الأصالة والحداثة في الشعر العربي
أ.د/جابر قميحة
كانت ليلة مشهودة تلك التي شهدت ندوة ـ أو صراعا ـ بين الأصالة ورجالها،من ناحية , والحداثة ومناصريها من ناحية أخرى، وذلك في ندوة الدكتور الشميري ـ سفير اليمن في القاهرة ـ وذلك في الباخرة "السرايا" بالنيل.
ومثل الأصالة: دكتور جابر قميحة ، والدكتور كمال نشأت ، والشاعر محمد التهامي .
ومثل الحداثة: الشاعر عبد المنعم رمضان ، والأديب إدوار الخراط، والدكتور صلاح فضل .
ودارت المناقشات سجالاً بين الفريقين، وأدارها الصحفي الكبير الأستاذ عزازي علي عزازي ، ونعرض هنا خلاصة ما قاله الدكتور جابر قميحة في هذه الندوة:
"بسم الله الرحمن الرحيم .. أحمد الله وأصلي وأسلم على نبيه الكريم، وأحيي راعي هذا العيد، وأحيي الحضور الكرام.
الأستاذ الكبير صلاح فضل، قال: "إن الحداثة هي استجابة لمنطق الحياة المعتمد على تطويرها دون انقطاع". ونحن نقول له : هذا الكلام رائع وقاعدة طيبة، ونحن نعتنقها إلى أن نلقى الله.
الأستاذ الفاضل إدوار الخراط قال مثل هذا، وقال أيضًا: وإن رفض المفهومات السابقة غير مقبول . وهذا جميل جدًّا. وبهذا أصبحت الحداثة مرادفة للأصالة، أو بمعنى آخر تمثل نزوعًا نحو التجديد بدءا من عصر صدر الإسلام حينما جاء الإسلام، ووجد العرب أمة
شاعرة , فلم يقض على هذا النزوع ، ولكن قام بما نسميه: إعلاء الغريزة، فالقتال العدواني مثلا كان سائدا في المجتمع الجاهلي، ماذا فعل الإسلام؟ قام بعملية إعلاء غريزية , فحول القتال العدواني إلى الجهاد، وهو القتال حتى تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وفتح البلاد لنشر النور والحق فيها، والشاعرية اتجهت بطبيعة الحال اتجاهًا أخلاقيًّا.. هذا أيضًا تحديث بمعنى التجديد.. واستمرت مسيرة التجديد على مدار العصور حتى عصور الضعف والانحطاط الشعري ـ مثل: العصر المملوكي ـ كان فيها أغراض جديدة وظهر فيها نجوم، من هنا نقول: الحداثة بمعنى التحديث، أي:
التجديد ـ مطلوب وأنا معه، وهو ما قال عنه الدكتور صلاح فضل: الحداثة استجابة لمنطق الحياة المعتمد على الأصول مع تطويرها. فاحترام الأصول هذا مهم جدًّا جدًّا، رعاية الموروثات القيمة، والقيم الأخلاقية والتراث العلمي والمعرفي هذا مهم جدًّا أن تبني عليه الحداثة، إذن الحداثة هنا فرض واجب لا بد منه، والمقصر في نشرها، إنما هو مقصر في قيمه ، ومقصر في حق الوطن والخلق والأدب، والنقد، والمعرفة الإنسانية.. الإسلام يطلب منا الانفتاح على كل المعارف الإنسانية . قال زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ في حديث له،: "أمرني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن أتعلم له لغة يهود، وقال لي يا زيد : إني لا آمن يهود على كتاب (كتابة) . فكان إذا أراد أن يكتب لهم كتبت له، وإذا كتبوا إليه (بلغتهم( قرأت له".
أما أن يقول "أدونيس": أنه لم يعرف أبا نواس إلا بعد أن قرأ "رامبو" )الفرنسي), فهذا كلام مرفوض تمامًا؛ لأنه ينقص من قيمته كشخصية لها هويتها ولها كيانها.. لماذا؛ لأنه ينطلق إلى العربي من أجنبي خارج عليه، والمفروض احترام المحلية، واحترام أدب الذات... الأدب العربي، والانطلاق منه إلى آداب أخرى، وليس بالعكس، فلا أعرف أخي عن طريق الأجنبي، بل أعرف الأجنبي عن طريق أخي .
وما يقوله الحداثيون: إنه ليس هناك شاعر حداثي أنكر الأصول، أو أنكر الجذور , فكلام غير صحيح؛ لأنهم جميعا...ـ أو غالبيتهم ـ من المنكرين ، ولنأخذ المفاهيم من شعراء الحداثة من إصداراتهم مثل: "إضاءة" و "أصوات"، وهم إخوة أحترمهم جميعًا، ثم نأخذ من النقاد الذين وقفوا في صف الحداثة مثل الأستاذ الكبير إدوارد الخراط، قرأت فاصطدمت بالألفاظ الآتية: الهدم، التدمير، التجاوز، التخطي، التحطيم، التكسير، الخلخلة.. إلى آخره . هدم ماذا؟ هدم السفلي الموروث! تحطيم ماذا؟ تحطيم التفعيلة "الوثن المقدس!" وهذا مصطلح ندعو الله أن يغفره للأستاذ إدوار الخراط ، ويقول أنهم أهدوا العالم " القصيدة المكتنزة " . ولم أفهم المقصود بها.وسألت عنها فلم يدلني أحد .
وشاعر حداثي ـ أنا أحترمه ـ أسمعني قصيدة فقلت له: يا فلان، ولكني لم أفهم كلمة واحدة؟! ضحك ملء فمه وقال: هذا هو المطلوب؛ لأنك لو فهمتها ما كان هذا شعرًا، يكفي أن القصيدة خلصتك من جوك , ووضعتك في جو آخر ذي عبير غامض.
فقلت له: "أنا لا أنخلع" يا فلان.. فهل تعتقد أنك تخلعني من موقع وتضعني في الموضع الذي يعجبك، فهل هذا هو الغموض الذي تدعون إليه؟ فقال: نعم. والأستاذ إدوار الخراط يسمى هذا: "الغموض الخلاق"، وكنت قد قرأت كتابه , فيه يقول: "وهؤلاء قد لجأوا إلى الغموض الخلاق؟" . وهنا أتساءل ـ وأنا لا أدري ـ كيف يكون الغموض خلاقًا؟! أنا درست في مبادئ علم النفس أن العملية النفسية : إدراك ووجدان ونزوع , فلا أستطيع أن أتفاعل بشيء إلا إذا أدركته، ولا أستطيع أن أتفاعل أو أن "أنخلع" إلى جو آخر إلا إذا فهمته أو إذا تفاعلت له ومعه، لماذا هذا الغموض المظلم المغلق..؟
علما بأن ابن الأثير صاحب "المثل السائر" قال: والقصيدة الحقة لا تعطيك مفتاحها مباشرة، ولكن لا بد فيها من الغموض، حتى يكد القارئ عقله ويجهد في فهمها." وهذا غموض يختلف تماما عن غموض الحداثيين .
وأنا في العملية التعليمية منذ أربعين عامًا ، ومع ذلك حاولت أن أفهم قصيدة واحدة من قصائد الحداثيين فما استطعت، قلت: ربما يكون العيب فيَّ، فوزعت قصيدة من هذا اللون على الطلاب في "كلية الألسن"، وطلبت منهم كتابة ملخص نثري للقصيدة، فما استطاع أحد منهم، طلبت منهم أن يضع أحدهم عنوانًا للقصيدة فما استطاع أحد منهم أيضًا، أريد أن أقول: إن مفهوم الحداثة عندهم ـ كما يقولون ـ : هو انقطاع الموروث الوثني، قضاء على التفعيلة الوثن.. إذن هنا انقطاع، والمسألة ليست مسألة تطور، والتطوير والتحديث في رأيي يجب أن يكونا على أساس نقدي معرفي عاقل .. لكن القصيدة الحداثيه لا يفهمها المتلقي، الذي هو أنا أستاذ الأدب، وكذلك أستاذ اللغة، وكذلك الطلاب . فهل يكتبون لأنفسهم؟!
وهنا لا أقول: النظرية الحديثة كذا؛ ولكن أنا اتخذ ملامح الحداثة من مصدرين الأول: هو الشعراء أنفسهم في التعامل مع هذه الأشياء التي يكتبونها، ومنها ما يسمى بقصيدة النثر، والمصدر الثاني هو النقاد الذين كتبوا عن الحداثة ، وأظهروا تعاطفًا معها فخرجت بأشياء غريبة جدًّا إذا أخذناها أقول: إنها لا يمكن أبدًا أن توصف بأنها عمل إبداعي، والإبداع يخاطب من؟ وهل المتلقي له اعتبار عندك؟ الإجابة عندهم: لا، المهم أني أنظم قصيدة ترسم جوًا معينًا. وأتساءل: كيف يحس إنسان بجو ما دون أن يفهمه؟!
وخلاصة الكلام ـ مع احترامي لكل الإخوة الحداثيين أو التحديثيين، (وهذا أدق) ـ : أقول: إن هذه الأشياء التي يفرزونها إنما هي تخريب، أو محاربة، أو ألفاظ من باب التحقير.
وفي هذا المقام أذكر أن هذا الرجل ـ كمال نشأت ـ انقطع عني ثلاثين عامًا، وأول ما قابلته سألته: هل نامت نهاد؟ وهي من أشهر قصائده التي عرفناه بها، وكنت قد حفظتها , وتلاميذي حفظوها قبلي.. ونترك أبا نهاد الشاعر الأصيل . ولننظر إلى شاعر حداثي مشهور لامع ، يقول في قصيدة يخاطب فيها حبيبته قائلاً:
ضعيني بين "..." ـ وأخجل أن أنطق الكلمة ـ واسقي رحمك خمرًا حتى ينجب سُكْرًا .
.. لقد أصابني الغثيان، وهذا ليس شعرًا ولا نثرًا.
وهنا عاد خيط الحديث إلى مدير الندوة فقال:
صال وجال الدكتور جابر قميحة , بدأ منطلقًا من أن الحداثة فرض وواجب إنساني، ووطني وديني، بشرط ألا تتناقض مع ثوابتنا القيمية والأخلاقية، ويبدو أن المشكلة أعم وأشمل من أن تكون قضية الحداثة قاصرة على التعامل مع مشكلات الثقافة العربية، والإبداع العربي المتعلق بالذائقة، وبالتلقي وبالمتلقي نفسه؛ ولأن المشكلة متعلقة بالإبداع وبالتلقي والمبدعين الذين حاولوا تطبيق هذه المفاهيم النقدية التي انتقدها الأستاذ الدكتور كمال نشأت والأستاذ الدكتوبر جابر قميحة ....كل أولئك يقودنا إلى القول بأن الطريق ما زال مفتوحا للمشاركة .
معنا اليوم شاعر حداثي كبير اسمه عبد المنعم رمضان، له آراء نظرية حول الشعر وحول القطيعة وحول الهدم والبناء، وقضية الجنس وحرية القصيدة. حاول أن يجعل بين مفهومه النظري وبين إبداعه قدرًا ما من التطابق في هذه الحالة نستمع إليه في حدود تجربته الشعرية.. كيف طابق بين مفهوماته النظرية وبين مشروعه كمبدع؟
المصدر:رابطة أدباء الشام