أول مدرسة عمل فيها الإمام حسن البنا
مقدمة
أن أكون مرشداً معلماً، إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار، ومعظم العام. قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم، ومنابع سعادتهم، ومسرات حياتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة] بهذه العبارة حدد الأستاذ البنا منذ صغره خريطة حياته وهدفه وهو تعليم وتوعية الناس والأخذ بأيديهم إلى مفهوم الإسلام الصحيح.
فلا غرو من أن يتجه الإمام البنا إلى مجال التدريس وليس لأى مجال أخر لعشقه بالاتصال بالنشء وتربيتهم، وهو ما جعله يقبل السفر إلى بلد لا يعرف فيها أحد ليعمل مدرسا بمدرستها الإبتدائية رغم أنه كونه الثالث على دفعته، لكن لم يضع جمع المال في باله بقدر تعليم الناس وتوعيتهم بأمور دينهم وقضية وطنهم.
في الإسماعيلية
وصل الإمام الشهيد إلى الإسماعيلية في ضحى يوم الاثنين الموافق 16 من سبتمبر 1927م فذهب إلى الفندق فوضع فيه حقيبته ثم ذهب إلى المدرسة التي عين بها، والتقى بالناظر والمدرسين، وتعرف على صديق قديم له، هو الأستاذ إبراهيم البنهاوي الذي شاركه السكن في بنسيون، حيث أقاما معًا في غرفة واحدة في منزل السيدة "أم جيمي" الإنجليزية، ثم في منزل "مدام بيينا" الإيطالية، واستمرت إقامتهما أربعين يومًا حتى انتقلا إلى مكان آخر
مدرسة الإسماعيلية بنين (طه حسين حاليا)
نجح الإمام "حسن البنا" - يرحمه الله - في امتحان دبلوم دار العلوم في يونيو عام 1927 م، وكان الثالث على دفعته؛ لذا توقع تعيينه بالقاهرة، إلا أنه عُيِّن مدرسًا بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية بشارع دليسبس (تم تغيير اسم المدرسة إلى مدرسة طه حسين الإعدادية بنين، كما تم تغيير اسم الشارع إلى شارع الثلاثيني وتقع المدرسة بجوار الأسطول) في الدرجة السادسة بمرتب 15 جنيهًا.
كانت العادة في هذا الوقت أن يكون مدرس المرحلة الابتدائية والمسئولون عنها من الحاصلين على الشهادات العُليا، وغضِب الإمام "البنا" لتعيينه بالإسماعيلية، في بداية الأمر ولذا فقد ذهب إلى ديوان المعارف شاكيًا من هذا الإجحاف وعدم الإنصاف إلا أن الله سبحانه وتعالى هيأ له في هذا المكان أستاذين له
هما: الأستاذ عبد الحميد حسني، والأستاذ الشيخ عبد الحميد الخولي اللذان هدّآ من روعه ومسحا على صدره وأزالا غضبه، وبينما هو كذلك إذ دخل عليه الأستاذ علي حسب الله الذي يعيش بالإسماعيلية فطلبا منه الرأي في هذه المدينة التي أغضبت الإمام الشهيد بتعيينه فيها إلا أنه فوجئ بوصف الأستاذ علي حسب الله لها وكأنها جنة الله في أرضه، وحببه فيها وبشره بأنه سيجد فيها الخير والأمن والأمان. (1)
تفاعل الإمام البنا في المدرسة
عمل الإمام البنا مدرسا للغة العربية في المدرسة، ونشط مع طلابه منذ اللحظة الأولى، فكان حريصًا على تعليم الأطفال دينهم بطريقة عملية حيث كان يخرج بالتلاميذ في طابور منتظم إلى المسجد العباسي ويعلمهم الوضوء والصلاة، ثم يرجع بهم في طابور منتظم. وقد وصفه المهندس عثمان أحمد عثمان بقوله: وكان حظي أن أتتلمذ على يدي المرحوم الشيخ حسن البنا، الذي أكد عندي الخط الديني الذي نشأت عليه في منزلنا، حتى أصبح هذا الخط محورًا لكل حياتي.
كان المرحوم حسن البنا، مدرسًا للغة العربية والدين، في مدرسة الإسماعيلية الابتدائية، وكان شابًا في العشرينات من عمره.. وجدت عنده "رحمه الله" سعة صدر، وعطفًا.. كان يحبنا فأحببناه، وتعلقنا به..
كان لا يكتفي بما كان يعلمه لتلاميذه داخل قاعة الدرس، ولكن كان يطلب منا أن نحضر كل يوم المدرسة، قبل موعد الدراسة بساعة كاملة، وعندما نحضر كان ينظمنا في شكل طابور، ويسير بنا إلى المسجد القريب من المدرسة، فيعلمنا الوضوء السليم، ثم نصلي فرض الصبح، ويعود بنا بعد ذلك إلى المدرسة مرة أخرى.
وأذكر أنني كنت أنام وأنا أحلم بذلك اللقاء اليومي الذي أحببته، وكنت أنتظره بفارغ الصبر، ولم يقتصر الأمر عند ذلك الحد، ولكن كان يكرر – رحمه الله – نفس الأمر في موعد كل "فسحة"، كان يطلب منا أن نعود مرة أخرى إلى المدرسة بعد أن نتناول غداءنا في منازلنا، وكنا نجده – رحمه الله – في انتظارنا فيصطحبنا إلى المسجد لكي نؤدي فرض صلاة الظهر، ونعود بعد ذلك لاستكمال حصص اليوم الدراسي. (2)
مكائد على الطريق
شهدت المدرسة التي عمل فيها الإمام البنا وبرز فيه نشاطه اتهامات باطلة حاول البعض قذف البنا بها في محاولة لفصله من عمله أو نقله.
فبعث البعض بعرائض إلى رئيس الوزراء يتهمون حسن البنا بانتسابه ودعوته للشيوعية في مصر وبين الطلبة ويسطرها في دفتر دروسه (حيث كانت تهمة الشيوعية جديدة في مصر ومقلقة). والتي تتضح في كلمات ناظر المدرسة للإمام البنا بقوله: محكمة الجنايات يا أستاذ حسن.. محكمة الجنايات يا حبيبي، "وكلنا كده" إن شاء الله "بربطة المعلم"، فقال الإمام البنا: جميل.. لماذا؟
فقال الناظر: عريضة من رئيس الوزراء إلى وزير المعارف يقول: إنك شيوعي وضد نظام الحكم، وضد الملك، وضد الدنيا كلها، فقال الإمام البنا: "بس كدة"، الحمد لله رب العالمين، والله "يا بك" إذا كنا برءاء فاسمع قول الله تعالى: (إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) "الحج: 38"
وإذا كنا نخدع الناس بهذا الجهاد في سبيله، وهذه الدعوة إلى دينه، فإن محكمة الجنايات وجهنم قليل على الذين يخدعون الناس بلباس الدين، فلا تهتم ودعها لله، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وأقسم لك أنه لن يكون إلا الخير. (3)
لقد كان المطلوب من الناظر أن يتحرى عن كل ما جاء في هذه العريضة بكل وسائل التحري، ويفتش على كراسات التحضير عند الأستاذ حسن البنا، وعلى الموضوعات التي يدرسها للتلاميذ في المحفوظات والمطالعة، والإملاء، وغيرها، وعن منهاج الجمعية وخطتها، وآثارها وكل ما يتصل بنشاطه وأن يبدي في هذا رأيًا واضحًا.
وفعلاً لم يجد الناظر بدًا من أن يستعين بكل من يرى أنه يفيده في هذا الشأن، فأشرك معه قاضي المحكمة الأهلية، ووكيل النيابة، ومأمور المركز، ومعاون البوليس، وكتب لأمثالهم يستشيرهم، وجمع كل هذه المعلومات وضم إليها قانون الجمعية، وتقريرًا وافيًا عن أعمالها
واطلع على الكراسات، فوجد أول قطعة للإملاء موضوعًا عن زيارة الملك فؤاد – رحمه الله – للقناة في رحلة من بورسعيد إلى السويس، وفيه ثناء عليه وتعداد لمآثره، فنقله بنصه في تقريره، وأرفق به فيما أرفق كراسة من كراسات التلاميذ، واهتم لذلك اهتمامًا كبيرًا.
ومن الطريف أن معاون البوليس حنيذاك كان يكتب تقريره وهو في حالة من الضيق شديدة مما جاء في هذه العريضة من أكاذيب، إذ دخل عليه أحد كتاب شركة القناة غير المصريين، فسأله عن سبب ضيقه، فأخبره الخبر فدهش الرجل وقال: هذا كلام فارغ، أنا رأيت الشيخ حسن في يوم مرور الملك فؤاد بالإسماعيلية يقول للعمال: لازم تذهبوا وتحيوا الملك حتى يفهم الأجانب – في هذا البلد – أننا نحترم ملكنا ونحبه، فيزيد احترامنا عندهم، وأنا مستعد أن أكتب لك شهادة بالفرنساوي.
ومن الطريف أيضًا أنه جاء في تقرير أحد رجال البوليس بهذه المناسبة أن كثيرًا من الذين لم تنفع معه وسائل التأديب البوليسية ولم تردعهم عن ارتكاب بعض الزلات، قد أفلحت معهم الوسائل الروحية التي تؤثر به جماعة الإخوان على نفوسهم، فصاروا مضرب المثل في الاستقامة والصلاح، وأنه يقترح أن تشجع الحكومة وتعمل على تعميم فروع هذه الجماعة في البلاد حتى يستتب الأمن ويعم الصلاح.
زار علي بك الكيلاني مراقب عام التعليم الابتدائي بالإسماعيلية المدرسة، وقال للأستاذ حسن البنا مداعبًا: إن تلك العريضة، قد أرعبت الوزارة، وخشي الجميع أن يتولى التحقيق فيها لما فيها من تهم شنيعة، وخطر ببالنا احتمال كذب هذه العريضة ولفت نظرنا ما فيها من تناقض، فخولناها للناظر، وقد كانت التقارير التي جاءتنا وافية شافية.
ومن الغريب أن كتابة العرائض ضد الإمام البنا لم تنته، فقد كتبت عريضة موقعة باسم رجل مسيحي جاء فيها:
- إن هذا المدرس المتعصب الذي يرأس جمعية متعصبة اسمها "الإخوان المسلمون" يفرق بين أبناء عنصري الأمة في الفصل، فيتعمد إهانة التلاميذ المسيحيين ويهملهم ولا يعتني بهم، ويعطي الطلاب المسلمين كل اهتمامه وتوجيهاته، وأن ذلك سيحدث فتنة كبرى إن لم تتداركها الوزارة بنقل هذا المدرس.
- وقد أحدث تحويل هذه العريضة إلى الناظر للرد عليها دويًا هائلاً بين المواطنين المسيحيين بالإسماعيلية، الذين استنكروا هذا العمل أشد الاستنكار، وجاء وفد عظيم من أعيانهم وعلى رأسه راعي الكنيسة هناك إلى المدرسة معلنًا استنكاره، وكتب كل منهم عريضة وخطاب استنكار، وكتبت الكنيسة بخاتمها وتوقيع الأب راعيها كذلك، وأرفق الناظر كل ذلك بتقريره الذي ختمه بقوله: أرجو من وزارة المعارف ألا ترهقنا بمثل هذه المجهولات، وأن تحقق فيها بمعرفتها بعد أن ثبت أنها جميعًا أمور كيدية لا يراد من ورائها خير. (4)
لم تتوقف العرائض ضد الإمام البنا حتى قررت الوزارة نقله إلى القاهرة وتعينة في مدرسة عباس الأول بالسبتيه وذلك في أكتوبر 1932م. ليترك بذلك أول مدرسة عمل بها ما يقرب من خمس سنوات.
المراجع
- حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2002، صـ65-66.
- عثمان أحمد عثمان: صفحات من تجربتي، المكتب المصري الحديث، 1981، صـ354، 355.
- مذكرات الدعوة والداعية: صـ99
- جمعة أمين عبدالعزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، الجزء الثاني، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2004م.