الجزء الأول من أحداث صنعت التاريخ
الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ
للأستاذ / محمود عبد الحليم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين ، وصلاة الله وسلامه علي رسوله الكريم ؛ محمد الذي أرسله إلي الناس كافة منقذًا ومصلحًا ومبشرًا ونذيرًا ، وأنزل عليه الكتاب الذي وصفه فقال :
" ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدي ورحمة وبشري للمسلمين " ، " وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، وإن كثيرًا من الناس لفاسقون ، أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ومن أحسن من الله حكمًَا لقوم يوقنون ؟ " .
وبـعـد :
فإن دعوة الإخوان المسلمين هي صدي الدعوة الأولي وليست بالدعوة المستحدثة ، فهي طور من أطوار الدعوة الإسلامية ظهرت في هذا القرن بظهور حسن البنا سنة 1928 .. وتتأهب في أيامنا هذه لطور جديد . والذي بين دفتي هذا الكتاب ليس تاريخًا لهذه الدعوة ،وإنما هي جوانب منها عاصرتها وشاركت في أحداثها وكنت جزءًا منها .. ولا أدعي أن هذه الجوانب هي كل جوانبها . ولا يستطيع أحد أن يدعي لنفسه مثل ذلك ، في دعوة بلغت من اتساع الرقعة حدًا يقصر عن الإحاطة بمداه نظر ناظر واحد – مهما قوي بصره – وتشعبت تشعبًا متابعته في كل اتجاه أمرًا مستحيلاً ، فحسب كل نظر أن يصف ما وقع في مجال نظره ، وحسب كل ذي موقع فيها أن يتحدث عما مكنه موقعه من الإحاطة به .. وبعد أن يصف الجميع ما رأوا ، وبعد أن يتحدث جميع ذوي المواقع فيها عما أحاطوا ، يأتي دور المؤرخين الذين يجمعون كل ما رأي الراءون وتحدث المتحدثون ليخرجوا من مجموعه بتاريخ لهذا الطور من أطوار هذه الدعوة .
والذي يتمرس هذا الطور من الدعوة الإسلامية سيجد نفسه أمام سلسلة متداخلة الحلقات من الأحداث ، وأقصد بالتداخل أنها ليست أحداثًا مترادفة يتلو بعضها بعضًا ، فكلما انتهي حدث بدا آخر ، بل إن أكثر من حدث قد يقع في وقت واحد ، ذلك بأن هذه الدعوة تعمل في أكثر من جبهة .. ومن هنا رأيت أن أقرر للقارئ – بادئ ذي بدء – حقيقة يجب أن أقررها هي أنني حين أكتب هذه الصفحات لن أكون مؤرخًا يجمع شتات الأحداث ، ويجري وراءها حيث كانت حتى لا يفلت منه شيء ، وإنما أنا أكتب عن أحداث وقعت بين يدي وشاركت فيها .. وقد أكون خالفت هذه القاعدة في نقطتين اثنتين : أولاهما ما كتبته عن أيام الدعوة في الإسماعيلية ، وقد راعيت فيه الاختصار التام ، وقد سمعته من الأستاذ الإمام نفسه ، والأخرى بطولات الإخوان في حرب فلسطين سنة 1948 ، وقد أثبت في بابها أني نقلت أكثر ما كتبته عنها من كتاب الأخ الكريم الأستاذ كامل الشريف الذي كان من كبار قادتها .
وتحليل الأحداث ، وإبداء الرأي في القضايا ، أمر لا مفر منه لإنسان عاصر هذه الأحداث وباشر هذه القضايا ، ولكن ليس من حقي أن أقرر أن تحليلي هو التحليل الأوحد ، وأن رأيي هو الرأي الأصوب ، فلكل إنسان أسلوب في التحليل ، ورأي فيما يعالج من قضايا .. وحسبي أنني بسطت المواضيع ، وألقيت الأضواء علي الظروف والملابسات ، وكشفت القناع عن كثير مما غشيه الغموض .. وهذه المعلومات الكافية لتغذية القوة الحاسبة في العقل البشري لتخرج لك الحكم الصحيح والرأي السديد . وليس المقصود من تسطير ما سطرت ، ومن سرد ما أوردت ، ومن الإشارة فيما أوجزت ومن الإفاضة فيما أسهبت .. هو إمتاع القارئ بقصة طولها خمسون عامًا ، يملأ بها فراغ وقته ، ويزيد معلوماتها مخزون علمه ، وإنما المقصود من ذلك أن أبرز له صور محددة المعالم للفكرة الإسلامية ، وأوضح له كيف حمل الفرد المسلم أعباء هذه الفكرة ، وكيف أخذ بها نفسه ، وكيف خاطب بها مجتمعه ، وأبين له كيف تلقت المجتمعات هذه الفكرة : فمجتمع الأكثرية المغلوبة علي أمرها من الفقراء والضعفاء ، تلقوها بترحاب ، ومجتمع الأغنياء والمترفين والحكام تلقوها برفض وصلف ، ومجتمع ذوي المصالح من المستغلين والمستعمرين تلقوها ومكر وتآمر – وأجل له الأسلوب الذي واجه به حامل هذه الفكرة هذه المجتمعات ، والصراعات التي نشأت خلال هذه المواجهات ، وكيف اشتدت ، وكيف احتدمت ، وكيف تفاقمت ، وإلي أية نهاية انتهت .
وقراء هذه المذكرات من أبنائها من هذا الجيل الجديد ، سيجدون أنفسهم حين يقرأونها أمام أحداث وشخصيات لا عهد له بأكثرها .. فهل يصرفهم ذلك عن قراءتها أم يكون ذلك حافزًا لهم علي الإقبال عليها واستيعابها ؟ .. فإذا صرفهم ذلك عن قراءتها فسيكون ذلك دليلا علي أن المؤامرة العالمية ضد الدعوة الإسلامية قد تم لها النجاح ، واكتملت لها أسباب الفوز ، فإن الحلقة الأخيرة في سلسة هذه المؤامرة هي إسدال ستار كثيف علي هذه الأحداث وعلي هذه الشخصيات ، ومحاولة محوها من صفحة التاريخ ، وإذا لم يكن بد من إبراز بعضها فليكن إبرازه في صورة مقلوبة أو مشوهة علي الأقل .. ذلك أن مدبري المؤامرة العالمية حريصون كل الحرص علي أن لا يعرف هذا الجيل والأجيال التي تليه أن هذه الأحداث هي التي صنعت التاريخ الذي يعيشونه .
ومن نافلة القول أن نقول : إن شعبًا يجهل حقيقة ماضيه محال أن يتطلع إلي مستقبل مشرق . والمعلومات التاريخية لا تؤخذ عن الطريق الرسمي ، لأن حرص الحكام علي استبقاء أزمة السلطة في أيديهم وفي أيدي شعبيتهم من بعدهم ، يدفعهم عادة إلي صياغة للتاريخ بالأسلوب الذي يحقق أمانيهم ويظهرهم في أعلي قمم العدالة ، ويظهر منا في أدني درك من الخسة والنذالة .. وهم لا يقتصرون في الصياغة علي تزوير الأحداث التي تجري في أيامهم فحسب ، بل تمتد أيديهم إلي الأحداث التي سبقتهم فيعلمون فيها المسخ والتزوير . ولو ادارك علمهم في أحداث المستقبل لزوروها لحسابهم .. ولكنهم مع قصور علمهم بأحداث المستقبل يتقون في أنهم سيطرون عليها بما زوروا من أحداث أيامهم وأحداث سابقيهم ؛ فعقول الجيل التي صيغت بالمعلومات المزورة ، وتشتت عليها وملئت بها أن تبني مستقبلها إلا علي ضوء ما ملئت به من زيف وتزوير ..
ومن هنا كان الخطر الداهم والكارثة المروعة .. ومكمن الخطر والترويع في ذلك أن هذا الجيل حين يتجه بمستقبل بلاده إلي الهاوية – إكمالاً للخط الذي رسم له في ماضيه وحاضره – يتجه واهمًا أنه متجه إلي الأمن والسلامة ؛ فهو لا يلتفت إلي محذر ، ولا يستمع إلي ناصح .. وأمثال هؤلاء أنبأنا القرآن عنهم وحذر انحدارهم إلي الهاوية وهم غافلون فقال وقل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا ؟ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " . وإذا كان الله عز وجل قد تكفل لكلمة الحق أن لا تطفأ شعلتها وأن لا يخبو ضوءها ، فهذا شأنه سبحانه وهذه مشيته .. أما أن يكشف معصوبو العيون العصائب عن أعينهم ليروا هذه الكلمة فهذا شأن آخر تركه سبحانه لعباده إن شاءوا رفعوها فرأوا ، وإن شاءوا أبقوا عليها وتشبثوا بها فظنوا في ضلالهم سادرين " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " وقد رتب علي هذا التخيير الثواب والعقاب وحدد يومًا للحساب " إنا أعتدنا الظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها " كما تحيط العصابة – التي يتشبثون بها – بأعينهم لتحاصرهم عن رؤية الحق وهم بذلك راضون وعن الحق ناكبون .
ومما ينبغي أن يعلمه القارئ أن هذه الدعوة .. علي مكانتها بين دعوات العالم ، ومع صراعها مع الظلم والطغيان في الداخل والخارج طيلة خمسين عامًا – فإنها لم تعن بجانب التسجيل عناية كافية والله لا يحس بخلوها من هذه الناحية الهامة إلا من عرض نفسه – لتسجيل أحداثها .. وقد يعزي ذلك إلي أن هذه الدعوة قد تملكت من أول يوم أفئدة من آمنوا بها وعاهدوا علي العمل لها ، بحيث لم تدع لأحد منهم فرصة يخلو فيها إلي نفسه ، أو يخلد فيها إلي راحته ، فهو دائب الحركة ، يواصل الليل بالنهار ، متنقلاً بين المجتمعات ، غارقًا في محادثات ومناقشات ، عاكفًا علي إعداد خطط ومناهج .. حتى إذا أوي إلي فراشه منهكًا لا تكتحل عيناه بنوم حتى تجتر مخيلته ما عاني طول يومه من حقوق الدعوة عليه .. ويصحو من نومه حين يصحو علي ما أوي إلي فراشه عليه من التفكير في الدعوة وحقوق اليوم الجديد ، فهو في سباق مع الزمن ، لا يفرغ لحظة من ليل أو نهار .. فأني لهؤلاء أن يسجلوا ؟! .
ثم كانت أحداث جسام ، وظلمات طال ليلها ، وقهر وكبت وتعذيب وإعنات .. طال الأمد علي الكلمة المسجونة في أغوار الذاكرة من عشرين عامًا ، حتى بات استخراجها منها أمرًا عسيرا ، واختلطت الكلمات في سجنها بعضها ببعض بفعل الزمن حتى لا يعد صاحب الذاكرة يعرف أيها السابق وأيها اللاحق ، وتداخلت التواريخ ، وأصبح صاحب الذاكرة علي خطر عظيم . هذه حقائق مرة واجهتها في أول يوم أمسكت فيه بالقلم لأسجل أحداثا لهذه الدعوة عاصرتها وشهدتها وساهمت في الكثير منها .. وجدت مخزون ذاكرتي علي ما صورت ، وحاولت الرجوع في شأن هذه الأحداث إلي مرجع فوجدت الساحة خاوية الوفاض .. أغفل الإخوان في غمرة لذاتهم في دعوتهم أن يولوا ناحية التسجيل أدني اهتمام .. ثم أتت يد الإثم والعدوان من عربدة الحكام علي الوثائق والمحررات والصحف في كل مكان خاص وعام ، فلم يبق شيء يرجع إليه أو يعتمد عليه .. حتى المكتبات العامة جردوها من كل ما يمت إلي هذه الدعوة بصلة .
وبالرغم من طول الأمد ، وترادف الأرزاء ، وانقطاع الصلات ، فإن الأحداث التي عاصرتها لم تند عن خاطري لأنها كانت فلذة من كبدي ، وقطعة من ذات نفسي ، وجزءًا من أعصابي ودمي ؛ فكيف أنساها ؟ .. ولكن الذي أعياني هو الترتيب الزمني لبعض هذه الأحداث وهو أمر جوهري لا غني عنه لمن أراد يسجل أحداثاً . ولم أجد أمامي إلا مراجعة الصحف اليومية التي صدرت في خلال أربعين عامًا مضت .. وقد عكفت علي مراجعة هذه الصحف ردحًا طويلاً من الزمن ، فوجدت فيها طلبتي في الترتيب الزمني لما في خاطري من أحداث .. ولقد أفدت من مراجعتي هذه الصحف فائدين ، أولاهما ترتيب الأحداث كما قدمت ، والأخرى نصوص بعض المذكرات والخطابات .. ومما يدل علي أن جانب التسجيل لم ينل حظه في دعوة الإخوان المسلمين ظهور كتاب في هذه الأيام يضم مذكرات الدعوة والداعية ، للأستاذ الإمام حسن البنا رحمه الله ، فقد جاءت هذه المذكرات برهانًا قاطعًا علي إغفال هذه الناحية الهامة ، فلم يسجل في هذه المذكرات عشر معشار ما مر بصاحبها من أحداث ، ولم يكن – رضي الله عنه – عاجزا من تسجيلها وتحليلها ولكن هكذا شاءت الأقدار .
وهذا الفراغ في ميدان التسجيل الذي رأيت دعوة الإسلام في هذا القرن تعانيه هو الذي دفعني إلي النهوض بهذا الواجب ملأ لجزء من هذا الفراغ ، وأداء لحق هذه الدعوة علي . وإعذارًا إلي الله في حق هذا الجيل والأجيال القادمة . ولقد تعرضت في هذه المذكرات لمعالجة نقاط ذات حساسية بالغة ، ربما تحاشي الكثيرون التعرض لها ، وحاولوا تفاديها . ولكنني آثرت التعرض لها مدفوعاً إلي ذلك بدوافع منها :
أن هذه النقاط – مهما بلغت درجة حساسيتها – هي جزء من تاريخ هذه الدعوة ، وكان لها آثار عميقة في هذا التاريخ ، وما كان ينبغي لعارض أحداث تاريخ أن يغفل جزءًا منه استحياء من ذكره أو طمسًا لمعالمه ، أو إهانة للتراب عليه حتى لا يراه الناس .. والتاريخ كما يقولون – لا يرحم . فإذا تعافي عنه أصحابه وأغفلوا فسيتولى نشره غيرهم .. وحينئذ لا يلام الناشرون إذا هم نشروه مشوهاً أو محرفاً .
ومن هذه الدوافع أنني كنت أكثر الناس ملابسة لهذه النقاط ، وأشدهم اتصالا بها ، وأقربهم رؤية لحقائقها ، فكان لزامًا علي أن أتعرض لها لأكشف النقاب عن كثير مما غاب عن الرائين ، وأن أميط اللئام عما خفي من ظروفها وبواعثها ، وأن أقضي حق للتاريخ في تمحيصها وتجليتها . ودافع ثالث هو أن ألفت النظر – نظر أصحاب الدعوات وأتباعها من الأجيال القائمة والأجيال القادمة – إلي أن إطلاق العنان للعواطف – مهما نبلت من العواطف ومهما حسن مقصدها – قد يجني علي الدعوات ومجتمعاتها . وأن السبيل الأقوم دائما فيما يتصل بالمجتمعات هو الاقتصاد في العواطف والسيطرة عليها والحد من انطلاقها . كما ألفت نظر القائمين علي شئون الدعوات الشريفة إلي أن تعلق نفوسهم بأبهة المناصب فيها ، ومحاولة الاستئثار بمواقع السلطة والنفوذ بها ، وقد يكون عاملا مدمرًا لهم ولها .. وأن هذه الدعوات لا يصلح لها إلا من يهبها قلبه كله ووجدانه كله .. أما الذين يتذبذبون بين نداء دعوتهم ونداء مصالحهم الشخصية أو العائلية ، فسرعان ما تشدهم الجاذبية الأرضية بمغرياتها فيهوون إلي القرار " واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلي الأرض واتبع هواءه .
ولما كانت الدعوة الإسلامية دعوة عالمية ، لم تأت لتخاطب طائفة معينة ، ولا لتعامل فئة محدودة ، ولا لنعالج قضايا زمن خاص أو مكان محدد ، فقد كان عليها أن يكون كتابها منشور لا يخفي صغيرة ولا كبيرة دون أن يبرزها بين يدي العالم كله .. فلا حجب ولا أسرار ، ولا خصوصيات يحتفظ بها وراء أستار .. ولقد تعرض القرآن الكريم نفسه لأحداث هي من أخص خصوصيات محمد صلي الله عليه وسلم وأسرته ، قد يتحاشى الكثيرون إذا وقع لهم مثلها أن يسمحوا بذكرها بل يحاولون إخفاءها حتى لا يطلع عليها الناس .. ولكن القرآن تناولها في آياته التي تتلي ليل نهار ، بل تناولها بالبسط والإسهاب وبالتحليل والتفصيل والتعقيب ، وخرج منها بقواعد عامة تنتفع بها المجتمعات .. وما نبأ حادثة الإفك ببعيد . وقد يكون من حق القارئ أن أعتذر إليه فيما قد يلاحظه في الصفحات الأولي من هذه المذكرات من أسلوب هو أقرب إلي الهدوء منه إلي الإثارة ... ذلك أنني .. كما قدمت – لست أتخير موضوعات لمجرد الإمتاع ، وإنما أنا ملتزم بالتمشي مع هذه الدعوة في أطوارها . فإذا كانت الدعوة في مهدها لا تزال تخطو حابية وئيدة – كدأب كل كائن وليد – فما كان لي أن أنتحل لهذا الوليد ما ليس من طبيعته وما هو فوق طاقته . وعلي القارئ أن يوطن نفسه علي أن الذي بين يديه في هذه المذكرات تاريخ حياة لا قصة من نسج الخيال ، ولكل طور من أطوار الحياة وخصائص ، فلا يتعجل ما ينشد من أحداث مثيرة ، فإن الوليد الذي تضرب فوقه الكلل ، وتسدل من حوله الستائر ، لن يلبث حين يشب أن ينبثق عنه فارس مغوار يأتي بالعجب العجاب ، ويأخذ بالقلوب والألباب .
وهناك قضية جديرة أن يضعها القارئ موضع التمحيص والمناقشة ؛هي أن يجنح كاتب المذكرات في ثنايا تسجيله لأحداث الدعوة ، ومواقعها إلي تناول بعض جوانب حياته ومعالم شخصيته .. فهل في هذا ما يمد خروجا عن الموضوع ، وانتقالاً بالقارئ من ميدان هيأ نفسه وفكره لاستطلاعه إلي ميدان آخر لا يعنيه أمره ؟ . أما أنا فأعتقد أن هذا الأسلوب هو الأسلوب الأمثل في كتابة المذكرات بل وفي تأليف الكتب عامة ، فإن القارئ حين يقرأ كتابا لا يعرف عن مؤلفه إلا اسمه ، يكون كالغريب الذي يرتاد مدينة واسعة الأرجاء ، مترامية الأطراف ، لا عهد له بها ، دون دليل معه من أهلها ، فقد يضرب في شوارعها وحاراتها وأزقتها علي غير هدي ، وقد يري من معالمها ما تقع عليه عيناه ، وقد يأوي في النهاية إلي مأوى فيها .. ولكنه في ذلك كله لا يشعر بألفة ولا بائتناس ، ولا يخرج بصورة واضحة عنها – أو يكون الذي يتخذ طريقه في الظلام بغير مصباح يكشف له معالمه ، ويدخل الاطمئنان إلي نفسه ، فهو يخطو ما يخطو متوجسًا خائفاً .
فتقديم المؤلف نفسه إلي قارئه ، وكشفه له عن بعض جوانب نفسه ، وإلقاء الضوء بين يديه عن شيء من معالم حياته .. يدخل الأنس إلي نفس القارئ ، ويبعث روح الألفة بينه وبينه ، فيسير في قراءة الكتاب وقد عقد مع المؤلف صداقة أتاحت لهما أن يكونا متلازمين في رحلة طولها طول الكتاب .. وكلما قرأ عن مؤلف أو حدث أو فكرة قرأها وهو يري جذورها التي تنبت منها وبذورها التي انفلقت عنها ، فلا تكون القراءة في هذه الحالة قراءة سطحية لا يصل أثرها إلي أعماق النفس . ثم إن حياة الدعوات ليست إلا حياة رجالها ودعاتها . والفصل بين حياتهم وحياتها أمر غير مستطاع لاسيما إذا كانت الدعوة قد شكلت حياتهم ، وسيطرت علي كل تصرفاتهم حتى فنوا فيها فصاروا وإياها كما قال الشاعر :
ومازلت إياها وإياي لم تزل
- ولا فرق بل ذاتـي لذاتـي أحبت
وموتي بها وجدًا حياة هنيئة
- وإن لم أمت في الحب عشت بغصة
وتقع هذه المذكرات بطبيعة موضوعها في ثلاثة أجزاء .. يعالج الجزء الأول منها الدعوة في عهد المرشد الأول ، ويعالج الجزء الثاني منها الدعوة في عهد المرشد الثاني ، ويعالج الجزء الثالث الدعوة فيما بين العهدين . ولما شرعت في تبويب الجزء الأول لاحظت أن أطوار الدعوة فيه مرتبطة بالأمكنة التي شغلها العام فجاءت بذلك أربعة أبواب . وقد وطأت المذكرات بمدخل قدمت فيه نفسي إلي القارئ ، وأومأت إلي تأثير نشأتي في اتجاهي الذي انتهي بي إلي دعوة الإخوان المسلمين ، والطريق الذي سلكته إليها . علي أنني وقد طرقت باب التسجيل في دعوة الإخوان المسلمين ، لا أدعي أنني ألمعت بكل شيء وحتى القليل الذي ألممت به لا أدعي أنني أوفيت فيه علي الغاية .. ولكنه جهد المقل .. وحسبي أن تحسست الطريق وارتدته لمن يرغب في سلوكه من بعدي . والله تعالي أسأل أن يجعل هذا المجهود لوجهه ، وأن يتقبله فيما يتقبل من العمل الصالح ، وأن يرفعه وينفع به ، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول ، وإنه نعم المولي ونعم النصير .
محمود محمد عبد الحليم
الإسكندرية 5 من شهر ربيع الأول 1398
12 من فبراير 1978
المدخـل
إلي متى تمضي بنا الأيام والسنون وعامل التسويف هو العامل المتصرف في حياتنا وأعمالنا ؛ فنفكر ثم نعزم ثم يقول عامل ما فنؤجل ، وتمضي الأيام سراعًا – وليتها تمضي مليئة بالعمل – ثم نتذكر فنفكر ، ونعزم ثم يكون التأجيل ... وما هو العمر حتى يتسع لعشرات من هذه الدورات التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ ؟! ..
وقد لا يكون موضوع التفكير والعزم مثيرًا وهامًا لأن أصحابه لم ينتهوا إلي النهاية المثيرة التي تستحق الإعجاب وتثير الاشتياق ؛ إلا أن الحكم بمجرد النهاية قد لا يكون حكمًا قاصرًا وظالمًا ، فقد يكون استعراض سلسلة الأحداث مما يغير رأي الذين لا ينظرون إلا إلي النهايات وحدها .... ثم إن اعتبار الهزيمة نهاية أمر فيه نظر ، فانهزام الأشخاص في حياة الدعوات واختفاؤها تحت التراب زمنًا حتى تطأها أقدام الغافلين طورًا من أطوار حياتها لا تستقيم حياتها إلا به .... وهذه ظاهرة فيما أعتقد وأعلم تلازم كل الدعوات علي اختلاف أهدافها وأفكارها .. وقد اعتبرها الإسلام سنة لم يستثن نفسه منها ؛ فتاريخ الدعوة الإسلامية منذ بزغ نوره تنتابه هذه السنة ... فمصباحه بين التبلج والخفوت حتى يظن أنه انطفأ .
والدوافع التي وراء المؤامرات التي تدبر للدعوة الإسلامية تنحصر عادة وتنبع دائمًا من حسب السيطرة الذي يستولي علي نفوس بعض الحكام سواء أكانوا من المنتسبين إلي الإسلام بحكم مولدهم أم كانوا من غير المسلمين ، يجد هؤلاء في الدعوة الإسلامية العقبة الكبرى أمام تحقيق مطامعهم في السيطرة لأن الإسلام بطبيعته ما جاء إلا لتحرير الإنسان والقضاء علي الاستبداد والاستعباد لغير الله . ولتوضيح ذلك يجمل بنا ونحن في مستهل الحديث عن طور من أطوار الدعوة الإسلامية أن نحاول تصوير هذه الدعوة تصويرًا مجملا ، مبرزين الخطوط العريضة المسكونة لهيكلها فنجدها ثلاثة هي :
أولا :العقيدة ثانيا : العبادة ثالثا : المعاملة .
أولا : العقيدة
هي حجر الأساس وهي الركيزة العظمي التي لا قيام للدعوة الإسلامية إلا عليها ، كما لا قيام لأية دعوة إلا عليها ... ولكل دعوة سواء أكانت دينًا سماويا أو وضعيا عقيدة ، وعلي قدر سلامة العقيدة ينجح العمل المبني عليها .. ونقصد بسلامة العقيدة موافقتها للفطرة للعقل والمنطق ، ومجافاتها للأوهام والتعقيد ، وتجاوبها مع الفطرة السليمة . وعقيدة الإسلام لله وحده ، هي ما نزل وما دعا إليه كل نبي ورسول سبق نبينا ، فهي نفس عقيدة المسيح عيسي وعقيدة موسي وعقيدة إبراهيم " قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل علي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " لا أن أطماع الدنيا وتسلطها علي نفوس من آلمت إليهم أمور الإفتاء في شئون الدين بعد الأنبياء فعلت فعلها فجعلت من هؤلاء الورثة أداة طيعة في أيدي المستبدين من الحكام فحرفوا في كتبهم وأخفوا منها وزادوا عليها حتى يستقر الأمر لهؤلاء الطغاة من الحكام " وقطعناهم في الأرض أممًا منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون . فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ، ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا علي الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " .
وكيف يستطيع حاكم مستبد أن يحكم قومًا وفي أعماق كل رجل منهم وامرأة وطفل مناد يهتف بهم في كل وقت من ليل أو نهار أن لا خضوع إلا الله وأن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وأن لا خوف إلا من الله وأن لا فضل إلا من عند الله " قل أغير الله أبغي ربًا وهو كل شيء " ، " وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو علي كل شيء قدير " ، " قل أغير الله أتخذ وليًا فاطر السموات والأرض وهو يُطعم ولا يطعَم " ، " أليس الله بكاف عبده ويخوفك بالذين من دونه " ، " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم " . " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " .
والعدالة بين الطغاة من الحكام وبين العقيدة الإسلامية مستحكم من قديم ، فهذا الحاكم المستبد الذي أحسن خطورة هذه العقيدة علي استبداده فاستدعي " إبراهيم " عليه السلام وهو في غرور سلطته وأدار معه حوارًا علي النحو الذي ورد في الآية الكريمة " ألم تر إلي الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ، إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " وينهزم الحاكم المستبد حين يدخل مع العقيدة الإسلامية في الحوار فيطيش صوابه ولا يجد في حصته إلا البطش والإرهاب فيأمر بإحراق صاحب هذه العقيدة لعلها تحترق باحتراقه وتبيد ويستريح منها ولا يجد أمام استبداده عائقًا يقف في وجهه " وإبراهيم إذ قال لقومه أعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . إنما تعبدون من دون الله أوثانًا وتختلفون إفكًا ، إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون " ، " فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو احرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون . وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانًا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضًا ومأواكم النار ومالكم من ناصرين " .
والقارئ حين يقرأ قصة موسي وفرعون ويري القرآن يقلبها بين صفحاته وفي ثنايا سوره علي كل وجه من وجوهها ليبرز من معاني الظلم والاستبداد ومن ألوان الزهو والكبر والغرور من فرعون وحاشيته ومن أفانين الاضطهاد والتعذيب وأصناف التنكيل والإبادة الموجهة إلي العقيدة الإسلامية التي كان يحملها في ذلك الوقت قلة من بني إسرائيل ... هذا القارئ سيبين له لماذا يكن الملوك المستبدون والحكام الطغاة الكراهية لهذا الكتاب ولماذا يحيكون ضده المؤامرات فهو يؤجج ثورة عارمة ضد كل مستبد ظالم " طسم . تلك آيات الكتاب المبين . نتلو عليك من نبأ موسي وفرعون بالحق لقوم يؤمنون . إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم إنه كان من المفسدين . ونريد أن نمن علي الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم الوارثين . ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " .
ورسالة موسي رسالة واضحة صريحة ، لا تخرج عن كونها دعوة لإنقاذ شعب اضطهده حاكم مستبد لا لشيء لأنه مستمسك بعقيدته التي تتعارض وطغيان هذا الحاكم " فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين . أن أرسل معنا بني إسرائيل " . ويحس فرعون من موسي قوة وصلابة فيحاول استمالته فيقول له " ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين " ... وقد يلين الرجل إذا ذكر بهذا الفضل الذي لا يجحد في كل موقف إلا في موقف واحد هو موقف يتعلق بالعقيدة التي لا مساومة عليها فيرد عليه موسي فيقول " فعلتها إذن وأنا من الضالين . ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكمًا وجعلني من المرسلين ثم يقرر موسي مبدأ خطيرًا بأن استعباد الناس جريمة يذهب مع فظاعتها كل فضل أتاه المستبد فيقول " وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ".
ولسنا بصدد السير مع قصة موسي وفرعون بكل الوجوه التي قلبها القرآن ، فإن ذلك مجال جد فسيح ن وإنما قصدنا إلي إيراد وجه من هذه الوجوه لندرك منه مدي خطورة هذه العقيدة علي طموح المستبدين وآمال الطغاة الظالمين ، وكيف أن هذا الكتاب بما جاء به من عقيدة هو تحد دائم لا ينشي وسيف مصلت لا ينثلم وحده في وجه الطغيان والاستبداد .
ثانيا : العبادة
لاشك في أن العبادة وليدة العقيدة ، وكل عبادة ليست وليدة عقيدة إنما هي نوع من النفاق لأن العبادة هي اقوي أنواع مظاهر الاعتراف بالفضل ، ومظاهر الاعتراف بالفضل كثيرة متنوعة ، ولكن قمة هذه الأنواع الاعتراف بالعبودية لصاحب الفضل . ويحث الإسلام الناس على الاعتراف بالفضل للمخلوقين بجميع مظاهر الاعتراف إلا بمظهر العبودية الذي حرمه على الناس ألا لله وحده وجعل الاعتراف بمظهر العبودية لغير الله شركا لا يغفره الله (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر من دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد أفترى إثما عظيما )) (النساء 48) .
والمقصود من العبادة أولا أن يرى الله تعالى من عباده مدى امتثالهم لأمره . والامتثال هو نوع من الطاعة إلا أنه أعلى درجاتها ؛ فإذا كانت الطاعة هي تنفيذ الأمر فيما يسيغه العقل ويسلم به المنطق فإن الامتثال هو الصدوع بالأمر لمجرد أنه أمر ، وكل مبرراته الثقة الكاملة في الذي أصدره . فإذا أمرنا الله تعالى بخمس صلوات في اليوم والليلة في مواقيت محددة وكل منها ركعات محددة فإذا هذا التوقيت وهذا التحديد إذا عرضا على العقل والمنطق لم يجدا لهما تعليلا ولا تبريرا ؛ فالتزامك بأداء هذه الصلوات بهذا التوقيت وهذا التحديد هو امتثال لأمر الله لأنك تؤديها لمجرد أنه أمر من الله عز وجل الذي آمنت به من قبل عن طريق العقل والمنطق وفى الامتثال معنى العبودية الكاملة التي أرادها الله حيث يقول (( وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون )) (الذاريات 56) .
والمقصود الأخر من العبادة هو أن تكون وسيلة للتعرف على الله والتقرب إليه واستمداد العون منه باعتباره سبحانه هو وحده القادر الوهاب الفعال لما يريد .. وإذا كانت الحياة الدنيا بشرورها وغرورها مسلطة على قلب الإنسان . وإذا كان الإنسان بطبيعته لا يقوى على مدافعة هذه الشرور وهذا الغرور وقد قال الله تعالى في شأن الإنسان (( يريدا لله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)) ( النساء 28) فما كان أحوجه إلى ركن شديد يأوي أليه وإلى سند منيع يفزع إليه ؛ فكان من فضل الله على عباده إن أتاح لهم فرصا للفزع إليه والاستمداد منه ؛ فشرع لهم العبادة صلة بينهم وبينه وبابا يهرعون إليه كلما حزبهم أمر أو قست عليهم نوائب الحياة (( ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين . ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين )) (الذاريات 50 - 51 ). (( يا عبادي اللذين آمنوا إن أرضى واسعة فإياي فاعبدون )) (العنكبوت56) ... ولذا فإن المؤمن لا يتطرق اليأس إلى قلبه مهما ادلهمت عليه الخطوب وأظلمت في وجهه سبل الحياة .. وكيف يجد اليأس سبيلا إلى قلبه وهو يسمع واهب الحياة ومدبر الآمر وصاحب الملك كله يناجيه فيقول (( ورحمتي وسعت كل شئ فساكبتها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون )) (الأعراف 156 ). ويقول (( يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين . قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )) ( يونس 57 -58) . ويقول (( وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادي في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين )) (الأنبياء 87-88 ).
والعبادة تلعب الدور الأكبر في تكوين الأمة ؛ لأنها تكون الفرد وتصقل روحه وتصفى قلبه وتزكى نفسه وتغسل بما فيها من مناجاة الله صدره . فهو بها دائم التذكر لربه دائم الخوف من عذابه ، دائم الشوق إلى جنته ، يرى الجنة دائما عن يمينه والنار عن شماله ؛ ومثل هذا لا يصدر منه إلا فضائل الأعمال ... وما الأمة إلا مجموعة من الأفراد (( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) (آل عمران 110 ) .
والفرد المسلم في هذه الحالة لا يندفع إلى قول أو عمل من صميم قلبه لا من آمال تتعلق بمتاع الدنيا ، وكلم شدته الدنيا إلى متاعها ، وجرته إلى مغرياتها ، وحاولت تلويثه ببهرجها ، وكادت تغمسه في فتنتها ؛ سمع المؤذن ينادى إلى الصلاة فكان الآذان تنبيها له من غفلته فيترك ما هو فيه شان ويجيب النداء فيتوضأ ويقف بين يدي ربه فيذكر الله بلسانه فينبه لسانه قلبه ثم يستعرض في صلاته عظمة ربه وجلال فضله وشدة عذابه وواسع مغفرته ومدى رقابة الله عليه ومدى احتياجه إلى عونه فيخرج من الصلاة خلقا آخر كأنما اغتسل من قذر ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول (( أرئيتم لو أن بباب أحدكم نهرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يترك ذلك من درنة شيئا ؟ قالوا لا قال ذلك مثل الصلوات الخمس )) وكما يقول الله تعالى في الزكاة (( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها )) (التوبة 102) . وكما يقول في الصيام ((يأيها اللذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على اللذين من قبلكم لعلكم تتقون )) (البقرة 183)(( ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج ((من حج فلم يفسق ولم يرفث رجع كيوم ولدته أمه)) .
والأمة التي يتجه زعماؤها وحكامها في تربيتها إلى غير هذا الطريق إنما هي أمة تائهة ؛ لأن القوانين - مهما تضمنت من عقوبة – لا تردع الفرد متى استطاع التهرب من طائلتها فإن حراس القانون لا يستطيعون مراقبة كل فرد في كل وقت وفى كل مكان . فإذا لم يكن للفرد رقابة على نفسه من نفسه فهيهات أن تجدي القوانين ... وهذه الرقابة النفسية إنما هي الأثر المباشر للعقيدة والعبادة . فالعقيدة تزرعها فى النفس والعبادة نتعهدها فترويها وتنميها والى ذلك يشير قوله تعالى (( وما تكون فى شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون عن عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين )) (يونس 61) . والتهرب من القانون وحراسة أمر سهل وميسور ، أما التهرب من الله عز وجل فأمر غير مستطاع ولذا فإن القرآن قد جعل الإيمان باليوم الأخر شرطا لا يقوم الإيمان إلا به ففي فاتحة الكتاب التي يرددها المسلم كل يوم سبع عشرة مرة فى صلاته يقول (( الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم مالك يوم الدين)) ويوم الدين هو يوم الحساب ... وفى أول سورة البقرة جعل أول وصف للمتقين الإيمان بالغيب وهو الحساب والجنة والنار (( ألم . ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب )) وأشار القرآن الكريم أن انفراط العقد وحبوط العمل إنما سببه ومرده عدم الإيمان بلقاء الله حيث يقول (( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون )) ( يونس 7-8) .
والأمة الإسلامية التي تربت على هذه الأسس أثمرت فيها هذه التربية ثمرا ستظل روعته مضرب المثل فى التاريخ ؛ وحسبنا أن نذكر مثالين أو نموذجين : فهذا (( ماعز)) وقد زل فأتى خطيئة لم يره أحد حين أتاها ولم يعلم بها أحد ويعرف فظاعة عقوبتها ويعرف أنه أصبح بمنجى من هذه العقوبة لكنه مع ذلك نراه يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له رسول الله : لقد زنيت . فيحاول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصرفه عن هذا الاعتراف فيقول له : لعلك قبلت فيقول : لا لقد زنيت حتى يقول له : لعلك فاخذت فيقول : لا لقد زنيت ويصر على قوله ويطلب تنفيذ الحد عليه فيأمر رسول الله به فيرجم بالحجارة حتى يموت . فيصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرى من عمر تخلفا عن الصلاة عليه بدعوى أنه زان ؛ فيغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول (( لقد تاب والله توبة لو وزعت على أهل الأرض لو سعتهم )) .
وفى موقعة القادسية لما دخل المسلمون إيوان كسرى وزالت بذلك دولة الفرس وأرسلت الغنائم إلى المدينة ووزعت الغنائم كما شرع الله ولم يعد أحد يشك فى أن كل ما غنم قد سلم إلى بيت المال ؛ تقدم جندي من جنود الموقعة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وسلمه أثمن ما كان يملكه كسرى ؛ سيفه ومنطقته وزبر جدته . فنظر إليها عمر وقال قولته المشهورة (( إن قوما أدوا هذا ولم يستأثروا به لذووا أمانة )) .
ثالثا : المعاملة
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (( الدين المعاملة )) . وما من دين أنزله الله وما من نبي أرسله إلا وهو يدعو إلى حسن المعاملة بين الناس بعضهم مع بعض . ولكن الدعوة إلى حسن المعاملة كانت فى كل ما سبق الدعوة المحمدية دعوة مجملة أو مركزة في ناحية واحدة ؛ فدعوة هود كانت مركزة فى النهى عن التطاول فى البنيان وفى الاقتصاد فى البطش والجبروت .. ودعوة صالح كانت مركزة فى النهى عن الرفاهية وفى الدعوة إلى العدالة فى اقتسام مياه الري ... ودعوة لوط كانت مركزة فى النهى عن إتيان الفاحشة ... ودعوة شعيب كانت مركزة فى النهى عن الغش فى الكيل والميزان ... وهكذا حتى بلغت الإنسانية رشدها فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة بالكتاب الكامل الشامل فوضع لكل نوع من أنواع التعامل بين الناس حدودا مفصلة وقوانين محددة ؛ فوضع أسس تكوين الآسرة كما حدد حقوق الفرد نحو مجتمعه وحقوق مجتمعه عليه ، فعلاقة البيع والشراء والعلاقات التجارية والزراعية وحقوق المال وحقوق العمل كما نص على عقوبات للجنايات ... وحسبك أن تعلم أن أطول آية فى كتاب الله إنما نزلت فى معالجة موضوع الديون وكيفية كتابة وثائقها وهى الآية282 من سورة البقرة.
فالإسلام نظام كامل شامل لإدارة الدنيا فى جميع شئونها ونواحيها ،ولا يصلح أن يقتبس منه جزء يرفع به نظام خر فكل جزء منه مرتبط ببقية الأجزاء فإما أن يؤخذ بالنظام الإسلامي كله وإما أن يترك كله ؛ فإذا لم ترتكز قوانينه فى المال والجنايات والأسرة على أساسين من العقيدة والعبادة كانت هذه القوانين جسما بلا روح ... وهذا ما تعانيه بعض الدول الإسلامية التي ظهر فيها زعماء لم يفقهوا هذا المعنى فراحوا يدعون إلى الأخذ بالشريعة الإسلامية فى المال والجنايات فى حين أن شعوبهم فاقدة الأصل الأصيل من العقيدة والعبادة فانتهوا إلى مجموعة من المظاهر التي تنتسب إلى الإسلام تخفى تحتها نفوسا لا تمت بصلة إلى الإسلام وصدق الذي قال :
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبق ولا ما نرقع
ورحم الله أستاذنا الإمام فقد كان يقول : إن القاضي الذي صقلت نفسه التربية الإسلامية يستطيع بهذا القانون الوضعي أن يخرج لنا أحكاما تتفق مع روح الشريعة الإسلامية .. أما القاضي الذي ليس له نصيب من التربية الإسلامية فإنه حتى إذا حكم بالقانون الإسلامي فإن أحكامه تكون مجافية للعدالة وروح الإسلام ...
نعم لابد من أن تكون الشريعة هي قانون البلاد ، ولكن لابد من أن ترافق ذلك تربية إسلامية على أساس من العقيدة والعادة تكون الفرد المسلم الذي سيكون بمثابة الروح لهذه القوانين ، والذي يصبغ بشخصيته المجتمع الذي يعيش فيه أو يتصل به ، والذي يكون الأداة الفعالة للإبداع فى كل عمل يزاوله ، والذي سيعفى الدولة مما تتورط فيه الحكومات من إنشاء رقابة من فوقها رقابة من فوقها رقابات حتى تضمن من أفرادها أداء ما وكلته إليهم من أعمال إن محاولة الإصلاح عن طريق القوانين دون التربية الإسلامية لأفراد الأمة هو نوع من البناء على الرمال ... فإذا رافقت التربية الإسلامية الحكم بالشريعة كانت أحكام الشريعة فى هذه الحالة أشبه بالبذور تنزل على ارض أخذت حقها من الإعداد والري فأنبتت نباتا حسنا وجاءت بأطيب الثمر ... أما إذا نزلت هذه البذور - وهى فى أجود حالاتها - على أرض وعرة أو أرض سبخة لم تمتد إليها يد الإصلاح فان جودة البذور لن تغنى عنها شيئا وستموت على هذه الأرض ولست أقصد من هذا أن تنتظر الأمة الإسلامية فى عصرنا هذا ممثلة فى دولها حتى تتم تربية شعوبها ثم تبدأ بعد ذلك فى الآخذ بأحكام الشريعة الإسلامية .
وإنما الذي أقصده هو أن تتخلص الدول من تصور خاطئ سيطر على تفكير قادتها ، وهو أن النظام الإسلامي منحصر فى الأخذ بالقوانين الإسلامية ضاربة عرض الحائط بما سوى ذلك من أصول التربية الإسلامية القائمة على الأساسين الركينين من العقيدة والعبادة ... فهذه الدول تريد الأخذ بالقوانين الإسلامية فى الوقت الذي تنشر وسائل الإعلام فيها ليلا ونهارا وفى كل شارع وفى كل بيت الدعوة إلى الفساد والتهتك والانحلال الخلقي ... تريد الأخذ بقوانين الشريعة وهى تاركة لنسائها الحبل على الغارب لإغراء الشباب المجرد من أسلحة المناعة الخلقية ... تريد الأخذ بقوانين الشريعة وكبار موظفيها وصغارهم لا رادع لهم من خلق والقوانين الإسلامية وحدها لا تخلق الضمير ولا تنشئ الخلق .
إذا كانت هذه الدول جادة فى الأخذ بقوانين الشريعة فلتأخذ بها فى الوقت الذي تأخذ فيه بأساليب التربية الإسلامية لشعوبها حتى تكون قوانين الشريعة مدعومة بهذه الأساليب التي يظهر أثرها فى وسائل الإعلام وفى صفوف المدارس وفى مكاتب الموظفين وفى مسلك الرجال والنساء أما الأخذ بقوانين الشريعة وكل أجهزة الدولة سائرة فى خط معاكس لهذه القوانين فهو الذي نرفضه لأنه لن يعود على الأمة بفائدة ولا يكون إلا تشويها لسمعة الشريعة الإسلامية . ولعمري ما أيسر الحكم بالشريعة الإسلامية فإن ذلك لن يكلف الحاكم شيئا إلا أمرا بذلك يصدره . أما تربية الشعب وإعداده ليكون شعبا مسلما نعيش فى قلب كل فرد منه رقابة الله فإن ذلك هو الأمر العظيم الذي لا يقدر عليه كل أحد ولا يقدر عليه إلا كل عظيم من الناس ؛ لا يقدر عليه إلا لقدوة الحسنة . وتحول الفرد إلى أن يكون قدوة حسنة يقتضيه الكثير من التضحيات فهذه هي الوظيفة الكبرى للأنبياء ولا يقدر على ذلك من بعدهم إلا ورثة الأنبياء على أن لا يكونوا من الأدعياء.
النشأة
رأيت أن أبدأ بهذه العجالة التي ترسم الخطوط العريضة للفكرة الإسلامية ، والتي يتبين مهما مدى خطورة هذه الفكرة على ذوى المطامع من الجبارين والمستبدين والمستعمرين ؛ ولذا فإن الذي شرعها – عز جاره وجل شانه - شرع معها الجهاد لحمايتها والذود عنها وجعل هذا الجهاد ذروة سنامها كما جاء فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . هذه الفكرة بهذا التخطيط والشمول لم يكن لها - منذ خمسين عاما - وجود فى أذهان المسلمين فى أنحاء الأرض ، وإنما كان الموجود منها فى الأذهان نتفا وأجزاء .. وكان هذا نتيجة خطط محكمة أختطها الاستعمار الذي كان إذ ذاك مسيطرا على جميع البلاد الإسلامية ، وقد تمكن بهذه الخطط من مسخ الفكرة الإسلامية فى أذهان الناس فأصبحت العقيدة مجرد ألفاظ تلوكها الألسن فى حلقات الذكر فاقدة معانيها ؛ فمعنى تحدى الظلم الذي هو أبرز معاني العقيدة حل محله الدعوة إلى العزلة وتحريم التصدي للحاكمين مهما طغوا وظلموا بل وتحريم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فكانوا إذا رأوا أحدا يتصدى لذلك يقولون له : دع خلق الله فى ملك الله )) ، (( لا يقع فى ملكه إلا ما يريد)) (( يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون )) (المائدة 105 ) .
مع أن الانحراف بهذه الآية الكريمة عن معناها إلى عكسه هو الذي حمل أبا بكر رضي الله عنه وهو على المنبر أن يفسرها ويقول للناس (( إنكم تحملون هذه الآية على الدعوة إلى العزلة وترك الناس تفعل ما يشاء ألا إن معناها هو أن الله تعالى يأمر المؤمنين بأن لا سيروا فى ركب أهل الضلال مهما كثروا وقويت شوكتهم بل على المؤمنين أن يخالفونهم ويتمسكوا بكتاب الله ... وناهيك بالتمسك بكتاب الله وما فيه من حث على الجهاد ومقاومة للظلم والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
وكان الناس يؤدون العبادة بنفس هذا المعنى الميت ؛ فهي طقوس تؤدى وحركات وألفاظ يرثها جيل عن جيل ليس لها هدف ولا مغزى ... حتى الدروس فى المساجد لم تكن أكثر من حلقات للتسلية والإمتاع ... وبهذه الصورة لم يكن المستعمر وأذنابه من الحكام يعارضون فى بناء المساجد وفى إتيان الصلاة وإلقاء الدروس بها لأنها لم تكن مصدر إقلاق لهم بل كانت وسيلة من وسائل إشاعة روح التخاذل والإلهاء والخضوع فى الناس على حد ما كانوا يقولون : ليس فى الإمكان أبدع مما كان .
وكان الذين يفهمون الإسلام فهما صحيحا قلة من الناس . ومن فضل الله على أن أهلي وأسرتي كانوا من هذه القلة . لأنهم لم يتلقوه عن طريق رسمي فى مدارس الحكومة وإنما تلقوه من أصوله فى أمهات الكتب التى كانت تزخر بها مكتبتهم التى ورثوها كابرا عن كابر وكان كل جيل يزيد فيها . رأيت أن أبدأ بهذه العجالة التى ترسم الخطوط العريضة للفكرة الإسلامية ، والتي يتبين مهما مدى خطورة هذه الفكرة على ذوى المطامع من الجبارين والمستبدين والمستعمرين ؛ ولذا فإن الذي شرعها - عز جاره وجل شانه - شرع معها الجهاد لحمايتها والذود عنها وجعل هذا الجهاد ذروة سنامها كما جاء فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هذه الفكرة بهذا التخطيط والشمول لم يكن لها - منذ خمسين عاما - وجود فى أذهان المسلمين فى أنحاء الأرض ، وإنما كان الموجود منها فى الأذهان نتفا وأجزاء .. وكان هذا نتيجة خطط محكمة أختطها الاستعمار الذي كان إذ ذاك مسيطرا على جميع البلاد الإسلامية ، وقد تمكن بهذه الخطط من مسخ الفكرة الإسلامية فى أذهان الناس فأصبحت العقيدة مجرد ألفاظ تلوكها الألسن فى حلقات الذكر فاقدة معانيها ؛ فمعنى تحدى الظلم الذى هو أبرز معاني العقيدة حل محله الدعوة إلى العزلة وتحريم التصدي للحاكمين مهما طغوا وظلموا بل وتحريم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فكانوا إذا رأوا أحدا يتصدى لذلك يقولون له : دع خلق الله فى ملك الله )) ، (( لا يقع فى ملكه إلا ما يريد)) (( يأيها الذين آمنوا ليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون )) (المائدة 105 ) .
مع أن الانحراف بهذه الآية الكريمة عن معناها إلى عكسه هو الذى حمل أبا بكر رضي الله عنه وهو على المنبر أن يفسرها ويقول للناس (( إنكم تحملون هذه الآية على الدعوة إلى العزلة وترك الناس تفعل ما تشاء ألا إن معناها هو أن الله تعالى يأمر المؤمنين بأن لا يسيروا فى ركب أهل الضلال مهما كثروا وقويت شوكتهم بل على المؤمنين أن يخالفونهم ويتمسكوا بكتاب الله ... وناهيك بالتمسك بكتاب الله وما فيه من حث على الجهاد ومقاومة للظلم والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
وكان الناس يؤدون العبادة بنفس هذا المعنى الميت ؛ فهي طقوس تؤدى وحركات وألفاظ يرثها جيل عن جيل ليس لها هدف ولا مغزى ... حتى الدروس فى المساجد لم تكن أكثر من حلقات للتسلية والإمتاع ... وبهذه الصورة لم يكن المستعمر وأذنابه من الحكام يعارضون فى بناء المساجد وفى إتيان الصلاة وإلقاء الدروس بها لأنها لم تكن مصدر إقلاق لهم بل كانت وسيلة من وسائل إشاعة روح التخاذل والإلهاء والخضوع فى الناس على حد ما كانوا يقولون : ليس فى الإمكان أبدع مما كان .
وكان الذين يفهمون الإسلام فهما صحيحا قلة من الناس . ومن فضل الله على أن أهلي وأسرتي كانوا من هذه القلة . لأنهم لم يتلقوه عن طريق رسمي فى مدارس الحكومة وإنما تلقوه من أصوله فى أمهات الكتب التى كانت تزخر بها مكتبتهم التى ورثوها كابرا عن كابر وكان كل جيل يزيد فيها .
ولاشك فى أن أعظم عامل يؤثر فى حياة الفرد هو البيئة التى أحاطت به فى شأنه فإنها كفيلة أن تحدد له اتجاهه فى الحياة لأنها تسكب فى قرارة نفسه وتخلط مع مهجة قلبه وتحفر فى ثنايا عقله قيمها ومفاهيمها ... وهكذا نشأت فى بيئة تجمع بين الدين والعلم والأدب والوطنية ؛ فلقد كانت أسرتنا برشيد متميزة بكل هذه المعاني وكان لها مدرسة تخرج فيها جيل من الناشئين على يدي عمين لي كانا أمة كاملة للسمو البشرى بمختلف ألوانه ؛ فلقد كانا يعيشان لا لنفسيهما بل للمجتمع الذي نشآ فيه ، فكانا قادة كل حركة تقاوم الظلم والاستبداد والاستعمار . عاشا ما عاشا يبذلان ولا يأخذان ، وينفعان ولا ينتفعان .. لم يكونا من حملة الشهادات الدراسية لكنهما كانا طودي علم وأدب .
من آثار البيئة :
معذرة للقارئ فقد أكون شغلت جانبا من وقته بحديث قد لا يعنيه ولكن من حق أصحاب الفضل أن يذكروا ... وأعوذ إلى السياق فأقول ؛ فى هذه البيئة نشأت فوجدته بين يدي كتبا كانت غذاء لعقلي ومهذبا لطبعي . ورأيت بين يدي مثلا حيه لكثير من أروع ما رأت ؛ فلقد كان اتصالي بعمى هذين أكثر من اتصالي بأمي وأبى ... وكنت الابن الوحيد فى تلك الآونة للأسرة كلها فعمل كل بثي كل ما عنده ، وعلى تنشئتي على الصورة التى هي فى قرارة نفسه .. وقد هيأ لي هذا الاتصال أن أقرأ وأتا بعد فى سن مبكرة فى دراستي الثانوية كتبا ذات شأن كشرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ووفيات الأعيان لابن خلكان ورسالة التوحيد لمحمد عبده والعقد الفريد لابن عبد ربه والبيان والتبيين للجاحظ والكامل لأبى العباس المبرد كما قرأت ديوان امرئ القيس وديوان المتنبي وديوان البارودي والمعلقات السبع وغيرها من أمهات كتب الدين واللغة والأدب .
ويجدر بي فى هذه المناسبة أن ألفت النظر إلى الأدب العربي شعره ونثره والى ما ينطوي عليه هذا الأدب من توجيهات إلى السمو بالنفس عن الدنايا وإلى تبصير الإنسان بما يجعله إنسانا موفورا الكرامة . مرفوع الرأس محببا إلى الناس فهو يوضح له المواقع التى عليه أن يتجنبها وتلك التى يسلكها ويعلمه كيف يعامل الناس وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول (( إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة )) ويخيل إلى أن الحكمة الهادية لا يكاد يجدها المرء بعد كتاب الله وحديث رسوله إلا فى كتب الأدب نثرا وشعرا حتى إنه ليبدو لي أن الأديب حين يكتب وان الشاعر حين يقول الشعر تتولاه حالة يكون مهيأ فيها لنوع من الإلهام فتراه يضمن كلامه أو شعره حكما سامية وتوجيهات رائعة ينتفع بها قارئها وقد لا ينتفع هو بها ... ولعل فى هذا إشارة إلى قول الله تعالى (( والشعراء يتبعهم الغاوون . ألم ترأنهم فى كل واد يهيمون . وأنهم يقولون ملا يفعلون . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا)) .. (224-227 الشعراء)
وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم معلقة زهير بن أبى سلمى الشاعر الجاهلي التى منها :
ومن لا يصانع فى أمور كثيرة
- يضرس بأنياب ويوطأ بمنسـم
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
- وإن يرق أسباب السماء يسلـم
ومهما يكن عند امرئ من خليقة
- وإن خالها تخفى على الناس تعلم
قال عليه الصلاة والسلام " هذا من كلام النبوة " . وإنك لواجد في أشعار الشعراء من التوجيهات والحكم مالا تجده في غيرها وما يوجهك أحسن توجيه فحين تسمع قول الشاعر :
والنفس راغـبة إذا رغبـتها
- وإذا ترد إلي قلـيـل تـقنــع
نعرف كيف تسوس نفسك وتحملها على مالا يعيبك وتخرج بذلك من إسار العرف الذي يدعى أن النفس طبعت على طبائع لا يمكن التخلص منه وحين تسمع هذين البيتين :
بلاء لـيس يـعدله بـلاء
- عـداوة غيـر ذي حسب وديـن
يبيحك منه عرضا لم يصنه
- و يرفع منك فى عرض حصـين
تعرف كيف تعامل من لا خلاق لهم من الناس فلا تحتك بهم ولا تعاملهم معاملة الند بالند .......... وحين تقرأ :
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها
- هوانا بها كانت على الناس أهوانا
فهمت أن احترام الناس لك مرهون باحترامك لنفسك وذكر عن على كرم الله وجهه أنه لما بلغه وفاة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال : رحم الله أبا محمد فقد كان كما قال الشاعر :
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه
- إذا ما هو استـغنى ويـبعده الفقر
وأنشد النابغة الجعدى النبي صلى الله عليه وسلم شعره حتى وصل إلى قوله :
ولا خير فى حلم إذا لم تكن له
- بوادر تحمى صفوة أن يكدرا
ولا خير فى جهل إذا لم يكن له
- حليم إذا ما أورد الأمر أصدر
والشعر المأثور عن شعراء الجاهلية وشعراء الإسلام فى صوره المختلفة وأغراضه المتباينة يزخر بدرر من التوجيهات والحكم لا يمكن تعليل ورودها على ألسنة قائليها إلا بأن وضع الإنسان نفسه فى المجال الموسيقى للشعر يجعله فى تواؤم مع تلقى نوع من الإلهام .
وقد أردت بهذه الإلماحة إلى فضل الأدب والشعر فى توجيه الناس إلى المحامد وصرفهم عن المثالب أن ألفت نظر الجيل الناشئ إلى أن ينظروا إليها نظرتهم إلى منهل يعينهم على تكوين شخصيتهم المسلمة .
ولولا خصال سنها الشعر ما درى
- بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
ورضي الله عن الفاروق عمر الذي كان يقول : الشعر ديوان العرب .
التعلق بالقرآن :
إن النفس العربية ، في البيئة العربية ، وفي جو الأدب الرفيع الذي يدفع إلي السمو ؛ يجد المرء نفسه جاثيًا أمام كتاب الله العزيز ، ناهلاً من صافي سلسبيله ، مستروياً من عذاب مائة ... وهكذا وجدتني منذ الصغر وأنا في سن السابعة أجلس بين يدي كتاب الله ، أتلو منه وحدي والله وحده يعلم هل كنت في أول عهدي به كثير الخطأ في تلاوته أم قليله .. لأني لم أكن أتلو أمام غيري ... وقد خرجت في إحدى الأجازات الصيفية وأنا في تلك السن المبكرة أن ألتحق بأحد الكتاتيب في رشيد فلم ترقي طريقهم التي تعتمد علي الاستظهار والحفظ دون التلاوة ، فانقطعت عنه واكتفيت بالتلاوة المنزلية ؛ فكنت أقرأ المصحف بالترتيب ، ولم أكن – كما – كما قدمت – أوقن أنني أقرأ قراءة صحيحة إلا أنني تنبهت بعد فترة من الزمن – نحو خمس سنين – حين كنت في أوائل الدراسة الثانوية فوجدتني ماهرًا في تلاوته ، واستطعت في خلال دراستي الثانوية أن أجمع إلي المهارة في التلاوة الحذق في التجويد دون أن يكون ذلك عن دراسة منظمة لفن التجويد ؛ فاللسان العربي قادر بطبيعته مع القليل من التوجيه والملاحظة علي النطق الصحيح وإخراج الحروف من مخارجها الصحيحة ... وقد نكون مداومتي علي التلاوة دون انقطاع مما سهل لي هذا الأمر .
أول فراق لرشيد :
لم يكن برشيد فى ذلك الوقت مدارس ثانوية ، فكان على أن أرحل إلى الإسكندرية ، وكم كان ذلك شاقا على نفسي وعلى نفس والدي .. إلا أنني أفدت الكثير من هذا الفصال الذي فطمني عن عهد الطفولة وأحيا فى نفسي عوامل الرجولة والاعتماد على النفس ، وأوجدني فى بيئة ضممت مزاياها إلى مزايا البيئة التى نشأت فيها ... نعم كنت طالبا (( داخليا )) تعد المدرسة لي الطعام والمنام ووسائل النظافة لكن هذا ليس كل شئ فى الحياة ... لقد تعرفت على أقوام من شتى البلاد وخالقتهم وعاشرتهم وأضفت إلى أصدقائي التقليديين من أهل بلدتي أصدقاء آخرين من بلاد أخرى وكان ألصقهم بنفسي الطالب محمد جمال الدين نوح الذي كان والده زميل والدي وكانوا مقيمين فى الإسكندرية إلا أنه كان طالبا ((داخليا)) .
ومن أجمل مزايا نظام (( الداخلية)) تنظيم حياة الطالب ، فالاستيقاظ من النوم فى الصباح فى موعد محدد ، والإفطار الجماعي فى موعد محدد والغداء والعشاء كذلك والوجبات التى تقدم على مدار الأسبوع أنواع محددة ثم المذاكرة فى مكان محدد وموعد محدد وتحت إشراف يرشد ويعين ، ثم النوم فى موعد محدد .
كانت فترة دراستي الثانوية فى الإسكندرية فترة إنضاج فكرى وروحي لي : فلقد دخلت هذه المرحلة فى سن الثانية عشر وأنا مزود بشحنات من نور القرآن ، وبثقافة سياسية وأدبية - وقد أفردت لأول مرة دون من كنت أستمد منهم وأتلقى عنهم - فوجدتني مهيأ لدور قيادي فى هذه المدرسة . فبغير إرادة منى وجدتني قدوة يقتدي بي زملائي فى المدرسة ؛ فمصلاي التى كانت تلازمني بجانب فراشي جعلت كل من تهفو نفسه إلى الاستقامة والخير يتجه إلى ؛ ثم فى مسجد المدرسة - وكان مسجدا عظيما . وجدني أوجه زملائي .
ومما يدل على أن التدين لا يرتبط بدراسة معينة أن هذه المدرسة كانت نعج بمدرسي اللغة العربية والدين والمتخرجين فى الأزهر ودار العلوم ، ومع ذلك فلم يكن يصلى معنا فى هذا المسجد من المدرسين إلا مدرس احد هو الأستاذ عفيفي مدرس المواد الاجتماعية ، وهو الذي كان يؤمنا ، كما أن ناظر المدرسة حين رأى إقبال الطلبة على الصلاة فى المسجد انتدب الأستاذ عفيفي ليؤمهم .
ولا أنسى هنا أن أشيد بذكر رجل كان له فضل على كبير فى تنمية ثقافتي الإسلامية ، ذلك هو الشيخ محمد على أمين ، الفراش النوبي المختص آنذاك بمغسل المدرسة فقد كان هذا الرجل عالما عابدا ذا خلق ودين . وكان يقتنى أقيم الكتب ، فقد قرأت من كتبه غير قليل من زاد المعاد لابن القيم والفتاوى الكبرى لأبن تيمية وشرح مسلم للنووي والمجموع فى فقه الشافعي للنووي أيضا وغير ذلك مما غاب خاطري الآن يعد هذه المدة الطويلة ... وهو الذي دلني على تفسير القرطبي وقت أن بدأت دار الكتب المصرية فى طبعه .. كان هذا الرجل مهذبا كريم المعشر عالي النفس مثلا حيا للإسلام ، وكنت أحترمه كما أحترم أقرب أساتذتي إلى نفسي ؛ ولم يكن يدخر وسعا فى معاونتي على الإلمام بمختلف القضايا التى تتصل بالإسلام ... وكان عضوا فى جمعية أنصار السنة المحمدية بالإسكندرية ؛ ولهذه الجمعية مزايا لا تنكر ؛ أهمها أنها دلت المنتسبين إليها على كنوز من الكتب الإسلامية عفي عليها زمن التخلف الذي شمل العالم الإسلامي بضعة قرون ، ومن بينها كتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وكتب السنة عموما ؛ فقد كان من معالم تقهقر المسلمين فى القرون الأخيرة هجرهم كتب السنة والاكتفاء بتأليف المتأخرين ، وكان كل متأخر يعلق كلام سابقه حتى نسيت السنة فى غمار هذه التعليقات والمجادلات اللفظية .
ومن حق هذا الرجل على أن أنوه بفضله ، وأن أدعو الله له أن يحسن جزاءه لآن له عندي يا لا أنساها ؛ فإنه أحسن حين لقينى فى غمار عمله ضمن من يلقى من الطلبة أنى أهل لتوجيهه ، وكنت بعد فى سن مبكرة حوالي الثانية عشرة ، ومثلى لم يكن ليستطيع فى مثل هذا السنان يقرأ فى أمهلت كتب الفقه والسنة ، فكيف كشف هذا الرجل بنافذ بصيرته استعدادي للقراءة فى مثل هذه الكتب ؟ لقد كان رجلا متقد الذهن نافذ البصيرة ، كنت تقرأ فى قسمات وجهة ، وفى بريق عينيه ، وفى شحوب وجنتيه ، وفى وضاءة جبينه ، مع وسامة وهدوء ؛ كنت تقرأ فى ذلك سمة قوام الليل صوام النهار .
ومع أنه كان عضوا بارزا فى جماعة أنصار السنة المحمدية كما قدمت ، غير أنى - وقد عاشرته خمس سنوات - كانت كلها مدارسه ومناقشة لم أسمع منه كلمة واحدة عن آيات الصفات والاستواء ؛ مع أن أعضاء هذه الجماعة - وقد احتككت بهم فيما بعد فى القاهرة وكانت لي معهم تجارب ومواقع - لم يكن لهم حديث مع الناس حتى العوام منهم إلا عن هذه الآيات التى فرقت آراؤهم فى تفسيرها المسلمين وغرست بذور العداء فيما بينهم ... ولا عجب مع ذلك فى تجنب عضو بارز كالشيخ محمد على أمين الخوض مع الناس فى مثل هذه المواضيع فإن المنشغل بمهام الأمور لا جد وقتا لسفسافها وصدق البارودي إذ يقول :
ودع من الأمر أدناه لأبعده
- في لجة البحر ما يغني عن الوشل
لقد ازددت على يد هذا الرجل علما وفقها وتعرفت على رجال فى تاريخ الدعوة الإسلامية والفقه الإسلامي لا ينبغي لمسلم يتصدى للدعة الإسلامية أن يجهلهم كابن تيمية وابن القيم ومحمد ابن على الشوكانى وهو إمام يمنى من أهل القرن الثاني عشر الهجري أحيا بمؤلفاته ما أندثر من السنة ولعل أشهر كتبه (( نيل الأوطار )) .
وقد لا يكون خروجا عما نحن بصدده الآن أن نتوقف لحظة عند ابن تيمية .. فهذا الرجل وهو إمام الأئمة ليس له من الآثار ، فى عالم الكتب والتأليف ما يصلح أن يسمى (( بالفتاوى الكبرى )) ولا يخرج عن كونه مجموعة من الفتاوى صدرت عنه فى مناسبات متفرقة جمعها أحد تلاميذه ... ذلك أن هذا الإمام لم يكن همه موجها إلى تأليف الكتب وتصنيفها لأنه كان منشغلا بما لم يكن أحد يقدر عليه غيره وهو حمل لواء الدعوة الإسلامية ، فهو الذى هدى الله على يديه التتار حين تحدث مع زعمائهم فكان إسلام التتار من المواقف الحاسمة فى تاريخ الدعوة الإسلامية بل وفى تاريخ العالم ... لم يكن وقته يتسع للتأليف والتصنيف ولكنه استطاع أن يؤلف رجالا منهم ابن القيم الذى ملأ الدنيا كتبا ومؤلفات تعد من أعظم ذخائر المكتبة الإسلامية .
ولما كان ابن تيمية هو حامل لواء الدعوة الإسلامية فى عصره ، كان كثير الإتباع كما كان كثير الأعداء ، وأعداء الدعاة عادة هم من الحكام أو من اللائذين بالحكام ، وقد غلت مراجل الحقد فى صدور هؤلاء اللائذين من أدعياء العلم على ابن تيمية لالتفاف الناس حوله ، فوشوا به عند السلطان الذى أودعه السجن حتى مات فيه ، وانتهت حياته بما تنتهي به عادة حياة حملة لواء هذه الدعوة فى كل زمان .
بلورت دراساتي الخاصة فى منزلنا ثم دراساتي على يد الشيخ محمد على أمين فى المدرسة بلورت الفكرة الإسلامية فى رأسي بحيث تحددت صورتها تماما ، واختمرت هذه الفكرة ، ولم يكن بد بعد ذلك من أن أوضحها لزملائي ، وأتيحت لي الفرص واستجاب كثيرون وكثر المصلون وشعر الجميع سواء فى ذلك زملائي الطلبة وأساتذتي ورجال إدارة المدرسة بأنني الذى يمثل الدعوة الإسلامية ؛ فكانت المدرسة إذا رغبت فى الاحتفال بمناسبة تمت إلى الإسلام بصلة دعتني للاشتراك مع الإدارة فى تنظيم الحفل ، وكنت أؤم المصلين فى المسجد فى غياب الأستاذ عفيفي .. وكان المشرف على الداخلية - بعد أن هداه الله إلى الصلاة _ يرسل إلى كل صباح من يأخذ مصلاي ليؤدى عليها صلاة الصبح .
فى أجازة الصيف :
كان طبيعيا أن تكون أجازة الصيف فى رشيد فرصة سانحة لعرض الفكرة الإسلامية بالصورة التى اكتملت فى خاطري على أصدقائي وزملائي ... وكان مما هيأ لي أحسن الفرص أننا -أنا ومجموعة من أترابي - قد تعودنا على أداء أكبر عدد من أوقات الصلاة فى المسجد (( المحلى )) ثم ننطلق بعد صلاة العصر إلى الرمال فى خارج رشيد للتريض معا ... وكان زملاؤنا الطلبة الذين يكبروننا سنا قد أنشئوا ناديا سموه (( نادي الطلبة )) لم يكن نشاطه يتعدى الاجتماع فيه للمرح واللهو ولم يكن هذا أسلوبنا. .. فلما استجاب لي كثير من الأصدقاء والزملاء فكرنا فى إنشاء جمعية لنشر هذه الفكرة ، واستقرت الآراء على تسميتها : (( جمعية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر )) وقد اتخذت مقرا لها مؤقتا فى منزلنا حيث كانت مدرسة أعمامي تعمل نهارا ونستغل نحن المكان لنشاط الجمعية ليلا ... وقد عكفنا على وضع القانون الأساسي لهذه الجمعية ... ومع إننا كنا صغارا فإنني لازلت أذكر أن المواد التى تضمنها هذا القانون قد شملت كل الأهداف الإسلامية ، وأحاطت بما تحتويه من معالجة للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية واشرنا إلى وجوب إيجاد صلات بين المسلمين فى أنحاء الأرض باعتبارهم امة واحدة ... وكان هذا فى ذاته أمرا عجبا لان المسلمين فى ذلك الوقت لم يكونوا يفهمون الإسلام على هذه الصورة .
ثم انتقلت الجمعية إلى دار فسيحة فى وسط المدينة تبرع بها والد عضوين معنا وكان لهذه الدار فناء فسيح . وكانت الدار تزخر طيلة اليوم والليلة بعدد كبير من الطلبة وغير الطلبة من الشباب العامل فى مختلف الحرف ، وقد تعرف هؤلاء على الجمعية نتيجة ما كانت تقيم من حفلات تلقى فيها المحاضرات والخطب والقصائد كلها فى شرح الفكرة الإسلامية وفى إيقاظ الهمم لإحياء مجد الإسلام . فى صيف سنة تاليه كثر عدد الأعضاء وأقبلت عناصر جديدة كانت تستنكف من قبل أن تشترك معنا فلما رأوا نجاح جمعيتنا رأيناهم يأتوننا هرولة .
جمعية الشبان المسلمين برشيد :
ضاقت الدار التي كنا نشغلها بالوافدين الجدد الذين تركوا نواديهم إلينا ، وما كان لنا أن نرد قادما أو نرفض وافدا ؛ وسر إخواننا بهذه الوفود الجديدة ؛ ولكنني كنت منقبض الصدر لأنني كنت أعلم أن هؤلاء الوافدين لم يدفعهم إلينا إيمانهم بفكرتنا بل كان الدافع لهم أنهم رأوا لنا نجاحا أرادوا أن يستغلوه فى الظهور والبروز ... ولم يكن بد من فتح الأبواب لهم ، فلما استقر بهم المقام اقترحوا أن تتخذ الجمعية اسما آخر غير اسمها ، وصوروا للأعضاء الآخرين من إخواني وزملائي أن اتخاذ اسم مشهور يبرز الجمعية فى المجتمع ويعلى صوتها ويرفع مكانتها واقترحوا أن يكون الاسم الجديد هو جمعية الشبان المسلمين برشيد ، واستقر الرأي على ذلك .
وكان لي خبرة بجمعية الشبان المسلمين بالإسكندرية فى ذلك الوقت حيث كان لي زميل بالمدرسة مشتركا فيها وعضوا فى فريق كشافاتها وفهمت منه أن هذه الجمعية تهتم بالنواحي الرياضية ولا توالى الناحية الدينية اهتماما يذكر فلما جلسنا لوضع القانون الأساسي لهذه الجمعية اشترطت على اللجنة المنوط بها هذا الأمر - وكنت عضوا فيها - أن ينص على أن هذه الجمعية برشيد لا علاقة بينها وبين جمعية الشبان المسلمين فى القاهرة والإسكندرية وتمسكت بهذا الشرط حتى أجازته اللجنة .
واتخذت الجمعية لأول مرة مقرا مستقلا بأجر شهري وفى أبرز مكان فى المدينة واتسعت وذاع صيتها حتى أن النحاس باشا - وكان فى ذلك الوقت زعيم البلاد غير منازع - كان مدعوا فى حفل كبير أقامته لها لجنة حزب الوفد برشيد ، فلم يقم بعد انتهاء الحفل بزيارة لأي مكان أو لأية شخصية إلا هذه الجمعية ؛ والطريف أنه حين قدمنا له دفتر الزيارات ليكتب لنا كل كلمة فيه سألنا قائلا : هل جمعيتكم هذه فرع من جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة فنفينا ذلك وأطلعناه على قانون الجمعية وما فيه من نص على ذلك فابتسم وقال : لو كانت جمعيتكم فرعا من جمعية القاهرة ما قبلت أن أكتب لكم شيئا ومع أن الجمعية قد استكملت مظاهر الأبهة وتقاطر الناس على الاشتراك فيها أموالها إلا أنى كنت أرى عوامل الفشل تدب فى أعضائها وتنخر فى عظامها فقد كثر المتسللون إليها من ذوى الأغراض وطلاب المناصب وعشاق المظاهر وصار من الصعب مقاومتهم حيث صاروا أغلبية فحولوا الجمعية عن أغراضها ولم تعد أكثر من ناد يؤمه الفارغون والمتسكعون فقررت البعد عنها وأعلنت ذلك للجميع .
افتقاد الضالة المنشودة :
أعلنت انفصالي عن الجمعية التى أنشأتها ؛ وحملت معي فكرتي الإسلامية التى تمكنت من نفسي تمكنا جعلني أزن بها كل ما يعرض على ، وأقيس بها ما يقدم لي . ولم أخرج من هذه الجمعية وحدي بل خرجت بالمجموعة التى كنت بثثتها ما عندي من أحاسيس وأفكار ، ولم نكن هذه المجموعة من علية القوم ولا من اكبر مثقفيهم لكنها كانت مجموعة مؤمنة بما أؤمن به وتضطرم نفسها بما تضطرم به نفسي ، وهى المجموعة التى التفت حولي من أول يوم .
كانت وطأة الاستعمار على البلاد على أشدها ، وكان فى البلاد أحزاب يدعى كل منها أنه صاحب الفكرة المثلى لمقاومة الاستعمار فكان حزب الاتحاد ... وبدراسة هذه الأحزاب تبين لي أن الوفد أكثرها جدا وبذلا وتضحية ،واتصالا بالجماهير ومعاداة للملكية فركنت إليه ...
وظهرت في ذلك الوقت جمعية مصر الفتاة التى أنشأها الأستاذ أحمد حسين المحامى ، وكانت تصلنا فى المدرسة مجلتها (( الصرخة )) تفيض بالحماسة الدفاقة ؛ وكنت أميل إليها باعتبارها فكرة ناهضة إلا أنني لم أتخذها لي مبدأ وفكرة لأن نفسي كانت تشمئز من الانتماء إلى التراب ، واتخاذ مصر إلها نقدم له القرابين ؛ إذ كان مبدأها (( مصر فوق الجميع )) وهو ادعاء على غير أساس وتميز عنصري يستطيع كل جنس ادعاءه وما أنزل الله به من سلطان .
وكان (( لمصر الفتاة )) فى تلك الحقبة إنجاز يستحق التسجيل إذ كان لباس الرأس فى تلك الأيام هو الطربوش المصنوع من الصوف أو الجوخ الأحمر ، ولم يكن أحد يجرؤ على كشف رأسه أو تغطيتها بشئ آخر غير الطربوش ، وكان هذا الطربوش يصنع فى خارج البلاد . فنادي الأستاذ أحمد حسين بتمصير لباس الرأس وتكونت لجنة بمشروع سمته (( مشروع القرش )) يجمع من المواطنين قروشا لبناء مصنع فى القاهرة لصنع الطرابيش ونجح المشروع فعلا وأنشئ المصنع ولبس المصريون من إنتاجه واستغنوا عن استيراده .
كنت أميل إلى الوفد باعتباره الحزب الذى يقف للملك بالمرصاد ؛ إلا أنني كنت أحسن بأن فى الفكرة الإسلامية الغناء عن هذه الأحزاب ؛ ولكن الميدان فى مصر خلو من جماعة تبرز هذه المعاني السياسية فى الفكرة الإسلامية ... وهذا هو الذى كان يحملني على الانتساب إلى الوفد آملا فى أن أجد فى يوم من الأيام الجماعة الإسلامية التى تملأ هذا الفراغ .
إلى الجامعة فى القاهرة :
أول لقاء عابر لي مع الأستاذ حسن البنا :
بعد حصولي على شهادة الثانوية العامة نزحت إلى القاهرة للالتحاق بالجامعة التى كانت تسمى فى ذلك الوقت بالجامعة المصرية لأنها كانت الجامعة الوحيدة فى البلاد .. وكان أصدق صديق لي خلال دراستي الثانوية - كما قدمت - زميلي محمد جمال الدين نوح ، وكان والده زميل والدي وصديقه ... وقد توطدت الصداقة بيني وبين جمال إلى حد أننا لم نكن نطيق الافتراق ..... وكانت المدرسة قد رشحتني وجمالا أن نكون من العشرة الأوائل فى شهادة الثانوية العامة معتمدة فى ذلك على مقدرتنا العقلية إلا أن طبيعتنا فى عدم الصبر على الاستظهار لم تتح لنا الفرصة إن نكون من العشرة الأوائل كما أملوا فينا ولكننا حصلنا على مجموع لا بأس به .
لأول مرة فى حياتي سافرت وزميلي جمالا إلى القاهرة لنلتحق بإحدى الكليات .. وحين وصلنا إلى القاهرة قال لي جمال إن والده أوصاه أول ما يصل إلى القاهرة أن يزور صديقا له وكان فى يوم من الأيام تلميذا له أسمه ((الأستاذ حسن البنا )) وقال لي إن والده أعطاه عنوانه وهو 5 حارة الروم بالغورية وانطلقنا نبحث عن هذا العنوان فى أحشاء حي عريق فى القدم حتى وصلنا إليه فرأيناه بيتا من الطراز العتيق يشبه الربع وسألنا فيه عن الأستاذ حسن البنا فصعدنا عدة درجات من سلم جانبي ودخلنا غرفة كبيرة ثبت على جدرانها رفوف خشبية مملوءة بالكتب والمجلدات ورأينا مكتبا تحيط به الرفوف من كل جانب يجلس إليه شاب أبيض الوجه مستديرة و لحية سوداء يرتدى بدلة وعلى رأسه طربوش ؛ فكان منظرا عجيبا حيث لم يكن مألوفا فى ذلك الوقت أن يكون أحد معفيا لحيته إلا ويرتدى جبة وعمامة ... فلما رآنا ترك مكتبه وتلقانا بترحيب حار ، وقال إن الأستاذ محمد خلف نوح أستاذي ... وتحدث معنا فيما جئنا إلى القاهرة من أجله وشجعنا على مواصلة الدراسة وألح علينا أن ننزل فى ضيافته فشكرناه ؛ فطلب إلينا أن نتصل به فى كل ما يلزمنا وانصرفنا ؛ ولكن صورة هذا الرجل وحديثه وأسلوبه وأدبه وجلوسه وسط هذه الأكوام من الكتب واللافتة التى رأيناها تعلو باب البيت المكتوب عليها (( الإخوان المسلمين )) تشغل أفكارنا .
والتحقنا معا بكلية العلوم فكنا فى صدر المقبولين بها وخيرنا بين البقاء بها والانتقال إلى كلية الطب لكبر مجموعنا فرأى جمال البقاء فى كلية العلوم ورأيت أنا أن أحول أوراقي إلى كلية الزراعة وكان لهذا التحويل قصة قد ارجع إليها عند الحديث عن الشيخ طنطاوي جوهري إن شاء الله .
كيف تعرفت على الإخوان المسلمين
كنا آنذاك فى السنة الدراسية 1935- 1936 وكانت هذه السنة سنة نشاط سياسي كبير، إذ أعقبت بضع سنوات تولى الحكم خلالها إسماعيل صدقي وفعل - كما أفهمنا زعماء الوفد - بالبلاد الأفاعيل ، وكان من هذه الأفاعيل أنه ألغى دستور سنة 1923 ووضع دستورا بدلا منه سماه دستور سنة 1923 كنا ندرسه فى التربية الوطنية فى السنة الثالثة الثانوية وإن كنت الآن قد نسيت محتوياته إلا أنني أذكر أنه فى مجموعه كان يهدف إلى الحد من سلطة الشعب - وكانت الدولة المستعمرة - بريطانيا - تؤازر هذا الاتجاه ... وكنت فى مساء كل يوم أذهب إلى مقر حزب الوفد وكان يسمى (( النادي السعدي )) وكان يفد إليه خليط من الطلبة وصغار الموظفين والعمال والتجار كما كان أقطاب الحزب يحضرون ... وقد رأى هؤلاء نشاطي فى إقناع الوافدين من الطلبة بفكرة الوفد فأعدوا لي مكتبا بالنادي ... وفى تلك السنة أنشأ الوفد كتائب القمصان الزرقاء فكنت أحد أفراد أول نواة لها وكانت هذه النواة كلها من طلبة الجامعة والأزهر وكان يقودها طالب بكلية الطب اسمه محمد بلال .
أما اليوم الدراسي فى الكلية فكانت تتخلله فترات لا بأس بها من الفراغ كنت أستغلها فى إدارة نقاش سياسي مع الطلبة فى فناء الكلية ، وكان النقاش فى بعض الأحيان يحتدم ويطول ويزداد عدد الطلبة الملتفين حولي ومنهم من يلتف للاشتراك فى المناقشة ومنهم من يلتف لمجرد السماع والملاحظة وتنتهي أكثر هذه المناقشات عادة بكسب أنصار الوفد . وفى أثناء إحدى هذه المناقشات تقدم إلى طالب وآسر فى أذني أنه يريد أن يتحدث إلى حديثا خاصا بعد انتهاء المناقشة فى وقت مناسب ؛ وانتحيت وهذا الطالب جانبا فقال لي : أنا زميل لك بالسنة الأولى ومن الفيوم واسمي (( إسماعيل الخبيرى )) وأنا خالي الذهن عن أية أفكار أو مبادئ ، وقد استمعت إليك كثيرا وأعجبني أسلوبك فى المناقشة وأحس فيه الصدق والإخلاص ، وقد رأيت أن أسلمك نفسي لتوجهني إلى المبدأ الذي تختاره لي ... وأنا أراك تدافع عن الوفد فهل تختار لي أن أكون وفديا ؟ ...
فقلت لا ... فتعجب الشاب من هذا الرد الذي لم يكن يتوقعه ... قال : كيف تكون وفديا ولا تختار لي أن أكون كذلك ؟ ... قلت إنك شاب عديم الخبرة بالمبادئ والأفكار ، وقد استشرتني والمستشار مؤتمن . ولا أرضى لنفسي أن استغلك منتهزا فرصة خلو ذهنك لأحشوه بما أريد .
قال : إذن فماذا ترى ؟ ...
قلت : الذي أراه أن نذهب بنفسك إلى منتديات الأحزاب وتستمع بنفسك إلى قادتها وتناقشهم وتقضى فى كل ناد عدة ليال ، وتجئ كل صباح تقص على ما رأيت وما سمعت حتى إذا أتممت الجولة على كل النوادي نجلس معا لتقرر بنفسك الاتجاه الذي تسلكه ... قال إذن أرشدني إلى مكان هذه النوادي فأرشدته وكانت هذه النوادي هي: الوفد -الأحرار الدستوريون - السعديون - مصر الفتاة - الحزب الوطني .
ويجدر بي بهذه المناسبة أن أذكر أنني منذ أقمت بالقاهرة - وكان مقر دراستي وسكنى بالجيزة - كنت حريصا على أداء صلاة الجمعة دائما فى مسجد الرفاعى بالقلعة لأن خطيب هذا المسجد الشيخ محمود على أحمد كان خطيبا مفوها وكانت خطبة ذات اتصال بالحياة ، وكان رواد هذا المسجد الفسيح من أعلى طبقات القاهرة ثقافة ... وكنت الأحظ دائما بعد الصلاة فى مستهل الدرس الذي يلقيه الشيخ بعد الصلاة أنه كان يلفت نظر الحاضرين إلى شاب بين يديه مجلات يوزعها ويحثهم على اقتنائها فكنت أحد الذين يشترونها ... وقد تركت هذه المجلة فى نفسي - وكان اسمها (( الإخوان المسلمون )) - أثرا عميقا عندما وقع نظري على واجهتي غلافها ؛ فعلى وجهها وملء الصفحة رسمت الكرة الأرضية مركوزا عليها علم كتب عليه (( إنما المؤمنون إخوة)) . وتمسك بالعلم قبضة يد قوية كتب تحتها (( الإخوان المسلمون )) - أما ظهرها فيملأه ((أكلشيه)) بعنوان (( عقيدتنا )) تحته سبعة بنود يتكون كل بند من جزئيين أولهما مبدوء بكلمة (( أعتقد )) والآخر مبدوء بكلمة (( أتعهد )) ... وقد لخصت هذه البنود السبعة الفكرة الإسلامية كما تصورتها بجميع أبعادها . إلا أن ((التعهدات )) قد نقلت الفكرة المجردة إلى معترك الحياة فى جميع ميادينها ... وحرصا منى على انتفاع القارئ بهذه البنود رأيت أن أثبتها بنصها لأنها خير ما يصلح أن يكون دستورا ينظم حياة الفرد المسلم والأسرة المسلمة والأمة المسلمة فى أوجز العبارات وأدقها وأجمعها للمعاني .
عقيدتنا :
1- أعتقد أن الأمر كله لله - وان سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم رسله إلى الناس كافة ، وأن الجزاء حق وأن القرآن كتاب الله . وأن الإسلام قانون شامل لنظام الدنيا والآخرة .
2- أعتقد أن الاستقامة والفضيلة والعلم من أركان الإسلام .
وأتعهد بان أكون مستقيما أؤدي العبادات وأبتعد عن المنكرات ، فاضلا أتحلى بالأخلاق الحسنة ، وأتخلى عن الأخلاق السيئة ، وأتحرى العادات الإسلامية ما استطعت ، وأوثر المحبة والود على التحاكم والتقاضي ، فلا الجأ إلى القضاء إلا مضطرا ، وأعتز بشعائر الإسلام ولغته ، واعمل على بث العلوم والمعارف النافعة فى طبقات الأمة .
3- أعتقد أن المسلم مطالب بالعمل والتكسب ، وأن فى ماله الذي يكسبه حقا مفروضا للسائل والمحروم . واعهد بان اعمل لكسب عيشي ، واقتصد لمستقبلي ، وأؤدي زكاة مالي ، واخصص جزءا من إيرادي لأعمال البر والخير ، وأشجع كل مشروع اقتصادي إسلامي نافع ، وأقدم منتجات بلادي وبني ديني ووطني ، ولا أتعامل بالربا فى شأن من شئوني ، ولا أتورط فى الكماليات فوق طاقتي .
4- أعتقد أن المسلم مسئول عن أسرته وأن من واجبه أن يحافظ على صحتها وعقائدها وأخلاقها وأتعهد بأن أعمل لذلك جهدي ، وأن أبث تعاليم الإسلام فى أسرتي ، ولا ادخل أبنائي أية مدرسة لا تحفظ عقائدهم وأخلاقهم ، وأقاطع كل الصحف والنشرات والكتب والهيئات والفرق والأندية التي تنادى تعاليم الإسلام .
5- أعتقد أن من واجب المسلم إحياء مجد الإسلام بإنهاض شعوبه وإعادة تشريعه وان راية الإسلام يجب أن تسود البشر ، وأن من مهمة كل مسلم تربية العالم على قواعد الإسلام . وأتعهد بان أجاهد فى سبيل أداء هذه الرسالة ما حييت ، واضحي فى سبيلها بكل ما املك .
6- أعتقد أن المسلمين جميعا امة واحدة تربطها العقيدة الإسلامية ، وان الإسلام يأمر أبناءه بالإحسان إلى الناس جميعا . وأتعهد بان أذل جهدي فى توثيق رابطة الإخاء بين جميع المسلمين وإزالة الجفاء والاختلاف بين طوائفهم وفرقهم .
7- أعتقد أن السر فى تأخر المسلمين ابتعادهم عن دينهم ، وان أساس الإصلاح العودة إلى تعاليم الإسلام وأحكامه ، وأن ذلك ممكن لو عمل له المسلمون .
فكانت هذه أول مرة أصادف قوما يعتقدون ما أعتقد بتفاصيله ودقائقه ، فكان تجاوبا عجيبا ، ولكن تجربتي أسابقه فى جمعيات رشيد التي أشرت إليها قبلا ، أفقدتني الثقة فى الذين يدعون العمل للإسلام .
كان إسماعيل يقابلني فى الكلية كل صباح ، ويقص على ما سمع وما رأى فى ليلته الماضية وأناقشه ويناقشني ، ويخرج فى كل مرة برأي معين ونقيم لكل ما رأى وكل ما سمع .. حتى طاف بجميع الأحزاب والهيئات ولم أراه شعر برضا عن أي منها .. فوجهته إلى جمعيات إسلامية كانت موجودة ومشهورة منها جمعية مكارم الأخلاق والجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة ؛ فطاف بها جميعا ولم يخرج منها بشئ يرضى شغفه ويملأ فراغ نفسه ، وأحسست منه ضجرا مما قد يسلم إلى اليأس . ونذكر المجلة التي أشرت إليها آنفا فقرات عنوان الدار التي تصدرها وقلت له : لم يبقى فى جعبتي إلا جمعية واحدة قرأت عن مبادئها فأعجبتني وملأت نفسي لكن عندي سوء ظن بالناس الذي يعملون بالجمعيات الإسلامية نتيجة تجربة لي سابقة فسأعطيك عنوان هذه الجمعية لتذهب إليها لا لتناقش مبادئها وأفكارها بل لتراقب لي العاملين بها لاسيما رئيسها .. ولقد كنت تقضى فى كل حزب أو هيئة ثلاث ليال أو أربع لكنى أريد أن تقضى فى هذه الجمعية فترة طويلة لا تقل عن الشهر لأن مراقبة العاملين تستغرق وقتا طويلا ..
ذهب إسماعيل إلى هذه الجمعية فى العنوان الذي كتبته له وهو 13 شارع الناصرية بالسيدة زينب وكان كل صباح يقص على ما رأى وما سمع وما لفت نظره ، وكان يمكث بالجمعية كل ليلة حتى تغلق أبوابها . أخبرني عن رئيسها ووصفه لي فتذكرت الرجل الذي زرته وصديقي جمال فى حارة الروم ووجدت أوصافه حين وصفه إسماعيل تنطبق عليه تماما .
بعد انقضاء الشهر شعرت بأنني أصبحت مقتنعا بالعاملين فى هذه الجمعية كما شعرت بان إسماعيل يبادلني نفس الشعور ، وقد قررت بمحض اختياره أنه يركن مطمئنا إلى الجمعية . وقد زكيت اختياره وقلت له إذن فاذهب الليلة إليهم وحرر طلب التحاق بها ، وواظب على اجتماعاتها فقال لي : إنا وحدي ؟ .. قلت : نعم أنت وحدك . قال ولم لا تكون أنت قبلي وأنت أحق منى وانفع ؟ . قلت : إن لي ارتباطات مع هؤلاء القوم ، والحركة السياسية الآن على أشدها ، ولا استطيع أن أنسلخ والحالة هذه فيقال أنى جبنت . فذهب إسماعيل والتحق .
كنا نحن - الطلبة الوافدين -نعد العدة للقيام بمظاهرات ضد القصر والحكومة القائمة - وزارة أحمد نسيم - ومن ورائهما الانجليز . فكنا نجمع الطلبة فى النادي السعدي ونشحنهم بأفكارنا وبالخطب التي كان يلقيها النحاس باشا وبعض لكبار أعضاء الوفد .. وكان السكرتير العام للوفد مكرم عبيد يحضر إلى الجامعة ويخطب فيها ويحمله الطلبة على أكتافهم هاتفين - وصحف الوفد فى نفس الوقت تشعل الحماس بمقالات ما تهبه ... كل ذلك هيا الظروف لقيام مظاهرة ضخمة ضمت عدة آلاف من طلبة الجامعة وسميت هذه المظاهرة فيما بعد بمظاهرة كوبري عباس .
مظاهرة كوبري عباس 1936 :
لاشك فى أن مظاهرة كوبري عباس هذه كانت الخط الفاصل فى حياتي ، كما أنها أيضا كانت حركة تاريخية جعلت الطلبة والأهالي على بينة من أن الانجليز أعداء الداء ، فقد خرج طلبة الجامعة المصرية من كلياتهم بالجيزة فى مظاهرة سليمة لا تمتد يدها إلى تخريب أو عنف ، وإنما كانت تهتف هتافات موحدة بسقوط وزير بريطاني اسمه صمويل هور لأنه هو الذي أوحى بإلغاء دستور سنة 1923 ، ويطالبون فى هتافهم بإرجاع هذا الدستور ، كما يهتفون بسقوط حكومة نسيم .
وقد سارت المظاهرة فى سلام من حرم الجامعة مخترقة شارع المدارس ثم ميدان الجيزة ثم اتجهت إلى الشارع المؤدى إلى كوبري عباس الذي يصل القاهرة بالجيزة ، ودخلت الجموع كوبري عباس حتى إذا صارت فى منتصفه إذ بالكوبري يفتح فجأة فيقسم المظاهرة قسمين ، قسم كان قد عبر الجزء المفتوح وأصبح فى الجزء المؤدى إلى الروضة وقسم حال فتح الكوبري بينه وبين مواصلة السير للحاق بزملائه فكان عليه أن يرجع أدراجه إلى الجيزة .
حاول هذا الجزء الرجوع فإذا به يجد نفسه محاضرا بقوات تطلق العيارات النارية ، وحاول الجزء الآخر مغادرة الكوبري إلى الروضة فإذا به يجد نفسه محاصرا بقوات عند نهاية الكوبري تطلق العيارات النارية . والذي دبر هذه المؤامرة الغادرة ضباط إنجليز على رأسهم حكمدار القاهرة الانجليزي (( رسل باشا )) رأيناهم بأعيننا يصدرون الأوامر إلى جنودنا المغلوبين على أمرهم بضربنا بالرصاص .
كان الرصاص يملأ الأرض والجو ويطلق فى كل اتجاه وامتلأت الأرض بالمصابين ، ولم يكن أمام الطلبة العزل المساكين إلا أن يجروا فى كل اتجاه باحثين عن مهرب من هذا المطر المنهمر من الرصاص كأنما هي حرب بين بلدين غدرت أحداهما بالأخرى بينما كانا على مائدة الصلح ، فإحداهما عزلا حتى من عصا في يدها والأخرى كانت تخفى ثيابها أفتك السلاح ... غدر لا مثيل له .
استطعت بعد الخوض بين جثث الزملاء الملقاة على الأرض أن أغادر الكوبري وانزل تحته حيث الأحراش والطين ، ومع ذلك لم نسلم من الطلقات فقد تابعونا بالرصاص أيضا .. ووقفت لحظة مع بعض الزملاء ودوى الرصاص يصم آذاننا ، وهنا تمثلت أمامي صورة لي وأصبت وتضرجت فى دمائي وقابلت ربى .. فماذا أقول له حين يسألني فى سبيل ماذا قلت ؟ سأقول له فى سبيل دستور 1923 ... هل دستور 1923 هو الدستور الذي انزله الله ليحكم هذا العالم ؟ هل هو الدستور الذي قال الله تعالى فى شانه (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )) .
هنا ، وتحت كوبري عباس ، وتحت وابل الرصاص ... وشبح الموت يطاردنا فى كل مكان ... فى تلك اللحظة قررت إن كتبت لي الحياة لأصححن اتجاهي . ولتكونن حياتي كلها لله وحده ، ولاختطن لنفسي الخط الذي أراد الله للناس أن يسلكوه إليه ، وأن تكون جهودي جميعا فى سبيل إقامة الدولة الإسلامية التي لا يرضى الله بغيرها بديلا (( قل إن صلاتي ونسكى ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )) .
قتل من زملائنا الطلبة فى هذه المظاهرة طالبان هما (( عبد المجيد مرسى )) و ((عبد الحكيم الجراحي))رحمهما الله رحمة واسعة وكان الأول من طلبة كلية الزراعة والأخر من طلبة كلية الآداب ...أما نحن الذين نزلنا تحت الكوبري فقد واصلنا السير تحته نخوض فى الطين والأحراش حتى خرجنا مقابل مبنى الجامعة .
فى الطريق إلى المركز العام :
كان أول شئ فعلته أن طلبت إلى إسماعيل الخبيرى أن يصحبنى معه إلى دار المركز العام للإخوان المسلمين ، ولكنه اقترح على أن نخصص هذا اليوم لزيارة طالب من أهل الفيوم ومن الإخوان المسلمين ويقيم فى شارع المنيل القريب من الجيزة وسألته عن أسمه فقال اسمه عبد الحكيم عدوى عابدين وهو طالب فى كلية الآداب وهو أقدم منا عهدا بالقاهرة فهو فى السنة الثانية .
فلما التقيت بهذا الطالب فى مسكنه وجدتني أمام أديب شاعر متصوف ، وما كاد يحس منى تذوقا لهذه الألوان نفسها حتى أقبل على كأنما عثر على ضالته فأخذ ينشدني من شعره ويقص على من أنباء شيخه الشيخ سلامه الراضي شيخ الطريقة التي ينتسب إليها ، وهى طريقة صوفية تربى أتباعها بأسلوب فريد ، فهم يجتمعون ليلا فى مكان خل بعيد عن الحركة والضوضاء ، ويتخذ كل منهم مكانا منفردا بعيد عن زملائه ، وتطفأ الأنوار ، ويغمض كل منهم عينيه ، ويتابع بمخيلته حياته منذ ولد حتى يموت ثم يدفن ثم يحاسب فى قبره ويسال عن ذنوبه ويوقع عليه عقاب هذه الذنوب ، ثم يرى مكانه فى النار ثم يتعرض لفتن القبر ثم يبعث ثم يرى الموقف العظيم وفى أثناء هذا الاستغراق تنبعث الآهات وتعلو الاستغاثات حيث يصل الاستغراق إلى حد غياب المريد عن وعيه .
وقد كانت هذه أول مرة - مع سابق أختلاطى بكثير من المتصوفين - أسمع فيها عن هذه الطريقة عن أسلوبها فى التربية ، وهو أسلوب ولاشك فريد وعنيف ، وقد يمحص الفرد ويزكى النفس ويسمو بها فى ليلة واحدة وفى جلسة واحدة مالا يفعله فى أشهر الوعظ الكلامي الذي هو المتبع في الوزع والتربية .
وقد أنشدني عبد الحكيم قصيدة له تربو على مائه بيت نظم فيها الأسلوب التربوي بجميع أطواره ، وجعل الحديث فيها على لسان أحد المريدين فهو يغمض عينيه فى الظلام ويتابع حياته بأطوارها ويصف كل ما كان منه وما كان له فى كل طور حتى يصل إلى الحقيقة وهى الموت والحشر والحساب . كما أنشدني عبد الحكيم قصائد له أخرى فى مختلف الأغراض لكن أكثرها كان يدور حول هذه المعاني الصوفية العميقة الغور التي لا حسن التعبير عنها إلا من لابسها وتذوقها .
إلى دار المركز العام :
قلت لإسماعيل فى اليوم التالي سأذهب معك إلى دار الإخوان ولكن لا عرفني برئيسهم ولا بأحد منهم كما لا نعرف أحدا منهم بي فإني أحب أن أراقبهم دون أن يعرفوا.. ونفذ إسماعيل .. فقد دخلنا دارا عتيقة فى شارع الناصرية بالسيدة زينب ، والدار مكونة من أربع غرف وصالة صغيرة ، وكانت الدار هي الدور الأراضي من أحد المنازل المتهالكة .. وكانت ميزتها الوحيدة أن أمامها فناء فسيحا غير مسقوف يصلح لإقامة الحفلات وإلقاء الحفلات وإلقاء المحاضرات .
كان الرئيس هو الأستاذ حسن البنا الذي قابلته مع صديقي جمال ، ولم تكن اللافتة الموضوعة على باب حجرة مكتبه بهذه الدار مكتوبا عليها كما هو متعارف كلمة (( الرئيس )) بل كان المكتوب عليها كلمة (( المرشد العام )) .. وكان الموجودون مجموعة من الشباب أكثرهم من طلبة الجامعة وقليل منهم من صغار الموظفين .. ولمست روح المحبة والود تسود كل من فى الدار حتى العلاقة بينهم وبين المرشد العام كانت علاقة محبة وود ... نعم إنهم يحترمونه ويوقرونه ولكن توقيرا نابعا من حب ، أما هو فيتعامل معهم كأنه واحد منهم ... ثم إنك لا تسمع حديثا داخل الدار إلا عن الإسلام وما يتصل به وما يدور حوله ، وليس معنى ذلك أنهم يتناقشون فى أمور الفقه وأحكام العبادات كما يتبادر إلى الذهن ، وإنما يدور حديثهم حول قضايا الساعة ، الاجتماعي منها والاقتصادي والسياسي ويقيسونها بمقاييس الإسلام . وتحس حين تراهم وتسمعهم وتراقب حركاتهم وسكناتهم أنهم يهيئون أنفسهم ليسدوا فراغا فى هذه الأمة طالما ظل شاغرا نتيجة للجهل ولتدابير المستعمرين ولقهر الظالمين .. فترى الشاب منهم مشتعلا بالفكرة الإسلامية باعتبارها الفكرة الوحيدة لإنقاذ العالم مما يعانيه فى مختلف نواحي الحياة .
فإذا حان موعد الصلاة قام أحدهم فأذن على باب الدار ، ورأيت باب حجرة المشد العام قد فتح ودلف المرشد ليؤم الجميع لا تخلف منهم أحد منهم احد . وتشعر حين تنتظم معهم فى الصف أنك لست فى صلاة وحسب بل تشعر مرة أنك فى ميدان القتال وتشعر أخرى أنك تدرس على المستوى العالمي طبائع النفوس وأنواعها وعلاج كل نوع منها ... وتخرج من الصلاة وقد تجددت قلبا ونفسا وعقلا وبدنا .
أما عدد رواد الدار فكان قليلا بحيث لا عد فى ليلة من ليالي الأسبوع أكثر من عشرين فردا لكن طابع الجد كان يبدو فى وجوههم جميعا كأن الواحد منهم يحمل مسئولية أمة كاملة ، مع أن أكثرهم لم يكن مسئولا حتى عن نفسه ، لأنهم كانوا طلبة أو من هم فى مستوى الطلبة وقد أقنعني هذا الطابع الذي أبرز شئ فيهم وفى رئيسهم بأن هذه الهيئة هي بغيتي وأمنيتي .
نظام الدار :
كانت هناك أربعة أيام فى الأسبوع ينتظم فيها الإخوان لسماع دروس : ثلاثة منها تلقى فى مسجد الدار ، والرابع محاضرة عامة تصف لها الكراسي و(( الدكك)) فى فناء الدار ويدعى إليها الجمهور فدرس فى التصوف يلقيه رجل كبير السن يدعى (( حامد بك عبد الرحمن )) كان مفتشا للري وأحيل إلى المعاش ، وكلن درسه فى شرح حكم بن عطاء الله السكندري ، وقد أفدت من هذا الدرس حيث صادفت الحكم التي كان يشرحها حامد بك عندما حضرت له صراعا نفسيا كان يهزني هزا فكأنما كان يخاطبني بتلك الحكم .
ودرس فى تفسير القرآن الكريم يلقيه حكيم الإسلام الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري . وكان يفسر القرآن بالعلوم الحديثة ، وهو لون لم يكن مألوفا فى ذلك الوقت ، وكان الرجل بارعا فى التفسير وفى الإقناع حيث كان على قدم راسخة وفى التفسير وفى العلوم الكونية معا .
والدرس الثالث درس التكوين . وهو درس لا تستطيع أن تسميه درس تفسير ولا درس تصوف ولا درس تاريخ ولا درس أخلاق ولا درس سياسة ولا ترس أدب وإنما هو جامع لذلك كله ويجمع إلى السهل الإحاطة بها لأن كل هذه العلوم والفنون كانت تقدم إلى السامعين ممزوجة يذوب النفس وعصارة القلب ومهجة الفؤاد ، وهو ما يجعل مزدج هذه العلوم والفنون قادرا على صهر النفوس وصياغتها من جديد .
وكان يلقى هذا الدرس المرشد العام ، ومع أن الدرسين السابقين لم يكن يواظب عليهما إلا سبعة أشخاص أو ثمانية كنت أحدهم فإن درس التكوين لم يكن يتخلف عن حضوره أحد من الإخوان . لأنه طراز لا عهد لأحد بمثله أما المحاضرة العامة فبالرغم من المجهود الذي كان يبذله الإخوان فى الإعداد لها وفى دعوة الناس من الشوارع المجاورة لحضورها فإن معظم المقاعد خالية مع أن الذي كان يلقيها فى أكثر الأحيان هو المرشد العام ، ولا يتخلف إلا لعذر فإذا تخلف قام شقيقه (( عبد الرحمن الساعاتي )) بإلقائها .
وعبد الرحمن الساعاتي خطيب مطبوع مفوه تحس حين تسمعه أنك أمام عقبة بن نافع ممتطيا صهوة جوداه بعد فتح الشمال الإفريقي حتى وصل إلى شاطئه ويقول (( لو علمت أن وراءك أرضا لخضتك إليها غازيا فى سبيل الله )) كانت خطب عبد الرحمن الساعاتي خطبا تحرك القلوب وتذكر بالأمجاد وتسيل العبرات ... وإذ ذكرت عبد الرحمن الساعاتي وخطبه الرنانة فتحضرني شخصية شاعر عربي عظيم هو (( محمود غنيم )) الذي يعتبر بلبل الإسلام الصداح والذي كانت قصائده التي تنشر فى مجلة الرسالة فى المناسبات الإسلامية أنشودة يتغنى بها الأدباء ويقتبس منها الخطباء ويحفظها النابهون من الشباب ، وكان (( عبد الرحمن الساعاتي )) كثيرا ما يحلى خطبه بأبيات من قصيدة عامرة لمحمود غنيم ، رأيت أن أنقلها هنا لروعتها ولتعبيرها أدق تعبير عن فكرة الإخوان المسلمين ، وقد نشرت بمجلة الرسالة فى العدد الخاص بالهجرة فى سنة 1936 :
إني تذكرت والذكـرى مؤقـتة مـجدا تلـيدا بأيدينا أضـعناه
أنى اتجهت إلى الإسلام فى بلد تجده كالطير مقـصوصا جناحاه
وريح العروبة كان الكون مسرحها فأصـبحت تتـوارى في زواياه
كم صرفـتنا يد كنا نصـرفهـا وبات يمـكنا شـعب مـلكـناه
كم بالعراق وكم بالهند ذو شجن شـكا فرددت الأهـرام شـكواه
هي الحقيقة عين الله تـكلؤهـا فكـلما حاولـوا تشويهها شاهوا
هل تطلبون من المختار معجزة يكـفيه شعب من الأحداث أحياه
من وحد العرب حتى كان واترهم إذا رأى ولد المـوتـور أخـاه
وكيف كانوا يدا فى الحرب واحدة من خاضـها بـاع دنياه بأخراه
وكيف ساس رعاة الإبل مـملكة ماساسها قيصر من قبل أو شـاه
وكيـف كان لـهم علم وفلـسفة وكيف كانت لـهم سـفن وأمواه
المسـاواة لا عـرب ولا عـجم مالا مـرئ شـرف إلا بـتقواه
وقررت مبدأ الشورى حكومـتهم فليـس للفـرد فيـها ما تمـناه
ورحب الناس بالإسلام حين رأوا أن السـلام و أن الـعدل مغزاه
يا من رأى عمرا تكـسوه بردته والزيت أدم له والكـوخ مـأواه
يهتز كسـرى على كرسيه فرقا من بأسه وملوك الأرض تخشـاه
سـل المـعالي عنا إننا عـرب شـعارنا المـجد يـهوانا ونهواه
هي العروبة لفظ إن نطقت بـه فالشرق والضاد والإسلام مـعناه
استرشد الغرب بالماضي فأرشده ونـحن كان لـنا مـاض نسيناه
إنا مشينا وراء الغرب نقبس من ضـيائه فأصـابتـنا شـظايـاه
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا ما بالهم تاهـوا
أين الرشيد وقد طاف الغمام به فحـين جـاوز بـغدادا تـحـداه
ملك كملك بني التاميز ما غربت شـمس عليـه ولا برق تـخطـاه
ماض نعيش على أنقاضه أمـما ونستـمد القوى من وحـى ذكـراه
إني لأعتـبر الإسلام جامـعة للشـرق لا مـحض دين سـنة الله
أرواحنا تـتلاقى فيه خافـقـة كالنـحل إذ يـتلاقى في خـلايـاه
دستوره الوحي والمختار عاهله والمسـلمون وان شـتوا رعـايـاه
لا هم قد أصبحت أهواءنا شيعا فامـنن علينا براع أنت تـرضـاه
راع يعيد إلى الإسلام سـيرته يرعى بنـيه وعـين الله تـرعـاه
مجلة الإخوان وشعبهم :
كان للإخوان في ذلك الوقت مجللة أسبوعية هي بنفسها التي كنت أشتريها عقب صلاة الجمعة بمسجد الرفاعى والتي على غلافها صورة الكرة الأرضية مركزوا عليها علم يمسك به قبضتا يدين كتب تحتها (( إنما المؤمنون إخوة )) ..
ولم يكن هناك في ذلك الوقت فروع للمركز العام فى القاهرة ولا في الإسكندرية ولا الصعيد وإنما كانت فروعه فى الإسماعيلية وما حولها وفى بعض بلاد الشرقية والدقهلية وفى المحمودية . وكان بعض أهالي هذه البلاد من الإخوان يحضرون إلى القاهرة لزيارة المرشد العام كما كان المرشد العام يسافر لزيارتهم .
وكانت هناك شعبة فى شبراخيت وأخرى فى كفر الدوار ؛ إلا أن هاتين الشعبتين لم نكونا إلا رجلين أثنين ؛ فى الأولى الشيخ حامد عسكرية وكان واعظ شبراخيت ، وفى الأخرى الشيخ أحمد عبد الحميد وكان من العلماء الأجلاء وكان مشتغلا بالزراعة . كما كان هناك أفراد آخرون كانوا يعاملون باعتبارهم شعبا فى بلادهم منهم الأستاذ عمر عبد الفتاح التلمساني المحامى بشبين القناطر والأستاذ محمد عزت حسن معاون سلخانة طوخ .
من هم أعضاء المركز العام ؟ :
قدمت أن أعضاء المركز العام الذين لا يكادون يعدون الأربعين كانوا بين طلبة وصغار موظفين . ولكن من هم هؤلاء الطلبة وهؤلاء الموظفون وكيف وصلوا إلى هذا المركز العام المغمور وسط أحشاء القاهرة لا يكاد يعرفه جيرانه الملتصقون به ؟!! .
لقد استنتجت الإجابة على هذا السؤال لأنني كنت حريصا على تحليل كل ما أراه في هذا المركز العام لاسيما ما يتصل بالأشخاص ... المركز العام ، في حي السيدة زينب ... وتستطيع أن تقوا إن أرباع هؤلاء الموظفين والطلبة هم من حي السيدة زينب ، وأكثر هؤلاء من شارع واحد هو شارع زين العابدين الذي كان يسكن فيه فى ذلك الوقت الشيخ طنطاوي جوهري ، والشيخ طنطاوي من أوائل من تعرف على الأستاذ المرشد العام ونجله جمال كان أحد هؤلاء الطلبة وكان طالبا بكلية الهندسة ، وجمال الفندى وكان طالبا بكلية العلوم ومختار إسماعيل وكان مدرسا للرياضة البدنية ، كما كان من سكان الحي الطلبة جمال عامر بكلية العلوم وطاهر عبد المحسن ومحمود أبو السعود ورشاد سلام بكلية التجارة ومحمد سليمان وإبراهيم أبو النجا بكلية الطب ومحمد عبد الحميد أحمد وعبد المحسن الحسيني وأحمد عبد العزيز جلال بكلية الآداب وحسن السيد عثمان ومحمد فهمي أبو غدير بكلية الحقوق . وكان من الموظفين الأستاذ محمد حلمي نور الدين وكان كاتبا فى مصلحة الري والأستاذ اسعد الحكيم وهو شقيق زوجة الأستاذ عبد الرحمن الساعاتي وكانا موظفين معا فى السكة الحديد والأستاذ حسين بدر فى السكة الحديد أيضا والأستاذ أسعد راجح وكان سكرتير لمدير إنجليزي والأستاذ محمد حمص وكل هؤلاء سكان الحي .
وكان من طلبة الأزهر الشيخ أحمد حسن الباقورى وكان فى التخصص وآل شريت وهى أسرة كريمة من أسرة قرية ريفا بأسيوط كان والدهم أستاذ بالأزهر وكان من أسبق الناس إلى الدعوة ومبايعة المرشد العام وكان أبناؤه جميعا وأبناء عمومتهم من أخلص الإخوان منهم الشيخ أحمد شريت والشيخ محمود شريت والشيخ حامد شريت وكلهم تخرجوا فى الأزهر أو دار العلوم وابن عمهم الأستاذ فتحي شريت الذي كان موظفا بالسكة الحديد على ما أذكر ... ومن الأزهر الشيخ عبدا لبارى عمر خطاب وكان طالبا بالمعهد والشيخ عبد اللطيف الشعشاعى وكان طالبا بكلية أصول الدين والشيخ أحمد الشرقاوي وكان طالبا بمعهد القراءات وقد أفدت منه الكثير فى قراءة القرآن وكل هؤلاء كانوا من حي السيدة زينب أو مما يجاورها . فإذا أحصيت بعد ذلك الأعضاء من غير الحي والقريبين منه لم نجدهم يعدون العشرة منهم إسماعيل خيري وأنا وعبد الحكيم عابدين وثلة آخرون .
الزعابدة :
أشرت من قبل إلى أن أمارات الجد كانت مرتسمة على وجوه رواد الدار ؛ وكانت دروس التكوين التي يلقيها المرشد العام نذكى فى نفوسهم شعلة الجد ، فكان مجرد التحدث فيما سوى الدعوة يعد شيئا غريبا ، فإذا وصل الأمر إلى الضحك وان كان بريئا فقد يعد جريمة .. وكانت مجموعة من سكان شارع زين العابدين تميل إلى شئ من الضحك أو التهريج المحدود البرئ ، فكانت مجموعتنا الأخرى نعتبر ذلك استهتار لا يليق برجال الدعوة ونوجه إليه اللوم والتقريع وظل الأمر على ذلك حتى وجدنا أنفسنا نحن رواد الدار قسمين ؛ قسم يبالغ فى الجد وقسم لا يتخلف عن أداء حق الدعوة ولكنه يميل إلى الدعاية هو فريق من سكان زين العابدين ، وأطلق الأخ محمد عبد الحميد أحمد وكان طالبا من الحكماء لفظ (( الزعابدة)) على هذه المجموعة واتسع بعد ذلك مدلول هذا اللفظ حتى صرنا نطلقه على الهرجين أينما كانوا .
شخصيات أخرى :
ومن الشخصيات الأخرى التي كانت تتردد على الدار وكانت تلفت النظر الشيخ محمد زكى إبراهيم وكان مدرسا أديبا خطيبا شاعرا متصوفا ، وكان ممن يفهمون الإسلام فهما صحيحا وكان يشتعل حماسا للفكرة الإسلامية وممن يحسنون فهم الجو الاجتماعي والسياسي فى مصر وفى العالم الإسلامي ، ولا أدرى لم يبرز اسم هذا الرجل بين شعراء مصر مع انه كان شاعرا مطبوعا ؛ ولعل السبب فى ذلك أن النزعة الصوفية غلبت عليه ... فقد لاحظت أن الرجل كان ملازما للأستاذ المرشد طيلة المدة التي كانت فيها الدعوة مغمورة لا يعرفها إلا الأقلون ، فلما برزت الدعوة وأمها الكثيرون أخذ هذا الرجل فى الابتعاد حتى اختفى اختفاء تاما ... ثم قرأت أخيرا فى أيامنا هذه أنه ألف جماعة سماها (( العشيرة المحمدية)) ولا اعتقد إلا أن هذه العشيرة تقوم على الفكرة الإسلامية الصحيحة التي كان هذا الرجل من أوائل معتنقيها والعاملين لها والمعاهدين عليها .
وقد أدركت لأول عهدا بهذه الدار شخصيتين كانتا متفرغتين للعمل بالدار هما الأستاذ حمدي الجريسى وكان معروفا انه سكرتير المرشد العام والأستاذ محمد طاهر العربي وكان أتصله بالأستاذ المرشد العام يكلفه بأعمال للدعوة خارج الدار ؛ وقد لاحظت أنهما انقطعا عن الدار انقطاعا فجائيا وتاما مما أثار دهشتنا .
ثم (( محمود هبة الله )) الطالب الأزهري الذي انقطع عن الدراسة وأشتغل بالزراعة فى بلدة (( جنبواى )) مركز إيتاي البارود فكان يقضى أكثر أيامه فى المركز العام يلهب المشاعر بحماسه البالغ وعصاه الغليظة وجسمه الفارع صوته الجهوري وهو نجل (( الشيخ الجنبيهى )) من كبار علماء الأزهر الذين آمنوا بالدعوة وبايعوا عليها لأول عهدها بالقاهرة ... وقد عاش محمود هذا ما عاش لدعوته فلما مرض واشتد عليه المرض وأحس باقتراب اجله أبى إلا إن يموت بين إخوته فطلب من أهله نقله إلى دمنهور حيث كنت أسكن ، وظل بين أيدينا حتى لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يردد شعار دعوته ويسال الله أن يبعثه عليها رحمه الله رحمة واسعة وغفر الله لنا وله وأوسع له فى رضوانه وألحقنا به فى مستقر رحمته .
وبعد أن أنقطع عن الدار الأستاذان حمدي الجريسى وطاهر العربي ، أحضر الأستاذ المرشد رجلا مسنا صالحا هو الأستاذ أحمد الحسيني وكان يبدو عليه ضعف البصر حيث تغطى عينيه نظارة سميكة العوينات ، وكنت أحب أن أجالس هذا الرجل ، لأنني اعتقد أن الأستاذ المرشد لا يأتي إلى الدار بمثل هذا الرجل المسن إلا إذا كان لهذا الرجل تاريخ ... وكان الرجل يأنس للحديث معي ... وقد تبين لي أن هذا الرجل من الأدباء الذين أفنوا أعمارهم وكادوا يفقدون بصرهم بين مراجع اللغة ومجلدات الأدب ودواوين الشراء حيث كانوا يدرسون الأدب لذاته لا ليتكسبوا من ورائه ، وبعد أن تضلعوا من مناهل الأدب ، وجدوا أنفسهم على قارعة الطريق لا يكادون يجدون قوت يومهم ... فتلقفتهم أيدي بغاة الشهرة من السراة ؛ يستغلونهم أسوأ استغلال ، حيث يجمع لهم الأدباء ما حصلوه من دور الأدب فيأخذه السراة ويصدرون به كتبا تحمل أسماءهم زورا وبهتانا ملقين لهؤلاء الأدباء بدريهمات لا تكاد تقيم أودهم كما يلقون بفتات موائدهم إلى القطط والكلاب التي يقتنونها ، وصدق الله العظيم (( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب اليم )) (آل عمران) .
وقد تكشف لي هذا الأمر عندما ظهر كتاب فى الأدب لكاتب شهير من (( بكوات )) الكتاب فاشتريته ، فلما رآه معي الأستاذ احمد الحسيني قص على قصة هذا الكتاب وكيف كان هو ومجموعة من أمثاله من الأدباء المغمورين يستحضرهم هذا ((البك)) ويعد لهم مكانا فى (( بدروم )) قصره ليجمعوا له مواد هذا الكتاب ، وعين لي الأستاذ أحمد الأبواب من هذا الكتاب التي كانت ثمرة جهده...
ومع أن هذا الرجل كان موظفا بالدار فإنه كان من المؤمنين بالدعوة أعمق الإيمان ؛ ويخيل إلى أن الأستاذ المرشد كان شديد الرفق به فلا يكلفه إلا مالا يشق عليه ولعل مهمته كانت قراءة الوفيات المنشورة فى الصحف ليؤدى الأستاذ المرشد العزاء لها .
ومن هذه الشخصيات أيضا الأستاذ أحمد السراوى وهو شخصية ذات ماض فى الحركات الوطنية كنت تجلس إليه فيأخذ حديثه بلبك فإذا رأيت تصرفاته مع الأستاذ المرشد دهشت وأخذ منك العجب كل مأخذ ... ويبدو أنه كان ذا معرفة بالأستاذ بالمرشدين قديم .. وكان إذا جلس إلى الأستاذ المرشد تحس أنه موضع عطفه ... وكان الأستاذ يحدثنا عن غريبا أطواره ... وكانت أخر تجربة للأستاذ المرشد معه - وكنا عليها شهودا - يوم جاء إلى الأستاذ يكاد يبكى لسوء الحال ، فاستأجر له الأستاذ محلا واشترى له مطبعه وورقا ، وحرر بثمن ذلك كله كمبيالات بضمانة الأستاذ المرشد ، واختار له كتابا يعيد طبعه على ورق مصقول أبيض هو كتاب ((إحياء علوم الدين )) ... وأخرج السراوى عدة أجزاء منه وأقبل الناس على شرائه إقبالا منقطع النظير بالسعر الذي حدده هو طبعا ؛ ومعنى هذا أنه حقق ربحا .. إلا أننا فوجئنا بتوقف صدور الكتاب واختفاء السراوى مما اضطر الأستاذ المرشد إلى تسديد ثمن كل هذه الأشياء من جيبه الخاص .
وهذه التجربة وإن عادت على الأستاذ المرشد بخسارة مادية إلا أنها لم تكن فجيعة له ولا مفاجأة فانه كان يتوقع من الأستاذ السراوى مثل هذا التصرف ؛ وكان من طبيعة الأستاذ المرشد أن علمه بحقيقة شخص لا يمنعه من محاولة استغلال بعض مزاياه للدعوة ؛ فالأستاذ من أول يوم قام فيه بالدعوة كان يعلم أن المطبعة من أهم وألزم وسائل الدعوات ، وكان يتمنى أن نتاح له فرصة يستطيع فيها اقتناء مطبعة ، فلما لم تتح له هذه الفرصة حيث لم يكن فى الإخوان فى ذلك الوقت من يستطيع التفرغ لهذا العمل ، انتهز فرصة افتقار السراوى إلى عمل يكتسب منه ، ففعل ما فعل وكان هدفه من ذلك أن يشعر أن هذا المشروع ممكن التحقيق فاختار لذلك المحل قريبا من المركز العام وجعل ربح المشروع كله لجيب السراوى مكتفيا بالاطمئنان على أنه مشروع ناجح ، وبطبع كتاب ينتفع به كثير من الناس وهو يعده أكبر موسوعة إسلامية ... وقد تحقق للأستاذ المرشد ما أراد من هذه التجربة فلما حدث من الأستاذ السراوى ما كان يتوقعه منه لم يفرط الأستاذ فى أدوات الطباعة إلا بالقدر الذي عجز عن سداد ثمنه فاستبقى منها اكبر قدر يمكن استبقاؤه حيث أبقى على الحروف التي سدت ثغرة كبيرة حين انتقلت الدعوة إلى دار العتبة مما سنشير إليه إن شاء الله فى حينه ... ولم تبرح فكرة المطبعة خاطر الأستاذ المرشد لحظة من ليل أو نهار على أنها أولى الوسائل المكملة لبناء الدعوة حتى حققها أخيرا فيما بعد على صورة أكبر من هذه وكان ينوى تطويرها لتكون أعظم مطبعة فى الشرق لان الذين يملكون الكلمة المطبوعة يملكون توجيه العقول والأفكار ، ولكن الظروف السياسية طغت موجتها فجرفت المشروع فيما جرفت .
المهمات المنوطة بالمرشد العام :
كان مجهود المرشد العام موزعا على عدة نواح أهمها : مهنته التي يكتسب منها عيشه ، وإدارة شئونه الخاصة من رعاية منزل وأسرة وأولاد ثم الدعوة ..
أما مهنته ؛حيث كان مدرسا بمدرسة عباس الابتدائية بالسبتية ، فكان لها وقت محدد - كطبيعة العمل - لم يكن ينتقص منه لحظة بل كان يؤديه كله بأمانة .. ولم يؤثر عنه أنه تأخر يوما عن ميعاد أو أهمل فى أداء عمل أو قصر عن المثل الأعلى للمدرس . بل إنه كان يرى فى عمله لذة ويحس فيه سعادة لأنه كان يعتقد أنه إنما خلقه الله ليكون مربيا ، وقد أهله لذلك تأهيلا كاملا ؛ فكان يرى فى المدرسة حقل تجارب لنظريات التربية القديمة والحديثة ولنظريات تربية وصل إليها بفكره الخاص ؛ حيث تضم المدرسة التلاميذ والمعلمين والفراشين وهم من مختلف البيئات والمشارب والعقليات والظروف والأعمار .
كان مما حدثني به فيما يتصل بذلك ؛ أنه كان عليه فى فترة من الفترات أن يراقب التلاميذ فى أثناء (( الفسحة )) وكان الأستاذ (( تقلا بك )) - أول مراقب مسيحي عين هذا المنصب فى وزارة المعارف - قد حضر إلى المدرسة فى ذلك اليوم ... وكان رجال الوزارة يحرصون على التعرف بالأستاذ المرشد يعلم أن التعليمات المبنية على نظريات التربية الحديثة تمنع الضرب فى المدارس لكنه أمسك بمسطرة باعتبارها عصا فى يده وتعمد إبرازها أمام المراقب حتى يسأله فى ذلك ؛ وكان أن سأله فعلا فشرح له شرحا أثبت خطأ هذه التعليمات وأن تربية التلاميذ فى هذا السن لابد أن يكون الضرب غير المبرح من وسائلها على أن يكون بقيود معينة حيث هناك من الطباع مالا يقوم بغير العصا .
وحسبك دليلا على نجاح سياسته فى هذه المدرسة أن تعلم أنه كان موضع حب جميع التلاميذ والمدرسين والناظر والفراشين واحترامهم ، وأنهم جميعا أحبوا دعوته لحبهم لشخصه ، وكان الجميع يتمنون أن يكونوا فى خدمته ليوفروا له الوقت للقيام بأعباء الدعوة ، لكنه كان حريصا على أن يقوم هو بنفسه بعمله المدرسي كاملا وأن لا يكلف أحدا بحمل أي عبء عنه .
ولقد كنا نحتاج إليه فى أمر هام يخص الدعوة فى وقت يكون هو فيه فى المدرسة فنتصل بالمدرسة تليفونيا أو نذهب إلى المدرسة لمقابلته وفى كلتا الحالتين - إذا كان طلبنا إياه قد صادف وجوده فى حصة من الحصص - كان يقول لمن ذهب ليبلغه بوجودنا لمقابلته أو يبلغه أننا نطلبه على التليفون : قل لهم إنه فى الحصة ولا يستطيع مغادرة الفصل حتى تنتهي الحصة فنضطر إلى الانتظار حتى تنتهي لنقابله أو نتحدث إليه فى التليفون فى فترة الاستراحة بين الحصتين .
وأما شئونه الخاصة فكان يرعاها حق الرعاية ، فلم نسمع بشقاق عائلي فى أسرته كما أن أولاده كانوا يحظون منه بما يحظى به الأبناء من والد مثالي . نعم كان الوقت الذي يقضيه فى بيته ضئيلا إلا أن زوجته كانت معوانا له على الدعوة وسنعرض لهذه النقطة بعد ذلك إن شاء الله .
أما الدعوة فكانت هى محور حياته ، بل هى حياته كلها ، لم يكن يشغله عنها شاغل فى ليل ولا نهار . كانت ملء عقله وقلبه لا مكان فيها لشئ آخر ... لم أقدر النبوة حق قدرها إلا لما رأيت هذا الرجل ، وجلست إليه ، ولازمته وعاشرته .. حينئذ بدأت أحس بقدر النبي ومكانته ، فرجل كحسن البنا هو دون الأنبياء ، ومع ذلك فان الدعوة شغلته بل صهرته حتى أخرجت منه صورة مجسمة لها ؛ فإذا تكلم بالدعوة وللدعوة ، وإذا سكت كان سكوته أسلوبا آخر للدعوة ، وإذا تحرك فلها ، وإذا سكن فلها ، وإذا أحب فلها ، وإذا أبغض فلها ، وإذا ضحك فلها ، وإذا بكى فلها ... فكيف بالنبي الذي صنعه الله على عينه ؟! .. لذا كان مقام النبوة جديرا بقول الله عز وجل (( لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنه )) ... وهؤلاء من أمثال حسن البنا هم ورثة الأنبياء لأولئك الذين وإن تمرسوا بعلوم القرآن والسنة فإنهم لم ينفعلوا بها انفعالا أنساهم ما سواها ولن ينفعلوا بالفكرة الإسلامية إلا من اختلطت بدمه فصارت أساس تفكيره ، وميزان حياته فى أفقها مل أماله ، وصار كل مرمن أجلها حلوا فى حلقه .
إن أصحاب الدعوات لا ينبغي أن نسوى بهم العباقرة ؛ فالعبقرية لاشك إحدى صفاتهم لمنهم من الناس أوتوا بصيرة نافذة ، وقلوبا حية واسعة ، وألسنة تنطق بالحكمة البالغة فهم يرونه مالا يراه الناس يقتنعون بكمال خلقهم قبل إن يقتنعوا بقوة حجتهم ، وطلاقة ألسنتهم ....تجاس إليهم وأنت غير مكترث إلا بنفسك بل قد تكون لاهيا هازلا ، فتحس بعد قليل أن تيارا دافئا أخذ ينساب فى داخلك فيشيع الدفء فى جنباتك ، ثم لا يلبث هذا الدفء أن تشتد حرارته حتى إن حرارته لتذيب جمود نفسك وتشعل فى أعماق قلبك آمالا كانت خابية تحت أطباق من الثلوج ... وترى عقلك الذى كان زمامه بيد اللهو قد استدار دورة ألقى فيها بسالف أفكارك فى زوايا النسيان وانفتح لأفكار جديدة تستجيب لصدى ما تحرك فى قلبك من جمود نفسك ... وتقوم من مجلسك شخصا آخر غير الذي كنت ، ويتغير مجرى حياتك بهذه الجلسة فتقوم وهموم المجتمع الذى كنت أنت فيه هى شغلك الشاغل وهمك القاعد المقيم بعد أن كنت لا تكترث إلا بنفسك ...
وذلك بأن هؤلاء الناس طراز خلقهم الله وفى قلوبهم مراجل تغلي لا يهدأ غليانها ، فهي تشيع الحرارة حيث كانت ، وتذيب الجمود ، وتبعث الحياة فيما حولها وفيمن حولها .. ومهما سكبت على هذه المراجل من ثلوج الدنيا فإنها تذوب والمراجل لا يهدأ لها أوار ... هى قوة دافعة خلقت لتدفع ولا تندفع . ولتؤثر ولا تتأثر ... قلوبهم مستودع للحياة تسكبه على من حولها من الموتى فيحيون ، ويحس كل واحد منهم بلذة الحياة بعد الموت .. هؤلاء الناس يعطون دائما ولا يأخذون ويمنحون ولا يستمنحون ..
هذا فى أصحاب الدعوات أيا ما كانت الدعوات ؛ أما إذا كانت فى ذاتها تحمل كل معاني الحق والصدق ، فإن شخصية الداعية تكتسب من صدق دعوته قوة على قوة ولا يستطيع أحد فى هذه الحالة أن يقاوم صاحب هذه الدعوة بالحجة والبرهان ، ولا يجد أمامه من وسائل المقاومة إلا الجحود والكذب والنكران ثم وسائل العنف والعسف والجهل والاضطهاد .
هكذا كان حسن البنا ؛ صاحب دعوة وهبه الله قوة أصحاب الدعوات ، وزاده قوة أن دعوته فى ذاتها حق لا مرية فيه (( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )) ولذا كان إيمان حسن البنا بدعوته إيمانا تزول الجبال ولا يتزلزل ... كنت إذا رأيته لم نر إلا دعونه ، وإذا تحدثت إليه لم تسمع إلا دعوته .. حتى فكاهته ، وما كان أجمل فكاهته ، وما كان أسرع بديهته ... حتى الفكاهة ؛ لم تكن إلا فى صميم دعوته تخرج من سماعها وقد أضفت جديدا إلى عقلك وقلبك وإيمانك .
نعم إن آمال هؤلاء من الدعاة تبدأ حيث تنتهي آمال جيلهم ... لقد تعرفنا على حسن البنا فى أواسك الثلاثينيات ، فسمعنا منه كلاما عن المستقبل المأمول طالما قوبل من أكثر الناس حينذاك بالاستخفاف والاستهزاء والسخرية ... وإني لألتمس لهؤلاء الناس العذر ؛ فقد ظهر حسن البنا فى وقت خيم فى الظلام الحالك فلا يستطيع أنفذ الناس بصيرة أن يرى أبعد من أنفه ، كانت مصر لا أقول تئن تحت كلا كل الاحتلال البريطاني بل إنها كانت مستكينة لهذا الاحتلال وادعة مسترخية ... كان الحكام يسبحون بحمد الاحتلال ... وكان الشعب يسبح بحمد هؤلاء الحكام ، وكان المثل السائد على ألسنة الناس هو الذى يقول : ليس فى الإمكان أبدع مما كان وكنت تسمع من المثقفين ومن شباب الأحزاب إذا أنت حاولت انتقاد الحكام قولهم : لا تعاند من إذا قال فعل ... لم تكن مهمة الأحزاب نتعدى التطاحن فيما بينهم على المناصب ، فكانوا فى ذلك أشبه بسواد الشعب الفقير حين يتهافتون على ما تلقيه معسكرات الانجليز من بقايا طعام ، فيعتبر من يحظى بقسط من هذه (( الزبالة )) نفسه فائزا قد نال قصب السبق : كذلك كان الذى يحظى من الحكام بكلمة رضا من رجال السفارة الانجليز يعتبر نفسه قد حقق أمنيته وبلغ الجبال طولا ويقبل عليه زملاؤه بالتهاني يغبطونه على هذا الفوز العظيم . ولم تكن السراي أحسن من هذه الأحزاب أما الأزهر ، وهو المصدر الوحيد الذى يتلقى الناس منه تعاليم دينهم فإنه كان أداة طيعة فى يد المستعمر عن طريق الحكام ... نشر فى الناس صورة باهته مشوهة للإسلام فكان معنى الإسلام فى نظر الناس بفضل الأزهر لا يتعدى طقوسا تؤدى داخل المساجد أو فى البيوت ، وكادت الاستكانة أن تكون مرادفة للإسلام فى نظر الناس .
ويمكن إجمال وصف الوقت الذى ظهر فيه حسن البنا بأنه ظهر والأمة ميتة تماما لا حراك بها . فإذا خرجت عن دائرة مصر لترى ما حولها من دول عربية وإسلامية ، وجدت كل شعب من هذه الشعوب يغط فى نوم عميق والاستعمار أخذ بخناقهم جميعا ، وقد فقد الجميع كل شئ حتى الإحساس بالظلم ؛ كما أن شعب كل دوله من هذه الدول يجهل كل شئ عن شعوب الدول العربية والإسلامية الأخرى ؛ بل كان المصري على سبيل المثال يعرف الكثير عن البلاد الغربية ويزورها ولا يعرف شيئا عن بلاد شقيقة متاخمة لبلاده ولا يخطر بباله أن يزورها وكذلك كان شعور سكان البلاد العربية والإسلامية الأخرى نحو مصر ونحو بعضها بعضا .
ولذا فإنها كانت مفاجأة مذهلة أن سمع الذين استقروا فى أجداثهم - وارتضوها مساكن لهم - صوتا كالرعد يناديهم أن قوموا من أجداثكم ، ومزقوا أكفانكم ، وانفضوا التراب عن أجسامكم ، فإن أماكنكم التي أرادها الله لكم هى فوق السحاب لا تحت التراب ؛ ألستم ذرية الذين قال الله فيهم (( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ؟! .. سيروا ورائي لنحطم الأغلال ، ونبدد سحب الظلام ، لننشر النور فى الآفاق ... قوموا لننسف بروح الإخوة التي سجلها الله لكم فى كتابه ما اصطنع المستعمر من حواجز وهمية بينكم وبين إخوانكم المسلمين فى بقاع الأرض فالمسلمون أمة واحدة (( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون )) (92 الأنبياء ) .
أكثر الذين اخترق آذانهم هذا النداء استقبلوه استقبالهم لحلم كاذب لا يستحق إلا الامتعاض والأغراض . وحملة آخرون على أنه هذيان مخبول من حقه عليهم أن يدعوا الله له بالشفاء ؛ ولم يقع فى موقعه إلا من قلة هى التي كان عندها علم من الكتاب ، وهذه القلة الواعية دائما هى فريق من المطحونين المستضعفين .
لفته إلى وراء
المرشد قبل القاهرة :
يجمل بنا قبل الاسترسال فى سرد ما نحن بصدده من حلقات متصلة فى تاريخ هذه الدعوة تلك الحلقات التى كنت أحد عناصرها أو كنت احد مشاهديها ؛ أن نلقى نظرة نطل بها على أيام لهذه الدعوة لم يشأ القدر أن أشارك فيها أو أن أشهدها بنفسي ؛ فإن تعرفي على الدعوة وعلى شخصية مرشدها كما قدمت إنما كان بالقاهرة .. ولكن الدعوة - كما حدثنا الأستاذ المرشد - لم يكن مهدها القاهرة وإنما شاء الله أن يكون مولدها الذى برزت فيه إلى الوجود هو الإسماعيلية .
حدثنا الأستاذ رحمه الله أنه وأسرته من أهالي قرية (( شمشيرة )) مركز فوه ، وقد نزح والده وهو صغير إلى بلدة المحمودية حيث افتتح الوالد محلا لتصليح الساعات ومن هنا لقب الوالد بالساعاتي ، وقد لصق هذا اللقب بعبد الرحمن شقيق الأستاذ الذى يليه فى السن فعرف بعبد الرحمن الساعاتي . وتعلم (( الأستاذ )) فى المدارس الأولية ولما أتم حفظ القرآن الكريم التحق بمدرسة المعلمين الأولية بدمنهور ولما حصل على الدبلوم عين مدرسا فى مدرسة خربتا الأولية مركز كوم حمادة .
وقد رأى أن يواصل دراسته فدرس دراسة خاصة للالتحاق بدار العلوم ، وقد اضطره ذلك إلى الانتقال إلى القاهرة حيث كان مطالبا بالعمل لكسب عيشه فالتحق بعدة أعمال منها أنه اشتغل عاملا فى محل للبقالة ولقي فى ذلك ما لقي حتى أنه لم يكن يجد وقتا يستذكر فيه دروسه ، ولما حان موعد الامتحان المؤهل للالتحاق بدار العلوم نفسها وجد أن مطالب الحياة الضرورية لم تدع له وقتا نؤهله مذاكرته فيه أن يدخل الامتحان ؛ فشكا إلى الله الذى يعلم أنه لم يقصر لحظة واحدة ... يقول رحمه الله : ونمت ليلة الامتحان فإذا بي أرى فيما يرى النائم رجلا يواسيني ويقول لي : التفت إلى فألتفت إليه فإذا بيده كتاب المادة التى سأمتحن فيها فى الصباح فيفتح الكتاب عند صفحة معينه ويشير إلى أن أقرأ حتى إذا قرأت الصفحة فتح الكتاب عند صفحة أخرى فأقرأها وهكذا حتى أنهى الكتاب فأغلقه وتركني ، فلما أصبحت وجدتني حافظا كل ما قرأت - وكانت هذه طبيعة أحفظ كل ما أقرأه - ودخلت الامتحان فإذا الأسئلة كلها هى نفس ما قرأته فى الرؤيا .. وهكذا مرت ليال الامتحان وأيامه على هذا النحو وظهرت النتيجة فكنت الأول . والحمد لله .
يقول رحمه الله : والتحقت بدار العلوم وكنت أهوى الأدب العربي ما كان منه مقررا دراسته وما لم يكن مقررا وكنت أكتب ما يعجبني من قصائد فى كراريس أعددتها لذلك حتى تكامل عندي من ذلك عدة كراريس ، وكان امتحان الأدب العربي هو الامتحان الرئيسي فى الدار وكان الامتحان فيه تحريريا وشفويا ؛ فلما مثلت بين يدي لجنة الامتحان الشفوي فى امتحان الدبلوم النهائي لدار العلوم سألني رئيس اللجنة عما أحفظ من الشعر فقدمت له الكراريس فقال لي : ما هذه الكراريس ؟ . قلت : إن ما فيها هو ما أحفظه فتعجب الرجل وقال : هل أنت على استعداد أن أسمع أية قصيده أختارها من الكراريس ؟ فأجبته بالإيجاب .. فطفق يطلب إلى أن أقرأ حتى أطمأن إلى أنني أحفظ ما فيها جميعا . ثم قال لي : إني سألك السؤال الأخير : ما أحسن بيت أعجبك فى الشعر العربي ؟ قلت : أحسن بيت أعجبني هو قول طرفة بن العبد فى معلقته :
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أقعد ولم أتبلد
قال : قم يا بني ، هذا سؤال يسأل للنابهين من الطلبة فى كل عام هنا وفى الأزهر فلم يجيب أحد بمثل ما أجبت به إلا الشيخ محمد عبده ... إنني أنبأ لك بمستقبل عظيم...
من جهود الطالب حسن البنا:
الحملة الصليبية الجديدة أو الغارة التبشيرية :
سبق لي أن ذكرت أن الفترة التى قام فى خلالها حسن البنا بدعوته كانت فترة حالكة فى تاريخ هذه الأمة ، وأشير هنا إلى أن هذه الحلكة لم تبدأ مع بدء ظهوره على المسرح وإنما كانت الحلكة مطبقة على الأمة من قبل ذلك ؛ وقد بلغ استهتار الانجليز بمقدرات هذه الأمة أن تجاهلوا أنها أمة مسلمة ذات مجد وتاريخ ففتحوا للحملات التبشيرية أبواب البلاد ، بعد أن مهدوا لها بنشر الجهل والفقر والمرض ، وبعد أن أطمأنوا إلى أن مقاليد الحكم فى البلاد أصبحت فى يد الفئة التى تدين لهم بالولاء والتي فى حقيقة أمرها غريبة عن هذه البلاد فهي كما قال الشاعر
بلاد قد نرى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان
انتشر المبشرون فى أنحاء البلاد فى الوجهين البحري والقبلي ، فى المدن والقرى تحت سمع المسئولين من الحكام وبصرهم ، بل إن هؤلاء الحكام فى المدن والقرى كانوا بحكم تعليمات رؤسائهم يسهلون للمبشرين وسائل دخول المدن والقرى كما يسهلون لها وسائل الاتصال بالأهالي وإجراء ما يشاءون من إجراءات بل وإقامة ما يشاءون من منشآت بل واختطاف من يشاءون من أطفال ونساء ؛ وفى الوقت الذى يضربون فيه بيد من حديد كل من تسول له نفسه أن يتعرض سبيل هؤلاء الغزاة ولو بكلمة معتبرين ذلك اعتداء على الحكومة ... صار هذا الشعب نهبا مباحا لهؤلاء المبشرين .
ولم تكن وسيلتهم إلى التبشير بالمسيحية عرضا لعقيدتهم وشرحا لها أمام الناس كما هو المتبادر إلى الذهن من لفظ التبشير ، وغنما وسائلهم هى استغلال فقر الناس وحاجتهم وجهلهم فيأخذون هذا الطراز من الناس ويأخذون نساءهم وأولادهم وينفقون عليهم ببذخ على أن يظلموا معهم داخل كنائسهم ويقولوا مثلما يقولون ... أما الشباب من أبناء الأغنياء فكانوا يغرونهم بالنساء ... كانت وسائلهم أخس الوسائل وأحطها ... وقد استمر عملهم هذا فى جميع أنحاء البلاد أكثر من سنة ومع ذلك لم يخرجوا بمحصول يزيد على عشرات الأفراد من هؤلاء الجهلة الفقراء المدقعين .. لم تكن هذه الحملات العانية للتبشير إذن ذات أثر يذكر فى نتائجها من ناحية تكفير المسلمين لكنها كانت صورة بشعة متوحشة للاستعمار البريطاني أمام شعب أعزل مغلوب على أمره ، تضافرت على قهره حكومته مع الانجليز ... كان الناس يبكون من شدة الغيظ لأنهم يرون بأعينهم من ينتهك حرمة عقيدتهم - وهى أعز ما يعتزون به - وهم لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم لأن حكامهم جعلوا الدفاع عن النفس فى هذه الحالة جريمة يعاقب مرتكبها
كنا فى ذلك الوقت فى رشيد - ولم تكن رشيد هدفا للمبشرين لأنهم درسوا طبيعة البلاد قبل أن يحضروا من أمريكا وفرنسا وبلجيكا وغيرها من بلاد أوربا فعلموا أن هناك مدنا مغلقة لا أمل لهم فيها حيث لها طبيعة خاصة وتاريخ لا ينسى ومنها رشيد ، فلم يحاولوا دخولها .. لكننا كنا نسمع عما يفعلون بالمحمودية وقراها من خطف الأطفال وإغراء الفقراء بالمال وإغراء الشباب بالعبث وبالنساء ... وكان أهل المحمودية يحضرون إلى رشيد فيروون ما يحدث عندهم فيبكون ويبكون ..
أما الصعيد فكان مرتعا خصبا لهم ، حيث الفقر هناك والجهل والمرض أضعاف ما هو عليه فى الوجه البحري ، وحيث كان الصعيد فى ذلك الوقت يعتبر من المجاهل التى تحتاج إلى من يرتادها ويكشف عن معاناة أهلها المعزولين عن الحياة ... لقد فعلوا فيه الأفاعيل .. وكانت أسيوط نقطة ارتكازهم وكان لهم فيها مستشفى يخطفون الأطفال والنساء من القرى وينقلونهم إليه ، ولا يستطيع أهل المخطوف أن يروه أو يعلموا عنه شيئا ، كما لا يجدون من يشكون إليه . كاد الناس يفقدون إيمانهم بالله أمام هذه القوى العارمة المتضافرة ثم لا يجدون من يعترض طريقهم ؛ حتى الصحف لم تكن تشير إلى ذلك مع أنها صحافة حرة لكن نفوذ الانجليز وقانون المطبوعات الذى وضعه الانجليز ، يعطى حكام مصر المتواطئين معهم السلطة فى مصادره أية صحيفة أو وقفها أو سحب الترخيص بها إذا هى تعرضت للمؤامرة المدبرة على إذلال الشعب وتكفيره برضاه أو رغم أنفه ؛ كما أن الأموال الطائلة المعتمدة لحملات التبشير من خزائن أمريكا وانجلترا وفرنسا ودول أوربا كانت تنفق على هذه الصحف بسخاء ..
يقول حسن البنا - الطالب بدار العلوم فى ذلك الوقت - كاد صدري يحترق من زفرات الألم كما كادت تحترق صدور الناس من حولي ، لكنني فكرت فلم أجد لهذا الألم معنى إذا لم يتحول إلى عمل ، ولكن كيف نحوله إلى عمل والحراب مشرعة وجوهنا من رجال الحكم الذين كان يجب أن يكونوا هم ملاذ الناس ، والذين صرنا وإياهم كما قال الشاعر :
وقد كان منا إليك الشكاة فأصبحت أنت الذى تشتكى
فكر حسن البنا فرأى أمامه فى الأزهر شخصيات يرجى نفعها لما يلمس فيها من غيرة على الدين واستعداد للعمل إذا وجدوا إليه سبيلا كالشيخ يوسف الدجوى . فاتصل بهذه الشخصيات فوجد فيها تحرقا إلى العمل لكن الطريق أمامهم مسدود ... ثم لاحت فى مخيلته صورة شخصية أخرى لها كيان علمي وأدبي خاص تفردت به دون غيرها ... ولها من ظروفها ما قد يعين على إيجاد بصيص من نور فى هذه الحلكة القاتمة ... تلك هى شخصية (( أحمد تيمور باشا )) ذلك الجليل سليل المجد والصديق الشخصي للملك فؤاد .
استصحب حسن البنا معه عددا ممن استجاب له من هيئة كبار العلماء وطلبوا مقابلة أحمد باشا تيمور فى منزله ... فاستقبلهم الرجل أحسن استقبال وكان يعرفهم جميعا عدا هذا الشاب الصغير .. وتقدم هذا الشاب الصغير فتحدث عن الموضوع . حديث الثكلى عن فلذة كبدها - ووصف الحال التى تظل البلاد وكيف يعبث المبشرون فى البلاد فسادا تحت سمع الحكومة وبصرها بل وفى حمايتها وانفجر فى البكاء حتى أبكى الباشا فأبكى الحاضرين ... وتداول المجتمعون عسى أن يجدوا مخرجا ... وجاءت سيرة الملك فؤاد فقال تيمور باشا إنه صديقي وأثق فى غيرته على الإسلام وتعددت الاجتماعات ونوقشت أفكار ومقترحات وانتهت إلى قرار بأن أول إجراء لابد منه أن نصدر مجلة تتصدى لهذه المؤامرة وتفضح اعتداءاتها وتستنهض الهمم لمقاومتها .. وبمجهود تيمور باشا وتدخل الملك فؤاد صدرت مجلة الفتح وأسندت رياسة تحريرها إلى الكاتب الإسلامي العظيم الأستاذ محب الدين الخطيب .. قد حضرت فى خاطري الآن قصة كان قد حدثنا بها الأستاذ المرشد ؛ وهى تتصل بأساليب المبشرين فى إغراء أبناء الأغنياء من المسلمين بالنساء مما أشرنا إليه قبلا ... ومعذرة إلى القارئ إذ فاتني ذكرها فى موضعها .
وقد حدثنا الأستاذ بهذه القصة فى معرض حديثه عن كتاب ((إحياء علوم الدين )) للإمام أبى حامد الغزالي . وكان الأستاذ المرشد يرى أن هذا الكتاب هو أعظم موسوعة إسلامية ، وكانت إحدى أمانيه أن تتيح له الظروف شرح هذا الكتاب . وقد شرع فعلا فى ذلك فأعد درسا أسبوعيا فى منزله لمجموعة من الإخوان فى شرح هذا الكتاب وكان حريصا على كتابة كل درس يلقيه فى كراسة - مما لم يفعله فى أي درس آخر - ولكن الظروف لم تسعف فقد هبت الأنوار من كل جانب على سفينة الدعوة فعصفت أول ما عصفت بهذه الدروس التى لم ندم إلا بضعة أسابيع ولله الأمر من قبل ومن بعد .
قال الأستاذ : فى أوج الحملة التبشيرية - وكنا إذ ذاك بالمحمودية -كان احد الشبان - وذكر لنا أسمه ولكنني نسيته - من أبناء أثرياء المحمودية قد أغرى بإحدى فتيات المبشرين حتى ملكت عليه فؤاده ... ولما كان الشاب مستقيما متدينا فقد أبدى رغبته للمبشرين فى الزواج منها ، فاشترطوا عليه قبل إتمام الزواج بها أن يتنصر وأن يعمل خادما فى الكنيسة .. ففعل ودخل الكنيسة يقضى فيها نهاره وليله ولا يخرج منها أملا فى أن ينال رضاهم فيحققوا له رغبته الجارفة .
وفى إحدى الليالي ، بينما هو نائم فى الكنيسة رأى فيما يرى النائم أنه فى الجنة - وفيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر - ثم رأى رجالا ثلاثة عليهم هيبة ووقار قادمين نحوه ... وتقدم أحدهم فسلم وعرف بنفسه فكان موسى عليه السلام ثم تقدم الآخر فكان عيسى عليه السلام ... ثم أشار إلى ثالثهم وقال أتعرف من هذا ؟ قال : لا قالا .. إنه محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين قال : فأخذتني رعدة ... فقالا . إنما جئنا لنعتب عليك فيما فعلت ... وقال عيسى عليه السلام : كيف ترجع على عقبك وتتنصر مع أنني أنا أؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ؟ ...
قال الشاب : فاستحييت من النبي صلى الله عليه وسلم وتصببت عرقا مما فعلت بدافع الشهوة والهوس وحاولت الاعتذار والتوبة فلم أستطع أن أنطق فقد ألجم لساني ... فسكن النبي صلى الله عليه وسلم من روعي وقال لى : إذا أردت أن تصحح إيمانك فاصعد إلى أعلى الجنة - وحدد لى شجرة معينة - فستجد أبا حامد الغزالي جالسا فى ظلها فتلق عنه كتابه (( إحياء علوم الدين )) .
قال الشاب : فصعدت حتى رأيت أبا حامد فابتدرني بقوله : مرحبا بمن بعث به إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم أخذ يفتح كتابه ((الأحياء)) ويشرح لى وكلما شرح لي بابا انكشف عن قلبي غمة حتى استيقظت من النوم وقد غسل قلبي ولم يعد للفتاة التى أحببتها شئ فى نفسي ، وخرجت من الكنيسة واقتنيت كتاب الإحياء .
قال الأستاذ : وعكف الشاب على الكتاب فصار شغله الشاغل حتى كاد يحفظه وكنا نرجه إليه فى فهم ما يصعب علينا فهمه منه . وبعد إيراد هذه القصة المعترضة ...... أرجع إلى سياق الحديث فأقول :
أخذت مجلة ((الفتح )) نفضح مؤامرات الانجليز ، فاضطر الانجليز إلى الانحناء أمام العاصفة وبدأت الحملة الصليبية لأول مرة نواجه مقاومة . وكانت النتيجة العاجلة لفشل المؤامرة أن اضطر الانجليز لسحب أذنابهم حكام مصر من المعركة فلم يبق فى أرض المعركة إلا الصليبيون والشعب وجها لوجه .
وتكونت لجنة فى القاهرة برياسة الشيخ محمد مصطفى المراغى الذى كان من قبل شيخا للأزهر لمقاومة التبشير وتكونت لها فروع فى المدن والقرى ، وتصدت هذه اللجان لمن يسمون أنفسهم بالمبشرين ، وما من مرة تقام مناظرة بين الطرفين علنا إلا أنهزم المبشرون بالحجة والبرهان ، بعد أن زال عنصر الترغيب والإغراء ، وعنصر القهر والإرهاب . ولم تستطيع الحملة الصليبية المسعورة بعد ذلك أن تثبت فى أماكنها إلا أياما معدودة ، فكل يوم تجلو عن البلاد فرقة منهم حتى طهرت منهم البلاد فى أشهر معدودات .
إنشاء جمعية الشبان المسلمين
كانت هذه الحملة الصليبية من أشد ما أصاب مصر من ويلات الاحتلال البريطاني ؛ إذ كان القصد منها تحويل مصر إلى معسكرين متناقضين كما فعلوا بالسودان ؛ فشمال السودان وجنوبه مسيحيون . وقد أرضع مسيحيون الجنوب كراهية مسلمي الشمال ... كذلك أرادوا أن يفعلوا بمصر فقد ركزوا على الصعيد فأنشئوا فيه المركز الرئيسي لهم ، وكانوا ينقلون إليه من يختطفونه من أطفال الوجه البحري ونسائه .. وشاء الله مع ذلك أن يخرج من هذا الشر المستطير خير ؛ فلولا هذه الحملة المسعورة ما أستطاع حسن البنا أن يجمع على العمل للإسلام هؤلاء الذين لم تكن تجمعهم جامعة ولا تضمهم رابطة وجزي الله الشدائد كل خير .
وكان من ثمرات ذلك إنشاء جمعية تسمى الشبان المسلمين وأسندت رياستها إلى رجل مسلم غيور هو الدكتور عبد الحميد سعيد . وكان الطالب حسن البنا من أوائل من أشترك فى عضويتها . وقد وجدت الرياضة فى هذه الجمعية باعتبارها وسيلة لجذب الشباب ، وإن كان تطور الزمن قد غلب الرياضة على جميع أغراضها حتى كادت تفقد المعنى الديني الذي أنشئت من أجله .
كتاب (( الغارة على العالم الإسلامي )) :
كان اختيار الأستاذ محب الدين الخطيب لتحرير مجلة (( الفتح )) اختيارا موفقا ؛ فقد كان من القلائل الذين يفهمون الفكرة الإسلامية فهما كاملا دقيقا ، وكان من العلماء بالتاريخ الإسلامي القديم والحديث ، كما كان محيطا بتواريخ الأمم على اختلافها ، ولم يكن مصري المولد فالمعلوم أنه كان من أهل الشام . وشارك فى الحركات الإصلاحية الإسلامية فى نواحي العالم الإسلامي ويبدو أنه نزح إلى مصر هربا من بطش الفرنسيين الذين كانوا لا يطيقون أن يروا كاتبا إسلاميا حرا فقد نفوا زميلا له هو الأمير شكيب أرسلان .. وقد عمل مع الشيخ محمد عبده ومع الشيخ رشيد رضا ... وكانت مكتبة عظيمة فى شارع درب الجماميز وبها المطبعة التى تطبع مجلة الفتح وقد نقل مكتبته بعد ذلك إلى جزيرة الروضة .. وأنا طبعا لم أحضر مجلة الفتح فى أول ظهورها لكنني حين نزحت من أجل الدراسة إلى القاهرة كنت حريصا على اقتنائها وكنت أجد فى قراءتها متعة عظيمة لأنها هى وحدها التى كانت الصوت المعبر عن الفكرة الإسلامية فى ذلك العهد ، وهى وحدها التى كانت تلتقي على صفحاتها أقلام المجاهدين من أنحاء العالم الإسلامي وكان شعارها المكتوب بجانب اسمها على الغلاف هو هذه العبارة (( أنت على ثغرة من ثغور الإسلام فلا يؤتين من قبلك )) .
وكان من أعظم ما أخرجه الأستاذ محب الدين مما سوى مجلة الفتح كتاب (( الغارة على العالم الإسلامي )) هذا الكتاب يجدر بكل مسلم يريد أن يفهم الحقائق فى هذا العالم أن يقرأه . إذ استطاع هذا الكتاب أن يفضح المؤامرة العالمية التى حاكتها الدول المسيحية للقضاء على الإسلام حيث كان .. ولم يعتمد الكتاب فى فضح المؤامرة على مجرد التشهير بها والتنويه بخطورتها ورص عبارات التحذير منها ، وإنما اعتمد فى ذلك على نشر نصوص اتفاقيات سرية تم عقدها بين الدول فى صورة جمعية عالمية للتبشير ألفتها هذه الدول ، وقد استطاع الأستاذ محب الدين الحصول على نصوص هذه الاتفاقية بطريقته الخاصة . وإذا قرأت نصوص هذه الاتفاقيات وما رصدته هذه الدول لتنفيذها من مئات الملايين من الجنيهات وقرأت الوسائل التى رسموها لتقويض دعائم الإسلام فى نفوس معتنقيه لعجبت لبعد نظر هؤلاء القوم ولبراعتهم فى التخطيط التنظيم .
وقد لقي هذا الكتاب حين صدر مقاومة عظيمة واتبعت فى مقاومته نفس الأساليب الملتوية التى خططوها للقضاء على الفكرة الإسلامية ، وربما كان من هذه الأساليب شراء كل ما يصدر من الكتاب من نسخ وإعدامها فيحولوا بذلك بين المسلمين وبين اطلاعهم على محتوياته .. وهذا أسلوب من أساليب الاستعمار فى محاربة الكلمة المطبوعة
ليقضى الله أمرا كان مفعولا :
تخرج حسن البنا فى دار العلوم ، وكان أول دفعته بمجموع يصل إلى النهايات ، وكان المتبع أن يوفد أول الدفعة فى بعثة دراسية إلى الخارج ولكن شاء الله أن يحول دون ذلك ، ليقضى الله أمرا كان مفعولا ، وتؤسس دعوة الإخوان المسلمين فى سنة 1928 بعد أن تم تعيينه مدرسا بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية .
في الإسماعيلية :
كانت الإسماعيلية فى ذلك الوقت مدينة أجنبية بكل ما تحتمل هذه الكلمة من معان ، بل إن وصفها بهذا الوصف لا يفي بكل معانيها فهي قطعة من أوربا ، فعلية أهلها أجانب من جميع الجنسيات ، والموظفون المحترمون بها أجانب ، وحاكمها (( الحكمدار )) أجنبي ، والجيش المرابط فيها إنجليزي ... وهؤلاء الأجانب الذين يسكونها يعيشون عيشة أكثر رفاهية وأرغد عيشا وأقوى جاها من تلك التى يعيشها أهلهم وذووهم فى فرنسا وانجلترا وغيرها من بلاد أوربا ... لأنهم فى بلادهم قد لا يجدون من يخدمهم من أبناء جلدتهم إلا القليلين الذين يتقاضون أجرا باهظا قد يعجزون عن أدائه مع ذلك فإن هؤلاء لا يرضون لأنفسهم - حين يخدمونهم - إلا معاملة الند للند ، لا يقبلون منهم غطرسة ولا مهانة ولا كبرياء ... أما فى الإسماعيلية فالمصريون لا يكتسبون قوتهم إلا من خدمة هؤلاء الأجانب الذين يعتبرونهم أصحاب البلد الأصلين أما هم فخدم طارئون لا يتقاضون أجرا على خدمتهم إلا التافه القليل .. أشربت قلوبهم الذل فالرجل منهم لا يشعر أنه أهين إذا ما شتمه سيده الأجنبي أو صفعه أو ركله برجله لأن هذا كان هو الشئ الطبيعي المألوف .
كان سكان هذه المدينة ثلاث فئات : جيش الاحتلال البريطاني وشركة قناة السويس وهى خليط من الأجانب ولكن أكثرهم من الفرنسيين والانجليز والأمريكيين ... والفئة الثالثة هى خدام هاتين الفئتين وهم المصريون ... ولما كانت الطبيعة البشرية تدفع بالأدنى إلى تقليد الأعلى فقد كان هؤلاء الخدم وهم الأهالي وقد فقدوا مقومات التشبه بسادتهم فى عيشة الرفاهية والبذخ لأنهم فقراء فلم يبق أمامهم إلا التشبه بهم فى شرب الخمر والإباحية على طريقتهم الخاصة .
لم يكن أهل الإسماعيلية جميعا عمالا لدى الأجانب بل كان منهم مقاولون ، وما أفخم صدى هذه الكلمة فى الأسماع ، ولكن ماذا كان عمل هؤلاء المقاولين ؟ كان عملهم توريد الخدم (العمال) من المصريين إلى هؤلاء الأجانب فكانت تجارة رقيق مقنعة وكان من عملهم نهب خيرات البلاد من مختلف قراها وأسواقها من الأغذية وحرمان الشعب منها وتوريدها للمستعمرين .. وكان من عملها شراء الزبالة التى يلقى بها جيش الاحتلال من بقايا الطعام وفتات الموائد وهو ما كان يسميه هذا الجيش (Rubbish ) ويبيعه المقاول الكبير إلى مقاولين صغار وهؤلاء بدورهم ينقلونه إلى مختلف بلاد القطر حيث يتهافت أهالي البلاد المحرومون على شرائه ليقتاتوا به .
لم يكن للحكومة المصرية وجود فى الإسماعيلية ، ولا للقوانين المصرية وجود ... وإنما كان الجيش البريطاني سندا لحكومة مستقلة ذات سيادة هى شركة قناة السويس .
نزل الشاب الصغير حسن البنا هذه المدينة الصاخبة وهو فى سن العشرين ، فرأى المدينة على الحالة التى وصفنا ، ووجد أنها تتكون سادة الأجانب وخدم هم المصريون ، وهاله ما رأى من صلف السادة ومهانة المصريين .. وأحس أن الله تعالى قد أختار له هذا البلد لتكون العجزة الإسلامية واضحة بارزة ... درس الشاب المنطقة المصرية من المدينة فوجد أن المساجد بها على ندرتها لا يؤمها الشيوخ القانون وذوو العاهات ، أما آلاف الشباب فلا مقر لهم بعد الخروج من عملهم إلا المقاهي .. ولما كانت الدعوة فى حاجة إلى الشباب فلابد إذن من الاتجاه إلى المقاهي .
أراد أن يلفت إليه الأنظار ، فدخل إحدى المقاهي المكتظة ، وعلى حين فجأة تنازل جذوة ( بصة ) من إحدى التراحيل ((الشيش )) وألقى بها وهى ملتهبة من أعلى فنزلت على إحدى المناضد وسط الجالسين وتناثرت ، فارتاع الحاضرون وغادروا أماكنهم مذعورين وتلفتوا يبحثون عن مصدرها فرأوا شابا وسيما واقفا على كرسي يقول لهم (( إذا كانت هذه الجذوة الصغيرة قد بعثت فيكم الذعر إلى هذا الحد فكيف تفعلون إذا أحاطت النار بكم من كل جانب ومن فوقكم ومن تحت أرجلكم وحاصرتكم فلا تستطيعون ردها ... وأنتم اليوم استطعتم الهرب من الجذوة الصغيرة فماذا أنتم فاعلون فى نار جهنم ولا مهرب منها )) ...
وهكذا استمر فى موعظته يضرب بها على أسماع مرهفة وقلوب متفتحة وأحاسيس فى أشد حالات اليقظة على أثر المفاجأة فكان لها أعمق الأثر فى نفوس الحاضرين . واتجهوا إليه يسألونه عن نفسه وعن عمله وعن مقره ، وبدأوا يلتفون حوله ويغرمون بالاستماع إليه ، وقد حببهم فيه أنه شاب ، وأنه متطوع لا يتقاضى على موعظته أجرا ولا بغى منها لنفسه نفعا وتوالت كلماته فى المقاهي تنقل الحديث عنه من مقهى إلى أخرى حتى كثر الملتفون حوله فبدأوا فى تنظيم اجتماعاتهم به ، ولما ضاقت بهم المقاهي قرروا تكوين جمعية على تسميتها (( الإخوان المسلمون )) ثم رأوا أن يقوموا ببناء مسجد ودار يجتمعون فيها وبنو المسجد والدار فكانت هى أول دار للإخوان المسلمين . من آثار الدعوة فى الإسماعيلية
بنيت دار الإخوان فى الإسماعيلية وبني مسجدهم وساهم فى بنائهما الأهالي كما ساهمت شركة قناة السويس باعتبارهما عملا دينيا تفهمه الشركة كما كان يفهمه سائر الناس فى ذلك الوقت على أنه دروشة .
شركة جباسات البلاح :
وسرت روح الإيمان الجديد من عمال الإسماعيلية إلى زملاء لهم بعيدين فى الصحراء حيث شركة جباسات البلاح وهى شركة أجنبية أيضا تضم مئات من العمال . وتعلم هؤلاء العمال فيما تعلموا (( الصلاة )) ورأوا أن عملهم بالشركة يضيع عليهم بعض الصلوات لعدم وجود مكان بالشركة يصلح لأدائها ... فتقدم هؤلاء العمال إلى الشركة يطلبون بناء مسجد فيها لتأدية الصلاة فاستجابت الشركة لهم إذ هو مما لا يضيرها فلما تم إنشاء المسجد أو عز إليهم الأستاذ أن يطلبوا من الشركة تعيين إمام للمسجد ليصلى بهم .. ولما كانت الشركة لا عهد لها بشروط الإمامة فقد فوضتهم فى اختيار من يصلح لذلك .
كان الشيخ محمد فرغلى طالبا أزهريا ، نهل من معين الدعوة وارتوى ، وكان قد وضع نفسه فى خدمة الدعوة يوجهه الأستاذ حيث يشاء . فاختاره الأستاذ لهذه المهمة مهمة الإمامة وخطبة الجمعة بمسجد الشركة .
ويسر وجود الإمام داخل الشركة للإخوان العمال أن يدعوا زملاءهم للصلاة فتضاعف بذلك عدد المستجيبين للدعوة من عمال الشركة .
جنرال لا إمام :
أحس الأجانب المسئولون فى هذه الشركة بعد فترة من وجود هذا الإمام أن عمال الشركة قد تغيروا تغيرا ملحوظا ، فهم وإن زادوا إخلاصا فى عملهم حتى ظهر ذلك فى إنتاجهم إلا أنهم صاروا يعتزون بكرامتهم ولا يقبلون إهانة من أي مسئول بالشركة مهما علت مرتبته مهما كان وراء ذلك من ربح مادي لهم .
إن هذا التطور شئ جديد .. ولم يطرأ على الشركة جديد إلا هذا الإمام الذي عين للمسجد .. إن هذا الإمام ينشر أفكارا صحيحة ونبيلة ومثالية لكنها ستحد من سلطتنا على هؤلاء العمال إذن لابد من إبعاد هذا الإمام . ذهب أحد كبار المسئولين بالشركة واسمه المسيو فرانسوا فى اليوم التالي إلى المسجد بنفسه ونادي الإمام وقال له : إن الشركة قد قررت الاستغناء عنك وستمنحك مكافأة سخية جدا على أن تغادر المسجد الآن ولا تعود إليه .
فقال له الشيخ محمد فرغلى : ولكنني لا أستطيع مغادرة المسجد لأنك لست الذي جئت بي إلى هذا المكان . فقال : ومن إذن الذي جاء بك ؟ قال : الأستاذ حسن البنا .. فبعث مدير الشركة فى طلب الأستاذ حسن البنا . فلما حضر قال له : يا أستاذ حسن أنت لم ترسل إلينا إماما للمسجد وإنما أرسلت لنا جنرالا .
فسأله الأستاذ المرشد قائلا : أحب أن أسألك باعتبارك المسئول الأول فى هذه الشركة ... هل لاحظت عليهم سوء أدب مع زملائهم ؟ قال : لا . قال الأستاذ : إذن لا مانع عندي من سحب الإمام .
زواج المرشد العام :
كان من بين من استجاب للدعوة من أهل الإسماعيلية أسرة كريمة من أسرها تدعى أسرة الصولى ، وهم تجار من تجار من متوسطي الحال ... وكانت هذه الأسرة من الأسر المتدينة بطبيعتها وممن يربون أولادهم على الدين .. وكانت والدة الأستاذ تزور هذه الأسرة ، فسمعت فى إحدى ليالي زيارتها صوتا جميلا يتلو القرآن فسألت عن مصدر ذلك الصوت فقيل لها إنها أبنتنا فلانة تصلى فلما رجعت الأم إلى منزلها أخبرت نجلها بما كان فى زيارتها وأومأت إلى أن مثل هذه الفتاة الصالحة جديرة أن تكون زوجة له ، وكانت خير عون له فى دعوته حتى لقي ربه شهيدا مظلوما انتشار الدعوة فى المنطقة :
كان انتشار الدعوة بعد تأسيسها فى الإسماعيلية أمرا طبيعيا وقد ظل الأستاذ المرشد فى الإسماعيلية نحو خمس سنين انتشرت فى خلالها الدعوة فى منطقة القناة فى الإسماعيلية وبور سعيد والسويس وفى منطقة البحر الصغير من الدقهلية وفى بعض بلاد الشرقية - وكانت تعقد مؤتمرات لهذه المناطق فى أوقات دورية .
الباب الأول : في شارع الناصرية
مقدمة الباب الأول
إذا كان لصاحب الدعوة يبغى من وراء دعوته أن يتوطد مركزه ، ويعلو مقامه ، ويكون فى عز من التفاف الناس حوله ، وائتمارهم بأمره ، ومسارعتهم إلى ما يرضيه ، وتنافسهم فى التقرب إليه ، وبذلهم كل نفيس فى سبيله ، فإن ذلك كله قد نوفر لحسن البنا فى الإسماعيلية وما حولها .. ونستطيع أن نقول واثقين إن حسن البنا قد صار أعظم شخصية فى هذه المنطقة .
فماذا يريد إنسان بعد ذلك ؟ إن مثل هذا الداعية - وقد تحقق له أعظم ما يخطر بخيال إنسان ليطيب له المقام حيث العز والجاه والسلطة والشهرة دون منافس ولا منازع .
ولكن حسن البنا لم يكن هدفه الحصول لنفسه على هذه المتع الشخصية التي هي منتهى آمال كثير من الدعاة ، وإنما كان هدفه أبعد من هذا بكثير ... إنه كان يرى أنه يدعو إلى الدعوة عالمية ، فلابد أن ينتقل بها إلى حيث يبلغ صوته أوسع دائرة ممكنة من هذا العالم ... نعم إنه سيترك مكانا يشار فيه بالبنان ، ويتحدث عنه فيه بالإجلال الرجال والنساء الصبيان ، وإذا نادي هرع إليه ألوف من الناس ، وإذا قال ردد قوله ألوف آخرون .. سيترك ذلك إلى مكان لا يعرفه فيه أحد ، ولن يحظى بتوقير واحترام ، وإذا نادي بأعلى صوته لم يستجيب لندائه فرد واحد .. سيترك ذلك إلى مكان يكون فيه من غمار الناس ومجهوليهم .. كان يعلم هذا وأكثر منه ولكن بطبيعة دعوته تفرض عليه أن ينتقل ..
ومن أطراف ما حدثنا به الأستاذ المرشد مما يتصل بهذه المناسبة قوله : إنه بعد انتقال الدعوة إلى القاهرة بثلاث سنسن وانتقال مركزها العام 13 شارع الناصرية بالسيدة زينب ... حضر أحد إخوان الإسماعيلية إلى القاهرة لزيارتي ، ولم يكن هذا الأخ قد زار الأخ قد زار القاهرة من قبل ... وكان يعتقد أن المركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة له من الشهرة ما للمركز العام السابق فى الإسماعيلية وأن من أشهر شخصيات القاهرة ..
فلما نزل من القطار فى محطة القاهرة سأل أول من قابلهم من أهل القاهرة عن المركز العام للإخوان المسلمين ، فلما سمعه هؤلاء يسألهم عن شئ مجهول - وكأنه يسأل عن أحد معالم القاهرة اعتقدوا أنه شخص ساذج وقالوا له - ساخرين - اتجه من هذا الطريق ( وأشاروا إلى ناحية ما ) ثم اسأل هناك ... وظن الأخ أنهم جادون فى كلامهم واتجه حيث أشاروا ثم سأل فأجيب بنفس الطريقة ... وهكذا ظل يضرب فى شوارع القاهرة على غير هدى حتى قابلته صدفه وقد جاوز دار المركز العام بمسافة ... يقول الأستاذ فقص على الأخ ما حدث معتقدا أن هؤلاء الناس دلوه على الطريق وأثنى عليهم ... غير أنه لما قفل راجعا مع الأستاذ المرشد المسافة التي جاوز بها دار المركز العام قال للأستاذ المرشد : إن كل من سألتهم عن الطريق صدقوني إلا هذا المحل ( وأشار إلى محل على بعد أمتار لا تعدو الخمسين من المركز العام ) فقد سألته فقال لي : امش إلى نهاية هذا الشارع ( شارع الناصرية ) فستجد ميدان السيدة زينب فاسأل هناك عن المركز العام .
ضحك الأستاذ المرشد ، وفهم أن الدعوة حتى بعد انتقالها إلى القاهرة بثلاث سنوات لازالت إحدى النكرات حتى أن الملتصقة دكاكينهم بدار مركزها العام لا يعرفونه.
محال إذن أن من يكون هدفه أن يعيش فى جو من الشهرة والانطباع ، والشيعة والأشياع ، أن يغادر مكانا يتوفر له فيه كل ذلك ، لينتقل إلى مكان يكون فيه نكرة مجهولة ، وكمية مهملة ولكن المصلح يستجيب لدعوته مهما كلفته هذه الاستجابة .
انتقل فى عمله الخاص الذى يكتسب منه عيشه منه إلى مدرسة عباس الابتدائية بالسبتيه بمصر ، واتخذ لأسرته مسكنا فى حارة الروم بالغورية ، وجعل مقره هذا مقرا للمركز العام بالقاهرة .. أما تعرفي على الدعوة فلم يكن إلا بعد أن اتخذوا للمركز العام مكانا فى شارع الناصرية ، ويعد هذا الموقع بالنسبة لموقعهم السابق كالخروج من تحت الأرض إلى ظهرها ، وان كانت الدار كما قلت من قبل دارا قديمة متداعية .
تركيز الجهود على الطلاب
تكوين لجنة الطلبة :
تحدثت عن الطلبة الذين التقيت بهم فى المركز العام حين ترددت عليه أيام محاولتي استكناه أمر هذه الدعوة وأمر العاملين فيها . وقد لفت نظري اهتمام الأستاذ حسن البنا بالطلبة اهتماما شديدا فإذا تخلف طالب من المنتمين إلى الإخوان لأي سبب من مرض أو غضب أو غير ذلك عطل كل أعماله وخف إلى زيارته فى مسكنه مع مجموعة من زملائه الطلبة ويقضى عنده الساعات الطوال ؛ وهو الرجل الذى يضن بالدقائق أن يقضيها فى استقبال زائر مهما علا مقامه ؛ والرجل الذى كتب على مكتبه هذه العبارة ( الوقت هو الحياة ) لأنه كان يخطئ المثل الذى يقول ( الوقت من ذهب ) ويقول : إن الذهب إذا ضاع أمكن استرداده ولكن الوقت إذا ضاع لم يمكن استرداده . وكان على مكتبه أيضا لافته تقول (( الواجبات أكثر من الأوقات )) .
كان يرى أن الطالب هو أحق إنسان أن يعتني به وأن يحرص عليه وأن يبث إليه ما فى العقل والقلب . كان حريصا على أن تكون أمور الطلبة من اختصاصه هو دون غيره ، ويخيل إلى انتقاله إلى القاهرة كان أهم دوافعه أن يكون فى الموقع الذى يمكنه من الاتصال بالجامعة التي كانت فى ذلك الوقت وحيدة لا أخت لها فى بلد آخر من بلاد القطر .. ومن مظاهر حرصه على الاتصال بالطلبة والعناية بأمرهم ما حدثني به فى ذلك الوقت الأخ الكريم محمد فهمي أبو غدير قال لي : إن الأستاذ المرشد حريص كل الحرص على الاتصال بطلبة الجامعة بكل الوسائل الممكنة ، وكان يعتبر إقناع طالب واحد فى كلية من الكليات أنفع للدعوة من دخول بلد بأسرها فيها ، وكان يتلمس وسائل هذا الاتصال فعلم أن كلية الحقوق قررت على طلبة السنة الأولى بها دراسة مائة حديث نبوي اختارتها .. فهرع الأستاذ إلى هذه الأحاديث المقررة فشرحها شرحا رائعا ونشرها فى مجلة الإخوان وقام الإخوان الطلبة بعرض هذا العدد من المجلة على طلبة الكلية فأقبلوا عليها وتهافتوا على اقتنائها وبهذه الوسيلة اكتسبت الدعوة عددا جديدا من طلبة كلية الحقوق .
وبعد فترة قصيرة من التحاقي بالدعوة رأى الأستاذ المرشد أن يكون للطلبة مجلس إدارة سماه (( لجنة الطلبة )) تمثل كل كلية فيها بطالب فكان يمثل كلية الآداب محمد عبد الحميد أحمد وكلية الحقوق حسن السيد عثمان وكلية الطب إبراهيم أبو النجا وكلية العلوم جمال عامر وكلية التجارة طاهر عبد المحسن وكنت أمثل كلية الزراعة واختار الأستاذ المرشد حسن السيد عثمان رئيسا للجنة واختارني سكرتيرا لها .
كان تكوين اللجنة عملا كبيرا فى أثره وإن كان فى مظهره شيئا تافها ، فلجنة مكونة من ستة شبان صغار فى حجرة صغيرة من شقة متواضعة فى شارع غير مرموق لا نثير شيئا من الاهتمام ، ولا تبعث فى النفوس آمالا ترتقب ... ولكن الأستاذ حسن البنا بحاسته التي حباه الله بها ، والتي يرى بها المستقبل مالا يراه جيله ، كان يعرف ما سيكون لهذه اللجنة من آثار بعيدة المدى ، فكان يعقد عليها آمالا عريضة أثبتت الأيام أنه كان على حق فى عقدها وإذا كنا نريد أن نعرض لآثار هذه اللجنة فسنقول الكثير ، وسيطول القول ، وسنرى آخر الأمر أن جميع تطورات الدعوة وكل ما قامت به من أعمال وما حققت من أمال وما أخفقت فيه من ذلك ، وأن بروز الدعوة على المسرح المصري وانتشارها فى المجالين العربي والإسلامي ، ومواجهتها للاستعمار الغربي وللغزو الفكري الروسي منذ سنة 1936 حتى الآن ؛ كل ذلك هو آثار من هذه اللجنة .
الفصل الأول : العمل الطلابي المنظم
على أثر تكوين لجنة الطلبة بدأ عمل منظم فى الوسط الطلابي كانت مظاهره ما يأتي :
أولا : توزيع مجلة الإخوان
لم تكن مجلة الإخوان المسلمين مجلة خبرية ولا مجلة ثقافية عامة حتى يقتنيها المتشوفون إلى معرفة الأخبار أو الذين ينشدون الثقافة للمتعة والتسلية ، وإنما كانت لسانا معبرا عن دعوة الإخوان المسلمين ، وكان الأستاذ المرشد يكتب بقلمه أكثر ما ينشر فيها ، وكان يحاول فى كتابته أن يقنع من يقرأها بالدعوة ؛ فكانت هناك سلاسل من المقالات بعناوين (( دعوتنا )) إلى ، (( إلى أي شئ ندعو الناس )) (( هل نحن قوم عميلون ؟ .. )) وأمثال ذلك مما يوضح بأساليب منوعة طبيعة الدعوة وأهدافها ، ووسائلها وآثارها ، وكانت بقية المقالات يدور حول المعنى نفسه .
كما لم يكن لهذه المجلة رأس مال للإنفاق منه عليها ، ولما كان محرروها لا يتقاضون على التحرير فيها أجرا فإن تكاليفها كانت قاصرة على أجر طباعتها وثمن ورقها وكان الأستاذ المرشد يتكفل شخصيا بالجزء الأكبر من ذلك ... ومجلة هذه حالتها وهذه ظروفها ما كان مصدروها ليفكروا فى حمل عبء آخر من أعبائها بأن يتقاعدوا مع شركة توزيع لتوزيعها ؛ وكيف يقدمون على مثل ذلك وهم عاجزون ومن ناحية عن تقديم ما يتطلبه التوزيع من أجر ، ومن ناحية أخرى لا يستطيعون طبع الحد الأدنى من النسخ حتى تصلح للتوزيع فهم يطبعون منها نسخا بقدر ما يملكون من مال . وهذا القدر لا يفي بعشر ما يتطلب التوزيع العام فى مختلف الأنحاء .
لهذا كان يطبع من هذه المجلة قد عدد الإخوان الذين كانوا يقتنونها من أعضاء شعب منطقة القنال وما حولها وترسل إليهم عن طريق مندوبين من هذه الشعب يحضرون إلى القاهرة لتسلمها أو ترسل إلى هذه عن طريق مندوبين يحملونها إليهم وقد ترسل عن طريق البريد وكانت الكمية التي تستبقى فى القاهرة يوزعها الموجودون بالمركز العام على أنفسهم ، وقد نبقى بعد ذلك بقية لا تجد من يقتنيها .
ونظرت (( لجنة الطلبة )) فى موضوع المجلة فوجدت أن توزيع المجلة هو وسيلة من أهم وأجدى وسائل نشر الدعوة ووجدت أن الطلبة قد يكونون أكثر الطوائف فهما لما يكتب فيها وأحوجهم إلى قراءتها وأنفعهم للدعوة إذا اقتنعوا بأفكارها ، فقررت اللجنة أن يلتزم مندوب كل كلية بعدد من النسخ كل أسبوع يوزعه فى كليته .. وبدأت التجربة بعدد قليل وأخذ العدد فى الازدياد وكان الأستاذ المرشد يتابع هذا التوزيع باهتمام لأنه مقياس لمدى نجاح الدعوة فى كل كلية من الكليات .. وكان بعضنا - نحن أعضاء اللجنة - فى أول الأمر يسدد ثمن أكثر ما التزم به من نسخ من جيبه الخاص ولكن نجاح التجربة أغنى عن ذلك فيما بعد
ثانيا : نشر الدعوة داخل الكليات :
كانت الكليات خلوا من الدعوة الإسلامية فى الوقت الذى كانت تعج فيه بالأحزاب السياسية والأفكار المنحرفة وكانت رؤية الطلبة زميلا لهم يصلى كافية للتشنيع عليه ورميه بالرجعية ولذا كان الطالب الذى تربى فى بيته على المحافظة على الصلاة يجد مشقة فى أداء الصلاة فى كليته ، وكان يستخفى بالصلاة خشية أن يراه زملاؤه فيرشقونه بألفاظ مؤلمة .. وقد يحمل هذا الكلام على محمل المبالغة أو التخيل ... ولذا فسوف أشرح مواقف توضح للقارئ أن هذا الوصف خلو من أي معنى من معاني المبالغة .
التحقت بكلية الزراعة وكانت الكلية فى تلك السنة 1935-1936 لا تزال مدرسة عليا ، وكانت لا تزال هناك وجبة غذاء فاخرة تقدم للطلبة وكانت فترة الغداء هذه تطول أكثر من ساعة وتمتد فترة الدراسة بعدها إلى ما بعد العصر ؛ فكان أداء صلاة الظهر أمر لا مفر منه فى فترة الغداء ... ولما كنت طالبا جديدا وكنت حديث عهد بالكلية فقد تولتني الحيرة أين أؤدي صلاة الظهر ، فلم أجد أمامي من أتوسم فيه معرفة إلى ذلك إلا الفراشين فدلني أحدهم على المكان وكان هذا المكان قبة مبنية على الأرض ، ولكي أدخل تحت هذه القبة كان على أن أهبط سبع درجات سلم حيث أدخل مكانا مظلما يشغل ثلاثة أرباع مساحته الضئيلة قبر عليه ستار من قماش مهلهل وحول القبر قطع بالية من حصير قذر لا يتسع لصلاة اثنين معا .
انقبضت نفسي حين دخلت هذا المكان وتعجبت كيف تؤدى الصلاة فى مثل هذا المكان ، ولكوني طالبا صغيرا حديث عهد بالكلية اضطررت لأداء الصلاة فيه فترة من الزمن ، حتى إذا استقرت فى خاطري معالم هذه الكلية بدأت أبحث عن طريقة للتخلص من أداء الصلاة فى هذا الجب البغيض . وقد لاحظت أنه لحماية هذا المهبط إلى الجب أقامت الكلية سورا قصيرا من الحديد حوله ولكنه على وجه الأرض طوله نحو ثلاثة أمتار وعرضه نحو أو يزيد ؛ فتمنيت لو أننا صلينا فى هذا المكان ... ولاحظت أن هناك طالبا مواظبا على أداء صلاة الظهر فأحببته وتعرفت عليه وكان أسمه (( محمود مكي )) بالسنة الثالثة - وتبين لي بعد ذلك أنه مندوب (( مصر الفتاة )) بالكلية - فعرضت عليه أن نصلى فوق الأرض فى المساحة التي يحصرها السور فهمس فى أذني بأن هذا غير ممكن وإن أحدا لن يجرؤ على الصلاة فوق الأرض ، وأننا نصلى تحت القبة حتى لا يرانا زملاؤنا فيسخروا منا ويتهكموا علينا
أثارني هذا الاستخذاء وأجج فى صدري مرجلا من الغضب فنقلت الحصير البالي من تحت القبة إلى المساحة التي يحصرها السور من سطح الأرض ، ثم وقفت فى هذا المكان وأذنت أذان الظهر بأعلى صوتي فكان أذاني هذا إحدى العجائب إذ تقاطر الطلبة والفراشون وموظفو الكلية من مختلف الجهات إلى حيث أؤذن ليرو بأعينهم ما لم يصدقوا فيه أسماعهم .. فكانوا يعتقدون أن اجتماعهم فى مواجهتي وتكأكؤهم على كاف لإخجالي مما أقوم به فأكف عن إكماله ، ولكنني قبل أن أقدم على ما أقدمت عيه كنت مقدرا حدوث ما حدث بل حدوث ما هو أكبر وأنهيت الآذان ، وأقمت الصلاة وصليت والجموع فى مكانها لا تتحرك ، وأبصار الجميع شاخصة إلى .... وفى اليوم التالي فعلت ما فعلت بالأمس . والباطل لا تقوى صولته إلا إذا تخاذل أهل الحق عن حقهم أما إذا اعتزوا بحقهم . ووقفوا شامخين أمام سيل الباطل فإن الباطل ينحسر سيله ويرتد خاسئا وهو حسير ... فبعد أيام قلائل وجد محمود مكي والطلبة الذين كانوا يستخفونه بصلاتهم وجدوا فى أنفسهم الجرأة أن يصلوا معي على وجه الأرض ومن العدد يكثر يوما بعد يوم ضاقت هذه المساحة بالمصلين
كان لهذا العمل أثره فى فتح الطريق أمام الدعوة الإسلامية وهى دعوة الإخوان المسلمين ،فلقد كان أمام الطلبة المؤمنين باب مغلق تهيب كل منهم أن يحاول معالجته فكان هذا العمل بمثابة اقتحام الباب (( وإذا قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم أدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فانا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون . وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين )) .
كان هذا هو العمل الذى لابد منه حتى تجد الدعوة الإسلامية الجديدة لنفسها طريقا وسط هذا المزحم الزاخر بالفكر والدعوات التي توطنت واستقرت فى نفوس هذا الشباب المأمول والذي عمل المستعمر وذيوله من قديم على الاستحواذ على عقله وفكره وعواطفه ومشاعره بعد أن ربوا على أيديهم وفى أحضانهم جيلا بثوا فيه أفكارهم ثم ألقوا إليه بمقاليد الأمور .
لقد كان دخول الدعوة الإسلامية كليات الجامعة أشبه برجل فقير ولد له ولد فجاء قوم من الأغنياء فاغتصبوا ولده وطردوا هذا الرجل الفقير وشردوه كل مشرد ، وربوا هذا الطفل فى قصورهم فنشأ لا يعرف إلا لغتهم ولا يتغذى إلا بغذائهم ولا يتزيي إلا بزيهم ... فلما اهتدى والده بعد لأي إلى مكانه فى القصر ، اقتحم إليه فقوبل اقتحامه بعاصفة من الدهشة والاستنكار حتى من ولده الذى لم يكن يعرفه .. فما كان من الوالد - وهو صاحب حق - إلا أن ثبت فى مكانه ، وتمادى فى إصراره - ولصاحب الحق صولة - حتى بدأ قلب الولد ينبض بالرابطة الإلهية الأصيلة وألقى بنفسه بين ذراعي والده .
حرم الجامعة :
كانت مصر فى ذلك الوقت لا تزال قريبة عهد بالتعليم الجامعي ، ولم تكن الجامعة حتى ذلك الوقت الذى أتحدث عنه إلا مبنيين أثنين فى آخر شارع المدارس بالجيزة أحدهما لكلية الآداب والآخر لكلية الحقوق ، وبين المبنيين مبنى ثالث تعلوه قبة ضخمة هو إدارة الجامعة . ووسط ذلك كله أرض فسيحة مغطاة بالنجيل الأخضر تسمى (( حرم الجامعة )) وكان حرم الجامعة هذا هو معترك أصحاب الدعوات ، حيث كان طلبة كليتي الآداب والحقوق فى ذلك الوقت يعدون أنفسهم بحكم ثقافتهم الأدبية والقانونية قادة الطلبة حيثما كانوا ، وهم الذين تفوضهم الأحزاب فى تمثيلها فى الأوساط الطلابية ، وكانت خزائن الأحزاب مفتوحة للطلبة المشايعين من هاتين الكليتين .
كان حرم الجامعة حتى ذلك الوقت حلبة نزال مستمر بين الأحزاب المصرية ، الوفد والأحرار الدستوريين والسعديين والحزب الوطني ثم جد عليهم ممثلو (( مصر الفتاة )) ... ثم استقر رأينا فى (( لجنة الطلبة )) على النزول بالدعوة إلى حرم الجامعة ؛ وكنت الوحيد من خارج الكليتين العتيدتين الذى أصبح له مكان بينهم فى هذا الحرم .. وكانت المناقشات بيننا وبين ممثل مختلف الأحزاب تستعر حتى أصبح لنا صوت مسموع فى هذا الحرم .
ثالثا : نشر الدعوة فى الأقاليم :
سبق لي أن أشرت إلى أن الدعوة لم تكن معروفة إلا فى إقليم القنال وما يتاخمه من بعض بلاد الدقهلية والشرقية وبلاد معينة لأنها موطن أشخاص معينين من السابقين فى الدعوة كالمحمودية وكفر الدوار وشبراخيت وشبين القناطر ؛ ومع ذلك تكن الدعوة فى هذه المناطق معروفة على صورتها الكاملة بل تعرف منها جوانب محددة على القدر الذى كانت تسمح به ظروف الدعاة وظروف المدعوين . ووجد الأستاذ المرشد ثمرة جهود سنة كاملة بين يديه من شباب الجامعة بل من أنضج شبابها قد يصل عددا إلى المائة يفهمون الدعوة على أوسع دائرة من الفهم ومن أقدر الناس على توضيحها لغيرهم ، فكان لابد من الإفادة من هذه المجموعة التي يندر وجود مثلها فى هيئة من الهيئات .
أعد الأستاذ المرشد فى أواخر العام الدراسي مذكرة من نحو عشرين صفحة شرح فيها طرق الاتصال بالطبقات المختلفة من الناس والأساليب المثلى لمخاطبة كل طبقة ، وضمنها مجموعة من الآيات والأحاديث التي يستعين بها الداعية ، وطبع هذه المذكرة على (( البالوظة )) وقسم الطلبة مجموعات يضم بعضها طالبين وبعضها ثلاثة وبعضها أربعة ووزع هذه المذكرات على المجموعات وقسم القطر المصري على هذه المجموعات فكان نصيب مجموعتنا وتتكون من طالبين : رشاد سلام من كلية التجارة وأنا - مدينة الإسكندرية .
ولما بدأت الإجازة الصيفية انتشرت هذه المجموعات فى أنحاء القطر .. وإلى هذه البعثات يرجع الفضل فى نقل الدعوة إلى كل مكان فى مصر ، وفى الانتقال بالدعوة من طور إلى طور جديد ؛ ومن طور كانت فيه جمعية موضعية تقارن بالجمعيات الإسلامية الأخرى التي كانت موجودة بالقاهرة مثل جمعية مكارم الأخلاق وجمعية البر والإحسان وجمعية الشفقة الإسلامية وجمعية دفن الموتى وأمثالها إلى طور أخر زاحمت فيه دعوات دينية كانت منتشرة فى كثير من بلدان القطر مثل الجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة كما بدأت تزاحم أفكار أساسية مسيطرة فى كثير من البلدان مما تعود الناس إطلاق اسم الأحزاب عليها .
وكانت المفاجأة المثيرة فى هذه البعثات أن الناس لأول مرة رأوا دعاة إللا الين من شباب لم يكن يمت إلى الدين بصلة رسمية .. إذ كان طلاب الجامعة - وكانوا إذ ذاك عددا قليلا - يتهمون فى عقيدتهم وينظر إليهم على أنهم أصبحوا غرباء عن بلادهم حتى فى العادات والتقاليد .. فكان غريبا أن يروا من هذا الشباب من يغشى المساجد ومن يتكلم فى الناس كلاما حلوا جميلا مطعما بآيات كريمة من القرآن وبأحاديث شريفة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ويكسو هذا الكلام الجميل روعة وجلالا وتأثيرا صدوره من قلوب مؤمنة به طاهرة نقية لا تسألهم عليه أجرا .
تمخضت هذه البعثات عن تكوين شعب فى جميع عواصم المديريات ( المحافظات ) وفى بعض حواضر المراكز .. نعم كان أكثر هذا الشعب يتكون من عدد قليل من الفقراء ومتوسطي الحال إلا أنهم كانوا مؤمنين بالدعوة فقد استجابوا إليها دون طمع فى منصب أو جاه أو مال ودون خوف من بطش فأصحاب الدعوة أنفسهم مجردون من ذلك كله حتى إن زعيم الدعوة ليس إلا مدرسا فى مدرسة ابتدائية .
رابعا : عام المعارك :
بدأ هذا العام - وهو العام الثاني منذ التحقت بالدعوة - وقد أصبح لدعوة الإخوان كيان ملموس ، فقد أحس الطلبة فى بلادهم - وأكثرهم من خارج القاهرة - بدعاة من زملائهم انتشروا فى خلال الصيف فغزوا الريف ودخلوا بالدعوة إلى أحشاء البلاد .. وجاء هؤلاء الطلبة فى العام الدراسي الجديد إلى كلياتهم لامسين الكيان الإخوانى ، فلا عجب إذا هم نظروا إلى زملائهم من الإخوان من طلبة الكلية نظرة توحي بالاهتمام .
وكان لابد لهذا الكيان الملموس - وقد وجد - أن يعمل ، وأن يكون لعمله صدى ، وأن يكون لهذا الصدى دوى يلفت الأنظار ويشغل الرأي العام .
(1)معركة المساجد :
من البديهي أن تكون الخطوة الأولى لدعوة إسلامية أن توجد المسجد الذي هو رمز الإسلام وقاعدته التي تبعث منها أشعته فتضئ ما ولها – ولا نكر أنه كان فى بعض الكليات مصليات لأداء الصلاة لكنها كانت فى أماكن حقيرة أنشأها عادة السعاة والفراشون ، وكان الطلبة الذين يريدون تأدية الصلاة يستنكفون أن يؤدوها فى هذه الأماكن لحقارتها من ناحية ولعدم وجود أماكن للوضوء بجانبها من ناحية أخرى ... ومن هنا نشا ما طلق عليه معركة المساجد وقد نشأت هذه المعارك فى أكثر الكليات فى خلال هذا العام لكن أشد هذه المعارك إثارة ما كان فى كليتي الزراعة والآداب لما كان لهما من معان كبيرة ودلالات .
فى كلية الزراعة :
أشرت آنفا إلى المحاولات التي بذلتاها فى كلية الزراعة فى السنة الماضية فى سبيل الإعلان بالصلاة والظهور بها من تحت الأرض إلى سطحها ، وما كان لتلك المحاولات - التي عدت جريئة من آثار بعيدة المدى فى نفوس الطلبة والمدرسين وإدارة الكلية . ولم نكن - نحن الإخوان - نتصور أن هذه الآثار قد وصلت إلى حد هيأت فيه النفوس تهيئة عظيمة .
رأينا - نحن إخوان الكلية - أن نطالب إدارة الكلية بفرش هذه المساحة الضئيلة التي نصلى فيها بجانب القبة بحصير جديد ... وأول إنسان اتجه إليه نظري ، وعول عليه أملى لمساعدتنا فى هذا الأمر هو وكيل الكلية وكان معروفا بالصلاح والتقوى ، وبأنه من دراويش مسجد الحسين فذهبت إليه وحدثته فى الموضوع وأنا واثق فى الإجابة ، ولكنني سمعت منه كلاما صدمني وهدم آمالي حيث قال أولا : لا داعي لهذا ، وهذه القطع من الحصير موجودة فى المصلى من قديم ولم يشك منها أحد غيركم ، فلما طلبت منه أن يحضر للصلاة معنا عليها غضب وقال : إن إدارة الكلية لا شأن لها بمثل هذه الأمور !! .
نقلت ما دار بيني وبين الرجل إلى إخوانى بالكلية فأسفوا لخيبة أملهم فى الرجل المصلى الذي لا يدع السبحة من يده والذي لا يدع يوما دون أن يصلى العشاء بمسجد الحسين ثم يطوف بالمقام .. ولكن خيبة أملهم لم تقعد بهم عن مواصلة الجهد واقترحوا أن نتقدم بهذا الطلب إلى العميد - وكان الوكيل قد حذرنا من ذلك خوفا من أن يسلبنا ما اكتسبتاه من حق الصلاة فوق سطح الأرض باعتبار العميد رجلا بعيدا عن هذه الاتجاهات ... ولكن ذلك لم يمنعنا أن نجازف وتقدمنا إلى العميد وكان الأستاذ محمود توفيق الحفناوى (بك)
استمع العميد إلى مطلبنا . واطرق قليلا ثم بعث فى طلب وكيل فحضر . فقال له : إن هؤلاء الطلبة يطلبون طلبا متواضعا . وأنا أتابع موضوع المصلى وتطوراته التي حدثت فى العام الماضي . وأنا معجب بجهود هؤلاء الطلبة المتدينين . وأنا لا قبل أن تكون مصلى الكلية هذا المكان الحقير . ثم قال للوكيل : أتعرف المكان الذي يقام فيه سرادق الغداء فى العام الماضي ؟ قال : أن يقام مكانه مسجد وتلحق بالمسجد حديقة خاصة به ...
ذهل الوكيل مما سمع من العميد ثم زاده ذهولا لقول العميد له : أحب أن تتفرع أنت شخصيا لإنجاز هذا العمل فتقيم المسجد وتفرشه بأفخر فرش وتشرف على زرع الحديقة بالأزهار الجميلة المناسبة ثم تعين له إماما يتفرغ للإمامة وشئون المسجد ..
ثم قال العميد : إن هذا المشروع سيتكلف كثيرا ، ومن الممكن أن قيمه على حساب الكلية باعتباره منشأة من منشأتها ، ولكنى أحب أن يشعر الجميع بالمعاني السامية التي تدور حول إقامة مسجد بالكلية ولا يكون ذلك إلا إذا ساهم فيه الجميع طواعية ، وسأفتتح الاكتتاب بعشرة جنيهات منى .. وأمر الوكيل بإعلان الاكتتابات وكتابة اسم كل مكتتب والمبلغ الذي اكتتب به على سبورة توضع على حامل فى مدخل مبنى الكلية ... وانهالت الاكتتابات من الأساتذة والمدرسين والطلبة ، وأشاعت هذه الطريقة فعلا روحا جديدة فى الكلية طلبة وأساتذة .. وجميع مبلغ كبير غطى المطلوب وزاد . وقد أفدنا من هذه التجربة ما يأتي :
1- أن المجهود النابع من قلوب مخلصة لابد أن يثمر (( والعمل الصالح يرفعه ))
2- أن الذين ينحرفون بالمعاني الإسلامية الكبيرة إلى مظاهر الدروشة وما يصاحبها عادة من الضعف والخنوع والاستكانة ، ليسواهم الذين يصلحون أن يعينوا على النهوض بالمجتمع الإسلامي بل هم المثبطون .
3- أن هناك رجالا من أولى العزائم فى حاجة إلى ما يكشف عن عزائمهم من عمل جريء مخلص فيرى الناس من هذه العزائم والهمم جلائل الأعمال التي يعجز عنها أكثر الناس . وبني المسجد وبنيت بجانبه دورة مياه خاصة به وألحقت بهما حديقة غناء وصار يؤذن فيه وتقام الصلاة ويمتلئ بالمصلين وقد يضيق بهم على سعته .. وكان ذلك فاتحة عهد جديد لدعوة الإخوان المسلمين بالكية وانتصارا ساحقا للفكرة الإسلامية .
فى كلية الآداب :
كان أداء الصلاة فى كلية الآداب أمرا شاقا لعدم وجود مكان محدد معد لهذا الغرض وفى إبان معركة المسجد بكلية الزراعة استيقظت فكرة إقامة مسجد بكلية الآداب ... ولكن الوضع فى هذه الكلية يختلف عنه فى كلية الزراعة ، فالكلية عبارة عن مبنى واحد ، فليس بداخله مساحات من الأرض يمكن استغلالها فى بناء مسجد . وليس بالكلية مرافق تسهل هذه العملية .. ولذا فإن مجال الاختيار فى هذه الكلية كان محصورا فى تخصيص حجرة من حجرات الكلية تكون قريبة من دورة مياه .
وتقدم الإخوان بالكلية إلى المسئولين بها يطلبون تخصيص حجرة لتكون مسجدا ، وكما هو معتاد رد المسئولون يعتذرون بعدم وجود مكان لذلك ، ورفع الإخوان مظلمتهم إلى عميد الكلية وكان الدكتور منصور فهمي ( باشا ) ولم يكن معروفا عن الرجل اهتماما بالدين ... وطلب العميد المتظلمين وسألهم عن الحجرة التي يريدونها ، فعينوا له عدة حجرات فقال الرجل : ينبغي أن تخصص للصلاة أكبر حجرة فى الكلية وأفخم حجرة بها .. وقال : أليس مكتب الأستاذ ة الانجليز يشغل أفخم حجرة فى الكلية ويلحق بها أفخم دورة مياه ؟ قالوا بلى : قال : سأوقع الآن أمرا بإخلاء هذه الحجرة وتخصيصها ودورة المياه الملحقة بها للوضوء والصلاة . وعلى إدارة الكلية إعداد حجرة أخرى لتكون مكتبا للأستاذ الانجليز . وبلغت الدهشة بالإخوان كل مبلغ لأن الإنجليز فى تلك الأيام كانوا سادة البلاد وأصحاب الكلمة والنفوذ وإن هذا الرجل بتصرفه هذا يضع نفسه فى فوهة مدفع قد يعصف بمستقبله فأراد الإخوان أن يفتحوا للعميد بابا للتراجع عن هذا القرار إلى قرار أدنى خطورة منه .
ضحك الرجل وشكر الإخوان على كريم شعورهم نحوه وإيثارهم مصلحته وقال لهم : لعلكم ظننتم أن هذا القرار كان منى وليد حماس بعثته فى نفسي حرارة الموقف وشدة التأثر .. لا والله يا أولادي ... لقد كان هذا القرار فى نفسي منذ سنوات ولكنى كنت محتاجا إلى من يدفعني إلى إصدار ه فكان مجيئكم هو هذا الدافع ...
أنا أعرف مدى سلطة الإنجليز فى بلادنا ومدى الإرهاب الذي جعل حول كل انجليزي هالة يراها المصري فينكمش مهما كان هذا المصري عظيما ... ولكن سرا طويته بين أحناء ضلوعي من قديم وسأفضي به لأول مرة بين أيديكم الآن : لما كنت مبعوثا فى فرنسا واصلت دراستي بها حتى أخذت فى إعداد رسالتي للحصول على الدكتوراه ، وأعددتها فعلا ، ولما عرضتها على الأساتذة الذين سيناقشونها وبيدهم منحى الدرجة وبيدهم منعها أجمعوا على أنهم لن يمنحوني الدرجة - مع إقرارهم بأن الرسالة جديرة - إلا إذا أضفت إليها عبارات أهاجم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وأمام طيش الشباب . وخوفي من الرجوع إلى مصر بغير الدكتوراه فاعتبر خائبا ... أذعنت .. ومنذ ذلك الوقت وأنا نادم وأترقب فرصة تتيح لي عملا أكفر به عن هذه الخطيئة ... وقد أتحتم لي يا أبنائي هذه الفرصة فشكرا لكم ودعوني أعمل هذا العمل لعل ضميري يستريح ..
وصدر القرار فكان مفاجأة مذهلة للجميع لاسيما للإنجليز الذين - لشدة ذهولهم -لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا إلا التنفيذ - وبذلك تحولت أعظم حجرة بالكلية وأعظم دورة مياه إلى مسجد بملحقاته .
(2) معركة مع المخابرات البريطانية :
مع أنه كانت فى بلادنا حكومة مصرية إلا أنها لم تكن تعرف حقيقة ما يدور على أرض بلادها من حركات فى حين كان الإنجليز يرقبون هذه الحركات ويرصدونها. كان الإخوان فى الكليات حتى ذلك الوقت فى طور التكوين لا يزالون يعرضون فكرتهم الإسلامية عن طريق الإقناع الفردي ، وعن هذا الطريق الفردي صار للدعوة أنصار من طلبة الجامعة كثيرون ...لم تفهم الحكومة المصرية حتى ذلك العهد فكرة الإخوان ولا أهدافهم ولك الانجليز تنبهوا لخطورة هذه الدعوة حين رأوا فجأة استجابة لها فى أوساط طلبة الجامعة ... وأقوال فجة لأنهم لم يكونوا يعرفون عن دعوة الإخوان شيئا قبل أن تصل الجامعة ، وتبين لي أن الأستاذ المرشد كان حريصا من أول يوم قام فيه بالدعوة على أن يموه على الانجليز ، ويتفادى أي إجراء يستلفت نظرهم .
ولما تنبه الإنجليز اتخذوا إجراء عجيبا ... أرسلوا إلى القاهرة رجلا إنجليزيا أستاذا فى التاريخ لزيارة كلية التجارة ، فالتف حوله الطلبة والأساتذة فعرفهم بنفسه فقال إنه إنجليزي مسلم بعد أن أعتنق الإسلام . عن اقتناع سمى نفسه (( خالدا )) وأنه أستاذ فى التاريخ وأنه جاء إلى القاهرة باعتبارها العاصمة الإسلامية الكبرى ليسعد باللقاء والحديث مع رجال الجامعة من الأساتذة والطلاب حديث الأخ لإخوته .. سرى بين الطلبة نبأ هذا الأستاذ الإنجليزي المسلم فتقاطروا عليه كل يريد أن يوجه له سؤالا ... فتن الطلبة به بل والأساتذة . وسرت روح الافتتان إلى كليات أخرى فصارت تتوافد منها مجموعات بعد مجموعات للالتقاء به فى كلية التجارة .
ولا أدرى لم اختار كلية التجارة بالذات ليظهر فيها دون الكليات الأخرى ؟ ولكن لعل اختيارها كان لكونها تقع فى حي المنيرة فى وسط المدينة ، ولأن الدراسة فيها تسمح للطلبة بالتجمع فى حين كليات أخرى كالطب مثلا وإن كانت فى وسط المدينة إلا أن الطلبة فيها مشتتون بين المعامل وعنابر المرضى .
واستجابة لطلبة المفتتنين به من الطلبة والأساتذة نظمت الكلية محاضرات يلقيها - وأنا شخصيا لم تتح لي فرصة لحضور محاضراته ولا للالتقاء به - ولكن إخوان كلية التجارة كانوا ينقلون إلينا كل شئ عنه يوما بيوم ، لأننا فهمنا الهدف من إيفاده فى هذا الوقت بالذات ، وفهمنا اللعبة الانجليزية التي طبعا لم تخطر على بال أحد من الطلبة ولا من الأساتذة ....
كانت محاضراته تدور حول كيفية اقتناعه بالدين الإسلامي ثم كان يتطرق من ذلك إلى شرح الفكرة الإسلامية وأن العقيدة الإسلامية هي العقيدة الوحيدة التي تتمشى مع العقل وتخضع للمنطق ، وفى أثناء شرحه للفكرة الإسلامية كلن يجنح بها إلى النواحي العبادية والتصوفية ، ومن طرف خفي يقصرها على هاتين الناحيتين فيبالغ بها فيهما ويباعد بها عن الشئون الدنيوية والتشريعية وكان أسلوبه هذا يلقى هوى فى نفوس الكثيرين من خلاه الذهن عن حقيقة الفكرة الإسلامية .
والإخوان المسلمون فى فهمهم للفكرة الإسلامية يعرفون أية مواضع منها توغر صدر الإنجليز باعتبارهم قادة المستعمرين فى ذلك العهد . ويعرفون أيضا الخطط التي وضعها الإنجليز لمحاولة التخلص من هذه المواضع ، ويعرفون أن هذه المواضع هي ما يتصل من الفكرة الإسلامية بالتشريعات التي تنظم الحياة وتكون الدولة الإسلامية المثالية ... فالإنجليز يرتضون من الفكرة الإسلامية - إن كان لابد منها - الجزء الذي يتصل بالعبادة ويحاولون أن يمسخوا هذه العبادة بما يلقون عليها من ظلال الرهبانية مما يسمونه تصوفا بحيث يتقوقع المسلم على نفسه فلا يبالى بما يدور حوله فى الحياة ، ويستوي عنده أن تكون بلاده حرة أو مستعمرة ، لأنه حسب هذا الفهم المشوه للفكرة الإسلامية ، يعتقد أنه أدى كل ما أوجبته عليه .
الإنجليز بالذات - من دون المستعمر - لم يحاولوا مهاجمة المسلمين بالحديد والنار كما فعل الفرنسيون والايطاليون وغيرهم ، بل إنهم مكنوا لاستعمارهم فى البلاد الإسلامية بوسيلتين اثنتين معا : الأولى الاستيلاء بوسائل الإغراء المختلفة - من مال ومناصب - على مراكز التوجيه الإسلامية والأخرى : إبراز الفكرة الإسلامية للشعب مبتورة ممسوخة .
فعلوا ذلك فى مصر ، فبعد أن ضمنوا أن المتربع على عرش البلاد صنيعة لهم - حتى إن الخديوي توفيق طلب حمايتهم واستجابوا له - ضمنوا بذلك أن الذين سيتداولون الحكم فى البلاد هم الفئة الغريبة عن الشعب بعواطفها وآمالها وبلغتها .. ثم وجدوا أن مركز التوجيه الإسلامي فى البلاد هو الأزهر فعملوا - عن طريق صنائعهم الحكام - على أن تكون مناصبه الرفيعة لمن تستهويهم المناصب ولمن يبيعون دينهم بعرض الدنيا ، وعن طريق هؤلاء سرت الفكرة المبتورة عن الإسلام فى مختلف أوساط الشعب الطيب القلب فانخدع ، وبهذا الأسلوب الهين اللين نام الشعب وغط فى نومه ولم يعد يبالى بما يجرى حوله فى بلده ولا فى أي بلد إسلامي ... فالمجازر تجرى فى سوريا وفى ليبيا وفى المغرب بأقسامه ، ويقرأ عنها فى الصحف ، ولا يشعر بأي معنى من معاني التعاطف مع هؤلاء المسلمين الذين يظلمون ويقتلون ، ولا بأي معنى من معاني الغضب حيال من يقترفون هذه الجرائم ... نجح الإنجليز فيما لم ينجح فيه الطليان والفرنسيون حيث استطاعوا بطريقتهم الهادئة الملتوية إخماد الجذوة الإسلامية فى نفوس المصريين فأصبحوا لا يحسون ولا يشعرون .
وفعلوا مثل ذلك فى الهند ، وقد اختلفت الوسائل فى مظاهرها ولكن الهدف هو الهدف ... اختاروا شابا مسلما ينسوا منه رقة فى الدين وتطلعا إلى المنصب والشهرة والمال ، فأغدقوا عليه وكان اسمه (( غلام أحمد )) وأوعزوا إليه أن يدعى أنه نبي من عند الله أرسله الله بعد محمد وبشريعة محمد إلا أن الجهاد قد نسخ منها ... وباعتبار الهند فى ذلك الوقت شعبا موغلا فى الأمية والجهل والفقر والخرافة انخدع بعض الناس بهذا الدعي ، كما اشترى الإنجليز له بالمال أتباعا من أمثاله يروجون له ، وينشرون دعوته ، فضلا عن رجال الإدارة والحكم من الانجليز وأذنابهم الذين كانوا جميعا فى خدمته ... وقد ألف كتابا سماه (( البيان )) على ما أذكره وقد اطلعت عليه عند عمى رحمه الله ، ادعى أنه الكتاب الذي أوحاه الله إليه بعد القرآن ... ومن الطريف أنه قد بلغت به الوقاحة والاستخفاف بعقول الناس فى الهند يقول فى هذا الكتاب إن الله قد بعثه بنسخ الجهاد لاسيما ضد الإنجليز ... ولما كان هذا المدعى الوقح من بلدة فى الهند تسمى (( قاديان )) فقد سمى دينه (( بالقاديانية )) أو (( بالأحمدية )) نسبة إلى اسمه ... وأكثر الإنجليز ممن يدعون أنهم مسلمون هم من أنباع هذا الكذاب .
وفعل الانجليز مثل ذلك فى إيران ثم نقلوه إلى الشام وفلسطين أيام كانت تحت انتدابهم .. فقد ساندوا رجلا إيرانيا اسمه (( بهاء )) فادعى أنه (( باب الإله )) فهو درجة بين النبوة والإلوهية وأن الله بعثه بدين يجمع بين الأديان السماوية الثلاثة الإسلام واليهودية والمسيحية ، وأنه أيضا جاء بالسلام فلا جهاد ، حتى العبادة جاء بها مخففة فالمسلم البهائي يصلى ركعتين مرة طول حياته ، والمسيحي يصلى صلاته فى الكنيسة مرة واحدة أيضا وكذلك اليهودي ...
وقد ألقت الحكومة الإيرانية القبض على (( بهاء )) هذا وحاكمته وأعدمته وطاردت فلول أتباعه الذين هربوا من البلاد ... فمن الذي يلقاهم بالأحضان وأوسع لهم ؟ تلقاهم الانجليز فأحسنوا وفادتهم ومكنوا لهم فى فلسطين ووضعوهم فى المناصب الحساسة والمناصب الرئيسية .. وقد قرأت فى ذلك الوقت إحصائية لموظفي حكومة الانتداب فى فلسطين وأديانهم فكان البهائيون يمثلون أكبر نسبة ... وهؤلاء الموظفون البهائيون فى حكومة الانتداب بفلسطين هم الذين مهدوا لقيام الصهيونية ومكنوها من أرض فلسطين ومن رقاب أهلها .
ولا داعي للحديث عن الأساليب الانجليزية الملتوية الأخرى التي أسسوها بالتحالف مع أقطاب اليهود لتفتيت القوميات ، وتفويض العقائد ، وتفكيك أواصر المجتمع كالماسونية وأخواتها مما قد نعرض له فى فصل قادم إن شاء الله ....
وقد فعل الانجليز كل هذه الأفاعيل بالمسلمين فى مختلف بقاع الأرض ، وكان حرصهم على نجاح خطتهم فى مصر أشد من حرصهم على نجاحها فى أي مكان آخر لأنهم يعرفون أن مصر هي مركز الإشعاع للعالم الإسلامي كله ... وقد نجحوا فى مصر كما قدمنا ، واطمأنوا لذلك تمام الاطمئنان ، وطال اطمئنانهم حتى إن الأمور صارت تجرى فى مصر على ما يتمنون بالقصور الذاتي دون تدخل منهم أو جهد يبذلونه ... وحتى إنهم أخذوا يحولون جهودهم فى التخريب إلى بلاد أخرى ... غير أنهم أحسوا فجأة بدبيب حياة عاد يدب فى جسم الأمة فى مصر من جديد فهبت أجهزة المراقبة عندهم نتلاوم لم يحسوا بهذا العبث إلا بعد أن وصل إلى الجامعة المصرية ؛ فأخذوا فى وضع تكتيك سريع لأخذ الطريق على هذا البعث فأرسلوا هذا الأستاذ الانجليزي المسلم (( خالدا )) ........
واستطاع (( خالدا )) بأسلوبه البارع الأخاذ أن يستولى على مشاعر الكثرة الغالبة من الطلبة والأستاذة ، وأن يصور لهم الفكرة الإسلامية كما أرادتها حكومته التي أرسلته .... وكان لابد لإخوان كلية التجارة من إفساد التكتيك المحكم لهذا الرجل ، وكان فى كلية التجارة مجموعة من أنضج الإخوان مثل محمود أبو السعود وطاهر عبد المحسن ورشاد سلام ، وكان محمود أبو السعود يتقن الحديث بالإنجليزية كأهلها .. وكان تكتيكهم الذي رسموه أن يواظبوا على حضور محاضرات الرجل ، وأن ينبثوا فى أماكن مختلفة بين الحاضرين ، وأن يواجهوا إليه أسئلة متدرجة أعدوها يتناوبون توجيهها ، وهى أسئلة تلزمه أن يتعرض للنواحي التي يتعمد إغفالها وتفاديها من الفكرة الإسلامية وهى ما يتصل بموضوع الإسلام والدولة ، والإسلام والتشريع ، والإسلام والجهاد ، والإسلام والقومية ، والإسلام والوطنية .
وأمطروه بالأسئلة بطريقة مرتبة ومهذبه ، وكان الرجل يجيب عليها بلباقة يتمكن بها من تفادى الإجابات المحددة ؛ فإذا سئل مثلا عن الإسلام والدولة والإسلام والتشريع قال إن الإسلام كغيرة من الأديان يشرع لمتبعيه أسلوبا فى الحياة ، ولو اتبع أصحاب كل دين أسلوب دينهم لسعدوا فى الحياة ولصارت لهم دولة قوية ذات شأن... وهكذا ظل الإخوان يلقون إليه بالأسئلة وهو يتفادى حتى ضيقوا عليه الحصار تضييقا خانقا ووضعوه أمام سؤال الإجابة عليه إلا بلا أو نعم ؛ قالوا له أنت الآن رجل مسلم فهب أن حربا نشبت بين المسلمين وبين بريطانيا فمع أي الفريقين تحارب ؟ ... وحاول الرجل التهرب من الإجابة لكن الإخوان حاصروه ، لاسيما وقد لقي السؤال هوى فى نفوس جميع الحاضرين من الطلبة والأساتذة فأيدوا الإخوان فى سؤالهم وطلبوا الإجابة عليه ......
وأحس الرجل أن الحصار قد أحكم حوله ... وأراد الله فضح أمره فنطق - مكرها - باللفظ الذي قوض الصرح الذي بناه أوفد فى مهمته حيث قال : انحاز إلى بريطانيا . فانفض الجمع الحاشد مرة واحدة مشيعينه بالاحتقار واللعنات . وهكذا فسدت الخطة التي وضعها الإنجليز لأخذ الطريق على الإخوان المسلمين وهم لا يزالون فى أول الطريق .
(3) مع المعركة فى فلسطين
باعتباري كنت منشغلا بالدعوة الإسلامية منذ الصغر كنت ذا إلمام بشيء غير قليل عن كل بلد إسلامي ، ومن هذه البلاد فلسطين . لكن معلوماتي عن فلسطين لم تكن تتعدى الشكل العام للأطوار التي مرت ببلاد الشام منذ وضعت الحرب الكبرى الأولى أوزارها فى سنة 1918 وما انتهى إليه الوضع من تواطؤ الاستعمار الغربي على سحب ما كانوا قطعوه للعرب من وعود ، وعلى تقسيم بلاد الشام بين الانجليز والفرنسيين ، وكانت فلسطين من نصيب الانجليز حيث انتدبتهم عصبة الأمم لإدارتها ، وكنت على علم بأن بلفور وزير خارجية انجلترا فى سنة 1917 قد أعطى لليهود وعدا بمنحهم وطنا قوميا فى فلسطين .
لكنني منذ حملتني قدماي إلى المركز العام للإخوان المسلمين فى شارع الناصرية لاحظت من المرشد العام ومن القلة القليلة من الإخوان بهذا المركز توجيه اهتمام خاص إلى قضية فلسطين ؛ وقرأت فى مجلتهم الكثير عن فلسطين . كما وجدت بالمركز العام مجلات واردة أليه من فلسطين ومن سورية بها من أخبار فلسطين ما كان يعد جديدا على ؛ فهمت مما قرأت أن الإنجليز يقومون بحملة مدبرة للقضاء على الكيان الإسلامي فى فلسطين وتمكين اليهود نم الاستيلاء عليها ... ثم رأيت مفتى فلسطين السيد أمين الحسيني ومعه مساعده الشيخ صبري عابدين وحوله مجموعة من قادة فلسطين رأيتهم يحضرون إلى المركز العام فى الناصرية ذلك المكان المتواضع ويتبادلون الكلمات الملتهبة مع المرشد ومع الإخوان الطلبة الذين كانوا أقدم منى صلة بالإخوان .... وسمعت المفتى يشرح مؤامرات الإنجليز التي تلجئ الرجل المسلم الساذج إلى بيع أرضه لليهودي تمهيدا منهم لتمكين اليهود واستيلائهم على مقاليد الأمور بفلسطين بحكم ملكيتهم لأرضها .
وقد استنتجت من زيارتهم لهذا المركز العام المتواضع المجهول وسط أحشاء القاهرة أنهم لا نصير لهم فى القاهرة إلا هذه العصبة التي تأوي إلى هذا المركز العام .. وقد تبين لي فيما بعد أن استنتاجي كان صحيحا حين دس الإخوان صحفيا كان عضوا بالإخوان إلى رئيس الوزراء يسأله عما سيفعله إزاء تصرفات الإنجليز الظالمة فى فلسطين فرد عليه رئيس الوزراء بقوله : (( إنني رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين )) . على أن هذا الرد حين نشر بالصحف وقرأه الناس لم يحظ بأي اهتمام من الشعب ولم يقابل بأي اعتراض أو استنكار أو امتعاض باعتبار أن فلسطين وما يتصل بها لا يعنيهم فى قليل ولا كثير فهؤلاء فلسطينيون أماهم فمصريون .
فهمت فيما فهمت أن السيد أمين الحسيني كون هيئتين لتنظيم العمل ضد المستعمر الإنجليزي واليهود الصهيونيين تسمى إحدى الهيئتين بالهيئة العربية العليا وتسمى الأخرى بالمجلس الإسلامي الأعلى وكان هو رئيس الهيئتين . والسيد أمين كان رجلا ذكيا ورعا شجاعا على علم ودراية بالدين والسياسة وكان موضع ثقة الجميع ، وقد استطاعت هاتان الهيئتان أن تشنا حربا شعواء ضد اليهود وحملتهم الإنجليز وقد استشهد فيها الكثيرون مثبتين بذلك أنهم شعب مسلم كريم ... وقد قرأت فى مجلة سورية كانت تصل إلى المركز العام فى تلك الأيام أن بعض ساسة البلاد العربية سألوا المفتى عما بلغهم من أن بعض العرب فى فلسطين يبيعون أرضهم لليهود فرد عليهم بقول : ليس من طبيعة العربي أن يفعل ما تذكرون كما أنه ليس من طبيعة البلبلان يكون أخرس ولكن المستعمر قابله الله هو صاحب الجناية لا العربي ورحم الله الشاعر الذى قال :
بلابل الله لم تخرس ولا ولدت ::: خرسا ولكن بوم الشؤم رباها
فهمت بعد ذلك أيضا أن الإخوان المسلمين أخذوا على عاتقهم النهوض بمهمة محددة هي أن يقوموا يجمع تبرعات لمجاهدي فلسطين ؛ فكان الأستاذ المرشد فى كل يوم جمعة يوزعنا على عدة مساجد فى القاهرة ، يرسل إلى كل مسجد اثنين على الأقل أحدهما يخطب بعد الصلاة ويشرح للناس ما يقترفه الإنجليز من مظالم فى فلسطين ويوضح للناس أن فلسطين هي البلد الذى به بيت المقدس ثالث الحرمين وأولى القبلتين وأن الإنجليز يريدون أن يسلموا هذا الحرم المقدس إلى اليهود . ويقوم الأخ الآخر بتلقي التبرعات فى صندوق معه .
وقد نجحت هذه الطريقة فعلا فى تحقيق النتائج الآتية :
1- فى إحاطة الناس علما بأن هناك بلدا مسلما بجوارنا سمه فلسطين يراد بيعه لليهود .
2- فى إيقاظ الروح الإسلامية فى الشعب المصري الذى تضافرت قوى الاستعمار وأذنابه من الحكام ومحترق فى الدين على تضليله وتخديره حتى نام وأغرق فى النوم .
3- فى إيجاد وعى لدى هذا الشعب بأن الإنجليز أعداء لنا وللإسلام ..
4- فى إقامة الدليل المادي الملموس على أن الحكومة المصرية مهما كان لونها أو حزبها إنما هي خادم ذليل للمستعمر الغاصب .
5- فى جمع مبالغ من المال من تبرعات الناس .
أ- أما من ناحية النتيجة الأولى فلقد كان فى مصر يجهلون فى ذلك الوقت أن هناك بلد اسمه فلسطين ، وأن هناك البلد بجوارنا وهو أقرب إلى القاهرة من أسوان .. وبطبيعة الحال فإن من يجهل مجرد وجود بلد بهذا الاسم وأنها بلد مسلم فإنه يكون خالي الذهن عما يجرى بداخله من مؤامرات ... كما سبق أن أشرت إلى أن المصريين كانوا فى ذلك الوقت يعيشون فى عزلة ولا يعرفون أحدا ممن حولهم ولا يعينهم أن يعرفوا .
وكان الإخوان أول من طرق أسماع المصريين بهذا الاسم ، وأول من لفت نظرهم إليه ، وأول من شغلهم بمتابعة مؤامرات اليهود ومكائد الإنجليز فى هذا البلد المسلم وأول من أثار قضية كان المصريون خلاة البال عنها تماما وظل الإخوان يرفعون راية هذه القضية حتى شاء الله أن يكون الشاغل الأكبر بل الوحيد لمصر وللعرب وللمسلمين وللعالم كله .
ب - وأما إيقاظ الروح الإسلامية فى مسلمي الشعب المصري المضلل فإن هذا الموضوع كان معضلة أمام دعوة الإخوان ، والإخوان وقد فهموا دعتهم ، وجدوا أن بينهم وبين توضيح معضلة دعوتهم - وهى المعنى الإسلامية العليا - لهذا الشعب عقبات كأداء مما حشا به المستعمر وأذنابه عقوله من التضليل والأوهام ، ومما تناولوا به عواطفه ومشاعره من تخدير حتى لم نعد تستجيب لداعية ملهم ولا لخطيب مفوه ، ولا تستقيم مع منطق أو برهان .. فكان لابد لكي يصل الإخوان إلى هذه العقول المضللة والمشاعر المخدرة من قارعة تحل قريبا من دارهم نوقظ هؤلاء الموتى بزلزالها وتبعثهم من أكفانهم بصواعقها ... فكانت قضية فلسطين هي القارعة وهى الزلزال وهى الصاعقة .
لقد اختصر نهوض الإخوان فى ذلك الوقت بقضية فلسطين الزمن اختصارا ، وأغنى عن الكثير من الخطب والمحاضرات والمقالات والمؤلفات ؛ فلو أن مائة محاضر مقنع ومائة خطيب مصقع بذلوا أقصى ما يستطيعون فى الإبانة عما تضمنته الفكرة الإسلامية من معاني التعاون والإخاء التي تربط بين المسلمين فى كل مكان ؛ لما أثمرت جهودهم عشر معشار ما كانت تثمره كلمة ثائرة من شاب من الإخوان يوجهها إلى جمهور المصلين بعد صلاة الجمعة يشرح فيها ما يرتكبه اليهود والانجليز من فظائع ضد إخوانهم المسلمين فى فلسطين ، ويطلب منهم الغوث لإنقاذ بيت المقدس قبل أن ينتزعه الإنجليز من المسلمين ويسلموه لليهود ليحولوه إلى معبد يهودي .
وسأضرب مثلين يوضحان مدى تأثير مثل هذه الكلمات المستمدة من صميم الواقع والتي تعتمد فى لحمتها وسداها على قضية فلسطين ، وقد اخترت هذين المثلين لأنني لمست التأثير فيهما بنفسي : كلفت فى يوم من أيام الجمعة بالقيام بهذا الدور فى مسجد الدور فى مسجد الرفاعى بالقاهرة ، وكان مسجد الرفاعى فى ذلك الوقت - وكما ذكرت من قبل - أفخم مسجد فى القاهرة ويؤمه فى صلاة الجمعة طبقة من أعلى أهل القاهرة ثقافة لأنه فضلا عن فخامته فإن خطيبه الشيخ محمود على أحمد كان خطيبا مفوها على مستوى يندر وجود مثله .
وبعد صلاة الجمعة وقفت وخاطبت الناس بالأسلوب المشار إليه آنفا ، وكنت حريصا أن أرفع المصحف بيدي طيلة مخاطبتي للجمهور وأقول لهم إن إخوانكم فى فلسطين إنما يقتلون فى سبيل هذا الكتاب وإن اليهود والجنود الإنجليز يقتحمون البيوت ويمزقون هذا الكتاب ويدوسونه بأحذيتهم .... فماذا كان بعد ذلك ؟ ... وماذا كان من صدى لهذه الكلمات فى نفوس الحاضرين وعقولهم ؟ .......
كان التصرف الذى تصرفه خطيب المسجد - تنفيذا لتعليمات الحكومة المصرية وحفاظا على وظيفته أن تنتزع منه مع أنه كان من قبل صديقا للإخوان - أن طلب من المصلين - وكان مطاعا فيهم ونافذ عليهم - أن يمنعوني من الكلام فلم يتقدم أحد .. واكتفوا بهذا الموقف السلبي حياء من الرجل الذى لم يتعودوا أن يعصوا له أمرا ... فلما رأى الرجل تقاعسهم أمر خدم المسجد - وكانوا كثرة أشداء - أن يمنعوني بالقوة فتقدموا نحوى ؛ وهنا نسى الجمهور تقديرهم لخطيب المسجد وبحركة غير إرادية وقفوا فى وجه الخدم وهددوهم إذا مسوني بأذى أن يقذفوا بهم خارج المسجد ، فتراجع الخدم ... فلم يجد خطيب المسجد وسيلة إلا أن يقف فوق كرسي الدرس - وأنا واقف على أرض المسجد - ويخطب ضدي ليفض الناس من حولي ولكن أحدا من الجمهور لم يلتفت إليه وظلوا جميعا ملتفين حولي متأثرين بكلامي تأثرا ظهر تأثيره فى ملء الصناديق الأربعة التي كان يحملها زملائي فى نواحي المسجد ، وفى النهاية أقبلوا على يكادون يبكون من التأثر يدعون الله لنا أن يعيننا على هذا الجهاد .
والمثل الآخر صورة مماثلة للمثل السابق غير أنه يختلف عنه فى مستوى المسجد ومستوى المصلين فيه ، فبينما كان مسجد الرفاعى يضم عليه القوم وأعلاهم ثقافة، كان مسجد قنطرة الدكة بميدان الأوبرا يضم المستوى الشعبي من المصلين ، وحدث فيه نفس الذى حدث فى المسجد السابق إل أنه فى هذا المسجد بعد أن وجد خطيب المسجد أن الخدم عجزوا عن الوصول إلى تقدم هو بنفسه نحوى وطرق صدري بذراعيه ، وكنت رافعا المصحف بيمناي ، فاجتمع المصلون عليه وانتزعوني منه وألقوا بالرجل خارج المسجد وهو يقول للناس : لا تخربوا بيتي إنه يشتم الإنجليز .
وهذا الذى حدث لي فى هذين المسجدين حدث مثله لزملائي فى مساجدهم بل إن منهم من كان رجال الشرطة يدخلون المسجد استجابة لطلب الإمام ويلقون القبض على الأخ الخطيب ويجرونه جرا فى الشارع حتى يصلوا به إلى قسم البوليس .
ولكن الذي أحببت أن أبينه للقارئ هو أن لجوء الإخوان إلى شرح قضية فلسطين لجمهور المسلمين فى المساجد كان أقصر الطرق للوصول بهم إلى فهم الفكرة الإسلامية فهما صحيحا بما فيها جانب القوة والحرية والجهاد والسياسة وهو ما كانوا يعجزون عن فهمه بالأساليب المجردة من المحاضرات والمقالات وما إليها .
ج - وأما إيجاد الوعي لدى الشعب المضلل بأن الإنجليز أعداء لنا وللإسلام ، فقد يبدو لجيل هذه الأيام غريبا أن يكون جيش أجنبي يحتل أرض قوم ولا يشعر هؤلاء القوم بمقت هذا المستعمر والحقد عليه ، ولكن الإنجليز استطاعوا أن يخدعوا الشعب المصري عن طريق صنائعهم من الحكام فأوهموه أن كل خير إنما يأتي عن طريق الإنجليز ، وشغلوا الشعب بمعارك جانبية حزبية ، فلم يعودوا يشعرون بوطأة الاحتلال فكان على الإخوان أن يقتحموا هذه الأسوار العالية وما كان لهم أن يفعلوا ذلك لولا تذرعهم بقضية فلسطين وما يجرى على أرضها من مؤامرات ومظالم ومذابح ضد العرب والمسلمين .
د - وأما إقامة الدليل على أن الحكومات المصرية على اختلاف نزعاتها وأحزابها إن هي إلا خادم ذليل للمستعمر ؛ فإن الشعب حتى ذلك الوقت لم يكن يرى من حكومة اضطهادا إلا موجها إلى أنصار حزب معارض لها ، أما حينما قام الإخوان بأعباء الدعوة إلى تأييد العرب فى فلسطين فى محنتهم التي دبرها الانجليز فقد رأى الشعب بعينيه أن حكومات مصر على اختلاف أحزابها تقاوم الإخوان وتحاول منعهم عن الدعاية ضد الإنجليز وعن فضح إجرامها : بل إن الشعب سمع بأذنيه أئمة المساجد وخطباءها الرسمين بإيعاز من حكومتهم يحاولون منع الإخوان ويقولون للناس بصريح العبارة فى معرض تبريرهم هذا المنع : إنهم - أي الإخوان - يهاجمون الإنجليز ، وإذا لم أمنعهم فسيعرضني ذلك لقطع عيشي .. ففهم الناس لأول مرة أن هؤلاء السادة الحكام الذين كانوا يعتبرونهم مثلا عليا فى الوطنية ليسوا فى حقيقة أمرهم إلا خدما وأذنابا للمستعمر . فاعتماد الإخوان فى حديثهم إلى الناس على قضية فلسطين كان بمثابة جرعة منبهة لهذا الشعب المسكين أخذ يستفيق على أثرها من غشيته وأخذ يرى الأوضاع على حقيقتها .
ه - لم يبق من النتائج إلا جمع المال وهو لم يكن مقصودا لذاته بل كان وسيلة للتعبير عن المشاركة الوجدانية كما يقولون ؛ بمعنى أننا كنا نريد أن نعرف مدى تأثير حديثنا مع الناس فكانت هذه القروش التي يقدمها السامعون هي تعبيرهم عن تأثرهم بما نقول . ومساهمة رمزية منهم فى استعدادهم لتحمل أعباء المعركة التي يخوضها إخوانهم ضد اليهود والإنجليز .. ولهذا المال الذى كنا نجمعه لفلسطين قصة ستأتي فى سياق أحداث للدعوة سنذكرها فى موضعها إن شاء الله .
وإذا كان الشئ بالشئ يذكر ، فلا يفوتني أن أنوه هنا بحملة من حملات الدعاية لقضية فلسطين كانت هذه المرة خارج القاهرة وكانت فى مسجد السيد أحمد البدوي فى طنطا وكان الداعية فيها الأخ عبد الحكيم عابدين وكان إذ ذاك طالبا بكلية الآداب ومعه مجموعة من الإخوان .. وقد اخترت هذه الحملة بالذات لأنها هي وحدها دون غيرها من مئات الحملات قد شاء الله لها أن تسجل بقلم الكاتب الإسلامي الرفيع الأستاذ مصطفى صادق الرافعي ؛ فقد كان أحد المصلين بالمسجد فى ذلك اليوم ، وقد هاجت الحملة فى نفسه كوامن الأسى على ما آلت إليه حال المسلمين من تدهور وانحطاط فسجل هذه الكوامن كما سجل الأماني التي بعثتها هذه الحملة فى نفسه : سجل كل ذلك فى مقال رائع على صفحات مجلة الرسالة التي كانت توزع فى ذلك الوقت على نطاق لا يقل عن نطاق توزيع جريدة الأهرام . وكان تسعة أعشار قرائها إنما يقتنونها من أجل مقال الرافعي الذى كان دائما يتصدرها ... وقد جمعت مقالات الرافعي هذه بعد وفاته فى كتاب (( وحى القلم )) فى ثلاثة أجزاء .
والمقالة التي سجل فيها الرافعي هذه الحملة سماها (( قصة الأيدي المتوضئة )) ومن حق القارئ على أن أمتعه بنقل فقرات من هذه المقالة التاريخية المثيرة والبالغة الروعة :
(( قال الراوي )) : وصعد الخطيب المنبر وفى يده سيفه الخشبي يتوكأ عليه ( كانت وزارة الأوقاف يلزم كل خطيب مسجد أن يمسك بسيف من الخشب وهو يخطب الجمعة ) فما استقر فى الذروة حتى خيل إلى أن الرجل قد دخل فى سر هذه الخشبة ، فهو يبدو كالمريض تقيمه عصاه ، وكالهرم يمسكه ما يتوكأ عليه ؛ ونظرت فإذا هو كذب صريح على الإسلام والمسلمين ، كهيئة سيفه الخشبي فى كذبها على السيوف ومعدنها وأعمالها .
وتالله ما ادري كيف يستحل عالم من علماء الدين الإسلامي فى هذا العصر أن يخطب المسلمين خطبة جمعتهم وفى يده هذا السيف علامة الذل والضعة والتراجع والانقلاب والإدبار والهزل والسخرية والفضيحة والإضحاك ، ومتى كان الإسلام يأمر بنحر السيوف من الخشب ونحتها وتسويتها وإرهاف حدها الذى لا يقطع شيئا ، ثم وضعها فى أيدي العلماء يعتلون بها ذوأبة كل منبر لتتعلق بها العيون ، وتشهد فيها الرموز والعلامة ، وتستوحي منها المعنوية الدينية التي يجب أن نتجسم لترى ؟ ...
أفي سيف من الخشب معنوية غير معنى الهزل والسخافة وبلاهة العقل وذلة الحياة ومسخ التاريخ الفاتح المنتصر ، والرمز لخضوع الكلمة وصبيانية الإرادة ؟ ....
قال : وكان تمام الهزأ بهذا السيف الخشبي الذى صنعته وزارة أوقاف المسلمين ، أنه فى طول صمصامة عمرو بن معدي كرب الزبيدى فارس الجاهلية والإسلام ( كان طول الصمصامة سبعة أشبار وافية وعرضه شبرا ) فكان إلى صدر الخطيب ، ولولا أنه فى يده لظهر مقبضه فى صدر الرجل كأنه وسام من الخشب .
قال : وكان الخطيب إذا تكلف وتصنع وظهر منه انه حمى وثار ثائره ، أرتج وغفل عن يده ، فتضطرب فيها قبضة السيف فلنكزه فى صدره كأنما تذكرة أن فى يده خشبة لا تصلح لهذه الحماسة (القاعدة الشرعية أن البلد الذى يفتح بالسيف يخطب فيه الخطيب بالسيف . ولما ضعف المسلمون أنف السيف منهم وأطاعهم الخشب ) .
قال : وخطب العالم على الناس ، وكان سيفه الخشبي يخطب خطبة أخرى : فأما الأولى فهي محفوظة معروفة ولا تنتهي حتى ينتهي أثرها ، إذ هي كالقراءة لإقامة الصلاة ، وكانت فى عهدها الأول كالدرس لإقامة شأن من شئون الاجتماع والسياسة ؛ فبينها وبين حقيقتها الإسلامية مثل مابين هذا السيف من الخشب وبين حقيقته الأولى؛ وأما الخطبة الثانية فقد عقلتها أنا عن تلك الخشبة وكتبتها ، وهذه هي عبارتها :
ويحكم أيها المسلمون .. لو كنت بقية من خشب سفينة نوح التي أنقذ فيها الجنس البشرى ، لما كان لكم أن تضعوني فى هذا الموضع ؛ وما جعلكم الله حيث أنتم إلا بعد أن جعلتموني حيث أنا ، نكاد شرارة تذهب بى وبكم معا ، لأن فى وفيكم المادة الخشبية والمادة المتخشبة .
ويحكم لو أنه كان لخطيبكم شئ من الكلام الناري المضطرم ، لما بقيت الخشبة فى يده خشبة وكيف يمتلئ الرجل إيمانا بإيمانه ، وكيف يصعد المنبر ليقول كلمة الدين من الحق الغالب ، وكلمة الحياة من الحق الواجب وهو كما ترونه قد انتهى من الذل إلى أن فقد السيف روحه فى يده ؟ أيها المسلمون .. لن تفلحوا وهذا خطيبكم المتكلم فيكم ، إلا إذا أفلحتم وأنا سيفكم المدافع عنكم ، أيها المسلمون .. غيروه وغيروني .
قال راوي الخبر : ولما قضيت الصلاة ماج الناس ، إذ انبعث فيهم جماعة من الشبان يصيحون بهم ويستوقفونهم ليخطبوهم ثم قال احدهم فخطب ، فذكر فلسطين وما نزل بها ، وتغير أحوال أهلها ونكبتهم وجهادهم واختلال أمرهم ، ثم استنجد واستعان ، ودعا الموسر والخف إلى البذل والتبرع وإقراض الله تعالى ، وتقدم أصحابه بصناديق مختومة فطافوا بها على الناس يجمعون فيها القليل والأقل من دراهم هي فى هذه الحال دراهم أصحابها وضمائرها .
قال : وكان إلى جانبي رجل قروي من هؤلاء الفلاحين الذين تعرف الخير فى وجوههم والصبر فى أجسامهم والقناعة فى نفوسهم والفضل فى سجاياهم ، إذ امتزجت بهم روح الطبيعة الخصبة فتخرج من أرضهم زروعا ومن أنفسهم زروعا أخرى ، فقال لرجل كان معه : إن هذا الخطيب خطيب المسجد قد غشنا وهؤلاء الشبان قد فضحوه ، فما ينبغي أن نكون خطبة المسلمين إلا فى أخص أحوال المسلمين .
قال : ونبهني هذا الرجل الساذج إلى معنى دقيق فى حكمة هذه المنابر أخبار الجهات الأخرى ويذيعها فى صيغة الخطاب غلى الروح والعقل والقلب ، فتكون خطبة الجمعة الكلمة الأسبوعية فى سياسة الأسبوع أو مسألة الأسبوع ، وبهذا لا يجئ الكلام على المنابر إلا حيا بحياة الوقت ، فيصبح الخطيب ينتظره الناس فى كل جمعة انتظار الشئ الجديد ، ومن ثم يستطيع المنبر أن يكون بينه وبين الحياة عمل .
قال : وخيل إلى بعد هذا المعنى أن كل خطيب فى هذه المساجد ناقص إلى النصف لأن السياسة تكرهه أن يخلع إسلاميته الواسعة قبل صعوده المنبر ، وأن لا يصعد إلا فى إسلاميته الضيقة المحدودة بحدود الوعظ الذى هو مع ذلك نصف وعظ ... فالخطبة فى الحقيقة نصف خطبة أوكأنها أثر خطبة معها أثر سيف ...
قال : وأخرج القروي كيسه فعزل منه دراهم وقال : هذه لطعام أنبلغ به ولأوبتي إلى البلد ثم أفرغ الباقي فى صناديق الجماعة ، واقتديت أنا به فلم أخرج من المسجد حتى وضعت فى صناديقهم كل ما معي ، ولقد حسبت أنه لو بقى لي درهم واحد لمضى يسبني مادام معي إلى أن يخرج عنى . قال الراوي : ثم دخلت إلى ضريح صاحب المسجد أزوره وأقرأ فيه ما تيسر من القرآن ، فإذا هناك رجال من علماء المسلمين اثنان أو ثلاثة ثم توافى إليهم آخرون فتموا سبعة ... وكان من السبعة رجل ترك لحيته عافية على طبيعتها ، فامتدت وعظمت حتى نشرت حولها جوا روحانيا من الهيبة تشعر النفس الرقيقة بتياره على بعد .
قال : وأنصت الشيوخ جميعا إلى الشبان ، وكانت أصوات هؤلاء جافية صلبة حتى كأنها صخب معركة لأفن خطابة ، وعلى قدر ضعف المعنى فى كلامهم قوى الصوت ، فهم يصرخون كما يصرخ المستغيث فى صيحات هاربة بين السماء والأرض .
فقال أحد الشيوخ الفضلاء : لا حول ولا قوة إلا بالله ... جاء فى الخبر (( تعس عبد الدينار تعس عبد لدرهم )) ووالله ما تعس المسلمون إلا منذ تعبدوا لهذين حرصا وشحا (( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )) ولو تعارفت أموال المسلمين فى الحوادث لما أنكرتهم الحوادث .
فقال آخر : وفى الحديث (( إن الله يحب إغاثة اللهفان )) ولكن ما بال هؤلاء الشبان لا يوردون فى خطبهم أحاديث مع أنها هي كلمات القلوب ؟ فلو أنهم شرحوا للعامة هذا الحديث لأسرع العامة إلى ما يحبه الله .
قال الثالث : ولكن جاءنا الأثر فى وصف هذه الأمة (( إنها فى أول الزمان يتعلم صغارها من كبارها فإذا كان آخر الزمان تعلم كبارهم من صغارهم )) فنحن فى آخر الزمان ، وقد سلط الصغار على الكبار يريدون أن ينقلوهم عن طباعهم إلى صبيانية جديدة .
قال الراوي : فقلت لصديق كان معي : قل لهذا الشيخ : ليس معنى الأثر ما فهمت ، بل تأويله أن آخر الزمان سيكون لهذه الأمة زمن جهاد وأقتحم ، وعزيمة ومغالبة على استقلال الحياة فلا بصلح لوقاية الأمة إلا شبابها المتعلم القوى الجرئ كما نرى فى أيامنا هذه ، فينزلون من الكبار تلك المنزلة ، إذ تكون الحماسة متممة لقوة العلم . وفى الحديث (( أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره )) .
قال الراوي : ولم يكد الصديق يحفظ عنى هذا الكلام ويهم بتبليغه ، حتى وقعت الصيحة فى المكان ، فجاء أحد الخطباء ووقف يفعل ما يفعله الرعد ، لا يكرر إلا زمجرة واحدة ، وكان الشيوخ الأجلاء قد سمعوا ما قيل ، فأطرقوا يسمعونه مرة رابعة وخامسة ، وفرغ الشاب من هديره فتحول إليهم وجلس بين أيديهم متأدبا متخشعا ووضع الصندوق المختوم .
فقال أحد الشيوخ : ممن أنت يا بني ؟ قال : أنا من جماعة الإخوان المسلمين . قال الشيخ : لم يخف علينا مكانك ، وقد بذلتم ما استطعتم فبارك الله فيك وفى أصحابك.
وسكت الشاب ، وسكت الشيوخ ، وسكت الصندوق أيضا ...
ثم تحركت النفس بوحي الحالة ، فمد أولهم يده إلى جيبه ثم دسها فيه ، ثم عبث فيه قليلا ثم ... ثم أخرج الساعة ينظر فيها .
وانتقلت العدوى إلى الباقين ، فأخرج احدهم منديله يتمخط فيه ، وظهرت فى يد الثالث مسبحة طويلة ، وأخرج الرابع سواكا فمر به على أسنانه ، وجر الخامس كراسة كانت فى قبائه ، ومد صاحب اللحية العريضة أصابعه إلى لحيته يخللها ، أما السابع فثبتت يده فى جيبه ولم تخرج ، كأن فيها شيئا يستحى إذا هو أظهره أو يخشى إذا هو أظهره من تخجيل الجماعة .
وسكت الشاب ، وسكت الشيوخ ، وسكت الصندوق أيضا ...
وقال الراوي ونظرت فإذا وجوههم قد لبست للشاب هيئة المدرس الذى يقرر لتلميذه قاعدة قررها من قبل ألف مرة لألف تلميذ ، فخجل الشاب وحمل صندوقه ومضى .
أقول أنا : فلما انتهى الراوي من (( قصة الأيدي المتوضئة )) قلت له لعلك أيها الراوي استيقظت من الحلم قبل أن يملأ الشيوخ الأجلاء الصندوق ، وما ختم عقلك هذه الرواية بهذا الفصل إلا بما كددت فيه ذهنك من فلسفة تحول السيف إلى خشبة ، ولو قد امتد بك النوم لسمعت أحدهم يقول لسائرهم : بمن ينهض إخواننا المجاهدون وبمن يصولون ؟ لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( جاهل سخي أحب إلى الله من عالم بخيل )) ثم يملئون الصندوق ...
الفصل الثاني : الدعوة على متفرق طريقين
(( هل نهاجر ؟ ) :
كان حسن البنا - كدأب أصحاب الدعوات - حريصا على أن يرتاد بدعوته أخصب أرض تنمو فيها وتترعرع . وكان يرى - كما كنا جميعا نرى - أن مصر تزخر بالكثير من مظاهر الانحراف عن الدين مما تألم له نفس الرجل المؤمن ، وكان يفد إلينا فى مصر بين الفينة والفينة أفراد من بلاد عربية وبلاد إسلامية نرى فى علمهم وسلوكهم المثل العليا التي نرتجيها فاعتبرنا هؤلاء الأفراد صورة مصغرة لبلادهم ومجتمعاتهم التي جاءوا إلينا منها ، فتاقت نفوسنا إلى تلك البلاد ووددنا لو انتقلنا إليها بدعوتنا حيث نجد الملاذ الطيب والملجأ المنيع والركن الشديد والخصوبة المأمولة ، وتحدثنا فى ذلك معا وتحدثنا فيه مع الأستاذ المرشد فوجدنا لحديثنا فى هذا الموضوع صدى طيبا كأنما صادف هوى فى نفسه .
وأخذت هذه الفكرة يعظم أمرها فى نفوسنا وفى نفس الأستاذ المرشد حتى إنه جاء فى يوم من الأيام وكاشفنا بأنه أصبح مقتنعا بالفكرة وبأن انتقالنا بالدعوة إلى بلد آخر أقرب إلى الإسلام يوفر علينا كثيرا من المشاق وكثيرا من الوقت ولكنه يريد أن يعرف مدى استعدادنا للهجرة يوم تتقرر الهجرة ، وما هي إلا لحظات حتى رأى منا ما يطمئن نفسه ، فسر وانشرح صدره .
ترجمة القرآن الكريم ومعركتها :
اقتراح ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى ، اقتراح نشأ فى أروقة الجامع الأزهر ، باعتبار ذلك الوسيلة المثلى لنشر الإسلام فى بقاع الأرض ، حيث اعتقد الأزهر أن وجود القرآن الكريم باللغة العربية هو العائق الأكبر أمام من لا يعرفون العربية ، فإذا أزلنا هذا العائق بإيجاد القرآن مترجما إلى مختلف اللغات صار انتشار الإسلام سهلا ميسورا .
الدافع إلى هذا الاقتراح كما يبدو دافع نبيل ، يستهوى نفس كل غيور على الإسلام ، فإذا علم أن الأزهر بثقله العلمي والإسلامي يقف من وراء هذا المقترح فإن أحدا لا يتخلف عن تأييده ويتحمس لهذا التأييد ... ولهذا سرت فكرة الترجمة هذه فى مختلف البلاد ومختلف الأوساط .
وقد انبثق هذا الموضوع عن الأزهر قبل أن انزح إلى القاهرة ، وكنا نشعر -نحن قراء الصحف - أن الحكومة تؤيد هذا الاقتراح ولكنها تقدمه إلى الشعب عن طريق الأزهر حتى يكتسب صبغة تحببه إلى النفوس ، ولا أدرى الدوافع التي دفعت الحكومة إلى تأييد هذا الاقتراح .
ومع أن الأزهر هو الذى قدم الموضوع إلى الشعب والحكومة تطل إلى الشعب من ورائه ، ومع أن علماء الأزهر فى ذلك الوقت كانوا يتوخون إرضاء الحكومة ، فإن رجلا من رجال الأزهر تصدى للفكرة غير عابئ بالأزهر ولا بالحكومة ، وكتب فى جريدة الأهرام سلسلة ضافية من المقالات النارية يفند فيها فكرة الترجمة ويهاجمها مهاجمة لا هوادة فيها ولازلت أذكر اسم هذا العالم الجرئ الشيخ محمد سليمان نائب المحكمة الشرعية العليا بالقاهرة ، ونظرا لأهمية موضوع الترجمة ولروعة المقالات التي كانت تكتب لتأييده وتلك التي يكتبها هذا الرجل لمهاجمته خصص لها (( الأهرام )) صدر صفحته الأولى فكان الناس يتهافتون على قراءة هذه المقالات يريدون أن يصلوا إلى الحقيقة فى أمر خطير يمس الناس جميعا فى أعز ما يعتزون به وهو القرآن الكريم .
ونزحت إلى القاهرة وموضوع ترجمة القرآن محتدم على أشده ، فلما اتصلت بالإخوان وجدت الأستاذ المرشد يهاجم فكرة الترجمة وحجته فى ذلك أن الترجمة مستحيلة لأن التركيب القرآني العربي فى ذاته معجز للعربي حين يحاول فهمه فهو يفهم منه بقدر طاقته فى الفهم والتصور وقد يفهم منه عربي آخر ما لم يفهمه الأول لأنه أوسع تصورا - ويفهم من الآية فى عصر من العصور ما لم يفهم منها فى عصر سابق والآية والألفاظ هي الألفاظ ، فالإقدام على ترجمة القرآن إقدام مستحيل ومسخ للقرآن ونزول به عن مكانته مما يعد اعتداء على الإسلام فى أقدس مقدساته ... وكان للإخوان - على قلتهم فى ذلك الوقت - أثر ملموس فى مهاجمة هذه الفكرة لأنهم كانوا الهيئة الوحيدة التي تهاجم علنا .
وأذكر أنني بعد اقتناعي بهذا الرأي كتبت مقالة بمجلة الإخوان هاجمت فيها فكرة الترجمة من ناحية أخرى وهى ما يرجوه الأزهر من ورائها فقلت ما مجمله إن الأزهر إذا كان يرجو من وراء ترجمة القرآن أن ينشر الإسلام فى بلاد لا يتكلم أهلها العربية فإن هذا وهم ، فإذا كان دستور الدعوة إلى الإسلام هو قول الله تعالى (( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )) فإن الحكمة تقتضى أول ما تقتضى أن يكون الداعي موضع احترام المدعو ... ولما كانت الأمم الإسلامية لازالت موضع احتقار الأمم الأخرى لأنها أمة متخلفة متأخرة جاهلة مستعمرة ، فإن الخطوة الأولى ليست هي ترجمة القرآن وإنما هي التخلص مما هي فيه من أسباب الضعف والانهيار حتى تتبوأ مكانا محترما بين الأمم وحينئذ نبدأ بتوجيه الدعوة إلى الإسلام وحينئذ تلقى قبولا .
الحج :
قدمت أن الأستاذ المرشد قد كاشفنا بأن فكرة الهجرة بالدعوة إلى بلد آخر من البلاد الإسلامية يكون أقرب إلى الإسلام من مصر قد سيطرة على تفكيره وملأت نفسه، ولكنه لم يقدم على هذه الخطوة حتى يحدد أي هذه البلاد الإسلامية أشد قربا من الإسلام ، وخير وسيلة لتحديد هذا البلد هو الحج ، فإن الحج يجمع جميع الطبقات من جميع بلاد العالم الإسلامي .. فإذا اختلطنا بهذه الطبقات من جميع هذه البلاد استطعنا أن نقيم كل بلد من البلاد الإسلامية تقيما صحيحا . وقد صحب الأستاذ المرشد فى هذا الحج مائة من الإخوان من مختلف البلاد المصرية وقد وحد زيهم جميعا فكل منهم يرتدى جلبابا أبيض وطاقية بيضاء .
وسافر وفد الحجيج وقلوبنا ترفرف عليهم حيث كانوا وأديت فريضة الحج بالوقوف بعرفة وبعد أيام قلائل جاءنا البريد بطرد كبير فتحناه فإذا هو مجموعة من العدد الأخير من جريدة (( أم القرى )) وهى الجريدة الوحيدة التي تصدر فى السعودية فى ذلك الوقت وكانت جريدة شبه رسمية ، فتعجبنا من وصول هذه الجريدة إلينا لأول مرة فقد كانت تصلنا من بلاد إسلامية أخرى مجلات وصحف ولكن هذه الجريدة لم تصلنا إلا هذه المرة ولكنها إذ تصل تصلنا منها هذه الكمية الضخمة ، وتصفحنا الجريدة وكانت قليلة الصفحات فوجدنا يشغل مكان الصدارة فيما خطاب للأستاذ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين ألقاه فى مؤتمر عظماء المسلمين فى الحج ، وقد لاحظنا أن الخطاب على طوله - فهو يشغل أكثر صفحات الجريدة - ليس إلا مجموعات من آيات القرآن الكريم لا يفصل كل مجموعة منها عن الأخرى إلا سطر أو سطران من كلام الأستاذ المرشد
الرجوع من الحج بمفاجآت ومفاهيم جديدة :
كنا نعول الكثير على رجوع الأستاذ المرشد من الحج ، فإن مستقبلنا ومستقبل الدعوة كان متوقفا على نتائج هذه الرحلة ، وقد أعددنا لاستقباله كل ما نستطيع إعداده ، وعلى سبيل المثال كلفنا الأستاذ عبد الرحمن الساعاتي بوضع نشيد نستقبله به فأنشأ نشيدا جميلا لا يحضرني الآن إلا مطلعه الذى يقول :
مرحبا يوم قدوم المرشد
عمت الأفراح أرجاء الندى
وقدمنا اليوم كما نهتدي
وكنا نتمرن جميعا على إنشاده معا ، كما أننا حشدنا أكبر عدد من الإخوان بالقاهرة وغيرها حتى امتلأ فناء الدار لأول مرة مع أضواء ساطعة فى أنحائه . وقد حضر الأستاذ المرشد إلى دار المركز العام قبل أن يذهب إلى منزله فلم يره أهله وأبناؤه إلا بعد انتهاء الحفل .
وبدأ الحفل بتلاوة القرآن الكريم ثم ألقينا السيد ثم تكلم الأستاذ عمر التلمساني المحامى - وكانت هذه أول مره أراه فيها - وأذكر أنه افتتح كلمته بقوله : يسير على من صناعته الكلام أن يقول ويترجم عن مشاعره ولكنى أراني عاجزا عن القول .....)) ثم ألقى الشيخ محمد زكى إبراهيم قصيده رائعة كانت تقاطع أكثر أبياتها بالهتاف والتكبير - ولم تكن الكلمات التي تلقى سواء منها الشعر والنثر إلا كلمات هادفة عظيمة المدلول - ولازال يطن فى أذني من هذه القصيدة استعيد أكثر من مرة لروعته يقول فيه :
وصلاح الدين فى عمته :: هد دنيا قبعات علنا
وناهيك بما تضمنه هذا البيت من معان تهدم دعاوى كانت رائجة فى ذلك الوقت ، وكان يدعو لها حتى رؤساء الوزارات فى مصر ورؤساء الأحزاب ، فقد صرح رئيس حزب الوفد - مصطفى النحاس - وكان رئيسا للوزراء بأنه معجب بحركة أتاتورك بدون تحفظ - وتتلخص حركة أتاتورك هذه فى أنه قضى على الدين الإسلامي ، ولبس القبعة وأمر الأتراك بلبسها ، حتى اللغة التركية أمر بكتابتها بالحروف اللاتينية بعد أن كانت تكتب بالحروف العربية ، مدعيا أن هذه الحركة ستجعل من تركيا دولة عظيمة .
ثم قام الأستاذ المرشد ليلقى كلمته التي كنا نزن كل حرف منها بميزان ، وأستطع أن أقرر أن هذه الكلمة كانت من أهم وأعظم ما صدر عن الأستاذ المرشد لأنها وضعت أسسا جديدة للدعوة وغيرت كثيرا من المفاهيم ، وأوضحت السبيل وحددته ، ويمكن تلخيص ما اشتملت عليه هذه الكلمة فى نقاط ثلاث :
أولا :ذكر الأستاذ المرشد أن همه كله كان منصبا على الالتقاء بوفود المسلمين من مختلف الطبقات من كل بلد إسلامي فى العالم ، والتحدث معهم ، ودراسة أحوالهم، ومناقشة مشاكلهم ، والتعرف على مستواهم الحضاري والثقافي والديني ، ومعرفة مدى تسلط المستعمر على بلادهم ، ومستوى فهمهم للإسلام وعلاقته بالحياة . قال : وقد اتصلت بالمحكومين والحكام فى كل بلد من البلاد الإسلامية وخرجت من ذلك باقتناع تام بأن فكرة الهجرة بالدعوة أصبحت غير ذات موضوع وأن العدول عنها أمر واجب ، فمصر على ما فيها من عيوب هي أحسن بيئة للدعوة الإسلامية.
ثانيا : أن دراسة أحوال المسلمين فى البلاد الإسلامية فى أنحاء العالم ضاعفت العبء الملقى على عواتقنا فقد كنا نعتقد أن هذه البلاد ستكون عونا لنا على لإصلاح مصر ، فتبين لنا أنها هي فى ذاتها عبء يقتضى منا بذل أضعاف ما نبذله فى مصر لمجرد بعث الحياة فيها ، فالبون شاسع بين مستوى هذه البلاد ومستوى مصر سواء فى الدنيا أوفى الدين .
ثالثا : أن فكرة ترجمة القرآن فكرة ساذجة وخاطئة بل وجريمة قد لا تعدلها جريمة ترتكب فى حق الإسلام ، وساق فى إثبات ذلك مثلا واقعيا فقال : لعلكم تعجبتم حين وصلكم نحو مائة نسخة من جريدة أم القرى وفى صدرها كلمة لي .... إن لهذا الموضوع قصة هي غاية الأهمية ، وتجربة فى الدعوة الإسلامية لم تكن تخطر ببالي ولا ببال أحد ، تجربة فسرت آيات فى كتاب الله لم نكن نفهمها على وجهها الصحيح ، وقال إنني سافرت إلى الحج ولم أكن إلى فكرة ترجمة القرآن بنفس الخطورة التي أصبحت الآن أنظر إليها .
قال : اعتاد الملك عبد العزيز آل سعود أن يدعو كل عام كبار المسلمين الذين يفدون لأداء فريضة الحج إلى مؤتمر بمكة المكرمة تكريما لهم وليتدارسوا أحوال المسلمين فى العالم ، وكان فى وفود الحجاج من كل بلد إسلامي فى العالم وزراء وأمراء وزعماء سواء فى ذلك البلاد العربية وغير العربية فكان من مصر مثلا الدكتور محمد حسين هيكل ومن سورية ولبنان والعراق واليمن وإمارات الخليج وشمال أفريقية حكام وزعماء وكان من بلاد أفريقية الوسطى والجنوبية ومن جميع البلاد الإسلامية فى أسيا ومن جاليات المسلمين فى أمريكا الجنوبية وأوربا ؛ كل هؤلاء وجهت إليهم الحكومة السعودية دعوات لحضور هذا المؤتمر ؛ وطبعا لم توجه إلينا دعوة باعتبارنا من عامة الحجاج .
قال : علمت بموعد هذا المؤتمر وبمكانه الذى سينعقد فيه ، فأعددت نفسي والإخوان المائة فى هيئة موحدة هي الجلباب الأبيض والطاقية البيضاء ... وفى الموعد المحدد فوجئ عليه القوم المجتمعون بمائة رجل فى هذه الهيئة يخطون خطوة واحدة يتوسط الصف الأول منهم رجل هو المرشد العام ... فكان هذا حدثا منيرا للالتفات ... ودخل هؤلاء فاتخذوا أماكنهم فى نهاية الجالسين ؛ وبدأ المؤتمر بكلمة ترحيب من مندوب الملك .
ثم قام مندوب من كل بلد إسلامي فتكلم بلغه بلاده ؛ فألقيت عشرات الخطب بعشرات اللغات ومنها العربية التي ألقى بها الدكتور هيكل وأمثاله ممثلو الدول العربية ... يقول الأستاذ المرشد : وقد لاحظت أن الحاضرين يبدو على وجوههم السأم وغلب على أكثرهم اللوم ... وقد ناقشت هذه الظاهرة مع نفسي وأدرتها فى خاطري فوجدت أن السأم والنوم أمر تمليه الطبيعة البشرية فمادام السامع لا يفهم ما يقال - وهو لا يستطيع أن يغادر المؤتمر - فمن حقه أن يسأم وأن يستسلم للنوم قال فصبرت حتى انقضت الساعات الطوال التي استغرقها المندوبون فى إلقاء خطاباتهم واستغرقها الحاضرين أن يتقدم بملاحظاته إن كان له ملاحظات ... قال الأستاذ : فطلبت الكلمة واعتليت المنصة وارتجلت كلمة كانت أطول كلمة ألقيت ، وكانت الكلمة الوحيدة التي أيقظت الحاضرين ، وفوطعت بالإعجاب ، واهتزت لها المشاعر ، وبعثت فى المؤتمر جوا من الحيوية الدافقة وما كدت أنهى كلمتي حتى أقبلت على جميع الوفود تعانقني ، وتشد على يدي ، وتعاهدني وتطلب التعرف على وعلى من معي ، وتفتح قلوبها للفكرة التي تضمنها كلمتي .
يقول الأستاذ المرشد : لقد أحسست وأنا جالس فى المؤتمر بأن المستعمر أفلح فى القضاء على أسباب التفاهم بين البلاد الإسلامية بعضها وبعض بالقضاء على اللغة العربية فيها وإحلال لغة غيرها محلها ؛ فاندونيسيا تتكلم بلغة اندونيسية والهند بلغة هندية والصين بلغة صينية ونيجيريا بلغة نيجيرية وغانا وغينيا وهكذا ... وفكرت فأسعفني خاطري بأن الشئ الوحيد الذى لا يزال باقيا بلغته العربية ويقرأه الجميع بألفاظه العربية لأن العبادة لا تكون إلا بألفاظ التي أنزل بها هو القرآن . فالكل على اختلاف بلاده ولغاته ولهجاته يفهمه : فعزمت على أن تكون كلمتي كلها آيات من القرآن أرتبها ترتيبا يوضح كل ما فى نفسي من معاني الإسلام وأهدافه ووسائله ، وكيف يعالج النفس البشرية ويضع حلولا للمشاكل الحيوية ، ولاحظت من أول آية بدأت بها كلمتي أنني ضربت على الوتر الحساس فى قلب كل جالس فى المؤتمر ، وأحسست أن كل كلمة من آية أتلوها تقع من قلوب الحاضرين موقعها ، وتفعل فى نفوسهم فعلها ؛ حتى ذاب الثلج الذى جمد المشاعر طيلة الساعات السابقة ، وبدأ الدف حتى غلت مراجل القلوب والتهبت المشاعر وكان لابد فى نهاية الكلمة من تجمع هذه القلوب والتفافها .
ويمكن تلخيص نتائج هذه الكلمة وأثارها فى الآتي :-
1- أثبتت بما لا يتطرق إليه شك أن وجود القرآن باللغة العربية هو الرباط الأبدي الوحيد بين المنتمين إلى الإسلام حيثما كانوا ومهما اختلفت ألسنتهم وثقافتهم ، وأنه فى صورته هذه التي نزل بها من السماء هو بمثابة الروح فى جسد هذه الأمة الإسلامية ، وأنه هو كلمة السر التي متى سمعها المسلم أنس بقائلها ، وأحس أن بجانبه أخا يحبه ويفتديه مهما اختلفا بعد ذلك فى كل شئ .
2- تبين تبينا قاطعا أن فكرة ترجمة القرآن ، إما أن تكون فكرة قوم من المسلمين بلغوا من السذاجة حدا يؤسف له ، وإما أن تكون وليدة تفكير استعماري تبشيري خطير للقضاء على آخر رباط يربط الجسد الممزق ، أو هو قطع الشريان الوحيد الباقي فى هذا الجسد ، ولذا كان على المسلمين أن يقفوا لهذه الفكرة المدمرة بالمرصاد .. وتبين كما قال الأستاذ المرشد أن قول الله تعالى عن كتابه العزيز : (( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون )) معناه أن هذا القرآن لا يكون قرآنا إلا إذا كان عربيا وما كنا نعقل حقا ولا كان أحد يدور بخلده قبل هذا المؤتمر أن عروبة اللغة هي جزء من القرآن لا يتجزأ وأن العروبة اللغوية الأزمة له هي السر الخفي الذى تتحطم على صخرته مؤامرات الأعداء ومكائد الحاقدين على هذا الدين ... وعلى حد قول الأستاذ فى كلمته التي ألقاها فى تلك الليلة فى دار المركز العام إذ قال : إن كان لابد من ترجمة فلتترجم الأمم إلى القرآن ، لا أن القرآن تترجم إلى الأمم .
3- أحس الحاضرين لأول مرة بحرارة التيار الإسلامي يسرى فى مشاعرهم ، ورأوا لأول مرة أن العالم الإسلامي قد تمخض عن داعية من نوع جديد لم يألفوا له مثيلا من قبل ؛ فهو قادر على إثارة المعاني الإسلامية فى النفوس ، وقادر على جذب القلوب بالجاذبية الإلهية التي هي القرآن ، وقادر على جمع المتنافر منها تحت راية الإسلام ، وقادر على بث روح الأخوة التي تصهر النفوس فى بوتقة الإسلام ، فهرع الجميع يلتفون حول هذا الداعية الجديد ، ومن هنا سارعت (( أم القرى )) إلى نشر الخطاب بنصه فشغل معظم صفحاتها ، ولم تنشر إلى غيره . وبدأ أل سعود يتعرفون على الداعية الجديد .
4- بقدر ما كان لهذه الظاهرة الإسلامية الرائعة من أثر طيب فى نفوس جميع الوفود فيبدو أنها لم تقع من نفس الموقع ، فقد شعر هذا الوفد بالمهانة حين رأى جميع الوفود انفضت عنه ولم نعره اهتماما وهم الوزراء وكبار الساسة وأصحاب البلاد وسادة العباد ، والتفوا حول هذا الرجل النكرة الذى لم يسمعوا عنه ولم يعرفوا اسمه إلا فى هذا المؤتمر ... وسوف نتحدث فى باب قادم إن شاء الله عن أحداث وقعت فى مصر نتيجة هذا الشعور الأثيم .
الباب الثاني : فى ميدان العتبة الخضراء
مقدمة
كان من أثر البعثات الطلابية فى أنحاء البلاد أن انتشرت الدعوة واتسع نطاق الرقعة التي استجابت لها ، وتضاعف عدد أعضائها أضعافا كثيرة ، كل هذا فضلا عما سبق الإشارة إليه من انتشار الدعوة فى كليات الجامعة والمدارس والمعاهد والأزهر ، ولم تعد الدار بشارع الناصرية صالحة لاستيعاب هذا العدد الكبير من الناس ، وما يستتبعه من اجتماعات ومحاضرات ومؤتمرات وأوجه نشاط ؛ وكان لابد من البحث عن مقر للمركز العام يتسع لذلك ؛ وسرعان ما وفق الله إلى مكان بهذه المطالب ويمتاز بالميزات الآتية :
1- كثرة عدد حجراته واتساع مساحاتها فقد كان به سبع حجرات ، واحدة منها كانت مساحتها تبلغ مجموع مساحات جميع حجرات المركز العام السابق .
2- كان له (( فراندة )) تتسع لمئات الكراسي وتصلح لعقد المؤتمرات فضلا عن الاجتماعات والمحاضرات
3- كان موقعه أحسن موقع من حيث يقع فى ميدان العتبة الخضراء ، وكان إذ ذاك أعظم ميدان فى القاهرة وهو ملتقى المواصلات ومعترك التجارة ومهوى أفئدة أهل القاهرة والوافدين إليها من مختلف البلاد .
ويقع هذا المقر فى العمارة التي بها لوكاندة البرلمان التي كانت هي الأخرى معلما من معالم القاهرة .وقد اقتضى هذا الانتقال أن ينتقل الأستاذ المرشد من سكنه إلى مسكن قريب من المركز الجديد لأنه كان حريصا على قرب مسكنه من المركز العام فاتخذ مسكنا فى شارع محمد على .
وكان الإخوان إلى ما قبل الانتقال إلى هذا المقر الجديد من الضآلة فى العدد ، ومن الاختفاء فى المكان بحيث لم يكن يحب لهم حساب ، ولا يكاد يحس بوجودهم أحد ، وكانوا ذائبين فى المجتمع ، وكانت صلتهم بالقاهرة التي يعيشون فيها شبه مقطوعة فهي مقصورة على شعبهم القليلة فى منطقة القنال وما حولها ؛ وقد حاول الأستاذ المرشد سدى إشعار القاهرة بوجود الإخوان بمحاضرات يعلن عنها بدعوات وبمنشورات حتى وصل به الأمر إلى أنه انتهز فرصة إقبال شهر ربيع الأول فى تلك السنة فأعلن عن محاضرات يلقيها كل ليلة بالمركز العام فى الناصرية وطبع آلاف الإعلانات عن هذه السلسلة من المحاضرات ؛ وكنا نذهب جميعا كل ليلة إلى مسجد السيدة زينب نؤدي صلاة العشاء ثم نخرج من المسجد ونصطف صفوفا يتقدمنا الأستاذ المرشد ينشد نشيدا من أناشيد المولد النبوي ونحن نردده من بعده فى صوت جهوري جماعي يلفت النظر ، وكانت الفاصلة التي نرددها هي هذا البيت :
صلى الإله على النور الذى ظهرا ::: لنا بشهر ربيع الأول أشهرا
وكان الناس يجتمعون فعلا علينا ، ويسيرون معنا فى الطريق ونحن ننشد بنغمة محبوبة وكان أفراد منا يوزعون الإعلانات على الناس والمحلات على الجانبين فى أثناء سير الموكب حتى إذا وصلنا إلى دار المركز العام لم يدخل معنا فيه إلا عددا قليل لا يسمن ولا يغنى من جوع ..
كان الانتقال إلى المقر الجديد طفرة بالنسبة لوضع الإخوان ولإمكانياتهم ، وتستطيع أن تقدر ضآلة هذه الإمكانيات إذا علمت أن الإخوان حتى ذلك الوقت لم يكونوا إلا مجموعة من الطلبة مهما ذكرنا عن تضاعفهم عددا فإنهم لا مورد لهم وبجانبهم عدد من صغار الموظفين هم أنفسهم الذين كانوا موجودين بالمركز العام لأول مرة زرته ... والمقر الجديد يحتاج إلى نفقات كثيرة فإيجاره أضعاف إيجار القديم ونفقات تأثيثه وأجر المياه والنور فيه وأجر الكراسي التي تلزم للحفلات والمحاضرات ... وهذه النفقات لا قبل لهذه المجموعة القليلة الفقيرة بها ... ولكن الأستاذ المرشد كان لا يعير النواحي المادية اهتماما ؛ فهو يقدم كل ما يملك ويعتقد بعد ذلك أن الله لن يخذله ؛ وكان الله سبحانه دائما يحقق أمله وصدق الله إذ يقول فى الحديث القدسي (( أنا عند حسن ظن عبدي بي )) .
وقد دفع الأستاذ المرشد بكل ما معه ، ولم يدخر أحد شيئا يستطيعه إلا قدمه ، ولم يتخلف إخوان الإسماعيلية وإخوان القنال عما تعودوه دائما ، فقد كانوا سندا وردءاً للأستاذ المرشد فى كل موقف شديد ، وأتم الله فضله وتم الانتقال ، وأثث المكان ، وأخذ الإقبال يزداد على المكان الجديد الذى وجدوا معه فيه سعة .
وكان الأستاذ يرمى من وراء هذه النقلة فى المكان التهيؤ لنقل الدعوة إلى طور جديد له السمات الثلاث الآتية باعتبارها أهدافا يجب تحقيقها :
1- إبراز الإخوان المسلمين باعتبارهم فئة متميزة من الفئات الأساسية فى المجتمع المصري .
2- الأخذ بأساليب عملية قوية فى التكوين والتربية.
3- فضح مؤامرات الإنجليز والحكومة والانطلاق بقضية فلسطين .
الفصل الأول : إبراز الإخوان باعتبارهم فئة متميزة من الفئات الأساسية فى المجتمع المصري
اتخذ الأستاذ المرشد لتحقيق هذا الغرض الأساليب الآتية :-
الأسلوب الأول : الشارة والمجلة :
ما كان يستقر بنا المقام فى الدار الجديدة حتى دعانا الأستاذ المرشد إلى اجتماع وعرض علينا فكرته فى وجوب أن تكون لنا شارة مميزة ، ومجلة معبرة ، ووافقنا جميعا على الفكرة .
الشارة : اقترح كل منا هيئة معينه للشارة وانتهينا إلى أن يكون لنا نوعان من الشارات ؛ نوع يعلق على الصدر فى جانبه الأيسر ونوع يلبس فى إصبع اليد ، وقال لنا الأستاذ فكروا فى هيئة لكل من هذين النوعين من الشارات على أن يكون تفكيركم محصورا فى صيغة قرآنية ...
وقد أخذ الأستاذ بفكرتي فى هيئة شارة الصدر ؛ وهى أن تكون قطعة معدنية مستديرة فى مساحة القرش محدبة السطح ، يطلى سطحها بالميناء الزرقاء ، ويرسم عليها - رسما بارزا - سيفان متقاطعان يحملان على تقاطعهما مصحفا بلون أحمر ويكتب تحت تقاطع السيفين كلمة (( وأعدا )) وقد نال هذا الاقتراح استحسان الأستاذ والإخوان ؛ وتعلق هذه الشارة بدبوس ملحوم فى ظهرها .
وأما شارة الأصبع فكان مقترح هيئتها الأستاذ المرشد ؛ فرأى أن تكون دبلة من الفضة ذات عشرة أضلاع ، وينقش على ضلعين منها بالمينا السوداء كلمتا (( الإخوان المسلمون )) .
أسباب اختيار هذا الوضع لشارة الإصبع :
يبدوا أن فكرة هذه الشارة بهذا الوضع كانت فكرة راودت الأستاذ المرشد من قديم ،حتى إنه حين عرض علينا موضوعأن نكون لنا شارة خاصة كان يريد أن نكون شارتنا هي هذه الشارة وحدها دون غيرها ، ذلك أن فكرتها كانت مختمرة فى ذهنه وأن دلالاتها كانت من الروعة بحيث يقتنع بها كل من سمعها أو لاحظها ونتلخص هذه الدلالات أو المعاني أو الخصائص فيما يأتي :-
أولا : أنها باعتبارها تلبس فى الإصبع فإنها تكون ملازمة لصاحبها فى كل وقت وفى كل مكان فى الليل والنهار وفى اليقظة وحين يلبس ملابسه وبعد أن يخلعها .
ثانيا : أنها مصنوعة من الفضة ، والتختم بخاتم من الفضة من السنة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحث عليها .
ثالثا : أن كونها ذات عشرة أضلاع تذكر لابسها بآيات كريمة من القرآن تضفى على هذا الرقم لونا من القدسية فى حياة الناس فى الدنيا والآخرة وهناك بعض هذه الآيات :
أ - الوصايا العشر فى قوله تعالى :
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم (1) أن لا تشركوا به شيئا (2) وبالوالدين إحسانا (3) ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم (4) ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها ما بطن (5) ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون . (6) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده (7) وافوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها (8) وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى (9) وبعهد الله أوفوا . ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون . (10) وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ، ولا تتبعوا السيل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ( الآيات 151،152،153من سورة الأنعام)
ب - الدرجات العشر فى قوله تعالى :
(1) إن المسلمين والمسلمات (2) والمؤمنين والمؤمنات (3) والقانتين والقانتات (4) والصادقين والصادقات (5) والصابرين والصابرات(6) والخاشعين والخاشعات (7) والمتصدقين والمتصدقات (8) والصائمين والصائمات (9) والحافظين فروجهم والحافظات (10) والذاكرين الله كثيرا والذاكرات . أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما . (الآية 35 من سورة الأحزاب ) .
ج - فى صفات المؤمنين فى قوله تعالى :
(1) التائبون (2) العابدون (3) الحامدون (4) السائحون (5) الراكعون (6) الساجدون (7) الآمرون بالمعروف (8) والناهون عن المنكر (9) والحافظون لحدود الله (10) وبشر المؤمنين . (الآية112 من سورة التوبة
د - مقومات البر فى قوله تعالى :
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر (1) من أمن بالله (2) واليوم الآخر (3) والملائكة (4) والكتاب (5) والنبيين (6) وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب (7) وأقام الصلاة (8) وآتى الزكاة (9) والموفون بعهدهم إذا عاهدوا (10) والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس . أولئك الذين صدقوا وأولئك هو المتقون (الآية 177البقرة )
هـ - الأوامر العشر فى قوله تعالى:
(1) واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا (2) وبالوالدين إحسانا (3) وبذي القربى (4) واليتامى (5) والمساكين (6) والجار ذي القربى (7) والجار الجنب (8) والصاحب بالجنب (9) وابن السبيل (10) وما ملكت أيمانكم . إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا (36النساء)
صفات المتذكرين فى قوله تعالى :
إنما يتذكر (1) أولو الألباب (2) الذين يوفون بعهد الله (3) ولا ينقضوا الميثاق (4) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل (5) ويخشون ربهم (6) ويخافون سوء الحساب (7) والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم (8) وأقاموا الصلاة (9) وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية (10) ويدرءون بالحسنة السيئة ، أولئك لهم عقبى الدار (19-22 الرعد) .
ونفذت الشارتان ، وانتشرنا انتشارا عظيما فى القاهرة والأقاليم . وصارت هاتان الشارتان مميزتين للإخوان وسط المجتمع .. وكان هذا المظهر بمثابة نزول بالدعوة إلى الميدان ، وهجوم صامت على الأفكار الأخرى ، هذا فضلا عما كان له من أثر فى تعريف الإخوان بعضهم ببعض حيثما التقوا .. وكثيرا ما كانت الشارة لافته نظر الكثيرين فتقدموا يستفسرون من معانيها فكان هذا الاستفسار فاتحة لشرح الدعوة لهم . كما أنها بدأت تشعر المجتمع والحكومة بأن هناك فئة جديدة ذات فكرة محددة تتصل بالدين قد وجدت بين ظهرانيهم . وعلى العموم فإن هذه الشارة كما كانت مميزة للإخوان فى المجتمع فإنها كانت سببا فى نشر الدعوة وتوضيحها ودفعها إلى الأمام سواء فى القاهرة أوفى الأقاليم .
المجلة :
لسنا مع الأستاذ المرشد كذلك وتناولنا موضوع المجلة المعبرة ، وقد يسأل سائل فيقول : ألم تكن للإخوان مجلة تسمى مجلة الإخوان المسلمين ؟ فنقول بل كانت لنا مجلة ((الإخوان المسلمون )) ولكن هذه المجلة قد اصطبغت بصبغة خاصة فهي تقتصر على شرح علمي ومنطقي للدعوة قلما تخرج عن ذلك فتمس الأحداث الجارية فى البلاد إلا من بعيد ، وكانت أشبه بمجلة خاصة يقرأها الإخوان ليلموا بأخبار إخوانهم فى مختلف الجهات وليقر أو لتفسير آية أو حديث ، ويقرأوا مقالة للأستاذ المرشد توضح جانبا من جوانب الدعوة ، ولذا فإنها لم تكن تخرج عن نطاق الإخوان ... وليس معنى ذلك أنها لم تكن ذات غناء بل إنها كانت جانبا ضروريا للدعوة فى طورها الذى كانت تصدر فيه ؛ فقد كان الإخوان فى ذلك الوقت فى حاجة إلى استيضاح نواحي فكرتهم ، والتيقن من صحتها ، والتميز بينها وبين غيرها من النزاعات التي انتسبت إلى الإسلام وإلى أنها ذات كفاءة عملية فى المجتمع .
ولذا فإن هذه المجلة كانت وعاء كما قدمنا لمقالات متسلسلة كان يكتبها الأستاذ المرشد فيها تحت عنوان (( إلى أي شئ ندعو الناس )) وتحت عنوان ((دعوتنا )) وتحت عنوان (( هل نحن قوم عمليون )) كانت هذه المقالات تثبيتا للفكرة الإسلامية فى نفوس الإخوان ، ووسيلة ناجحة لإقناع كثير من الناس بالدعوة وقد جمعت هذه المقالات فى رسائل كل رسالة بعنوان من هذه العناوين وصارت فى جميع أطوار الدعوة وحتى اليوم إحدى وسائل توضيح معالم الدعوة والإقناع بها .
ومع ذلك فقد اعتور هذه المجلة عقبات أهمها قلة المال فقد كانت ضئيلة الانتشار ، ومعنى ذلك أنها كانت لقلة ما يطبع منها باهظة التكاليف ، كما أنها كانت خالية من الإعلانات ، وقد أدى ذلك إلى انقطاعها لاسيما بعد أن فقد الإخوان مطبعتهم ، وقد سبق أن أشرت إلى ذلك فيما كتبت عن الأستاذ أحمد السراوى .
جلسنا نفكر فى اسم لمجلة نصدرها ، بعد أن شرح الأستاذ المرشد الوضع الذى ستكون عليه هذه المجلة ، وأنها ستكون مختلفة تماما عن سابقتها ، حيث تكون معبرة عن الطور الجديد الذى انتقلت إليه الدعوة ، واقترح كل منا عدة أسماء ولكن الأستاذ تمسك أيضا بأن يكون الاسم من القرآن ... واقترحنا عدة أسماء وردت فى القرآن ثم أستقر الرأي على أسم اقترحه الأستاذ هو (( النذير)) .
وينبغي أن اذكر بهذه المناسبة أن انتقلنا إلى الدار الجديدة هذه ، دفع إلينا بمجموعات كبيرة من الشباب كان منهم شاب أسمه (( صالح عشماوي )) كان أكبر منا قليلا لأنه كان قد تخرج فعلا فى كلية التجارة وكان له إيراد لا يحتاج معه إلى الالتحاق بوظيفة ، وقد وقع عليه اختيار الأستاذ المرشد ليكون رئيسا لتحرير هذه المجلة : ولا أدرى هل أختاره الأستاذ العمل لمجرد أنه شخص متفرغ ، أم لأنه توسم فيه مع ميزة التفرغ أنه كاتب يجيد الكتابة ، مع أنه لم يكن قد مضى على التحاقه بالدعوة إلا فترة قصيرة. وعلى كل ، فقد تكشف لنا حين صدرت المجلة أنه كاتب عظيم وأنه كان أهلا لهذه المهمة .
وصدرت مجلة النذير فى ثوب جديد ، وفى أسلوب جديد ؛ أسلوب ثوري ناقد ، لا يترك حدثا فى مصر ولا فى بلد عربي أو إسلامي إلا علق عليه من وجهة النظر الإسلامية تعليقا قويا . وبقدر ما كانت مجلة (( الإخوان المسلمون )) يحررها الأستاذ المرشد كلها تقريبا بنفسه ، فإنه ترك تحرير هذه المجلة لصالح متفرغا هو لما كان يتمنى أن يتفرغ له مما لا يستطيعه غيره .. واجتذبت (( النذير)) بأسلوبها القوى الثوري الكتاب الشباب الثائرين فكانت فى مجموعها شعلة ملتهبة ، وكان لفلسطين من مقالاتها نصيب الأسد ؛ وقد فضحت مقالاتها ألاعيب الاستعمار فى فلسطين وتخاذل الحكومة المصرية عن مد يد العون إلى أهل فلسطين ...
وقد انتشرت هذه المجلة انتشارا كبيرا فكان يوزع منها أكثر من عشرة أضعاف ما كان يوزع من المجلة السابقة . وكانت من الوسائل فى نشر الدعوة فى قطاعات كبيرة من الشباب الذى يميل بطبيعته إلى الثورة ... وكان مما سهل لهذه المجلة الطريق أن حروف الطباعة كانت ملك الإخوان وموجود بالدار ذلك أن الأستاذ المرشد كان حريصا - بعد أن وقع من الأستاذ السراوى ما وقع فى شأن المطبعة - أن يستبقى شيئا منها فاستطاع أن يبقى على الحروف .
الأسلوب الثاني : الاتصال بالتجمعات فى مصر :
ولم يكن بمصر فى ذلك الوقت تجمعات ذات صبغة غير سياسية إلا (( نقابة معلمي التعليم الإلزامي )) حيث لم تكن قد تكونت نقابات مهنية ولا عمالية بعد ؛ فكانت هذه النقابة أكبر تجمع غير سياسي فى البلاد ، ويمتاز هذا التجمع بأنه تجمع مثقف ، وله فروع فى كل أنحاء القطر ، وكان أعضاؤه منتشرين فى العواصم والحواضر والمدن والقرى مهما نأت وصغرت .. ولم تكن هذه النقابة تجد فى مصر من يوليها عطفا ولا اهتماما .
كان الأستاذ المرشد يعرف كل ذلك عن النقابة ، وكان يحس نحوهم بعاطفة لأنه كان منهم فى يوم من الأيام ولأن هذه الفئة كانت فئة مطحونة من شدة ما كانت ترزح تحته من ظلم . فهذا المعلم - وكان المعلمون فى ذلك الوقت لا يعرفون إلا التفاني فى العمل والإخلاص فى أدائه - هذا المعلم كانت الحكومة تنظر إليه نظرة ازدراء فتمنحه أدنى مرتب لموظف فى الدولة ، وتحرم عليه الترقي مهما طالت سنواته فى العمل ... وقد انتهز الأستاذ سعة هذه الدار الجديدة ، وأوسع لهم فيها مكانا يعقدون فيه مؤتمراتهم وتعاون الإخوان معهم فى رفع مظالمهم إلى الحكام .
وهذه المجموعة الكبيرة من المعلمين - مع ما كانت ترمى به من ضيق الأفق وضحالة الثقافة ، أبرزت لنا فى مؤتمراتها بهذه الدار من الأدباء والخطباء والشعراء من يضاهئون الصفوة الممتازة من مشاهير الفنون فى مصر ؛ كم ألقوا من قصائد عصماء وخطب رنانة ؛ ولازالت تطن فى أذني حتى اليوم عبارة جاءت على لسان أحد خطبائهم إذ يقول : قولوا رئيس الوزراء (( ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ؟ )) .. فكان من أروع ما سمعت من اقتباس .
أما الدعوة فقد اكتسبت الكثير من إفساح المجال فى دارها لمؤتمرات هذه النقابة العتيدة وتعاونها معهم ؛ فلقد شعر هؤلاء الناس بأن هذه الدعوة دعوتهم ، وأنها أجدر الدعوات بالانتماء إليها لأنهل هي وحدها التي فتحت صدرها لهم ولأنها هي دعوة القرآن ؛ فبعد أن كانت مؤتمراتهم عندنا يقتصر الحديث فيها على مطالبهم وشئونهم الخاصة ، رأينا هذه المؤتمرات تتناول شئون الدعوة كما يتناولها الإخوان أنفسهم ولازال عالقا بخاطري شطره من بيت قصيدة عامرة ألقاها أحد شعرائهم فى أحد هذه المؤتمرات وتناول دعوة الإخوان المسلمين ، وكيف أنها ملكت عليه مشاعره ، وصارت كل شئ فى حياته فيقول : يا ليت لي من بردها تكفيني .
وعن طريق هذه النقابة دخلت الدعوة كل مكان حتى النجوع والكفور ، فكان أعضاؤها هم حملة الراية حيثما كانوا ... وقد صاغت الدعوة منهم رجالا حملوا أعباء ، وخاضوا الغمرات ، وكانوا غرة فى جبين الدعوة الإسلامية وما وهنوا وما استكانوا .
كانت هذه الخطوة من الأستاذ المرشد من أعظم الخطوات المباركة التي أقدم عليها ، ودلت حقا على خبرته بالمجتمع الذى يعيش فيه وأعمق وأبعد مدى من خبرة قادة مصر فى ذلك العهد .
الأسلوب الثالث : عقد المؤتمرات الإخوانية :
كانت المؤتمرات الإخوانية حتى ذلك العهد مؤتمرات موضعية ؛ كانت حفلات للتعارف أكثر منها مؤتمرات ذات قرارات إيجابية ، ولم يكن هذا تقصيرا من المؤتمرين ، وإنما كان جهد المقل حيث لم تكن الدعوة قد جاوزت منطقة القناة وما حولها ... أما والدعوة قد اتسع نطاقها حتى لم تعد تخلو مديرية (محافظة) من عدة شعب بها وبحواضرها كما أصبح للدعوة كيان بالقاهرة ، وصار لها معاقل فى الجامعة والأزهر وفى المعاهد والمدارس بل وصار لها صدى فى بلاد عربية أخرى فقد آن الأوان لعقد مؤتمرات لهؤلاء المستجيبين ولتلك الشعب المتناثرة فى أنحاء البلاد حتى تحس هذه الشعب برباط يربطها معا وحتى تتاح الفرصة لوجودها معا فى مكان واحد فتتعارف وتتفاعل وتوجه وننتج
ورأى الأستاذ المرشد أن يعقد مؤتمرين أحدهما للإخوان فى الوجه البحري والآخر للإخوان بالوجه القبلي وكانت نظريته فى ذلك أن يكون هذان المؤتمران مقدمة لمؤتمر عام للإخوان فى القطر كله يعقد فى القاهرة فيكون أسلوب التدرج هذا تمهيدا صالحا للمؤتمر العام حتى يكون عقدة محوطا بأسباب النجاح ورأى الأستاذ أن يعقد المؤتمر الأول فى المنصورة والآخر فى أسيوط .
1- مؤتمر المنصورة :
وقد اختيرت المنصورة لتوسطها الوجه البحري . ومع أن هذا المؤتمر كان مؤتمرا فرعيا إلا أن القرارات التي اتخذت فيه كانت قرارات خطيرة بل إنها كانت أول قرارات ذات شأن يتخذها الإخوان منذ قيام دعوتهم إذ هي قرارات عملية ... ولعل الأستاذ المرشد رأى أن يخص هذه المؤتمرات الفرعية بهذه القرارات العملية دون المؤتمر العام المزمع عقده باعتبار المؤتمرات الفرعية مهما عظم أمرها فإن الروح العائلية تكون دائما مسيطرة عليها ، أما المؤتمر العام فهو مؤتمر مفتوح قد يغشاه من غير الإخوان من يزيدون عن حضوره من الإخوان عددا ولذا تكون قرارات المؤتمرات عامة تتصل بشئون الدولة وتعالج مشاكلها .
كان حديث الأستاذ المرشد فى هذا المؤتمر منصبا على موضوع واحد محدد هو وجوب تميز الإخوان وكان حديث الأستاذ فى هذا الموضوع مفاجأة لكثير من الحاضرين ؛ لأن الدعوة كانت حتى ذلك الوقت لا بالى أن يكون العضو فيها مصطبغا بصبغات أخرى سواء أكانت هذه الصبغات الأخرى اجتماعية أم دينية أم اقتصادية أم سياسية ... أما فى هذا المؤتمر فقد بدأت نغمة أخرى تضرب على وتر شديد مثير أخذ يهز السامعين هزا عنيفا ...
فهم الحاضرون من حديث الأستاذ الذي خاطب فيه العقول والقلوب أن دعوة الإخوان دعوة جامعة شاملة ينبغي لمن ينتسب إليها أن يرى فيها غناء عن غيرها ، وفهموا أن معنى ذلك هو أن يخير كل ذي مبدأ مع مبدأ الإخوان نفسه بين المبدأين ليختار أحدهما ويدع الآخر .
وتطرق الأستاذ فى حديثه عن التميز إلى نقطة هامة أخرى فقال إن تميز الإخوان يقتضيهم تكاليف قد لا يطالبون بها إذا لم يكونوا إخوانا ، فهذه الدعوة الجامعة الشاملة شاق طريقها ، ثقيل حملها لأنها الدعوة التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال ، فينبغي أن يعد العاملون بها والحاملون أمانتها أنفسهم إعدادا خاصا بحيث يملكون زمام أنفسهم .
قد رشحوك لأمر لو فطنت لـه ::: فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
فلنقاوم أنفسنا فيما تعارف عليه الناس من عادات تمكنت منهم حتى ملكت أعنتهم مع أنها أمور إذا لم تضر فإنها لا تنفع وضرب لذلك مثلا بالتدخين وطلب إلى الإخوان المدخنين أن يمنعوا عن التدخين وعن الكيوف بأنواعها وقال : خير عادة أن لا تكون أسير عادة .
وأذكر أنه كان من بين حاضري هذا المؤتمر الأخ الكريم الأستاذ محمد الهادي عطية وكان محاميا شرعيا كبيرا وأستاذا للشريعة فى كلية المقاصد الخيرية ببيروت وكان إذ ذاك فى سن يناهز الستين فرأيناه ينتصب واقفا حين سمع كلام الأستاذ المرشد ويخرج من جيبه علبة سجاير ويفتحها ويلقى بما فيها على الأرض ويدوسه بقدمه ويعلن أنه طلق التدخين منذ اللحظة . وقد أخبرني بعد خروجنا من المؤتمر أنه ظل يدخن أربعين عاما وكان يدخن فى ذلك الوقت فى اليوم الواحد أربعين سيجارة ... وقد كنت أنا حريصا على متابعة هذا الأخ الكريم لأعرف عواقب هذا الامتناع المفاجئ دون تدرج فأخبرني فى لقائي به بعد عدة أشهر بأن شيئا مما يشاع من انهيار أو صداع أو شئ من ذلك لم يصبه ... ومعنى هذا أن العزيمة الماضية وثقة المرء فى نفسه وفى سلامة الطريق الذي يسلكه كل ذلك يكسبه مناعة ضد العوارض التي تصيب ضعفاء العزيمة الذين يدفعون إلى طريق سلكوا فيه راغمين محرجين . سلكوا فيه ونفوسهم لازالت تتلفت إلى وراء بشوق ولهفة .
كان لهذا المؤتمر آثار بعيدة المدى سواء فى الناحية الشخصية حيث رأى الإخوان لأول مرة أن الدعوة تتدخل فى شئونهم الخاصة وفى عاداتهم وأمزجتهم . أو فى ناحية العامة فى علاقات الإخوان بالمجتمع الذي يعيشون فيه ويتكيفون حسب مصالحهم معه - لقد استغرق كل أخ من الإخوان وقتا طويلا فى مناقشة مقررات هذا المؤتمر مع نفسه حتى ركن إلى جانب من الجانبين . كما كان لهذا المؤتمر آثارا خارج المحيط الإخوانى سنعرض لها فى مكان آخر إن شاء الله .
2- مؤتمر أسيوط :
لم أحضر هذا المؤتمر ولكن الإخوان الذين حضروه أخبروني بأنه كان صورة من مؤتمر المنصورة واتخذت فيه نفس القرارات .
صلاة العيد في الإسماعيلية :
معذرة فى هذا الاستطراد فى رحلتنا من القاهرة لحضور مؤتمر المنصورة فقد اقترح الأستاذ المرشد أن نمر فى طريقنا على الإسماعيلية ، وقد صادف هذا الاقتراح هوى فى نفوس الجميع لأن للإسماعيلية مكانة خاصة فى نفوس الإخوان باعتبارها الحبيب الأول ومهوى الفؤاد
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ::: ما الحب إلا للحبيب الأول
وقد نزلنا الإسماعيلية ، وكانت هذه أول مرة فى حياتي ، ولم يكن أمامنا فرصة للتجول فيها لرؤية معالمها والإلمام بصورة كاملة عنها ، حيث كان المقرر أن نبيت بها تلك الليلة - وكانت ليلة عيد الفطر - ثم نصبح لنصلى فيها صلاة العيد ثم نستأنف سفرنا إلى المؤتمر . وقد قضينا بقية يوم وصولنا بدار المركز العام بها بين احتفاء إخوان الإسماعيلية بنا وبين كلمات الإعجاب التي كنا نزجيها إليهم . وكان من أجمل ما قيل فى هذا اللقاء كلمة الأخ محمد عبد الحميد أحمد - حيث قال : إن قيام الدعوة فى الإسماعيلية وهى معقل الاستعمار فى مصر يذكرنا بأن موسى الذي قضى على فرعون قد تربى فى بيته .
وبعد صلاة الفجر ، خرجنا متوهجين لصلاة العيد ، وقد عودهم الأستاذ المرشد على أدائها فى خارج المدينة فى مكان فسيح أشبه بالصحراء ، ولم أر فى حياتي صلاة عيد قبل هذه فى روعة هذه الصلاة ، إن المسلمين على بكرة أبيهم اتجهوا إلى هذا المكان فكل يسلك الشوارع التي تؤدى به إلى مكان الصلاة والكل يكبر تكبير العيد منذ يخرج من منزله حتى يصل إلى المكان فكل ، والتكبير بصوت جهوري فكنت ترى جميع شوارع المدينة تسيل بجموع المسلمين تصيح بالتكبير بصورة لا يملك الإنسان أمامها نفسه فترى الدموع تنهمر من العيون لروعة المنظر وروعة ما تسمعه .. وبعد أداء الصلاة لم يغادر أحد مكانه وقام الأستاذ المرشد فخطب الناس خطبة زلزلت القلوب وأبكت العيون ثم قام الناس جميعا يتصافحون ويتعانقون والكل متجه إلى الأستاذ المرشد ليصافحه .
والحق إن صلاة العيد إذا أديت على حقيقتها بهذا الأسلوب ، فإنها تكون أعظم مظاهرة إسلامية تحيى ميت المشاعر ، وتبعث الحياة فى نفوس الخاملين .. إنها بعث سنوي للأمة الإسلامية .
3- المؤتمر الخامس :
أطلق على هذا المؤتمر اسم ((المؤتمر الخامس )) على اعتبار أنه سبق بأربعة مؤتمرات عامة بمعنى أنها كانت تمثل فى كل منها شعب الإخوان التي كانت موجودة فى أوقات انعقادها ، ولكن هذه الشعب كانت كما سبق أن ذكرت - قليلة العدد وفى ركن محدد من أركان البلاد ، ولذا فإنها وإن كانت عامة لجمعها كل الشعب إلا أنها كانت موضعية فى حقيقتها ، ولعل هذا كان السبب فى أن المجتمع المصري لم يشعر بها ... أما هذا المؤتمر فهو فى حقيقة الأمر يعد المؤتمر العام الأول لأنه أول مؤتمر اشتمل على خصائص المؤتمرات العامة ...
وقد صادف عقد هذا المؤتمر مناسبة مرور عشر سنوات على تأسيس دعوة الإخوان المسلمين فقد عقد فى عام 1357 هجرية الموافق 1938 ميلادية .. وقد رأى الأستاذ المرشد أن يعقده فى سراي آل لطف الله بالقاهرة مع أن هذا المكان باهظ التكاليف لكن الأستاذ اختاره لأنه كان فى ذلك الوقت المكان المرموق الذي تتجه إليه الأنظار - وهو المكان الذي عقده فيه المؤتمر البرلماني العالمي لمشكلة فلسطين ، وكان الأستاذ المرشد يعتبر هذا المؤتمر أول فرصة يواجه فيها المجتمع المصري والدولي بدعوته ، فأعد خطابا جامعا ضافيا ، وضح فيه غاية الإخوان وخصائص دعوتهم ، ووسائلهم وخطوات منهاجهم ، وموقفهم من الهيئات المختلفة . ونظرا لأهمية هذا الخطاب التاريخي والذي طبع فى رسالة خاصة والذي كان له ما بعده لأنه حدد المواقف بكل وضوح وصراحة فسنوجز للقارئ صورة مصغرة منه إذا لم يتح له أن يقرأ الخطاب بأكمله :
1 - بدأ الحديث يذكر الرجال الذين كانوا أول من فاتحهم بفكرته ووجد الاستجابة منهم فذكر أحمد تيمور باشا كما ذكر من أصدقائه الأستاذ أحمد السكري والأستاذ الشيخ حامد عسكرية والأستاذ الشيخ أحمد عبد الحميد .
2 - شرح نظرة الإخوان إلى الإسلام باعتباره الفكرة التي تضم كل المعاني الإصلاحية .
3 - قرر أن دعوة الإخوان دعوة سلفية سنية صوفية سياسية رياضية علمية ثقافية اقتصاديي اجتماعية.
4 - أشار إلى أن من خصائص دعوة الإخوان ما يأتي :
أ - البعد عن مواطن الخلاف
ب - البعد عن هيمنة الكبراء والأعيان
ج - البعد عن الهيئات والأحزاب
د - التدرج فى الخطوات
ه - إيثار النواحي العملية على النواحي المظهرية
و - تواؤمها مع روح الشباب
ز - سرعة الانتشار فى المدن والقرى
5 - أشار إلى ستة من شباب الجامعة منذ سنوات ، وهبوا الله نفوسهم وجهودهم ، فأيدهم الله فإذا بالجامعة كلها من أنصار الإخوان المسلمين ، كما أشار بمثل ذلك إلى الأزهر .
6 - تحدث عن تساؤل المتسائلين ، هل فى عزم الإخوان أن يستخدموا القوة وأن يقوموا بثورة عامة ؟ فقال : إن وطنا كمصر جرب حظه فى الثورات فلم يجن من ورائها إلا ما تعلمون ـ أما الإخوان فإنهم سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها ، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة . وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون أولا ، وينتظرون بعد ذلك ثم يقدمون فى كرامة وعزة ، ويتحملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضاء وارتياح . وأما الثورة فلا يكفر الإخوان المسلمون فيها ، ولا يعتمدون عليها ، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها . وإن كانوا يصارحون كل حكومة فى مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ، ولم يفكر أولو الأمر فى إصلاح عاجل سريع لهذه المشاكل ، فسيؤدى ذلك حتما إلى ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم ، ولكن من ضغط الظروف ، ومقتضيات الأحوال ، وإهمال المرافق . وليست هذه المشاكل التي تتعقد بمرور الزمن وسيتفحل أمرها بمضي الأيام نذيرا من هذه النذر ، فليسرع المنقذون بالأعمال .
7 - وتكلم عن الإخوان المسلمين والحكم فقال : فالإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل هذا العبء وأداء هذه الأمانة ، والحكم بمنهاج إسلامي قرآني ، فهم جنوده وأنصاره وأعوانه ، وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم ، وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله .
8 - وتكلم عن الإخوان المسلمين والوطنية فقال : ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية ، وأعظمهم نفعا لمواطنيه ، لأن ذلك مفروض عليه من رب العالمين ، وكان الإخوان المسلمون أشد الناس حرصا على خير وطنهم ، وتفانيا فى خدمة قومهم يتمنون لهذه البلاد العزيزة كل عزة ومجد وكل تقدم ورقى وكل فلاح ونجاح .
9 - وقال عن القومية العربية : الإخوان المسلمون يعتبرون العروبة كما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه (( ألا إن العربية اللسان . ألا إن العربية اللسان )) ومن هنا كانت وحدة العرب أمرا لابد منه لإعادة مجد الإسلام وإقامة دولته ، وإعزاز سلطانه ، ومن هنا كان على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها وهذا هو موقف الإخوان من الوحدة العربية .
10 - وقال عن الوحدة الإسلامية : الإخوان المسلمون يقدسون هذه الوحدة ، ويؤمنون بهذه الجامعة ، ويعملون لجمع كلمة المسلمين وإعزاز أخوة الإسلام ، ينادون بأن وطنهم هو كل شبر أرض فيه مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله .
11 - وقال عن الوحدة العالمية : ولى أن أقول بعد هذا إن الإخوان يريدون الخير للعالم كله فهم ينادون بالوحدة العالمية ، لأن هذا هو مرمى الإسلام وهدفه ومعنى قول الله تبارك وتعالى (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) .
12 - ثم تناول الإخوان من الأحزاب السياسية فى مصر فقرر أن العلاج الحاسم الناجح أن تزول هذه الأحزاب مشكورة فقد أدت مهمتها ، وانتهت الظروف التي أوجدتها ، ولكل زمان دولة ورجال كما يقولون .
13 - واختتم كلامه بالحديث عن موقف الإخوان من دولة الاستعمار ، فبدأ بانجلترا ثم بفرنسا ثم بايطاليا وتكلم عن فلسطين وحيا مفتيها ورجاله ، وحذر الوفود الإسلامية فى مؤتمر المائدة المستديرة بلندن من مكر انجلترا وخداعها وأشار إلى جرام الطليان فى طرابلس وفرنسا فى المغرب العربي ، ووجه كلامه إلى الإخوان بهذا الصدد فقال أيها الإخوان : هذا كلام يدمى القلوب ويفتت الأكباد ، وحسبي هذه الفواجع فى هذا البيان فتلك سلسلة لا آخر لها وأنتم تعرفون هذا ولكن عليكم أن تبينوه للناس ، وأن تعلموهم أن الإسلام لا يرضى من أبنائه بأقل من الحرية والاستقلال فضلا عن السيادة وإعلان الجهاد ولو كلفهم ذلك الدم والمال ، فالموت خير من هذه الحياة ، حياة العبودية والرق والاستغلال . وأنتم إن فعلتم ذلك ، وصدقتم الله العزيمة فلابد من النصر إن شاء الله (( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوى عزيز )) .
الأسلوب الرابع : الاحتكاك بالأحزاب والهيئات :
لم يكن الاحتكاك بالأحزاب والهيئات من الأساليب التي يسعى الإخوان إلى إنتاجها ابتغاء التميز الذي يهدفون إليه ، ولكن هذا الاحتكاك دخل فى أساليب التميز رغم أنفهم .. لأن كل ما حرص عليه الإخوان فيما قرروه فى مؤتمراتهم إنما كان لمجرد حفظ كيانهم والاستجابة الكاملة لفكرتهم ، ولم يقصدوا فيما قصدوا مهاجمة غيرهم أو تجريح سواهم ... ولكن الذي حدث هو أن عددا من الإخوان فى مختلف البلاد - اقتناعا بمقررات مؤتمرات المنصورة وأسيوط والمؤتمر العام الخامس بالقاهرة - أخذوا ينحازون إلى دعوتهم بكل قلوبهم وعقولهم وبكل ما يملكون ، وتبين فيما بعد أن هذا الانحياز قد اعتبر من جانب بعض الأحزاب والهيئات اعتداء عليها وانتقاصا من أرضها ، مع أن دعوة الإخوان لم ترغم هؤلاء الذين انحازوا إليها على هذا الانحياز كما أنها لم تغرهم بأي نوع من أنواع الإغراء ، ذلك أنها لا تملك القليل ولا الكثير من وسائل الإرغام ولا وسائل الإغراء ، وإنما هو الإيمان والاقتناع .
والجهات التي آذتها المقررات الايجابية لمؤتمرات الإخوان جهات ثلاث : الأحزاب السياسية التقليدية والأحزاب السياسية الناشئة والهيئات الدينية .
أما الأحزاب التقليدية وهى فى ذلك الوقت الوفد والأحرار والدستوريون والسعديون ، فهذه أحزاب أوجدتها ظروف معينه وانتهت هذه الظروف وكان يجب أن تنتهي هذه الأحزاب بانتهائها ولكنها تشبثت بالبقاء دون أن يكون لها برامج محددة أو أساليب إصلاحية معينة ، ولم يكن لها جميعا إلا هدف واحد تسعى إليه هو الوصول إلى كراسي الحكم لا يبالون عن أي طريق يصلون ، وفى غضون هذا التهالك على الحكم ضيعت مصالح البلاد ، وديست كرامتها ، وتمكن المستعمر من رقاب أهلها ، وفقد الشعب الرؤية الصحيحة بعد أن استطاعت هذه الأحزاب قلب المفاهيم لكلمات تتصل بالروح الوطنية ، فاختفت من قاموس هذه الأحزاب كلمة المستعمر وحل محلها الحليف ، واختفت كلمة الثورة وحل محلها المفاوضة ، وزفوا إلى الشعب معاهدة الإذلال والاحتلال فى ثوب معاهدة الشرف والاستقلال . هذه الأحزاب بعيدة كل البعد عن دعوة الإخوان المسلمين ولا يكاد يكون بيننا وبينهم وجه شبه فى حين أن بيننا وبينهم كل أوجه الخلاف فنحن فى واد وهم فى واد آخر .
أما الأحزاب الناشئة والفتية :
فهي جماعة مصر الفتاة .. ويأتي الحزب الوطني يتأرجح بين هذا النوع الفتى وبين النوع التقليدي فهو وإن كان أقدم الأحزاب تكوينا إلا أنه لا يزال يحتفظ بمبادئ محددة ورثها عن مؤسسه الأول مصطفى كامل لكن موجة الانحراف بالوطنية طغت عليه وسلبته فاعليته ولذا قلنا إنه يتأرجح بين النوع الفتى وبين النوع التقليدي ، والذي يهمنا فى هذا القسم هو جماعة مصر الفتاة وقد قدمت فى صدر هذه المذكرات نبذة عن هذه الجماعة وعن مؤسسها الأستاذ أحمد حسين .
وإذا كان الاحتكاك بيننا وبين الأحزاب التقليدية أمرا طبيعيا ، لأن الفروق بين فكرة الإخوان وبين شعارات هذه الأحزاب فروق شاسعة هي أقرب إلى أن تكون كالفرق بين الحق والباطل ، فإن القارئ بذلك فى غنى عن شرح أسباب الخلاف ونواحي التناقص ... أما مصر الفتاة باعتبارها هيئة تنزهت عن كثير من عيوب الأحزاب التقليدية ، فإن الاحتكاك بها يدعو القارئ إلى شئ من التأمل ، ويقتضى منا التبسط فى شرح نواحي الاختلاف بين فكرة الإخوان المسلمين وفكرة مصر الفتاة ، حيث يجمع بين الهيئتين من أوجه الشبه من الإخلاص والطهر ما يجعل الاحتكاك بينهما أمرا بعيد الاحتمال .
قدمت من قبل أنني منذ أول يوم لي بكلية الزراعة تعرفت فى المكان المعد للصلاة بالكلية على طالب يسبقني بسنتين فى الكلية اسمه محمود مكي وتوطدت الصداقة بيني وبينه ثم تبين لي بعد ذلك أنه هو رئيس طلبة مصر الفتاة بالكلية وبمرور الأيام تعرفت على زملائه بالكلية وتوطدت صلة الصداقة بيني وبينهم ، ذلك أنهم على شاكلتنا شباب طاهر مستقيم يرنوا إلى الإصلاح ...... وكانت مثل هذه الصلات تربط الإخوان فى جميع الكليات بزملائهم من أعضاء مصر الفتاة .
ودعوة الإخوان وإن كانت قد تأسست قبل مصر الفتاة ببضع سنين إلا أن مصر الفتاة سبقتنا إلى الجامعة فجذبت إليها مجموعات من الشباب الغض الذي كان متلهفا على فكرة جديدة يشعر فيها بجو جديد غير الجو المألوف من هذه الأحزاب التي جرح كل منها الآخر فأصبحت كلها مجرحة فى نظر الشباب . فلما أراد الله لدعوته أن تدق أبواب الجامعة ، كان علينا - نحن دعاتها - أن نعلنها للجميع. فكنت - كما يفعل إخوانى فى كلياتهم - انتهز الفرصة التي يكون الطلبة فيها يستجمون فى حدائق الكلية وأقف مع بعض الزملاء أتحدث عن فكرتنا فيلتف حولنا زملاء آخرون وتتسع دائرة الملتفين فأشرح لهم أهدافنا ووسائلنا فيتوجهون إلى بالأسئلة لاستيضاح ما يرغبون استيضاحه ، ويتناول الحديث برنامجنا فى الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وعلاقات الدعوة ومواقفها من جميع الأفكار والمبادئ والهيئات والطوائف والدول ... وهذه المناقشات لابد أن ينتهي المشتركون فيها إلى موقف من ثلاثة مواقف ، أفراد اقتنعوا عقلا وعاطفة وهؤلاء يعلنون انضواءهم تحت لواء الدعوة ، وأفراد اقتنعوا عقلا ولم يقتنعوا عاطفة وهؤلاء يظلون فى موقف المراقب الذي يريد مزيدا من الإقناع ، وأفراد جاءوا لمجرد المجادلة والمكابرة وهؤلاء لا شأن لنا بهم ، وبالطائفتين الأولين تثرى الدعوة ويكثر أنصارها .
والمجاملات فى الصداقة أمر مطلوب إلا فى ألأفكار والمبادئ والعقائد ، فلم تكن صداقاتنا مع زملائنا من أعضاء مصر الفتاة تحملنا على مجاملتهم على حساب دعوتنا .... ولكن قيامنا بتقديم فكرتنا إلى زملائنا الطلبة فى الكليات كانت تغصب هؤلاء الأصدقاء لأنها بطبيعتها تحد من انتشار فكرتهم ولم يتعودوا من قبل على مثل ذلك . فقد على أن تكون لهم الغلبة دائما فهم يكسبون من أنصار غيرهم ولا يكتسب أحد من أنصارهم ، فإذا رأوا أن هذه القاعدة التي ألفوها قد تغيرت فإنهم يغضبون .
وكان لابد لنا فى ثنايا عرضنا لدعوتنا أن نتعرض للأفكار العنصرية التي كانت فى ذلك الوقت تسيطر على أفكار الشباب فى مصر وفى أوروبا حيث كانت ألمانيا تدعو بشعار يقول (( ألمانيا فوق الجميع )) وانجلترا تزهو بأن الإنجليز جنس متميز من أجناس العالم فهم (( الجنس الذي يجرى فى عروقه الدم الأزرق )) وتركيا كانت تحكمها (( جمعية تركيا الفتاة )) وشعار (( مصر فوق الجميع )) وإذ كان تعرضنا للشعارات الأوربية المشار إليها بالمهاجمة على اعتبار أنها تمييز عنصري لا يقره الإسلام ، كان السامعون يفهمون من تلقاء أنفسهم الرد على سؤالهم دون أن نجيبهم إجابة مباشرة
ولقد آتت الجهود التي بذلتاها فى عرض فكرتنا على زملائنا الطلبة فى الكليات أكلها ، فأقبلوا على الدعوة مهرولين ، ومن هؤلاء الذي أقبلوا من كان خالي الذهن من سائر الأفكار ، ومنهم من كان معتنقا فكرا معينا فلما حضر المناقشات ووضعت فيها الأفكار المختلفة موضع البحث ألم بأخطاء كانت خافية عليه واختار الفكر الأصوب لأنه كان باحثا عن الحقيقة لا متعصبا لشئ معين .
وتصادف أن كان من الفريق الأخير طالبان من كلية الزراعة كانا عضوين فى مجلس الجهاد الأعلى لمصر الفتاة هما جلال عنبر وزكى صالح ، ولما كان هذا المجلس هو الهيئة العليا لإدارة الحزب ، فكان لانتقال عضوين منه إلى دعوة الإخوان المسلمين رجة عنيفة فى أوساط مصر الفتاة ، اضطر الحزب معها إلى موالاة اجتماعاته لبحث الأمر ، وكلف المجلس الأعلى أحد أعضائه وكان طالبا مرموقا فى كلية الحقوق اسمه حمادة الناحل بالاتصال بهذين العضوين وإقناعهما بالرجوع ، واتصل بهما فعلا ودارت بينه وبينهما مناقشات ثم استدعاهما المجلس الأعلى مجتمعا للمناقشة .
ولقد كنت فى مناقشاتي مع شباب مصر الفتاة بالذات رفيقا غاية الرفق ، لأني كنت أرى فيهم مثلا عظيمة غير أنهم فى حاجة إلى قليل من التوجيه ، ولذا فقد كنت - حين أخبرني الأخوان الكريمان أن المجلس الأعلى قد حدد لهما جلسة لمناقشتهما - قلت لهما إننا لا نرى مانعا من أن تكونا معهم ومعنا فنحن نرى أنفسنا مكملين لما فى مصر الفتاة من نقص ... ولكن .. لما كانت مصر الفتاة فى ذلك الوقت فى أزهى أيامها ، وفى عنفوان قوتها ، عز عليها أن تقبل بهذا الوضع وقالوا لهما : من لم يكن لنا وحدنا كان علينا .
ومنذ هذه الحادثة بدأ مصر الفتاة ترى فى الإخوان المسلمين لأول مرة - على حداثة عهدهم بالجامعة - منافسا قويا ومزاحما خطيرا لا تسهل مهاجمته ، إذ ليس له عورات يهاجم منها ... ويجدر بي هنا أن أعيد وأكرر أن تنافسنا مع مصر الفتاة كان تنافسا من نوع كريم ، تنافسا بين نبلاء ، فمصر الفتاة كانت فى تنافسها معنا أكرم من أن تلجأ إلى أساليب الكذب والافتراء التي تستبيحها الأحزاب التقليدية ، لأن أعضاء مصر الفتاة كان أكثرهم من صفوة الشباب وخلاصة الأمة ... ومن الطريف أن أورد هنا بيتين من قصيدة نشرت فى ذلك الوقت مجلة النذير للأخ الكريم جلال عنبر - وكان شاعرا عذب الشعر - لخص فيها ما انتهى إليه موقفه فقال :
إن هذا الفتى الذي كان يدعـو
- مصر فوق الجميع طول الزمان
طـلق اليوم مبدأ(( المجد للنيل ))
- فناء لا مـبدأ الإخــوان
نبل ، وتحرك من جهة إلى جهة على أساس مبادئ وأهداف بعضها أنبل من بعض ، ليس فيها أهواء ولا جرى وراء منافع مادية .
كانت مهاجمتهم للإخوان مهاجمة بالعمل الإيجابي ، الذي تراءى لهم أنه العمل الذي سيتفوقون به على الإخوان فى ميدان الأعمال ، والعمل الذي سيشد الأنظار إليهم ، وسيقنع الشباب بأنهم أحق أن يلتف حولهم ، ويظهر الإخوان بمظهر المتقاعدين المتخاذلين ....
تحطيم الخمارات :
فى صباح يوم من الأيام قرأنا فى الصحف أن جماعات من مصر الفتاة هاجمت عددا من الحانات فى القاهرة وحطمت واجهاتها وبعض محتوياتها ، وقد تم القبض على عدد من الجناة ويجرى التحقيق معهم .
وفهمت فى الحال أننا المقصودون بهذا العمل ، وأيد ذلك حين انتظمنا فى الدراسة فى ذلك اليوم أن انطلق طلبة مصر الفتاة يفخرون بهذا العمل الإيجابي ، ويتيهون به على الجميع ويتوجهون بهذا التيه إلى الإخوان ، بل ويفصحون عن ذلك صراحة فى حديثهم مع الطلبة الآخرين ...
ولما كان هذا الإجراء وهذا التحدي موجها إلى الإخوان بعامة وإلى إخوان كلية الزراعة بخاصة ، فقد رأيت فى موقف يقتضيني أن لا أقف مكتوف اليدين أمام التحدي لاسيما أن طلبة الكلية أحسوا بهذا التحدي وأخذوا ينتظرون منا ردا عليه ، ورأيت أن الرد الشفوي فى هذا الصدد لا يجدي لسببين : أحدهما : أن من غير المستطاع جمع الطلبة جميعا فى مكان واحد ليستمعوا ، والآخر : لأن الرد الشفوي تصاحبه عادة حالات انفعالية تجعل من العسير على التكلم جمع أطراف الموضوع والإحاطة به من جميع نواحيه ... وكانت مجلة النذير فى هذه الأيام قد انتشرت وذاع صيتها فى أوساط طلبة الكلية فرأيت أن يكون ردى مقالا على صفحات النذير ليكون إقناعا لإخواننا وزملائنا بالكلية ولجميع الكليات ومختلف الطوائف فى القاهرة وفى أنحاء البلاد .
وكان المقال على ما أذكر بعنوان (( تحطيم الخمارات )) وملخص ما جاء بالمقال هو أن الدعوة الإسلامية باعتبارها دعوة الخلود فإنها لا تعتمد فى خطواتها على الارتجال أو الفطرة ، وإنما تعتمد على أساليب رصينة تتمشى مع العقل وتخضع للنواميس الكونية ... فرسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أول ما دعا إلى الوحدانية ونهى عن عبادة الأصنام ، ومع ذلك ظل فى مكة ثلاثة عشر عاما يصلى وهو ومن معه من المسلمين فى الكعبة والأصنام منصوبة فوقها يعبدها المشركون ، لم يفكر هو ومن معه من المسلمين فى تحطيم واحد منها ، ثم هاجر إلى المدينة مكرها ، وظل بها عددا من السنين يدعوا الناس إلى الإسلام حتى التف حوله الناس ، واشتد أزره ، وقوى ساعده ، ورأى فى نفسه وفى أتباعه الكفاءة لملاقاة المشركين بمكة ، فاتجه إليها فاتحا بعد ثماني سنوات من الهجرة ، وانتصر واستسلمت مكة بمن فيها دون قتال ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرم وأمر بتحطيم الأصنام فأنزلت من فوق الكعبة وحطمت واحدا وهو يقول (( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا )) تحت سمع حماتها وبصرهم دون أن يحركوا ساكنا أو يرفعوا بذلك رأسا ،ودخل الجميع الإسلام دون حرب ولا دماء ... ولم تعد الأصنام إلى الأبد .
لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر عليه أن تعبد الأصنام وهو يصلى فى الكعبة وحاول تحطيمها فى أول دعوته ، ماذا عسى أن يكون قد حدث له ولدعوته ؟ ... إنه كان سيقتل هو ومن معه وتقتل معه دعوته وهى فى مهدها ، ولما كان هناك فى التاريخ دعوة للإسلام ...
ثم أشرت إلى أن هذا الإجراء من تحطيم للحانات وما أشبهه ليس مما يعجز الإخوان ، فإن عددا قليلا من قطاع الطرق يستطيعون أن يقوموا به ... ثم ما النتيجة من هذا العمل ؟ هل حرمت الخمر فى مصر ؟ هل أغلقت الحانات ؟ ... كل ما كان من نتائج هي أن الخمر استمرت كما هي مباحة ، ولم تغلق الحانات ، أما الحانات التي حطمت فقد عوضتها الحكومة من جيوبنا نحن المصريين بأضعاف قيمة ما تحطم من واجهاتها ومحتوياتها فجددت تجديدا زاد من عدد روادها ... ثم ألقى عدد من الشباب الطاهر البرئ الذي لم يحسن توجيهه فى السجون .. هذا عمل كالطبل الأجوف صوت ضخم يلفت الأنظار ثم تلتفت فلا ترى وراءه شيئا .
ووزعت (( النذير )) فى هذا الأسبوع توزيعا واسعا فالكل متلهف على معرفة موقفنا من التحدي فبقدر ما روجت مصر الفتاة لعملها هذا ووسعت من دائرة الفخر به انتشرت (( النذير )) .. كان لهذا المقال أثر كبير فى أوساط الشباب ، وكان صدمة لمصر الفتاة ، ألجم دعاتها ، وأفحم المتفاخرين من رجالها بل جعلهم يتوارون خجلا ... وبدأ الإخوان فى الكليات يرفعون رءوسهم ويتبوءون مكانهم ، ويواصلون مكاسبهم من المنتسبين لمصر الفتاة وغيرها .
وكان الذي فاجأ الناس أن قرءوا خطابا موجها من المرشد العام إلى وزير العدل يطالبه فيه بالإفراج عن المقبوض عليهم فى هذا الحدث لنيل مقصدهم ، ويحثه فيه على إصدار القوانين التي تطهر البلاد من المنكرات التي تثير النفوس المؤمنة وتحرج الصدور .
نحن والأحزاب التقليدية :
لم تكن الأحزاب التقليدية حتى ذلك الوقت تقيم للإخوان وزنا ، لأنها ، لأنها أولا كانت تعتقد أن السلطة أو الحكم إنما هو دوله بينهم ، يتبادلونه واحدا بعد الآخر ، وأن كائنا من كان مهما قال ومهما فعل ، مادام لم ينازعهم السلطة والحكم فإنه لا يعنيهم أمره . وثانيا لأن رجال هذه الأحزاب لم يكونوا يفهمون الإسلام على أنه دين ودولة ... إلا أن حدثين حدثا فى تلك الأثناء أرغما هذه الأحزاب على أن تستفيق من غرور السلطة ، وتهبط من علياء بروجها العاجية ، بعد أن أحسوا ببوادر زلزال على الأرض هز بروجهم العاجية هزا .
أولهما : الصبغة الجديدة :
فإن كبار رجال الأحزاب فى الريف بدئوا يرون ظاهرة جديدة ، تلك أن أشخاصا . وإن كانوا قلة - ممن كانوا يصطبغون بصبغهم الحزبية ، بدئوا يرونهم يطرحون هذه الصبغة بحجة أنهم إخوان مسلمون . وكان المعهود حتى ذلك الوقت أن الذي يطرح صبغة حزب من الأحزاب لا يطرحها إلا ليصطبغ بصبغة حزب آخر يتوسم فيه زيارة انتفاع يعود عليه ... أما اطراح الحزبية عامة بدعوى أن الشخص من الإخوان المسلمين فإنها بدعة جديدة تستحق النظر !!
ثانيهما : أول مظاهرة إسلامية بالجامعة :
بدأت هذه الأحزاب تشعر بشئ من الضيق حين رأت هذه (( الجمعية )) أخذت تزحف نحو العاصمة (( القاهرة)) وتتشعب فيها أي تكون لها شعبا ، مع أن القاهرة كانت تعتبر لهذه الأحزاب حرما أمنا .. كيف لا وهى مقر الحكام ، ومترقبي الحكم ، ومقر دور الأحزاب التي كانت كعبة القاصدين من أنحاء البلاد .
يضاف إلى ذلك أن هذه الأحزاب فوجئت فى يوم من أوائل أيام تلك السنة (1938) بمظاهرة تخرج من الجامعة المصرية تضم أكثر من أربعة آلاف طالب ، تجوب شوارع الجيزة ، وتخترق شوارع القاهرة ، وتقطع شارع المنيل حتى تصل إلى مقر الأمير محمد على ولى العهد، والمظاهرة تهتف مطالبة بالحكم بالشريعة الإسلامية ... نعم إنها كانت بمناسبة الاحتجاج على الكتابين اللذين قررا على طلبة قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب وفيهما تهجم وسباب للنبي صلى الله عليه وسلم مما قد نبسط الكلام عنه فيما بعد إن شاء الله ... إلا أنها كانت مظاهرة إسلامية تدعو إلى الحكم بكتاب الله والشريعة الإسلامية .. نغمة جديدة ... ويطل عليها الأمير محمد على ويبادلها التحيات والعواطف ويعد بالعمل على إجابة مطالبها ... مثل هذه المظاهرة لم يكن يستطيع تسييرها ولا تدبيرها إلا حزب واحد فقط بعد إعداد كبير بل وبذل مادي سخي ذلك هو حزب الوفد .
كما أن حزب الوفد - بعد أن حلت فرق (( القمصان الزرقاء )) التي كان قد أنشأها - رأى لهذه ((الجمعية )) فرقا من القمصان الكاكى وإن كانت تسمى كشافة أو جوالة إلا أنها فرق لا تختلف عن فرقه التي حلت إلا فى لون القمصان وهذه الفرق فى نمو مستمر. إن هذه الجمعية تستحق أن يحسب لها حساب ، وتستحق أن ينظر إليها بعين الريبة ، وتستحق أن تعد العدة لمقاومتها ، ووقفها عند حد ، أو إزالتها من الوجود .
لم يثنهم عن هذا العزم أن الأستاذ المرشد كان يقول فى محاضرات الثلاثاء : إننا لسنا طلاب حكم وإنما نحن نطالب بالحكم بالشريعة الإسلامية ، من حكم بها من الحكام فإننا مستعدون أن نغسل على قدميه ... كما لم يثنهم أننا كنا فى الأقاليم نزور ممثليهم ، ونصل حبال الود معهم ، ونتعاون معهم على النهوض بأحوال البلاد من مواساة الفقراء والمساكين .
بدئوا خطتهم فى مهاجمة الدعوة بنشر آراء فاسدة عفي عليها الزمن واندثرت فيما اندثرت من أباطيل فإذا بنا نقرأ فى جريدة البلاغ وكانت جريدة حزب الوفد المسائية وكانت واسعة الانتشار مقالة عن كتاب (( الإسلام وأصول الحكم )) لعلى عبد الرازق تشيد فيه بمهاجمة صاحب الكتاب لفكرة أن الإسلام دين ودولة ... وقد لفت نظر الأستاذ المرشد إلى هذا المقال وعرضت عليه أن أكتب ردا عليه فأذن لي وكتبت الرد وطلبت إلى الجريدة نشره فى نفس المكان كما يقضى بذلك قانون المطبوعات واضطرت الجريدة لنشره .
محاولتهم الإيقاع بين الإخوان والحكومة :
أخذت صحفهم تحاول إبراز جوالة الإخوان على أنها نظام عسكري ، والقانون يحرم على الهيئات الشعبية أن يكون لها نظام عسكري ، فيجب أن تلغى كما ألغيت فرق القمصان الزرقاء وفرق القمصان الخضراء ... وتقدم أحد محرري جريدة المصري - التي كانت فى أوائل أيامها وكانت لسان حال حزب الوفد - إلى الأستاذ المرشد بأسئلة وجهها إليه فى هذا الشأن وطلب منه الإجابة عليها .. وقد اعتقدوا أنهم بذلك قد أحرجوه وأنه سيتهرب من الإجابة فإذا به يجيب إجابة تخطت جرأتها وثبات الظنون...
وظهرت (( المصري )) فى اليوم التالي بعنوان بالخط العريض يملأ أعلى الصفحة الوسطى يقول : (( المرشد العام للإخوان المسلمين يقول : نعم أنا أدعو إلى تسليح الجيش المصري وإلى تسليح الشعب )) ( فى خلال تلك الأيام كان مجرد الحديث عن التسليح يعد جريمة لأن الجيش المصري نفسه كان محدد العدد وكان تحت رحمة لجنة عسكرية إنجليزية ) وفى تفاصيل الإجابات يقول : إن فرق الإخوان ليست فرقا عسكرية وإنما هي فرق جوالة مسجلة فى جمعية الكشافة الأهلية ، وليس معنى ذلك أنني راض عن هذا الوضع الذي ألزمتنا به قوانين البلاد بل إنني أرى من الواجب أن يكون جيشنا جيشا قويا ، وأن يسلح أعظم تسليح ، وأن تنشر الروح العسكرية فى الشعب وأن يسلح هذا الشعب حتى يستطيع أن يحرر بلاده من الاستعمار .
فرحت الأحزاب بهذه التصريحات الخطيرة التي خيل إليهم أنهم استطاعوا أن يجروا الأستاذ المرشد إلى الإدلاء بها حتى يحقق معه ويحال إلى المحاكمة وتلغى جمعيته باعتبارها حاجة على القانون .
وطلب الأستاذ المرشد للمثول أمام رئيس نيابة فى القاهرة كان معروفا عنه أنه يحب الإنجليز وقد أخبرني الأستاذ المرشد بذلك حين تسلم إعلان النيابة وقال لي : إنني أهدف من حديثي فى جريدة المصري إلى أن أطلب للتحقيق معي ، ويبدوا أنهم اختاروا هذا الرجل بالذات لما يعرفون عن ميوله إنجليزية .
ومثل الأستاذ المرشد أمام الأستاذ رفقي رئيس النيابة وفتح محضر التحقيق وظل رئيس النيابة يسأل والأستاذ يجيب ويفيض فى الإجابة ويتعب الرجل فأجل التحقيق إلى اليوم الثاني واستغرق التحقيق عدة أيام وملأ أكثر من مائة صفحة ، وقد انتهز الأستاذ المرشد فرصة التحقيق وأخذ يشرح دعوة الإخوان كما أبدى رأيه فى مختلف مرافق الدولة ، وكيفية إصلاحها ، فهو يهاجم الوضع ويشفع هجومه بالوسائل التي يمكن أن يصلح بها . وكان المحقق حريصا على أن يحصل من الأستاذ المرشد على اعتراف بما جاء على لسانه بجريدة المصري فيما يخص بالناحية العسكرية والتسليح فاعترف الأستاذ بكل كلمة نشرت وزاد على ذلك أنه يحمل الحكومة تبعة التقصير فى حق الجيش وفى حق الشعب لأنها لا تعمل على نشر الروح العسكرية والتسليح ذلك ، لأن الإسلام يدعو إلى القوة والحرية .
وانتهى التحقيق وكانت الأحزاب تنتظر انتهاءه بفارغ الصبر ، ليروا الأستاذ المرشد مكبلا بالأغلال مقدما إلى المحاكمة ، وكنا نحن الإخوان لا نقل عنهم اشتياقا إلى هذا الموقف ... وقد طلب الأستاذ المرشد من المحقق عند انتهاء التحقيق أن يأذن له بنسخة من أوراق التحقيق بحجة احتياجه إليها للدفاع عن نفسه أمام المحكمة فرفض المحقق .. وكان الدافع الحقيقي لطلب الأستاذ نسخة من التحقيق هو أنه كان يرى أن التحقيق هو إحدى الوثائق الرائعة لنشر الدعوة والإقناع بها ، وأذكر أننا حاولنا بعد ذلك الحصول على النسخة بطريقة غير رسمية .
وكانت المفاجأة لنا وللأحزاب أن صدر قرار بحفظ التحقيق ، وهو ما لم يكن متوقعا ، وكان أسفنا لذلك لا يقل عن أسف الأحزاب . وكل يغنى على ليلاه - وطبعا لم يكن الموعز بالحفظ هو الحكومة ، وإنما كان الانجليز لأنهم رأوا فى إثارة ما جاء بالتحقيق تنبيها للشعب وإيقاظا لآماله .
مؤامرة لاغتيال المرشد العام :
سأورد هذه المؤامرة كما حدثت وقائعها بين يدي وتحت سمعي وبصري ، ولكنني لا أستطيع أن أجزم حتى اليوم هل كان تدبيرها والدافع إليها فرديا وشخصيا أم أن ذلك كان بإيعاز من الحزب نفسه ... كنت ومجموعة كبيرة من طلبه الإخوان ندرس فى الجيزة ونسكن فيها ، وكانت الجيزة فى ذلك الوقت - كغيرها من البلدان المصرية - مدينة ليست بالشاسعة الأرجاء ، وليست مكتظة بالسكان . وهى باعتبارها عاصمة إقليم زراعي ريفي فهي مدينة ريفية ، ولكن ينساب إليها التيار الحضري باعتبارها ضاحية من ضواحي القاهرة .... ومع أن الإخوان لم يكونوا بعد قد أنشئوا لهم شعبة يجتمعون فيها إلا أنها كانت نقطة ارتكاز للدعوة لا يستهان بها ؛ حيث كانت مساكن الإخوان الطلبة فيها شعبا بعدد هذه المساكن ، وكان إخوان القاهرة يعرفون هذه المساكن ويفدون إليها للزيارة ولمناقشة موضوعات تهم الدعوة .
وكان لحزب الوفد شخصية قويه فى الجيزة ممثلة فى محام شرعي شهير يدعى ع . ب . وهو من أهالي الجيزة وله منزل فخم بها أشبه بالقصر يطل على الشارع العمومي المؤدى إلى الهرم ، وكان من ذوى الأملاك وعضوا بمجلس النواب وعضوا بالهيئة الوفدية ومن أكبر أعيان الجيزة .
وكانت مناصب الشيخ وأبهته ، وما كان يحيط به نفسه من مظاهر الثراء ؛ وفى مقدمتها كثرة العاملين فى خدمته ، والمروجين له ؛ جعلته فى نظر الناس شيئا آخر غير عمله الرسمي .
ولم يكن الإخوان باعتبارهم أصحاب دعوة - يرون فى إنسان الخير الذي لا شر معه كما لا يرون فى إنسان الشر الذي لا خير معه ، ولذا فإنهم كانوا يتقدمون بدعوتهم إلى كل إنسان ؛ فإذا كان هذا الإنسان شيخا وأزهريا ومعمما كان أجدر أن يتقدموا إليه لاسيما وأهل الجيزة الأصليون الذين يعيشون فيها كابرا عن كابر قليلون ، والقليل من هؤلاء مثقفون ، والدعوة تتوخى الظفر بمثقفين حيث يكونون عادة أعمق فهما ، وأوسع أفقا ، وأقدر على إقناع غيرهم بما اقتنعوا به .
والدعوة موجودة بالجيزة منذ التحقنا بالكليات واتخذنا الجيزة سكنا لنا ، ومضى على ذلك سنتان وهذه هى السنة الثالثة ، ولكن لم يخطر ببالنا أن نتصل بهذا الشيخ وهو نائب المدينة وأبرز شخصياتها ، كما لم يخطر ببال الشيخ ونحن على قيد خطوات منه أن يتصل بنا ... ولكن شيئا جد فى الأمر جعل الشيخ يبحث عنا ، ويتقرب إلينا ، ويفسح لنا من وقته الثمين وداره الفارهة ... إن هذا الشئ الذي إنما هو المؤتمرات الإخوانية وما أسفرت عنه مما ألمحنا إليه ، وتصريحات الأستاذ فى جريدة المصري وما أحاط بها من ظروف ، وقد كان من أثر هذه المؤتمرات والتصريحات أن دعمت مركز الإخوان وفتحت للدعوة أبوابا كانت مغلقة انسابت منها إلى أوساط جديدة لم نكن نعرف عنها شيئا .
التقى بي عدد من زملائي الطلبة القاطنين بالجيزة وقالوا لي : إن الشيخ ع . ب . دعاهم إلى مكتبه فى منزله وعرض عليهم تكوين شعبة للإخوان بالجيزة ... وحين طرق سمعي هذا النبأ سرحت بخاطري فى أجواء متناقصة عشتها ؛ منها جو (( الوفد )) وجو (( الإخوان )) وجو (( مؤتمر المنصورة )) وجو هذا الشعب الطيب الفقير الغافل ، وجو(( الذئاب والشياطين )) التي تلبس مسوح الهررة والملائكة متحلية أمام هذا الشعب الطيب بما يضفيه عليها المنصب والثراء من حلى تأخذ بالأبصار .
كيف يكون هذا ؟ الوفد يصب فى الأقاليم جام غضبه على القلة القليلة من الإخوان الذين كانوا أعضاء فى الوفد ثم أعلنوا تجردهم لدعوة الإخوان ، والوفد الذي يتآمر عن طريق جريدته (( المصري )) ليوقع بين الإخوان والحكومة إيقاعا لا يؤدى إلا إلى نسف الدعوة نسفا لولا لطف الله وحياطته لدعوته ..
كيف يستقيم هذا مع تقدم الشيخ نائب الجيزة وعضو الهيئة الوفدية إلى الإخوان فجأة يقترح عليهم تكوين شعبة للإخوان بالجيزة ، ويقول له الإخوان : إذن نبحث عن مكان للشعبة فيقول : لا داعي للبحث ، تنشأ هنا فى منزلي ؟!!! ... لقد أحسست أن وراء الأمر شيئا مريبا ... ولكنى لم أبد للإخوان شيئا مما دار فى خاطري ، وعزمت على لقاء الرجل والاستماع إليه ، وملاحظة ما يدور حوله ... وقابلت الرجل ووجدت منه استعدادا كبيرا بل تهافتا على إنشاء الشعبة ، واحتضانها ، والتكفل بكل ما يلزم من نفقات ... وأحضر لافتة كتب عليها اسم الشعبة ، وعلقها على الدور الأرضي من منزله ، وجعل الاجتماعات فى مكتبه ، وقد واظبت على هذه الاجتماعات فترة من الزمن ألممت فيها بالكثير مما كنت حريصا على الإلمام به ، مما ضاعف ما فى نفسي من شكوك .
وكلفت مجموعة من الإخوان المتمرسين بالتعرف على اتجاهات المجتمعات بالنسبة للإخوان ؛ وهى مجموعة متخصصة لها القدرة على التكيف بجو الهيئة المطلوب معرفة اتجاهها تكيفا يشعر المسئولين بهذه الهيئة أنهم أخلص العاملين لها ؛ وبذلك يغشون الجلسات المضروب حولها نطاق السرية ، ويظهرون بذلك على أدق أسرارها .
وقد أكد لي هؤلاء ما كان يتردد فى نفسي من شكوك ؛ وأخبرني أن الشيخ ورجاله سيقيمون للأستاذ المرشد حفلا كبيرا بمناسبة لا أذكرها الآن - لعلها كانت المولد أو الهجرة أو الإسراء ، وأنهم سيحاولون فى خلال هذا الحفل إحداث شغب وفى غمرة هذا الشغب يغتالون الأستاذ المرشد .
وفعلا طلب الشيخ أن يقام حفل كبير لهذه المناسبة وأصر على دعوة الأستاذ المرشد إليه متكفلا هو بكل نفقات الحفل ، وما كان الإخوان ليرفضوا عرضا كهذا ، وحدد الموعد ، ووجهت الدعوات لحضور أهل الجيزة ، ووجهت الدعوة إلى الأستاذ المرشد .
وأرسيت قواعد سرادق فخم كبير ، ولم يبق على ليلة الحفل إلا ليلة واحدة ، ولم أكن قد قابلت الأستاذ المرشد فى خلال الأسبوع السابق لانشغالي بالجيزة ، وبما يعده الناس الطيبون من أمور فى الخلفاء والله يكتب ما يبيتون ... ذهبت إلى المركز العام فى تلك الليلة وقابلت الأستاذ المرشد على انفراد وطلبت إليه لا يحضر هذا الحفل ، وألححت عليه فى ذلك ، فتعجب وسألني عن السبب ، فقلت له : لا داعي لمعرفة السبب ولكنى أرجو منك بحق الدعوة عليك أن لا تحضر هذا الحفل ؛ فأصر على حضوره ما لم يعرف السبب فقلت له : إن القوم وضعوا خطة لاغتيالك وقصصت عليه القصة ... فضحك وقال لي يا محمود أنخاف الموت ؟... كيف نخاف الموت ونحن نعلم الناس لا يخافوا الموت ؟ والله لأحضرن إن شاء الله هذا الحفل .. وأظننى بكيت حينئذ وتركته .
تركته وسارعت بالاجتماع مع مجموعة من الإخوان المسئولين من الجيزة والقاهرة ، وأخبرتهم بما كان بيني وبين الأستاذ وقلت لهم لابد إذن من وضع خطة محكمة، فنحن نعرف الأشخاص الذين وكل إليهم تنفيذ المؤامرة ونعرف مهمة كل منهم .... ووضعت الخطة وهى تتلخص فى قيام جوالة الإخوان بإحكام الرقابة على تنظيم الحفل . وبدأ الحفل ، وانتظر المدبرون أن يحدث شئ مما بيتوه ولكن شيئا لم يحدث ، ورأوا بأعينهم رجالهم الذين أعدوهم للقيام بأدوارهم ، ثابتين على مقاعدهم كأنما سمروا عليها ، وكأنما خيطت شفاههم أو سدت أفواههم ، ولا يستطيعون حتى أن يتلفتوا يمينا ولا شمالا فأحسوا بفشلهم ، وشعروا بأن الإخوان قد كشفوا مخططهم فلم يستطع الشيخ بعد هذا الفشل إلا أن يحاول الغض من قدر الأستاذ المرشد بأن قدم قبله عددا كبيرا من زملائه وأصدقائه ممن يعتقد أنهم من قوة البيان والقدرة الخطابية بحيث لا يكون للأستاذ المرشد بعدهم قيمة ، ثم إنه عمل على أن يشغل الوقت بهذا العدد الكبير من الخطباء بحيث يستنزفون يقظة الحاضرين ؛ فلا يجد الأستاذ إذا قام بعدهم استعداد لسماعه ، أو انتباها لكلامه ، بل إنه اعتقد أنهم لتأخر الوقت الذي يحين فيه دوره سيكون أكثر الحاضرين قد سئموا الاستماع وسيخرجون ويتركونه .
ونفذت هذه الخطة الجديدة بمهارة ، وكثر الخطباء وتعددوا ، وأطالوا قاصدين وأملوا وأسأموا ، وأخذ الكرى بمجامع الأجفان ، وترنح الجالسون نائمين على مقاعدهم ، حتى إذا ما تحقق للشيخ ما أراد وقد قارب الليل على الانتصاف قدم الأستاذ المرشد ؛ فوقف وحمد الله وأثنى عليه ثم نزع ببيتين أو ثلاثة أبيات من الشعر القديم وما كاد ينتهي من البيت الثالث حتى رقصت مشاعر الحاضرين ولا أكاد أذكر من هذه الأبيات الآن إلا شطرة من بيت تقول (( لأنت اليوم أحسن منك أمس )) لعبت هذه الأبيات حين ألقاها بقلوب النائمين فاستيقظت طربا ، وكأنما استيقظوا على حلم جميل .
وظل الأستاذ يهدر من قلب مفعم متأجج ، يقذف بشآبيب من نور تشق طريقها إلى ظلمات النفوس فتبددها ، وكأنما يتلقى من على أنوار السماء ، وظل كذلك ساعة وأكثر من ساعة ، وتكبير الناس قد بلغ عنان السماء ، حتى إذا ختم كلمته ، قام الناس مقبلين عليه ، ولقد رأيت شابا فى ربيع العمر من أهل الجيزة يقول له : أأنت حسن البنا أقسم بالله إنك لست حسن البنا ، إنما أنت ملك .
وهكذا انتهت الليلة (( بنصر الله . ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم . وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون )) (( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا )) ....
وبدأ الشيخ منذ ذلك اليوم يتراجع فى حماسه المصطنع للإخوان ، ويتملص وينسحب حتى رجع إلى حقيقته ورفعت اللافتة التي كان يعلم الله ماذا يقصد من ورائها ، واكتسبت الدعوة عن طريق هذا الرجل ، ورغم أنفه ، خلقا كثيرين ، ما كانوا ليتصلوا بالدعوة لولا ما كان من أمره . وإن الله - كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم - لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر (( والله من ورائهم محيط )) .
نحن والهيئات الدينية :
يمكن حصر الهيئات الدينية فى مصر فى ثلاث فئات : الصوفية والسنية والخيرية . وحديثنا مما يتصل بالموضوع الذي نعالجه سيكون مقصورا على الفئتين الأولين دون الثالثة لأن هذه بطبيعتها لا تقوم على أساس تصور معين للفكرة الإسلامية ، ثم إن أعمالها التي قامت من أجلها كانت مستوعبة ضمن أعمال شعب الإخوان فى كل مكان . كانت أولى خصائص دعوة الإخوان منذ أول يوم وستظل كذلك بإذن الله (( البعد عن مواطن الخلاف )) وخير توضيح لهذه الخصيصة ما ضمنه الأستاذ المرشد خطابه الجامع فى المؤتمر الخامس حيث قال :
(( فأما البعد عن مواطن الخلاف الفقهي ؛ فلأن الإخوان يعتقدون أن الخلاف فى الفرعيات أمر ضروري ، لابد منه ، إذ أن أصول الإسلام آيات وأحاديث وأعمال تختلف فى فهمها وتصورها العقول والأفهام . لهذا كان الخلاف واقعا بين الصحابة أنفسهم ، ومازال كذلك وسيظل إلى يوم القيامة ؛ وما أحكم الإمام مالك رضي الله عنه حين قال لأبى جعفر المنصور وقد أراد أن يحمل الناس على الموطأ : إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا فى الأمصار ، وعند كل قوم علم ، فإذا حملتهم على رأى واحد تكون فتنة ( وليس العيب فى الخلاف ولكن العيب فى التعصب للرأي ، والحجر على عقول الناس وأدائهم - هذه النظرة إلى الأمور الخلافية جمعت القلوب المتفرقة على الفكرة الواحدة ، وحسب الناس أن يجتمعوا ( على ما يصير به المسلم مسلما ) . كما قال زيد رضي الله عنه . وكانت هذه النظرة ضرورية لجماعة يريدون أن ينشروا فكرتهم فى بلد لم تهدأ بعد فيه ثائرة الخلاف على أمور لا معنى للجدل ولا للخلاف فيها )) .
ومقتضى هذه النظرة أن ندعو المسلمين إلى مالا خلاف عليه وندع جانبا ما فيه خلاف ، ولكن هذه النظرة وإن لقيت الاستجابة والترحيب من أكثر الناس إلا قوبلت باعتراض ومقاومة من أقوام من الفئتين المشار إليهما آنفا .
أولا : الصوفية :
الأصل فى الصوفية أخذ النفس بأسلوب يطهرها من أدرانها ويزكيها ويصقلها فيرقى بها فى مدارج الكمال الإنساني حتى يكون المسلم أداة نافعة لنفسه ولذويه وللمجتمع ؛ وعلى هذه الأسس الرفيعة نشأت فكرة الصوفية وهى فكرة يقرأها الإسلام ويعمل لنشرها ويحث عليها ؛ لأنها بهذا الأسلوب أساس لكل إصلاح ، ودعامة لكل نهضة ، وضمان لكل نجاح . ولا بأس أن يتصدى لتربية النفوس بهذا الأسلوب رجال أوتوا مقدرة على التربية والتوجيه ، ومن هنا نشأت مدارس أو باللفظ الاصطلاحي نشأت طرق صوفية لكل طريقة شيخ ومريدون أو تلاميذ :
وكلهم من رسول الله ملتمس :: غرفا من البحر أو رشفا من الديم
ونحن - الإخوان المسلمين - نعتبر أسلوب التربية الروحية أساس دعوتنا لأن تكوين الفرد المسلم متوقف على الأخذ بأكبر نصيب من هذا الأسلوب مع مداومة الأخذ به ، واللجوء إليه ، والاستمداد من فيضه .
ولكن ليس معنى ذلك أن ينقطع المسلم لهذا الأسلوب ، وينعزل عن المجتمع لا يبالى ما ينال هذا المجتمع من خير وما يصيبه من مصائب .. وليس معنى ذلك أن يتخذ هذا الأسلوب وسيلة للارتزاق وجمع المال ، والتسلط على الناس ، وكسب الصيت والشهرة .
ومما يؤسف له أن بعض مشايخ الطرق قد انحرفوا بأتباعهم عن الطريق السوي واتخذوا طرقهم وسائل لألوان من هذه الأغراض المادية المشوهة لسمعة الصوفية والدين نفسه ، ومنهم من أراد أن ينعزل بمريديه عن المجتمع .
وهذان النوعان من الانحراف - مع أنهما طرفا نقيض هما اللذان اعترضا طريقنا فى الدعوة وراحا يعلنان الحرب علينا مادمنا لا نقرهما ولا نرضى سبيلهما سبيلا ؛ أما دعاة العزلة فقد أحسوا بأن تيار العمل الإسلامي الإيجابي قد استدرج عددا كبيرا من أنصارهم الذين كانوا يعتقدون أن العزلة هي السبيل الأقوام لتحيل ثواب الله ورضاه ؛ فلما عرضت عليهم الفكرة الإسلامية بشمولها وإحاطتها بكل شئ عرفوا أنهم لم يكونوا على شئ فى انتهاجهم سبيل العزلة ، فخرجوا من عزلتهم ، وساروا مع الركب حتى صاروا فى المقدمة .
وأما الآخرون من المشايخ الذين اتخذوا الصوفية مرتزقا ، ووسيلة إلى الكسب المادي ، وسبيلا إلى استغلال جهل المسلمين وسذاجتهم فهؤلاء مفسدون فى الأرض وكان لنا معهم دور ؛ حيث كان انتشار الدعوة فى مكان بمثابة إعلان حرب على هؤلاء ، فالدعوة بطبيعتها تثقف معتنقها وتوسع مداركه وتعطيه مقياسا يقيس به الأمور فيعرف به الخير والشر ويعرف به الحق والباطل . ويعتبر هؤلاء المشايخ تفتيح أذهان الناس وتنوير عقولهم إعلان حرب عليهم .... وهؤلاء المشايخ يجدون الطريق أمامهم ممهدا فى الأرياف والأقاليم حيث السذاجة وطيبة القلب وحسن الظن والأمية والجهل ؛ وسأعرض بين يدي القارئ مثالا واقعيا وكانت وقائعه معي شخصيا بين القاهرة ورشيد :
تعرف على هذا الشيخ ، ولا أدرى كيف تعرف على ، فقد كنت فى ذلك الوقت فى القاهرة أغشى كل مكان واتصل بكل المجتمعات حتى المقاهي البلدية فى أحشاء القاهرة لأعرض الدعوة على كل مجتمع بالأسلوب الذي يناسبه وكان الكثيرون من مختلف الأوساط يستجيبون للدعوة وكان ملتقاي معه فى البيت الذي أسكنه فى الجيزة ؛ فكان يزورني ويبيت عندي .
كان هذا (( الشيخ )) شابا ، لا يكبرني بسنوات قلائل ، وكان وسيما يلبس ملابس المشايخ من القماش الأبيض الناصع من قمة رأسه إلى إخمص قدمه ، وكان يدعى الشيخ (م . ف ) من صان الحجر وكان متوقد الذهن ، مشتعل الذكاء وإن كان حظه من التعليم ضئيلا ، وكان سريع الخاطر ألمعيا ألوفا كثيرة المعارف والأصدقاء ... وقد لاحظت أن أصدقاءه من طبقة الأغنياء المتعلمين ، وقد عرفني بعدد منهم فى القاهرة والجيزة .
وقد أثار عجبي أن أصدقاء هؤلاء أو قل مريديه يسكنون الشقق الفخمة والفلل الفارهة وعندهم الرياش والخدم ويعيشون فى بذخ ، ويتمنى كل واحد منهم أن يكون الشيخ ضيفه الدائم ويلحون عليه أمامي إلحاح الملتمس من بركانه ، ومع ذلك فقد كان يأبى الاستجابة لهم ، ويؤثرني عليهم ، وهو يعلم أن سكنى ومعيشتي دون ذلك ، وأنه لن يجد الراحة عندي كما يجدها عندهم .
وكان مما سرني منه أنه كان حين يعرفني بأحد هؤلاء ، يعرفه بي باعتباري من الإخوان المسلمين ويفاخر بذلك ويثنى ويأخذ فى شرح الدعوة لهم ... كما كان يعجبني منه أنه لم يكن يربطني بنفسه فى غدواته وروحاته . باعتباره ضيفا عندي - بل كان يقوم من الصباح فلا أراه إلا بالليل ، اللهم إلا الساعات القلائل التي كان يصحبنى فيها لتعريفي بأصدقائه هؤلاء الأثرياء .
وليس معنى أنه كان يلوذ بي أنه كان دائم الوجود عندي ، وإنما كان يلوذ بي فى فترات تردده على القاهرة فقد تردد على القاهرة فقد تردد عليها خلال تلك السنة نحو ثلاث مرات ، يمكث فى كل مره نحو أسبوع ، وكان حين يعزم على السفر يقول إنه مسافر لحضور مولد سيدي كذا فى بلدة كذا .
وجاءت إجازة الصيف ، وسافرت إلى رشيد لقضاء فترة بها ، وبعد وصولي إليها بأيام وبينما أنا فى منزلنا جاءني شاب لا أعرفه وقال إنه موفد من قبل الشيخ (م.ف) . وقد أرسلني إليك لأخبرك أنه حضر اليوم إلى رشيد وهو موجود الآن بقهوة كذا ويرجو أن يراك هناك . فقلت للشاب اذهب وأحضره معك إلى هنا ، فذهب ثم جاء يقول إن الشيخ يشكرك ويرجو أن يراك فى المقهى ... وذهبت إلى المقهى والتقيت به مرحبا وعاتبته على عدم إجابته دعوتي إياه للمنزل فشكر .. ولاحظت أن أصحاب المقهى وروادها من العمال يحتفون بالشيخ ... ثم كانت المفاجأة
قال لي : أتعرف لماذا جئت بالذات إلى رشيد ؟ .. لزيارة أخيك .. قال هذا أحد الواجبات لكن الذي جاء بي فى هذا الوقت بالذات وفجأة أنني رأيت فى المنام ؛ وقص على رؤيا ملخصها أن (( سيدي على المحلى )) المدفون فى أكبر مسجد فى رشيد - جاءه فى المنام وعاتبه على أنه لم يحي له مولدا وحدد له يوم كذا موعدا للمولد - وهذا اليوم المحدد يوافق اليوم التالي لحضور الشيخ وانتهى من قصته وطلب إلى أن أعينه على هذه المهمة حتى يفي بوعده للولي .... وهنا بدأ الخلاف - لأول مرة - بيني وبينه ، ونصحته بأن يعدل عن هذا العزم ، فرأيت منه إصرارا ، فرجوته بحق ما بيني وبينه من صداقه أن يعدل فرفض بإصرار ؛ فأخذت أشرح له أن هذا يتعارض مع اتجاهي ، وأن البلاد كثيرة ولا داعي لاختيار رشيد لأن فى هذا الإصرار تحديا لي وهو مالا أنتظره منه ، فلم يخفف ذلك كله من إصراره .
فقلت له : إن معنى هذا أنك لن تجد منى المعونة التي تطلبها فقال : إنك إذا لم تعنى فأهل الخير غيرك كثيرون . فقلت له : إنك بإقامتك هذا المولد ستمتهن حرمة المسجد ، وستجعل منه ساحة للفجور حيث يجتمع حولك السفلة من الرجال والنساء والأطفال ممن لا يعرفون للمسجد حرمة ولا يجتمعون إلا على اللهو واللعب والفسق والفجور ، وأنت فى غنى عن أن تكون سببا فى ذلك فاتق الله وأعدل عن عزمك .
لم يزده ذلك كله إلا تمسكا برأيه وإصرارا على عزمه ، ويبدو أنه رأى فى رواد هذا المقهى من الأميين والبسطاء عينة مشجعة ......
وافترقنا وتركته فى المقهى ونحن على خلاف شديد بل على تناقض مؤلم . واستعدت الماضي ففهمت حل اللغز الذي طالما حيرني حين كان يؤثرني بالمبيت عندي رافضا إجابة رجاء مريديه الأثرياء فى المبيت عندهم ، وفهمت لماذا كان يشيد بي وبدعوة الإخوان أمامهم ؛ لقد كان هذا طعما ألقاه ليصطادني به فى الوقت المناسب ، ومقدمة لما يحدثني الآن بشأنه ... وأسفت أشد الأسف أن يجعل هذا (( الشيخ )) هدفه من تعرفه بي أن يجعلني سلما يتسلق عليه ليصل إلى رشيد ؛ المدينة الهادئة الواعدة التي لم يطرقها (( شيخ )) من قبل ليستغلها باسم الدين ويقيم لأحد من أوليائها مولدا ... ومعنى أن يقيم شيخ فى بلد من البلاد مولدا أنه أضاف إلى موارده السنوية موردا جديدا مما سيجبيه من أهالي هذا البلد باسم المولد من فقرائها وأغنيائها ومما سيقدمه السذج رجالا ونساء إلى الشيخ من قرابين لعلاج ما استعصى من مشاكلهم وأمراضهم!!
جمعت إخوان شعبة رشيد ، وشرحت لهم علاقتي بهذا الرجل ، وما كان بيني وبينه ، وما فاجأني به من عزمه على إقامة مولد برشيد ، وبينت لهم خطورة السكوت على ذلك .. والإخوان حيث كانوا يفهمون فكرتهم وعلى ضوء هذه الفكرة يبدون رأيهم فيما يعرض لهم من أمور وستجدهم جميعا دون اتصال فيما بينهم رأيا واحدا واتجاها واحدا ... واتفقنا على الوقوف فى وجهه آخذين فى اعتبارنا ذكاء هذا الشاب وقوة دهائه .
وبدأ الشيخ فأعد لنفسه مجلسا بالمسجد بجانب مقصورة المدفون وسط المسجد . وعلق فوق مجلسه أنوارا ساطعة جعلت الليل نهارا ، واتصل ببعض من جاءوا يتعرفون عليه من أهل البلد ممن بهرهم المنظر وطلب من كل منهم طلبا سارعوا إلى تلبيته فبعضهم أرسل مئات الأرغفة ، وبعضهم أرسل إليه الشاي وبعضهم أرسل السكر وبعضهم أرسل إليه نقودا .. ومد الرجل الموائد ، وتوافد عليه حثالة الناس ممن لم يغشوا المساجد من قبل ... وأخذ الشيخ يشنع على الإخوان فيخرج من جيبه إحدى بطاقات الدعاية للدعوة كان قد حصل منى عليها من قبل وكان يعتز بها ولكنها الآن يعرضها ويقول للناس : انظروا : إنهم يقولون لهم مبادئ .. إذن هم حزب وليسوا دعوة دينية ... والتف حول الشيخ فى هذه الليلة - وهى الليلة الأولى من سبع ليال أعلن عنها - محبو السهر فى المقاهي التي لا يجدون فيها من الفوضى والتهريج ما يجدونه هنا مما يبعث النشوة فى نفوسهم ... وتوافد الشباب المتسكع ، والنساء الساقطات على المسجد يأكلون ويشربون ويعبثون ؛ وهو مع ذلك كله ، ووسط ذلك كله يقيم حلقة الذكر وهو جالس وسطها يغذى المترنحين فيها بين الفينة والفينة بكلمة أو صيحة .
ووضع الإخوان خطة حكيمة كان من نتيجتها أن أنفض الناس من حول الشيخ فوجد نفسه وحيدا مما أيأسه من هذا البلد فغادره إلى غير رجعة ووقى الله رشيد أن نكون فريسة لدجالين يتخذون الدين وسيلة لإضلال الناس وابتزاز أموالهم .
ثانيا : السنية :
وهذه الفئة كانت تمثلها هيئة واحدة تسمى (( الجمعية الشرعية )) ثم انشقت عنها جماعة أخرى سمت نفسها (( جمعية أنصار السنة المحمدية )) . وتركز الجمعيتان على تنقية العقيدة الإسلامية مما علق بها من شوائب وعلى مقاومة البدع وإحياء السنن ، وتختلفان فيما بينهما فى نظرة كل منهما إلى كيفية تنقية العقيدة مما قد نرجئ الإشارة إليه إلى وقت آخر ... ولهاتين الجمعيتين أنصار كثيرون فى القاهرة وفى طوائف المثقفين وفى طلبة الجامعة ممن لقنوا هذه الأفكار فى بلادهم قبل التحاقهم بالجامعة . والأفكار التي قامت من أجلها هاتان الجمعيتان أفكار طيبة لاشك فيها ، ولكن تصورها فى أدمغة من يحملونها إلى الناس ثم نصور المنقولة إليهم لها بعد ذلك أنشأ ما أدى إلى التطرف والتحريف فى كثير من الأحيان (( وما آفة الأخبار إلا رواتها )) ..
وسأضع بين يدي القارئ مثالين يوضحان هذا المعنى الذي أومأت إليه وكنت فى المثالين أحد الشاهدين :
الجمعية الشرعية :
فى عام 1939 كنت أسكن فى ضاحية بجانب الجامعة تسمى (( بين السرايات )) وكنت أصلى الجمعة دائما فى القاهرة لكنني اضطررت مرة إلى الصلاة فى هذه الضاحية فدخلت مسجدا قريبا من سكنى فإذا به أحد مساجد الجمعية الشرعية ، وصعد المنبر شيخ معمم ذو لحية طويلة وخطب الناس ... فماذا كان موضوع الخطبة فى تلك الأيام التي كانت فيها فلسطين شعلة من النيران وكان الإنجليز يقتحمون بيوت المسلمين ويحطمون كل ما فيها ويمزقون ما بها من مصاحف ويطأونها بأحذيتهم ، ويأخذون المجاهدين ويسومونهم ألوان العذاب ويطردون المسلمين والمسلمات من بيوتهم ليسلموها لليهود ....
كان موضوع الخطبة : قراءة سورة الكهف فى المساجد يوم الجمعة ... وأفرغ الخطيب جهده فى تقرير أمر عجيب ، هو أن قراءة سورة الكهف فى المساجد يوم الجمعة كفر ، ولم يكتف سيادته بل قال : لا أقول إنها كفر بالنعمة بل كفر بالله ورسوله بحيث لا يقبل الله من فاعلها صرفا ولا نصرا .... وقد أحسست أن موجة استياء قد عمت المصلين حتى إن بعضهم بدأ يفكر فى جذب الخطيب من فوق المنبر وكادت تحدث فى المسجد فتنة .
جمعية أنصار السنة :
فى خلال هذه السنة أوفى السنة التي قبلها كنت فى الإجازة الصيفية وكنت فى موطني رشيد ، وكان عندي صديق كان طالبا فى إحدى كليات الأزهر وكان ضيفا عندي لأنه من بلدة أخرى ..وقد رأى أن نتربص بعد صلاة العصر على كورنيش النيل ، وبينما نحن نسير فى هذا الطريق والجو هادئ وممتع رأى صديقي رجلا قادما يبدو أنه قطع الطريق الذي بدأنا فيه ثم قفل راجعا فقال لي إن هذا الرجل القادم صديق له ، والتقينا به فإذا به شاب فى ربيع العمر معمم وذو لحية عريضة فتعانقا وصافحته .. وأخذ صديقي يعتب عليه فى انقطاعه الطويل عنه ، فاعتذر قائلا ، إنني كنت نزيل المستشفى مدة تزيد على الشهر ولم أغادرها إلا منذ أيام ، فسأله صديقي عن سبب دخوله المستشفى فقال : السبب هو جهل هذا الشعب وسوء أدبه ووقاحته فسأله صديقي وما علاقة هذا بدخولك المستشفى ؟ .. قال : أوفدتني الجمعية فى الإسكندرية لألقى درسا فى مسجد ( حدده ) بالرمل ، فجعلت موضوع الدرس (( الصلاة فى النعلين )) فقلت للناس إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى فى نعليه فقال لي أحد الحاضرين : لم تكن الشوارع فى مكة والمدينة بها من النجاسات مثل ما فى شوارعنا ثم إنهم كانوا يصلون على الحصى ... قال فقلت لهم : هذه سنة وعلينا أن نقتدي بالرسول وأن نصلى فى نعالنا ندلكها ثلاث مرات ثم ندخل المسجد بها ونصلى فيها فقامت اعتراضات كثيرة من أنحاء المسجد فوقفت وأمسكت بنعلي وقلت لهم : أليس هذا نعلى ؟ .. قالوا : بلى قلت : انظروا وأخذت أدلك بهما وجهي وأقول : لكي تقتنعوا . فرأيتهم قد قاموا وهجموا على بنعالهم وظلوا يضربوني بها حتى فقدت رشدي ولم أدر إلا وأنا بالمستشفى ومعظم أجزاء رأسي ووجهي وذراعي وظهري وصدري عليها الأربطة .
فأخذ صديقي يواسيه حتى طيب خاطره ثم سأله عما جاء به إلى رشيد فقال إن الجمعية أوفدته لإلقاء درس بمسجد المحلى ... فأحسست كأن الله عز وجل أتاح لي فرصة اللقاء مع هذا الداعية الأحمق لأعفى أهل بلدي رشيد من غوائل حمقه . واتصلت بإخواني فى الشعبة فحالوا بين الرجل وبين الاتصال بالجماهير حتى رجع إلى جمعيته عازما على أن لا يعود إلى رشيد مرة أخرى .
أما فى الجامعة فقد كان زملاؤنا الطلبة من أعضاء هاتين الجمعيتين ينتقدوننا قائلين : كان عليكم قبل أن تدعوا إلى ما تدعون إليه أن تدعوا أولا إلى تصحيح العقيدة ومحاربة البدع .. وقد كان لنا مع زملائنا هؤلاء مناقشات مستفيضة وجلسات طويلة انتهت آخر الأمر باستجابتهم للدعوة واقتناعهم بأسلوبها وفكرتها ، فصاروا من أقوى الإخوان إيمانا وأثبتهم على العهد وأجرئهم فى الحق وأصبرهم على مكارهه .
ولم يكن ردنا على إخواننا هؤلاء فى خلال هذه الفترة من حياة الدعوة ردا موضوعيا بحيث نناقش فيه تفاصيل العقيدة وتوصيف البدعة بل كنا نقول لهم : انظروا إلى العالم الإسلامي بجميع أجزائه هل ترون فيه بلدا واحدا حرا طليقا أم أنه جميعا مستعبد رازح تحت أثقال من الاستعمار ؟ إن مثلنا ومثلكم كمثل أسرة ورثت بيتا شبت فيه النيران ؛ فهل يتجادل الورثة فى كيفية اقتسام البيت وترتيب أثاثه أم يلقون بحقوقهم فى الاقتسام جانبا ويتفرغون متحدين أولا لمكافحة النيران ؟ ....
وقبل أن نختم الحديث عما كان من علاقات بيننا وبين الهيئات الدينية فمن حق هذه الهيئات أن نقرر أن الخلاف بيننا وبينها لم يكن خلافا عميق الجذور كذلك الذي كان بيننا وبين سواهم من القطاعات وإنما كان خلافا أخويا كانت الغيرة على الإسلام الباعث من ورائه ، وإذا كان من صور منفرة فإنها لم تكن إلا من أفراد معينين أو مجموعات محددة لا ينبغي اتخاذها أساسا فى الحكم على هذه الهيئات العتيدة التي يرجع إليها فضل كبير فى إثراء الدعوة بأكرم مجموعة من رجالها وأنصارها .
الأسلوب الخامس : الاتصال بزعماء المسلمين فى مصر والخارج :
بدأت الجهات التي نعمل باسم الإسلام الرسمي منها وغير الرسمي تحس بوجود الإخوان . وأخذ المجاهدون القدامى يتنسمون فى الإخوان روح التضحية المؤمنة التي طالما افتقدوها ؛ فأخذوا يأوون إلى كنف الدعوة بطرق مختلفة ليس بينها الطريقة العلنية الظاهرة .
التقى الأستاذ المرشد فى تلك الحقبة من المجاهدين القدامى عزيز المصري ومحمود لبيب وعبد الرحمن عزام وصالح حرب ومحب الدين الخطيب ... وأذكر يوم زار عبد الرحمن عزام الأستاذ المرشد بهذه الدار أنني كنت فرحا ،لأنني كنت أعلم الكثير عن هذا الرجل أيام سياحتي فى مركز أبى المطامير حيث مكثت نحو شهر أنتقل بين كبار رجالاته وشيوخه الذين كان لهم تاريخ مازال مجهولا هذا الشاب عبد الرحمن عزام وإيمانه وبسالته وتضحيته .....
ولما كنت أعلم عن اتصاله بالسنوسية ، وحرصا منى على تجلية فكرة الإخوان له ، كتبت فى مجلة النذير مقالا عن السنوسية - والسنوسية دعوة قام بها السيد أحمد الشريف السنوسي فى ليبيا وكانت تقوم على التصوف والجهاد ، وكان لها أتباع كثيرون هم الذين قاوموا الاستعمار الايطالي المؤيد بالنفوذ البريطاني وكان منهم عمر المختار ، وصار منهم عبد الرحمن عزام حين أعلنت إيطاليا الحرب على المجاهدين السنوسيين فترك عبد الرحمن عزام دراسته فى كلية الطب فى مصر وتطوع مع المجاهدين السنوسيين وأبلى أعظم بلاء - وقد تحدثت فى هذا المقال عن تسلسل قيادات الدعوة الإسلامية فى العصر الحديث ومنها جمال الدين الأفغاني ثم الإخوان المسلمون ، ووازنت بين هذه الأطوار للدعوة الإسلامية ؛ وأثبت أن دعوة الإخوان قد استوعبت الدعوتين وزادت عليهما بنظام أشمل ، وقيادة أشد إحكاما وأبعد نظرا .
وعزيز المصري كان من قواد الجيش المصري الذين لم يطلق الإنجليز وجودهم فيه ، وكان هذا الرجل من المؤمنين بالفكرة الإسلامية وبالدولة الإسلامية العالمية ، وقد عمل مع الترك أيام الخلافة العثمانية باعتبارها رمزا للدولة الإسلامية وله فى ذلك المجال تاريخ مجيد ... وعلى شاكلة عزيز المصري كان صالح حرب فقد كان هو أيضا غصة فى حلق الإنجليز ... وقد توفى فى تلك السنة الدكتور عبد الحميد سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين فرشح الأستاذ المرشد اللواء صالح حرب خلفا له . ومحب الدين الخطيب كاتب إسلامي أشرت إليه فى صدر هذه المذكرات ، وكان بلا شك أعظم كاتب صحفي إسلامي فى مصر ، وكان من أوسع الناس علما وخبرة بالتاريخ الإسلامي والحركات الإسلامية القديم منها والحديث .
أما محمود لبيب فكان زميلا لعزيز المصري وصالح حرب ، وله جولات فى تركيا مركز الخلافة ، وله إحاطة بتاريخ الحركات العسكرية السري منها والعلني ، وكان يمتاز بأنه رجل عمل ، عميق الإيمان ... وقد قطع حياته العسكرية عند رتبة الصاغ ( الرائد ) وكرس حياته بعد ذلك للعمل الصامت للدعوة الإسلامية ... وله فى دعوة الإخوان آثار بعيدة المدى سنتحدث عنها فيما بعد إن شاء الله .
أما شمال أفريقيا وهو المغرب العربي وإن كانت الظروف السياسية لم تتح لمقابلات بين المجاهدين فيه وبين الإخوان فإن الإخوان كانوا حريصين على مراسلة هؤلاء المجاهدين للتعرف على حقائق الأحوال عندهم فكانت هناك مراسلات بيننا وبين عبد الحميد بن باديس فى الجزائر الذي كان يتزعم حركة لمقاومة خطة ( فرنسة ) الجزائريين للقضاء على عروبتهم وإسلامهم ، فكون جمعية جعلت مهمتها إنشاء مدارس إسلامية وكانت السلطات الفرنسية تلاحق هذه المدارس بالقوانين الجائزة التي تضيق الخناق عليها وتضع العقبات فى طريق إنشائها وفى طريق الملتحقين بها والمتخرجين فيها ....
وكانت هناك مراسلات بيننا وبين المجاهدين فى مراكش مثل علال الفاسى وحزبه الذين كانوا يقاومون الاستعمار الفرنسي ويقاومون (( الظهير البربري )) وهو قانون أصدره الفرنسيون بذروا به بذور الشقاق بين عنصري الأمة المغربية التي تتكون من العنصر البربري وهم سكان البلاد الأصليون ، والعنصر العربي وهم السكان الفاتحون ... ولما كان طبيعة الإسلام تقضى على النعرات القبلية والدعوات العرقية فقد أنصهر العنصران فى بوتقة الإسلام وخرج من الانصهار شعب لا يعرف انتماء إلا إلى الإسلام فجاء الغزاة الفرنسيون ليوقظوا ما أماته الإسلام من التعالي بالآباء والأجداد ... وقد استمات هؤلاء المجاهدون من كلا العنصرين فى مقاومة هذه الفتنة وكان صدى هذه المقاومة لا يحس به فى مصر إلا الإخوان المسلمون ولا يظهر أثره إلا على صفحات مجلاتنا .
ولا داعي هنا لذكر مفتى فلسطين وزعمائها ومجاهديها فهذه قضية تبنتها الدعوة عند إنشائها يوم كان ساسة مصر وزعماؤها يعلنون أنهم ليسوا مسئولين عن هذه القضية ولا يعنيهم أمرها .
ولقد كان المجاهدون فى خارج مصر يشعرون أن قد صار لهم بوجود الإخوان موئل ومكان وصدر مفتوح ذراعاه دائما يتلقاهم فى شوق وحب ، فكانت وسائلهم تنهال على المركز العام .. ولا أنسى يوم سمحت سلطات الاستعمار للأمير شكيب أرسلان - وكان منفيا من بلاده سورية بأمر الفرنسيين إلى سويسرا ، وسمح له بالرجوع إلى سورية فرأى أن يمر على مصر - لم يكن مسموحا له بالإقامة فيها - فأبرق إلى الإخوان بموعد مروره ، فتلقاه الأستاذ المرشد والإخوان وتعانق الجميع كأنما كانوا أصدقاء منذ نعومة الأظفار مع أن أحدا منهم لم ير الآخر من قبل (( ولكن الشكوك أقارب )) .
والأمير شكيب أرسلان ليس أميرا بالمعنى المتعارف عليه من الانتساب إلى بيت مالك ؛ وإنما أمره قلمه ؛ فهو كاتب لا يشق له غبار وقد لقب بأمير البيان . وهو بلا شك أقوى قلم كتب عن الإسلام والدعوة الإسلامية .. لم أقرأ مما كتب عن القرآن والدعوة الإسلامية أقوى ولا أنفذ إلى لب المعاني مما كتب الأمير شكيب فى مقدمة كتابه (( حاضر العالم الإسلامي )) .
وإذا كتب مؤرخ عن الدعوة الإسلامية العصر الحديث فلابد أنه سيكتب عن كتاب ( حاضر العالم الإسلامي ) لأنه أوسع وأوضح وأجمع ما كتب عن هذا الموضوع . والأصل فى هذا الكتاب رحلة قام بها مستشرق أمريكي يدعى (( ستودارد)) طاف فيها بأنحاء العالم الإسلامي وكتب عما شاهده رسالة أو كتيبا صغيرا سماه (( حاضر العالم الإسلامي )) فجاء الأمير شكيب وعلق على ما جاء بهذه الرسالة فجاء التعليق أكثر من عشرين ضعفا للرسالة وكان التعليق أعظم من الكتاب حتى إن الكتاب كله كان معروفا ومنسوبا إلى الأمير شكيب .. والكتاب مرجع لا ينبغي لمن يرشح نفسه أن يكون داعية للإسلام أن يغفل قراءته . وقد كنت استعرته من الأستاذ المرشد وقرأته - وهو يقع فى أربعة أجزاء - ولخصته فى كراسة فقدت فيما فقد .
مقابلة المرشد لمحمد محمود باشا :
محمد محمود باشا من الشخصيات التي غمطت حقها لأن استمساكها بالمثل وتعلقها بأهداف النبل وترفعها عن الدنايا ، جعلها حصادا سهلا لجحافل تجار السياسة ، وموطئا لينا لمواكب النفاق ومزوري التاريخ وعباد الحكم .... كان رجلا من عظماء مصر الذين ساهموا فى جميع أطوار الجهاد الوطني ، وفى مقدمة المجاهدين ، ولكنه كان ذا دين وخلق ، فأبى أن يتاجر بجهاده كما تاجر زملاء له .
ورث المجد عن آبائه ، وكان على أعلى درجة من الثقافة الغربية ، ولكنه مع ذلك كان حريصا على آداب الإسلام وتقاليد القرية ... فمع توليه رياسة الوزارة أكثر من مرة لم يؤثر عنه أنه أعطى الدنية فى وطنه ، كما لم يؤثر عنه أنه جعل زوجته أو بناته عرضة لا عين الناس ولا نهبا لنظراتهم ؛ بل عاش ما عاش - رحمه الله - وعاشت زوجته وبناته من بعده ما عشن لم تنهشهن عين مصري ولا أجنبي .
ولم أكن أعلم عن هذا الرجل إلا ما نوهت عنه مما فيه الكفاية أن يجعل صاحبه موضع التقدير والتبجيل والاحترام - كما لم يكن غيري من الناس يعلم عنه أكثر من ذلك - حتى كنت فى إحدى رحلاتي لنشر الدعوة فى إقليم البحيرة فى أواخر الثلاثينيات وقضيت فترة منها فى مركز أبى المطامير ، واتصلت هناك بشيوخ القبائل ورجالات المنطقة فكشفوا لي فى ثنايا أحاديثهم عن صفحة مجيدة مطمورة من تاريخ هذا الرجل ، عمل أعداؤه على حجبها عن الشعب ، ولم يحاول هو الكشف عنها مع أنه كان قادرا على ذلك فقد تولى رياسة الوزارة أكثر من مرة - كما قدمت - مكتفيا بما عند الله .
قال لي هؤلاء الشيوخ :
لما أعلنت إيطاليا الحرب علي المسلمين في ليبيا ، شدد الانجليز قبضتهم علي مصر حتى تقطع الصلة بينها وبين ليبيا فلا يتسرب إلي ليبيا من مصر شيء من المساعدة المادية أو الأدبية في خلال تلك الملحمة غير المتكافئة حتى يتم لإيطاليا افتراس ليبيا والقضاء التام علي المجاهدين فيها .. وكان للانجليز في كل محافظة في مصر موظفون من الانجليز يشغلون المناصب الحساسة فيها حتى يكونوا عيونًا علي الموظفين المصريين الكبار والصغار . وكان محافظ البحيرة في ذلك الوقت هو محمد باشا ؛ فرأي الرجل أن وقوف المصريين موقفاً سلبيًا من إخوانهم في ليبيا لا يليق ولا يقره عرف ولا دين ؛ فاتصل سرًا بشيوخ مركز أبي المطامير علي أن يعدوا قوافل من الطعام والسلاح والذخيرة ليرسلوها إلي المجاهدين في ليبيا من طرق غير مطروقة ، وكلما أعدوا قافلة أخبروه قبل إطلاقها في الطريق حتى يرسل إليها من يلقي القبض عليهم ويودعهم الحجز في المحافظة إلي أن تصل القافلة بسلام ... فإذا ضبط الانجليز قافلة من هذه القوافل لم يكن هؤلاء الشيوخ مسئولين عنها لأنهم كانوا في الحجز قبل ميعاد ضبطها .
وفي سنة 1938 كان هذا الرجل رئيسًا للوزراء . وكان معنا في ذلك الوقت أخ كريم – أنسيت اسمه – كان موظفاً كبيرًا في وزارة الزراعة وكان صديقاً حميماً لمحمد محمود باشا ... ولشدة إعجاب هذا الأخ بشخصية الأستاذ المرشد أكثر من الحديث عنه لصديقه رئيس الوزراء حتى أغواه بأن يقابله ولكنه اشترط أن تكون المقابلة برياسة الوزارة وأن لا تزيد علي ربع ساعة لكثرة شواغله وارتباطاته ... وتمت المقابلة وتناقش الرجل مع الأستاذ المرشد في مواضيع شتى حتى انتهت ربع ساعة فقام الأستاذ مستأذنًا فرفض الإذن له حتى انتهي الربع الثاني والثالث وهكذا إلي ساعتين كاملتين ... وقام رئيس الوزراء فودعه بنفسه ... فلما قابله صديقه قال له محمد محمود باشا :
" والله لولا العرف والتقاليد لعينت هذا الرجل وزيرًا للخارجية ، وأنا موقف أنه سيجعل لمصر في ظرف أشهر معدودة مكانة مرموقة بين دول العالم " . وناهيك بالعرف والتقاليد في تلك الأيام ... إنها كانت أقوي من القوانين ؛ فلم تكن المناصب الوزارية يتبادلها إلا أشخاص معينون لا يقلون عن سن معينة ، ومن أسر معينة .. وكان الأستاذ في ذلك الوقت شابًا في حوالي الثلاثين ومدرسًا في مدرسة ابتدائية .
لقاء المرشد العام بالملك فاروق :
كان الملم فاروق في ذلك الوقت في مستهل أيامه فقد تولي العرش في عام 1938 ، وكان الناس يتوسمون الخير في الملك الشاب ... وكان الأستاذ المرشد يري أن أقصر طريق لتحقيق أهداف الدعوة ، والأخذ بالأسلوب الإسلامي في إصلاح البلاد إنما يكون بالاتصال بهذا الملك الشاب وإقناعه بالدعوة ... ومعني هذا الإقناع أن يوقن بأن انتهاءه لهذه الدعوة سيصلح البلاد ويحفظ له عرشه .
وفي سبيل إبراز هذه الفكرة إلي حيز الواقع اتصل المرشد برجل محايد كان يأنس في رجاحة عقله وفي صدق وطنيته ونزاهته ، وكان في نفس الوقت من أقرب الشخصيات إلي الملك حيث كان أستاذه من قبل ؛ فذلك هو " علي ماهر " ... وكان علي ماهر من القلائل الذين يتفهمون فكرة الإخوان ويقدرونها كما يقدرون الأستاذ المرشد كل التقدير ، وكان يعرف غير قليل عن قوة الصف الإخواني وتماسكه وكان يري ما كان يراه الأستاذ المرشد من أن أقرب الطرق وأسلمها لإصلاح هذا البلد هو في إقناع الملك بدعوة الإخوان وانتمائه لفكرتهم واستناده إلي صفهم . وكان الإخوان قد أقاموا في صيف ذلك العام معسكراً ضخمًا في "الدخيلة" بجاني الإسكندرية وكان الإخوان من مختلف البلاد يفدون إلي هذا المعسكر ليقيموا فيه أيامًا يرجعون إلي بلادهم ليفد غيرهم ... وكان الأستاذ المرشد شبه مقيم بهذا المعسكر الذي كان مقررًا أن يستمر شهرًا ...
ولقد زرت المعسكر في أواخر الشهر الذي كان محددًا له ضمن مجموعة من إخوان رشيد ، وكنت عازمًا علي قضاء سحابة النهار ثم مغادرته مساء لكن الأستاذ أصر علي بقائنا ثلاثة أيام فنزلنا علي أمره ، ولم أكن أعرف سبب إصراره ولكن تبين لي بعد ذلك أنه كان لأمر هام . كنت أعرف رأي الأستاذ المرشد فيما يتصل بالملك ، ولكني لم أكن أعرف أن استبقاءنا كان ذا علاقة بهذا الشأن حتى جاء اليوم الثالث من فترة بقائنا – وكان يوم جمعة – فإذا بالأستاذ يطلب منا جميعًا أن نرتدي زى الجوالة . ورأيناه قد ارتدي الزى قبلنا ، ثم أخبرنا أن الملك سيؤدي اليوم صلاة الجمعة في مسجد سيدي جابر وبأننا سنكون في استقباله أمام المسجد وبأننا ستصل الجمعة معه ؛ وفهمت بعد ذلك أن هذا الأمر قد اتفق عليه من قبل ، ورتبت خطواته بين علي ماهر والأستاذ المرشد . وقد وضح هذا وضوحًا تامًا ، حين ذهبنا إلي المسجد واصطففنا أمامه وكنا أكثر من مائة جوال يتقدمنا المرشد بملابس الجوالة ، وحضر الركب الملكي يتقدمه الملك بجانبه علي ماهر – وكان في ذلك الوقت رئيسًا للديوان الملكي فيما أذكر – فحييناه هاتفين له وللإسلام ؛ فأخذ علي ماهر بيد الأستاذ المرشد وقدمه للملك فسلم عليه الأستاذ مصافحًا باحترام دون تقبيل يده كما كان العرف في ذلك الوقت – ودون انحناء .
رجعنا بعد صلاة الجمعة إلي معسكرنا ، وكان الأستاذ يشعر بالرضا النفسي لأنه أحس أنه خطا الخطوة الأولي التي كان علي الداعية المصلح أن يبدأ بها ، ثم لا عليه بعد ذلك إن هي لقيت استجابة أم لقيت إعراضًا .. المهم أنه أعذر إلي الله وإلي الناس وإلي التاريخ ... حتى لا يأتي في يوم من الأيام من يقول : لو أن هذا الداعية عرض دعوته علي ولي الأمر قبل أن يسلك بها هذه المسالك . وكنا نعتقد في ذلك الوقت بسذاجتنا وحسن ظننا أن الله تعالي قد اختصر لنا الطريق ، واختار لنا غير ذات الشوكة ، وأن هذا الشاب الذي يبدو وادعًا في مظهره ، وبجانبه الرجل العاقل علي ماهر لابد أنه سيتجه اتجاهًا إسلاميًا فيسعد ويسعد الناس ... ولم نكن نعلم ما خبأه القدر لنا كدعوة ولهذا الشاب كملك طائش مغامر ... وكأنه قد غاب عنا أن حاشية هذا الشاب . وإن كان فيها علي ماهر فإن فيها ألف شيطان .
الفصل الثاني : الأخذ بأساليب عملية في التكوين والتربية ونشر الدعوة :
كان أسلوب التربية في دار الناصرية يتمثل في درس كان يلقيه الأستاذ المرشد ليلة في الأسبوع في مسجد الدار الصغير ، ويحضر هذا الدرس من شاء من الإخوان فقد يحضر مرة عدد قليل وقد يكثر حاضروه في مرة أخري ، وكان هذا الدرس يستغرق نحو الساعة ... ثم تحول هذا الدرس فترة من الزمن إلي درس في تلاوة القرآن ، ولا أنسي أنني أفدت من هذا الدرس في التلاوة وكان يقرأ سورة يونس هي كلمة "يهدي" فقد كنت أقرأها بغير تشديد الدال وذلك في قوله تعالي " أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي " .
وكان أكثر وقت الأستاذ المرشد يقضيه في إقناع شخص أو شخصين بالدعوة ، وكذلك كنا نفعل ، وتستطيع أن تقول إن هذه الفترة كانت طور الدعوة الفردية ، حيث لم يكن ممكنًا أن تقوم تنظيمات علي غير أشخاص ؛ فمادام العنصر الضروري غير موجود وهو الأشخاص المؤمنون بالفكرة الإسلامية المستعدون للعمل لها ، والبذل في سبيلها ، فلا تنظيم ولا تكتيك ... والواجب الذي تفرضه المرحلة هو بذل الجهد لتوفير العنصر الأساسي .
وقبيل الانتقال إلي الدار الجديدة كانت الدعوة قد أثمرت وآتت أكلها سواء في ذلك القاهرة والأقاليم – وقد أشرت إلي ذلك في سياق البعثات الطلابية التي أوفدها الأستاذ المرشد إلي الأقاليم في نهاية العام الدراسي 1936- فلما تم الانتقال إلي الدار الجديدة حيث الموقع والسعة تدفق الشباب إلي الدار ؛ فلما وجدت المادة الخام كان علي الصانع الماهر أن ينتفع بها أتم الانتفاع ، وأن يصهرها في بوتقته ، ويستخلص منها المعدن النقي بعد أن يقشع عنه ما كان يخالطه من شوائب ، وكان عليه أن يصوغ من هذا المعدن ما ينفع الناس .
فلما توفرت المادة الخام بدأ الصائغ الصناع صياغتها بالأساليب التالية :
الأسلوب الأول : نظام الكتائب :
نظام الكتائب نظام فريد مبتكر ، ولعل الأستاذ المرشد قد اشتقه من اجتماعات دار الأرقم بن أبي الأرقم حيث كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يجمع المؤمنين به في ذلك الوقت المبكر – وكانوا قلة – فيبثهم ما عنده ، ويفضي إليهم بذات نفسه ويأخذهم بأسلوب من التربية الروحية العالية حتى خرج من تلك الدار المتواضعة من كانوا أعلام الهدي ومن حملوا شعلة النور الإسلامي فأضاءوا بها جنبات الدنيا .... وهذا النظام بين مختلف أنظمة التكوين بعد نظام التكوين المركز وأسلوب التربية العميقة المباشر لأنه وحده هو النظام الذي يجد فيه الموجه والموجه نفسيهما متجردين متفرغين كل منهما للآخر وجهًا لوجه لا تشغل أيًا منهما عن نفسه ولا عن صاحب شاغله فيكون القلب والعقل معًا في أسمي حالات التهيؤ للتلقي والإلقاء وبالتعبير الحديث للاستقبال والإرسال .
وكان في نية الأستاذ المرشد أنه يتدرج في إنشاء الكتائب حتى يسلك فيها كل إخوان المركز العام علي أن يقوم هو بنفسه فيه بدور التوجيه والتربية ، فبدأ أول خطوة فيه بأن جمع من الرعيل الأول أربعين أخاً كانوا هم الكتيبة الأولي ثم لبث أن جمع أربعين آخرين فكانوا الكتيبة الثانية وكان النظام يقتضي أن تتم كل كتيبة أربعين أسبوعًا .
ويتلخص نظام الكتيبة في الآتي :
1 – تبيت الكتيبة ليلة في الأسبوع في المركز العام ويبيت معهم الأستاذ المرشد .
2 – يصلون مع الأستاذ المرشد المغرب والعشاء .
3 – يتناولون طعام العشاء معًا طعامًا رمزيًا .
4 – يتذاكرون معًا ويتسامرون .
5 – بعد صلاة العشاء بوقت قصير ، وفي لحظة محددة ينامون علي الأرض في حجرة واحدة واسعة ، ويتخذ كل منهم حذاءه وسادة له وينام الأستاذ المرشد معهم علي نفس الهيئة .
6 – يستيقظون قبل الفجر بساعتين ويتوضئون ويتهجدون بعض ركعات فرادي .
7 – نطفأ الأنوار ويجلسون منصتين إلي تلاوة نحو جزء من القرآن الكريم يتلوه قارئ الكتيبة وكان الدكتور محمد أحمد سليمان .
8 – يضاء النور ويستمعون إلي درس من الأستاذ المرشد في التكوين النفسي والروحي والعلمي للداعية مع عرض لتاريخ الدعوات والدعاة ، وبيان مواطن الضعف في كل منها وفي كل منهم ، وما يقابل ذلك في الدعوة الإسلامية وكيف يتجنب الداعية مواطن الضعف التي عصفت بسابقيه .
9 – فترة قبيل الفجر للاستغفار .
10- أذان الفجر ثم صلاة الفجر خلف الأستاذ المرشد .
11- توزيع الورد القرآني علي أعضاء الكتيبة وقيام الأستاذ المرشد بتفسيره تمهيدًا لحفظه ، والورد القرآني هو ورقة يجمع فيها الأستاذ المرشد الآيات القرآنية ذات الهدف الواحد ، فورد للإيمان وورد للوفاء وورد للجهاد وورد للتفكر وهكذا ، وسأحاول عرض بعض أمثلة من هذه الأوردة في نهاية الكتابة عن هذا الأسلوب من أساليب التربية إن شاء الله .
12- فإذا طلعت الشمس قرأ الجميع معا في صوت خافت " الوظيفة " وهي أدعية من القرآن الكريم ومن السنة النبوية كان يدعو بها النبي صلي الله عليه وسلم إذا أصبح وإذا أمسي .
13- إفطار بسيط ثم يتجه كل منهم إلي عمله .
ويلحق بنظام الكتيبة أيضًا ما يلي :
(أ)شعار هذا النظام هو " كل وأنت شبعان ونم وأنت مستيقظ " ومعني هذا الشعار الطاعة التامة ، و الالتزام الكامل بالنظام المقرر فقد يكون إلزام نفسك بالأكل وأنت شبعان أثقل علي نفسك من إلزامك بالامتناع عن الأكل وأنت جائع وكذلك نومك وأنت مستيقظ أصعب من استيقاظك وأنت نائم .
(ب) ومن شعار هذا النظام الامتناع عن تناول المكيفات من شاي وقهوة فضلا عن الدخان .
(ج) كان يوزع علي كل فرد من أعضاء الكتيبة في أول كل شهر كشف يسمي استمارة المحاسبة ، وهو يضم عشرين سؤالاً يجيب عليها الفرد كل ليلة حين يأوي إلي فراشه " بنعم أو "بلا " كتابة أمام كل سؤال وفي خانة اليوم حيث يضم لكشف ثلاثين خانة لشهر كامل – وفي نهاية الشهر يجمع عدد " لا " وعدد " نعم " فإذا رجحت " نعم " حمد الله وطلب منه التوفيق إلي الزيادة منها وإذا رجحت " لا " أسف وندم واستغفر الله وجدد التوبة وحاول مراقبة نفسه فيها حددته له الاستمارة من مواطن الضعف في نفسه وفي تصرفاته .
(د) كان يوزع علي أفراد الكتيبة رسالة تسمي " المنهج العلمي " وهي تضم أسماء مجموعة مختارة من الكتب في كل فن من فنون العلوم الإسلامية والتاريخية والتربوية ، ويطلب من عضو الكتيبة أن يقرأ ما يستطيع من هذه الكتب لتزوده بذخيرة من المعلومات تنير له الطريق في دعوته ، وتجعله أهلا لقيادة الدعوة في مختلف الأماكن والظروف .
ولا شك في أن نظام الكتائب هذا هو النظام الأمثل للتربية لأنه يجمع كل وسائل التربية الحديثة التي تحدثت عنها الكتب العلمية المتخصصة ، والتي تدرس علي أنها ترف علمي يحلق بدارسه في آفاق الخيال ؛ جمعها هذا النظام وأخرجها إلي حيز الوجود ، وطبقها تطبيقاً دقيقاً رائعًا ، و صقل بها نفوسًا ، وثقف بها عقولاً ، وسما بأرواح أصحابها سموًا ملائكيًا ، مع مزج هذه النفوس معًا بوتقة واحدة هي بوتقة الفكرة الإسلامية مزجًا صاغ منها صفا متراصًا متماسكًا . ومن تمام روعة هذا النظام أنه لم يكن يقتصر تأثيره علي الليلة التي كانت محددة للمبيت ؛ وإنما كان أثره ممتدًا طيلة الأسبوع ، فكشف المحاسبة أو استمارة المحاسبة كان لابد من ملء خاناتها كل ليلة ، والورد القرآني كان يحفظ ويكرر صباح كل يوم والوظيفة كانت تقرأ كل يوم في الصباح وفي المساء .
وإذا علمنا أن ليالي الكتائب لم تكن كلها تقضي بدار المركز العام بل كان الكثير منها يقضي خارجه ، فقد قضينا بعض هذه الليالي في مدرسة خاصة في شبرا – لا أذكر اسمها الآن – وكنا نصل الفجر في مسجد الخازندار القريب من المدرسة . وأذكر بهذه المناسبة أن الناس تعودوا أن يقرأ الإمام في فجر الجمعة آيات من سورة السجدة تبدأ بقوله تعالي : " وقالوا إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد " وكان الأستاذ المرشد قد تعود أن يقرأ بنا الفجر في هذا المسجد وأخذ في قراءة السورة من أولها – وكان يصلي معنا كثيرون من أهل الحي ممن اعتادوا الصلاة في المسجد – تعالت أصولات المأمومين يقولون " وقالوا إذا ضللنا " ظنًا منهم أن الإمام نسي أن اليوم يوم الجمعة فقرأ بسورة أخري . كما قضينا بعض الليالي خارج القاهرة ، وقد قضينا إحدى هذه الليالي في ضاحية بجانب المعادي اسمها " البساتين " وفي صباح تلك الليلة باشرنا أنواعًا من الرياضة منها ركوب الخيل .
وكان من روعة هذا النظام أننا كنا نري قائدنا وإمامنا لا يتميز عنا بشيء في مأكل ولا مشرب ولا ملبس ولا منام بل كان هو أكثرنا تضحية حيث كنا في ذلك الوقت عزابًا وكان هو يترك بينه وزوجته وأولاده ، الأمر الذي زادنا حبًا له وإجلالاً . وأثر هذا النظام وروعته لا يكاد يحس بعمقها في النفوس ، ولا بامتزاجها بالقلب إلا من كابده وعاناه . وحسبك أن تتصور إنسانًا خرج من بيته مهاجرًا إلي مكان ما ، وفي هذا المكان تجرد من مظاهر الدنيا فاتخذ الأرض فراشه ، وحذاءه وسادته ثم في وقت السحر قام من نومه وتوضأ وناجي ربه في سجوده ثم استمع في هدأة الظلام إلي جزء من القرآن يتلوه متجرد مثله ثم أصغي بعد ذلك إلي حديث من قائد متجرد يبثه ما في نفسه ، ويهدي إليه خلاصة تجربته ، ويذكره بفضل ربه ، ويتركه بعد ذلك يستغفر ربه ويتوب إلي خالقه حتى يؤذن الفجر . وبعد صلاة الفجر ، في هذا الجو الروحي ، وضمن هذه الجماعة الواعية المتجردة تزاول رياضة بدنية عادية داخل الدور إن كان المبيت في الدور – أو رياضة قوية كالسباق وركوب الخيل والمصارعة إن كان المبيت في صاحية خارج الدور .
ثم لا يزال عضو الكتيبة في كل يوم من أيام الأسبوع يعد نفسه للإجابة علي أسئلة استمارة المحاسبة التي لابد أن يقف بين يديها كل ليلة قبل أن يأوي إلي فراشه ، وهذه الأسئلة لا تدع كلمة تكلمها ولا حركة تحركها ، ولا عملا صدر منه ، ولا خاطرًا هجس في نفسه إلا حاسبته عليه وطلبت منه الإجابة في شأنه ... ولا يزال كذلك طيلة الأسبوع حتى يحين موعد الليلة التالية للمبيت بالكتيبة . إن هذا الأسلوب قد خرج ملائكة تمشي علي الأرض ، وخرج مجاهدين لا يخافون في الله لومة لائم ، وخرج علماء بهذا الدين علي نور وبينة منه ، ودعاة يهتدي بهم الناس ؛ وهم مع ذلك أساتذة كل في فنه ومهنته . وفي خلال إقامتنا بهذه الدار – دار العتبة – كون الأستاذ المرشد الكتيبتين الأولي والثانية ولم تتم أي من الكتيبتين المناهج المعدة لها لأسباب سنذكرها إن شاء الله في فصل قادم .
1 – ورد المعرفة :
1 – وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون –
2 – وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون –
3 – وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم . قل أغير الله أتخذ وليًا فاطر السموات والأرض ، وهو يطعِم ولا يُطعم ، قل إني أُمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين . قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين . وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو علي كل شيء قدير . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير –
4 – الله خالق كل شيء وهو علي كل شيء وكيل ، له مقاليد السموات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون . قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون . ولقد أوحي إليك وإلي الذين من قلبك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين . بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ، وما قدروا الله حق والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالي عما يشركون –
5 – وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم . وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون –
6 – فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين ، وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم –
7 – قل إني أسرت أن أعبد مخلصًا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين . قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل الله أعبد مخلصًا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين . لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون –
8 – هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم . هو الله الذي لا إله إلا الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون . هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسني يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم –
9 – يا أيتها النفس المطمئنة . ارجعي إلي ربك راضية مرضية . فادخلي في عبادي وادخلي جنتي –
10- قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد –
2 – ورد الوفاء :
1 – يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون –
2 – ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتي المال علي حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتي الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون –
3 – ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين . فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون . فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلي يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون . ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب –
4 – أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمي إنما يتذكر أولوا الألباب . الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق . والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب . والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرًا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبي الدار . جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب . سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار –
5 – وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون
6 – وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا –
7 – من المؤمنين رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا –
8 – إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث علي نفسه ومن أوفي بما عاهد عليه فسيؤتيه أجرا عظيمًا –
9 – لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحًا قريبًا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزًا حكيمًا –
10- يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون . كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون . إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص –
3 – ورد التفكر :
1 – إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون –
2 – إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلي جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار –
3 – إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ذلكم الله فأني تؤفكون . فالق الإصباح وجعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا ذلك تقدير العزيز العليم . وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون . وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرًا نخرج منه حبًا متراكبًا ، ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه . أنظروا إلي ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون –
4 – إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوي علي العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين –
5 – هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورًا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون . إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله السموات والأرض لآيات لقوم يتقون –
6 – الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوي علي العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي ، يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم توقنون . وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين غشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون . وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقي بماء واحد ونفضل بعضها علي بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون –
7 – وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحمًا طريًا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وتري الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون . وألقي في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون ، وعلامات وبالنجم هم يهتدون –
8 – ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين . ثم جعلناه نطفة في قرار مكين . ثم خلقنا النظافة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين –
9 – ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود . ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه وغرابيب سود . ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشي الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور -
10- الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله علي كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما –
4 – ورد المراقبة :
1 – وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين . وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمي ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعلمون . وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهو لا يفرطون ، ثم ردوا إلي الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين
2 – وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهود أإذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين –
3 – سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار . له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله –
4 – إن ربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون . وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين –
5 – يا بني أنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله ، إن الله لطيف خبير . يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر علي ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور –
6 – وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون . وذلكم ظنكم بربكم أرادكم فأصبحتم من الخاسرين –
7 – أم أبرموا أمرًا فإنا مبرمون . أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بل ورسلنا لديهم يكتبون –
8 – ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد . إذ يتلقي المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد . ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد –
9 – ألم تر أن الله يعلم ما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدني من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم –
10- وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور . ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير –
5 – ورد الإخلاص :
1 – صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ، قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون –
2 – يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا الله عليكم سلطانًا مبينا . إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرًا . إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرًا عظيما . ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرًا عليمًا –
3 – إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين . وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئًا وسع ربي كل شيء علمًا أفلا تتذكرون . وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانًا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون . الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون -
4 – قل إني هداني ربي إلي صراط مستقيم – دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين . قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين . قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وزرة وزر أخري ثم إلي ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون –
5 – قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا –
6 – إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصًا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار . لو أرادوا الله أن يتخذ ولدًا لاصطفي مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار –
7 – قل إني أسرت أن أعبد مخلصًا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين . قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل الله أعبد مخلصًا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين . لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون –
8 – هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقاً وما يتذكر إلا منن ينيب . فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون –
9 – الله الذي جعل لكم الأرض قرارًا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين . هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين –
10- وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ذلك دين القيمة –
6 – ورد الإيمان :
1 – يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين . الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل . فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم . إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين –
2 – ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي بالإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا . فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثي بعضكم من بعض ، فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيل الله وقاتلوا أو قتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابًا من عند الله والله عنده حسن الثواب –
3 – إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلي ربهم يتوكلون . الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم –
4 – إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولا يتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا علي قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير –
5 – إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعدًا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم .التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين –
6 – قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون . والذين هم عن اللغو معرضون . والذين هم للزكاة فاعلون والذين لفروجهم حافظون . إلا علي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغي وراء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم علي صلواتهم يحافظون . أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون –
7 – ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلكم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين –
8 – لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا . ولما رأي المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا . من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا –
9 – قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئًا إن الله غفور رحيم . إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون –
10- فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير . يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ورسوله ويعمل صالحًا يكفر عنه ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ذلك الفوز العظيم
الأسلوب الثاني : نظام الجوالة :
عند الحديث عن الدعوة في دار شارعه الناصرية فاتني أن أذكر أنه كان مما اشتملت عليه حجر المركز العام حجرة صغيرة لفرقة الرحلات وكان يرأس فريق الرحلات الطالب محمد أحمد سليمان بكلية الطب والذي أذكره أننا جميعًا كما أعضاء في هذا الفريق ، وكنا نلبس الملابس الخاصة به في المناسبات وكانت هذه الملابس تشبه ملابس ركوب الخيل فهي قميص كاكي وبنطلون كاكي طويل بمنفاخ .. ويخيل إلي أن الأستاذ المرشد رسم في ذهنه صورة لوسائل إبراز حقيقة الدعوة الإسلامية ، فوجد أن هذه الصورة لا تكتمل إلا بوجود مظهر للقوة البدنية ولم يستطع التعبير عن هذا المظهر في ذلك الوقت كما لم تسعفه الوسائل إلا بتخصيص حجرة من حجرات المركز العام وإن كانت أصغرها لهذا النشاط ووضع علي بابها لافتة باسم هذا النشاط وإن ظلت هذه الحجرة مغلقة دائمًا أو ما يقارب الدوام .
كما أنه أراد في دار شارع الناصرية أن يعبر عن معني الجهاد في الفكرة الإسلامية فكلف نجارًا – بإرشاد من أحد العسكريين – بصناعة أنموذج لبندقية ، وكان هذا الأخ العسكري يدربنا في فناء الدار بل استعمال البندقية في مختلف الظروف والأوضاع بهذا النموذج الخشبي . فلما تم الانتقال إلي الدار الجديدة في العتبة ، ووجدت السعة ، ووجد الشباب المتطلع إلي الحركة والنشاط رأي الأستاذ الفرص مواتية لإبراز الصورة التي في ذهنه إبرازًا أوضح فطور فريق الرحلات إلي فريق الجوالة .
والصورة التي رسمها الأستاذ في ذهنه منذ قام بدعوته في الإسماعيلية عن هذا الجانب من نشاط الدعوة لم تكن هي فريق للرحلات أو فريق الجوالة ، وإنما كانت فريقاً عسكريًا يحقق فكرة الجهاد في الإسلام ؛ إلا أن الرجل وقد آتاه الله الحكمة " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا " لم يكن يؤمن بالطفرة ، بل كان يؤمن بالتطور وبأنه قانون الحياة ، ولابد للدعوات أن تخضع لقوانين الحياة ، إذا هي أرادت أن تشق طريقها ، ولم يكن الرجل يتجاهل ما حوله ولا يتعامي عما بين يديه ، فتدرج بالصورة التي في خاطره تدرج الأم بمولودها . وكان هذا الرجل – بثاقب فكره ، ومرهف حسه ، وبخاصية أودعه الله إياها – يتحدث إلي الناس عن أمور يراها هو واقعة لا محالة ، وهي في خواطرنا شيء من هواجس النفس وأوهام الخيال ؛ فإنه كان يعد من حياطات الحذر من أخطار يتوقعها ولا نكاد نصدق وهو يحذرنا منها ... ثم لا تقع هذه الأخطار إلا بعد سنوات ... وعندما تواجهنا نري أسباب الحيطة التي اتخذها منذ سنوات – دون مبرر في نظرنا إذ ذاك – هي وحدها التي تحضننا إزاء هذه الأخطار .
كان الأستاذ يتحرق شوقاً إلي إبراز الدور العسكري لتجلية فكرة الجهاد ، ولكنه رأي الدعوة لازالت في مهدها ، ولم تتجاوز في طورها الجديد مرحلة الحبو ، ورأي الحكومات المصرية ومن ورائها الانجليز لابد أنهم متربصون – في يوم ما – بالدعوة الدوائر لأنها عدوهم الأساسي ؛ إذن فلابد من أن تتحاشى الدعوة في هذا الطور كل ما يعتبرونه في عرفهم خروجًا علي القانون . وكنا إذ ذاك في الثلث الأخير من الثلاثينيات وكان تكوين منظمات عسكرية لا يعد خروجاً علي القانون فحسب بل يعد إحدى الكبائر ، ... لهذا لجأ إلي إبراز الطور الجديد في خاطره ، إلي مظهر ألبسه لباس القانون . لم يكن في مصر إذ ذاك صورة فيها رائحة العسكرية مسموح بها إلا جمعية الكشافة الأهلية ، وكان صغار السن من المنتسبين إليها يسمون " كشافة " وكان الكبار يسمون " جوالة " وصار الإخوان المسلمون فرقة جوالة منتسبة إلي جمعية الكشافة الأهلية .
وتبني الإخوان قانون الكشافة وهو يتمشي مع الفضائل الاجتماعية التي يدعو إليها الإسلام ، وأذكر أننا لم نعدل فيه إلا لفظاً واحدًا من إحدى مواده التي تقول : وأن أطيع رؤسائي طاعة عمياء ، عدلناها إلي طاعة تامة لأن الإسلام لا يعترف بالطاعة العمياء – وشرحنا قانون الكشافة بآيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلي الله عليه وسلم وربما كان فريق الإخوان المسلمين هو الفريق الوحيد من المنتسبين إلي جمعية الكشافة الأهلية الذي استعمل هذا القانون استعمالا كاملا وطبقه أحسن تطبيق .
مشكلة الملابس :
بانتساب جوالة الإخوان إلي جمعية الكشافة الأهلية صاروا ملزمين بملابسهم المميزة الموحدة وهي تتكون من قميص كاكي وبنطلون كاكي قصير ... ولما كان الإخوان قد تعودوا أداء الصلاة في أوقاتها مهما كانت الظروف فإنهم كانوا يؤدون الصلاة وهم في هذه الهيئة حين يحين وقت الصلاة ... فانطلقت أفواه واسعة تسلقهم بألسنة حداد ، وكانت هذه الأفواه لطائفتين ؛ طائفة دفعتها الغيرة علي الإخوان ومبلغ علمهم أن هذه الهيئة تتنافي مع الصلاة ، والطائفة الأخرى من أولئك الحاقدين الملتمسين للبرءاء تشنيعًا ؛ فما كادوا يرون الإخوان يصلون في هذه الهيئة حتى ذهبوا يملأون الدنيا تشنيعًا ، وكانت الجمعيات الإسلامية التي أشرنا إليها في الفصل السابق من الطائفة الأولي . وظل الإخوان صابرين تحت هذا الوابل من النقد اللاذع أكثر من عام حتى وجد الأستاذ المرشد حل هذا الإشكال في كتاب البخاري تحت عنوان علي ما أذكر " ما تجوز الصلاة فيه " وكان المرشد يقول إن الإمام البخاري في كتابه الصحيح لم يكن مجرد محدث فحسب بل كان فقيهًا مجتهدًا صاحب مذهب والعناوين التي جعلها لأبواب صحيحه هي آراؤه ومذهبه وتحت هذا العنوان حديث معناه : أن رجلا جاء إلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسأله من الملابس التي يؤدي بها الصلاة فقال له : " صل في ثوبين ، صل في ثوب وسروال في ثوب واحد ، صل في كذا ... حتى قال له صل في تبان " هو ما يلبسه المصارعون .
ويكاد يكون هناك ما يشبه التلازم بين الكتائب والجوالة فعضو الكتائب يكون في أغلب الأحيان جوالا لأن الأستاذ المرشد كان هو رئيس النظامين ؛ وإذا استثنينا الكتيبتين الأوليين اللتين تحدثت عنهما فإن أسلوب الجوالة كان في أكثر الأحوال هو الخطوة الأولي للشباب الذين انضموا تحت لواء الدعوة لأنه نظام عسكري المظهر فيه معني الفتوة التي تستهوي الشباب ، وكم من الشباب تم إصلاحه وظهرت مواهبه عن طريق نظام الجوالة وكان من قبل شبابًا لاهيا عابثًا . وقد لا أكون مغاليًا إذا قلت إن نظام الجوالة بما فيه من مبادئ وأهداف رفيعة تحث علي الأخوة والإيثار والشجاعة والمروءة والتضحية لم يكن له وجود قبل إنشاء جوالة الإخوان المسلمين ، فلقد كنت علي اتصال بهذا النظام منذ كنت طالبًا بالدراسة الثانوية وكنت أتتبع أخباره في مختلف البلاد المصرية وكان هذا سببًا في أنني رفضت أن أنضوي تحت لوائه لأنني لم أر فريقاً من المنتسبين إليه كان جادًا في انتحال مبادئه والاهتداء بتوجيهاته : حتى إني أسأت الظن بالنظام نفسه واتهمته بأنه في ذاته نظام غير جاد ... فلما انتسب الإخوان إلي هذا النظام شعرت كأنما كان هذا النظام جسدًا لا روح فيه فكان الإخوان هم روحه ردت إليه فبعثت فيه حرارة الحياة .
ولقد كان نظام الجوالة في الإخوان المسلمين وسيلة لإصلاح الشباب بطريقتين :
الطريقة الأولي أن الشباب الذين انتظموا في سلكه صاغهم كما قلت صياغة جديدة بعثت من أعماق نفوسهم ما كان كامنًا فيها من طاقات خارقة ، ومواهب باهرة ، وصاروا مثلا عليا في الاستقامة والإيثار والتضحية ، والطريقة الثانية بما كانت تبعثه جموعها الحاشدة ، وطوابيرها المنتظمة ، وخطواتها المتسقة ، وطبولها المثيرة ، وهتافاتها المزلزلة ، وعسكريتها غير المحترفة ؛ من روح تشعر هذا الشعب بأن للحق قوة تحميه فتطمئن قلوب تحب الحق ولكنها كانت خائفة ، وتهتز فرقاً قلوب كانت سادرة في الباطل فكانت تجاهر بباطلها اعتمادًا علي أن الطريق أمامها سهل مفتوح ، فلما رأت بعينها قوة الحق انكمشت بباطلها مستخفية مرتجفة . وقد يجمل بي – في صدد حديثنا عن الجوالة – أن أنقل للقارئ من قصيدة لعمي الأستاذ محمود عبد الحليم الكبير رحمه الله وكان شاعر رشيد ونائب شعبة الإخوان بها يصف فيها هذه الفرق العتيدة ، التي أخذت بلبه ، وأشعلت جذوة الأمل في نفسه فقال :
قفا نحيـي الشـباب الناهضين قفـا الرافعين لمصـر ذكرهـا شـرفـا
وكـبروا لرجـال كالـسيوف تـري نظم السيـوف وتجواب الفلا ترفـا
سـاروا بقـلب يروع الأسـد جرأته وصدق عـزم إلي العلـياء منصرفا
تقـلدوا الجـد والإقـدام واطرحـوا ثوب النعيم وعافـوا اللهـو والسخفا
واستبطنوا محض حب الخير واستبقوا واستظهروا حكمة في نصرة الضعـفا
أهـلا بفتيان صـدق شب جمعهـمو علي المروءة والإخــلاص وائتـلفا
فهم ليوث . علي النفس اعتمادهمـو لا يضمرون لمــا ينـتابهم آسفـا
طابوا نفوسـًا كما طابت شمـائلهـم وللفضيلـة أضحـي حبـهم كـلفـا
راضوا نفوسـاً بخفض العيش منبتها واستبدلوا بمجــاني خفضه شظفـا
شعارهم أن خـذوا للدهر أهبتـكـم فيما نكدر من حالاتـه وصـفـــا
فـإن تصونوا قوي الأبدان نامـيـة حفظتمو الروح والأوطـان والخلفـا
إن الحيـاة كبيداء فـإن لبــسـت برد الشبـاب تبدت روضـة أنفــا
وليس أعجز ممن قد أنبـح له المـ ـحيا معافـى ولاقي حتـفه دنفــا
وجوهر الروح أسمي في الحقيقة من أن يرتضي المرء مختـارًا له التلفـا
الله فيهـا فقد شاءت عنـايـتـــه باللؤلؤ الرطب أن سوي له الصـدفا
والشعب إن زاد للعلـيا تعطـشــه ففي قوي النشء منه تعليـل شفــا
يخوض غمـرة هول الدهر مقتحمـا ويمتطي غـارب البيداء معتسقـــا
إن صوب الدهر سهمًا قـام معترضا في وجهـه ناصبًا أبطاله هدفــــا
من كل عضب إذا شاقتـه مكـرمـة مضي سراعًا وإن شام الحنـا صدفـا
يهتـز للـبر إذ يدعي لـمرحـمـة مساعـفًا أو رأي مسـتنجـداً هتـفا
فمـا دعوه " بكشـاف " مجـازفـة حتى رأوه لعـادي الضر قد كشـفـنا
تلك الفضائل .... ما ترعون حرمتها أرضيتم الله والأوطــان والسـلفـا
ستشكون مصـر والتاريخ نهضتكـم ما مجـد الدهر من تاريخـها صحـفا
وأيام كانت الهيئات السياسية تنشئ فرقاً عسكرية من شبابها ، كانت جوالة الإخوان المسلمين موضع سخرية من هذه الهيئات ذات القمصان الملونة فالقمصان الزرقاء للوفد والقمصان الخضراء لمصر الفتاة وكانت مصر الفتاة تتيه علينا بفرقها ذات القمصان الخضراء وترمينا بالضعف لركوننا في فرقنا إلي نظام رسمي ، وكنا نشكو إلي الأستاذ المرشد حملاتهم علينا في هذا الصدد ونتمنى لو أن الأستاذ قبل رجاءنا وخلصنا من نظام الجوالة لمكون فرقاً ذات قمصان بلون نختاره ؛ فكان الأستاذ يطمئن نفوسنا ويقول لا تعبأوا بأقوالهم واصبروا وسترون أن العاقبة لنا ... ودارت الأيام وجاءت حكومة أصدرت قانونًا يحرم علي الهيئات أن تكون لها فرق عسكرية أو شبه عسكرية ذات قمصان ملونة فألغيت هذه الفرق بين يوم وليلة ولم تبق إلا فرق جوالة الإخوان لأنها نظام معترف به في الدولة والفرق مسجلة في جمعية الكشافة الأهلية ؛ ... وقد رأينا أن الرجل كان أبعد نظرًا منا ومن غيرنا .
وكان لنظامي الكتائب والجوالة أنشدة تومئ إلي أهداف الدعوة ومعانيها فكان النشيد الأول الذي كنا ننشده بدار الناصرية وردحًا من دار العتبة هو نشيد " يا رسول الله " من نظام الشيخ الباقوري وهذا نصه :
يا رسول الله هـل يرضـيك أنـا إخـوة في الله للإســلام قمنــا
ننفض اليوم غبـار النوم عنـــا لا نهـاب المـوت لا بل نتـمنى
أن يرانا الله في سـاح الفــداء
إن نفسًا ترتضي الإســلام ديـنا ثم ترضي بـعــده أن تستكـينا
أو تري الإسـلام في أرض مهـينا ثم تهـوي العيش نفس لن تكونا
في عـداد المسـلمين العظمـاء
حبـذا الموت يريـح البائـسيـن ويـرد المــجـد للمستعبديـن
فلنمت نحن فــداء المسـلميـن سـادة الدنـيا برغـم الكاشحين
وليسد في الأرض قانون السـماء
أن للدنـيا بـنا أن تطهـــرا نحن أسـد الله لا أسـد الســري
قد قطعـنا العهـد ألا نـقـبرا أو نـري القـرآن دستور الورى
كل شـيء ما سوي الدين هـباء
أيقظـت جمعـية الإخوان فيـنا روح آبـاء كـرام فاتحـينــا
أسعـدوا العالم بالإسـلام حينـا فاستـجبنـا للمعالي ثائـرينا
وتسـابقنـا إلي حمــل اللواء
غــيرنا يرتاح للعيش الـذليل وسوانا يرهـب المـوت النـبيـل
إن حييــنا فعلي مجـد أثـيل أو فنيـنا فإلي ظــل ظـليــل
حسبنـا أنا سنقـضي شهـداء
وحين كنا ننشد هذا النشيد في دار الناصرية اقترحت علي الإخوان تغيير الشطرة التي تقول " أيقظت جمعية الإخوان فينا " إلي " قد أثارت دعوة الإخوان فينا " باعتبارنا أصحاب دعوة لا أعضاء جمعية . ولما انتقلنا إلي دار العتبة نشر عبد الحكيم عابدين ديوانه " البواكير " وكان يضم مجموعة من الأناشيد اختار منها الإخوان نشيدًا سموه نشيد الكتائب وهذا نصه :
هو الحـق يحشــد أجنــاده ويعتـقـد للمـوقف الفـاصــــل
فصفـوا الكتـائب أســـاده ودكـوا به دولـــة البـاطـــل
نبي الهـدي قد جفونـا الكـرى وعفنـا الشهـي مـن المطعـــم
نهضنا إلي الله نحـلـوا السري بروعــة قرآنـــه المحــكــم
ونشهـد من دب فـوق الثـري وتحت السمـا عـــــزة المسـلم
دعــاة إلي الحق لسنـا نـري لـه فــدية دون بــذل الـــدم
هو الحـق يحشــد أجنــاده ويعتـقـد للمـوقف الفـاصــــل
فصفـوا الكتـائب أســـاده ودكـوا به دولـــة البـاطـــل
تآخـت علي الله أرواحـنــا إخـاء يروع بنــــاء الـزمــن
وباتت فــدي الحـق آجـالنا بتـوجيه " مـرشـدنا " المؤتمن
رقاق إذا ما الــدجى زارنـا غمـرنا محــاربينا بالحــــزن
وجنــد شداد إذا رامنــــا لبـأس رأي أســدًا لا تــهـــن
هو الحـق يحشــد أجنــاده ويعتـقـد للمـوقف الفـاصـــل
فصفـوا الكتـائب أســـاده ودكـوا به دولــة البـاطـــل
أخا الكفـر إما تبعـت الهـداه فأصبحـت فينـا الأخ المفتــدي
وإما جهلت فنحـن الكمـــاه نقاضـي إلي الـروع مـن هـددا
إذن لأذقنـاك ضعف الحـيـاء وضعـف الممـات ولـن تنـجــدا
فإنـا نصـول بروح الإلــه و نقفـو ركـاب بنـي الهـــدي
إلي النصر في الموقف الفاصل إلي النصـر في المـوقف الفاصل
المعسكرات :
ويلحق بنظام الجوالة إقامة المعسكرات ، وكان الإخوان بين الفنية والفنية يقيمون معسكرات في ضواحي القاهرة ، وكانت معسكراتهم تدريبًا علي الصبر والاحتمال ، وتعويدًا للنفس علي تحمل أشق الظروف . وكانوا يقيمون هذه المعسكرات باعتبارهم من فرق الجوالة المسجلة في جمعية الكشافة الأهلية ، وكان من حقهم بهذا الاعتبار أن يستغلوا الأماكن التي أعدتها هذه الجمعية لإقامة المعسكرات الكشفية ، فكثيرًَا ما أقام الإخوان معسكرات كانت في بعض الأحيان تستمر طول الصيف في معسكر الكشافة بحلوان ، وكان لكل معسكر برنامج يستوعبه أفراد كل دفعة يتضمن أنواعًا من الرياضة البدنية والتدريبات العسكرية والتربية الروحية ومنها حفظ قدر معين من القرآن الكريم مع تفسيره ، ويعتقد في نهاية المدة امتحان الدفعة قبل تسريحها .
وفي صيف سنة 1938 قرر الإخوان إقامة معسكر عام كبير في الدخيلة في الإسكندرية ، وقرر الأستاذ المرشد أن يكون علي رأس القائمين بأمر هذا المعسكر ، وضربت في أرضه الرملية خيام ضخمة ، وتوافد الإخوان علي هذا المعسكر من مختلف البلاد ؛ فكان بمثابة مركز عام في تلك الفترة ، وكان هذا المعسكر فرصة عظيمة أتاحت لكثير من الإخوان من بلاد مختلفة أن يتعارفوا . كما كانت فرصة لشباب الإخوان أن يجلسوا ويقضوا أيامًا وليالي مع كبار الإخوان ، ويتناقشوا معهم ، ويمتزجوا بهم . وقد كنت عازفاً عن المشاركة في هذا المعسكر ؛ وربما كان سبب ذلك هو أنني حين زرته لأول مرة ؛ أحسست أن فيه ما يشبه الترف إذا ما قيس بما عهدناه من قبل في معسكراتنا ... ولكنني فهمت أخيرًا أن الأستاذ المرشد – الذي كان مقيما في المعسكر – كأنما قصد إلي هذا ليشرك فيه طبقة من الإخوان لم يتعودوا علي معيشة الشطف التي ألفناها ... وقد تحقق ذلك فقد رأيت كثيرين من هذه الطبقة وهو يحاول أن يمزجهم بغيرهم من سائر الإخوان بأسلوبه العذب المحبب ، وقد استطاع فعلا أن يجعل من هذا المعسكر أداة لمزجهم .. ولعل القارئ يذكر أننا نوهنا عن هذا المعسكر في الفصل السابق حين تكلمنا عن لقاء الأستاذ المرشد مع الملك فاروق .
الأسلوب الثالث : لجنة الأربعة والعشرين :
في أوائل صيف عام 1938 بعد أدائنا الامتحانات وقبيل ظهور النتيجة .. وكان ثلاثي كلية الآداب محمد عبد الحميد أحمد وعبد المحسن الحسيني وعبد الحكيم عابدين – وهم يسبقونني في الدراسة بعام – الدفعة الأولي وباكورة الذين يتخرجون في الكليات من طلبة الإخوان ... دعا الأستاذ المرشد إلي اجتماع في بيته في شارع محمد علي ؛ وكانت دعوة شخصية موجهة إلي أشخاص معينين تنبئ عن أهمية خاصة لهذا الاجتماع . والتقينا في بيت الأستاذ فكان اجتماعًا يضم عددًا قليلاً من ذوى السابقة في الدعوة ، وكانت مجموعتنا من الطلبة الذين كانوا يحملون عبء الدعوة ضمن المدعوين .
ثم تكلم الأستاذ فقال ما ملخصه : إن الدعوة قد اتسع نطاقها ، وثقلت تبعاتها ، ولم يعد يكفي أن يحمل عبئها رجل واحد ، وقال إنه فكر في مجموعة تشاركه حمل هذا العبء وانتهي تفكيره إلي عقد هذا الاجتماع الذي يضم من يتوسم فيهم القدرة علي هذه المشاركة . وقال : إن المشاركة في حمل هذا العبء من صاحبها أن يجعل حياته ومستقبله وآماله طوع مشيئته هذه الدعوة ، بحيث يقدم مصلحتها علي مصلحة نفسه ، ويحصر آماله فيها ، ويشكل حياته ومستقبله بحيث تكون هي الأصل ، وكل ما سواها يضحي به عن رضا نفس ... وضرب مثلا بنفسه فقال : إنني كنت أستطيع بما أكرمني الله به من خصائص ، وما حباني به من مواهب أن أسلك طريقاً في الحياة يسرع بي إلي أعلي المناصب ، ويوفر لي ولأسرتي حياة الاستمتاع والرفاهية ؛ ولكنني وجدت هذه الدعوة تقتضيني أن أهبها كل وقتي وكل جهدي ، فلم أتردد في تنكب طريق المناصب والرفاهية ، وعرضت عن ذلك كل الإعراض ، وسلكت الطريق الذي يوفر لدعوتي ما تريد ، وأنا أعلم أن مثل هذا الطريق ليس فيه لي ولأسرتي إلا حياة الخشونة والكفاف .
وتكلم الأستاذ المرشد في ذلك وأفاض ، ونقلنا إلي جو من الجد لم ينقلنا إلي مثله من قبل ، وواجهنا في صراحة بأمور خطيرة لم تعهدها منه من قبل ؛ فلقد كان من عادته – مهما ادلهمت الأمور – أن يكون من الرفق بنا بحيث لا يمسسنا من مخاطرها إلا أقل القليل في الوقت الذي يواجه المخاطرة هو وحده . ولا أدري لعله حتى ذلك الوقت لم يكن يري فينا من النضج ما تكون معه أهلا لمواجهة المخاطر ، وتحمل التبعات . وانتهي في حديثه إلي أنه يريد تكوين لجنة من أربعة وعشرين عضوًا يرشحون أنفسهم من بين الحاضرين يشاركونه حمل أعباء الدعوة علي الأسس التي شرحها ... وقال إنه لا يلزم أحدًا من الحاضرين بما لا يستطيعه بل كل فرد مخير في سلوك الطريق الذي يري أنه الأمثل له في الحياة ، لأن هذا يوم له ما بعده ، وسيقرر كل فرد مصير بنفسه دون إكراه ودون مجاملة ... ومهما اختلفت بنا طرق الحياة فستكون مع ذلك أصدقاء وأحباء .
ومرت فترة ؛ أخذ كل من الحاضرين يراود نفسه ، ويستعرض من آماله ، ويعجم عود نفسه ، ويتخيل ما هو مقبل عليه من تضحيات لن تمسه وحده بل إنها ستشكل حياة أسرته ، ثم أخذ كل واحد يدل ما استقرت عليه نفسه ، ويعلن ما انتهي إليه من قرار . ولست في هذا المجال بصدد سرد تفاصيل ما قيل في هذا الاجتماع ، ولا بصدد ذكر من الذي توقف ومن الذي واصل السير ، ولا بصدد تحليل الشخصيات التي ضمها الاجتماع ، فكل هذا لا يعنيني ولا يعني القارئ بقدر ما يعنيني أن أعرض لشرح خاصية من خاصيات هذا الاجتماع الرجل المرشد ، آتاه الله وإياها ولم يؤتها إلا لقلة الذين يبنون الأمم ، ويوجهون التاريخ . كان الأستاذ المرشد إذا دعا لاجتماع ، حدد له هدفاً وأعلنها إلا أنه يكون قد احتفظ لنفسه بأهداف أخري لهذا الاجتماع ... ولا يكاد ينتهي اجتماع إلا بإصابة جميع الأهداف ؛ المعلن منها وغير المعلن دون أن يشعر أحد من الحاضرين بأن غير الهدف المعلن كان مقصودًا .
ففي هذا الاجتماع الخطير الهدف ، لاحظت وجود مستويات متفاوتة ؛ منها ما يسامت الهدف ويساميه ومنها ما هو دونه بقليل ومنها ما هو بعيد عنه ، وعجبت حين أظهرنا الأستاذ علي هدف هذا الاجتماع لم دعا إليه كل هذه المستويات ؟ أما كان الأنسب أن تقتصر الدعوة إليه علي المستوي المسامت للهدف ؛ ولاسيما وهو أدري الناس بجهد كل أخ وطاقته وآماله ؟ . وانتهي الاجتماع مسفرًا الاجتماع عن نتائج نجملها فيما يلي :
1 – مجموعة أعطت الكلمة ، وعاهدت علي المواصلة ، وسارعت إلي البيعة .
2 - مجموعة أعطت الكلمة ، وعاهدت علي المواصلة ، مؤجلة البيعة .
3 – مجموعة اعتصمت بالصمت مبيتة نية الفرار .
لقد قصد الأستاذ من جمع هذه المستويات المتباينة إلي أن يستمعوا إلي حديثه هذا المثير الملتهب وهو يعلم أن أفرادًا من الحاضرين – هو يعرفهم – لا يعتبرون الحديث إلا ترديدًا لما تملئ به نفوسهم وقلوبهم فهم به مستبشرون . ويعلم أن أفرادا آخرين من الحاضرين هم معادن نفيسة لكن الكشف عن نفاستها في حاجة إلي طرق شديد ، فجاء بهم إلي هذا الاجتماع لتكون حرارة حديثه ما بيديه الفريق الأول من شجاعة وفتوة وفدائية بمثابة طرق عنيف لنفوسهم في حال التهابها .. ويعلم أن أفرادًا غير أولئك وهؤلاء ارتبطوا بالدعوة ، حين كانت بعيدة عن التيارات ، في سلام وأمن وأمان ، ربط بعضهم رباط من صداقة أو قرابة أو نسب أو غيرها ، وتعودوا أن يكونوا المتصدرين فيها ، ومع تطور الدعوة وتغير ظروفها لازالوا متشبثين بهذه الصدارة ولم يعودوا أهلا لها ؛ إقصاؤهم بطريقة مباشرة ؛ فجاء بهم إلي هذا الاجتماع ليستمعوا إلي الحديث نفسه وإلي مبادرات الآخرين إزاءه فيقتنعوا بأنهم سيطالبون بما لا يستطيعون فيقصون أنفسهم بأنفسهم وتتخلص الدعوة من أعباء هي في غني عن حملها .
ويخيل إلي أن هذا الاجتماع لم يكن هدفه إلا ما ذكرت ؛ فإن لجنة الأربعة والعشرين لم تدع لاجتماع بعد هذا ... وكل الذي حدث بعد الاجتماع التاريخي أن رأينا إخوانًا كانوا (راكنين) إلي الدعة قد دب في نفوسهم النشاط ، وبدأوا ينخرطون في سلك العاملين المجدين ، ورأينا مجموعة من ذوي القرابات والنسب والصداقات الشخصية لم يكونوا إلا أثقالا علي الدعوة توهن كاهلها وقد انقطعوا عن الدار ؛ فتحررت الدعوة أو انطلقت بعد أن كثرت شكوى الإخوان منهم حيث كان وجودهم عاتقاً ومشكلة .
أما مجموعتنا فكانت شغل الأستاذ الشاغل ، وهدفه الأصيل حيث كانت محط آماله ومنتهي رجائه وكان حريصًا علي أن يحدد كل فرد منها موقفه ، ويعلن عن مدي تحمله ، كأنما كانت هي بيت القصيد في هذا الاجتماع لاسيما وقد تمخضت عن أول بواكيرها فقد تخرج في ذلك العام ثلاثي كلية الآداب ... والطالب طالما كان طالبًا فهو الشخصية المطلقة المتحررة من كل قيد المعفاة من كل مسئولية ، فإذا ما تخرج مسئوليات الحياة لأول مرة فهو شخصية أخري ؛ ولذا فإن الأستاذ في حديثه كان في أكثره موليا وجهه نحونا ، متجها ببصره إلينا كأنما كان يخصنا بهذا الحديث ، وبعد أن أفرغ من حديثه اتجه إلينا بكليته وأخذ يسأل كلا منا علي حدته ما الذي استقر رأيه عليه ، ثم توقف طويلا عند ثلاثي كلية الآداب وبالتحديد عند عبد الحكيم عابدين وعبد المحسن الحسيني ، فإن الأستاذ المرشد كان يعلم من صفاء نفس محمد عبد الحميد أحمد ما يجعله أهلا لوصف رسول الله صلي الله عليه وسلم " إنه لو لم يطع الله لم يعصه " ولكنه كان يعلم أن الاثنين الآخرين تكتنفهما ظروف معقدة ؛ ولذا فقد أولادهما التفاتًا خاصًا ، ووجه إليهما أسئلة محددة ، وطلب عنها إجابات صريحة .
ولقد كان الزميلان صريحين واضحين كل الوضوح ؛ أما أولهما وهو عبد الحكيم عابدين فقد وضع نفسه رهن إشارة الدعوة ، وقال إنه يعلم أن الطريق أمامه مفتوح في كليته ولكنه قرر إيثار الدعوة بكل وقته وأنه سيكتفي بوظيفة إدارية لا تقتطع من وقته إلا القليل ، وأنه يبايع علي ذلك مع استعداده لترك وظيفته إذا اقتضت ظروف الدعوة ذلك مع شدة حاجته إلي مورد هذه الوظيفة . وأما الآخر فقد كان شجاعًا حسبما علمته الدعوة ، وقال : إنني في حاجة إلي سلوك طريق الدراسة ، وإنني أعتقد أن إكمالي الدراسة مع تخصص فيما يتصل بالقرآن من العلوم العربية لن يبعدني عن ميدان الدعوة ، وأفاض في الإبانة عن وجهة نظره ، محاولا إقناع الاجتماع برأيه .
ولابد من الإشارة هنا إلي أن الأستاذ المرشد قد بدأ يشعر وقد حققت الدعوة بروزًا في المجتمع المصري وأن فكرتها قد تبلورت أحس معه أعداؤها بأنها أضحت ذات شوكة لا ينبغي الغض من قيمتها ولا التغاضي عن خطورتها فأخذوا يعدون العدة للهجوم عليها من كل جانب – شعر الأستاذ بذلك فسارع إلي النداء فيمن يأنس القدوة علي الوقوف معه في الصف الأول أمام العدو في المعركة الوشيكة الوقوع . لقد كان في موقفه هذا كموقف قائد الجيش الذي رأي جيش الأعداء مقبلا علي مرمي النظر فانتدب للقائهم كبار ضباطه ؛ فإذا ببعضهم يعتذر بحجة أنه يريد الاستزادة من دراسة العلوم العسكرية في كلية أركان الحرب . ومعذرة إلي القارئ إذا أنا أنهيت الحديث عن هذا الموضوع دون أن أتعرض بالذكر لأسماء الذين دعوا إلي هذا الاجتماع ولأسماء الذين استجابوا ولأسماء الذين تخلفوا مكتفيًا بأمثلة ، وحسب القارئ أن رأي بعينيه كيف تطورت الأمور بالدعوة وكيف تناوحتها الأحداث الجسام بعد ذلك وعمن تمخضت هذه الأحداث الجسام .
الفصل الثالث : مهاجمة الانجليز واليهود والانطلاق بقضية فلسطين :
ظلت قضية فلسطين – مع كل ما بذله الإخوان في سبيل تنبيه الأذهان إليها – شبه مجهولة إلا في حدود المساجد التي غشيها الإخوان بكلماتهم في أيام الجمع ؛ وهي مهما كثرت عددًا فإنها لا تصل إلي عشر مساجد للقاهرة ... وبانتقال الدعوة إلي الدار الجديدة في العتبة قرر الأستاذ المرشد أن ينطلق الإخوان بهذه القضية انطلاقة واسعة تنتهي إلي الهدف الأساسي وهو أن نشعر الناس جميعا بها ، وأن نجعلها قضية عالمية تفض مضاجع الانجليز واليهود .
وقد اتخذ الإخوان لتحقيق ذلك الوسائل الآتية :
أولا : استمر نظام الخطابة في المساجد وجمع التبرعات .
ثانيًا : سلط الأستاذ علي الحكومة وعلي الانجليز قلم صالح عشماوي في مجلة النذير ، وقد نجح صالح في كتابة مجموعة من المقالات النارية في كثير من الأحيان إلي مصادرة المجلة ، وقد كنا نهرب أعدادًا منها ... ولما كان الأسلوب الهجومي العنيف محببًا إلي نفوس الشباب ، فقد انتشرت المجلة انتشارًا واسعًا في الجامعة وفي المصالح الحكومية وفي الأقاليم بل وقد طار صيتها إلي الأقطار الشقيقة مثل سوريا والأردن ولبنان والعراق .
ثالثًا : بدأنا في طبع منشورات نهاجم فيها الأقاليم ونشرح مظالمهم في فلسطين وتبين فيها خطر اليهود ، وكنا نوزعها في الكليات والمصالح الحكومية والمحلات التجارية والمقاهي وفي الأقاليم .
رابعًا : دعونا إلي مقاطعة المحلات اليهودية في القاهرة ، وطبعنا كشفاً بأسماء هذه المحلات وعناوينها ، والأسماء الحقيقية لأصحابها وذيلنا هذه الكشوف بهذه العبارة : " إن القرش الذي تدفعه لمحل من هذه المحلات إنما تضعه في جيب يهود فلسطين ليشتروا به سلاحًا يقتلون به إخوانك المسلمين في فلسطين " .
وقد وزعنا هذه الكشوف علي أوسع نطاق في القاهرة والأقاليم ، فكان لها دوي هائل لأنها أول دعاية مست العصب الحساس لليهود ، وقد بلغ من تأثير هذا الأسلوب في الدعاية أن علقت عليه الصحف الانجليزية تستعدي الحكومة المصرية علي مصدري هذه المنشورات . وإتمامًا لفضح الخطة الصهيونية أصدرنا رسالة أو كتيبًا صغيرًا يضم أسماء الصحف اليهودية التي يصدرونها في أنحاء العالم والبلد الذي تصدر فيه كل صحيفة والأسماء التي يتستر خلفها أصحابها الحقيقيون من اليهود ووزعنا هذا الكتيب علي أوسع نطاق .
ومع أن الحكومة المصرية مدفوعة من الانجليز قد جردت حملات قوية لمصادرة هذه المنشورات بالذات إلا أنها لم تتمكن من الوصول إلي شيء منها وكانت تفاجأ برؤيتها في أيدي الناس في الشوارع والمحلات وفي المدارس والمعاهد والجامعة وكان كبار موظفي الدولة والوزراء يذهبون في الصباح إلي مكاتبهم فيجدون هذه المنشورات عليها ... ذلك أننا كنا حريصين علي أن تدخل هذه المنشورات دار المركز العام وإنما كنا نطبعها في أماكن بعيدة عن الأعين ونودعها في مثل هذه الأماكن .
خامسًا : كتاب " النار والدمار في فلسطين "
أحب أن أنبه القارئ بهذه المناسبة إلي أن النقود التي كنا نجمعها لفلسطين من المساجد والمقاهي والبارات لم يكن القصد من جمعها إعانة إخواننا المجاهدين الفلسطينيين بما فهم كانوا من هذه الناحية في غير حاجة إليها لأن أغنياء أهل فلسطين من التجار كانوا من وراء هؤلاء المجاهدين ، وقد حضر السيد أمين الحسيني في بعض زياراته للمركز العام للإخوان ومعه بعض هؤلاء التجار وعرفنا بهم ... وإنما كان جمعنا لهذه التبرعات – كما قدمت في فصل سابق – أسلوبًا من أساليب التأثير في نفوس الناس بهذه القضية وربطاً لقلوب الناس وعقولهم بها واختبارًا لمدي تجاوبهم معها . وأضيف الآن إلي ذلك أن هذه المبالغ لم تكن ترسل إلي المجاهدين بل كانت تصرف في شئون الدعاية لهذه القضية بأمر اللجنة العربية العليا ثم إن اللجنة كانت ترسل إلينا من أموالها الخاصة مبالغ طائلة لنضيفها إلي ما عندنا للإنفاق علي هذه المهمة الخطيرة التي كانت اللجنة تعتبرها أهم وألزم للقضية من الجهاد المسلح الذي يقوم بأعبائه المجاهدون في فلسطين نفسها ... وإلا لما كان للإخوان وهم لازالوا في مهدهم أن ينهضوا بمهام الدعاية المجلجلة التي أقضت مضجع الإمبراطورية البريطانية والتي تحتاج إلي إنفاق واسع النطاق .
استطاعت اللجنة العربية العليا لفلسطين أن تطبع كتابًا سمته " النار والدمار في فلسطين " وأمدتنا بعشرات الألوف منه . ويقع هذا الكتيب في نحو ثمانين صفحة تشرح ألوان القطائع والتعذيب التي ارتكبها الانجليز ضد مجاهدي فلسطين .. وكل نوع من هذه القطائع معزز بصور فوتوغرافية وبأسماء المجاهدين الذين ارتكب معهم هذا التعذيب ، فكان في الكتاب أكثر من خمسين صورة كل واحدة منها توضح نوعًا من أنواع التعذيب أو جريمة من فظائع الانجليز ، فصورة توضح هجومهم علي أحد بيوت المجاهدين وتبرز صور الانجليز وهم يمزقون المصحف الشريف ويدوسونه بأحذيتهم ، وصورة توضح الجنود الانجليز وهم يعلقون مجاهدًا من رجليه ورأسه إلي أسفل ويضربونه بالسياط وهو في هذا الوضع ، كما جاءوا بصور لمجاهدين ربطهم الجنود الانجليز من أعضاء حساسة يخجل المر من ذكرها ... ولقد كانت اللجنة من المهارة ومن حسن الإعداد بحيث استطاعت تسجيل هذه الفضائح علي الانجليز بالكاميرا ! دون أن يشعروا .. وقد جمعوا هذه الصور المثيرة التي تحرك الجبان في هذا الكتاب وأرسلوه إلينا .
ولقد قمنا بتوزيعه في أسرع وقت فلم تمض ثلاثة أيام حتى عم الكتاب القاهرة وأنحاء الأقاليم ، وقامت قيامة الصحف البريطانية والبرلمان البريطاني لمواجهة هذه الكارثة المدمرة . وداهمت المركز العام قوة من رجال البوليس وفتشت الدار وكان باقيًا من الكتاب سبعمائة وخمسون نسخة فتحفظت عليها ، وسأل رئيس القوة عن صاحب هذه الكتب فتقدم إليه الأستاذ المرشد وقال له : أنا صاحبها فنقلت القوة النسخ إلي سيارة كانت تنتظرها وطلي الضابط من الأستاذ المرشد أن يصحبه إلي النيابة وبدأ وكيل النيابة في التحقيق مع الأستاذ علي الوجه الآتي :
س : هل أنت صاحب هذه الكتب ؟
ج : نعم أنا صاحبها .
س : ألا تعلم أن هذه الكتب تهاجم السلطات وتثير الشعب ضد دولة صديقة وحليفة بحكم المعاهدة ؟
ج : أعلم ذلك وقد قصدت مهاجمة هذه السلطات ومهاجمة هذه الدولة الحليفة .
س : ألا تعلم أن القانون يعاقب علي هذه الجريمة ؟
ج : أعلم وأنا لا أمانع في إحالتي إلي القضاء لأني معترف بهذه الجريمة ومصر عليها .
وانهي وكيل النيابة التحقيق ووقعه الأستاذ المرشد وقرر وكيل النيابة حبس الأستاذ المرشد علي ذمة هذه القضية حتى تحدد جلسة لنظرها . ورفع للتحقيق إلي النائب العام كما قدمت صورة منه إلي وزارة الداخلية – وأحب أن أنبه هنا إلي حقيقة مؤلمة كانت تعاني منها البلاد في تلك الأيام هي أن وزارة الداخلية كانت فرعًا من السفارة البريطانية فقد كان وكيل هذه الوزارة بالذات ترشحه في حقيقة الأمر هذه السفارة من المصريين الموالين لها فهو مصري الجنسية بريطاني النزعة ، وكان لهذا الوكيل – فيما يمس مصالح للانجليز – سلطة الوزير وفوق سلطة رئيس الوزراء . وقامت وزارة الداخلية بتقديم صورة التحقيق إلي السفير البريطاني في انتظار كلمة ثناء منه علي هذه الخدمة العظيمة .. وقرأ السفير التحقيق حتى وصل إلي نهايته فقطب جبينه وقال لصنيعهم : إنك بهذا التحقيق قدمت لحسن البنا أعظم خدمة وأنت لا تدري .. لقد استطاع هذا الرجل أن يضحك عليكم ... لقد وزع الكتاب وأصبح في أيدي الناس في كل مكان .. وما صادرتموه منه لا يعد شيئا يذكر بجانب ما تم توزيعه ، إن أمنية هذا الرجل هي أن يقدم إلي القضاء ليتخذ من منصة الدفاع عن نفسه في هذه القضية السياسية وسيلة إلي نشر أفكاره ، وإلي التشهير بنا وفضيحتنا وتوصيل ما تضمنه الكتاب إلي أسماع من لم يصل إليه عن طريق الصحف التي ستتباري في نشر ما يقال في القضية كدأب الصحف في القضايا السياسية ... هذا التحقيق يجب أن يحفظ وأن يفرج عن الأستاذ البنا في الحال "
وأفرج عن الأستاذ المرشد فعلا قبل أن يتم في الحبس أربعا وعشرين ساعة ، وقد فوجئ الأستاذ بهذا الإفراج لأنه كان يعتقد أن حكام مصر من الغباء بحيث لا يفهمون هدفه .. وقد زالت الحيرة من هذه المفاجأة حين جاءت عيوننا التي كانت ترصد التحركات وأخبرونا بما كان من أمر الداخلية مع السفير البريطاني ..
دوسيه لحسن البنا بالسفارة البريطانية :
وقد أخبرنا عيوننا هؤلاء أنه منذ ذلك اليوم بدأ الانجليز يهتمون بحسن البنا وأعدوا له دوسيها جمعوا فيه تاريخ حياته ، وأخذوا يعدون العدة للقضاء عليه وعلي دعوته . لقد كان هذا الكتاب صاعقة علي الانجليز حقاً ، فقد اقترف الانجليز في فلسطين فظائع يندي لها جبين الإنسانية خجلا ، وظنوا أنهم بمكرهم وبملكهم للدنيا قد أحاطوا بكل شيء قدرة وعلمًا فارتكبوا ما ارتكبوا مطمئنين إلي أن جرائمهم هي في طي الكتمان وأن فلسطين نفسها أصبحت في عزلة عن العالم كله ، وكان الله تعالي أشد منهم مكرًا فأمد هؤلاء المجاهدين بالقدرة التي تمكنوا بها من تسجيل مخازيهم لا بالقلم وحده بل هو أدق وأعمق تأثيرًا في النفوس وهي الصور الشمسية الواضحة الناطقة المعبرة . " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين " .
ومهما تكن عند امرئ مـن خليـقـة ::: وإن خالها تخفي علي الناس تعـلم
سادساً : " مظاهرات لأول مرة في جميع أنحاء القطر " :
قبل حلول اليوم السابع عشر من شهر نوفمبر في تلك السنة وهو يوم ذكري وعد بلفور المشئوم وضع الإخوان خطة بحيث يقوم الإخوان في جميع شعب القطر كله في ذلك اليوم بمظاهرات صاخبة ، يهتفون فيها بهتافات محددة . وقد نجحت هذه الفكرة وقامت المظاهرات . وكان قيامها في يوم واحد في جميع أنحاء البلاد دليلا علي قوة الدعوة ، وهزًا لكافة الحكومة ، التي أمرت بإلقاء القبض علي مديري هذه المظاهرات .. كما أن نجاح هذه المظاهرات جعل الانجليز يشعرون أنهم أصبحوا لأول مرة يواجهون عدوًا حقيقيًا متغلغلا في أحشاء الشعب وليس من السهل قهره لأنه يعتصم في جميع تصرفاته بالدين .
ولقد كانت هذه المظاهرات أول تنبيه لأذهان الشعب المصري في القرى والمدن نحو قضية فلسطين بعد أن كان التنبيه مقتصرًا تقريبًا علي القاهرة ولكن التنبيه في هذه المرة جاء تنبيهًا قويًا مثيرا أغني عن كثير من وسائل التنبيه السابقة التي اختصت بها العاصمة . وكما أن هذه المظاهرات كانت كسبًا رائعًا لقضية فلسطين ، فإنها عادت علي دعوة الإخوان المسلمين بفوائد كبيرة وأظهرت في هذا الشعب المغلوب علي أمره مواهب مذهلة ، وتوضيحا لذلك سأضرب للقارئ مثلا بما تم في هذا الصدد بإحدى شعب الإخوان :
قام الإخوان بشعبة رشيد بمظاهرة كغيرها من الشعب ، وفي اليوم التالي وصلني خطاب بالقاهرة يطلب حضوري إلي رشيد لأمر هام فسافرت فوجدت أن المظاهرة سببت نزاعًا بين فريقين ، أحدهما يمثله الإخوان الصغار السن من الطلبة والعمال الذين قاموا بالمظاهرة واعتقل بعضهم ، والفريق الآخر يمثله الإخوان الكبار سنا ومكانة وأدبية والذين جاء بهم الإخوان الصغار سنا وأسند إليهم المناصب الرئيسية في الشعبة ليكونوا واجهة لهم أمام الأهالي ، والذين كان بعضهم قد قبل الانضمام إلي الشعبة – مجاملة لي شخصيًا حيث كانت تربطني بهم صلات . تقدم إلي هؤلاء الإخوان الكبار وقالوا : أيرضيك أن يقوم الإخوان في الشعبة بمظاهرة يهتفون فيها هتافات ضد الحكومة وضد الانجليز ويوقفوننا في موقف حرج مع رجال البوليس الذين طلبوا إلينا أن نأمر الإخوان بفض المظاهرة ، فلما حاولنا ذلك رفضوا واستمروا في المظاهرة حتى قبض علي عشرة منهم وهم الآن في سجن المركز ؟ .
قلت لهم : أتعرفون لماذا قاموا بالمظاهرة ؟ قال : لأن المركز العام أرسل منشورا بذلك .
قلت : ماداموا قد فعلوا تنفيذًا لأمر المركز العام فإنه يستحقون الشكر .
قالوا : إذن أنت موافق علي عملهم . قلت : نعم .
قالوا : إذن فلتسمح لنا بالاستقالة من الشعبة لأننا لا نستطيع تحمل هذه التبعات .
ومما ينبغي ملاحظته أن هذه كانت أول مظاهرة تقوم في رشيد أو في الأقاليم مصر بوجه عام منذ مظاهرات سنة 1919 والذي حدث في شعبة رشيد من ابتعاد أشخاص لمسوا في الدعوة خشونة كانت فوق طاقتهم قد حدث في الشعب الأخرى ، وكانت هذه أول هزة للكيان الإخواني أو بمعني آخر كانت أول تصفيه تمخضت عن تخلص هذه الشعب من أشخاص ضعاف – أدو دورهم – ولم يعد وجودهم بها إلا ثقلا علي كاهلها .
من مواهب هذا الشعب :
من طرائف ما حدث للإخوان العشرة الصغار سنا – الذين كانوا بين طالب وعامل وصانع وصياد – والذي ألقي القبض عليهم في رشيد وأودعوا سجن المركز ، وقد تخلي عنهم – كما قدمت إخوانهم الكبار ذوو الحيثية في المدينة والمقربون إلي رجال الإدارة بالمركز ، أنهم أودعوا في زنازين ، كل في زنزانه علي انفراد ولم يكن فيهم في ذلك الوقت من تجاوز السادسة عشرة إلا القليل ، وقد أحضر أهلهم لهم طعامًا فمنع عنهم ، وعوملوا أسوأ معاملة – وتصادف أن كان في سجن المركز بجانبهم شخص من أهل رشيد يعتبر رئيس عصابة ويعتبر أخطر مجرم في المدينة وقد ارتكب عدة جنايات وسجن أكثر من مرة ، وكان في هذه المرة متهمًا في جناية ...
وصبر الإخوان الصغار – الذين لا نصير لهم – علي الإيذاء والجوع حتى حان موعد الصلاة فقام أحدهم للصلاة داخل زنزانته بأعلى صوته ، فجاء زبانية السجن وطرقوا عليه الباب وهددوه إذا هو لم يوقف الأذان أن يفتحوا عليه الزنزانة ويؤدبوه ... وهنا سمع صوت من الزنزانة المجاورة يهدد هؤلاء السجانين بقتلهم إذا لم يتركوا الشاب الذي يؤذن يكمل أذانه وإذا لم يحضروا له ولزملائه لوازم الوضوء وإذا لم يفرشوا لهم فرشًا طاهرًا يؤذن عليه الصلاة ... كان هذا الصوت هو صوت الرجل الخطر ، الذي كانت حياته سلسلة من الجرائم المروعة ، كان صوت " محمد أبو العلا " وهنا توقف الزبانية عن خطتهم وبدأوا يتفاهمون مع " محمد أبو العلا " عما يريده متعجبين من اهتمامه بشباب يعملون للدين ، ولا يتصور العقل أن يكون المدافع عنهم محمد أبو العلا ملك الإجرام في رشيد ولم يكن أمام الزبانية إلا الاستجابة كارهين لطلبات محمد أبو العلا ، الذي شفع تهديده لهم بقوله : " كل ما تريدون أن توجهوه لهؤلاء الشباب من الإهانة وجهوه إلي أنا نيابة عنهم ، أما هؤلاء فأنا أضعهم داخل عيني ، ويجب أن تضعوهم أنتم أيضًا داخل عيونكم لأنهم يدافعون عن الدين " .
ويسرت للإخوان وسائل الوضوء والصلاة ، وصاروا يؤذنون لجميع الأوقات ، وسمح بدخول الطعام إليهم ، وفتحت لهم أبواب الزنازين ، وقضوا الفترة التي قضوها في هذا الحجز معززين مكرمين ، وصدق الله العظيم إذ يقول " إن الله يدافع عن الذين آمنوا " وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ يقول " إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر " .
وإذا كان من تعليق علي هذه الظاهرة المثيرة للدهشة فإننا نقول : إن عاطفة الانتصار للدين غريزة في أعماق كل نفس مهما تنوعت مسالك أصحاب النفوس في الحياة ،وإن كثيرين ممن وصمهم مجتمعهم بأنهم عتاة المجرمين ليسوا في حقيقة الأمر مسئولين عن مسلكهم هذا بقدر ما تقع المسئولية في ذلك علي مجتمعهم .. وقد أعجبني مقال نشر في إحدى المجلات الأدبية للأستاذ توفيق الحكيم في أواخر الثلاثينيات يقول فيه : إن العقل البشري مقسم إلي مناطق ، كل منطقة مستقلة تمامًا من أخواتها ، وأن من هذه المناطق منطقة للدين ، وضرب مثلا برجل سكير تراه وهو يعاقر الخمر يسمع من يطعن في الدين فينبري له ثائرًا في وجهه من أجل الدين . ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أشير إلي أن عددًا لا بأس به ممن كانوا قطاع طريق قد استجابوا للدعوة وصلح أمرهم وصاروا من المؤمنين الأقوياء .
سابعًا : أول مؤتمر عربي من أجل فلسطين :
أقصد جهود الإخوان في سبيل هذه القضية مضاجع الانجليز ، فاشتعل الشعور بالنقمة عليهم لا في الجامعة المصرية فحسب بل أحسوا بهذا الاشتعال في أنحاء البلاد العربية من أقصاها إلي أقصاها وكانت سياسة انجلترا تقوم علي أساس فصل مصر عن البلاد العربية ، واستطاعوا فعلا تحقيق هذا الهدف من سياستهم حيث أقنعوا المصريين بأنهم فراعنة وليسوا عربًا ، كما أقنعوا البلاد العربية بأنهم هم العرب وأن المصريين ليسوا عربًا وإنما هم فراعنة ... وكنت تشعر فعلا بأن المصريين مقتنعون بهذه الفكرة الماكرة الخبيثة كما تشعر بأن أهل الشام والعراق والحجاز واليمن والمغرب مقتنعون أيضا بذلك ، وكانت لنا مناقشات طويلة وحادة في حرم الجامعة مع ممثلي الأحزاب في هذه النقطة بالذات لأنها نقطة جوهرية في دعوتها .
وكان الذي دفع الانجليز إلي ترسيخ هذه الفكرة في أدمغة المصريين وأدمغة سكان البلاد العربية الأخرى اعتقادهم بأن نجاح استراتيجيتهم الاستعمارية في الشرق متوقف علي عزل مصر عن البلاد العربية الأخرى فمصر تعتبر رأسًا والبلاد العربية الأخرى بقية الجسد فإذا فصل الرأس عن الجسد فقد الرأس الحياة وفقد الجسم الحياة ، وعاث الانجليز فسادًا دون أن يصادفوا في أي مكان من يعترض طريقهم أو يقف في وجههم . وجذع المصريون بهذه الفكرة ردحًا طويلا من الزمن ، وقاست زعامات سياسية كبيرة سايرت الخدعة ولم يخطر لها ببال أن تولي موضوع العروبة أي اهتمام . واطمئنانًا إلي نجاح هذه الخدعة دبر الانجليز جريمة بيع فلسطين لليهود وهم في مأمن أية مقاومة .. وكيف لا يأمنون وقد استطاعوا أن يجعلوا المصري المثقف حين تطلب منه مساعدة لمجاهدي فلسطين يتساءل : : وأين تقع فلسطين هذه أهي في أوروبا ؟ كما استطاعوا أن يجعلوا رئيس وزراء مصر حين يسأله أحد الصحفيين ماذا أعددتم لقضية فلسطين ؟ فيجيب : أنا رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين .. ومعني هذا أن مصر حكومة وشعبًا صاروا معزولين عزلا تامًا عن الأمة العربية ، وأخطر ما في هذا العزل أنهم عزلوا قلبًا وشعورًا وعاطفة .
لقد استطاع الإخوان المسلمون ، والإخوان المسلمون وحدهم أن يفسدوا علي الانجليز خطتهم ، وأن ينسفوا الجدار الشاهق السميك الذي شيده الانجليز ليفصل مصر عن بقية امة العربية ، ولكنهم لم يستطيعوا إنجاز هذه المهمة الخطيرة إلا بجهود مضنية متواصلة مكثفة استمرت أكثر نمن خمس سنوات متوالية ، حققوا في نهاياتها المعجزة حين وصلوا قلوب شعب مصر بقلوب إخوان عرب لهم في فلسطين ، وحين صارت قضية فلسطين قضية عامة في مصر يتألم قلب المصري لها ، ويكره الانجليز من أجلها ... وبذلك استطاع الإخوان أن يمدوا بين مصر والأمة العربية أول جسر ربط بينهما . ولقد عبرت مشاعر المصريين نحو فلسطين ممثلة في جهود الإخوان عن طريق هذا الجسر إلي البلاد العربية فكانت بمثابة جرعة منبهة لهذه البلاد فبدأت تحس بأنها الجسد الذي كان يفتقد رأسه وقد وجد رأسه في مصر .
وقد استغل الإخوان هذا الجسر الذي أقاموه خير استغلال فوجهوا الدعوة لرجالات البلاد العربية لعقد مؤتمر لدراسة مشكلة فلسطين في مصر واستجاب الكثير منهم ومثلث أكثر البلاد العربية بنخبة من كبار رجالها في ذلك الوقت ،و لم يبق في ذاكرتي من أسمائهم بعد هذه المدة الطويلة إلا الأستاذ فارس الحورى وهو مسيحي من ذوي المستوي الرفيع في التفكير الذي يترفع عن التعصب ويقدر المعاني الإسلامية العليا التي تنظم العقائد والأجناس والألوان المختلفة في سلك واحد نضيد هو الأمة الإسلامية العتيدة ، وكان هذا الرجل زعيما سوريًا ، تولي رئاسة الوزارة في سوريا أكثر من مرة وكان خطيبًا مفوهًا ، ومع أنه كان في ذلك الوقت مشتعل الرأس شيبًا إلا أنه شاب الروح والقلب تكلم في المؤتمر فألهب المشاعر وآثار الشجون . وكان هذا المؤتمر أول مؤتمر عربي يعقد من أجل فلسطين ، وقد عقد في دار المركز العام بالعتبة ، وتعاقب فيه الخطباء من مختلف البلاد ثم تكلم الأستاذ المرشد ، وانتهي المؤتمر بقرارات تطالب حكومات الدول العربية بالتدخل من أجل إنقاذ فلسطين من المؤامرة الانجليزية اليهودية وكان لهذا المؤتمر آثار بعيدة المدى لأنه جعل الحكومات العربية تحس لأول مرة أن عليها مسئولية تجاه مشكلة فلسطين .
ثامنًا : المؤتمر البرلماني العالمي :
تطايرت أنباء المؤتمر العربي الذي انعقد بدار المركز العام بالعتبة بالقاهرة إلي أنحاء البلاد العربية والإسلامية وإلي أنحاء العالم كله ، وكان أشد الناس اهتمامًا بهذا المؤتمر الانجليز . وصار يتوافد علي دار المركز العام رجال كثيرون من زعماء البلاد العربية والإسلامية ومن ذوي الرأي فيها ، وكان ممن توافد الأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود والأمير أحمد بن يحيي ومعهما بعض إخوتهما ، أوفدوا من قبل والديهم ملك السعودية وإمام اليمن ليتفاهموا مع الحكومة المصرية ومع الإخوان المسلمين فيما يجب عمله لإنقاذ فلسطين .
ولما كانت أكثر البلاد العربية في ذلك الوقت رازحة تحت أثقال الاستعمار ، فقد تمخض التفاهم بين زعماء البلاد الإسلامية والإخوان عن وسيلة يتفادون بها اللجوء إلي هذه الحكومات المكبلة ، وتبرز بها البلاد العربية والإسلامية متضامنة ، وكان ذلك بأن توجه الدعوة إلي جميع برلمانات العالم لعقد مؤتمر في القاهرة لمعالجة قضية فلسطين . وقد وجهت الدعوة وأوفدت كثير من البرلمانات ممثلين لها ، وانعقد المؤتمر بسراي آل لطف الله بالقاهرة ، وكان هذا أول مؤتمر عالمي من أجل فلسطين ، وتحدث الكثير من زعماء العالم ، وشرحت القضية من جميع جوانبها ، وانتهي المؤتمر بقرارات موجهة إلي جميع دول العالم عامة وإلي حكومة انجلترا خاصة بوجوب تسوية هذه القضية بما يحفظ حقوق أهل فلسطين .
وهنا بدأت انجلترا تشعر بأن سياستها في فلسطين أصبحت مهددة ، فأوقفت حملات القتل والسجن والتعذيب والتنكيل ، وأبدت استعدادها للتفاهم ، وطلبت عقد مؤتمر من أجل فلسطين في لندن يضم العرب واليهود وممثلي الحكومة البريطانية ، وكان من ممثلي العرب عدا عرب فلسطين الأميران فيصل بن عبد العزيز وأحمد بن يحيي واشترك الإخوان في المؤتمر باعتبارهم سكرتيرين للأميرين ومترجمين لهما ، و أذكر أن ممن أوفد معهما من الإخوان الأخ محمود أبو السعود وكان طالبا بكلية التجارة ويجيد اللغة الانجليزية كتابة وتحدثاً ، وسمي هذا المؤتمر بمؤتمر المائدة المستديرة . وما كان الإخوان لينتظروا من مؤتمر المائدة المستديرة قرارًا يحل المشكلة يرد الحق إلي نصابه ، وإنما كان هدفهم أن يكون مجرد عقد هذا المؤتمر خطوة جديدة علي طريق إسماع العالم مظلمة أهل فلسطين التي طالما حاول الانجليز ومن ورائهم يهود العالم أن يلقوا عليها ستارًا كثيفاً يحجبها عن العالم .
الفصل الرابع : الفتنة الأولي
أولاً : أضواء علي نواح من شخصية حسن البنا :
(1) رأي الشيخ طنطاوي جوهري :
عهد إلي الأستاذ المرشد في يوم من أيام هذا العام 1938 أن أنقل له في كراس أرجوزة جمع فيها ناظمها كل ما يتصل بالتصوف من أهداف ووسائل ودرجات وآداب وأصول ، وأكاد أذكر أنني كنت أنقلها من كتاب لابن عجيبة في شرحها .. وكنت جالسًا ظهر ذلك اليوم وحدي في المركز العام ، واتخذت لي مقعدًا وقمطرًا في شرفة الدار .
وبينما كنت أنقلها في شغف – حيث كان لي سابقة اتصال بالمتصوفة عملاً ، كما كنت أعكف الساعات الطوال في الأيام والليالي علي قراءة " إحياء علوم الدين " للغزالي ... بينما أنا كذلك إذ دخل علي رجل أحبه وأجله ، وكنت مشتاقًا إلي لقائه كما كنت أحس أنه يحبني ولم أكن رأيته منذ كنا في 13 شارع الناصرية ، ذلك هو الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري ، الذي كان يلقب في ذلك الوقت " بحكيم الإسلام " وأظنني تحدثت عنه في أوائل هذه المذكرات حديثًا عابرًا .. ولقد علقت نفسي هذا الرجل من أول لقاء ، وقد سمعت عنه الكثير قبل أن أنزج إلي القاهرة فلقد كان الرجل شخصية بارزة في مصر ، فلما التقيت به في القاهرة رأيت فيه الرجل الذي يقول ما يفعل ويفعل ما يقول ، فمع أنه كان أستاذا في دار العلوم ، ولم ألقه إلا بعد إحالته إلي المعاش بأكثر من عشر سنين إلا أنك كنت تري فيه شابًا في عنفوان شبابه ، فهو متوقد الذهن ، يتحدث معك في كل علم من العلوم الكونية من نبات وحيوان وحشرات وجيولوجيا وكيمياء وطبيعة ورياضة وميكانيكا وفك وموسيقي كأنما هو متخصص في كل واحد منها ، وتراه عن طريق هذه العلوم يدلك علي وجود الخالق ووحدانيته وقدرته وحكمته ورحمته .
هذا فضلا عن العلوم العربية بأنواعها من نحو وصرف وبلاغة وأدب ، وقد أنف كتابا سماه " الجواهر " في تفسير القرآن الكريم في ستة وعشرين جزءًا أتبعها بعد ذلك كما أخبرني بستة أجزاء أخري ، وقد كنت أطالع في هذا التفسير بدار الكتب ، وهو يفسر الآيات التفسير المعتادة ثم يتبع هذا التفسير بتفسير علمي يقود القارئ إلي الإيمان بالله إن كان غير مؤمن ، ويزيده إيمانًا إن كان من المؤمنين .. ومما أذكر من دروسه التي كان يقيمها علينا في دار شارع الناصرية وكانت سببا في تشوفي إلي دراسة العلوم الزراعية بعد أن كنت قد التحقت بكلية أخري حيث كان يفسر لنا قوله تعالي " ما تري في خلق الرحمن من تفاوت " أنه قال لنا إن علماء النبات بدراستهم توزيع أوراق الأشجار علي فروعها ، وجدوا أن هذا التوزيع في أشجار العالم كله خاضع لنظام معين لا يخرج عنه أبدًا هو نظام المتواليات العددية – وهي إحدى قوانين علم الجبر – فكل عائلة من عائلات النبات توزع أوراقها علي فروع أشجارها بموجب متوالية عددية ذات أس لا تحيد عنه مهما كثرت أشجار هذه العائلة وتعددت أماكنها واختلقت البيئات التي تنمو فيها ... وقد حاولت ملاحظة ذلك بنفسي فوجدته صحيحًا فكيف يلمس هذا النظام الرائع إنسان ثم لا يؤمن بأن لهذا الكون إلهاً واحدًا وصدق الله تعالي إذ يقول " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدنا فسبحان الله رب العرش عما يصفون " وحيث يقول إنما يخشي الله من عباده العلماء " .
ولقد كان الشيخ طنطاوي جوهري في أيامه ذائع الصيت في مصر وفي خارج مصر ، وكثيرًا ما كان يقصده العلماء من البلاد الشرقية ومن الغرب ، من أمريكا وانجلترا وفرنسا ، يتلقون علي يديه علومًا معينة .. وأذكر في فترة من أيام شارع الناصرية أنه كان يحرص بعد إلقاء درسه علينا في المركز العام أن يكون في بيته مبكرًا – بعد العشاء – لأن مستشرقة فرنسية قدمت من فرنسا خصيصًا لتحضر عليه شرح " الرسالة القشيرية " وهي من المراجع الأساسية في علم التصوف ، وتعد من الرسائل الفلسفية المعقدة . وقد تقدم في إحدى السنوات ببحث في الموسيقي لنيل جائزة نوبل للسلام – وما كانت هذه الجائزة لتعطي لمصري في ذلك الوقت حتى لو لمس السماء بيده – وقد اطلعت علي هذا البحث فوجدته كتيبًا في نحو مائة صفحة من القطع المتوسط ، ومع أنه بحث في الموسيقي إلا أنك إذا قرأته وجدت كل ما فيه بحوثا في الكيمياء ولكنه أثبت بالقوانين الكيماوية – بطريقته الخاصة – أن هذا الكون إن هو إلا موسيقي . ولم يكن هذا الرجل يدرس القرآن وما يتصل به من علوم ، ويدرس التصوف وما يحيط به من فلسفة ، بقصد الدراسة العلمية ليتشدق بها ، ويبرز في المجتمع .. والرجل لم يكن بحاجة إلي ما يبرزه فقد كان ذائع الصيت كما قدمت ، رفيع المكانة عند الكافة ، بل كانت دراسته دراسة يتقرب بها إلي خالقه ، وقد استنتجت ذلك في موقفين له :
الموقف الأول : أن هذا الرجل علي علو قدره ، وذيوع صيته ، ورفيع مكانته ، وكبر سنه وسعة علمه ، لم يستكبر عن أن ينضوي راضيًا تحت لواء الإخوان المسلمين ، وتحت قيادة حسن البنا الذي لم يكن في ذلك الوقت أكثر من شاب مغمور ، مدرس في مدرسة ابتدائية لا يكاد يعرفه أحد .
الموقف الآخر : أن هذا الرجل كان يلقي علينا درسه في المركز العام بشارع الناصرية بين المغرب والعشاء ، فكان في كثير من الأحيان يأتينا قبيل المغرب فيكلف أحدنا بشراء رغيف صغير جاف وحبة طماطم واحدة ، وحين يؤذن المغرب يأكل الرغيف بحبة الطماطم مع قليل من الملح ويكتفي بذلك إفطارًا من صيامه ، ويتبين لنا في أكثر هذه الأيام أنه كان في بلدته " وراق العرب " وهي من ضواحي القاهرة وتبعد عنها أكثر من عشرة كيلومترات وأنه ذهب إليها في الصباح ماشيًا ورجع منها في المساء ماشيًا .
دخل علي هذا الرجل العظيم وأنا جالس في شرفة المركز العام بعد الظهر وحدي أنقل أرجوزة التصوف التي أشرت إليها من قبل مسلم وقمت من مكاني وتلقيته بما يتناسب مع مقامه ،وأعددت له مقعدًا بجانبي فابتدرني سائلا ماذا تفعل ؟ فأجبته فقال لي : إنها أرجوزة جميلة في التصوف أقرأها علي فأخذت أقرأها فقال لي : ما هكذا يقرأ الشعر يا بني قلت ؛ هل لحنت في شيء مما قرأت ؟ قال : لا إنك لم تلحن ولكن ما هكذا يقرأ قلت : إذن فكيف يقرأ ؟ قال : هل كانوا يقرأونه في سوق عكاظ كما تقرأه ؟ قلت : إذن فكيف كانوا يقرأونه ؟ فتناول الكتاب وأخذ يقرأ بنغمة حلوة كأنه يغنيه ثم قال : لا معني للشعر إذا لم يقرأ بهذه الطريقة ، ولذا فإنهم كانوا ينشدون الشعر لا يقرأونه ، أليس الشعر موسيقي ؟ .. ثم قال لي عندما وصل في الأرجوزة إلي أبيات تتحدث عن الحجب والكشف : أنصت إلي يا محمود فأنصت إليه فقال : إن الرجل ليأخذ نفسه بأساليب الرياضة النفسية فيرقي من درجة إلي أخري حتى يدرك اسمي درجات السمو فيصل إلي درجة الكشف حيث ينكشف له الكون ويري بنور الله ما ستره الله عن خلقه من الغيب . فهل هناك منزلة أعلي من هذه المنزلة ؟ ! ..
قلت : لا أعتقد أن هناك منزلة أعلي من ذلك .
قال : بل هناك منزلة أعلي من تلك متعجبًا : وما عساها تكون تلك المنزلة ؟ ..
قال : هي منزلة رجال يصطنعهم ربهم ، ويختارهم من بين خلقه ، ويكل إليهم مقارعة الفساد ومنازلة الظلم ، وإشعال جذوة الإيمان بالله في القلوب ، وبث روح الأخوة بين المؤمنين ؛ حتى تتكون لدعوة الله قوة ترفع صوت الله في الأرض ، فثقف للظلمة والمفسدين بالمرصاد .. ثم قال الشيخ : واعلم يا بني أن هذه المهمة التي يختار لها الله تعالي هؤلاء الرجال تقتضي أن يحجبهم عن غيبه فهم دائما محجوبون لكنهم مع هذا الحجب أعلي درجة من أهل الكشف ؛ لأن أهل الكشف لا ينتفع بهم الناس ، أما هؤلاء فينتفع بهم خلق كثيرون بل ينتفع بهم أمم ينقلونها من حال إلي حال ... قال واعلم يا بني أن من هذا النوع من الرجال الرسل فموسي أعلي درجة من الخضر ، وسليمان أعلي درجة من الذي عنده علم الكتاب ، ومنهم كبار الصحابة من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومنهم كبار المصلحين ومنهم حسن البنا .
قلت : أهكذا تري حسن البنا ؟ ...
قال : نعم ، قلت : وكيف عرفته ؟ .
قال : سمعت عنه فذهبت إليه وجلست معه وسألته إلا يدعو ؟
قال : أدعو إلي القرآن .
قلت : دع هذا اللفظ الكريم من حديثنا ، فإن هذا اللفظ الكريم ظالمًا بينًا : لقد انتحله الجميع وانتسبوا إليه ؛ ما من فرقة قامت في الدولة الإسلامية – مهما كانت زائغة عن الإسلام – إلا وادعت أنه تدعو إلي القرآن ... فأجبني بتفاصيل ما تدعو إليه في كل ناحية من نواحي الحياة ... قال فشرح لي تفاصيل دعوته فوجدتها في حدود كتاب الله ... قال : ثم رأيت في الشاب وآرائه وفهمه لكتاب اله ،وإحاطته بالتاريخ وفهمه للمجتمع الذي نعيش فيه ، وذكائه وألمعيته وشخصيته الأخاذة ، ومقدرته علي جمع الناس علي دعوته ، وصبره علي المكاره ، وتعففه عما في أيدي الناس ـ، وبذله في سبيل دعوته ، ولين جانبه ،وتواضعه بحيث لا تكاد تميزه من أتباعه ؛ قال فرأيت فيه صفات القائد الذي يتفقده العالم الإسلامي .
أقول : وحرصًا مني علي أمانة النقل أقرر أن هناك بقية لهذا الحديث ولكني لا أذكر هل الذي قالها لي هو الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري أم أن الذي قالها لي هو الأستاذ المرشد بعد أن حدثته بما دار بيني وبين الأستاذ الكبير من حديث ، تلك هي : أنه بعد انتهاء الحوار بينهما علي النحو الذي ذكرت وبعد أن أعلن الشيخ اقتناعه قال له الأستاذ المرشد : يا سيدي الأستاذ ؛ إنك أستاذنا وأستاذ الجميع وأنت حكيم الإسلام وأراك أحق بمنصب الإرشاد لهذه الدعوة مني .. وهذه يدي أبايعك .. فقال الشيخ : لا يا أخي ... أنت صاحب الدعوة وأنت أقدر عليها وأنت أجدر بها ... وأنا أبايعك علي ذلك – ومد فبايعه – ولم ينكث – رحمه الله بيعته إلي لقي ربه ... حتى إنه لما وقعت الفتنة الأولي وانشق جماعة من الإخوان مما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله وأسسوا جماعة " شباب محمد " ذهبوا إليه وطلبوا منه أن يكون مرشدًا عامًا لهم فرفض قائلاً " لا يجوز أن يكون للمسلمين إلا مرشد عام واحد " .
(2) قوة روحية جارفة :
قد يلاحظ القارئ أني حين أصف حسن البنا لا أتعرض لميزاته العقلية والذهنية مع أنه كان فيها الذروة التي لا تسامي خصوبة ذهن وحدة ذكاء واتقاد قريحة وحافظة تعي فلا يفلت منها شيء وذاكرة لكل ما رأت أو سمعت حتى أسماء الأشخاص مهما طال عليها الزمن وتباعدت بها البلاد فقد يزور قرية في أعماق الصعيد ويلتقي بعد سنوات في القاهرة يفرد منها فتراه يناديه باسمه ولقبه ويسأله عن أبنائه بأسمائهم – ومع ذلك فأنا لا أتعرض لهذه الميزات لأن كثيرًا من الزعماء يتمتعون بأنصبة متفاوتة منها .
ولكن الميزة التي تنقطع دونها الأعناق والتي قلما يجود الزمان بزعيم يظفر بنصيب منها هي القوة الروحية الخارقة ولقد كان حسن البنا – رحمه الله – عميق الإيمان بالله ، شديد الثقة فيه ، يؤمن بالغيب الذي يسمونه الآن " ما وراء الطبيعة " وكان كثيرًا ما يردد قول ابن الفارض .
ولأنك ممن طيشتــته طروسـه ::: بحيث استقلت عقلــه واستبـدت
فإن وراء العقل علمـًا يجـل عن ::: مدارك غايـات العقـول السليمـة
وكان يري في القرآن ما لا يراه غيره ؛ وإن كنا جميعًا نردد عبارات مؤداها أننا نؤمن بأن القرآن هو كل شيء لكننا في تصرفاتنا في الحياة نتصرف وكأنما لا نؤمن بما نردد .. أما هو فكان القرآن هو حياته وهو عمله وحركته ، وهو تفكيره وسكونه ، وهو كلامه وسكوته ، وهو دائرة آماله وهو مرجعه ولا مرجع له غيره .. لقد كنت أحار في تصور قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلي الله عليه وسلم إنه كان " خلقه القرآن " حتى لقيت حسن البنا وصاحبته فبدأت الصورة تتضح أمامي . لم أر إنسانًا يحفظ القرآن كما يحفظه هذا الرجل ؛ لم يكن يتحدث مع أي أحد كان في أمر من الأمور إلا صدع بالآية دون ما إعمال فكر كأنما أنزلت عليه ... ولم أكن أقدر هذه المقدرة حق قدرها إلا بعد أن حفظت القرآن وقرأته غيبًا علي نفسي وعلي غيري عشرات المرات ، و مع ذلك كنت إذا حاولت تذكر آية معينة في موضوع معين أعجز في أكثر الأحيان عن الإتيان بها ... وفهمت من ذلك أن حفظ القرآن شيء وخاصية الاستشهاد بآيات منه في مواضع مختلفة شيء آخر .
سألته مرة أي التفاسير تنصحني أن أقرأ ؟ فقال لي : إن كنت تريد نصيحتي فلا داعي لقراءة تفاسير ... إن القرآن واضح .. حسبك أن تعرف معاني الكلمات الغريبة عليك وهي قليلة ثم اقرأه وتدبر معانيه وافتح له قلبك ، وأنت تعرف سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم ؛ إذا فعلت فإنك سيتضح لك من معانيه مالا تظفر به من كتب التفسير . وكان له مصحف من القطع الذي هو فوق المتوسط ، وكنت أري فيه في مواضع متعددة ملاحظات كتبها بخطه ؛ لعلها معاني سنحت له وومضت في قلبه فرأي أن يقيدها أمام الآيات قبل أن ينساها .... لم يكن يدع لحظة فراغ إلا ملأها بالقرآن ؛ حين كما نصاحبه في السفر ، سواء أكان السفر بالقطار أم الأتوبيس كان يمضي الطريق مغمضًا عينيه يتلو القرآن حتى نصل إلي الجهة التي نريدها .
حدثني مرة أنه قرأ في كتاب – سماه لي وقتها ولكني أنسيت أسمه الآن – أن رجلا جاء إلي الإمام أحمد بن حنبل وشكا له أن أخاه تنتابه حالة يفقد فيها وعيه ، ويمزق ملابسه ، ويهاجم من حوله ، ويريد أن يفتك بأقرب الناس إليه ، وقال إنه عرضه علي الأطباء حتى يئسوا منه ولا يدرون ماذا يفعلون ... وكان الإمام أحمد بالمسجد فقال للرجل أحضر أخاك وهو في هذا الحال فلما أحضره أمره أن يرقده ثم أخذ الإمام يقرأ القرآن حتى سمع الجميع صوتًا منبعثاً من جسم الرجل المريض يستغيث بالإمام ويقول له : حسبك وسأفعل ما تريد . فقال له الإمام : دع هذا الرجل واخرج من إصبع قدمه قال الصوت سمعًا وطاعة ، وخرج من إصبع قدم الرجل وإذا بالمريض يستيقظ كأنما حل من عقال ، وكأن لم يكن مصابًا من قبل .
قال لي الأستاذ : وقد شغلتني هذه القصة وكنت أتأهب – حسب جدول زياراتي – لزيارة إخوان السويس . وركبت القطار وظللت طيلة الطريق أفكر في هذه القصة وأتعجب لما فيها وأقول : أهو سر الإمام أحمد أو هو سر القرآن أم أن القصة فيها مبالغة ؟.. ولم تزل هذه الأفكار تراودني حتى وصل القطار محطة السويس ، ونزلت من القطار فوجدت الإخوان متجمعين في انتظاري فعانقتهم ، ولاحظت أن واحدًا منهم كان يقف وحده بعيدًا ، فقربت منه فرأيت علي وجهه أثر الحزن ؛ فتركت الإخوان وانتحيت به جانبًا وسألته عما يحزنه ، فقال لي : إن الذي يحزنني أمر خطير ، وإنني قد ضقت ذرعًا بالحياة ، وسدت أمامي الطرق ،وأحاط بي اليأس من كل جانب ... إن زوجتي امرأة صالحة مطيعة ، ولي منها أبناء صغار ، وقد اعتراها منذ عام مرض ينتابها بين الحين والحين ؛ تفقد فيه رشدها ،و تتحول إلي وحش كاسر ، إذا استطاعت الوصول إلي أي منا حاولت قتله ، وتحطم كل شيء أمامها ... وقد عرضتها علي الأطباء هنا وفي القاهرة حتى يئسوا ... وقد انتابها المرض اليوم ، ولما كنت أعلم بقدومك اليوم أدخلتها حجرة وأغلقتها عليها وجئت أنتظرك لأعرض عليك مصيبتي لعلك تعينني فيها ....
يقول الأستاذ لي : فابتسمت والأخ لم يعلم لم ابتسم ... وتذكرت قول إبراهيم عليه السلام " رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلي ولكن ليطمئن قلبي . قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ... الآية " قال الأستاذ : قلت له هيا بنا إلي البيت .. واستأذنت من الإخوان . ودخلنا البيت ودخلنا الحجرة المغلقة فرأيت امرأة بها ، فقلت له : ادخل وغطها تمامًا بملاءة بحيث لا يبين منها شيء ، ففعل ثم دخلت الحجرة ووقفت بجانب السرير وأغمضت عيني وأخذت أقرأ القرآن ، وظللت أقرأ حتى سمعت صوتًا منبعثاً من جسم المرأة ولكنه صوت رجل يقول : كيف تكون يا بنا إمامًا للناس وتنظر إلي عورات النساء ففتحت عيني فرأيت جزءًا من ساقي المرأة قد انكشف نتيجة ما ينتابها من حركات عنيفة ... فأمرت زوجها فغطاها ثم واصلت قراءة القرآن حتى سمعنا صوت الرجل المنبعث من جسم المرأة يقول في نغمة استعطاف : إنك إمام المسلمين وتريد أن تحرقني وأنا مسلم ... قال الأستاذ فقلت له : إن كنت مسلمًا لما آذيت مسلمة .. قال : وماذا تريد مني ؟ قلت دع هذه المرأة واخرج . قال أمهلني .. فواصلت القراءة . فقال بعد قليل استحلفك بالله إلا أمسكت عن القرآن حتى لا أحترق وسأخرج ... قلت إن كنت خارجًا فاخرج من إصبع قدمها . فأراد أن يساوم فواصلت القراءة فصرخ مستغيثًا وخرج من إصبع قدمها فقامت المرأة كأنما حلت من عقال وكأن لم تكن أصيبت من قبل .
وكان مما حدثنا به الأستاذ المرشد في صدد ما كان من الأستاذ أحمد السراوى معه ؛ أنه في أوائل أيام نقله إلي القاهرة من الإسماعيلية ونعرفه بالأستاذ السراوى أن طلب إليه الأستاذ السراوى أن يصاحبه في قضاء مصلحة له فسار معه حتى دخل معه منزلا فوجد نفسه في مكان يشبه أن يكون عيادة طبيب ، وجاء الطبيب قبالتي وأخذ يحملق في عيني وأنا أنظر إليه في تعجب ولا أدري ماذا يريد مني .. يقول الأستاذ المرشد : وبعد نحو ساعة وقف الطبيب وقال للسراوى : صاحبك هذا قوة روحية خارقة ، ليس في الدنيا الآن قوة تستطيع التغلب عليها ولا أن تعادلها ؛ لقد حاولت معه بجميع الوسائل ولم أتركه إلا بعد أن أحسست أنني إذا زدت علي ذلك لحظة فسأنام أنا .. قال الأستاذ المرشد وبعد أن خرجنا سألت السراوى عن هذه المفاجأة فقال لي لقد لاحظت أن فيك قوة روحية خارقة ، فحاولت أن أعرف مدي هذه القوة ، فاتفقت مع هذا الرجل – وهو أقوي منوم مغناطيسي في مصر – علي مبلغ كبير إذا هو استطاع أن ينومك ، ولم أشأ أن تعرف عن عزمي هذا شيئًا حتى آخاك علي غرة دون أن تستعد . وقد خسر الرجل المبلغ .
(3) بصيرة نافذة ورأي ملهم : حول سيد قطب :
انتهي سوق الأدب في مصر بل في الشرق العربي كله إلي مجلة " الرسالة " التي كانت تصدر في القاهرة . كان يصدرها أديب كبير هو الأستاذ أحمد حسين الزيات . وقد استطاع هذا الرجل بحكمته أن يجعل مجلته هذه ملتقي أفكار الأدباء وأقلامهم علي اختلاف نزعاتهم ، وتباين وجهاتهم فقد كان يكتب فيها مصطفي صادق الرافعي وهو حامل لواء الأدب الإسلامي ، كما كان يكتب فيها عباس محمود العقاد وكان معروفاً عنه في ذلك الوقت أنه يمثل الجانب الآخر .
وكان لكل من الرجلين مدرسة علي شاكلته ومريدون ، وكان من تلامذة العقاد في ذلك الوقت شاب أديب درعي اسمه " سيد قطب " ولم يكن سيد قطب مجرد تلميذ للعقاد بل كان أقرب تلاميذه إليه وأنصفهم به وأشدهم تشيعًا لأدبه وأفكاره واتجاهاته ؛ حتى إن مجلة الرسالة بعد أن لقي الرافعي ربه ظلت فاتحة صفحاتها للكتابة عن الرافعي ردحًا من الزمن فكان أشد الكتاب تهجمًا علي الرافعي وإشادة بالعقاد هو سيد قطب ... وكان هذا المتهجم علي الرافعي يحز في نفوس الألوف من قراء " الرسالة " الذين كانوا لا يقتنونها كل أسبوع إلا لمقالة الرافعي التي كان الزيات يجعلها دائما المقالة الافتتاحية لكل عدد ، وتأتي من بعدها مقالات العقاد وغيره من أمثال أحمد أمين وطه حسين وأحمد زكي ، وكان الناس يتدارسون مقالة الرافعي حتى إن منهم من كان يحفظها عن ظهر قلب .
علي أن " الرسالة " مهما أفسحت من صفحاتها للأضداد ؛ فقد كان لها من الكرامة والرهبة والوقار ما يجد الكاتب فيها نفسه ملتزمًا بهذا الوقار مهما كان بطبيعته سفًا منحلاً ، وقد يجد هؤلاء فيها سوي " الرسالة " من الصحف مجالا لنشر آرائهم وإبراز إسفافهم . وقد قرأت ي ذلك الوقت في جريدة " الأهرام " مقالا لسيد قطب يدعو فيه دعوة صريحة إلي العري التام وأن يعيش الناس عرايا كما ولدتهم أمهاتهم – وكانت هذه البدعة قد انتشرت في بعض بلاد أوروبا – وقد أثارني هذا المقال إثارة لم أستطع معها أن أقاوم القلم الذي وجد في العقل والمنطق والخلق والحياء ألف دليل ودليل يدحض هذه الدعوة ، ويثبت أنها دعوة تخريبية بهيمية دخيلة .
حملت المقال الذي كتبته وذهبت إلي الأستاذ المرشد – كدأبي في كل مقال أكتبه في غير مجلتنا – وكنت مزمعًا نشره في " الأهرام " مطالبًا إياه بنشره في نفس المكان الذي نشر فيه المقال المردود عليه ....قرأه الأستاذ المرشد ثم أطرق طويلا – علي غير ما عودني – ثم التفت إلي وقال : يا محمود إن المقال متين الأسلوب ، قوي الحجة ، جدير أن ينشر ، وقد سبق أن أجزت لك ، ما نشرته في بعض الصحف اليومية .. ولكتن في هذه المرة مرت بخاطري عدة خواطر أحب أن أعرضها عليك فقال :
أولاً : لا شك أن فكرة المقال فكرة مثيرة تجرح قلب المؤمن .
ثانيًا : كاتب هذا المقال شاب متأثر بالبيئة التي تعرفها ونعرفها جميعًا وهي التي تغذيه بمثل هذه الأفكار .
ثالثًا : إن هدف هذا الشاب من كتابة هذا المقال ليس هو مجرد التعبير عما يؤمن به ، وإنما هو محاولة جذب الأنظار إليه علي أساس عرفهم من أن الغاية تبرر الوسيلة .
رابعًا : إن قراء " الأهرام " عدد محدود بالمسبة لسكان هذه البلاد . وليس كل قراء " الأهرام " قد قرأوا هذا المقال ، فأكثر قراء الأهرام لا يقرأون فيه إلا الأخبار . وأكثر الذين قرأوا المقال لم يستوعبوا فكرته لأنهم اعتادوا قراءة المقالات غير الرئيسية قراءة عابرة .
خامسًا : إذا نشرنا ردًا علي هذا المقال في الأهرام " كانت لذلك النتائج التالية " :
أ)سيثير نشر الرد اهتمام الذين لم يقرأوا المقال الأصلي إلي البحث عنه وقراءته ، كما سيدفع الذين قرأوه قراءة عابرة أن يقرأوه مرة أخري قراءة متأنية ، وستبرز بذلك فكرة المقال في مختلف المجتمعات وتكون موضوع مناقشة واهتمام .. ونكون بذلك قد عملنا – من حيث لا نقصد – علي تحقيق مآرب صاحب المقال من جذب الأنظار إليه وجعل اسمه علي الألسنة .
ب)نكون – من غير قصد – قد تسببنا في لفت الأنظار إلي لون من الرذائل ربما علقت به بعض النفوس الضعيفة ولو لم نرد عليه لمرت الدعوة إلي هذه الرذائل في غفلة من الناس غير معارة أي اهتمام ولطمرت في طيات النسيان .
ج)الرد نوع من التحدي ، والتحدي يخلق في نفس المردود عليه نوعًا من العناد ، وهذا العناد يجعله يتعصب لرأيه مهما اقتنع بخطئه ، ونكون بذلك قد قطعنا عليه الرجعة ؛ وفي هذا خسارة نحن في غني عنها .
وهذا الكاتب شاب وترك الفرصة أمامه للرجوع إلي الحق خير من إحراجه ... وما يدريك لعل هذا الشاب يفيق من غفلته ، ويفئ إلي الصواب ، ويكون ممن تنتفع الدعوة بجهوده في يوم من الأيام .
ثم قال : ما رأيك في هذه الخواطر ؟ ..
قلت : إنها مقنعة تمام الإقناع .... ومزقت الرد بين يديه .. ولا داعي للإشارة إلي ما كان من أمر هذا الشاب ،وما يسره الله من اليسري حتى صار علمَا من أعلام الدعوة ، ثم كان من شهدائها ... وإن كان شيء من نبوءة الأستاذ المرشد رحمه الله لم يتحقق في حياته .
ثانيًا : ضوء علي بعض شخصيات الدعوة :
أحمد رفعت :
كان ذلك في عام 1937 . شاب لم يتجاوز العشرين ، كنت تلمح في قسمات وجهه وسامة الإيمان ، وفي بريق عينيه الذكاء والنضج ، وفي نبرات حديثه تحس الطيبة المنبعثة من قلب سليم ، كما تشعر بحماس جارف وتفان في سبيل فكرته التي يؤمن بها – وكان شابًا صغيرًا إلا أنه جاد في كل أحواله لا يعرف الهزل ولا يميل إليه ، ولا يعترف به .. تحس في حركاته المنطلقة انطلاق السهم مدي ما يعتمل في نفسه من آلام وآمال . يحسن الحديث ، ويقدر علي الإقناع .. إذا رأيته أحببته ،وإذا خالطته ازددت له حبًا ... لم يكن ينقصه مع كل هذه المزايا إلا الخبرة بالحياة والتجارب التي تجعل نظره الذكي نظرًا شاملاً ... كان طالبًا في مستهل الدراسة بكلية التجارة في القاهرة ، وكان ممن تعرفوا علي الدعوة بعد انتقالها إلي دار ميدان العتبة ، إلا أنه كان داعية مثمرًا في كليته ، و كان والده موظفاً في القاهرة ويقيمون في حي المنيرة .
صديق أمين :
صنو أحمد رفعت وزميله في الكلية وفي الإخوان وفي السن وفي السنة الدراسية وفي المستوي الثقافي والعقلي ، ولم يكونا يفترقان إلا وقت النوم ، ولم يكن يذكر أحمد رفعت إلا ذكر معه صديق أمين فيقال : رفعت وصديق ،ومعني ذلك أن لرفعت القيادة ... وصديق من سكان المنيرة أيضًا ، ووالده مقاول ، وهو كصنوه شخصية ذكية محببة علي إيمان وعزم .
عزت حسن :
شخصية إخوانية قديمة الصلة بالدعوة لم أسعد بلقائه إلا عفوًا ، ولكني كنت معجبًا به لما كنت أقرأ له من مقالات في مجلة " الإخوان المسلمون " التي كانت تصدر قبل اتصالي بالدعوة . كان له قلم سيال ، وأسلوب طلي ، وتحس حين تقرأ له أنك تقرأ لعاشق شغفته الدعوة حبًا ، وأفنت قلبه صبابة . وإذا قرأت له أحسست أنك تقرأ لأديب كبير ، ضليع في اللغة والأدب . ولقد كنت أتصوره – وأنا أقرأ له – أنه من أفذاذ من تخرجوا في كلية الآداب أو دار العلوم حتى فوجئت بأنه ليس علي الصورة التي تصورتها وإنما هو رجل لم تسعفه الظروف بأن يواصل مراحل التعليم فاقتصر علي المرحلة الابتدائية ، وانسلك في سلك الوظائف الصغيرة حتى كان في تلك الأيام معاون سلخانة طوخ ، وكان إذ ذاك في العقد الرابع من السن تقريبًا ، وكان مقيمًا في طوخ ، ولا يحضر إلي القاهرة إلا لمامًا ... فإذا حضر استقبله الأستاذ بالعناق ؛ لأنه كان يحبه ، ويقدر فيه جمال الأسلوب ، وحسن الأداء ، وفيض الروحانية ... وكان الأستاذ المرشد – باعتباره من أعلم الناس بأسرار اللغة وآدابها ، ومن أقدرهم علي التعبير عنا في نفسه بل وفي نفس غيره سواء باللسان أو بالقلم – كان قديرًا علي فهم الرجل من كتابته ، ولقد كنا نحب هذا الرجل لحب الأستاذ المرشد له .
حسن السيد عثمان :
طالب في كلية الحقوق من أسرة مرموقة في طما الصعيد ، وكان أكبرنا – نحن الطلبة – سنًا وجسما ، متفان في الدعوة ، وكان عنوانًا كريمًا لدعوته ، وكان من الأغنياء الأسخياء ، وكنا نعده في ذلك الوقت عثمان الدعوة وقد اتخذناه – بتوجيه من الأستاذ المرشد – رئيسًا للجنة الطلبة ... ومع كل هذه المميزات الطيبة ، فقد كانت تغلب عليه روح التطرف الناشئة عن البراءة المطلقة كبراءة الطفولة ؛ فلا يكاد مثلا يسمع أو يقرأ أن المسلمين الآن لا إمام (خليفة) لهم ، وأن لصلاة الجمعة علاقة بالإمامة ؛ فيمتنع عن صلاة الجمعة حتى يصير للمسلمين إمام – وهو أم يحتاج في تحقيقه إلي أجيال وأهوال – ومع ذلك فإنه كان يبذل الكثير في سبيل دعوته ، وكان محببًا إلينا جميعًا ، ومحببًا إلي الأستاذ المرشد .. وكان صديقه الذي لا نكاد نراه إلا معه هو الأخ الكريم محمد فهمي أبو غدير ، زميله في الكلية ومن أسرة كريمة في الواسطي أسيوط ، وقد التحقا بالدعوة معًا أو لعل فهمي كان أسبق ، وعلي كل فهو يشترك مع صنوه حسن في كل صفاته الطيبة ، وفي درجة إيمانه بدعوته ، لكنه كان يختلف عنه في أنه كان أوسع أفقاً في فهم الفكرة الإسلامية وفي معالجة الأمور بمقاييسها ، وبهذه المرونة كان فهمي أكثر إنتاجًا لدعوته وكانت مناقشاته أكثر نجاحًا ، وكان محببًا كثير الأصدقاء ، حتى من غير الأوساط الإسلامية – وكثير من هؤلاء – بهذه المرونة – صار من الإخوان ، ومن لا يصر منهم صار من محبي الدعوة وأصدقائها .
عيسي عبده :
وكان مدرسًا بمدرسة التجارة المتوسطة في القاهرة في ذلك الوقت ، وكان بالطبع أكبر منا سنا ، وقد أخبرنا الأستاذ أن عيسي كان من أسرة مسيحية أسلمت جميعها عن اقتناع .. وكان الأستاذ المرشد يحب عيسي ويقربه ويؤثره ، ويقدمه دائمًا للحديث إلي الإخوان ، لأنه كان محاضرًا لبقاً ، ومحدثاً طويل النفس ؛ وكان عيسي مندمجًا في منظمات الإخوان فكان أحد أعضاء الكتائب ؛ إلا أنه لم ينتظم في سلك الجوالة .. وكان كأنما يري أنه جيل غير جيل الطلبة ؛ فلم تكن بينه وبيننا نحن الطلبة صلات وثيقة ترفع فيها المجاملات ؛ مع أنه كان معنا من هو أكبر منه سنًا وهو الأخ الكريم الأستاذ محمد حلمي نور الدين وكان نجله زميلا لي بالكلية ؛ ومع ذلك كنت إذا رأيته بيننا لم تحس إلا أنه طالب معنا .. وليس معني ذلك أنه كانت بيننا وبين الأخ عيسي جفوة ، بل إننا كنا نحبه ونقبل عليه وكان يبادلنا هذا الحب والإقبال .
أحمد حسن الباقوري :
أقدم منا جميعًا صلة بالدعوة ، وقد التحقنا بالدعوة فوجدناه " شاعر الإخوان " وممثل الأزهر والطريف أنه كان زعيما لطلبة الأزهر ومع ذلك لم يلتحق حتى ذلك الوقت من الأزهريين – الطلبة – بالدعوة غيره وآل شريت وعبد اللطيف الشعشاعي وعبد الباري عمر خطاب – ومع ذلك كان من أقرب الشخصيات إلي الأستاذ المرشد . كان يكبرنا بسنوات قليلة إلا أنه لم يكن يحس بعد تخرجه لا بإحساس الطالب ، ولا أعتقد أنه يحس بغير ذلك حتى الآن ؛ لأن ميزة إحساس الطالب هي تلك الحيوية الدفاقة في أفكاره وتصرفاته وآماله .التحقنا بالدعوة فوجدنا نشيدها من وضعه ، وإذا قرأت النشيد استطعت أن تعرف منه شخصية الباقوري وأفكاره ، وما يعتمل في نفسه – وقد أثبتنا هذا النشيد في فصل سابق . وقد قضت الظروف بأن تكون مجموعة من الإخوان منها الباقوري وأنا علي اتصال شبه دائم فترة طويلة تزيد علي العام ، وقد استطعت خلالها أن أحس حقاً بأن جوانح هذا الشاب إنما تنطوي علي قلب شاعر . ولست أقصد بذلك ما تعارف عليه الناس من الاتجاهات اللفظية للشعر ، وإنما أقصد بالقلب الشاعر ، القلب المترع بالمشاعر النبيلة ، والعواطف الجياشة ، والأحاسيس المرهفة الدفاقة .. ومعني أن إنسانًا تنطوي جوانحه علي قلب شاعر ؛ أن كل ما يصدر عنه لا نراه إلا مصطبغاً بألوان هذه العواطف والأحاسيس وأنه يتجه حيث الحب والامتزاج النفسي ، والانصهار الروحي ، والآمال المحلقة .
ظللنا فترة طويلة في دار العتبة نقضي اليوم كله منذ الظهيرة حتى منتصف الليل بدار المركز العام ، وكثيرًا ما كان الأستاذ المرشد يكون معنا ؛ ولم يكن لنا غذاء إلا ما يحضره لنا " عبد الوهاب فراش المركز العام " من فلافل شارع عبد العزيز حتى صار شعارنا شطرة قالها الباقوري بعد أن أخذت منه الفلافل كل مأخذ : " أم الفلافل ملجأ الإخوان " . ومن الطرائف أن الأستاذ المرشد كان بعد الغذاء يقيل ساعة علي إحدى مقاعد المركز العام وينصحنا أن نفعل مثله إلا أننا لم نكن نفعل لقائنا الوقت في الحديث معًا ، ثم يستيقظ الأستاذ من النوم ونصلي العصر ؛ فيتذكر أن ستقام الليلة – بعد المغرب – ندوة بالدار أو محاضرة أو مناظرة أو مؤتمر فيقول للباقوري : يا شيخ أحمد اعمل لنا قصيدة تلقيها الليلة بمناسبة كذا ، فيجلس الباقوري في ناحية وفي خلال الساعة الباقية علي ميعاد الحفلة يخرج لنا بقصيدة عصماء قد يحتاج غيره لإعداد مثلها إلي أيام وأسابيع .
وبمناسبة هذا الغداء بالمركز العام ، كنت أذهب إلي المركز العام في مثل هذا الوقت وأكون بالصدفة صائمًا صيام نفل ؛ فيتفقدني الأستاذ المرشد علي مائدة الطعام فلا يجدني فيسأل : أين ذهب فلان فيقولون له إنه أخبرنا أنه اليوم صائم ، فيدعوني ويقول لي : ما هدفك من هذا الصيام ؛ فأقول : ثواب الله فيقول لي : إذن فكل معنا وستحصل علي ثوابين معًا ؛ ثواب الصيام بالنية ،وثواب أعظم منه بإدخال السرور علي إخوانك بمشاركتك لهم في الطعام . ومع هذه الشاعرية الدافقة في الباقوري فإنه لم يخرج لنفسه ديوانًا ، ولم يسمح لنفسه أن يلقي قصيدة خارج نطاق الإخوان في ناد من النوادي ولا في حفل من الأحفال ولا في صحيفة ولا في مجلة ؛ وكثيرًا ما كنت أعتب عليه في ذلك ، وأنا أعتقد لو أنه أراد لنفسه هذا الاتجاه لكان من أشهر الشعراء .
ويبدو أن قلبه الشاعر كان يتحكم في إرادته ، وأذكر بهذه المناسبة أنه في إحدى الليالي التي كان يقضيها معنا في الجيزة في منزل الأخ عبد الفتاح البساطي – وكثيرًا ما كنا نترك بيوتنا الأيام والليالي سواء منا من كان يسكن في الجيزة مثلي أو يسكن في القاهرة مثل عبد الحكيم عابدين وعبد المحسن الحسيني ومحمد عبد الحميد أحمد الباقوري ، ونقضي تلك الأيام والليالي معًا في بيت البساطي – في إحدى تلك الليالي بينما كان الباقوري يعبث بكتب علي مكتب عبد الفتاح إذا به يفتح كتابًا منها وينظر فيه ثم يتفجر مكبرًا مهللاً وهو يقول : الحمد لله وجدت ما أعياني البحث عنه . فالتفتنا إليه وسألناه ما هذا الذي أعياك البحث عنه وما هذا الذي وجدته ؟ قال : إني أقبل يد الأستاذ المرشد وبعد كل مرة أقبل فيها يده ، أسأل نفسي هل هذا عمل يرضاه الإسلام وهل لهذا العمل سند من السنة ؟ ومع ما يتلجلج في نفسي من هذا التصرف من شكوك ومع ما وصلت إليه من يأس من العثور علي أثر في السنة أستند إليه ، فقد كنت دائمًا لا أستطيع أن أقاوم نفسي في تقبيل يد الأستاذ ... والآن وأنا أعبث في هذه الكتب وليس في نيتي البحث عن شيء ، تناولت هذا الكتاب وفتحته فتحًا عشوائيًا فإذا بعيني تقع علي هذا الحديث – (كان كتاب رياض الصالحين للإمام النووي) وقرأ لنا الحديث وكان راوي الحديث علي ما أذكر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، وفي سياق الرواية يقول " فتقدمت إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقبلت يده ثم ساق الحديث . ولقد كان لهذا الحديث أجمل الوقع في نفوسنا جميعًا فقد كان يتلجلج في نفوسنا ما كان يتلجلج في نفس الباقوري ، ولا نملك مع ذلك إذا التقينا بالأستاذ إلا أن نقبل يده – علي كره منه ومقاومة شديدة – فكان هذا الحديث إرضاء لعقولنا في عمل كان ينطلق من صميم قلوبنا متخطياً حواجز العقل والقياس والمنطق . ولا أدري حتى اليوم السبب الذي من أجله عزف الباقوري عن مجاراة طبيعته الشعرية ومحاولته إخفاء هذه الطبيعة عن المجتمع ، أهو السبب الذي من أجله نسب إلي الإمام الشافعي قوله :
ولولا الشعر بالعلمـاء يــزري ::: لكنت اليـوم أشعـر من لبيــد
أم هو سبب آخر ، ولكن الذي أتصوره أن مصادرة المرء لطبيعة أصيلة فيه ، قد تؤدي – دون أن يريد ودون أن يحس – إلي إبراز عواطفه وانفعالاته في صورة مشوهة لا يستطيع تداركها ولا تهذيبها ولا السيطرة عليها ، مع أنه لو جاري طبيعته مع شيء من القصد والمراقبة لأتت تصرفاته وتعبيراته عما في نفسه سديدة محكمة مثيرة لإعجاب كل قارئ وكل سامع ، ولصار صاحبها من الناس ملء السمع والبصر ... وقد يعجز الكاتب الأديب عن التعبير عن معني عميق الغور في نفسه إذا لزم نفسه التعبير النثري ، في حين يجد المجال فسيحًا في عالم الشعر في لمس هذا المعني وتصويره ، ذلك أن الشعر يسع من العواطف مالا يتسع له النثر . وإذا كان للشاعرية من المزايا ما يعجب ويبهر ، فإن لها جانبًا قد يبعث علي الحيرة ويثير الدهشة ، فلقد كان الباقوري مع ذلك شطحات تلقي به خارج المركز العام فنفتقده بالشهور حتى نكاد في غمرة العمل المتواصل للدعوة أن ننساه ، لكن الأستاذ المرشد لم يكن ينساه بل كان كأنما يتغافل عنه حتى إذا احتاج إليه بعث في طلبه فحضر بين يديه وألقي علي كاهله من أعباء الدعوة ما شاء أن يلقي .
عبد الحكيم عابدين :
أوردت هذه الأسماء التي ألقيت شعاعًا من الضوء علي كل منها لأن لها اتصالا بعنوان هذا الفصل ولكن عبد الحكيم عابدين لا علاقة له ولا اتصال بهذا العنوان وإن كانت فصول قادمة إن شاء الله شبيهة بهذا العنوان سيكون هو قطب رحاها ، فرأيت أن أختم به تلك الأسماء في معرض إلقاء الضوء عليها ، لاسيما وذكر الباقوري يقتضي ذكر عبد الحكيم عابدين لأنهما فرسا رهان ، ورضيعا لبان ، نهلا من منبع واحد ، وصدر بعد ارتواء ، تجمعهما سجية أدبية ، وسليقة عربية ، وقلب شاعر يفيض بالعواطف الدفاقة والأحاسيس المرهفة . وقد سبق في أوائل هذه المذكرات أن نوهت بما طبع عليه عبد الحكيم عابدين من شاعرية حين تعرفت عليه في أول لقاء لي معه عن طريق إسماعيل الخبيري . وحين أنشدني قصيدة طويلة يصف فيها وسائل الطريقة الصوفية التي كان ينتسب إليها في تربية مريديها وتهذيب نفوسهم ، ولازال لهذه القصيدة وقع في نفسي حتى اليوم لأنها فريدة في بابها ، فريدة في هدفها ، بعيدة المدى في دلالاتها ، فهي من الناحية الشعرية لا يكاد يصدق صدور مثلها جزالة ورصانة وتصويرًا من شاب لا يجاوز العشرين فضلا عن أن هذه الوسيلة في تربية النفس هي في ذاتها من السمو بقدر ما هي من العنف بحيث لا تتوق إليها ولا تتحمل مشقة معاناتها إلا نفس صافية شفافة عركت صاحبها الحياة وفعلت بها الأفاعيل ، ولا تكون هذه النفس عادة إلا نفس كهل علي الأقل إن لم تكن نفس شيخ ... فإذا كان الذي يضع نفسه تحت طائلة هذه المحاسبة العنيفة للنفس شابًا غض الإهاب فإنه إذن لشاب في نضج الشيوخ فهما وصبرًا وعقلا .. ولذا فقد علقت نفسي هذا الشاب . منذ هذا اللقاء الأول فقد كشفت لي قصيدته هذه عن معدن نفسه ودخائلها واعتمالاتها واتجاهاتها .. ولعله بادلني نفس الشعور حين لاحظ وقع هذه القصيدة في نفسي ومناقشتي له في بعض أبياتها ومقاطعها . وحين أحس مني تذوقاً للشعر من الناحية الأدبية وتذوقي لمعاني القصيدة من الناحية الصوفية .
كانت كلية الآداب كما قدمت تقوم علي الثلاثي الإخواني محمد عبد الحميد أحمد وعبد المحسن الحسيني وعبد الحكيم عابدين . وليس معني هذا أنهم وحدهم كانوا الإخوان بها فقد كان بها إخوان كثيرون ولكن هؤلاء الثلاثة كانوا عماد الدعوة وركيزتها ، وكان الثلاثة في صف دراسي واحد وفي قسم اللغة العربية في مقدمة صفهم ، وكان لكل منهم ميزة تخصص لها : أما محمد عبد الحميد فكان حكيما ينطق بالكلمات القصار أو يكتبها فتري فيها روعة الفكرة وجمال الابتكار .. وأما عبد المحسن فكان مجادلا عن الدعوة قوي الإقناع ، وكان همه منصبًا علي محاولة ربط الدعوة بالتاريخ الإسلامي ، ولذا فإنه كان كثير الغوص في مراجع التاريخ ...
وأما عبد الحكيم فكان له طريق وحده ، كان يشارك زميليه في القيام بأعباء الدعوة في الكلية إلا أنه كان قليل الحضور إلي المركز العام أيام كان في شارع الناصرية ، ولعله مع إيمانه بالدعوة كان لا يزال مشدودًا إلي طريقته الصوفية ... كما أن نضوجه الأدبي ، وسرعة بديهيته ، ونزعته الشعرية الأصيلة قد قربته من أستاذته فكان طه حسين يأنس إلي الجلوس معه ، ويناقشه ويجادله ويطارحه الشعر ... ومعني ذلك أنه وإن شغل بذلك عن ارتياد المركز العام في ذلك الوقت ؛ فإنه كان يسد ثغرة كان لابد من سدها وهي تقديم الدعوة إلي الأساتذة في الوقت الذي كنا نحن فيه مشغولين بنشرها بين الطلاب . ومثالا لذلك نومئ إلي المظاهرة التي أشرنا إليها في الفصل الأول من هذا الباب والتي دعا إليها الإخوان في الجامعة احتجاجًا علي الكتابين اللذين قررتهما كلية الآداب علي قسم اللغة الانجليزية فيها وفيهما سب للنبي صلي الله عليه وسلم وافتراء وقح عليه .. فنقول : إنه كان من آثار هذه المظاهرة أن ألغي الكتابان وأغلقت الجامعة إلي أجل غير مسمي وظلت مغلقة والدكتور طه حسين عميد الكلية معتصم ببيته وأعلن أنه لن يغادره إلي الجامعة إلا في رفقة الطالب عبد الحكيم عابدين ... وقد ذهب عبد الحكيم إلي الدكتور طه حسين وصحبه إلي الجامعة حيث التقيا بالأستاذ أحمد لطفي السيد مديرها في مكتبه فأخذ لطفي بك يسأل عبد الحكيم عن دعوة الإخوان .. وشرع عبد الحكيم يشرح له الفكرة ووسائلها وأهدافها ولكن بدا بعد هذه الإفاضة في الشرح كأن الأمر لم يتضح للطفي بك كما ينبغي ولاحظ الدكتور طه ذلك فقال : يا لطفي بك .. هل تريد أن تعرف كل شيء عن الإخوان المسلمين قال : نعم .. قال : سأختصر لك ذلك في كلمتين اثنتين : إنهم يريدون أن يستردوا الأندلس فكان هذا من طه حسين فهما قد استوعب فيه من أهداف دعوة الإخوان ما لم يستوعبه كثير من المنتمين إليها .
هذا ولقد شاءت الظروف أن أعرف عبد الحكيم عن قرب ... وقد عرفني بوالده حين حضر إلي القاهرة لزيارته وكان رجلا أميا فارع الطول ، وسيما تلمح في بريق عينيه ، وفي قسمات وجهه سلامة القلب ، ونقاء السرية وتحس في ثنايا حديثه وفي جرس صوته براءة البداوة ، وتستطيع أن تري قرارة نفسه علي طرف لسانه ، لا يحول بينهما حائل من مكر أو خداع .. ولكن لقائي مع الرجل لقاء عابرًا بحيث يتصنع فيه ما شاء من التصنع ، بل كانت رفقة الأيام والليالي ذوات العدد ، فقد كنا معشر هذه المجموعة من الإخوان دار كل منا هي دار جميعنا وجيب كل منا جيب جميعنا . وقد تركت هذه البداوة بذكائها اللماح ، وعواطفها الفياضة ، وبراءتها الطفلية الطاهرة ، طابعها الوراثي في نفس عبد الحكيم وفي كل ما يأتي من قول وعمل وسكون وحركة وتخيل وتصور ومع أن للبداوة جمالا عبر عنه المتنبي بقوله :
حسن الحضـارة مجلوب بتطويـة ::: وللبداوة حسن غير مجـلــوب
فإن واقع الحياة قد يصطدم بها ويتمرد عليها ، فالصراحة – وهي من خصائص البداوة – وإن كانت في ذاتها فضيلة إلا أنها – علي إطلاقها – قد لا تستقيم مع طبيعة الحياة ، ولعل مما يشير إلي هذا قول رسول الله صلي الله عليه وسلم " لو تكاشفتم ما تدافنتم " فطبيعة التعامل مع الناس تقتضي أن لا يفيض المرء بكل ما في نفسه من عواطف بل عليه أن يستبقي في قرارة نفسه قسطاً كبيرًا من شعوره ولا يبرز منه إلا بقدر ، وفي ذلك يقول الهادي إلي أقوم سبيل صلي الله عليه وسلم " أحبب حبيبك هونًا ما عسي أن يكون بغيضك يومًا ما . وأبغض بغيضك هونًا ما عسي أن يكون حبيبك يومًا ما " .
ومن هذا الجانب النبيل من جوانب البداوة التي طبع عليها أتي عبد الحكيم ، ومن مأمنه يؤتي الحذر . ولقد كان الباقوري ممن تجيش صدورهم بفيوض غامرة من العواطف المتأججة والأحاسيس لكنه كان يحجزها بسد منيع من الخوف ، الخوف من النقد .. حتى إذا أمن هذا الجانب ، ووجد نفسه بيننا في منزلنا بالجيزة – حيث تجتمع المجموعة التي نوهت عنها آنفا – انطلق علي سجيته والتقت سجيته بسجية عبد الحكيم وتبادلا من العواطف ما كان الأخ محمد عبد الحميد يسميه " بالشاعريات " وكما كان لهذه " الشاعريات " في الدعوة آثار طيبة لأنها لم تخرج عن كونها مظهرًا من مظاهر الود الذي تطرب له النفس الشفافة المشرقة ، إلا أنه اتخذ بعد ذلك ذريعة لذوي النفوس الحاقدة والقلوب المريضة مما جر علي الدعوة كوارث ، وما كان أغنانا عن حوض غمارها . ولا ينبغي أن ننسي – في غمار الضوء علي شخصية عبد الحكيم عابدين – أن نذكر ديوانه " البواكير " الذي نشره في خلال تلك الفترة من دار العتبة ، وقد لقيت هذه البواكير من الأوساط الأدبية علي اختلاف نظراتها ومستوياتها ترحيبًا وتقديرًا حيث كان أكثرها ثمرًا جنبا في تمام النضج وكمال الازدهار ، كما تلقفته الأوساط الإسلامية في شوق باعتباره أول ديوان إسلامي تغني بكل معاني الدعوة ، ونظم من أهدافها أناشيد رائعة هتف بها الصغير والكبير وردده في اعتزاز القريب والبعيد .
ثالثًا : خيوط الفتنة :
أطلقت " الفتنة الأولي " علي هذه الفتنة التي أنا بصدد الحديث عنها ، وأنا أعلم أن فتنة قبلها وقعت في الإسماعيلية قبل نزوح الأستاذ المرشد إلي القاهرة ، ولقد سمعت عن هذه الفتنة وقرأت كتيبا كان ضمن المطبوعات المهملة بدار المركز العام بشارع الناصرية .. وقد فهمت من قراءتي لهذا الكتيب أنها كانت أسلوبا مألوفا مكررًا يحدث في كل مجتمعاتنا حين يبعث الحقد بعض ذوي النفوس الضعيفة علي الكيد لرجال أحبهم الناس والتفوا حولهم .. ووجد هؤلاء الحاقدون أنفسهم أهون علي الناس من أن يعيروهم اهتمامًا فلم يجد هؤلاء إلي الكذب والافتراء والاختلاق أملا في فض هؤلاء المحبين عن محبوبهم ، ورجاء تمزيق صفهم حتى يجدوا في هذا التمزق راحة لنفوسهم ، وإرضاء لنزوات الحقد المشتعل في قلوبهم ... وأمثال هؤلاء قلما آمالهم بل سرعان ما ينكشف زيفهم ، ويفتضح أمرهم ، وينقلبوا خاسرين دون أن تمس الدعوة بأذى أو ينتقص منها شيء وهذا هو ما حدث فعلا في الإسماعيلية .
أما هذه الفتنة فهي نوع آخر ، مثلها ومثل سابقتها كمثل بيت معمور بالسكان شبت النار خارجه ومدت ألسنتها نحوه ، فتنبه الناس من خارجه ومن داخله يكافحونها حتى أخمدوها دون أن تنال من البيت شيئًا ، وبعد فترة من الزمن شبت النار من داخله ولم يحس بها السكان إلا بعد أن استشرت وتأججت بما أنت عليه مما جاورها من أثاث ، فقام أهل البيت يوقظ بعضهم بعضًا ليتعاونوا علي مكافحتها بعد أن كادت تأتي علي ما بالبيت كله ، فكان علي أهل البيت وحدهم عبء مكافحتها لأن أحدًا ممن هم خارج الدار لا يعلم شيئًا عما يعانيه أهل البيت ... وكان الأدهى والأمر أن عددًا كبيرًا من سكان البيت رفضوا التعاون مع المكافحين مستمرئين ما يصل إليهم من دفء بعثته النيران قبل أن تصل إليهم بلهيبها ، فصارهم المكافحين همين هم مكافحة النار وهم ركل هؤلاء المستمرئين بأقدامهم حتى يتحركوا قبل أن تأكلهم النيران .
لم تنشأ هذه الفتنة عن فساد في النفوس ، أو ضعف في الأخلاق ، أو استهتار بالدين ، ولا عن تسابق إلي مغانم أو تلهف علي عرض من أعراض الدنيا .. وإنما نشأت بين مجموعة بلغت نفوسها من الصفاء درجة الشفافية ، و سمت أرواحهم حتى حلقت مع الملائكة ... لا أعتقد أنه كان علي وجه الأرض في ذلك الوقت قوم أصفي نفوسًا ولا أتقي قلوبًا ولا أعلي هممًا ، ولا أشد حبًا للإسلام ولا أسمح بالنفس والمال في سبيله من هذه المجموعة التي أوقدت نار هذه الفتنة وكانت هي وقودها . وليس أشد علي دعوة من الدعوات أو مجتمع من المجتمعات ، من فتنة تنشأ من داخله .. إنها الخطر المدمر الفتاك ، الذي إذا نجح ينسف الجميع نسفاً ويذره دفاعًا صفصفًا . ولقد هوجمت الدولة الإسلامية ، تأليت عليها الأمم من كل جانب ، وتناسي المختلفون من الأعداء اختلافاتهم وجمعوا قوتهم ليضربوا الأمة الإسلامية ضربة رجل واحد ، فما قال كل ذلك من صلابة قناتها ولا أوهن من عزمها ولا انتقص من سلطانها ... ولكن الذي فعل بالدولة الإسلامية الأفاعيل ، وأوقف المد الإسلامي الذي عجز الأعداء عن وقفه هو تلك الفتن التي نشأت بين الحين والحين من داخل الدولة . وقد تنشأ هذه الفتن الداخلية عن حسن قصد أو سوء نية إلا أنها تتساوي في نتائجها المدمرة وفي أخطارها التي تصعب الإحاطة بها .
أما فتنتنا هذه التي نحن بصدد الحديث عنها فإنها كانت فتنة داخلية منبعثة من حسن قصد ، وصادرة عن قلوب لا يشك في إخلاصها ... وكان الأستاذ المرشد كثيرًا ما يحذرنا من مداخل الشيطان الخفية إلي قلوب الصالحين ، ومن افتنانه في الاحتيال علي هذه القلوب فيدفع بها إلي المغالاة في الخير تخرج بها حدود الخير وتلقي بها في بحار الشر ، ويذكر بقول رسول اله صلي الله عليه وسلم " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقي " . كانت الدعوة في تلك الحقبة من الزمن في أزهي أيامها ، تشق طريقها في جميع البيئات والأوساط كما تشق السفينة البحر الهادئ والريح رخاء ، كل يوم تخرج بربح من الرجال وشباب يقبلون علي الدعوة ويبايعون عليها ... وكادت الدار – علي سعتها – تضيق بالوافدين ، وأصبح للدعوة صوت مسموع في جميع القضايا سواء علي المستوي المصري والمستوي العربي الإسلامي ، وصدرت رسالة " نحو النور" تعالج كل هذه القضايا علاجًا واضحًا عمليًا لا لبس فيه ، وكأن الدعوة كانت تتهيأ لتأخذ مكانها القيادي .
بينما نحن في ذلك إذ بمجموعة من أطهر الإخوان قلبًا تستوقف هذا الركب السائر لتوجه إليه حديثاً ، فوقف الركب يستمع فإذا بالأخ أحمد رفعت يعترض علي كل ما تتخذه الدعوة من أساليب ، ويدعو الإخوان إلي أساليب أخري ... ولم ير الإخوان في هذا الاعتراض ما يلفت النظر فلكل أخ الحق في نقد ما يري أنه يستحق النقد وتنشأ عن هذا النقد مناقشة بين الأطراف تنتهي إلي الطريق الأقوم . وفي هذا كسب كبير للدعوة ونماء وثراء . ولكننا حين أخذنا في مناقشة أحمد رأيناه جانحًا – علي غير عادته – إلي التعصب لرأيه ، رافضًا الاستماع إلي حجج من يناقشه ثم رأينا مجموعة من حوله تتعصب لأحمد وتكاد تهدد من يعارضه ، وبدا لنا أحمد فيمن حوله كأنما هو شيخ حوله مريدوه يأمر فيهم وينهي وهم يسارعون في مرضاته ... ومع كل هذا لم تعر الأمر اهتمامًا خاصًا وانطلقنا في طريقنا ولكننا رأينا بعض من كان ينطلق معنا من جنود قد توقفوا ليسيروا في ركاب أحمد ... ورأينا أحمد ومجموعته لا يدعون اجتماعًا عامًا أو خاصًا ينعقد في الدار إلا وفرضوا أنفسهم عليه وتحدث فيه أحمد بالأسلوب المهاجم الذي لا يقبل مناقشة ولا معارضة ، فتعطلت بذلك الاجتماعات والدروس حتى محاضرة الثلاثاء .
ورأيت الأستاذ المرشد مهمومًا وحاولت مواساته فطلب إلي أن أحاول إقناع أحمد ، لأن الأستاذ كان يعلم أن لي مكانة خاصة في نفس أحمد ، فجلست إلي أحمد وحاولت إقناعه لكنني لاحظت أنه يعاملني كأنما لم يعرفني من قبل ، بل أحسست كأن المجموعة التي حوله تحاول التحرش بي ، فأخبرت الأستاذ المرشد بما كان من أمره معي ، فازداد الأستاذ همًا وحزنًا وطلب إلي لأول مرة منذ بايعته أن أكون بجانبه في هذه المحنة ، وأن أبدأ بإعداد كلمة ألقيها في اجتماع الكتيبة الأولي ، ففعلت وكانت كلمة تدور حول جمع الكلمة ونبذ ما يدعو إلي الفرقة ، وأن الاجتماع علي نصف الحق خير من التفرق علي الحق كله وتمثلت في ذلك بقول كرم الله وجهه " كدر الجماعة خير من صفو الفرد " وكان لهذه الكلمة تأثير في مجموعة من إخوان الكتيبة حصنتهم من أن ينجرفوا في تيار الفتنة . والظاهرة العجيبة التي لاحظتها هي أن دعوة أحمد رفعت كانت تلقي كثير من الإخوان آذانًا صاغية واستجابة سريعة ، ولا أدري أكان هذا لقوة حجته وبراعة إقناعه ، أم لأن دعوته المتطرفة صادفت فترة كان الإخوان فيها في حالة خلوة روحية نتيجة للنظام التربوي العنيف الذي أخذهم الأستاذ المرشد به في تلك الأيام فكانوا يتمنون أن يجدوا من يدعوهم إلي تخطي رقاب الزمن ليحققوا ما احتبس في صدورهم من آمال ، فما كادوا يسمعون أحمد رفعت حتى وجدوا دعوته صدي لما يتردد في جنبات نفوسهم فأقبلوا عليه .
مطالب أحمد رفعت :
وعقد الأستاذ المرشد جلسة ضمت صفوة الإخوان وتحدث ما شاء الله أن يتحدث ثم دعا أحمد رفعت ليحدد اعتراضاته علي الإخوان ومطالبه التي يريدها فقام أحمد وحدد اعتراضاته ومطالبه في ثلاثة بنود :
الأول : أنه يري أن الإخوان تجامل الحكومة وتتبع معها سياسة اللف والدوران ويجب علي الإخوان أن يواجهوا الحكومة بالحقيقة التي قررها القرآن في قوله " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " .
الثاني : موضوع المرأة وإلزامها حدود الإسلام في عدم التبرج والاحتشام ، يري أحمد أن الإخوان لم يتخذوا إجراء ما في شأنه مكتفين بدعوة المرأة إلي ذلك بالنصيحة والكلام دون العمل . ويري أحمد أن يسلك الإخوان بصدد هذا الأمر الخطير مسلكًا عمليًا بأن يوزع الإخوان أنفسهم في شوارع القاهرة ومع كل منهم زجاجة حبر كلما مرت أمامه فتاة أو امرأة متبرجة ألقي عليها من هذا الحبر ، حتى يلطخ ملابسها فيكون هذا رادعًا لها .
الثالث : موضوع فلسطين : يري أحمد أو وقوف الإخوان في مساعدة مجاهدي فلسطين عند حد الدعاية لهم جمع المال لهم هو تقصير في حق القضية وقعود عن الجهاد وتخلف عن المعركة وعلي الإخوان أن يتركوا أعمالهم ويتطوعوا في صفوفهم وإلا كانوا من الخالفين .
ونصدي بعض الحاضرين للرد علي أحمد في الاعتراضيين الأولين فقالوا :
إن مواجهة الحكومة يجب أن لا تكون إلا بعد توفر عاملين :
1 – توعية الشعب بالحقائق الإسلامية التي لازال حتى اليوم خالي الذهن منها ، ولازال الشعب يجهل علاقة الإسلام بالحكم وعلاقة الإسلام بالتشريع – ونحن لولا اتصالنا بدعوة الإخوان ما فهمنا هذه المعاني .
2 – اكتساب الدعوة قوة شعبية تستند إليها إذا ما أرادت مواجهة الحكومة ، ولازالت الدعوة حتى اليوم دعوة وليدة في حاجة إلي تثبيت لدعائمها وبسط لرواقها .
والمواجهة بغير توفر هذين العاملين لن تكون إلا انتحارًا لا نتيجة له ولا جدوى من ورائه .
أما موضوع المرأة فكان ردهم عليه هو أننا لو أخذنا باقتراح الأخ أحمد لكانت النتيجة في اليوم الأول للأخذ بهذا الأسلوب أن يلقي القبض علي جميع الإخوان ويجر معهم التحقيق ويودعون السجون حتى يحاكموا أمام القضاء الذي يقضي بمعاقبتهم بالسجن والغرامة وإذا قضوا العقوبة وعادوا إلي نفس الأسلوب فإن العقوبة تضاعف . ومادامت التي لطخت ثيابها ستعوض ثمن هذه الثياب مضاعفاً من جيوب الإخوان ثم تري الذي لطخ ثيابها قد أودع السجن فما الذي يمنعها من لبس ما كانت تلبسه وإذن فلا جدوى من وراء هذا الأسلوب في ردع المتبرجات وكل الذي تجنيه هو إلقاء شبابنا في السجون وتعطيلهم من الدراسة وقد يكون في تلك الأحكام قضاء علي مستقبلهم .
أما موضوع فلسطين فكان الأستاذ المرشد قد اتصل في شأنه بالسيد أمين الحسيني مفتي فلسطين فرد علي الأستاذ المرشد بخطاب قرأه علينا في هذا الاجتماع وفيه يقول سماحة المفتي :
" إن المجهود الذي يبذله الإخوان في الدعاية لقضية فلسطين في مصر هو القدر المطلوب الذي نحن في أمس الحاجة إليه ولا يستطيعه غيرهم ، ولسنا في حاجة إلي متطوعين " .
والعجيب الذي لا أزال أذكره أن بعض عقلاء الإخوان رأيتهم يقفون في هذا الاجتماع ويتحدثون تأييدًا لأحمد رفعت بعد أن اقترح هذه الاقتراحات وأذكر منهم الأستاذ عيسي عبده الذي كان موقفه هذا صدمة شديدة للأستاذ المرشد الذي ما كان يتصور منه هذا الموقف .
وانتهي هذا الاجتماع وقد ازداد عدد مؤيدي أحمد ، ولعل ذلك قد بعث في نفسه شيئًا من الغرور فبدأ يتحدي الأستاذ المرشد مباشرة ويوجه إليه ألفاظًا نابية ويخاطبه بأسلوب لا يليق به ثم ازدادوا تطرفاً فصار هو وشيعته يسبون الأستاذ المرشد ويوجهون إليه الشتائم مما أثارنا وأخرجنا عن طورنا وحاولنا مواجهتهم بشيء من العنف ولكن الأستاذ غضب وحال بيننا وبين ما نريد وأبي علينا أن ننالهم ولو بكلمة تؤلمهم ، ومع ذلك فلم يخجلوا أمام هذا النبل بل كانوا يضاعفون عن سفاهتهم .
ولا يفهمن القارئ من قولي إن عدد مؤيديهم قد كثر أن قد صار معهم أكثر الإخوان ، فالكثرة الغالبة من الإخوان في القاهرة كانت كلها في موقف المستاء نمن تفكير هذه الفئة ومن تصرفاتهم ولكنهم كانوا يرون الأستاذ المرشد يحميهم من بطش الإخوان بهم فكانوا في حيرة من أمرهم فكان الأخ من هؤلاء الأخوة الكرام إذا جاء كعادته إلي دار المركز العام تلقاه أفراد هذه الفئة فإما التزم بفكرهم وإلا أسمعوه ما يكره من سله وسب الأستاذ المرشد ورميهم بأفظع التهم ، حتى كره الإخوان أن يحضروا إلي المركز العام حتى خلا المركز العام لهذه الفئة لا يشاركهم فيه أحد سواي تقريبًا حيث كنت حريصًا علي الحضور كل ليلة لأكون بجانب الأستاذ كما طلب إلي . موقف مؤلم ومدمر لا نحسد عليه ؛ فلا نحن بمستطيعين تحديهم مباشرًا خوفاً من أن يدخلوا معنا في معارك بالأيدي والأرجل كما بدا منهم أكثر من مرة ، ولا نحن بمستطيعين منعهم من شتم الأستاذ وسبه ، ولا نحن بمستطيعين أن نقنع الأستاذ برفع حمايته عنهم أو الإقلال من حنوه عليهم وعطفه نحوهم .
توقف كل شيء في المركز العام :
ما معني هذا ؟ المركز العام للإخوان المسلمين تتوقف فيه الحركة توقفًا تامًا فلا جلسات للهيئات الإدارية تعقد ولا اجتماعات للجوالة ولا اجتماعات للكتائب ولا محاضرات الثلاثاء ولا اجتماعات الطلبة ولا العمال ، وينقطع جميع الإخوان عنه ، حتى إخوان الأقاليم إذا حضر وفد منهم حالت هذه الفئة بينهم وبين مقابلة الأستاذ المرشد وينصرفون دون مقابلته – وهو موجود بمكتبه بالدار – بعد أن يسمعوا ما يكرهون من سبهم وسب أستاذهم ويغادرون من الدار باكين , لابد من وضع نهاية لهذا العبث ولابد من التفكير في عمل ولابد من التفكير في حل .
الحـل :
لقد وصلت إلي حل ، لكن هذا الحل متوقف نجاحه علي قبول الأستاذ المرشد بفكرة انقطاعه تمامًا عن المركز العام . وذهبت إلي الأستاذ وقلت له : يا أستاذ إن هذه الدعوة دعوتنا جميعًا وإنني أطالبك باسم جميع الإخوان الذين لازالوا علي العهد والبيعة أن تنقطع عن المركز العام منذ اليوم انقطاعًا تامًا . قال : لماذا ؟... قلت لأن خطة قد وضعت لمقاومة هؤلاء الخارجين . والخطة تقتضي أن لا يجد هؤلاء الحنان والحماية اللتين لا تستطيع أن تتخلي عنهما في معاملتهم . قال : ولكني لا أقبل أن يصاب أحد من هؤلاء الأخوة بأذى مهما قالوا . قلت : نعطيك الكلمة علي أن لا نمسهم بأذى . قال مادام انقطاعي عن المركز العام يعين علي القضاء علي هذه الفتنة فأنا عند رأيكم .
هل هو تسام أو انحدار إلي الحضيض ؟
لقد كان حنو الأستاذ عليهم ، والتزام صفوة الإخوان بيوتهم ، وتفرد هؤلاء الخارجين ينشر فكرتهم عن طريق المركز العام دون مقاومة ، واكتسابهم كل يوم أفرادًا من الإخوان الحديثي العهد بالدعوة ، كان كل ذلك مغريًا لهم بالتمادي في ضلالهم ، والتغالي في انحرافهم ، حتى وصل بهم الغرور إلي الحد الذي أدعي فيه أحمد أنه يتلقي تعليمات وأوامر تلقيًا مباشرًا عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ، أدعي أولا أنه عليه الصلاة والسلام يأتيه في الرؤيا ويوجه إليه أوامره . وقد وجد من يصدقه في ذلك ومنهم أفراد من أكرم الإخوان وأخلصهم فمنهم صديق أمين ومنهم محمد عزت حسن ومنهم حسن السيد عثمان .. وكانت هذه الأوامر والتعليمات كلاها منصبة علي أن الإخوان المسلمين قد تخاذلوا عن القيام بدعوتهم ، وأنهم خانوا الدعوة ، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد اختار أحمد رفعت للقيام بأعباء الدعوة بالطريقة التي شرح لنا طرفاً منها . ثم تعاظم به الغرور فادعي أن يتلقي من رسول الله صلي الله عليه وسلم جهارًا نهارًا في تمام اليقظة ، ثم ادعي أنه صلي الله عليه وسلم يحضر معه الغداء ويتناول معه الطعام , ويتلقي منه الأوامر والتعليمات علي المائدة .
ولما صار حسن السيد عثمان من مصدقيه ، والمؤمنين بخرافاته ؛ وكان حسن كما قدمت شابًا ميسورًا الحال يسكن هو وإخوته الطلبة في منزل فسيح وثير الأثاث ؛ فقد أفسح من بيته لأحمد ،وانقطع هو وأحمد وصديق من كلياتهم كما انقطع محمد عزت حسن عن عمله وحضر إلي القاهرة للإقامة معهم . وكان مما أثارني ، وحملني علي التفكير في خطة حاسمة للوقوف في وجه هذه الفتنة المتفاقمة ، أنني رأيت إخوانًا كرامًا من ذوى العقل والسبق والرزانة يحضرون هذه الجلسات في منزل حسن السيد عثمان ، وعلمت أنهم كادوا يقعون في حبائلهم بدليل توالي ترددهم علي جلساتهم في هذا المنزل ، ومن هؤلاء الإخوان الشيخ أحمد الباقورى .
تنفيذ خطة المقاومة :
لما قبل الأستاذ أن ينقطع عن المركز العام اعتبرت ذلك إيذانًا بنجاح الخطة ، وكانت الخطوة الأولي أن أحضرت كشفاً ، وكتبت فيه أسماء الإخوان الذين احتفظوا بإيمانهم بدعوتهم وقيادتهم ولزموا بيوتهم ، فوجهت إلي كل منهم دعوة لاجتماعه بمنزل الأخ عبد الفتاح البساطي في الجيزة .. وقد استجابوا جميعا لحسن صلتي بهم – وانعقد الاجتماع وتحدثت إليهم عن تطورات الفتنة ، وما وصلت إليه ،وعن قبول الأستاذ المرشد فكرة انقطاعه عن المركز العام وشرحت لهم شرحًا أقنعهم بأن التزامهم بيوتهم ، وتركهم المركز العام لهذه الفئة المخرفة ، إنما هو بمثابة إعانتهم علي التمادي في ضلالهم ،وأن حق الدعوة عليهم يقتضيهم ارتياد المركز العام كل ليلة لا يتخلف منا أحد .
ويجدر بي قبل الاسترسال في تفصيلات هذا الاجتماع أن أستدرك فأشير إلي نقطة هامة اضطررت من أجلها إلي تأجيل موعد هذا الاجتماع أكثر من مرة حتى استوفي بحثها ، فلقد أعددت لهذا الاجتماع العدة لسد كل ثغرة من ثغرات الشك قد تكون تطرقت إلي نفوس بعض من يحضرون ، فجمعت في كلمتي من الآيات والأحاديث والحكم ووقائع التاريخ ما يقنع كل متردد ، إلا نقطة واحدة وقفت أمامها ساهمًا عاجزًا ، هي ادعاء هؤلاء رؤية النبي صلي اله عليه وسلم والتلقي عنه . قد يكون من السهل الإقناع ببطلان ما يدعي هؤلاء المدعون أنه تلقوه عن رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا كان هذا الذي تلقوه يتعارض مع نص صريح من نصوص الشريعة الإسلامية .... ولكن إذا كان الذي تلقوه مما هو دون ذلك من أمور يجوز فيها الخلاف كالوسائل والخطط التي تسلك للنهوض بأعباء الدعوة ، فإن الحكم ببطلان ادعائهم في ذلك ليس أمرًا ميسورًا .
وقد شغلتني هذه النقطة وأقضت مضجعي ، وظللت دائب البحث عن رد مقنع وإجابة شافية تملأ النفس وتزيل الحرج حتى أراد الله – وإذا أراد الله شيئًا يسر أسبابه – فقد كنت في زيارة أخ كريم من إخواننا الطلبة الصالحين بكلية الصيدلة هو الأخ عبد المنعم أبو الفضل ، وكان والده من كبار العلماء فبينما أنا أعبث في مكتبة والده التقطت كتابًا وتصفحته فوقع نظري عفوًا علي عنوان الموضوع الذي يشغل بالي فقرأته بتلهف فوجدت فيه طلبتي وبغيتي ، فالمؤلف يقول إن حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يقول فيه " من رآني في المنام فقد رآني حقاً – فإن الشياطين لا تتمثل بي " حديث صحيح لا شك فيه ، ولكن هذا الحديث موجه إلي فئة معينة هي فئة صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم دون غيرهم ، لأنهم هم وحدهم الذين رأوا رسول الله صلي الله عليه وسلم رأي العين وفي مخيلتهم صورته الحقيقية ، وهم بذلك الذين يستطيعون إذا رأوا في منامهم من يدعي أنه رسول الله أن يحكموا علي هذا المدعي صادق أو كاذب ... أما من سوي هؤلاء الصحابة ممن لم يروا النبي صلي الله عليه وسلم رأي العين فإنهم إذا جاءهم في المنام من يدعي أنه رسول الله فكيف يحكمون بصحة ادعائه وليس في مخيلتهم صورته صلي الله عليه وسلم الحقيقية ؟ وكان هذا الكتاب هو كتاب " الاعتصام " للإمام الشاطبي .. وقد جعلني ما قرأت من تحليل هذا الرجل لهذا الحديث أزداد إيمانًا بأن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم عباقرة . وقد رتب الرجل علي هذه المقدمات نتائج ملخصها الحكم ببطلان كل ما يأتي عن طريق هذا الادعاء .
أثلج صدري وقوعي علي هذه الدرة الثمينة ، وأحسست بن الله تعالي معيننا علي ما نحن بسبيله ، وضاعف ذلك من همتي ، وانعقد الاجتماع كما قدمت ، وأثرت هذه النقطة وأوردت قول الشاطبي فيها ، ولقد شعرت بأن إثارتها وإيراد الرد عليها قد أزال حرجًا كان يتردد في النفوس ولم يكن بد من إزالته ، وانتهينا في هذا الاجتماع إلي مقررات محددة هي :
أولا : الاعتقاد بأن أحمد رفعت ومجموعته ومن يلوذ بهم علي خطأ .
ثانيًا : تعهد كل فرد من المجتمعين بارتياد المركز العام كل ليلة حسب النظام الذي سيوضع لذلك .
ثالثًا : التعهد بعدم مس أحد من مجموعة أحمد رفعت بأي نوع من الإيذاء .
رابعًا : تعهد كل فرد من المجتمعين منذ اليوم بمقاطعة أحمد رفعت ومجموعته مقاطعة تامة بمعني أن لا يلقي عليهم السلام وأن لا يرد عليهم السلام إذا ألقوه عليه ، وأن لا يتحدث إليهم ، وأن لا يرد عليهم إذا وجهوا إليه حديثًا ، وأن لا يعيرهم سمعه ، وأن لا يومئ إليهم ولو بإشارة حتى إذا شتموه لا يرد عليهم .
خامسًا : كل من يرتاد منزل حسن السيد عثمان – حيث يقيم أحمد رفعت – يسري عليه نظام المقاطعة .
سادسًا : تكوين لجنة – كنت أحد أعضائها – تكون مهمتها تنفيذ هذه القرارات – وإذا رأت هذه اللجنة أن أحد الإخوان أخل بهذه القرارات قدمته إلي لجنة أخري تناقشه وتحدد موقفه وتعلنه حتى يعامل علي أساس موقفه المعلن .
سابعًا : يجدد المجتمعون البيعة للأستاذ المرشد علي مبادئ الدعوة وعلي الطاعة في المنشط والمكره وعلي تنفيذ هذه المقررات .
وقد أعد محضر سجل فيه كل ما دار في هذا الاجتماع من كلمات ومناقشات وما انتهي إليه من مقررات ، ووقع جميع الحاضرين عليها ، وقد رفعته إلي الأستاذ المرشد في بيته . ومنذ ذلك اليوم بدأ تنفيذ نظام المقاطعة ، وقسمنا الإخوان علي أيام الأسبوع السبعة بحيث يحضر كل يوم عدد محدد حتى يتمكن الإخوان الجمع بين تنفيذ المقررات وبين قضاء مصالحهم من مذاكرة وغيرها .
وكان مشهدًا رائعًا ومؤلمًا معًا حين دخل أحمد رفعت وخلفه مريدوه إلي المركز العام فيجدوه غاصًا بالإخوان – علي غير ما اعتادوا – فيلقون السلام فلا يرد عليهم أحد ، فيكررون إلقاء السلام فلا يتلقون ردًا ، فيجلسون ويتوجهون نحو هؤلاء الإخوان بالشتائم فلا يردون عليهم .. ثم يدخل رواد من الإخوان حديثي العهد بالدعوة فيتلقاهم إخواننا مرحبين ويبلغونهم المقررات التي اتخذت في الاجتماع وبأن الأستاذ المرشد أقرها فيلتزم هؤلاء الرواد بنظام المقاطعة ويرجع هؤلاء إلي زملائهم وأصدقائهم من الإخوان في كلياتهم ومعاهدهم ومكاتبهم فيبلغونهم ما بلغوا ، ومن أراد من هؤلاء أن يشهر في وجه الخارجين سلاح المقاطعة حضر إلي المركز العام ليشترك مع المكلفين بالحضور ، وامتنع الباقون عن الحضور إلي المركز العام خوفا من أن يخرجهم الخارجون فيردوا عليهم محرجين أو مجاملين فيقعوا تحت طائلة المقاطعة .
وبذلك استطعنا أن نخلي دار المركز العام بعد أيام إلا منا ومنهم ، وصرنا وجهًا لوجه ، فيجلسون الساعة والساعتين لا يجدون من يتحدث إليهم ولا من يتحدثون إليه ، ويبحثون عن الأستاذ المرشد فلا يجدون له أثرًا . وتكرر هذا نحو ثلاثة أسابيع شعر هؤلاء الخارجون بعدها أنهم قد عزلوا عزلا كاملا عن المجتمع بل عن الحياة نفسها ... وبدأ الذين كانوا يلعبون علي الحبلين من الإخوان ، والذين اتخذوها لعبًا ولهوًا يشعرون أن نظام المقاطعة الذي هادنهم فترة في أول الأمر قد اقترب منهم وكاد يطبق علي أعناقهم فانسحبوا من الموكب الذي طالما عززوه وصفقوا له ، وكانوا سببًا في إيغال قائده في الضلال ، انسحبوا منه مكرهين ولزموا بيوتهم ... ووجد أحمد رفعت وحواريوه أن من كانوا حولهم أخذوا في الانفضاض عنهم ، حتى لم يبق حولهم أحد ، فاضطروا إلي عدم الحضور إلي المركز العام ، الذي صار بالنسبة لهم سجنًا .. ومحاولة منهم في البحث عن مجتمع قد يجدون فيه تفريجًا لكربهم ومجالا لنشر آرائهم رضوا بما كانوا يرفضونه من قبل ، وهو الرجوع إلي كليتهم كلية التجارة التي كانوا يرون أنفسهم أعظم من أن ينتظموا طلبة فيها ، وكيف لا وقد أصبحوا أنبياء أو أقرب إلي الأنبياء . وقد خاب رجاؤهم حين دخلوا الكلية فوجدوا طلبتها يصدون منهم صدودًا حيث كان إخواننا الكرام بالكلية ملتزمين بنظام المقاطعة وكانوا قد أعطوا زملائهم صورة كاملة عن أفكار أحمد وزمرته وخرافاتهم ..
حينئذ وجد أحمد نفسه حبيسًا في بيت السيد عثمان وليس معه إلا صديق أمين ومحمد عزت حسن لا أحد غيرهم يطرق عليهم البيت بالليل ولا بالنهار ، فأصيب أحمد بما يشبه الجنون . حتى رق قلبنا له ولمن معه ، وبعثت إليهم من يعرض عليهم الصلح علي أن يرجعوا إلينا تائبين ، معلنين توبتهم ، فاختلفت إجاباتهم ، أما صديق فإنه جاء إلينا وأعلن توبته ، أما حسن السيد عثمان فإنه أعلن أن سيلزم بيته غير متعرض للدعوة بشر ، وأما محمد عزت حسن فلا أدري ما كان من أمره غير أنه قد اختفي اسمه من مجتمع الدعوة منذ ذلك اليوم يقال إن ظل متابعًا حمد .. وأما أحمد فقد عز عليه أن يرجع إلي الصف ويعلن توبته بعد أن صور له الوهم وأوهمه من حوله – وجنوا عليه – أنه يوحي إليه ... قرر أحمد السفر إلي فلسطين لينضم إلي المجاهدين في محاربة للانجليز واليهود ... ولما علمنا بعزمه هذا أرسل إليه الأستاذ المرشد وطلب إليه الحضور ليجهزه بالمال والسلاح ، ويسلمه إلي مجموعة المجاهدين الفلسطينيين الذين كانوا يتصلون بنا حتى يؤمنوا له الطريق ، لأن المجاهدين يشكون في كل من يرونه في طريقهم – ماداموا لا يعرفونه – ويعدونه جاسوسًا عليهم ويقتلونه فرفض أحمد طلب الأستاذ المرشد وأصر علي الذهاب وحده ، وذهب فعلا ، ولقي مصرعه كما كنا نتوقع علي أيدي المجاهدين . ولعمري لقد فعل أحمد رفعت ما فعل ، ولكن قلوبنا لا تزال إلي اليوم تتقطع وتنفطر حزنًا عليه فقد كان شابًا نادر المثال ولكنه ضل الطريق .
خـاتمـه
استغرقت هذه الفتنة منذ كانت بصيصًا تحت الرماد حتى قضي عليها قرابة نصف عام كانت الدعوة في خلاله ، عرضة للانتهاء والزوال ، ولكن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ... صحيح أن الدعوة توقفت توقفاً تامًا فترة تزيد علي الشهر ، وهي الفترة التي كان لابد من احتجاب الأستاذ المرشد في بيته خلالها ، ولكنها خرجت منها أقوي مما كانت ، واكتسبت من تجربتها هذه فوائد كانت لها عونًا في أيامها التالية . كان مما تعلمته الدعوة من هذه التجربة أن اتخاذ الحماس مقياسًا تولي علي أساسه الثقة للفرد المتحمس أمر يجب أن يعاد فيه النظر ، فالحماس مع السطحية في فهم كتاب الله وتاريخ الدعوة الإسلامية والخبرة بواقع الحياة أمر من الخطورة بمكان ، فإن هذه السطحية تجعل من الحماس منحدرًا إلي الحضيض ، وإن خيل لصاحبه أنه مرقي في السماء ، فأحمد لم يكن له قبل الانضمام إلي الدعوة أدني معرفة بالإسلام ولا بالقرآن ولا بالسيرة ولا بالتاريخ الإسلامي ، وحين اقتنع بالفكرة الإسلامية انقض عليها بحماس بالغ ، وقيل أن يتزود بكل معالم الطريق اندفع اندفاعًا غير بصير فاصطدم وتحطم وكان يحطم معه الدعوة .
وكان مما تعلمته الدعوة أيضًا من هذه التجربة أن اللين وإن كان هو الصفة التي يجب أن تنحل بها القيادة في كل أطوارها ، فإن هناك مواقف تحتاج إلي الحسم ، ولما كان الحسم يتعارض مع اللين فكان من كياسة القائد حينئذ أن يتواري ويخلي الطريق لغيره – وقد يكون هذا الغير أصغر منه ولكن لا يفل الحديد إلا الحديد ، وترك الطالبة يتفاعلون كان أجدي من تدخل القيادة بينهم . وكان مما تعلمته الدعوة كذلك أن الدعوات يجب أن تكون أشد حذرًا علي نفسها من أتباعها المقربين منها علي نفسها من أعدائها الخارجيين ، فإن أتباعها علي إصابتها في مقتل .
ولقد كنت سجلت كل ما قلته وكل ما تحدثت به وكل ما خطر ببالي فيما يتصل بهذه الفتنة وكل ما اتخذناه من أساليب لمعالجتها في كشكول ، دونت فيه كل المقررات وأسماء المبايعين عليها وتوقيعاتهم وآثار تلك المقررات أودعته أحد الأخوة الكرام الذين كانوا معنا في ذلك الوقت ولا أدري ألا يزال هذا الكشكول موجودًا أم عدا عليه ما عدا علي غيره من غارات المباحث العامة التي لم تكن تنقطع . وقد تكون خير خاتمة لهذه التجربة القاسية أن أتيت هنا ما جاء علي لسان الأستاذ المرشد بصددها في خطابه الجامع الذي ألقاه في المؤتمر الخامس تحت عنوان : مصارحة :
" أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم : اسمعوها مني كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع – إن طريقكم هذا مرسومة خطواته ، موضوعة حدوده ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول ، أجل قد تكون طريقاً طويلة ولكن ليس هناك غيرها ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك مجال ، خير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلي غيرها من الدعوات ، ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك علي الله ، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين : إما النصر والسيادة ، وإما الشهادة والسعادة .
أيها الإخوان المسلمون : ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول ، وانبروا أشعة العقول بلهب العواطف وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع ، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة ، ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة ، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها علي بعض ، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد .
أيها الإخوان المسلمون : إنكم تبتغون وجه الله وتحصيل مثوبته ورضوانه ، وذلك مكفول لكم مادمتم مخلصين ، ولم يكلفكم الله نتائج الأعمال ولكن كلفكم صدق التوجه وحسن الاستعداد ، ونحن بعد ذلك إما مخطئون فلنا أجر العاملين المجتهدين ، وإما مصيبون فلنا ضعف أجر الفائزين المصيبين ، علي أن التجارب في الماضي والحاضر قد أثبتت أنه لا خير إلا في طريقكم ، ولا إنتاج إلي مع خطتكم ، ولا صواب إلا فيما تعلمون ، فلا تغامروا بجهودكم ولا تقامروا بشعار نجاحكم واعملوا والله معكم ولن يتركم أعمالكم والفوز للعاملين " وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم " .
خسائرنا في هذه الفتنة :
إن فتنة كادت تودي بالدعوة ، مهما نصرنا الله عليها ، وأنقذنا من براثنها ، لا يمكن أن نخلص منها دون خسائر ، ولسنا ننكر أنه كانت خسائر لكنها كانت في أضيق الحدود ونجملها فيما يلي :
1 – خسرنا أحمد رفعت ومحمد عزت حسن وكانا أخوين عزيزين .
2 – خسرنا عددًا من الإخوان الكرام ولكن خسارتنا إياهم لم تكن خسارة أبدية بل كانت خسارة مؤقتة فقد اختار هؤلاء الإخوان أن يلزموا بيوتهم لأنهم كانوا لا يزالون في شك من أن الدعوة تسلك طريق القوة والجد الذي ينبغي أن تسلكه الدعوة الإسلامية .. وقد لزموا بيوتهم فعلا ردحًا من الزمن حتى أثبتت لهم الأيام أنهم كانوا علي خطأ حين تعجلوا مواقف قبل أوانها ، وقد دارت الأيام وواجهت الدعوة المواقف التي تعجلوها ولكن بعد أن ثبتت أركانها ، وتعمقت في قلوب الناس جذورها ، فخرجوا من بيوتهم ولحقوا بالركب مرة أخري وكان منهم حسن السيد عثمان وعيسي عبده .
3 – خسرنا مجلة " النذير " لأن صاحب امتيازها تخلف عن الركب ، ومع أن المركز العام للإخوان المسلمين هو صاحب الامتياز الحقيقي لهذه المجلة ، ولم يكن الأستاذ محمود أبو زيد إلا مجرد اسم اختير لأنه كان محاميًا لتتم الصورة الرسمية لإصدار الترخيص بالمجلة ، مع هذا رأي الأستاذ المرشد ترك المجلة له حين رآه متمكنا بالحقوق الرسمية .
4 – خسرنا عددًا قليلا من خبرة الإخوان علي رأسهم الأخ محمد المغلاوي رحمه الله وكان محاميًا وأخا من العباد الذين يطيلون الصلاة ركوعًا وسجودًا وكان بيني وبينه مودة خاصة وحب عميق وقد صارحني بأنه يكن لي ولإخواني كل حب وتقدير ولكنه لا يستطيع الصبر علي ما اختطته الدعوة لنفسها من أسلوب بطئ ومع ذلك فهي ذلك فهي أحسن التكوينات الموجودة في مصر ولذا فإنه سيحاول إنشاء تكوين جديد حثيث الخطي يتجاوب في خطو سريع مع ما يجيش في صدورنا وتضطرم به نفوسنا .
وقد صدق ما وعد أسس تكوينًا جديدًا سماه " شباب محمد " وقد التقي في آماله بآمال شخصية مسلمة هي شخصية الأستاذ حسين يوسف فكونا معًا هذا التكوين الجديد ، وانضم معهم مجموعة من الإخوان المتعجلين وأفراد آخرون . والأستاذ حسين يوسف رحمه الله كان مدرسًا في مدرسة الفنون التطبيقية ومع ذلك فإنه كان ناقما علي ما جرت عليه هذه المدرسة من رسم الرجال والنساء عاريات وكتب في ذلك الكثير من الاحتجاجات . وكان عضوًا في مجلس الجهاد الأعلى لمصر الفتاة ، وقد التقيت به في مدرسة الفنون التطبيقية حين كنت أحضر اجتماعات طلبة الإخوان ، بالمدرسة – وكان لنا بها شعبة قوية – فكان الأستاذ حسين يحضر هذه الاجتماعات ، ودارت بيني وبينه مناقشات وقد اقتنع بأن مصر الفتاة ينقصها عنصر الدين ولكنه يري أن الإخوان المسلمين تعوزهم الجرأة .. ولذا فإنه ما كاد يلتقي بالأخ المغلاوي فكان وإياه كالمثل العربي الذي يقول " وافق شن طبقه " بإنشاء التكوين الذي يرضي ضمائرهما .
ولكن هل حقق هذا التكوين الجديد آمالهما ... هذا ما أجاب عليه الزمن ، ولا داعي لأن نثبت هنا حكم الزمن وإجابته فكلنا نعرفها ، وما أيسر التحقيق في سماء الخيال وما أشق مواجهة الواقع ، وكم من خيالات محققة طواها الزمن إذا ما حاولت النزول إلي ميدان الواقع .