطل والزلل فتجتنب عنها .

والله تبارك وتعالى يرشد عباده إلى هذا الأدب الكامل ويحذرهم أن يعملوا بالأخبار قبل الكشف عنها، وقبل التثبت منها ، لئلا يصيبوا أقواماً بسبب الجهالة ، وبسبب الأخبار الكاذبة التي لا تفيد علماً عند العقلاء فيصبحوا بعد ذلك آسفين ، نادمين ، يلازمهم الحزن على ما فرط منهم . فيجب الكشف عن الخبر بكل الوسائل المستطاعة ، ويجدر بالمؤمن أن يحذق طرق الكشف عن الأخبار ، ويروض نفسه عليها ويتأنى . ففي التأني السلامة ، وفي العجلة الأسف والندامة .

روي عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه قال : إذا جاءني الخصم وفي يده عينه مفرغة – مخلوعة – لا أحكم له وأقول إنه مظلوم ، حتى أسمع لخصمه وأتثبت منه . فلعل هذا . قد أفرغ وخلع عيني ذاك ؟

والفاسق

في قوله تعالى : إن جاءكم فاسق .

هو الخارج من طاعة الله تعالى إلى معصيته . وقد سمي الحامل للخبر الكاذب فاسقاً لأنه خرج من الصدق الذي فيه طاعة الله عز وجل ، إلى الكذب الذي فيه معصية الله عز وجل ومجانبة أمره .

ويقع الفسق بالقليل من الذنوب وبالكثير ، ولكنه تعورف فيما كان كثيراً ، وهو أعم من الكفر . وأكثر ما يقال لمن التزم حكم الشرع وأقربه ، ثم أخلّ بأحكامه كلها أو بعضها . وقوله تعالى : " أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون " يدل على أن الفسق أعم من الكفر لأنه قابل به الإيمان .

والنبأ

هو الخبر العظيم ، الذي يترتب عليه أمر خطير وكبير .

أما الأخبـار الصغيـرة أو التافهـة التي لا يترتب عليها شيء فهي في غير حاجة إلى التبين والتثبت .

وقد وصف الله سبحانه حادث الرسالة المحمدية بالنبأ العظيم حيث قال تعالى : " عمّ يتساءلون ؟ عن النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون " .

ومع هذا . فمن الحكمة والحيطة ، أن يتثبت المرء في كل شيء ، ويتبين كل خبر ، وأن يكون دائماً على حذر . فإن الله تبارك وتعالى . كما حذرنا من الكذب ، ونهانا عنه . فإنه عز وجل في هذه الآية ، حذرنا من تصديق الكذب والكذابين ، وأمرنا بالتثبت في أنبائهم وأخبارهم ، بقطع النظر عن شكلها وموضوعها . وأطلق عليهم لفظ الفاسقين : إن جاءكم فاسق بنبأ .

نسأل الله السلامة من كل إثم والحمد لله رب العالمين .

معالجة الإسلام لمشاكل اللسان

لمّـا كان اللسان آلة الصدق والكذب ، فقد ورد في اللسان من الآثار ما يغني ذوي العقول السليمة عن الوقوع في آفاته والانجراف معه في انحرافاته .

واللسان من نعم الله العظيمة ، ولطائف صنعه الغريبة العجيبة ، فإنه صغير الجرم ولكنه عظيم الخطر كثير النفع والضرر ، ولا يستبين الكفر والإيمان ، إلا بشهادة اللسان . وهما غاية الطاعة والعصيان ثم أنه – كما يقول الإمام الغزالي رحمه الله – ما من موجود أو معدوم ، ولا متخيل أو مصروم ، مظنون أو موهوم . إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي . ومن أطلق عذبة اللسان ، وأهمله مرض العنان سلك به الشيطان فيكل ميدان ، وساقه إلى شفا جرف هار ، واضطره إلى البوار ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله أو آجله .

ورد عن سعيد بن جبير مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلها تذكر اللسان أي تقول : اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا .

وهذا أروع تمثيل لبيان خطر اللسان ، وأشر اللسان في حياة الإنسان ، يصوره لنا الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم الذي كان صمته فكراص ، ونطقه ذكراً ، ونظره عبراً .

وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان على الصفا يلبي ويقول :

يا لسان ، قل خيراً تغنم ، واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم فقيل له : يا أبا عبد الرحمن . أهذا شيء تقوله أو شيء سمعته ؟ فقال : لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه .

وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لسان المؤمن وراء قلبه فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه ثم أمضاه بلسانه .

وأن لسان المنافق أمام قلبه فإذا همّ بشيء أمضاه بلسانه ولم يتدبَّره قلبه .

وقال النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه : من كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه ، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به .

رجل من أهل الجنة

جاء عن محمد بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

أن أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة . فدخل عبد الله بن سلام فقام إليه أناس من أصحاب رسول الله فأخبروه بذلك وقالوا : أخبرنا بأوثق عمل في نفسك ترجو به فقال : اني لضعيف ، وأن أوثق ما أرجو به الله سلامة الصدر وترك ما لا يعنيني .

وقد قسم الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه الاحياء . قسم الكلام إلى أربعة أقسام قسم هو ضرر محض ، وقسم هو نفع محض وقسم فيه ضرر ومنفعة ، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة .

أما الذي هو ضرر محض فلابد من السكوت عنه ، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر .

وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول والاشتغال به تضييع زمان وهو عين الخسران .

فلا يبقى إلا القسم الرابع فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام ، وبقي ربع وهذا الربع فيه خطر ، إذ يمتزج بما فيه أثم من دقائق الرياء ، والتصنع ، والغيبة ، وتزكية النفس .

قال تعالى :

" لا خير في كثيرٍ من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس " .

هذا قليل من كثير مما ورد في اللسان وخطر اللسان وآثار اللسان فهل يسوغ لمسلم أن يطلق لسانه ويدعه يلوك الكلام في أعراض الناس ، ولا يتقي الله فيهم ؟ ويأكل لحومهم وهم غائبون ، ويطعن فيهم وهم لا يعلمون . إنه الوباء والمرض يصيب بعض الألسنة فيرديها قتيلة هالكة .

أمراض اللسان

واللسان في الإنسان يمرض كما تمرض بقية الأعضاء . فالقلب يمرض كما قال تعالى في المنافقين: " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ، ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون " .

والعقل يمرض والعين تمرض . ولعل مرض اللسان من أخطر هذه الأمراض القاتلة التي تصيب هذا الإنسان الضعيف والله تبارك وتعالى حذرنا من كل الأمراض التي يصاب بها اللسان كما أن الإسلام العظيم قد وضع الدواء الناجع لكل نوع من أنواع المراض التي يصاب بها اللسان . وليس هنا محل تفصيلها وحسبي أن أشير إليها وأسميها بأسمائها والدواء لكل مرض في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أمراض اللسان :

الكذب ، والغيبة ، والنميمة ، والفحش ، والسب ، وبذاءة اللسان ، والمراء والجدال والكلام فيما يعني ، وفضول الكلام ، والخوض في الباطل ، والخصومة والتقعر في الكلام ، واللعن والطعن والتشدق والتصنع في الكلام ، والمزاح والسخرية ، والاستهزاء وإفشاء السر ، والوعد الكاذب ، واليمين الكاذب ، والمدح الكاذب وأصحاب اللسانين الخ .

كل هذه الأمراض إنما هي من أمراض هذا اللسان الذي يحمله كل إنسان وهو الذي يحدد شخصية هذا الإنسان ويرسم ملامحه . فالإنسان مخبوء تحت لسانه ، فإذا تكلم فقد انكشف وظهر للعيان بصدقه أو كذبه بعلمه أو بجهله ، بخيره أو بشره . بشجاعته أو جبنه . وجبن الوليد بن عقبة وخوفه أظهر على لسانه تلك الكذبة التي نزلت الآية بسببها وسماه الله عز وجل فاسقاً : " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " .

وهنا ناحية في أخلاقنا الاجتماعية تكاد تكون عامة في كثير من الطبقات وهي الكذب في الحديث والرواية والعمل لا لشيء سوى التخلص من عتاب صديق . أو عناء زيارة واجبة ، أو دفع تبعة محتملة فاعتذارك عن تلبية دعوة ، بداعي المرض مع أنك لم تكن مريضاً . أو كقولك لأهلك عند زيارة أحد تكره مقابلته أو عند نداء تلفوني من إنسان لا تحب مكالمته . قولوا له أني لست في الدار . مع أنك موجود فيها فقد كذبت بهذا التصرف ، وجعلت أهلك يكذبون معك ، أو تجاهلك لأمر تعرفه أو التغاضي عن شيء تكره إفشاءه . والتمارض الذي يظهر به بعض الناس كل ذلك من هذا القبيل .

والمصانعة ، والمداهنة والرياء والتقية وإن اختلفت أسماؤها ، فهي في الحقيقة لا تخرج عن هذا الميدان وهو ميدان الكذب ، ما دام الكذب هو الأخبار بشيء على خلاف ما هو عليه مع العلم به ، فليحذر الناس هذه المزالق الخطرة وليحاربوا كل أصناف هذا المرض الذي هو الكذب وهو رذيلة شنعاء خطيرة مقتها ونهت عنها جميع الشرائع السماوية وأنكرتها جميع العقول السليمة .

مواضع يجوز بها الكذب

لقد أجازت لنا الشريعة الإسلامية الغراء وهي شريعة الرحمة واليسر والخيرات الحسان أجازت لنا ارتكاب بعض المنهيات للضرورة كما أجازت للمضطر أكل الميتة ولحم الخنزير ، فقد أجازت الكذب لبعض الضرورات وقد ورد عن أم كلثوم رضي الله عنها قالت : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث :

1 – الرجل يقول القول يريد به الإصلاح ، 2 – والرجل يقول القول في الحرب ، 3 – والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها .

وقال النبـي الكريم صلوات الله وسلامه عليه : ليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيراً أو أنمى – أذاع خيراً – وروي عن أبي كاهل قال : وقع بين اثنين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى تصارما ، فلقيت أحدهما فقلت : مالك ولفلان ، فقد سمعته يحسن عليك الثناء ؟ ثم لقيت الآخر فقلت له مثل ذلك حتى اصطلحا . ثم قلت : أهلكت نفسي وأصلحت بين هذين . فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا كاهل أصلح بين الناس ولو – أي ولو بالكذب فهذه المواضع الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء وفي معناها كل ما عداها إذا ارتبط به غرض مقصود صحيح ، ومصلحة راجحة على أن لا تتعدى هذه الرخصة في الكذب حدود الضرورة ، فإذا تعدت انقلبت إلى ضدها .

الكذب في المزاح

ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن هناك أناساً يغلب عليهم طبع المزاح فتراهم يختلقون القصص والأخبار والخرافات ليضحكوا بها الناس . وهذا النوع من المذاح كذب محض في عرف الشرع والعقل وهو منهى عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم :

ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ، ويل له ، ويل له .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : إياكم والكذب فإن الكذب لا يصلح لا في الجد ولا في الهزل .

بل نهى الشارع العظيم عن الكذب حتى مع الطفل الصغير فقال النبي صلوات الله وسلامه عليه : لا يعد الرجل صبيه ثم لا يفي له .

وروي أن يعلى بنت أبي جثمة نادت ابنها الصغير قائلة : يا عبدالله تعال خذ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : وما تعطينه ؟ قالت : تمراً . فقال : أما أنك لو لم تعطيه كتبت لك كذبة .

وهذا علاج في التربية حكيم وعظيم لو سار عليه الآباء والأمهات لما نشأ الأبناء على الكذب واللعب وكثرة البهتان .

فالأطفال وربة البيت وحتى الخدم إذا آنسوا من رب البيت كذباً وخداعاً جاوره في هذا المضمار ، وغنوا بأبشع الأنغام على هذا المضمار .

ولا شيء يضمن الراحة والهدوء والسعادة في الأسرة مثل أن يجعل رب الأسرة عماد معاملته لأفراد أسرته الصدق والإخلاص وتحري الحق في القول والعمل ، وتعويد أهله وولده على هذه الخلال ، ويعجبنـي في الحض على الوفاء بالوعد ولاحتياط في الأمر قول أبي الأسود الدؤلي رضي الله عنه إذ يقول :

وإذا وعدت الوعد كنـت كغارم

دينـاً أقـر بـه وأحضر كـاتبا

حتـى أنفـذه علـى ما قلتــه

وكفى علـي به لنفسـي طالبـا

وإذا منعت منعـت منعـاً بينـاً

وأرحت من طول العناء الصاحبا

فهو رضي الله عنه : إذا وعد آخر بوعد التزم وعده وأكده على نفسه كما يلتزم المدين أداء دينه بالإقرار به وتسجيله في صك عن يد كاتب حتى ينفذه في أجله المعلوم . أنه لا يحتاج إلى من يذكره بالوعد ولزوم الوفاء به فإن نفسه هي الكفيلة بذلك ثم أنه إذا أحس من نفسه العجز عن الوفاء لصاحبه بالوعد الذي وعده بين له من أول وهلة أنه غير قادر على الوفاء والإنجاز ، ويكون بذلك قد أراح صاحبه من التعب والعناء وطول المراجعة وحبذا هذا الخلق الكريم من أبي الأسود الدؤلي رحمه الله .

جواز المزاح

المزاح الصادق لم ينه عنه الشرع الكريم ففيه مطايبة وتسلية لكثير من النفوس على أن لا يتجاوز حد الاعتدال وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمازح بعض الصحابة والصحابيات ولكنه صلوات الله وسلامه عليه لا يقول إلا حقاً . روي عن الحسن رضي الله عنه أنه قال : أتت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله أدع لي بالمغفرة .

فقال لها : لا يدخل الجنة عجوز .. فبكت فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها : لست بعجوز يومئذ أما قرأت قوله تعالى : " إنا أنشأناهنَّ : إنشاءاً فجعلناهنَّ أبكاراً عُرُباً أتراباً " .

وجاء رجل من الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم طالباً أن يجد له الرسول راحلة تحمله إلى الغزو الغزو والقتال فقال : احملني يا رسول الله فقال : لأحملنك على ابن ناقة فقال الرجل : وكيف يحملني ابن الناقة يا رسول الله فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : وهل الجمل إلا ابن الناقة ؟

وهناك الكثير الوافر من حوادث مزاحه النبيل الجميل صلى الله عليه وسلم القائم على الحب والصدق والإخلاص وتألف القلوب .

ولقد تأدّب المسلمون بهذه الآداب الرفيعة السامية حتى كانوا بحق خير أمة أُخرِجت للناس والحمد لله رب العالمين

الآية السادسة والسابعة : واعْلَـمُوا أنَّ فِيكُم رَسُولَ اللهِ ...

قال الله سبحانه وتعالى :
) واعْلَـمُوا أنَّ فِيكُم رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُم فِي كَثيرٍ مِنَ الأمْرِ لَعَنِتُّمُ ، ولكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إلّيْكُمُ الإيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُم وكَرَّهَ إلَيْكُمُ الكُفْرَ والفُسُوقَ والعِصْيانَ أولئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ ، فَضْلاً مِنَ اللهِ ونِعْمَةً ، واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( .

بعد أن حذَر الله سبحانه المؤمنين في الآية السابقة من أخبار الفاسقين ، وأمرهم بالتبيُّن والتثبت فيها لئلا يصيبوا قوماً بجهالة فيصبحوا على ما فعلوا نادمين .

نبههم هنا سبحانه في هذه الآية إلى أن الرسول بينهم وهو معهم يتلقى الوحي من ربه ، وليس المقصود ظاهر الخبر بوجوده بينهم صلوات الله وسلامه عليه لأن ذلك معروف بالعيان .

بل المقصود لازم الخبر وهو التحرُّز والتوقي والحذر التام من الكذب والبهتان فإنه إن خفي كذبكم على الناس ، بل وحتى على الرسول عليه السلام فإن الله لا يخفى عليه شيء مما توسوس به أنفسكم وتنطق به ألسنتكم . فإذا اطلع على شيء من كذبكم أنزل الوحي على رسوله وفضحكم بما قلتم وبما كذبتم كما فعل بالوليد بن عقبة الذي اطلعتم على مصيره ونتيجة أمره حين فضحته آيتنا التي أنزلناها على رسولنا .

هذا من جهة وأما من الجهة الأخرى فإن المؤمنين ونبيهم الأعظم صلوات الله وسلامه عليه بين أظهرهم يجب أن يكونوا بعيدين عن الدنايا وعن الكذب الذي يؤدي إلى المفاسد ، ويجر إلى ويلات قد يشترك فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يليق بمن يحبه ويؤمن به ويعظمه أن يوقعه في مثل هذا الخطر الذي يؤدي إليه الكذب .

وهذا الحب وهذا الإجلال يدعو إلى الاحتراس من وقوع المحبوب فيما لا يليق أن يقع فيه والإعلام بأن فيهم رسول الله تنبيه لهم على وجود المرشد المراقب لتصرفاتهم والذي يجب اتباعه ، وتجب طاعته بأمر الله عز وجل ، وبذلك عاد الحديث إلى الطاعة ، وإلى عدم السبق بالرأي ، والتعجل في الحكم وهو موضوع أول آية في هذه السورة المباركة سورة الحجرات .

والسر في ذلك الوجوب : هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ أمر الله ومبين له وأنه أدرى بالأغراض الإلهية ، وأدرى بمصالح الأمة وما ينفعها ، من كل من حوله يؤيده الوحي ويمده النور الإلهي ، ومقامه مقام المتبوع ، ومقامهم مقام التابع ، فيجب أن يطيعوه ، لا أن يطيعهم ، ولو أن الأمر انعكس وأطاعهم لنالهم من طاعته إياهم عنت وجهد ومشقة وهلاك .

ولكن ذلك لا يكون لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم منصبه لا يتبع إلا ما يوحى إليه من ربه ، وهذا مبدأ معروف لم يجر حديث عنه في الآية ، ولأن جماعة المؤمنين بحكم إيمانهم لا يرضون ذلك ولا يطالبون به لأن الله حبب إليهم الإيمان بالله ورسوله ، وحسَّنه في قلوبهم فهو لاصق بهم ، وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والخروج عن الطاعة وركوب ما نهى الله عنه ، وقد جرت عادة القرآن الكريم أن يخاطب الجميع ولو كان الذي فعل الفعل البعض ، تنبيهاً على ان المسلمين يعدون وحدة متصلة وإن كثرت الأعداد وأن ما يفعله البعض منهم يُعدّ صادر عن الجميع راجع تفسير سورة الحجرات للشيخ محمد مصطفى المراغي رحمه الله قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره:

قوله تعالى : " واعلموا أن فيكم رسول الله " أي اعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظموه ووقروه ، وتأدبوا معه ، وانقادوا لأمره فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم ورأيه فيكم أتم من رأيكم أنفسكم كما قال الله تبارك وتعالى : " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " ثم بيّن أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال : " لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم " أي لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم كما قال سبحانه وتعالى : " ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل آتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون " .

وقوله تعالى : " ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم " : أي حببه إلى نفوسكم ، وحسنه في قلوبكم ، وهذه من نعمة الله على المؤمنين إذ يزين لهم الإيمان ويركزه في قلوبهم ويثبتهم عليه ، فإن الإنسان قد يرى حسناً ما ليس بالحسن والعكس بالعكس كذلك ، لذا فإن الله زين هذا الإيمان في قلوبهم وثبتهم عليه وجعلهم يرونه حسناً وأنه لا يحياة لهم بدونه . قال الإمام أحمد رحمه الله : ورد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الإسلام علانية والإيمان في القلب ، قال ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ثم يقول : التقوى ههنا ، التقوى ههنا .

" وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان " .

أي بغَّض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار ، والعصيان يشمل جميع المعاصي وهذا تدريج لكمال النعمة .

ومن المفسرين من حمل الفسوق على الكبائر ، والعصيان على الصغائر ، وقد نقل عن أبي زيد : الفاسق في كتاب الله كله : الكاذب . ولذلك حمل الفسوق على الكذب والعصيان على الإخلال بالأركان .

ثم وصف الله سبحانه من حبب إليهم الإيمان وكره إليهم الكفر على طريق الالتفات بأنهم الراشدون السالكون طريق الحق والخير والكمال ، المهتدون إليه ، وبين أنه فعل ذلك فضلاً منه ونعمة عليهم . وقد قيل : ان الفعل إذا نظر إلى صدوره من جانب الحق سمي فضلاً ، وإذا نظر إلى وصوله إلى العبد سمي نعمة .

والله تبارك وتعالى عليم بأحوال الخلق وبالمحسن منهم والمسيء ومن هو أهل لفضله ومن ليس أهلاً للفضل ، وهو حكيم عز وجل يضع الأشياء في مواضعها .

" أولئك هم الراشدون " المتصفون بهذه الصفة الذين أتاهم الله رشدهم ، وهم أهل لهذا الرشد فالله عليم بأحوال عباده أي بمن يستحق الهداية ، ممن يستحق الغواية ، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره جل وعلا علواً كبيراً . قال الإمام أحمد رحمه الله : حدّثنا مروان بن معاوية الغزاري حدثنا عبد الواحد بن أيمـن المكي عن أبي رفاعة الزرقي عن أبيه قال : لما كان يوم – أحد – وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استووا حتى أثني على ربي عز وجل فصاروا خلفه صفوفاً فقال صلى الله عليه وسلم :

اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت ، ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ، ولا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا مقرب لما باعدت ، ولا مباعد لما قربت .

اللهم أبسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك .

اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة ، والأمن يوم الخوف .

اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ومن شر ما منعتنا .

اللهم حبب غلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين .

اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين .

اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك واجعل عليهم رجزك وعذابك ، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب إله الحق .

وهكذا يعلمنا الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم اللجوء إلى الله وأن نلوذ بجنابه في كل حالاتنا وأن نطرق باب رحمته التي وسعت كل شيء .

والإسلام العظيم الذي جاء لإصلاح نفوس البشر وتزكيتها بتربيتها والعلو بها إلى منتهى الكمال الإنساني ، أوضح للإنسانية كلها الغاية القصوى من تشريعاته ، واقترابها نحو المثل الأعلى ، وكان هذا المثل هو الله جل وعلا رب السماوات والأرض ورب العالمين ورب كل شيء ومليكه نلوذ به ، ونعتمد عليه ، ونتوكل عليه ، ونستمد كل معاني الخير ، والقوة والبطولة منه سبحانه .

قال تعالى : " ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين " .

لذا فقد كان المسلم ذاكراً الله ، شاكراً فضله وإحسانه حامداً له عز وجل في كل حالاته ، وجميع تصرفاته ، وقد أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل هذا الدعاء الذي نقلناه عنه بعد غزوة أحد . كما أثر عنه صلى الله عليه وسلم الكثير الرائع من الصيغ البليغة من الدعاء والذكر والشكر والتسبيح والتحميد في كل الأحوال صغيرها وكبيرها وعظيمها وحقيرها وقد كان النبي صلوات الله وسلامه عليه ويذكر الله على كل أحواله .

وقد ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه .

كما ورد الأمر به والإكثار منه وبيان فضله في كثير من آيات القرآن العظيم وقد أمر الله عز وجل به المؤمنين : " يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلا " .

وقال تعالى في سورة الأحزاب . " إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات، والصادقين والصادقات ، والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات ، والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات ، والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات ، أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً " .

وفي حديث قدسي يرويه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عن ربه قال : قال الله تبارك وتعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه . متفق عليه .

وورد عن عبدالله بن بشر رضي الله عنه أن رجلاً قال :

يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به ، قال : لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله . رواه الترمذي .

وفي الحديث الذي يرويه الإمام مسلم رحمه الله يقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : لا يقعد قوم يذكرون الله عزوجل إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده .

والجماعة التي تجلس لذكر الله يباهي الله بهم الملائكة وتلك منزلة عظيمة تتطلع إليها نفوس المؤمنين الصادقين الشاكرين الله والذاكرين الخاشعين الخاضعين .

ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال : ما أجلسكم إلا ذاك ؟ قالوا والله ما أجلسنا إلا ذاك ، قال : أما أني لم أستحلفكم تهمة لكم ، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثاً مني . وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال : ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا قال : أما أني لم أستحلفكم تهمة لكم ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة .

رواه مسلم والترمذي والنسائي .

وهكذا يفعل الدعاء وهو مخ العبادة فنسأل الله أن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا ، وأن يكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، والحمد لله رب العالمين .

الآية الثامنة : وإنْ طَائِفَتانِ مِنَ المؤمِنِينَ اقْتَتَلوا ...

) وإنْ طَائِفَتانِ مِنَ المؤمِنِينَ اقْتَتَلوا فأصلِحُوا بَيْنَهُما ، فإنْ بَغَتْ إحْداهُما عَلى الأخْرى فَقاتِلوا التي تَبْغِي حَتّى تَفيءَ إلى أَمْرِ الله ، فإنْ فاءتْ فأصلحوا بَيْنَهما بالعَدْلِ ، وأقْسِطُوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطينَ ( .

فيضُ نعم الله على المسلمين لا ينضب ، وفضله عليه لا ينقطع ، وإحسانه جل وعلا موصول بهم مذ خلقهم الله وجعلهم مسلمين ، له أمرهم ، مؤمنين به وبكتابه وملائكته وبالقدر خيره وشره وباليوم الآخر.

فقد أكرمهم بالإسلام ديناً ونظاماً ، وأخلاقاً وحكماً وسياسة وعقلاً وعلماً .

وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وهادياً ، ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً .

وأكرمهم بالقرآن العظيم دستوراً خالداً ونظاماً محكماً وبرهاناً نيراً وضياء ساطعاً يهديهم إلى سواء السبيل .

وأكرمهم بهذه الآية الكريمة : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ... " .

فجعلهم حراساً على العدل ، قوامين بالقسط ، شهداء على الحق ، دعاة خير وإصلاح وبناء ، لا دعاة خير وإصلاح وبناء ، لا دعاة شر وإفساد ، صالحين مصلحين ، آمرين بالمعروف ، ناهين عن المنكر .

ومن حـق من يضعه الله تعالى في هذا الموضع الرفيع ويمنحه هذه الدرجات من الشرف وعلو المقام ، أن يعد نفسه لهذا المقام ، وأن يقدم كل ما يملك تلبية لهذا الواجب المقدس .

فإذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين لشبهة دخلت عليهما ، وكلتاهما ترى نفسها محقة صادقة ، وجب إزالة هذه الشبهة وإطلاعهما على مراشد الحق وطريق الصواب ، لأن من خاصم عميت عليه السبل ولم ير الرشد إلا فيما سلك من طريق فوجب على المسلمين هدايته وإيقافه عنه حدِّه لئلا يتيه في طريق عميت عليه مسالكه .

فإن ركبت الطائفتان متن الشطط والغواية والعناد ولم تعملا بما هديتا إليه ونصحتا به اعتبرتا في حكم الباغيتين الظالمتين وحوربتا معاً حتى تعودا إلى الصواب والسداد ويكفّا عن الحرب والغواية ، وذلك نصر لهما وإنجاد وتخليص .

ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ، قلت : يا رسول الله . هذا نصرته مظلوماً ، فكيف أنصره ظالماً ؟ قال صلى الله عليه وسلم : تمنعه من الظلم ، فذاك نصرك إيّـاه".

سبب نزول الآية

ذكر في سبب نزولها ما قاله السدي رضي الله تعالى عنه: كان رجل من الأنصار يقال له : عمران، وكانت له امرأة تدعى أم زيد ، وأرادت المرأة أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها .

فبعثت المرأة إلى قومها ، فجاءوا وأنزلوها لينطلقوا بها ، فاستعان الرجل بأهله فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال وتضاربوا واقتتلوا فنزلت فيهم هذه الآية : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما " فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح بينهم وفاءوا إلى أمر الله تعالى .

وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن الآية في الرجلين ، أو النفر والنفر ، أو القبيلة والقبيلة من أهل الإسلام ، يقتتلان ، فأمر الله تعالى أئمة المسلمين أن يقضوا بينهم بالحق الذي أنزله الله تعالى في كتابه : إما القصاص والقود ، وإما العقل والدية .

فإن بغت إحداهما على الأخرى بعد ذلك ، كان المسلمون مع المظلوم على الظالم حتى يرضى بحكم الله .

وبهذه الآية الكريمة استدل الإمام البخاري وغيره من الأئمة الكرام على أن المؤمن لا يخرج عن إيمانه إذا ارتكب معصية وإن عظمت ، ودليلهم على ذلك قول الله تبارك وتعالى في هذه الآية : " وإن طائفتان من المؤمنين " حيث سماهم الله سبحانه وتعالى مؤمنين مع ارتكابهم لتلك المعصية وهي الاقتتال فيما بينهم .

ودليلهم من السنة ما ثبت في صحيح البخاري رحمه الله من حديث الحسن عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوماً ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما فجعل ينظر إليه مرة وإلى الناس أخرى ويقول : " إن ابني هذا سيد ، ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " .

فكان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق بعد تلك الحروب الطويلة والوقائع المفجعة ورحم الله الإمام البخاري ومن شايعه في هذا الرأي الحسن ، وإلا فلو أخذنا بقول الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهم المؤدي إلى خروج المؤمن عن إيمانه إذا ارتكب معصية ، فكم يبقى بأيدينا من مسلمي اليوم وقد غرقوا في المعاصي حتى غاصت الركب ؟ وكم يبقى بأيدينا من المؤمنين وقد استمرأ الناس المعصية – أو أكثر الناس على أقل تقدير – حتى أصبحوا يرون المنكر معروفاً والمعروف منكراً وغلبت عليهم شقوتهم فلم يرعوا حقاً لديه ولا عهداً لرسول ولا إلاًّ ولا ذمة لأحد من الناس فالمستعان هو الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

والطائفة من الناس هي الجماعة منهم ، ومن الشيء القطعة منه ، وهي جمع طائف ، وقد يكنى بالجمع عن الواحد ، فيراد بها الواحد فقط .

والبغي : هو تجاوز الحد والاستطالة وإباء الصلح ويأتي بمعنى الظلم والجناية والفساد ، يقال : برئ جدرحه على بغي أي اندمل على فساد .

والفيء والفيأة : الرجوع إلى حالة محمودة ، فإن فاءت أي رجعت .

والعدل : ضد الظلم والجور ، وهو التقسيط على سواء والمساواة في المكافأة إن خيراً فخير وإن شراً فشر .

والإحسان : هو مقابلة الخير بأكثر منه ، ومقابلة الشر بأقل منه . أو مقابلته بالإحسان وهو ضد الإساءة .

ويقال في اللغة : قسط الرجل ، إذا جاء فأخذ قسط غيره وأقسط إذا عدل فأعطى قسط غيره بالعدل .

فيكون معنى الآية الكريمة : إذا اقتتل اثنان أو جمعان من المسلمين فعلى الإمام الإصلاح بينهما بالدعاء إلى حكم الله والرضاء بما فيه ، وبالنصح وإزالة سوء التفاهم بينهم .

محاربة المعتدين

فإذا وجد بلد لا يمتد إليه سلطان المسلمين وليس فيه إمام لهم ، وجب على جماعة المسلمين ما هو واجب على الإمام ، ولجماعة المسلمين تصرفات نافذة معروفة في مواضعها من كتب الفقه ، فإن تعدت إحدى الطائفتين ما جعله الله عدلاً بين خلقه في كتابه وطلبت العلو بغير الحق ، إذ ذاك يقاتل المسلمون الطائفة الباغية حتى ترجع إلى حكم كتاب الله عز وجل ، فإن رجعت بعد القتال أصلح بينها وبين الطائفة الأخرى بالعدل والإنصاف ولا يكتفي بالمحاجزة والكف عن القتال بل لابد من الإصلاح بالعدل لتزول الضغينة ، ويأمن الناس رجوعهما بعد الصلح والإصلاح إلى القتال والخصام . والله تبارك وتعالى يحب المقسطين ، ومحبته لهم تستلزم مجازاتهم بأحسن الجزاء لأنهم عدلوا وأقسطوا بين الناس ، والعدل عند الله تعالى من أقرب ما يتقرب العبد إليه تعالى .

والفئة الباغية تقاتل ما قاتلت فإذا قبضت أيديها عن القتال وكفت عن الحرب وأذعنت فلا يجهز لها على جريح ولا يقتل أسير ولا يطلب هارب ، ولا يقسم فيء فالجميع أخوة في الله يجمع بينهم الإسلام ويوحد صفهم الإيمان . وإن بغت الفئتان معاً أصلح بينهما بالطريقة التي يراها المسلمون كافلة للموادعة والمصالحة والكف عن القتال . فإن لم تتحاجزا وأقامتا على الظلم والقتال وجبت مقالتهما معاص لأن البغي فساد في الأرض وخروج عن سنن الإسلام وتعدٍ على العدل الذي يحبه الله تعالى ويأمر به.

المسلمون حماة العدل والنظام

وعلى المسلمين أن يطهروا الأرض من البغي والفساد لتعمر بالعدل والإحسان ، فالمسلمون حراس العدل وجند الله المصلحون لا تغمض لهم عين حتى يقام حكم الله في الأرض ، ففي حكم الله وحده ضمان للعدل والحرية والمجد ، والسعادة والخلود ، فليس لأحد سلطان على أحد ، إذ السلطان – كل السلطان – لله تبارك وتعالى على الناس أجمعين ، وهو العادل يأمر بالعدل وحب المقسطين العادلين .

ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن عز وجل بما أقسطوا في الدنيا " .

وعنه رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش ، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولو " .

ففي هذه الآية الكريمة قرر الإسلام مبدأ عظيماً من مبادئ العدل الاجتماعي وشرع نظاماً محكماً من مبادئ التناصر الإسلامي بالحق والعدل والقسطاس المستقيم . وكفل لهم حياة المن والاستقرار والتعاون على إزالة الخلافات والإكدار ليعيشوا في مجتمع يسوده السلام وتكلله المحبة والوئام .

سلو القوانين الوضعية هل تجدون قانوناً للسلامة الاجتماعية كهذا الذي قرره الإسلام منذ ألف وأربعمائة عام واستنطقوا المبادئ الفكرية هل تجدون فيها من الأنظمة لحماية العدالة وكسر شوكة الباغين، والدفاع عن حقوق المظلومين كهذه النظم الدقيقة التي قررتها هذه الآية وأوجبتها على المسلمين ديناً يدين به المسلمون ونظاماً يحكمون به منذ أربعة عشر قرناً من الزمان .

إن القرآن العظيم آية الله وكلماته الكبرى التي أنزلها للناس رحمة وبياناً مما يشير إلى معجزة القرآن الكريم فكانت معجزاته تمتد إلى آخر الأزمان وعجائبه لا تنقضي أبد الدهر وآياته لا تبلى ولا تخلق على كثرة الرد فالقلوب تقف واجفة خاشعة من عظمة وبديع نظامه ودقيق آياته ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً . وصدق الله العظيم إذ يقول : " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله " . ويقول : " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيَّن لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد " .

الآية التاسعة : إنَّما المُؤمِنُونَ إخْوَةٌ ...

الآية التاسعة :
) إنَّما المُؤمِنُونَ إخْوَةٌ فأصْلِحُوا بَيْنَ أخَوَيْكُم واتّقُوا اللهَ لَعَلّكُمْ تُرْحَمُون ( .

آية عظيمة تقرر أصلاً من أصول هذا الإسلام العظيم ، فهي تقرير لما أمر الله به من الإصلاح بين الطائفتين المؤمنتين وتعليل له ، ذلك أن الإيمان عقد بين أهله من أواصر الأخوة الإسلامية ما يفوق ويفضل على أواصر الأخوة النسبية .

وقد جرت العادة بين الناس أن ينهضوا ويهبوا للصلح إذا نشب قتال بين أخوين من أخوة القرابة حتى يبنوا ما انهدم ويجبروا ما انكسر ، ولا يرتاح لهم بال حتى يزيلوا الأكدار ويعيدوا جو الإخاء إلى الصفاء والنقاء .

إخوة إسلامية

وإخوة الدين أحق بذلك وأجدر أن يُهتم لها ويصلح بين المتخاصمين من المؤمنين لنها أخوّة بنص كتاب الله تعالى . والله عز وجل هو الذي عقد هذه الأخوة من فوق سبع سماوات وما عقده الله تبارك وتعالى لا تحله يد بشر مهما قويت وسطت وظلمت .

ومن عجيب أمر هذه الآية الكريمة أنها جاءت وكأنها قررت أمراً واقعاً مفروغاً منه لا يرد ولا يصد فقالت : " إنما المؤمنون إخوة " ، هكذا حكم الله ، وهكذا أخبر عن هذا العقد الذي ربطه في السماء بين المؤمنين مهما اختلفت أجناسهم وتباينت لغاتهم وتباعدت أقطارهم وتناءت ديارهم ، فهم أخوة تجمعهم عقيدة خالدة ورسالة واحدة ، وهكذا جاءت الجملة خبرية لتقرر واقعاً عظيماً وتخبر عنه فقالت : " إنما المؤمنون اخوة " ولم تأت الجملة إنشائية ، إذ لم يقل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا كونوا اخوة أو تواصوا بالأخوة فيما بينكم ، إذ لو جاءت الآية هكذا " إنشائية " لكانت الأخوّة غير موجودة ، ولكنه عز وجل ربط قلوب المؤمنين برباط واحد وعقد هذا الرباط ثم أخبر عن هذه الحقيقة الثابتة الواقعة وقضى فيها بحكمه فقال : " إنما المؤمنون إخوة " ثم ثنّى بتقرير هذه الحقيقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : " المسلم أخو المسلم أحبَّ أم كره " كما قال عليه الصلاة والسلام : " المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يعيبه ، ولا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلا بإذنه ، ولا يؤذيه بقتار قدره " .

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : المؤمن مرآة المؤمن ، المؤمن أخو المؤمن يكف عنه ضيقه ويحوطه من ورائه " .

وهكذا فهم الصحابة الكرام هذه الأخوة وعاشوا فيها ولها ، وأصبحوا بفضل الله تعالى إخواناً ، دعوتهم واحدة ، وأمرهم واحد ، تقاسموا الحب فيما بينهم ، وآثروا إخوانهم على أنفسهم ، فقاسموهم الأموال ووصلوا إلى درجة من الإيثار أن يقول الصاحب لصاحبه : هذا مالي جعلته بيني وبينك نصفين ، وهاتان زوجتاي اختر أيتهما تشاء لتتزوجها أنت .

آثار الأخوة

هذا ما وصلوا إليه من الإيثار بفضل القرآن وأدب القرآن بعد أن كانوا يعدوا بعضهم على بعض عدو الأسد ، ويختطف بعضهم بعضاً اختطاف الذئاب دون أن يخجل أو يهاب .

جاء في الجزء الثاني من الكامل صفحة 332 : في يوم القادسية الثالث اشتد القتال وتعادل الطرفان فقاتل فيه قيس ابن المكسوح قتال الأبطال وحرض أصحابه فقال :

" يا معشر العرب : إن الله قد منّ عليكم بالإسلام ، وأكرمكم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأصبحتم بنعمته إخواناً ، دعوتكم واحدة ، وأمركم واحد بعد أن كنتم يعدوا بعضكم على بعض عدو الأسد ويختطف بعضكم بعضاً اختطاف الذئاب ، فانصروا الله ينصركم وتنجزوا من الله فتح فارس ، فإن إخوانكم من أهل الشام قد أنجز الله الشام وانتشال القصور الحمر والحصون الحمر " .

هؤلاء العرب الذين أصبحوا بفضل رسالة الإسلام خير أمة أخرجت للناس ، كانوا إلى عهد قريب في جاهلية جهلاء وعصبية نكراء يعدو أحدهم على الآخر عدو الأسد حتى كانوا على أسوأ حال : حروب متواصلة وتفرّق دائم وعداء مستحكم وهمجية ممقوتة ، يبطش بعضهم بالبعض ويسفك بعضهم دم البعض الآخر لا دين يمنع ، ولا قانون يردع ، ولا إنسانية تحجز ولا منصف يعظ إلى أن سطع نور الإسلام فأضاء بلاد العرب واستنارت به أرجاء تهامة ونجد وارتجت لأجله بلاد فارس والروم وقد أتمّ الله تعالى هذا النور على يد سيد الخلق محمد صلوات الله وسلامه عليه بعد أن التف حوله السعداء وانضم إليه العقلاء، وآمن به وبايعه الفضلاء والكرماء الذين نزه الله من قلوبهم داء العداوة والبغضاء ، وطهرها بدواء الأخوة والإخلاص والمحبة وألف بينهم حتى صاروا جسماً واحداً وروحاً واحدة فظفروا بخيري الدنيا والآخرة ، قال تعالى : " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون " .

وكان لدولة الإسلام العز الذي لا يدانى والسلطان الذي لا يضاهى ، فقهروا الجبابرة ودوّخوا الأكاسرة وملكوا مشارق الأرض ومغاربها ، وأدركوا بأخوتهم واتحاد كلمتهم على قلة عددهم ، وضعف عُددهم ما لم تدركه الجيوش على كثرتها وقوة عُدتها وبفضل اتحاد كلمتهم وخلوص نيتهم وصدق جهادهم في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى ونشر دينه قهروا الفرس والرومان وفتحوا الشام ومصر ، وانتصروا في كل القائع فلم تنكس لهم راية ولم ينهزم لهم جيش فالكل يعمل بصدق وإخلاص لإعلاء كلمة الله ورفع راية الإسلام . فهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر ، وقاتلوا في سبيل الله صفاً واحداً كأنهم بنيان مرصوص يشد بعضه بعضاً ، ففازوا بالسعادتين ونالوا الحسنيين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين .

وبعد أن عقد الله الخوة بين المؤمنين طلب أن يتقوه ، وأن التقوى هي سبيل التواصل والتراحم والتعاطف والتسامح وهذا سبب الوصول إلى رحمة الله إليهم وبرّه بهم وعطفه عليهم ونصره لهم : " واتقوا الله لعلكم ترحمون " .

جعلنا الله منهم ووفقنا للسير على منهاجهم المستقيم وطريقهم القويم إنه نعم المولى ونعم النصير .

روى البيهقي رضي الله تعالى عنه فقال : شتم رجل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأجابه :

أتشتمني وفيّ ثلث خصال :

1 – إني لأسمع بالحاكم يعدل في حكمه فأحبه ، ولعلي لا أقاضي إليه أبداً .
2 – وإني لأسمع بالغيث يصيب البلد ، فأفرح به ومالي به سائمة ولا راعية .
3 – وإني لآتي على آية من كتاب الله ، فأود أن المسلمين كلهم يعلمون منها مثل ما أعلم .

وقد أخذ أبو العلاء المعري بعض هذه المعاني فقال :

ولو أنـي جبـت الخلداً فــرداً

لمـا أحببـت بالخلـد انفــرادا

فلا هطلـت علــيّ ولا بأرض

سحـائب ليـس تنتظـم البـلادا

الآية العاشرة : يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ ..

الآية العاشرة :
) يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ، وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أنْ يَكُنّ خَيْراً مِنْهُنّ . وَلا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ ، وَلا تَنابَزُوا بِالألْقابِ ، بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمانِ ، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ( .

لما أمر الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة بإصلاح ذات البين ونهى عن التفرق وأخبر عن عقد الأخوة الذي ربطه الله برباط الإيمان الوثيق ، عقّب في هذه الآية الكريمة بالنهي عن أسباب الفرقة التي تؤدي إلى الشقاق والمشاحنات والبغضاء .

فالسخرية بالخلق والازدراء بالناس والهمز واللمز والتنابز بالألقاب ما هي إلا عوامل للفساد ومعاول لهدم الأخوة بين المؤمنين ، بل هي الفسوق الذي لا يناسب الإيمان الذي يتحلى ويتجمل به المؤمنون البررة لذا نهى الله عز وجل في هذه الآية الكريمة عن هذه العوامل المهلكة المكدرة لصفو المجتمع والتي تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب فقال عز وجل .

) يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ، ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب ، بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ( .

أخلاق اجتماعية

وقد نهت الآية الكريمة عن السخرية بين الرجال والرجال وبين النساء والنساء .

وقد نزل قوله تعالى : لا يسخر قوم من قوم ، في ثابت بن قيس بن شماس وكان في أذنه وقر أي ثقل في السمع وكان إذا دخل المسجد تفسحوا له حتى يقعد عند النبي صلى الله عليه وسلم ليسمع ما يقول ، فدخل المسجد يوماً والناس قد فرغوا من الصلاة وأخذوا أماكنهم في الجلوس فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول : تفسحوا تفسحوا ، حتى انتهى إلى رجل فقال له : أصبت مجلساً فاجلس ، فجلس ثابت بن قيس خلف ذلك الرجل مغضباً ، فلما انجلت الظلمة قال ثابت : من هذا ؟ قال الرجل : أنا فلان . فقال ثابت : ابن فلانة ، ذكر أماً له كان يعير بها في الجاهلية ، فنكس الرجل رأسه حياءً وخجلاً ، فنزلت هذه الآية الكريمة : " يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم " . فقال ثابت بن قيس لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبداً .

وروي عن الضحاك أن قوماً من بني تميم استهزأوا ببلال وخباب وعمار وصهيب وأبي ذر وسالم مولى حذيفة ، فنزلت هذه الآية الكريمة فيهم .

وقوله تعالى : " ولا نساء من نساء " ، نزل في نساء النبي صلى الله عليه وسلم سخرن من أم سلمة وعيّرنها بالقصر وأشرن إليها بأيديهن فنزلت هذه الآية فيهن .

وعن عكرمة عن ابـن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن صفية بنت حيي أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن النساء يعيرنني ويقلن : يا يهودية بنت يهوديين ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : هلاّ قلت إن أبي هرون ، وابن عمي موسى ، وأن زوجي محمد ، عليه الصلاة والسلام ، فنزلت هذه الآية في حقها وحق من عيّرها وطعنها في نسبها ، ناهية عن هذا الأسلوب من السخرية والاستهزاء مما لا يليق بالمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات .

والقوم ، في قوله تعالى : لا يسخر قوم من قوم ، المراد بهم الرجال خاصة ، قال الخليل : القوم يقع على الرجال دون النساء لقيام بعضهم مع بعض في الأمور ، قال زهير : وما أدري ولست أخال أدري : أقوم آل حصنٍ أم نساءُ واختصاص القوم بالرجال دون النساء صريح في الآية الكريمة وفي هذا البيت من شعر زهير .

وقال الزمخشري رحمه الله تعالى : القوم الرجال خاصة لنهم القوامون بأمور النساء ، قال تعالى : "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا " .

وقال عليه الصلاة والسلام : النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه ، والذابون هم الرجال .

وأما قولهم قوم فرعون وقوم عاد مثلاً وفيهم الذكور والإناث ، فليس لفظ القوم بمتعاط للفريقين ولكن قصد ذكر الذكور وترك الإناث لأنهن توابع لرجالهن أو من باب تغليب الذكور على الإناث .

وورود لفظ القوم والنساء بصورة النكرة : " لا يسخر قوم من قوم ولا نساء من نساء " يحتمل معنيين :

أن يراد : لا يسخر بعض المؤمنين والمؤمنات من بعض ، وأن تقصد إفادة الشيوع وأن تصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية والاستهزاء .

قال الزمخشري رحمه الله تعالى : وإن لم يقل الحق عز وجل رجل من رجل ولا إمرأة من إمرأة على التوحيد إعلاماً بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه . ولأن مشهد الساخرين لا يكاد يخلو من يتلهى ويستضحك على قوله ولا يأتي ما يجب عليه من النهي والإنكار فيكون شريك الساخر … وكذلك من يطرق سمعه فيستطيبه ويضحك به فيؤدي ذلك وإن أوجده واحد إلى أن تكثر السخرية وانقلاب الواحد جماعة وقوماً .

وقوله تعالى : " عسى أن يكونوا خيراً منهم " كلام مستأنف قد ورد مورد جواب المتخبر عن العلة الموجبة للنهي عن السخرية في أول الآية الكريمة فقيل للمتسائل : إن هذا المسخور منه قد يكون أفضل وأكرم عند الله تعالى من الساخر ويجب على كل واحد أن يعتقد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيراً من الساخر ، والمستهزأ به أفضل من المستهزئ لأن الناس لا يطلعون إلا على ظواهر الأحوال ولا علم لهم بالخفيات والمستورات والذي يوزن عند الله تعالى ويكون الشأن في علو شأن الناس أو انحطاطهم إنما هو خلوص الضمائر لله ، وتقوى القلوب . وعلم الناس بالضمائر صفر في صفر والله وحده هو الذي يعلم ما في الضمائر والقلوب ومنازل الناس عنده على حسب ما في هذه القلوب التي نجهل عنها كل الجهل ما فيها وما تنطوي عليه ، فينبغي أن لا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذ رآه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو صغيراً في وظيفته أو فقيراً في مظهره أو متواضعاً في شهادته أو ضعيفاً في حاله ، فلعل هذا الذي تسخر منه أيها الإنسان وتستهزئ به ، لعله يكون أخلص منك ضميراً أو أنقى قلباً وأطهر ذيلاً وأصفى روحاً وأسمى خلقاً وأرفع منزلة عند الله منك ، فلا تظلم نفسك بتحقير من وقره الله تعالى ، والاستهانة بمن عظمه الله تعالى وأكرمه برضاه عنه.

ولقد بلغ الخوف ببعض السلف – رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم – من هذه الآية أن أفرطوا في التوقي والحذر من الوقوع في السخرية بالناس .

قال عمرو بن شرحبيل: لو رأيت رجلاً يرضع عنزاً فضحت منه خشيت أن أصنع مثل الذي صنعه.

وعن عبد الله بن مسعود قال : البلاء موكل بالقول ، ولو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلباً .

والسخرية بالخلق تدل على انحطاط في الخلُق ونقصٍ في العقل ، فلكل إنسان منزلته في المجتمع ، ولا يستغني المجتمع عن عمل أحدٍ من الناس مهما صغر هذا العمل أو حقر في نظر البعض .

ولكل إنسان عاطفته وكرامته واحترامه ، بل قد يكون عند العامل البسيط الذي قد يحتقر عمله المثقف أو الموظف أو الغني أو أي أحد من هؤلاء الساخرين الجاهلين والمتكبرين المتجبرين . قد يكون عند هذا العامل من الكرامة وعزة النفس وطيب الخلق وصفاء القلب وطهارة الروح ما ليس عند أولئك جميعاً ، فيتق الله الناس في عباد الله ولا يتطاولوا على أحد ، فإنهم لابد دون منازل الناس عند الله سبحانه، ولا يعلمون حقائق نفوسهم ، فكيف يجترئون عليهم بالباطل ويسخرون منهم ظلماً وعدواناً .

يروى أن الرجل يوماً خاطبت الرأس في البدن فقالت : أيها الرأس ، لا تشمخ بأنفك علي ولا تترفع بما وهبك الله من سمع وبصر ولسان ، ولاتغتر بعلوك على سائر أعضاء البدن ، وإياك أن تسخر مني وتهزأ بي وتقل إنك موطن الحذاء ومداس الأقذار ، فإنك أيها الرأس لولاي أنا الرجل ما سرت على الأرض .

والمجتمع كالجسم ، وهل نقطع الرجل من الجسد لأنها حقيرة ونبقي الرأس لأنه عظيم ، وإذا فعلنا ذلك واحتقرنا الرجل فهل نعدو أن نكون مجانين خارجين عن طور الإنسانية .

فكذلك الشأن في المجتمع ، فإذا احتقرنا الصغير لصغره ، والفقير لفقره ، والعامل لعمله ، والموظف الصغير لوظيفته ، فنحن لا نعدو أن نكون كذلك الذي احتقر رجله فقطعها وهي جزء من جسمه .

فالمجتمع الإسلامي وحدة متكاملة لا تتجزأ ، ولا يجوز لأحد أن يسخر من أحد ، حسب أمر الله عز وجل في هذه الآية الكريمة ، لا رجال من رجال ولا نساء من نساء ، فالسخرية بالناس حرام شرعاً ومنهي عنها بنص هذه الآية الكريمة وبما ورد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ، ولا تجسسوا ، ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخواناً ، كما أمركم ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره ، التقوى ها هنا – ويشير إلى صدره – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه .

وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع : " إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ، في بلدكم هذا ، ألا هل بلغت ؟ .

وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :

أتدرون أربى الربا عند الله ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال : " فإن أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً " .

وعن سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق " .

والسخرية : الاستهزاء والنظر إلى المسخور منه بعين النقص والازدراء به قولاً أو فعلاً بحضرته .

واللمز : الطعن والضرب باللسان والتنبيه على المعايب في حضرته ، ولا يدخل في مفهومه قصد الاحتقار كما يدخل في السخرية ، وهذا هو الفارق بينهما .

والتنابز بالألقاب : التداعي بها ، وبنو فلان بتنابزون أي يتداعون بالتلقيب المنهي عنه شرعاً ، وهو ما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيراً به وذماً له وشيناً .

أما ما يحبه من الألقاب مما يزينه وينوه به فلا بأس به . ففي هذه الآية الكريمة ينهى الله عز وجل عن اللمز والطعن وعن نداء الناس بعضهم لبعض بما يكرهونه من الألقاب فليس من الإنصاف ولا من الرجولة أن تلمز أخاك وتطعنه بغير حق ولا تناديه بما يكره من الألقاب الخبيثة ، وكل هذه الأمور التي ينهى عنها الإسلام مما تولد الفساد والعداوة والبغضاء بين الناس ، والله تبارك وتعالى لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الفرقة والشقاق ، والتفرقة والنفاق .

وانظروا إلى الإلتفاتة العظيمة في هذه الآية الكريمة حيث قال تعالى : " ولا تلمزوا أنفسكم " وقد يتساءل الإنسان وكيف يلمز الإنسان نفسه ؟ والجواب : إن الله تبارك وتعالى جعل المؤمنين كنفس واحدة واعتبرهم كجسد واحد ، فلا يليق أن يطعن بعضهم بعضاً ، لأن الطاعن في هذه الحالة يطعن نفسه ، ويطعن جسده بنفس المدية التي طعن فيها أخاه ، لذلك نهاهم بهذا الأسلوب الحكيم فقال : ولا تلمزوا أنفسكم ومعناه لا يعيِّر بعضكم بعضاً لأن المؤمنين كنفس واحدة ، عاب المؤمنُ المؤمنَ فكأنما عاب نفسه.

وذهب صاحب الكشاف رحمه الله تعالى إلى أن المعنى : وخصوا أنفسكم أيها المؤمنون بالنهي عن اللمز فيها وطعنها وعيبها ، ولا عليكم أن تلمزوا غيركم ممن ليس على دينكم أو ممن ليس على سيرتكم وهم المجاهرون بالفسق . وفي الحديث الشريف . " اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس " .

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه إليه . ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن . قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : أشيعوا الكنى فإنها منبهة .

وقلّ من تجد من المشاهير في الجاهلية والإسلام ولا تجد له لقباً حسناً أو كنية ، ولقد لقّب أبو بكر بالصديق ولُقِّب عمر بالفاروق ، ولقب حمزة بأسد الله ، وخالد بن الوليد بسيف الله ، ولم تزل هذه الألقاب الحسنة ، والكنى تجري في الأمم كلها في تخاطبهم وكتاباتهم من غير نكير أو استغراب ، بل هي من الآداب الرفيعة ، والأخلاق الاجتماعية النبيلة ، التي من شأنها أن تشيع الحب بين الناس وتنمي فيهم روح المودة والاحترام ، وتقرب بين قلوبهم وأرواحهم حتى يكونوا حقاً كنفس واحدة وجسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى .

وقد ذكرتُ أن النهي ورد عن التلقيب بما هو مكروه ، وأود أن أبيّن هنا أنه لا فرق بين أن يكون اللقب المكروه صفة له أو لأبيه أو لأمه أو غيرهما ممن له بهم صلة ، وقد روي عن الحسن رضي الله تعالى عنه قال : أدركنا السلف وهم يرون العبادة الكف عن أعراض الناس . وقد قال الله تعالى : " ويل لكل همزة لمزة " والهمزة : الطعان في الناس .

بعد هذ بين الله سبحانه وتعالى أن السخرية واللمز والتداعي بالألقاب موجبة للفسوق والخروج عن طاعة الله تعالى . أفلا يليق بالمؤمن الذي حل قلبه الإيمان واستنار بنور الإسلام لا يليق به أن يكب على وجهه وينقلب على عقبيه فتطلق عليه كلمة الفسق ، وأن يشيع ذكره بين الناس على وصف أنه فاسق بعد أن عرف بالإيمان : " بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان " ، والاسم هنا في قوله عز وجل : بئس الاسم ، معناه الذكر ، مأخوذ من قولهم : طار اسمه في الآفاق ، أي ذكره .

وخلاصة معنى هذه الآية : بئس الذكر أن يذكر المؤمن بالفسوق بعد أن اتصف بالإيمان ، أي أنه لا ينبغي اجتماع هذين الوصفين : الإيمان والفسوق ، كقولهم : بئس الشأن بعد الكبْرةِ الصبوة ، وهم يريدون استقباح الجمع بين الصبوة وكبر السن ، أي ما يكون في حال الكبر من الميل إلى الجهل .

وينبغي أن نذكر هنا أن اللقب القبيح قد يشيع ويصبح علماً على عائلة أو فرد من الناس فيذكر ذلك اللقب ولا يتأذى صاحبه منه . وقد تدعو إليه الضرورة فيذكر لا على قصد التحقير ، كما يقول المحدثون : سليمان الأعمش وواصل الأحدب ، وفي هذه الحالة لا ضرر فيه ولا ينهى عنه شرعاً .

التوبة من الذنوب

بعد هذا النهي وهذا البيان لما يجب أن يجتنبه الإنسان ، ذكر اللّه سبحانه التوبة عن هذه الأمور واعتبرها واجبة لازمة كالتوبة عن سائر المعاصي والذنوب ومن لم يتب فهو ظالم لنفسه موبق لها لأنه عرضها لسخط الله وعذابه ، قال تعالى : ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون .

والتوبة نعمة من الله عز وجل امتن بها علينا ويسّرها لنا وجعلها باباً مفتوحاً لمن يود الدخول فيه ، وليست التوبة كلمات مجردة في اللسان يطلقها الإنسان من غير أن يُطلِّق الذنب ويهجره ، فقولك : استغفر الله العظيم وأتوب إليه ، لا يسمّى توبة ولا هو الذي يطلبه الله عز وجل ويحبه منك ويحب أصحابه لأن التوبة تستدعي معرفة عظيم ضرر الذنوب والإدمان عليها ، كما تستدعي ألم القلب وحزن النفس فتذوب أسى وحزناً وأسفاً وأنه لا يغفر الذنوب إلا الله ولا مفرج إلا هو ، فهو غفّار الذنوب وستّار العيوب ، وحينئذ ينال رضا الله عز وجل : " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " .

قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم : قال العلماء : التوبة واجبة من كل ذنب ، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى ولا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط :

أحدها : أن يقلع عن المعصية .

الثاني : أن يندم على فعلها .

الثالث : أن يعزم على أن لا يعود إليها أبداً .

فإن فقد شرط من الثلاثة لم يصح توبته ، وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة :

هذه الثلاثة . وأما الرابع : أن يبرأ من حق صاحبها ، فإن كانت مالاً أو نحوه رد إليه ، وإن كان حد قذف مكنه منه أو طلب عفوه ، وإن كان غيبة استحله منها .

ويجب أن يتوب من جميع الذنوب ، فإن تاب من بعضها صحت توبته عند أهل الحق من ذلك الذنب وبقي عليه الباقي .

وقد تظاهرت دلائل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوب التوبة من كل ذنب ، فالمؤمن قد تجنح نفسه إلى الشر فتقترف إثماً أو تكتسب خطيئة ، فما عليه إلا المبادرة إلى التوبة ليغسل ما أصابه من درن المعصية وأوضار الخطيئة ، فإن التوبة تغسل الحوبة وتصقل القلب وتمسح عنه رين المعصية وآثارها السوداء التي تتركها على قلب المؤمن .

ففي الأثر أن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نقطة سوداء في قلبه ، فإن تاب واستغفر صقل منها قلبه ، وإن زاد زادت حتى يغلف قلبه بالسواد ، وذلك الران الذي قال الله فيه : " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " .

وفي حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا أيها الناس ، توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة " .

وحقيقة التوبة : علم ، وندم ، وقصد . فإذا فقد أحدها فقدت .

ومعرفة كون المعاصي مهلكات جزء من الإيمان ، وعدم المبادرة إلى التوبة مفوِّت لجزء من أجزاء الإيمان ، ولو كان الإيمان كاملاً لما أقدم مؤمن على معصية ، وهذا يفسر قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " .

ولابد في التوبة المقبولة أن تكون قريبة من الذنب ، قال تعالى : " إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ، فأولئك يتوب الله عليهم ، وكان الله عليماً حكيماً . وليست التوبة للذين يعملون السيئات ، حتى إذا حضر أحدهم الموت . قال : إني تبت الآن ، ولا الذين يموتون وهم كفار ، أولئك اعتدنا لهم عذاباً أليماً " .

فإذا استرسل المذنب في ذنبه حتى صار طبعاً له ، وران على قلبه فلا تنفعه الندامة وحدها ولا ينفعه مجرد الاستغفار ، فلو قال سبعين مرة استغفر الله ولم يقلع عن الذنب فلا يسمى تائباص ، وكان قوله كقول القائل غسلت ثوبي ولم يغسله ، فهل يزيل مثل هذا الكلام الأدران دون استعمال الماء .

فيا أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا ، وبادروا بالعمال الصالحة قبل أن تشغلوا وصلوا الذي بينكم وبين ربكم فلا تقطعوه بالعصيان ، واعلموا أن آجالكم ليست بأيديكم ولا ملكاً لكم ، فلا تعلم نفس ما تكسب غداً ولا تدري نفس بأي أرض تموت ففي قلب كل واحد منكم دقات تنذره بقرب الخطر :

دقـات قلـب المرء قائلـة لـه

إن الحيــاة دقائـق وثــواني

الآية الحادية عشرة : يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا اجتَنِبوا كَثِراً مِنَ الظّنِّ ...

) يا أيُّها الَّذينَ آمنُوا اجتَنِبوا كَثِراً مِنَ الظّنِّ . إنْ بَعْض الظنِّ إثْمٌ . وَلا تَجَسسُوا . وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضاً ، أيُحِبُّ أحَدُكُم أنْ يأكُلَ لَحْمَ أخيِهِ مَيْتاً فَكَرِهتُموهُ ، واتّقُوا اللّهَ ، إنَّ اللهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ ( .

هذه آية كريمة تقرر مبادئ هامة من أصول الأخلاق الاجتماعية ، وتنهى عباد الله المؤمنين عن أخلاق لازمة ولاصقة بكثير من المجتمعات ، وقد ابتلى بها كثير من الناس ، فظنوا بالآخرين سوءاً فوقعوا بالآثام ، وساروا في الظلام ، إذ أنهم لم يهتدوا بنور الإسلام ، ولو اهتدوا بهدي الله عز وجل لما ظنوا سوءاً ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا اغتابوا ، إذ للمؤمن عند الله حرمة ، وأي حرمة ، فصان كرامته وشرفه وحفظ له دمه وعرضه وماله بعد أن خلقه فأحسن الخلق وأكرمه بسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم

واسمعوا ما ورد في حرمة المسلم على لسان النبي الأمين صلوات الله وسلامه عليه :

روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول : " ما أطيبك وأطيب ريحك ، ما أعظمك وأعظم حرمتك ، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله تعالى حرمة منك . ماله ودمه . وأن يظن به إلا خيراً " .

هذا مقام المؤمن عند الله سبحانه ، ومنزلته الرفيعة عند الخالق الأعظم . فليس لأحد من الخلق أن يحطّ من قدر هذا المؤمن ، فيظن به شراً وسوءاً ، أو يتجسس عليه ويغتابه .

والله سبحانه وتعالى في هذه الآية ينهى عباده المؤمنين عن كثير من الظن الذي هو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله . لأن بعض ذلك الظن يكون إثماً محضاً ، فليجتنب كثير منه احتياطاً . إذ من الظن ما يباح اتباعه ، كالظن في أمور المعاش وما أشبه ذلك . ومنه ما يجب اتباعه كالظن في الأحكام الشرعية الثابتة بأدلة غير قطعية ، ومنه ما يحرم اتباعه والتفوّه به ، كالظن في الإلهيات والنبوات ، ومن الظن المحرم ظن السوء بالمؤمنين ، فقد حرم الله تعالى من المسلم دمه ، وعرضه ، وماله، وأن يظن به السوء . والمحرّم منه عقد القلب ، والإصرار على الحكم على غيره بالسوء ، أما حديث النفس والخواطر والشك الزائل فكل ذلك معفو عنه ، فليس لك أن تعتقد سوءاً إلا إذا انكشف سببه لك بالعيان أو ثبت لك ببرهان ، أما ما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك فإياك أن تصدقه ، وتحكم عليه فإن الشيطان يلقيه في القلب .

ولا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال من مشاهدة أو بيّنة عادلة .

وأمارة سوء الظن وعقد القلب هي تغير القلب عما كان عليه ، فإذا أحسست بذلك فتثبّت واستعن بالله ولا تجعل للشيطان إليك سبيلاً ، فإن ظناً سيئاً واحداً برجل بريء قد يودي بك إلى النار ، ويجرّك إلى الدمار وبئس القرار .

فللمؤمن حرمة ، فإياك أن تهتكها ، فمن عرف بالصلاح وأونست فيه الأمانة والإخلاص وشوهد منه التستر والعمل الخالص ، فلا يجوز قطعاً أن تظن به سوءاً لمجرد شبهة لا يقوم معها دليل وليس معها تعليل .

أما المجاهر بالمعاصي فلا يحرم سوء الظن به ، وإن لم يره الظانّ على معصيته ، لأنه مكن من صفحته ، وأزال حرمة عرضه .

ومن الظن ما هو قهري غير مستطاع أن ندفعه ، فلا يتعلق به النهي لعدم القدرة على دفعه ، بل يتعلق بعدم العمل بموجبه ، وقد يظن شخص أن أحداً يريد به سوءاً ، فهذا الظانّ لا يضره أن يحترس ويأخذ حذره ممن ظن به سوءاً . ولكن يضره ويحرم عليه أن يوقع أذى بالمظنون منه السوء ، فمجرد الظن لا يكفي للحكم على الأشخاص ولا على الجماعات ولا من أحد من الناس كائناً من كان .

ورد عن سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه قال : كتب إليّ بعض إخواني " أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك ، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً ، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه ، ومن كتم سره كانت الخيرة في يده ، وعليك بإخوان الصدق فكن في اكتسابهم ، فإنهم زينة في الرخاء ، وعدة عند عظيم البلاء واعتزل عدوك ، واحذر صديقك إلا الأمين ولا أمين إلا من خشي الله تعالى ، وشاور في أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب " .

وورد عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال : ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً وأنت تجد لها في الخير محملاً .

وظن السوء مدعاة إلى التحقير والسخرية واللمز ، ومدعاة إلى امتلاء القلوب غيضاً وحقداً وحنقاً ، وقد يؤدي إيى إيقاع الضرر بالمظنون به وهو بريء لا علم له بظن صاحبه ، وظن السوء خدش للعرض وهتك للحرمة ، ونيل من الكرامة لذا نهى الله تعالى عنه بهذه الآية الكريمة ، وقد جعله الرسول صلى الله عليه وسلم أكذب الحديث ، فقال : " إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث " . وظن السوء داء استحكم في كثير من المسلمين . ومن العسير فطامهم عنه ، اللهم إلا إذا تغلّب عليهم خوف الله عز وجل وفهموا كتابه العزيز وتربوا على مائدة القرآن ، فمن السهل عندئذ تركهم لهذه المعصية .

روى الطبراني عن حارثة بن النعمان رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لازمات لأمتي : الطيرة ، والحسد ، وسوء الظن . فقال رجل : وما يذهبن يا رسول الله ممن هن فيه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : إذا حسدت فاستغفر الله ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وإذا تطيرت فأمض .

وكما نهى الله عز وجل في هذه الآية الكريمة عن سوء الظن ، فقد نهى عن التجسس وتتبع عورات المسلمين . ومن حق المسلم على المسلم ، ستر عوراته ، ومن ستر على مسلم ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة .

وورد عن سفيان الثوري عن راشد بن سعد عن معاوية رضي الله تعالى عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إنك إن اتبعت عورات النساس أفسدتهم ، أو كدت أن تفسدهم " .

فقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه : كلمة سمعها معاوية من رسول الله صلى الله عليه وسلم نفعه الله تعالى بها . وقال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه : لو رأيت أحداً على حد من حدود الله تعالى لما أخذته ، ولا دعوت إليه أحداً حتى يكون معي غيري .

وفي الحديث الشريف عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر ونادى بصوت رفيع حتى اسمع العواتق في خدورهن : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض (يصل ) الإيمان إلى قلبه لا تؤذوا المسلمين ، وروي لا تغتابوا المسلمين – ولا تتبعوا عوراتهم ، فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يوشك أن يفضحه ولو في جوف رحله" .

وورد عن الأعمش عن زيد رضي الله تعالى عنه قال : أتى ابن مسعود رضي الله تعالى عنه برجل، فقيل له : هذا فلان ، تقطر لحيته خمراً ، فقال عبد الله رضي الله تعالى عنه : " إنا قد نُهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيءٌ نأخذ به " .

وقال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه : ورد عن دجين كاتب عقبة قال : قلت لعقبة : إن لنا جيراناً يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم . قال : لا تفعل ، ولكن عظهم وتهددهم .

قال : ففعل فلم ينتهوا . قال : فجاءه دجين ، فقال : إني نهيتهم فلم ينتهوا ، وإني داع لهم الشرط فتأخذهم ، فقال له عقبة : ويحك لا تفعل ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من ستر الله عورة مؤمن فكأنما استحيا مؤودة من قبرها " .

وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم " .

وقوله تعالى : ولا تجسسوا أي على بعضكم بعضاً . والتجسس غالباً يطلق في الشر ، ومنه الجاسوس وهو الشرير . وأما النحسس فيكون غالباً في الخير كما قال عز وجل اخباراً عن يعقوب عليه الصلاة والسلام أنه قال : " يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من رَوْح الله إنه لا ييأس من رَوْح الله إلا القوم الكافرون " .

وقد يستعمل كل منهما في الشر كما ثبت في الصحيح أن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً . . " .

وقال الأوزاعي رحمه الله تعالى : التجسس البحث عن الشيء ، والتحسس الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون أو يتسمع على أبواب الناس ليستخبر عن أنبائهم . فلهم الحق في أن يفقأوا عينه المسمومة التي تنظر إلى الناس بالباطل وتتحسس عليهم وهم في بيوتهم آمنون ، وعلى أسرارهم مؤتمنون ، والمرء في بيته مصون وحريته فيه مصونة بحكم الإسلام ، وليس لأحد أن يدخل عليه إلا بإذنه ، كما أنه ليس لأحد أن يتحسس عليه ويتسمع إلى أحاديثه وينظر غليه من شقوق بابه أو يتسلط عليه من سطحه أو جداره المكشوف وقديماً قال الشاعر :

أعمـى إذا ما جارتـي تظهـر

حتـى يـواري جـارتي الستـر

وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه " .

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من تحلم بحلم لم يره كُلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صبّ في أذنيه الآنك ومن صور صورة عذب أو كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ " .

وقد دفعت كراهة المنكرات والحرص على مصالح الأمة والسهر على رعايتها وأمانتها وحماية أخلاقها ، وصيانة آدابها الإسلامية ، كل ذلك دفع أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين ، من تربى على مائدة القرآن وعاش مع القرآن وللقرآن ، إلى التحسس ومراقبة الناس . فقد نقل الشييخ محمد مصطفى المراغي في تفسيره لسورة الحجرات : أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان يعس بالمدينة ويحرس الناس ويكشف أهل الريبة منهم ، فسمع صوت رجل في بيته يغني ، فتسور عليه ، ووجد عنده امرأة وخمراً فقال عمر : يا عدو الله ! أطننت أن الله يسترك وأنت على معصيته ، فقال الرجل : وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل عليّ ، إن كنت عصيت الله في واحدة ، فقد عصيته أنت في ثلاث : قال الله تعالى: " لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهليها " ، وقد دخلت بغير إذني فقال أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه : فهل عندك من خير إن عفوت عنك ! قال الرجل : نعم . والله يا أمير المؤمنين لئن عفوت لا أعود إلى مثلها أبداً ، فعفا عنه عمر وتركه .

وقد تضمنت هذه الآية الكريمة لطائف من المعاني وكرائم السجايا الحميدة ، وذكرت أموراً ثلاثة مرتبة بعضها على بعض ، فقد نهت عن الظن بالمسلم ، والقول فيه بغير علم ، ونهت عن البحث عن ذلك لتحقيقه ، ونهت عن البحث عن ذلك بين الناس إذا تحقق ما ظنه من سوء . ثم ختمت الآية بترغيب المؤمنين في رحمة الله تعالى بالتوبة ، وفتح الله سبحانه الباب بقوله على سبيل المبالغة : " إن الله تواب رحيم " .

فليسارع المؤمنون إلى باب هذا التواب الرحيم والرب الكريم والإله العظيم جل جلاله وتباركت أسماؤه وعز كماله .

تحريم الغيبة

وتضمنت الآية الكريمة نهي الله عز وجل عن الغيبة ، وهي : أن يذكر الإنسان أخاه المسلم في غيبته بما يكره ، سواء كان الذكر صراحة أو كتابة أو إشارة أو رمزاً . وسواء كان ما اغتابه به متعلقاً بدينه أو بدنياه ، بخلقه أو خلقه ، وسواء أكان متصلاً به أو بمن له به رابطة أو صلة ، من ولد أو زوجة أو أب وأم .

ونحرم غيبة المسلم وخاصة المعروف بالصلاح ، وكذلك مستور الحال وبصورة مطلقة اللهم إلا المجاهرين بالفسق والداخلين في مواطن الريب ، فإنه لا تحرم غيبتهم .

وقد نقل الإمام القرطبي رحمه الله تعالى إجماع المسلمين على أن الغيبة من الكبائر ، وبعد أن صورها الله سبحانه أبشع تصوير في آخر الآية ، فلا يصح أن تعد في الصغائر .

ومن الغيبة ما هو هين بسيط ، كعيب الشخص في لباسه أو سيارته ، وما أشبه ذلك مما لا يتصل بالدين والخلق ، فإذا قيل أن أمثال هذه الغيبة من الصغائر كان مقبولاً ، أما ما يتعلق بالدين والخلق والعرض فلا .

ويجوز لمن ظلم أن يشكر ظالمه ، ويذكر ما فعله معه مما يعد عيباً ، كما يجوز لمن يريد تغيير منكر أن يذكر ذلك المنكر للقادر على تغييره ، كما يجوز ذكر ما في الولاة والقضاة من شر للقادر على عزلهم وتغييرهم ولا يعد هذا من الغيبة .

قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره :

والغيبة محرّمة بالإجماع ، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته ، كما في الجرح والتعديل والنصيحة ، كقوله صلى الله عليه وسلم لما استأذن عليه الرجل الفاجر : " ائذنوا له وبئس أخو العشيرة " .

وكقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله تعالى عنها وقد خطبها معاوية وأبو الجهم : " أما معاوية فصعلوك ، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه " ، وكذا ما جرى مجرى ذلك ، ثم بقيتها على التحريم الشديد ، وقد ورد فيها الزجر الأكيد ، ولهذا شببها الله تبارك وتعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت فقال : " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه " أي كما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوا ذاك شرعاً . فإن عقوبته أشد من هذا ، ومثل هذا يأتي للتنفير والتحذير ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في العائد في هبته أو الراجع عنها مثله بقوله : كالكلب يقيء ثم يرجع في قيئه .

وقد فسّر الشارع الحكيم الغيبة تفسيراً واضحاً ، فقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قيل يا رسول الله ما الغيبة ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " ذكرك أخاك بما يكره " ، قيل : يا رسول الله أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته " . والبهتان كذب وزور ، والغيبة إثم وفجور وكلاهما شر وثبور .

سبب النزول

وروي عن أبن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة ويسوّي لهما طعامهما ، فنام عن شأنه يوماً . فبعثاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغي لهما إداماً ، وكان أسامة على طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندي شيء ، فأخبرهما سلمان بذلك . فعند ذلك قالا : لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها ، فلما راحا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما : ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما . فقالا : ما تناولنا لحماً فقال : إنكما قد اغتبتما ، فنزلت هذه الآية الكريمة : " ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ، واتقوا الله ، إن الله تواب رحيم " .

ولقد تضافرت أدلة الشريعة على تحريمها وشناعة فعلها وقذارة مرتكبيها .

وللغيبة أسباب أهمها : الغيظ ، وهياج الغضب ، فيذكر عيوب غيره للناس شفاء لنفسه من غضبها ، أو مجاملة الرفقاء والأصدقاء ، أو إرادة أن يرفع الإنسان بالغض من غيره ، أو الحسد وهو أهم الأسباب . ومنها أيضاً اللعب والهزل والمفاكهة وإضاعة الوقت . وقد ورد عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم ، قلت : من هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء الذي يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم .

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : قلنا يا رسول الله حدثنا ما رأيت ليلة أسري بك. قال : … ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير رجال ونساء ، موكل بهم رجال يعمدون إلى عرض جنْبِ أحدهم فيجزّون منه الجزّة مثل النعل ، ثم يضعونها في في أحدهم . فيقال له : كلْ كما أكلتَ ، وهو يجد من أكله الموت يا محمد ، وهو يُكره عليه ، فقلت يا جبريل من هؤلاء قال : هؤلاء الهمازون ، اللمازون ، أصحاب النميمة فيقال : " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه " وهو يكره على أكل لحمه .

وإلى الرجال أسوق هذا الحديث الشريف الذي يرويه أبو داود رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من أكل برجل أكلةً فإن الله يطعمه مثلها في جهنم ، ومن كسا ثوباً برجل مسلم فإن الله يكسوه مثله في جهنم ، ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله تعالى يقوم به مقام سمعة ورياء يوم القيامة " .

وإلى النساء في بلادنا جميعاً أسوق حديث المرأتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه عن سعد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أمروا بصيام ، فجاء رجل في نصف النهار فقال : يا رسول الله ، فلانة وفلانة قد بلغتا الجهد ، فأعرض عنه مرتين أو ثلاثاً ، ثم قال : ادعهما ، فجاء بقدح فقال لإحداهما : قيئي ، فقاءت لحماً ودماً عبيطاً وقيحاً . وقال للأخرى مثل ذلك ثم قال : إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما ، وأفطرتا على على ما حرم الله عليهما ، أتت إحداهما للأخرى فلم تزالا تأكلان لحوم الناس حتى امتلأت أجوافهما قيحاً . نعوذ بالله تعالى ونستجير به من شر الغيبة .

وروي عن أبي يعلى رضي الله تعالى عنه عن عم لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن ماعزاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني قد زنيت ، فأعرض عنه حتى قالها أربعاً ، فلما كان في الخامسة قال صلى الله عليه وسلم : زنيت ؟ قال : نعم ، قال : وتدري ما الزنا ؟ قال : نعم ، قال : أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً ؟ قال : نعم ، قال : ما تريد إلى هذا القول ؟ قال : أريد أن تطهرني ، قال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أدخلت ذلك منك في ذلك منها ، كما يغيب الميل في المكحلة ، والعصا في البئر ؟ قال ، نعم يا رسول الله . قال ، فأمر برجمه فرجم ، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه ، ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه . فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلاب . ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مر بجيفة حمار فقال ، أين فلان وفلان ؟ انزلا . فكلا من جيفة هذا الحمار . قالا : غفر الله لك يا رسول الله ، وهل يؤكل هذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم : فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد أكلا منه ، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها .

وهكذا تصنع التوبة الصادقة تنقل الرجل من الرجس والدنس إلى أنهار الجنة يتطهر فيها ويتطيب رضي الله تعالى عنه وأرضاه ، فقد جاد بنفسه في سبيل الله وخوفاً من عقاب الله ، ووعيده في الآخرة .

وقد عرّف الزمخشري الغيبة فقال : غابه واغتابه ، كغاله واغتاله . والغيبة من الاغتياب كالغيلة من الاغتيال وهي ذكر السوء في الغيبة .

وقوله تعالى : " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه " تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض أخيه .

وعن قتادة : كما تكره إن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها كذلك فأكره لحم أخيك . وعرف الإمام الطبري صاحب مجمع البيان في تفير القرآن ، الغيبة بقوله : الغيبة ذكر العيب بظهر الغيب على وجه تمنع الحكمة فيه . ثم ذكر حديث رسول الله r في تعريفها .

وذكر الطبري رؤيا ميمون بن شاه ، قال ميمون : بينا أنا نائم ، إذا بجيفة زنجي وقائل يقول : كل يا عبد الله ، قلت ولمَ آكل ، قال : بما اغتيب عند فلان ، قلت والله ما ذكرت فيه خيراً ولا شراً ، قال : لكنك استمعت فرضيت . وكان ميمون بعد ذلك لا يدع أن يغتاب عنده أحد .

وقال رجل لابن سيرين : إني قد اغتبتك فاجعلن في حل ، قال : إني أكره أن أحل ما حرّم الله ، ثم قال :

وليـس الذئب يأكـل لحم ذئـب

ويأكـل بعضنا بعضاً عيانـا

وقال :

فإن يأكلـوا لحمي وفــرت لحومهم

وإن يهدمـوا مجـدي بنيت لهم مجداً .

وروى الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من حمى مؤمناً من منافق يغتابه ، بعث الله إليه ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم . ومن رمى مؤمناً بشيء يريد سبه ، حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال .

وعن جابـر بن عبـد الله وأبي طلحـة بن سهل الأنصاري رضي الله تعالى عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من امرئ يخذل امرأ ً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته ، وينتقص فيه من عرضه إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته ، وما من امرئ ينصر امرأ ً مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله عز وجل في مواطن يحب فيها نصرته .

هذا بعض ما ورد في الغيبة وحكمها في شرعة الإسلام ، وهو من البشاعة ما يجعل المسلم حذراً متوقياً من ارتكاب أي شيء منها ، خائفاً ربه منيباً إليه ، طاهراً لسانه من الوقوع في أعراض الناس . والتعرض لهم بالشر ، فالمسلم الحق هو الذي ابتعد عن محارم الله فسلم الناس من يده ولسانه وشعر بمراقبة الله عز وجل . " ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " ، " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً " .

وسأختم تفسير هذه الآية بشرح مفرداتها :

1 – اجتنبه : من قوله تعالى " اجتنبوا " كان على جانب منه ثم شاع في التباعد اللازم له .

2 – الظن : اسم لما يحصل عن أمارة قوية أو ضعيفة ، فإن قويت جداً أدت إلى العلم وإن ضعفت جداً لم تتجاوز حد الوهم .

3 – والإثم الفعل المبطئ عن الثواب وجمعه آثام ، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإثم فقـال : " الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس " . وقوله تعالى : " أخذته العزة بالإثم " معناه حملته على فعل ما يؤثم ، والآثم الذي يحتمل الإثم .

4 – والجس من قوله تعالى : " ولا تجسسوا " هو مس العرق وتعرف نبضه للحكم على الصحة والسقم ، وهو أخص من الحس ، فإن الحس تعرف ما يدركه الحس . ويرى بعض العلماء أنهما متقاربان ، وأن مشاعر الإنسان يقال لها : الجواس .

هذه خلاصة تفسير قول الحق تبارك وتعالى : " يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ، ولا تجسسوا ، ولا يغتب بعضكم بعضاً ، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه ، واتقوا الله ، إن الله تواب رحيم " .

الآية الثالثة عشرة : يا أيُّها النّـاسُ إنّـا خَلقْناكُمْ مِنْ ذَكَر وأُنْثى ...

) يا أيُّها النّـاسُ إنّـا خَلقْناكُمْ مِنْ ذَكَر وأُنْثى وَجَعلْناكُم شُعُوباً وقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إنَّ أكْرَمَكُم عِنْدَ اللهِ أتْقاكُمْ ، إنّ اللهَ عَليمٌ خَبيرٌ ( .

هذه آية عظيمة تقرر أصلاً من أصول الإسلام عظيماً ، وهو المساواة بين الناس ، ولقد قررت هذه الآية مبدأ ضخماً من المبادئ الإنسانية السامية فهي من معجزات هذا القرآن العظيم الذي أنزله الله ضياءً للناس ونوراً يهتدون به وبرهاناً ساطعاً ينير السبل أمامهم .

قبل أربعة عشر قرناً من الزمن والعالم يموج في الظلم ويضطرب في الفساد ، وتسوده الهمجية والعصبية الجاهلية وتخيم عليه ضلالات العصور القديمة ، وقد نشر الرعب أجنحته على الدنيا وزاد الفساد وتفاخر الناس بالنساب وعاشوا تحت ظل نظام الطبقات .

في هذه الظلمة الداكنة ينبثق فجر الإسلام فتبدد أنواره تلك الغيوم السوداء وتنزل هذه الآية الكريمة لتقرر مبدأ إنسانياً عظيماً وهو إعلان المساواة بين البشر – كل البشر – فلا فضل لعربي على عجمي ، ولا لبيض على أسود ، ولا لغني على فقير ، ولا لكبير على صغير ، إلا بالتقوى والتقرب من الخالق عز وجل . فالناس كلهم متساوون ، أصلهم واحد وأباهم واحد .

وقد روي أن رجلاً قال لنبي الله عيسى عليه السلام : أي الناس أفضل ؟ فأخذ قبضتين من تراب وقال : " أي هاتين أفضل ؟ الناس خلقوا من تراب ، فأكرمهم أتقاهم " . وقد جعلهم الله عز وجل شعوباً وقبائل ليتعارفوا ويصلوا الأرحام لا ليتفاخروا بالأنساب ، فالإنسان مخلوق بأمر الله سبحانه لا باختياره ولا باختيار أبويه ، إن شاء خلقه عربياً أو كردياً أو تركياً ، فكيف يسوغ له أن يفخر بأمر ليس له فيه كسب ولا اختيار ؟

والله تبارك وتعالى يقول : " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " ، فهل نسبه وحسبه من سعيه ونتيجة جهوده ؟ حتى يكون له الحق في الفخر بهما . فالله تعالى الخبير بأحوال الناس العليم بأعمالهم سيجازيهم على ما كسبت أيديهم ، فالفائز أحسنهم عملاً لا أشرفهم نسباً .

سبب النزول

قال الزمخشري صاحب الكشاف رحمه الله تعالى في سبب نزول هذه الآية الكريمة : ورد عن يزيد بن شجرة قال : مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة فرأى غلاماً أسود يقول : من اشتراني فعلى شرط أن لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتراه رجل ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عند

كل صلاة ، ففقده يوماً فسأل عنه صاحبه ، فقال : محموم ، فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سأل عنه بعد ثلاثة أيام فقال : هو لما به ، فجاءه وهو في دمائه ، فتولى رسول الله صلى الله عليه وسلم غسله ودفنه ، فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم ، فنزلت هذه الآية : " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير " وقال بعضهم : نزلت هذه الآية في أبي هند ، ذكر ذلك أبو داود في المراسيل عن الزهري رضي الله تعالى عنه قال :

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم ، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : نزوج بناتنا موالينا ؟ فأنزل الله عز وجل هذه الآية الكريمة .

وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما :

لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً حتى علا على ظهر الكعبة فأذّن ، فقال الحارث بن هشام : ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً ؟

وقال عتاب بن أسيد : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم .

وقال سهيل بن عمرو : إن يرد الله شيئاً بغيره .

وقال أبو سفيان : أنا لا أقول شيئاً ، أخاف أن يخبره به رب السموات . فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية زجراً لهم عن تكبرهم وازدرائهم بالفقراء ، فإن المدار على التقوى لا على الأنساب والأحساب .

وقد وردت هذه الآية الكريمة بعد النهي عن التجسس والغيبة وغيرها من الأخلاق الذميمة ، فجاءت هذه الآية منبهة على تساوي البشر ، فلا يجوز لأحد أن يفخر على أحد ولا ينتقص أحداً أو يطعنه أو يعيبه وقد ورد عند البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أكرم ؟ قال : " أكرمهم عند الله أتقاهم " ، قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : " فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله " . قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : " فعن معادن العرب تسألون ؟ " قالوا : نعم ، قال : خياركم في الجاهلية ، خياركم في الإسلام إذا فقهوا ؟

وذكر أبو بكر البزار في مسنده عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب ، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان ".

وروى الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أنسابكم هذه ليست بمنسبة على أحد ، كلكم بنو آدم ، طف الصاع لم تمنعوه ليس لأحد على أحد فضل إلا بدين أو تقوى وكفى بالرجل أن يكون بذيئاً بخيلاً فاحشاً .

وقد رواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن أبي لهيعة ولفظه : " الناس لآدم وحواء ، طف الصاع لم يملوه ، إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم " .

ونقل الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه عن عميرة زوج درة بنت أبي لهب عن درة بنت أبي لهب قال : قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال : يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال صلى الله عليه وسلم خير الناس أقرأهم وأتقاهم للّه عز وجل وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم .

وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت : ما أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء من الدنيا ولا أعجبه إلا ذو تقى .

وقد استفاضت الأخبار وامتلأت كتب الشريعة الإسلامية بأن الكرامة لا ترتبط بالنسب ولا بعظيم الرتب ولا بأم وأب ، ولكنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمل ، وعمل الإنسان هو الذي يوزن به ، والناس أبرار وفجار . والفاجر فاجر ولو كان ابن أكابر ، والبر ، بر ، ولو كان ابن الأحقر . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الناس رجلان : بر تقي كريم على الله ، وفاجر شقي هيّن على الله ، الناس كلهم بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم " .

وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع تلك الخطبة العظيمة التي كانت دستوراً للمؤمنين ونوراً للصالحين ، وضياء للعارفين ، ومما قال فيها صلوات الله وسلامه عليه : ألا إن ربكم واحد ، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، ألا هل بلغت ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : فليبلغ الشاهد الغائب .

هذا هو الإسلام في عدله ومساواته للناس ، فماذا بعد الحق إلا الضلال ، وماذا بعد الإسلام من المبادئ والأفكار إلا الخبال .

ولقد جاء الإسلام ديناً عاماً خالداً ، لذا اعتبر المؤمنين جميعاً جسداً واحداً ، واعتبر المسلمين أمة واحدة : " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " .

وبهذه الروح فتحوا مشارق الأرض ومغاربها ودانت لهم الدنيا بالطاعة وما كان يمكن أن تسير قبائل العرب وشعوب العجم تحت راية الإسلام تقاتل مخالفيه وتنشر تعاليمه النيرة وتثبت قواعد التوحيد وتنشر العدل والمساواة بين الناس ، ما كان يمكن أن تفعل هذه الأعاجيب في ذلك الظرف القصير ، لو استمرت على عصبيتها الجاهلية ، تفخر القبائل على القبائل ، والشعوب على الشعوب ، وما عرف أن أمة توحدت وارتبطت حتى كانت كجسم واحد رغم تفاوت أجناسها ولغاتها . ولها هدف معين وغاية محددة يعمل الجميع فيها على تحقيق هذا الهدف وتلك الغاية ، وقد اعتبرت الوحدة الإسلامية ، على رباط الإيمان، وهدفها إرضاء الله عز وجل خالق الجميع ورب كل الناس رب العالمين .

وقـد قضى هذا المبدأ الإنساني على النزعات القومية والاختلافات العنصرية التي كانت – وما زالت – تسود المجتمعات والتي تسبب العداوات فتقتل الأنفس وتزهق الأرواح وتنهب الأموال .

وبهذه القاعدة مهد الإسلام للعامل المجد أن يفتح أمامه طريق المجد ، وأن ينال في الدنيا ما يصل إليه جهده ، وفي الآخرة ما مهد له تقواه وصلاحه .

والتقوى تنال بطاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبالأعمال الصالحة ، وليست هذه الأعمال صلاة وصوماً وزكاة وحجاً فحسب بل لابد إلى جانبها أمور وأمور لا يتم إيمان المرء إلا بها ، ومنها بل أهمها صيانة الإسلام وحمايته من كيد أعدائه والجهاد في سبيله ، وفي سبيل الحق والدفاع عن ديار الإسلام من أن تمتد إليها يد الطامعين من الكافرين : " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله " .

فمن الممكن أن يكون أي شخص من الناس هو الأكرم عند الله . لأن الكرامة عند الله عز وجل بالتقوى ، ومن الواجب أن يكون هذا المعيار قائماً عند الناس ، فالمتقون هم الأكرمون .

وهذا هو السمو بالنفس الإنسانية إلى أعلى الدرجات وأسمى الغايات وأنبل الصفات ، وبعد ثلاثة عشر قرناً من الزمن عرفت الأمم هذا المبدأ وفخرت به وظنت أنها وقعت على شيء جديد لم يعرف من قبل ، وتجاهلت أن الإسلام العظيم قد جاء بهذه المثل العليا قبل زمن طويل في وقت كان البشر غارقين في العبودية بل وتقديس الطغيان ، فجاء الإسلام العظيم بهدم مزايا الأجناس والظلم وإلغاء الفروق الجنسية والتمييز العنصري والتعويل على التقوى والعمل الصالح وحدهما .

وإليكم مثلاً رائعاً من أمثال هذا الدين العظيم الذي ساوى بين الناس ولم يفرق بين أحد منهم : أبو لهـب عـم رسل الله صلى الله عليه وسلم وهو من كبار رجال مكة حسباً وشرفاً ومالاً وأنصاراً ، وحسبُه أنه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه لم يؤمن برسالـة الإسلام ، بل وقف حائلاً دون انتشارها ومنفراً عنها هو وزوجته أم جميل ، ولما أنزل الله على رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم قوله : " وأنذر عشيرتك الآخرين " جمع صلى الله عليه وسلم أقرباءه وآل بيته فدعاهم إلى الله تعالى وإلى دينه الجديد فقال له عمه أبو لهب : تبّاً لك ألهذا جمعتنا ؟

فأنزل الله تعالى فيه : " تبت يدا أبي لهب وتب ، ما أغنى عنه ماله وما كسب ، سيصلى ناراً ذات لهب ، وامرأته حمالة الحطب ، في جيدها حبل من مسد " فلم تنفعه قرابته ولم يشفع له نسبه بعد أن ترك رسالة الإسلام .

وهذا بلال الحبشي المولى الفقير والعبد الضعيف ليس له قبيل ولا عشير ، ولا ناصر ولا مجير ، ولم يكن عربياً ولا قرشياً ولا مكياً ، بل كان عبداً حبشياً ، آمن برسالة الإسلام ، واتبع محمداً خير الأنام حتى أصبح يدعو إلى الله خمس مرات في اليوم مؤذناً بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي يوم أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أين بلال ؟ أين بلال ؟ فلما حضر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بلال ، بم دخلت إلى الجنة : فقال رضي الله تعالى عنه : كنت يا رسول الله ما توضأت وضوءاً إلا صليت ركعتين ولا أذنت أذاناً إلا صليت ركعتين ، قال صلى الله عليه وسلم : بهما .

هذه الدرجة التي نالها بلال وصلها بإيمانه وتقواه ، وتلك الدرجة التي وصل إليها أبو لهب بكفره وعناده .

وسلمان الفارسي رضي الله عنه يبلغ تلك المنزلة الرفيعة حتى يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلمان منا أهل البيت ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم مخبراً عن قادة الأمم وطلائعها إلى الجنة : أنا سابق العرب ، وصهيب سابق الروم ، وسلمان سابق الفرس وبلال سابق الحبشة ، هذه الدرجات السامية التي رفع الإسلام أصحابها إليها وبوأهم عرش ذلك المجد المؤثل . فأين قادة المسلمين مما عليه اليوم من اعتزاز بعروقهم وفخرهم بقبائلهم وأمصارهم مما أدى إلى تقطيع الروابط بين المسلمين فأصبحوا أذلة بعد العزة ، وضعفاء بعد القوة ، وفقراء بعد الغنى . بل أصبحوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غثاء كغثاء السيل ، ليس لهم وزن يتخطف بلادهم أعداؤهم وهم غافلون لاهون ، يتحكم بمصائرهم الغرباء وهم سادرون غائبون كما قال الشاعر العربي :

ويقضـى الأمـر حين تغيـب تيــم

ولا يستأمرون وهــم شهـــود

ويعجبني قول شاعر الإسلام محمد إقبال رحمه الله تعالى إذ ينادي العرب والمسلمين :

كل شعــب قـام يبغـي نهضـــة

وأرى بنيانكـــــم متهدمـــاً

فـي قديـم الدهـر كنتـم أمــــة

لهـف نفسـي كيـف صرتـم أممـا

الشعب : من قوله تعالى : " وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا " هو الطبقة الأولى من الطبقات التي عليها العرب في اصطلاحاتهم وهي : الشعب والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة ، فالشعب يجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر والعمارة تجمع البطون ، والبطن يجمع الأفخاذ ، والفخذ تجمع الفصائل ، فخزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصي بطن ، وهاشم فخذ ، والعباس رضي الله تعالى عنه فصيلة ، وسميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها .

وروي عن الإمام جعفر السابق رضي الله تعالى عنه قال : الشعوب من العجم والقبائل من العرب والأسباط من بني إسرائيل .

والذكر والأنثى من قوله تعالى : " إنا خلقناكم من ذكر وأنثى " أي من آدم وحواء وقيل معناه : خلقنا كل واحد منكم من أب وأم ، فما منكم أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر سواء بسواء فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب .

الخلق : هو الإيجاد والتكوين .

وقد ورد في الخبر عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم أنه طاف يوم فتح مكة ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : الحمد لله الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها يا ايها الناس ، إنما الناس رجلان : مؤمن تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله ، ثم قرأ الآية الكريمة : يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ، إن أكرمكم عند الله أتقاكم .

ولقد قام في هذه الآية الكريمة أصل خطير غير ما قررته من المساواة بين الناس وعدم التفاضل فيما بينهم إلا بالتقوى وما قررته من اعتبار المسلمين وحدة متماسكة كجسد واحد فقد قام فيها أصل مهم وخطير وهو وجوب رد الظالمين عن ظلمهم ، والوقوف في صف المظلومين ، وهذه درجة سامية كرّم الله بها المسلمين ، ومن الواجب أن يفقهوها ويتدبروها ويعملوا لها ويحافظوا عليها كما يحافظون على أعز ما يملكون حفاظاً على شرفهم ومجدهم وعزتهم وكرامتهم ، جعلنا الله تعالى ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه .

ولقد ختمت الآية بقوله تعالى : " إن الله عليم خبير " فالله تبارك وتعالى خبير بأحوال الناس لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ، عليم بأعمالهم التي تميزهم عنده فباب الله مفتوح لكل أحد والتقوى متيسرة لكل إنسان ، وفقنا الله لعبادته وتقواه إنه نعم المولى ونعم النصير والحمد لله رب العالمين .

الآية الرابعة عشرة : قالَتِ الأعْرابُ : آمنّا ...

) قالَتِ الأعْرابُ : آمنّا ، قُلْ : لَمْ تُؤمِنُوا ولكِنْ قُولُوا : أسْـلَمْنا ، ولمّـا يَدْخُل الإيمانُ في قُلوبِكم ، وإنْ تُطِيعُوا اللهَ ورسُولَهُ لا يَلْتكُمْ مِنْ أعْمالِكُم شَيْئاً ، إنّ الله غَـفُورٌ رحِيمٌ ( .

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما نقله الزمخشري في كشافه : إن نفراً من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة ، فأظهروا الشهادة وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها وهم يغدون ويروحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والذراري ، يريدون الصدقة ويمنون عليه صلى الله عليه وسلم بإسلامهم فنزلت هذه الآية الكريمة .

ونقل الإمام الطبري في مجمع البيان في قوله تعالى : " قالت الأعراب : آمنا " قال : هم قوم من بني أسد أتوا النبي صلى الله عليه وسلم في سنة جدبة وأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر ، إنما كانوا يطلبون الصدقة ، والمعنى : إنهم قالوا صدّقنا بما جئت به ، فأمره الله سبحانه أن يخبرهم بذلك ليكون آية معجزة له صلى الله عليه وسلم ، فقال : " قل لم تؤمنوا " أي لم تصدقوا على الحقيقة في الباطن ، " ولكن قولوا : أسلمنا " أي انقذنا واستسلمنا مخافة السبي والقتل ، ثم تبيّن سبحانه أن الإيمان محله القلب دون اللسان ، فقال : " ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " .

قال الزجاج : الإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبذلك يحقن الدم ، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الإيمان ، وصاحبه المؤمن المسلم حقاً ، فأما من أظهر قبول الشريعة واستسلم لدفع المكروه فهو في الظاهر مسلم ، وباطنه غير مصدق ، وقد أخرج هؤلاء من الإيمان بقوله تعالى : " ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " أي لم تصدقوا بعد ما اسلمتم تعوذاً من القتل ، فالمؤمن مبطن من التصديق مثل ما يظهر ، والمسلم التام الإسلام مظهر للطاعة وهو مع ذلك مؤمن بها . والذي أظهر الإسلام تعوذاً من القتل غير مؤمن في الحقيقة إلا أن حكمه في الظاهر حكم المسلمين .

وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الإسلام علانية والإيمان في القلب " وأشار إلى صدره ، والإيمان هو التصديق التام مع الثقة وطمأنينة النفس وهو أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل الققه والعلم من المسلمين ، ويدل عليه حديث جبريل عليه السلام حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ثم الإيمان ثم الإحسان ، فترقى من الأعم إلى الأخص ثم للأخص منه .

قال الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه : حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله تعالى عنهما قال : أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً . فقال سعد رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله ، أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أو مسلم ؟ حتى أعادها سعد ثلاثاً : والنبي صلى الله عليه وسلم أو مسلم ؟ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : إني لأعطي رجالاً وأدع من هو أحب إليّ منهم فلم أعطه مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم .

فقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمن والمسلم فدل على أن الإيمان أخص من الإسلام والإسلام أعم وأشمل وبينهما عموم وخصوص مطلق كما يقول علماء المنطق ، فكل مؤمن مسلم ولا عكس .

والأمن : أصله طمأنينة النفس وزوال الخوف وقد أخذ منه : الإيمان ، وجعل اسماً للتصديق الذي معه الأمن وهو الإذعان للحق ، ومنه قوله تعالى : " وما أنت بمؤمن لنا " أي بمصدق .

والإسلام : استسلام وانقياد وترك للتمرد والعناد . والتسليم : عام يكون في القلب والجوارح واللسان أما الإيمان فأخص – كما قلنا – وهو أشرف أجزاء الإسلام .

هذا ما يعطيه ظاهر اللغة ، ولكن الإيمان والإسلام لهما استعمالات شرعية أخرى فقد استعملا مترادفين ومختلفين ومتداخلين .

ومن الترادف قوله تعالى : " فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين . فما وجدنا غير بيت من المسلمين" فلم يكن فيها بالاتفاق إلا بيت واحد .

وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : بني الإسلام على خمس ….

وقد سئل النبي صلوات الله وسلامه عليه عن الإيمان فأجاب بمثل هذا الجواب وذكر نفس هذه الأركان .

ومن الاختلاف بين معنى الإيمان والإسلام الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، وقد ذكرت الفرق بينهما. ومن التداخل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل : أي الأعمال أفضل ؟ قال : الإسلام فقيل : أي الإسلام أفضل ؟ قال : الإيمان . وهذا دليل على أن الإسلام أعم والإيمان أخص وهما متداخلان فالإسـلام شمل تسليم القلب ونطق اللسان وعمل الجوارح ، وأفضل هذه الثلاثة : تصديق القلب وهو الإيمان .

وقد جاء استعمال الإيمان في العمل الصالح ، قال تعالى : " وما كان الله ليضيع إيمانكم " .

وللإيمان شعب مختلفة ودرجاته عند الناس متفاوتة ، وهو يزيد وينقص ، ويزهر ويذبل ويحيا ويموت ، وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه قال : الإيمان بضع وسبعون شعبة ، فأفضلها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " .

فما أعظم هذا الإسلام الذي جعل إماطة الأذى عن الطريق شعبة من شعب الإيمان وقد ورد ذلك على لسان النبي الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى للإنسان الكامل ، وقد استجمع صفات الكمال فهو عليه الصلاة والسلام كمالاً فوق الكمال .

أما زيادة الإيمان ونقصانه فهو في قول الحق تبارك وتعالى إذ يقول وهو أصدق القائلين : " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تُليتْ عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون ، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . أولئك هم المؤمنون حقا ، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم " .

فالله تبارك وتعالى ذكر صفات المؤمنين في هذه الآيات ورتب عليها السعادة في الدنيا والآخرة ، وبها يتحقق الإيمان الكامل فلينظر الإنسان إلى نفسه ، فإن كانت تلك الصفات صفاته فهو ممن يرثون الفردوس هم فيها خالدون ، وإن كان بعيداً عنها فليحذر الذين يخالفون عن أمره .

ولقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات خمس صفات هي علامات الإيمان الحق وسمة الإسلام الصحيح وكلما ازداد عملاً كلما ازداد قرباً من الله والواجب على الإنسان أن يتدارك أمره قبل أن ينقضي الأجل وينقطع الأمل فلا تنفعه الندامة ولا تغنيه الحسرة ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، يوم يعض الظالم على يديه ، يقول : يا ليتني أتخذت مع الرسول سبيلاً . يوم يقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً .

ومن صفات هؤلاء المؤمنين : " إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " .

فمن علائم الإيمان وجل القلوب عند ذكر الله عز وجل مدير الكائنات ورب الأرض والسماوات وكل شيء في قبضته ، وكل مخلوق في حاجة إلى رحمته وهو الذي يعلم خواطر النفوس وهمساتها وسرها وعلانيتها وقد أحاط بكل شيء علماً .

أما الذين لا تخشع قلوبهم لذكر الله عز وجل ولا تتحرك نفوسهم فأولئك الذين لم يُقَدّروا الله حق قدره، ولم يعرفوا مدى سلطانه وبأسه . قال تعالى :

" ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم المد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون " .

وثانية هذه الصفات هي في قوله تعالى : " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً " .

فمن علامة المؤمن أنه إذا سمع آيات الله تتلى ووحيه يقرأ ازداد إيماناً إلى إيمانه ويقيناً إلى يقينه وعلماً إلى علمه ، فالمؤمن قلبه دائماً حاضر ونفسه متيقضة بذكر الله عز وجل تداوي به عللها ، وتصلح به ما اختل من شؤونها ، ومتى ما قرع نداء الله تعالى أذنيه لبى نداء خالقه . أما أولئك الذين في قلوبهم مرض الذين يستثقلون آيات الله عز وجل إذا تليت عليهم وتشمئز قلوبهم من ذكر الله سبحانه فأولئك لا تنفعهم الذكرى بل يزدادون رجساً إلى رجسهم وخبثاً إلى خبثهم وهؤلاء يقول الله تعالى فيهم : " وإذا ما أنزلت سورة ، فمنهم من يقول : أيكم زادته هذه إيماناً ، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون ، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون " .

وهذه الآيات والتي قبلها تؤكد وتصرح بأن الإيمان يزيد وينقص ويزهر ويزبل ، ويتقدم ويتأخر ويحيا ويموت . وعلى هذا فيجب على المسلم المؤمن أن يسعى دائماً إلى تنمية إيمانه والمحافظة على دينه فهو كالنبتة المزهرة إن لم ترعها بالري والسقاية وتدفع عنها الأذى والعدوان اعتراها الذبول فالموت .

فاجتهد أيها المسلم أن تكون لكلام الله مصغياً ولآياته متدبراً وفي المعاني مفكراً وللأوامر فاعلاً ثم تفكر في ملكوت السماوات والأرض واعتبر بمن ارتحلوا عنك فسكنوا المقابر وتركوا الدنيا وأهلها . والتزم مجالس الصالحين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ، فهذا مما يساعد على زيادة الإيمان وتقوية اليقين وفكر في نفسك وماذا كنت وفي نشأتك ومراحل حياتك وقل بعدها : " وتبارك الله أحسن الخالقين " والله تعالى يقول : " وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون .

وثالثة الصفات هي في قوله تعالى : " وعلى ربهم يتوكلون " .

والتوكل على الله عز وجل هو الإعتماد عليه في بلوغ الغاية والوصول إلى النتيجة المرجوة في العمل ، فإذا شرع في عمل ما فليوطن نفسه على أنه لن يجني ثماره ويبلغ الغرض منه إلا إذا أحاطته رعاية الله عز وجل وسهلت له الأسباب وذللت أمامه الصعاب ، فإن العبد إذا وطن نفسه على ذلك وصدق في توكله أمدّه الله تعالى بقدرته حتى يصل إلى غايته ، وليس معنى التوكل أن تنام في البيت وتقعد عن العمل وتقول : أنا متوكل على الله تعالى وسيأتيني رزقي ، وما قدّر لي لا بد واصل إلي . فهذا ليس من التوكل في شيء بل هذا ضعف وعجز وخمول ، وقد روينا أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لذلك الرجل الذي رآه جالساً من غير عمل : قد علمتم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة .

والتوكل الحق دليل الإيمان وطريق الفلاح كما قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم : " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً " وما أعظم هذا التشبيه من رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، فالطير ليس لها مخازن تودع فيها الحبوب والأقوات وليس لها صهاريج تملؤها بالمياه ، ولا حقول خاصة تتناول منها ماءها وغذاءها ، ولكنها بما أودع الله فيها من غريزة تهب من أوكارها في الصباح قد خلت بطونها من الطعام والشراب فتسرح في الجو وتنتقل في الحقول والرياض والفيافي والقفار وعلى المنابع والأنهار ، فما يأتي المساء إلا وقد امتلأت بطونها وارتوت، وعادت أدراجها إلى أوكارها سالمة آمنة ، ولو سكنت الطيور أعشاشها دون غدو ورواح لما وصل إليها شيء ، فالسعي والعمل لا ينافي التوكل على الله سبحانه بل الله تعالى نفسه يأمرنا بالبحث والتنقيب واستغلال خيرات الأرض حيث يقول : " هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور " كما أمرنا بالتوكل عليه حين قال : " ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير " .

ورابعة صفات المؤمنين في قوله تعالى : " ويقيمون الصلاة " .

فالصلاة عماد الدين فمن أقامها فقد أقام الدين ومن تركها فقد هدم الدين ، وهي صلة بين العبد وربه، وهي صلة بين العبد وربه ، وهي رياضة النفس وتطهير لها من الرجس ، والصلاة قرآن يتلى وشكر لله وتقديس ، وتنزيه له وتسبيح ، وما أحوج العبد إلى هذه الصلة بربه وهذا الشكر لخالقه ، ويقدمه كل يوم خمس مرات استجابة لمر الله تعالى إذ يقول : " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً " وهي تنهي عن الفحشاء والمنكر ، ولا يتحقق النهي حتى تكون كلها خشوعاً وخضوعاً وسجوداً وركوعاً . فالقلب يركع لله ويسجد قبل أن تركع الجوارح وتسجد ، والقلب يقرأ وينطق قبل أن يتحرك اللسان ويلفظ ، والقلب يسكن ويطمئن قبل أن تسكن الجوارح وتستقر .

ويجب أن تفكر النفس فيمن وقفت بين يديه تحادثه وتناجيه ، فلا يكن الجسم راكعاً لله ، والقلب غافلاً عنه تبارك وتعالى مشغولاً بالأموال والأولاد ، ويجب أن يكون لنا أسوة حسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قالت عنه عائشة رضي الله تعالى عنها : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه ، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه " ، فوقت الصلاة وقت خاص لله تعالى ، فلا ينبغي أن تشغله بغيره وتعطيه لغيره وقد خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً .

فصلِّ بقلبك قبل أن تصل بجسمك ، واعلم أنه ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها ، قال تعالى : " فويل للمصلين ، الذين هم عن صلاتهم ساهون ، الذين يراءون ، ويمنعون الماعون " .

وفي حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً " .

وخامسة ، الصفات هي في قوله تبارك تعالى : " ومما رزقناهم ينفقون " .

من نعم الله تعالى على الإنسان إعطاءه الأموال التي يتمتع بها في هذه الحياة الدنيا فيأكل ويشرب ويسكن ويلبس ويركب ويتنزه ويتطيب ويتطبب ويرحل ويصطاف ، ومن الناس من ضاقت يدهم أو ضعفت حيلتهم أو قل كسبهم ، فالالتفات عن هؤلاء – وهم جزء من المجتمع – قسوة وظلم يؤديان إلى الفساد في الأرض وتمكين العداوة والبغضاء بين طبقات المجتمع غنيها وفقيرها ، وضعيفها وقويها ، لذا حتَّم الله عز وجل على المسلمين أن يساندوا بعضهم فيخرج الأغنياء جزءاً مما رزقهم الله سبحانه ويقدموه لهؤلاء البؤساء عطاء مفروضاً وحقاً لازماً معلوماً حتى تزول الفاقة وتتحقق للجميع الهناءة والراحة ، فقال تعالى : " وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم " فإذا أعطى الأغنياء للفقراء هذا الحق فإنهم لم يعطوه تفضلاً ومنة بل هو حق من حقوقهم فرضه الله عليهم شكراً للنعمة واعترافاً بالإحسان ، أما إذا أعطوا ومنوا على الفقراء فقد بطل أجرهم وحبط عملهم ، قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " وقال سبحانه أيضاً : " قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى " . ولست بصدد شرح الناحية الاقتصادية في الإسلام حتى أتوسع الآن لأبيّن نواحي العدالة الاجتماعية التي جاء بها هذا الدين العظيم والتكافل الاجتماعي الذي وضع قواعده وأسس بنيانه – وأرجو المولى القدير أن يتيح لي الفرصة لأتي على هذه الناحية الخطيرة فأفصل الكلام فيها تفصيلاً - ، غاية ما في الأمر هنا أن يعلم الناس أن تطبيق ما أمر به الإسلام من الناحية الاجتماعية والاقتصادية كفيل بالقضاء على الفقر بشتى مظاهره ، والإسلام جعل الإنفاق جزءاً من الإيمان ، وليس هناك من العقائد والأفكار ما يجعل الأمور الاقتصادية مرتبط بالإيمان غير الإسلام الذي جاء قبل أربعة عشر قرناً والذي لا تزال مبادئه وآياته النيرة تتجدد معانيها وتسبق الدنيا بعدالتها وشرعها .

فإذا استكمل المسلم هذه الصفات الخمس وهي : خشوع القلب عند ذكر الله عز وجل ، والتأثر بآيات الله عز وجل وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والاعتماد على الله والتوكل عليه .

إذا استكمل المؤمن هذه الصفات كافأه الله تعالى درجات عالية في دار النعيم . ولا تقاس هذه الدرجات بمناصب الدنيا ولا برتبها ولا بمالها وصدق الله العظيم إذ يقول : " إن المتقين في جنات ونهر . في مقعد صدق عند مليك مقتدر " . " كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية " . فزن نفسك أيها المؤمن بهذا الميزان الدقيق – ميزان الإيمان – لتعرف درجتك عند ربك ، فإن وجدت خيراً فاحمد الله على هداه ، وإن وجدت غير ذلك فلا تلومن إلا نفسك ، ولكن لا تيأس من الله فأبواب التوبة مفتوحة وطريق العمل ميسور " ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا ، وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار . ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، ولا تخزنا يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد " .

الآية الخامسة عشرة : إنَّما المُؤمِنُون الذين آمَنُوا باللّهِ وَرسُولِه ثُمّ لمْ يَرتابُوا ...

) إنَّما المُؤمِنُون الذين آمَنُوا باللّهِ وَرسُولِه ثُمّ لمْ يَرتابُوا وجاهَدوا بأمْوالِهم وأنْفُسِهم في سَبيل اللّه وأولئِك هُمُ الصادِقُونَ ( .

في الآية الكريمة السابقة رد الله ادعاء نفر من بني أسد حينما قدموا المدينة المنورة وادعوا الإيمان فرد الله تعالى قولهم : " قل : لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " .

وفي هذه الآية بيان لحقيقة الإيمان وصفة المؤمنين الصادقين قولاً وعملاً وكأن الله عز وجل قال لهؤلاء المدعين : ليس الإيمان ما زعمتم وظننتم من قول لا يوافقه عقد القلب وادعاء لا تصدقه الأعمال ولم تشهد له الطاعة بالبرهان ، بل الإيمان الحق عند الله تعالى ويستحق أهله عليه الحمد والثناء وحسن الجزاء إنما هو التصديق لا أثر فيه للريب والشك بل هو يملأ القلب فتظهر ثمراته على الجوارح بالطاعة وأداء ما فرضه عز وجل من التكاليف البدنية كالصلاة والصوم والتكاليف المالية كالزكاة والحج والتضحية بالنفس والمال في سبيل الله من أجل إعلاء كلمة الله تعالى وتمكين الحق ودفع البغي ، وعمارة الأرض وتطهيرها من الفساد فؤلاء المتصفون بهذه الخصال العاملون لها هم الصادقون إذا قالوا آمنا .

روى الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء : الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله . والذي يأمنه لناس على أموالهم وأنفسهم ، والذي إذا أشرف على طمع تركه لله عز وجل .

وقوله تعالى : لم يرتابوا ، أصله رابه أي أوقعه في الشك والتهمة ، وقولهم : ريب المنون : ليس الشك فيه من جهة وقوعه بل من جهة وقته .

والمجاهدة : معناها استفراغ الجهد في مدافعة العدو ، والجهاد يشمل جهاد العدو الظاهر وجهاد النفس .

أنواع الجهاد

وفي الحديث ، جاهدوا أهواءكم كما تجاهدوا أعداءكم ، والجهاد الظاهري يكون باليد وباللسان ، وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : جاهدوا الكفار بأيديكم وألسنتكم .

ومعنى قوله تعالى : ثم لم يرتابوا : أي استمروا على التصديق والإذعان للحق ولنبي الحق صلى الله عليه وسلم ولم يعترضهم الريب والشك بعد ذلك ، لأن المؤمن قد يبتلى بمن يضلله ويقذف في قلبه الشك من شياطين الإنس والجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً . فالمؤمنون الأطهار يبتعدون عن مثل هؤلاء المفسدين المشككين للناس في عقائدهم ، ولذلك فهم المؤمنون الصادقون الذين رضي الله عنهم وأرضاهم وثبتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا ، ويم يقوم الأشهاد وهم المجاهدون بأنفسهم وأموالهم والمرابطون على الثغور حماية لبلاد الإسلام وأمة الإسلام ، وهذا هو الجهاد بالنفس ، أما الجهاد بالمال فيشمل على جميع أنواع البر من زكاة وصدقة وبناء للمساجد والملاجئ والمياتم وعمارة لشتى المرافق العامة من مستشفيات ومستوصفات من أهم أنواع الجهاد بالمال تجهيز الغزاة المجاهدين بالمعدات الحربية اللازمة والإنفقاق عليهم وعلى ذويهم لتأمين حاجياتهم من طعام وشراب ومسكن ودواء حتى يطمئن المجاهد كل الاطمئنان على من يعول ويجاهد بكل راحة بال وطمأنينة نفس .

والغرض من ذكر والجهاد في هذه الآية دون سائر الطاعات هو أن يكون المسلمون مع المظلوم على الظالم حتى يعود هذا إلى الحق .

والجهاد يجب أن يكون في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه ، فكأن المسلم قد نُدبَ من قبل الله عز وجل لنصرة الحق وإعلاء كلمة الدين والضرب على أيدي البغاة ليتم تطهير الأرض من الفساد ، وهذه منزلة رفيعة وضع المسلم فيها فعليه أن يعد نفسه لها وأن يعتبر جندياً جاهزاً على أهبة الاستعداد ، إما في القتال والغزو وإما في الرباط للدفاع عن ثغور البلاد وحمايتها .

وقد جعل الله تعالى أجر الجهاد عظيماً ، وهو فريضة محكمة على كل مسلم فمن تخلف فقد استحق العقوبة ، والجهاد ماض إلى يوم القيامة ، والأمة الإسلامية أمة مجاهدة إلى يوم الدين . وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : الجهاد ماض إلى يوم القيامة ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : المسلمون في رباط إلى يوم القيامة.

وإذا حورب المسلمون أو اعتدي على بلادهم وجب على المسلمين جميعاً رد المعتدين وتخليص ديارهم صفاً واحداً ، قال تعالى : " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص " . فإذا لم يتعاون المسلمون جميعاً لقتال الأعداء أثموا جميعاً .

والجهاد الحق هو الجهاد الخالص لوجه الله تعالى ولإعلاء كلمة الله وحده لا يقصد من ورائه مغنم دنيوي : ورد عن أبي موسى أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، الرجل يقاتل حمية ، والرجل يقاتل للمغنم والذكر ، فمن في سبيل ، فقال صلى الله عليه وسلم : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " .

فإذا اختلطت نية الجهاد بمقصد آخر كحب الظهور والشهرة بين الناس في الشجاعة أو لكسب المغانم والأموال فليس له جزاء عند الله تعالى بل يحبط عمله لأنه لم يخلص لوجه الله تبارك وتعالى .

ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه : رجل استشهد ، فأتي به ، فعرفه نعمه ، فعرفها فقال : ما عملت فيها . قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال : كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال : جريء ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار .. وقد بيّن الله تعالى أحكام الجهاد وسنن الحرب والسلام ومن يقاتلون ومن يسالمون وقد فضل الله المجاهدين على القاعدين فقال تعالى :

" لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ، وكلاً وعد الله الحسنى ، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً . درجات منه ومغفرة ورحمة ، وكان الله غفوراً رحيماً " .

وجعل الجهاد سبيل النجاة من عذاب الله سبحانه ، وطريق الفوز بنعمة الله ، وبالجهاد يكتب النصر للأمة ويفتح لها سبيل المجد والكرامة والحرية ، وقد قال تعالى مرغباً في الجهاد مبيناً فضله وثوابه : " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم . تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون . يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم . وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين . يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ، كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله ، قال الحواريون نحن أنصار الله ، فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين " .

كما قال تعالى في سورة التوبة  : " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ، لا يستوون عند الله ، والله لا يهدي القوم الظالمين . الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله ، وأولئك هم الفائزون . يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان ، وجنات لهم فيها نعيم مقيم . خالدين فيها أبداً . إن الله عنده أجر عظيم " .

ولم يشرع الجهاد في الإسلام لسفك دماء الناس واستعمار ديارهم أو طردهم من أوطانهم بل شرع لحماية الدعوة الإسلامية وصيانة ديار الإسلام من أن تمتد إليها يد الغاصبين ولأجل إدخال النور وضياء العقيدة الحقة إلى قلوب الناس ونفوسهم . ويمكن أن تعتبر الآية القرآنية الكريمة التي وردت في سورة الممتحنة دستور الإسلام في القتال ، قال تعالى : " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين ، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون " .

ولما أمر الله تعالى بالجهاد وأمر المسلمين بأن يعدوا لأعدائهم العدة اللازمة من صنوف القوة وأنواع السلاح بيّن لهم أنهم إنما يعدون العدة حتى لا يؤخذوا على غرة ولإرهاب عدوهم حتى لا يظنهم ضعفاء فيطمع بهم وهذا ما يسمونه في العرف الدولي " بالسلم المسلح " قال تعالى : " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، ومن رباط الخيل ، ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم ، الله يعلمهم ... " .

فانظروا إلى دقة تعبير القرآن العظيم حيث قال بعد ما أمر بإعداد القوة بصنوفها المختلفة قال : " ترهبون به " ولم يقل تظلمون أو تسفكون الدماء أو تستعمرون الديار بل قال : " ترهبون به عدو الله وعدوكم " ومتى علم العدو أنك مسلح قام احترمك وزال طعمه فيك وهذا مما يثبت دعائم السلم .

والقوة تختلف باختلاف العصور فلكل عصر سلاح وعدة ، فلا يجوز للمسلمين أن يتخلفوا غيرهم في اعداد النوع الملائم لكل زمان وعليهم أن يملكوا أحدث أنواع السلاح وإقامة مصانعه ثقيلة وخفيفة وأن يحافظوا على أسرار صنعها .

هذه المعارف التي تتعلق بالسلاح وأنواعه والقوة ولوازمها يجب على المسلمين أن يأخذوا كما يجب عليهم الإحاطة بعلوم دينهم وأسراره ، وإلا فهم مقصرون ومعاقبون ويكون ذلك سبباً لاستغلال الطامعين وكيد الكافرين .

وواجب المسلمين اليوم وقد أحاط بهم أعداؤهم من كل جانب ، وطمع فيهم من لا يدفع عن نفسه من أراذل الخلق وشذاذ الآفاق ، واجبهم اليوم أن يعدوا أنفسهم إعداداً كاملاً وأن يكونوا دائماً على أهبة الاستعداد للقتال ، وأن يحسنوا استخدام أحدث أنواع السلاح وأن يتقنوا صناعة الموت ويتمرنوا على تحمل الصبر والمشقات وأن يخشوشنوا ويتركوا الترف والبذخ حتى تعود الكرامة وترد البلاد السليبة ، وأن يتحدوا ويتعاونوا على البر والتقوى في سبيل الغاية الكبرى والمصلحة العظمى مصلحة الإسلام والمسلمين لرد كيد الكائدين وطمع الطامعين . والأمة المجاهدة لا تعرف اللهو والعبث بل تعمل ليل نهار في سبيل عزتها وكرامتها.

روي أن السلطان نور الدين الشهيد ، الذي يعتبر في نظر بعض المؤرخين سادس الخلفاء الراشدين كان دائم العبوس فلم ير ضاحكاً ولا مبتسماً قط حتى عرف ذلك عنه ، وانتشر بين الناس وتحيروا في تعليل ذلك وهو الرجل المسلم والسلطان العادل فكيف لا يهش لأحد ولا يبش بوجه إنسان ، وقد عرف السبب وبطل العجب حينما جاء السلطان إلى المسجد يستمع تفسير كتاب الله تعالى ويصغي إلى أحاديث الإسلام في بيت من بيوت الله سبحانه ، وما كاد إمام المسجد وخطيبه يعلم بقدوم السلطان إلا وحوَّل موضوعه إلى بشاشة الوجه وأثرها في النفوس وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبتسم في وجه أصحابه ولكن السلطان لم يزدد إلا عبوساً وإطراقاً . وبعد انتهاء الموضوع انتقل المجلس إلى غرفة الإمام الذي أخذ بملاطفة السلطان وسأله عن سبب عبوسه فيما كان من السلطان الشهيد إلا أن صرخ بأعلى صوته يخاطب الإمام : " ما تقول يا هذا والله إني لأستحيي من الله أن يراني مبتسماً وفي ديار الإسلام قدم لكافر " .

فهذا هو الإمام المجاهد الذي عقد الله تعالى لواء النصر للمسلمين فوق رأسه وقد اختاره الله عز وجل للشهادة في سبيل إعلاء كلمة الله ودحر أعدائه ، استشهد وقلبه يهتف : الله أكبر والعزة للإسلام ، والله أكبر ولا حكم إلا بالقرآن ، والله أكبر ولو كره الكافرون .

الجهاد أسمى الأماني

ولقد بذل المسلمون المهج رخيصة في سبيل الله تعالى لما سمعوا من موعود الله للمجاهدين من نصر في الدنيا وفوز ونعيم في الآخرة ، فصدقوا ما عاهدوا الله عليه وجعلوا شعارهم في الدنيا : " الموت أسمى أمانينا " حتى كان أحدهم إذا خرج من بيته ودّع أهله وولده ثم سأل الله تعالى أن يختاره شهيداً إليه فلا يرجعه إلى أهله .

وكيف لا يجاهدون بإخلاص وهم الذين سمعوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " ضمن الله لمن خرج في سبيله – لا يخرجه إلا جهاد في سبيله وإيمان به وتصديق برسوله – أن يدخله الجنة ، أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة " .

وكيف لا يرابطون ويحمون الثغور وهم يسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " عينان لا تمسهما النار : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله ، ألا أنبئكم بليلة أفضل من ليلة القدر ؟ حارس حرس في أرض خوف لعله ألا يرجع إلى أهله ، ومن رابط ليلة حارساً من وراء المسلمين كان له أجر من خلفه ممن صلى وصام ، والرباط هو حراسة الحدود والثغور .

ولقد أسرع المسلمون في الاستجابة للقتال ولم يتخلف منهم أحد ، فكل مسلم جندي طبيعي في جيش الإسلام فإذا دق بوق الخطر فالكل مجاهد بماله ونفسه وسلاحه وعتاده ومن لا سلاح له جهزه المسلمون وأعانوه ، فلا تثاقل عن الجهاد ولا تخلّف بل الكل في سبيل الله . قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض ؟ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل . الا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً ، ويستبدل قوماً غيركم ، ولا تضروه شيئاً ، والله على كل شيء قدير " .

ولقد ثبتوا في مواقعهم ثبات الأبطال وأقدموا دون إحدام صفاً واحداً كأنهم بنيان مرصوص فلا خوف ولا فرار ، قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار ، ومن يولهم يومئذ دبره – إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة – فقد باء بغضب من الله ، ومأواه جهنم وبئس المصير " .

وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ثلاثة لا ينفع معهن عمل : الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف " .

وقد وصف الشاعر ثباتهم وعزيمتهم بقوله :

كأنهـم في ظهـور الخيل ثبت ربــاً

من شدة الحَـزْم لا من شدة الحُـزَم

فكانوا أمثلة صدق في العزيمة والبطولة والتضحية والفداء رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم .

هذه بعض أحكام الجهاد في الإسلام كما شرعه الله عز وجل لنصرة الحق وإعلاء كلمة الله تعالى ، لا من أجل المطامع وإرواء الشهوات أو التوسع في البلاد ونهب الخيرات .

ولهذا كان المسلم رجلاً شجاعاً يهاب الموت إذا دعا داعي الجهاد وحانت ساعة القتال ولكنه في نفس الوقت – وفي كل وقت – مهذب الأخلاق ، سمح الطباع ، لا يسخر من أحد ، لا يطعن أحداً ، ولا يؤذي أحداً ، غايتـه مرضاة الله عز وجل ، وسيرته سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، أخلاقه أخلاق القرآن ، وميزانه ميزان الحق .

فهل آن للمسلمين أن يفهموا حقيقة الإسلام فيعودوا إلى ربهم ، ويهبّوا لدفع الأخطار المحيقة بهم وببلادهم بعد أن غلبهم العدو في بعض أقطارهم ، فلا تزال أبواب الجنة مفتحة وبلاد الإسلام تستجير من وطأة الكافر على أرضها ، فالإيمان ليس كلمة تقال باللسان كما قالت الأعراب : آمنا ، ولكن الإيمان حقيقة راسخة في القلب تدل عليها الأعمال النظيفة والبيانات الصحيحة : " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم يرتابوا ، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ، أولئك هم الصادقون " نسأل الله أن يحقق لنا كامل الإيمان وأن يرزقنا التوفيق للجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله إنه نعم المولى ونعم النصير .

الآية السادسة عشرة : قُلْ أتُعَلمونَ اللهَ بِدينكُم ...

) قُلْ أتُعَلمونَ اللهَ بِدينكُم واللهُ يَعْلَمُ ما في السَّمَواتِ وما في الأرْضِ ، واللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ ( .

لما جاء نفر من بني أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وادّعوا الإيمان وردّ عليهم الله عز وجل بالآيتين السابقتين : " قالت العراب آمنا ، قل لم تؤمنوا ، ولكن قولوا أسلمنا ، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ... " .

وقد وضّحت الآية التي بعد هاتين الآيتين حقيقة الإيمان والمؤمنين وذلك في قوله تعالى : " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون " .

ولما سمع هذا النفر من بني أسد إلى هذه الآية الكريمة جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفون له أنهم مؤمنون صادقون فأنزل الله عز وجل الآية الكريمة : " قل أتعلمون الله بدينكم ، والله يعلم ما في السموات وما في الأرض والله بكل شيء عليم " .

والمعنى : أتخبرون الله بالدين الذي أنتم عليه ، والله تبارك وتعالى عالم بذلك فلا يحتاج إلى إخباركم به ، وهذا الاستفهام إنكار وتوبيخ ، أي كيف تعلمّمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض والله بكل شيء عليم .

وفيه معنى التجهيل لهم فكيف يعلمون الله بدينهم ويقسمون الإيمان على إيمانهم والله يعلم السر وأخفى ، ويعلم ما في السموات وما في الأرض وهو بكل شيء عليم ، قال تعالى : " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " . وإن عجائب هذا الكون ودقائق الصنع وعجيب الأسرار في تلك العوالم والتي لا يعلم حقيقتها وأسرارها الكاملة إلا الله تبارك وتعالى ليدل ذلك كله على أنه لا يغيب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء : " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " . " له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى " .

الآية السابعة عشرة : يَمُنّونَ عَليْكَ أنْ أسْلموا ...

) يَمُنّونَ عَليْكَ أنْ أسْلموا ، قُلْ : لا تَمُنُّوا عَليَّ إسْلامَكُم ، بَل اللّهُ يَمُنُّ عَليْكُم أنْ هَداكُمْ لِلإيمانِ ، إن كُنتُم صادِقِين ( .

روى الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أسلمنا وقاتلنا العرب ولم نقاتلك ، كما قالوا له عليه الصلاة والسلام : جئناك بالأثقال والعيال ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان .

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " إن فقههم قليل ، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم " . ونزلت هذه الآية الكريمة: " يمنون عليك أن أسلموا ، قل لا تمنوا علي إسلامكم ، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان ، إن كنتم صادقين " .

فقد منّ هؤلاء الأعراب بإسلامهم ونصرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم جهلاً وغروراً فرد عليهم الله تعالى بقوله: " قل لا تمنوا عليّ إسلامكم " لأن نفع الإسلام وخيره وفلاحه وعزه وسعادته إنما يعود عليكم أنتم ، ولله المنّة عليكم وهو أحق بأن يمن عليكم أن هداكم للإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ، وللّه الفضل والمنة علينا وعلى الناس أجمعين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين : " يا معشر الأنصار ألم أجدكـم ضلالاً فهداكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فآلفكم الله بي ؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي ؟ وكلما قال شيئاً قالوا : الله ورسوله أمنّ " .

فلله الفضل والمنة في هديتنا وتوفيقنا ، فلولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صمنا ولا صلينا ، فقد أكرمنا الله تعالى بالإسلام كما أكرمنا بمحمد عليه الصلاة والسلام نبي الرحمه وهادي الأنام ، ثم ختمت الآية الكريمة بقوله تعالى : " إن كنتم صادقين " . أي قال لهم تعالى : إن كنتم صادقين أيها الأعراب في قولكم : آمنا ، فالله وحده هو الذي هداكم لهذا الإيمان الذي تزعمون وتدعون .

قال الزمخشري رحمه الله تعالى في كشافه : يقال : منّ عليه بيد أسدها إليه كقولك : أنعم عليه وأفضل عليه ، والمنّة النعمة التي لا يستثيب مسديها من يزلها إليه ويعطيها له واشتقاقها من المن الذي هو القطع لأنه يُسْدِيها إليه ليقطع بها حاجته ، ثم يقال : منّ عليه صنعه إذا اعتده عليه منّه وانعاماً .

وسياق هذه الآية فيه لطف ورشاقة وذلك أن الكائن من هؤلاء الأعراب قد سماه إسلاماً ونفى أن يكون كما زعموا إيماناً ، فلاما منّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان منهم قال الله سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : إن هؤلاء يعتدون عليك بما ليس جديراً بالاعتداد به من حَديثهم الذي حقّ تسميته أن يقال له : إسلام ، فقل لهم : لا تعتدوا على إسلامكم أي حَدَثكم المسمى إسلاماً عندي لا إيماناً . ثم قال : بل الله يعتد عليكم أن أمدكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم وادعيتم أنكم أرشدتم إليه ووفقتم له حسب زعمكم وصدقت دعواكم ، إلا أنكم تزعمون وتزعمون ما الله عليم بخلافه ، وفي إضافة الإسلام إليهم وإيراد الإيمان غير مضاف ما لا يخفى على المتأمل وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه وتقديره : إن كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان فلله المنة عليكم أن هداكم للإيمان .

وما أكثر المنّـانين اليوم والمتجبرين ، فإذا صلى أحدهم ركعتين منّ على الله بصلاته ، وإذا تصدّق بفلسين منّ بصدقته أيضاً ، وإذا فعل معروفاً مع أحد فالويل لذلك الأحد من منّ ذلك الرجل واستعلائه عليه. مع أن الفضل كله لله هو الذي يجب أن يمنّ علينا أن هدانا للإيمان ورزقنا وأعطانا وعافانا وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها .

الآية الثامنة عشرة : إنَّ اللّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمواتِ والأرْضِ ...

) إنَّ اللّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمواتِ والأرْضِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْملُونَ ( .

هذه آخر آية في سورة الحجرات وفيها إخبار من الله عز وجل للمسلمين وبيان لهم بأنه يعلم غيب السموات والأرض فهو يعلم الصادق من الكاذب ، والمؤمن من المنافق فلا يحقُّ لكم أن تعلّموه ما أنتم عليه ، فهو يعلم ما تكنّه الضمائر وما تتحدث فيه النفوس وما غاب واستتر من خبايا السموات والأرض وهو بصير بأعمالكم سرها وجهرها خيرها وشرها وهو الذي سيجازي كل إنسان على ما اقترف : " فمن يعمل مثقال ذرة خيراص يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره " .

وهذه المعاني تكررت في كثير من السور لأن هذا المبدأ يبني عليه الكثير من الأمور فالمسلم الذي يستيقن أن الله بصير به مطلع عليه يعلم سره وجهره يفكر كثيراً وكثيراً جداً قبل أن يتهاون في طاعة الله عز وجل أو يرتكب معصية مما نهى الله عنه ، أما إذا نزعت هذه الرقابة الربانية من النفوس انقلب الناس بغفلتهم إلى حالة قريبة من حال البهائم كما ورد ذلك في قوله تعالى : " ولقد ذرأنا لجنهم كثيراً من الجن والإنس ، لهم قلوب لا يفقهون بها ، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون بها ، أولئك كالأنعام بل هم أضل وأولئك هم الغافلون " .

جعلنا الله تعالى من الذاكرين الشاكرين البعيدن عن الغفلة ونسأله تعالى أن يوفق المسلمين إلى معرفة دينهم والعودة إليه عن رغبة ورهبة وأن يعملوا على سعادتهم في الدنيا والآخرة وأن يعيشوا على مائدة القرآن ويتخلقوا بأخلاقه ويتأدبوا بآداب المصطفى صلى الله عليه وسلم وأن يعيشوا للقرآن وبالقرآن إنه نعم المولى ونعم النصير واجعل آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

ملاحظة : تذكروا الدعاء لمن ساهم في نشر هذه المادة ونسأله سبحانه الإخلاص والقبول ...