البنا والهضيبي وأخلاقيات الحوار 2
أ.د/جابر قميحة
مقدمة
عرفت الأستاذ أحمد منصور لأول مرة في باكستان ، حيث كنت معارًا من جامعة عين شمس ب القاهرة للعمل بالجامعة الإسلامية العالمية بإسلام آباد, كان ذلك عام 1988, وكان يعمل مراسلاً صحفيًا للعديد من الصحف والمجلات العربية, وكان للحق موفقًا في تغطية الحرب الأفغانية, ومسيرة الجهاد الأفغاني, وقدم كل أولئك في أربعة كتب قيمة.
ثم زادت معرفتي به, وتوثقت الصلة بيننا علي مدي سبع سنين ابتداء من 1990, وهو مدير لتحرير مجلة المجتمع الكويتية, وكنت أعمل بالتدريس آنذاك بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران ب السعودية , ولا أنسى له أنه كان يرحب بقصائدي, ويبادر بنشرها، وكذلك مقالاتي, ومنها ما جاء علي هيئة سلسلة من حلقات متتابعة, كسلسلة مقالاتي عن الإمام الشهيد حسن البنا, وسلسلة مقالاتي عن القذافي بعنوان "همسًا في أذن القذافي : إلا القصة يا مولاي".
وفي منتصف عام 1997 بدأ العمل في قناة الجزيرة ب قطر ،
واستطاع أن يدخل كل بيت ببرنامجيه «بلا حدود» و «شاهد علي العصر», وفي وضوح كتب أن برنامجه الأخير «يقوم علي استضافة صناع القرار السابقين من رؤساء دول ووزراء , ورؤساء تنظيمات وحركات سياسية لسماع شهادتهم, ومناقشتهم حول الدور السياسي الذي لعبوه خلال الفترة التي كانوا يتولون فيها المسئولية, ويكون بمثابة سيرة ذاتية مشاهَدة, وقراءة تاريخية جديدة لتاريخ العالم العربي خلال الخمسين عامًا الماضية.
ولم أجد فارقًا نوعيًا بين البرنامجين, وهذا لا يعيبهما ؛ لأنهما قدّما كثيرًا من المعارف التاريخية والسياسية والاقتصادية ، وألقيا إضاءات علي مساحات كانت مجهولة أو مظلمة في الوطن العربي والإسلامي.
ويعجبني في الأخ أحمد أنه لا يقدم حلقاته إلا بعد قراءة واسعة في موضوعه, وتسجيل لبياناته واحصائياته ومتعلقاته. وقد يكلفه هذا الاستعداد للموضوع الواحد أن يقرأ ستين كتابًا, وأن يعتزل أهله وأولاده - كما جاء علي لسانه- وقد يعوضه عن هذه المشقة حبه لمشاهديه حتي إنه لا يستهل كل حلقة, ولا ينهيها إلا بابتسامة عريضة جدًا جدًا, تمتد -كما يقول الأجانب- «من الأذن إلي الأذن» . وأقول: «وكذلك من الشفتين إلي العينين والحاجبين», مما يدل علي طيبة قلب, وحسن طوية, وسخاء سريرة.
أستاذنا فريد عبد الخالق.. عفوًا..
وقد استضاف الأستاذ منصور عشرات من القادة والسياسيين وكبار الاقتصاديين وأساتذة الجامعة والأمراء, وكان مهذبًا جدًا.. ولطيفًا جدًا, وظريفًا, ورقيقًا جدًا في الحوار مع شخصيات لها أثرها وبريقها, كالسيدة جيهان السادات, والأمير طلال بن عبد العزيز ، والدكتور عبدالله النفيسي والفريق سعد الدين الشاذلي ، وغيرهم.
وقد أحسن صنعًا إذ استضاف أستاذنا محمد فريد عبد الخالق (ابن التسعين عامًا, أطال الله في عمره) ليكون " شاهدًا علي العصر", والرجل عايش دعوة الإخوان من بداياتها, وعاش كل مراحلها , وامتُحن في الله بالسجن, فما هان, وما ضعف, ولا استسلم, وعاش دمث الخلق, واسع الصدر والأفق, عالمًا, كاتبًا, أديبًا, شاعرًا. كما كان -ومازال- مخلصًا وفيًا, حريصًا علي أدب النفس واحترام الآخرين, والرأي الآخر. لذلك يحبه إخوانه, ويحترمه ويقدره من عرفوه.
وقد شاهدت الحلقات التي قدمت في تلفاز الجزيرة وآخرها حلقة السبت .14/2/2004. وكنت أعتقد أن السيد أحمد منصور سيراعي في حواره مكانة الرجل وعلمه وسنه, وتاريخه «النظيف», فيتعامل معه كما تعامل مع من ذكرت آنفًا من ضيوفه, ولكنه - سامحه الله - حوّل الحلقات إلي محاكمة رديئة.. رديئة جدًا لهذا الشاهد الطيب السمح الكريم, وتشويه مرفوض جدًا لمسيرة الإخوان المسلمين, والأدهي من ذلك أن السيد أحمد منصور انطلق مجرِّحًا بلسانه -في حدة- رجالاً عظامًا هم بين يدي الله الآن, واستمرأ هذا التجريح المقيت, فقال عن المرشد الثاني الأستاذ حسن الهضيبي: إنه كان متعجرفًا.. متكبرًا.. جامدًا.. ضيق الأفق.. قاد الإخوان إلي التدمير.. و.. و..(!!!!)
ولم أصدق أن تصدر هذه العدوانية من «الأخ» أحمد منصور حتي إنني اتصلت هاتفيًا بعزيز من أصدقائه بعد إحدي الحلقات.. وسألته: أشاهدت الحلقة ؟ فأجاب: «لم أكمل مشاهدتها بعد أن ارتفع الضغط عندي إلي أقصي مداه..» ويتفق معنا ومعه في الرأي كثيرون من غير الإخوان.. لأن السيد أحمد مرق من حدود الموضوعية وتجاوزها بآماد بعيدة جدًا.
عدوانية بلا حدود..
وأنا لا أحجر علي حرية الأخ أحمد في أن يكون صريحًا, وأن يكون حرًا فيما يوجه من أسئلة, أو يبدي من اعتراضات. ولكن للصراحة حدودا أخلاقية, وللحرية ضوابط, وإلا تحولت إلي فوضوية وعدوانية, ولذلك أقول للأخ أحمد: إن انطباعي التلقائي, وانطباع الكثيرين, من الإخوان وغيرهم أنهم رأوا فيك رأسًا من رءوس أمن الدولة ، يلقي بالتهم جزافًا علي «الشاهد الطيب البريء» ، وعلي الأحياء والأموات في سخاء غريب.
كان في نبرتك – يا أخ أحمد - حدة غاضبة بلا لزوم ، وكنت تخاطب الرجل في «حسم» غيرمحمود :«أنت.. وأنتم.. فعلت وفعلتم» بينما هو يخاطبك بأدب جم.. وسماحة عجيبة بـ«حضرتك...» . كأن البريء عندك -يا أخ أحمد- متهم إلي أن تثبت براءته بشهادة الشهود, وقرائن الأحوال, واليمين الحاسمة.
لقد ظهر الإرهاق الشديد علي أستاذنا فريد عبد الخالق , ولكنه بحمد الله كان علي مستوي الأستاذية والقيادة والعلم والأبوة, بمنطق هادئ مهذب مؤدب سليم ، يمتح من حافظة قوية ثرية عامرة. ومن عجب أنك -يا أخ أحمد- كنت تختم الحلقة بعبارة " أستاذ فريد.. أنا أعلم أنني أرهقتك..".. يتلوها توديع رقيق ظريف للجمهور بابتسامة عريضة واسعة, من الأذن إلي الأذن, ومن الشفتين إلي الحاجبين.
مع المرجعية الطاهرة
يشدني مارأيت وما سمعت إلي المرجعية النقية السمحاء في عهد النبوة الهادية ، والسلف الصالح, أتنفس شذاها وأنا أري رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يواجه المخطئ بخطئه إلا إذا وجد للمواجهة المباشرة ضرورة من دين أو خلق, بل كان يجعل الخطاب بضمير الغائب, وبصيغة الجمع غالبا «ما بال أقوام يفعلون كذا.. وكذا». وهذا الأسلوب غير المباشر في التوجيه يدل علي أنه صلي الله عليه وسلم كان يحترم آدمية الإنسان, ولأن الهدف من التشريع الإصلاح لا التشهير. والتشهير بالمخطئ قد يدفعه إلي الإصرار علي السير في طريق الخطأ والخطيئة, وقد غضب علي خالد بن الوليد لأنه لعن الغامدية أثناء رجمها, بل فرّق بين امرأة وناقتها لأنها لعنتها. وكان يقول: «من لا يَرحم لا يُرحم», ويقول عن نفسه: «إني لم أبعث لعّانًا, ولكني بعثت داعيًا ورحمة, اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون». وعُرف عنه صلي الله عليه وسلم الحياء والأدب والبشاشة والتبسم في وجوه الآخرين حتي الذين أساءوا إليه. عن قيس بن جرير رضي الله عنه قال: «ما حجبني النبي صلي الله عليه وسلم (أي امتنع عن لقائي) -منذ أسلمت ولا رآني إلا وتبسم في وجهي» البخاري كتاب الأدب ".
وقد عرف المسلمون -علي مدي العصور- مكانته فأحبوه وجللوه, وتحدثوا عنه وله بأدب جم. سئل العباس رضي الله عنه: أيكما أكبر: أنت أم رسول الله صلي الله عليه وسلم ؟ فقال: هو أكبر مني وأنا وُلدت قبله.. ومن أدب الإسلام أن يُعرف للكبار وذوي الفضل والعلم مكانتهم, ويقدَّموا علي غيرهم, والآثار في ذلك أكثر من أن تحصر, وفي السطور الآتية نعرض بعضًا منها:
- قوله صلي الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا, ويعرف شرف كبيرنا» وفي رواية "حق كبيرنا".
- قوله صلي الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله تعالي: إكرام ذي الشيٍبة المسلم, وحامل القرآن غير الغالي فيه, والجافي له, وإكرام ذي السلطان المقسط» أي العادل.
- قوله صلي الله عليه وسلم: «ما أكرم شاب شيخًا لسنّه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنّه» أي شيخوخته.
- حتي أطفال المسلمين عاشوا مطبوعين علي توقير الكبار وذوي العلم والمكانة. فعن سمرة بن جندب قال: «لقد كنت علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم غلاما أحفظ عنه, فما يمنعني من القول إلا أن ها هنا رجالات هم أسنّ مني» متفق عليه .
كنت أتمني أن يأخذ الأخ أحمد بهذا المنطق الكريم الأصيل في تعامله مع الأستاذ فريد, وفي تناوله شخصية الأستاذ الهضيبي بصفة خاصة, وفي نقده لسياسة الإخوان, ولا يطلق أحكامًا حادة غالطة أعدها سلفًا, وكثير منها مبني علي النوايا الخفية التي لا يعلمها إلا الله. وكل أولئك استطاع الأستاذ السمح فريد عبد الخالق أن ينقضه بعقلية ناضجة, وروح سمح, وأدب جم.
الإمام الشهيد حسن البنا
وفي هذه السياقة أذكر كلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن تولي الخلافة: «إن خلافة أبي بكر كانت فلتة... ورحم الله أبا بكر لقد أتعب من يأتي بعده». ذكرت هذه الكلمات ونصب عيني شخصية المرشد الأول مؤسس الجماعة, وشخصية المرشد الثاني حسن الهضيبي رحمهما الله. وقد اعترف- وكذلك المرشدون الذين أتوا بعده - بأن شخصية البنا كانت «فلتة» لم تتكرر» ؛ فقد وهبه الله قدرات عقلية ونفسية وروحية, وطاقة فذة في الخطابة, وقدرات علي الإقناع والتسلل إلي القلوب, ومواصلة الدعوة, والتنقل في صبر وتحمل عجيبين بين المدن والقري وشُعب الإخوان شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا, فأحبه الإخوان حبًا متوهجًا, حتي قال عنه إحسان عبد القدوس: إنه الرجل الذي إذا عطس في أقصي الشمال شمّته (أي قال له: يرحمك الله) رجال في أقصي صعيد مصر.
أما الأستاذ الهضيبي المرشد الثاني فشخصيته هي شخصية القاضي الوقور.. الذي لا يصدر حكمه إلا في تؤد ة وتأن, بعد تمحيص ومراجعة, وبكلمات قلائل فيها من الإقناع أكثر مما فيها من الاستمالة ، فيها من المعاني والأفكار أكثر مما فيها من البلاغة, وتصوير فني أخاذ. مع صلابة واعتزاز بالحق والنفس. ولم يكن الأستاذ الهضيبي طارئًا علي الإخوان والدعوة الإسلامية. فقد عاش قاضيًا نزيهًا عادلاً متحمسًا للشريعة الإسلامية مطالبًا بجعلها قانونًا للبلاد, وذلك مسجل في مضابط مجلس الشيوخ المصري عندما كان ينظر تعديل القانون المدني. كما كان الأستاذ البنا أثناء المحنة -كما قال الأستاذ محمود عبد الحليم- «يتخذه صفيه ومستشاره وموضع سره, وكان لهما جلسات انفرادية بينهما في جمعية «الشبان المسلمين» . وطبعا لم يعلن الأستاذ البنا عن هذه الصلة حرصًا علي المركز الوظيفي للقاضي المستشار. وبإجماع اختير الرجل مرشدًا بعد إصراره علي الرفض لأنه كان يري أن «المهمة» أكبر وأقوي من أن تتحملها صحته, وكانت ولايته خيرًا, وبركة علي الدعوة والدعاة والأخلاقيات والقيم. بينما يري الأخ أحمد منصور أنه جاء لتدمير الدعوة والجماعة. ولنا معه وقفات تالية إن شاء الله.
المصدر:رابطة أدباء الشام