أحمد عبد الجواد وأعياد الشهادة
أ.د/ جابر قميحة
بإعجاب وتقدير نعيش ديوان «لكنه ليس النهاية» للشاعر المصري الناضج: أحمد عبدالجواد مقلد . والعنوان يعني : أن سقوط أي بطل فلسطيني شهيدًا إنما يمثل خطا في مقدمة التخليص والتحرير، وجزءًا من الثمن الذي يؤدي إلى تحقيق النصر المؤزر المبين. وليس نهاية أو بداية من بدايات نهاية القضية أو إنهائها، وهيهات.. هيهات.. فالشهادة حياة وإحياء... لا موت وإماتة.
سقط البطلْ.. لكنه ليس النهاية
- فلسوف يسقط فارسٌ
يتلوه فارسْ
- من أجل عزك يا بلادَ الطهرِ
يا أرض الفوارسْ
- يا ميتًا ما مات بل عاش الحياة الباقيةْ
يا ميتًا أحيا بموتِ الجسم أجيالَ العطاءْ
- مني السلام عليك يا رمز البطولة والفداءْ
وشاعرنا يملك «شعرية ناضجة» انعكست طوابعها على تقدماته النثرية التي جمعت إلى الجمال الفني وجدانية الاعتزاز بالشهادة، والبطولة، والشهداء والأبطال، كما نرى في إهدائه ديوانه:
إلى أرواح شهداءِ الأرض المحتلة
- الذين تمزقت أجسادهم
وتناثرت أشلاؤهم..
- ليصنعوا عزة الأمة
إلى أرواحهم التي تسامت عن دنياها
- لتنير.. دنيانا
إلى كل الطيور الفلسطينية
- التى افترشت أعشاشها
بسعف، وسلال النخيل
- وشرعتها في وجه المحتل
رافضة أن تهجر أعشاشها
- وتطير..
وفي مطلع هذا المقال وصفنا واقعة الشهادة بأنها عيد وفرح، وهو الوصف الذي استعمله الشاعر وألح عليه، ففي قصيدته «أنشودة» يقول:
كبِّري أمَّ الشهيدْ
- يومك البسام عيدْ
يوم جاءتك التهاني
- تحمل الفجر الوليدْ
وترى دموع الشاعر تنهمر على شهداء مذبحة المسجد الإبراهيمي، حيث اقتحم صهيوني غادر - بمدفعه الرشاش - المسجد، والناس خاشعون في صلواتهم، وحصد منهم العشرات وهم ركوع سجود:
قتل العبادَ الساجدين لربهم
- غدرًا بلا ذنب. أأذنبَ من سجدْ؟؟
ومن الجديد أن الشاعر ساق وصف المأساة على لسان واحد من الشهداء الضحايا، فيقول:
أنـا كنتُ نحو البيت أمضي خاشعًا
- أرجـو المثاب ومحو سهوي والعَمَدْ
بـيـنـا أنا في لحظة القرب التي
- فـيـها التجلي والعطاء من الصمَدْ
إذ بـالرصاص يجول فينا حاصدًا
- ودم الـشـهـادة قد أحاط بمن سجدْ
وعـلـى وجـوه الـقاتلين سعادةٌ
- غـيـر الـضراوة والتشفي لا تجدْ
لـم يـرحـمـوا أبـناءنا ونساءنا
- كيف السبيلُ وهم من الصخر أشدّ؟!!
ومن الشهداء الذين رثاهم الشاعر: شيخ الجهاد « أحمد ياسين »، وخليفته « عبد العزيز الرنتيسي »، و يحيى عياش ، و وفاء إدريس .. ونقدم للقارئ قطوفًا مما نظمه الشاعر في هؤلاء الشهداء:
من وجهك الوضاءِ أنوارٌ سرتْ
- يُـهـدى بـها المتحيّر المفتونُ
من روحكم عزمُ المجاهد يستقي
- فـتُـهـدُّ مـنهُ معاقلٌ وحصونُ
مـا مـتَّ يا شيخَ الجهاد وإنما
- نـلـت الـخـلـود وإنه لثمينُ
يا شيخُ قد قطع العهود على الفدا
- أبـنـاؤكم كي يضحكَ الزيتونُ
ويـعـود للأقصى الأسير كيانُه
- وتـعـود خـيـبرُ بعدها حطينُ
والشاعر في القصيدة يضع الشيخ ياسين في مكانه الذي كان عليه: إمامًا وأبًا روحيًا، وشيخًا للجهاد والفداء، وقدوة وأسوة، وبذلك أبرز الشاعر خصوصيات الشهيد القمة « أحمد ياسين »، ومنها يستطيع القارئ أن يعرف المقصود بهذه الأبيات، ولو كان يجهل فيمن نظمت.
ولا كذلك مرثية الشاعر في الشهيد « عبد العزيز الرنتيسي » التي خلت من ملامحه الخاصة، فجاءت الأبيات عامة تصدق على أي شهيد، ولم نَرَ في القصيدة ذات الأبيات العشرة إلا معاني وحكمًا عامة ما عدا ثلاثة أبيات أو أربعة، والشاعر يستهلها بقوله:
بدمِ الشهادة تكتبُ الأمجادُ
- وبه البواسلُ في الورى قد سادوا
وبه ظلام العار يمحى لا كما
- زعم الخنونُ يشده الإخلادُ
وفيها تحدث إلى الشهيد عبد العزيز قائلاً:
بُشراك يا عبد العزيز فلم تمتْ
- بل مات تجار السلام وبادوا
بشراك فاهنأ بالشهادة واللِّقا
- ياسين منتظر، وذاك مرادُ
ولا شك أن قصر المدة التي شغلها الرنتيسي في قيادة حماس بعد « أحمد ياسين » لم تُسْعف الشاعر بالوقائع والأحداث وأبعاد المنهج الذي سلكه الرنتيسي، مما يمكنه من معالجة موضوعه على نحو أدق وأوفى.
وجاءت قصيدة الشاعر في رثاء «المهندس يحيى عياش » كأنشودة طفولية عفوية صافية، تتمتع بتدفق موسيقى ملحوظ، وفي مطلع القصيدة تطالعنا الأبيات الآتية:
عـيـاشُ رمزٌ للفدا
- عـياشُ غرسُ المنْعِمِ
عـيـاش تلميذ الكتاب
- لـغـيره لا ينتمي
فـي قلبه حب الجهاد
- كجرى به مجرى الدمِ
ويقدم ملمحًا من ملامحه المهمة، وهو دوره التربوي وتوجيه الشباب إلى الجهاد، وتدريبهم على عمليات الفداء وتدمير الأعداء:
رَبّى على حُبِ الفدا
- جيلاً سما كالأنجمِ
جيلاً تسلح بالتُقى
- عاف اقترافَ المأثمِ
جيلاً تطلع للإقا
- مة في جوار الأعظمِ
أما القصيدة التي رثى بها الشاعر الشهيدة « وفاء إدريس » في أربعة وعشرين بيتًا تحت عنوان «أفديك يا قدس » فهي أطول مرثياته - من جهة - وأوفاها فكرًا، وأعمرها بروح الفن وجدانًا وتصويرًا وتعبيرًا، وأبيات القصيدة موزعة بين صوتين: صوت الشاعر، وصوت الشهيدة وفاء دون تصريح بنسبة القول إلى صاحبه، فجاء هذا المزج الفني عفويًا بارعًا، دون إشعار المتلقي «بهذا الانتقال التوزيعي» بين الشخصيتين، وكأنهما صوت واحد بنبرة واحدة ذات مستويين.. الفرق بينهما «درجي» وليس نوعيًا، يستهل الشاعر قصيدته بشهادة موجهة إلى وفاء، تتدفق ثناءً وتقديرًا:
إلى ذاتِ الخلود والانتصار
- أذاتَ البذل يا تاج الفخارِ
رضيتِ المجدَ ثوبًا وانطلقتِ
- كفطار الذكر يملأ كلَّ دارِ
شموخ دونه الشمُّ الرواسى
- سمو دونه شمسُ النهارِ
وفي عفوية طبعية دون افتعال ودون فواصل يتدفق صوت « وفاء إدريس » بعد الأبيات السابقة مباشرة:
عشقتُ الموتَ حبا في حياة
- كتدوم فراح صوتُ الانفجارِ
يدوّي معلنًا للقدس أنّي
- بأنهار الدما أفدي دياري
نشأتُ على التُّقَى وعرفتُ درْبي
- فليلي طاعةٌ، وكذا نهاري
وتتحدث وفاء عن مأساة المسجد الأقصى بعاطفة المحبة العاشقة، وتهتف:
فقلتُ له فداك اليوم نفسي
- فإنا لا نقيمُ على صَغَارِ
فلا والله لن تنهارَ يومًا
- ليُبنى هيكلٌ بعد انهيارِ
وتتخذ قرارها الخالد، معلمة المسجد العظيم بأنها بهذه التضحية ليست بدْعًا في الإناث:
كثيرات يرُمْنَ الموت مثلي
- لتحيا سالمًا من كلِ عارِ
وبعدها يأتي صوت الشاعر مناجيًا الفدائية العظيمة:
لروحك يا ابنة الأبطال أُهدي
- قصيدًا دون قدرك لا أُماري
ويحمل على دعاة «السلام الاستسلامي»، الذين باعوا الكرامة، واطمأنوا إلى الشيطان الصهيوني، ويسأل في ثورة لم تفقده منطقيته:
وكيف يكونُ سِلْم واحتلالٌ
- وهل للقوم حقٌ في الديارِ؟!
ويستعيد ذكرى الصحابية الجليلة المجاهدة «نسيبة بنت كعب الأنصارية» التي تعد نموذجًا طيبًا، وقدوة شامخة لمن رامت الجهاد في سبيل الحق والعِرض والأرض في كل العصور.
وفي ديوان الشاعر قصائد أخرى متعددة تدور في فلك الجهاد والنضال، وفضْح ادعاءات الصهاينة، واستدعاء الشخصيات القيادية الشامخة ك صلاح الدين الأيوبي ، والقصائد الأخرى جاءت بالعناوين الآتية: رؤية - أبجدية - صلاح الدين - لا يا فتى الأقصى - سقط البطل - باراك والتلمود - أنشودة طفل - سلام أم استسلام - نداء القبلة الأولى - إلى طفل الحجارة - حوارية - من وحي مذبحة الحرم الإبراهيمي - لن يستكين فتى الجهاد - حوار حول السلام - من صفحات الذاكرة - وجهة نظر - أنشودة - ماما أمريكا - نصائح لا تتبع.
وكلها قصائد تنم على شاعرية ناضجة، وإيمان يقيني بعدالة القضية الفلسطينية، وحقوق المسلمين المهدرة في كل مكان، كما تنمُّ على تمكن حميد من العربية الفصحى، والديوان ما زال مفتوحًا لدراسات أخرى، حتى تتكامل هذه الدراسات مع دراستي المتواضعة التي لم تتناول إلا قصائد الشهادة والشهداء. وفَّق الله الشاعر، ونفع به الإسلام والعروبة والعربية، إنه نعم المولى ونعم النصير.
الشاعر أحمد عبد الجواد مقلد يعمل موجهًا للغة العربية بمركز يوسف الصديق محافظة الفيوم - ب مصر ، والديوان صدر سنة 2004 م.
المصدر :نافذة مصر