الإخوان .. وفلسطين
مقدمة
ولعل الذي يسر الحكومة سبيل هذا الاتهام وسهله عليها وأوجد بين يديها بعض الشبهات التي لا أدلة عليها .. هو عمل الإخوان وجهادهم في سبيل فلسطين . وإن كان هذا العمل هو انصع الصفحات وأمجدها في تاريخ دعوتهم – فقد احتاجت فلسطين الشقيقة إلي السلاح قبل التقسيم بأشهر ونشطت في جمعه بعض الهيئات وأذنت الجهات المختصة من طرف خفي بهذا الجمع وشجعت الإخوان علي التعاون مع تلك الهيئة باعتبارهم أقدر الناس علي بذل هذه المعونة لانتشار شعبهم وامتداد دعوتهم إلي كل مكان فأبلي الإخوان في ذلك أحسن البلاء وكانوا عند حسن الظن بهم .
وأعلن التقسيم ونشبت الثورة في فلسطين والتحم العرب واليهود في معارك شعبية وللإخوان في فلسطين أكثر من عشرين شعبة في الشمال والوسط والجنوب وتدفق سبل الآهلين من الفلسطينيين يريدون شراء الأسلحة من مصر وفتحت الحكومة المصرية لهم الباب وعقدت في الجامعة العربية عدة اجتماعات والفت لجنة لمساعدة الآهلين حتى يحصلوا علي ما يريدون وقبل الإخوان رسميا في هذه اللجنة وتطوع بعض شبابهم لهذه الغاية وتركوا مصالحهم وراءهم ظهريا وبذلوا في ذلك غاية المجهود وقدموا كل ما يستطيعون واحتملوا كثيراً من التضحيات المالية في هذه السبيل وبخاصة بعد أن عدلت الحكومة عن خطتها وصادرت كثيرا من المشتريات التي اشتريت لأهالي فلسطين بمعرفتهم أو عن طريق الإخوان وكان جزاء هؤلاء الإخوان أخيرا السجن وسوء الحساب وأقرت الجامعة العربية فكرة التطوع فتقدم إليها الآلاف من شباب الإخوان يريدون الموت في سبيل الله وظلت الجامعة والحكومة مترددتين بين الأقدام والإحجام والحماسة تشتد والنفوس تغلي مما دعا المركز العام إلي أن يبعث بمائة إلي معسكر قطنة بسورية وهي كل ما استطاع أن يقنع المسئولين هناك بقبوله ولكن ذلك لم يشف غلة الإخوان فاستأذنوا في إقامة معسكر خاص لهم بالقرب من العريش يمارسون فيه التدريب استعدادا لدخول فلسطين وأذنوا لهم بذلك وأقاموا معسكرا كبيرا يتسع للعديد منهم يزيد علي المائتين يمدهم فيه المركز العام بكل ما يحتاجون من أدوات وتموين وسلاح وعتاد بأذن الحكومة وعلمها حتى تم تدريبهم ودخلوا فلسطين في مارس 1948 أي قبل دخول القوات النظامية بأكثر من شهرين واحتلوا هناك معسكر النصيرات جنوبي غزة وكان هناك معسكر أحسن الأثر في رد عدوان اليهود وطمأنينة السكان وتحركت الحكومة وهيئة وادي النيل العليا لإنقاذ فلسطين وأعدت معسكرها بهايكستيب لتدريب المتطوعين تقدم إليه أكثر من ألف أخ انتخب منهم أكثر من ستمائة علي دفعات جهزتهم الحكومة ودخلوا مع القوات النظامية ووزعوا علي مختلف الجهات وظفروا بحمد الله بتقدير كل من عرفهم أو اتصل بهم أو رأي حسن بلائهم وإخلاص جهادهم . فقد رابط الإخوان في صور باهر وفي بيت لحم وعلي مشارف القدس واقتحموا رامات راحيل في جبهة الوسط واحتلوا معسكر النصيرات ومعسكر البريج ونسفوا مستعمرة ديروم واشتركوا في معارك عسلوج وحاصروا المسنة وبيروت أسحق وترددت نقطهم الثابتة والمتحركة في كل مكان في جبهة الجنوب واستشهد منهم قرابة المائة وجرح نحو ذلك وأسر بعضهم وكانوا مثال البسالة والبطولة والعفة والشرف والنزاهة وحب الاستشهاد فكان طبيعيا أن تحصل الحكومة علي بعض عتاد لم ينقل وأن تجد في بعض الأماكن بقايا من هذه المخلفات ولكن ليس معني هذا أبداً أن الإخوان المسلمين المؤمنين المجاهدين المحسنين قد أصبحوا خطرا يهدد سلامة الجيوش في الخارج وهم زملاءهم .
الدوافع الحقيقية في موقف الحكومة
مستحيل أن يكون الدافع الحقيقي لهذه الخطوات الجريئة من الحكومة مجرد الاشتباه في مقاصد الإخوان أو اعتبارهم مصدر تهديد للأمن والسلام وهو ما لم يقم عليه دليل حتى الآن .. والواقع أن الانجليز قد استغلوا ضعف الحكومة ووقوع بعض الحوادث مع اضطراب السياسة الدولية وقلق الموقف في فلسطين وتردد سياسة مصر بين الأقدام والأحجام فشددوا الضغط علي الحكومة وقد صرح بذلك سعادة عمار بك نفسه وأقر بأن سفراء بريطانيا وأمريكا وفرنسا قد اجتمعوا في فايد وكتبوا لدولة النقراشي في صراحة بأنه لابد من حل الإخوان المسلمين . وكان في وسع دولته أن يزجرهم عن مثل هذا التدخل في شأن داخلي بحت وأن ينظرهم حتى تظهر نتيجة التحقيقات أو أن يتعاون مع المسئولين في الإخوان علي إزالة هذا الوهم من أنفسهم ولكنه بدلا من ذلك استجاب لهذه الرغبة الأجنبية وأصدر قرار الحل فأشمت الأعداء وأحزن الأتقياء . وهكذا يقيم الشواهد كل يوم علي أن مصر للأجانب قبل أن تكون لأهلها منها نصيب وأن قادة شعبها لا مانع لديهم أن تقدم حرياتها قربانا لإرضاء السفراء ورعايا الدول التي طالما ناصبتنا العداء وأنزلت بنا البلاء ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . ويكون لما يشاع من قرب الاتفاق بين الحكومة المصرية والحكومة البريطانية أصل في هذه الخطوة أيضا كما قد يكون للموقف الحزبي والتأهب للانتخابات القادمة دخل ولا علم بالحقيقة إلا عند الله ، ولله عاقبة الأمور ..
التعسف في التنفيذ
ولقد كان الأمر العسكري غريبا في نفسه وفي طريقة تنفيذه فلا يمكن أن يقول إنسان بأن هيئة من الهيئات يستلزم اتهام كل من يتصل بها أو حمل اسمها بالحرمة والعدوان ومصادرته في حريته وماله وعمله ومهاجمته في كل مكان . ولئن جاز في عرف الأحكام العسكرية أن تحل الهيئات فما بال الشركات التي لا صلة بينها وبين الإخوان إلا مجرد الاسم مع تمام الفصل في كل الأعمال ونواحي النشاط أن شركة المناجم والمحاجر العربية وشركة الإعلانات العربية وشركة الإخوان للنسيج وشركة دار الإخوان للصحافة وشركة دار الإخوان للطباعة وشركة مدارس الإخوان بالإسكندرية .
كلها شركات لا صلة لها بالهيئة جمعت رؤوس أموالها من أفراد بصفتهم الشخصية فكيف يصح في ذهن أحد أن تصادر أموالها لا لشيء إلا أنها تحمل اسم الإخوان ؟! .
وهذه العشرات من الإخوان من كرام الشباب لماذا يعتقلون بغير جريرة ولا سبب وتمنع عنهم أدواتهم الضرورية ويلقي بكثير منهم في سجون الأقسام مع المجرمين أمثال " صبيحة وعنتر والسيشاوي " وغيرهم من أرباب السوابق ومعتادى الإجرام ويتركون فريسة للبرد والجوع ولا يسمح أن يقدم لهم الغذاء والغطاء .. وهذه الصحف الشخصية التي ليس لها صلة بالهيئة ولا تدعوا لفكرتها من قريب أو بعيد لماذا تصادر أصحابها وعمالها في أعمالهم وموارد رزقهم ولقد ضربت الرقابة الشديدة حول مسكن المرشد العام وأحيط بسياج من رجال البوليس الملكي مزودين بموتوسيكل حتى إذا دخل أو خرج خارج أدركوه فقبضوا عليه كائنا من كان وذهبوا به إلي أحد الأقسام حيث يقضي ليلة أو ليلتين أو ما شاء له حضرات الضباط ثم يعمل بعد ذلك تشبيه وتحر ويطلق سراحه أو يظل إلي ما شاء الله .
البقاء للعقيدة والمبادئ
هذا الأسلوب من الحرب النفسية لم تسلكه الحكومة مع الصهيونيين ولا مع أشد الأعداء عداوة للوطن والحرب علي أشدها ولم يعمد إليه الانجليز إبان الحرب الماضية ولكن لجأت إليه الحكومة مع الإخوان المسلمين . في هذا البيان حكم هذا الحل في فعله وآثاره كان هذا القرار فيما تعلم باطلا شكلا لأنه ليست هناك جماعة اسمها جماعة الإخوان المسلمين وإنما هناك جماعات اسمها أقسام البر والخدمة الاجتماعية للإخوان المسلمين وهناك هيئة الإخوان المسلمين العامة ولا شيء إلا هذين الاسمين . وباطلا موضوعا لأنه تجاوز لحقوق الحاكم العسكري الممنوحة له في مرسوم الأحكام العرفية ومناف لروح الغاية التي فرضت من أجلها هذه الأحكام فبدل أن تفرض علي الصهيونيين فرضت علي الإخوان خصوم الصهيونيين الألداء . لقد أوقف هذا الحل نهضة اجتماعية كبرى تهيأ لها شباب هذا الجيل من أبناء الوطن وأفضل العقائد وترك في النفوس أعمق الآثار وسيقول التاريخ كلمته ويظهر المستقبل القريب آيته ولن تستطيع القوة أن تمحو عقيدة أو تبدل فكرة " كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " " والعاقبة للمتقين " .