الحركات الإسلامية بين النموذجين «التركي» و«الأفغاني»
بقلم : فيصل علوش
انصب اهتمام أغلب المحللين العرب الذين تناولوا الانتخابات التركية الأخيرة، على إبراز نجاح وانتصار حزب العدالة والتنمية (الإسلامي)، مقابل إخفاق وتراجع غيره من القوى والأحزاب العلمانية، أو المدافعة عن النظام العلماني، وفي مقدمها مؤسسة الجيش.
في سياق ذلك، فات هؤلاء أن يلاحظوا أن تركيا هي الحالة العلمانية الوحيدة في العالم الإسلامي، التي أفرزت حكومة إسلامية، بقيادة حزب إسلامي يسيطر على الأغلبية المطلقة في البرلمان. في حين أن كثيراً من الأحزاب والحركات الإسلامية تُحظر، ويُحجب عنها الحق في الوجود أو ممارسة أي نشاط سياسي علني، تحت طائلة التهديد بالعقوبات القاسية، بما فيها الإعدام، في دول عربية وإسلامية عدة، خصوصاً تلك التي تسمى بـ«العلمانية»، أو تدعي أنها كذلك، والأمثلة معروفة .
وفات هؤلاء أن يلاحظوا كذلك، أن المشكلة لا تنحصرفقط بين «إسلام» و«علمانية» فهذه، أحد وجوه المشكلة القائمة وتجلياتها، بيد أن لها وجوهاً وأبعاداً أخرى، ينبغي الالتفات إليها، وتركيز الاهتمام بها.
من هذه الوجوه والأبعاد ضرورة التمييز بين «إسلام» و«إسلام»، أو بالأحرى بين حركات إسلامية هنا، وحركات إسلامية هناك. واختصاراً بين «النموذج التركي»، و«النموذج الأفغاني» (الجهادي) لحركات الإسلام السياسي.
فالنموذج التركي، ممثلاً بحزب العدالة والتنمية، يشكل نوعاً جديداً من الحركات الإسلامية، سواء في تركيا أم في العالمين العربي والإسلامي، قدم أنموذجاً وقدوة تحتذى في فهم الإسلام المعتدل، المنفتح على العالم، الذي يحترم العملية الديمقراطية، ويجتهد للمصالحة بين الإسلام والحداثة، معتمداً الاعتدال والمرونة، ونابذاً لممارسة أي شكل من أشكال العنف.
يعلن تمسكه بالمبادئ العلمانية للدولة، ويسعى للمواءمة بين الإسلام والعلمانية، وتحقيق قدر من الاندماج أو التمازج بين الإسلام والقومية والتعددية، في إطار صيغة ديمقراطية وليبرالية للنظام السياسي القائم.
وفي سبيل ذلك أولى اهتمامه لقضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان والأقليات، في بلد متعدد الأعراق والأطياف الدينية والمذهبية، على عكس ما جرى في البلدان التي حكمها إسلاميون، أو شهدت نفوذاً لهم.
ولعل الأهم من ذلك كله، هو أنه أثبت كفاءة نادرة خلال فترة حكمه، فحقق ازدهاراً اقتصادياً غير مسبوق، في وقت تسلّم فيه الحكم والبلاد تعجّ بالتضخم والبطالة.
أي أنه لم يكتفِ برفع الشعارات البراقة وترداد الأهداف الطنانة، كما هو دأب أغلب الحكومات العربية والإسلامية.
ما حققه من استقرار اقتصادي واجتماعي، ساهم بتشجيع وجلب الاستثمارات، ولاقى ترحيب وتشجيع المؤسسات الدولية، واطمئنان الشركاء الغربيين.
ينبغي أن نتذكر هنا أن مشروع نجم الدين أربكان (زعيم حركة الإسلام السياسي في تركيا ) يقوم في الأصل على أساس بناء قاعدة صناعية ضخمة، تجعل من تركيا دولة صناعية كبرى، لا تكتفي بدور الاقتصاد التابع والخادم الذي يقتات على المنح والعطايا، أربكان كان يرى أن العنف لا يجدي، وأن «الرصاص الحقيقي الذي يؤثر في الغرب هو التحرر من قبضته الرأسمالية».
أردوغان لم يكن وفياً تماماً لتوجهات أربكان الاقتصادية والسياسية، وقد يرى البعض أن المشروع الذي قدمه على هذا الصعيد، كان على النقيض تماماً من مشروع سلفه، فتبنى سياسة اقتصادية تقوم على اندماج تركيا في الاقتصاد العالمي.
وبدلاً من التوجه صوب الشرق ومشروع الثمانية الإسلاميين الكبار، أدخل تركيا في أوثق تحالف مع الولايات المتحدة، ووضع نصب عينيه الدخول للاتحاد الأوروبي بهدف تطوير بلاده اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً واللحاق بمستوى الدول المتقدمة، ولكن علينا أن لا نغفل عن الظروف السياسية والتوترات المحيطة، التي تحكمت إلى حد بعيد، بخياراته وتحركاته، ولكنه عرف كيف يوظفها لصالح بلاده، بحيث أنه جعل منها ركناً من أركان الاستقرار في المنطقة، ودولة يخطب ودها الجميع، واستطاع بذلك أن يجنبها كثيراً من الكوارث التي نشهدها في العديد من بلدان العالمين العربي والإسلامي.
مقابل هذا ينتصب «النموذج الأفغاني» من قبيل «طالبان» و«القاعدة» وأمثالهما، من تلك الحركات التي لا تتقن سوى القتل والتدمير والخطف والذبح، طريقاً وأسلوباً وحيداً لممارسة السياسة، حتى لو جاء ذلك تحت يافطات ورايات «الجهاد» و«المقاومة».
الحركات التي تقسم العالم إلى فسطاطين، واحد للشر وآخر للخير، دار للكفر والحرب ودار للإسلام، الأولى ـ يجب تدميرها وترويعها، قتل كبيرها وصغيرها، إناثها وذكورها.
حركات تعطي لنفسها حق تقرير كل شيء في حياة البشر ومستقبل المجتمعات والعالم.
أولويتها إقامة دولة الخلافة الإسلامية، حتى لو كانت فوق بقعة صغيرة من أفغانستان ، أو باكستان ، في الأنبار، أو في غزة .
لا تطرح أي برنامج اقتصادي وسياسي واضح، ولا تكترث بالدولة وواقعها، ولا بالمجتمعات ومشاكلها (تنمية، خدمات، فقر، بطالة..).
الواقع لديها مرفوض لأنه يخالف الشريعة، وليس لأنه يطفح بالمشاكل، وعليه فالأولوية هي لتطبيق الشريعة وليس للنهوض الاقتصادي.
والحكم عندها يقوم على أساس التحريم والتكفير، وتقويم «جاهلية» المجتمع، ولا سبيل لذلك، طبعاً، غير العنف والترويع، يدفع إليهما الشبق المتأجج للإمساك بالسلطة، والسيطرة على مقدرات المجتمع، ومصائر السياسة والاقتصاد والثقافة.. والتحكم بعقول وأرواح الجميع، الذين ليس عليهم سوى الانصياع والطاعة كالخراف المضللة!.
بين نموذج الاستنارة والاعتدال والمرونة، وبين نموذج التطرف والإرهاب، بين خيار السياسة وفضاءاتها، وبين الانزلاق للعنف والانغلاق والعودة إلى الوراء، ثمة مشكلة جوهرية، على الأنظمة والحركات الإسلامية مواجهتها.
المصدر
- مقال:الحركات الإسلامية بين النموذجين «التركي» و«الأفغاني»المركز الفلسطينى للتوثيق والمعلومات