العلاقة العربية الأمريكية
العلاقة العربية الأمريكية
الذين يظنون أن العرب إنما يكرهون الولايات المتحدة الأمريكية إنما هم قوم واهمون لا يفهمون تركيبة العقل ” العربي “ في عصور الانحطاط والهزيمة (1), إن العلاقة العربية – الأمريكية في مطلع القرن الواحد والعشرين تحتاج في واقع الأمر إلى كثير من الدراسة والبحث والتقصي - والتي ليس مكانها هذا الكتاب - , وأول ذلك فهم طبقاتها , فليست ولم تكن العلاقة بيننا وبين الولايات المتحدة بهذا التسطيح وهذه البساطة .
العلاقة الرسمية السياسية القائمة بين حكام أقاليم المنطقة والحكومات المتعاقبة في الولايات المتحدة الأمريكية هي أول طبقات هذه العلاقة , وثانيها العلاقة الجماهيرية العربية بالثقافة والإعلام الأمريكيين , وثالثها العلاقات الإنسانية العامة بالمؤسسات الأمريكية العلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها , وعلى رأس هذه العلاقات تأتي علاقة الجاليات العربية والإسلامية المقيمة في الولايات المتحدة بهذه المؤسسات التي تقوم عليها هياكل الحياة العامة في هذا البلد الاستثنائي ثقافة ومدنية واقتصاداً في مطلع القرن الواحد والعشرين , ولا ننسى العلاقة النفسية التي هي الأساس لدى الحديث عن موضوع كالحب والكراهية! .
علاقة حكام المنطقة العربية بالولايات المتحدة الأمريكية هي أوضح من أن تحتاج إلى أي توضيح , وما لا تفضحه الفضائيات والصحافة والانترنيت في هذا العصر يعرفه حتى الأطفال العرب الصغار في بيوتهم وملاعبهم , حكامنا أصبحوا ولا يستطيع الواحد منهم أن ينطق ببنت شفة دون إذن أولياء أمره في البيت الأبيض الأمريكي , الشيء الذي كان آباؤهم البيولوجيين أو السياسيين في المنطقة يفعلونه بكل راحة واطمئنان , خاصة وأن مبدأ ” التقيّة “ كان سائداً بين هؤلاء القوم من طبقة الحكام وبطائنهم من إعلاميين ومثقفين ودعاة ومشايخ وقراء وأئمة مساجد وسياسيين واقتصاديين , ولا نقصد هنا بالتقيّة ذلك التمويه والكذب والنفاق الذي يمارسه الحاكم العربي في وجه الصلف الغربي , فحاشاهم أن يفعلوه , ولكنها التقيّة التي تمارس من الحاكم العربي في مواجهة المحكوم العربي! .
” إذاعة صوت العرب “ ما زال فحيحها ونعيقها ينشبان في آذان جيل كامل بالسباب والشتيمة لكلٍ من أمريكا وصنائعها في المنطقة , ” معبود الجماهير “ في زمن النكسة والهزيمة والفاجعة الأولى , - جمال عبد الناصر وليس عبد الحليم حافظ - كان قد أتقن اللعبة إلى حدّ أن قام وزير الإعلام العراقي الصدامي الأخير ” سعيد الصحاف “ باستنساخها , حتى كادت تنطلي حتى على أولي العقول والألباب , لأنه ما كان منا ولا فينا من كان يريد أن يصدق بأن الرجل يمكنه أن يصل إلى هذه الدرجة من الكذب والخديعة والاستهانة بمشاعر الأمة في مثل تلك الأيام العجاف التي سبقت غزو العراق! .. ومتى ؟ في زمن سقطت فيه كل الأقنعة وكُشفت كل أوراق اللعبة .
إذاعة ” صوت العرب “ كانت تطنّ بالنصر ونحن نعيش الهزيمة , كانت تدندن بالكفاح والجهاد ونحن في حالة ركوع واستسلام , كانت ترنّ بالأغاني القومية , بينما الأرض والعرض والكرامة كانت جميعها في خبر كان , أما ”الصحاف “ فلقد حاول تقليد عبد الناصر , وقد فعل ذلك بمهارة عجيبة , الأعجب منها أن صدقناه! , أو لعلنا كنا نريد أن نصدقه , كنا نتمسك بالقشة التي قصمت ظهر البعير , ولم نكن نريد أن نصدق أن العراق كان قد أصبح مجرد كومة من الورق المقوى لم تكن في حاجة إلى أكثر من عود واحد من الثقاب لتشتعل وتنهار , في زمن الغزو الذي لا يستند إلى شرعية ولا مصداقية ولا أخلاقية , اللهم إلا فرض منطق القوة الغربية علينا وعلى العالم لتسترد من خلال ذلك الولايات المتحدة هيبتها ووقارها أمام هذا العالم الذي ما زال لا يصدق أن حفنة من مجندي ما يدعى بـ ” القاعدة “ قاموا بتلك الهجمات يوم الحادي عشر من سبتمبر عام الألفين وواحد فغيروا بها منطق القوة نفسه ومعه كل معادلات التاريخ الحديث والجغرافيا والعلاقات الدولية .
حكامنا .. يتمتعون بعلاقة استثنائية مع الولايات المتحدة الأمريكية , علاقة معروفة في تاريخ البشرية منذ أزمان سحيقة , علاقة الأجير بالسيّد , فهم يُحكِمون السيطرة على هذه الشعوب دون أن يرتكبوا حماقة تضييع أوقاتهم الثمينة في رعاية شيء من أمورها - اللهم إلا القلة - , ينهبون خيرات الأمة التي تذهب مباشرة إلى جيوبهم وجيوب أبنائهم وحساباتهم المصرفية السريّة دون مساءلة ولا مناقشة أحد , يقطعون شرايينها ويتركونها تنـزف قطرة قطرة! , طريقة رائعة للموت , غير غريبة على رجال الحكم في بلادنا , فلقد أورثتهم إياها المرأة الملكة زنوبيا ملكة تدمر .
معظم حكامنا أجراء يستحقون لقب الأجير الأمين الذي يحفظ كل مصالح سيده بدقة متناهية , كانوا كذلك لدى المستعمر البريطاني ثم وَرِثتهم الولايات الأمريكية المتحدة فيم ورثت من الممالك والعبيد , وراثة شرعية بنص شريعة الغاب التي تتحكم بالتاريخ البشري عندما يغيب العقل والمنطق والهداية الإلهية للإنسانية , ورثتهم عندما انتقل إليها حق السيطرة على العالم من أمها العجوز بريطانيا العظمى! .. هم يقتلون وهي راضية , هم يذبحون وهي مبتسمة , هم يدمرون الأمل والعمل في البلاد والعباد وهي تهز رأسها علامة القبول! .. تحميهم وتمنعهم وتشدّ من أزرهم وتحفظ لهم عائلاتهم المالكة سواء كانت عائلات أميرية أو ملكية أو جمهورية أو حتى جماهيرية! فكلهم في العبودية لدى الولايات المتحدة سواء , وكلهم في قمع الشعوب وكتم أنفاسها سواء .
لا .. ولم تهتم الولايات المتحدة وحكوماتها المتعاقبة بأوضاع حقوق الإنسان في بلدان المنطقة العربية إلا وفقط عندما تُمَسّ سيادتها فيها , سيادة الولايات الأمريكية بالطبع وليس سيادة حقوق الإنسان !.
وليس سيادتها فيها فحسب بل أمن واستقرار واستمرار ربيبة الغرب ” إسرائيل “ المدللة , التي قال عنها ” غابرييل ألبياك “ وتحت عنوان ” إسرائيل هي نحن “ (2): « إن أوروبا صارت تنسى أن ”إسرائيل “ كانت سور النـزاع الوحيد الذي حجز طغيان المد الأصولي الإسلامي عنا خلال نصف قرن , واحتمل مع ذلك دعم اليسار الأوروبي للفدائيين الذين كانوا يقتلون ويذبحون ويختطفون الطائرات , بينما ” إسرائيل “ وحدها كانت هناك لضمان أمن العالم » . لم تتحرك الولايات المتحدة يوم ذبح عبد الناصر الإخوان المسلمين في سجونه الجهنمية وأنزل بهم من العذاب ما تشيب لهوله الولدان , ولكنها تزلزلت عقب كل تفجير أو عملية استهدفت منطقة الحدود المصرية مع هذه الصنيعة الغربية في قلب المنطقة العربية , وتحركت وانتفضت من أجل مركز ”ابن خلدون “ الثقافي الاجتماعي الأمريكي الموارد والتوجهات والذي بدأ يزعج الحكومة المصرية .
لم تغضب الولايات المتحدة يوم قصف ”رفعت الأسد “ شقيق الرئيس ”الأسد الأول “ حاكم سورية في حينه مدينة حماة الثائرة بالطائرات وشرد أهلها , وساح أيتامها في الطرقات خارج المدينة يبحثون عن مخرج , ولكن وجود مكاتب لحماس في دمشق أقضّ مضجعها وأزعج سياسييها وأقام الدنيا ولم يقعدها .
لم تتحدث الولايات المتحدة عن الويلات التي يعيشها الشعب الليبي , ولم تعترض على ملايينه الذاهبة رأساً إلى جيب العقيد دون أن يتجرأ أحد على سؤاله عن شيء , ولم يزعج الولايات المتحدة أن يصبح ابن العقيد ناطقاً رسمياً باسم ”الجماهيرية الاشتراكية العظمى “ , ولم تتوان الولايات المتحدة عن السكوت على العقيد وابن العقيد فهي مستعدة للتغاضي حتى عن ترك الجماهيرية العظمى بيد ابن العقيد ومن بعده ابنه ثم ابن ابن ابنه ما دامت مصالحها في أمان وديّات قتلاها وقتلى حلفائها مدفوعة .
متى اعترضت الولايات المتحدة على ما يجري فيمصر والجزائر والسودان والمغرب والسعودية والعراق إلا عندما مُسّت مصالحها في هذه البلدان ؟ متى تحركت طوابيرها الإعلامية لنصرة نساء أفغانستان إلا بعد أن تبين أن ”القاعدة “ مقيمة في ”تورا بورا “ ؟ متى امتُشق سيف الإعلام الأمريكي ومن ورائه الغربي لقطع دابر كل من تسول له نفسه أن يختن الإناث في هذه البلدان إلا يوم فاحت رائحة البترول من جنوب السودان وصارت السيطرة على منابع الماء ضرورة قصوى في المنطقة ؟! .
هذه هي العلاقة البديهية بين حكامنا والولايات المتحدة , لا يختلف عليها اثنان , لم تعلن الولايات المتحدة غضبها على صدام إلا بعد أن أعلن صدام العصيان , وهو لم يعلن العصيان إلا بعد أن أفلس , وبعد أن أعجز دول المنطقة الدفع إليه بالعملة الصعبة , وبعد أن أنهك البلاد والعباد وتفرعن فنسي أن من ورائه طاغوت أعظم منه .
لا يمكن لمراقب أن ينسى كلمات الرئيس المصري ” مبارك “ بعيد سقوط الطائرة المصرية عام 99 والتي كانت تحمل أربعين ضابطا في الجيش المصري من مختلف الرتب العسكرية من بين الضحايا كانوا قد أنهوا دورات تدريبية متقدمة في الولايات المتحدة الأمريكية (3)، لم يتردد الرجل في أن يترك الأمر كله جملة وتفصيلاً بيدّ من وصفهم ”أصدقاءنا الأمريكان “ الذين قال عنهم ” أنهم سيقومون بالواجب “ , ولكن أصدقاءه الأمريكان لم يقوموا بالواجب ولم يفعلوا أكثر من كيل الاتهامات لقبطان الطائرة تملصاً من دفع ديّات الضحايا , بل وأكثر من هذا لقد اعتبر ”أصدقاءه “ أن الأمر كله لا يخرج عن كونه عملاً إرهابياً , وبذلك فإن مصر هي التي قد تضطر إلى دفع ديات من كان على الطائرة من الرعايا العرب الذين يحملون الجنسية الأمريكية! .
انطوت صفحة هذه الحادثة المؤلمة والمخزية , وخسرت الأمة أربعين عسكرياً من كبار الضباط الذين كانوا قد أنهوا للتو عملية تجهيزهم وتدريبهم وإعدادهم للانخراط في مواقع متقدمة في الجيش المصري , وضاعت معهم حفلات الندب الإعلامية المصرية , ودموع الأمهات وآلام الأيتام وحنق الذين اتُّهم ذووهم بالإرهاب ممن كانوا يقودون تلك الطائرة , ولكن التاريخ لن ينسى للرئيس المصري تلك الكلمات في تلك الساعات .
عبارة ”أصدقائنا “ هذه , هي الوحيدة التي لا يتوانى عن ترديدها معظم حكام العرب والمسلمين كلما ألمّت بهم كارثة تضعهم على محك التجربة أمام شعوبهم , ليظهر عجزهم ونفاقهم وعريهم وفضيحتهم أمام شعوب طال صبرها وانتظارها , وأصبحت مهددة بالعصا تنـزل على رأسها كلما حاولت التنفس , لأن الحاكم سينادي ”ابن عمه الثوموسول “ !! (4).
ابن عم حكامنا ”الثوموسول “ جاهز للمصافحة والتصريحات والشدّ على يد حكامنا كلما ألمّت بهم نازلة , يهرولون نحو مزرعته في أمريكا – حسب دوره في الحكم - ليبكون بين يديه فيطبطب هو على أكتافهم ويلف أيديهم بيده الشريفة ويمضي بهم إلى مائدة الغداء أو العشاء والدموع ما تزال في أعينهم ليمسح دموعهم وليطمئنهم : لا تهتموا لشعوبكم المشاغبة إنني ما زلت أتناول كل يوم شرابي المفضل ”ثوموسول “ ! .
الحكام العرب حريصون كل الحرص على طاعة الولايات المتحدة لأن مصالحهم الشخصية مرتبطة مباشرة بها , وليست مصالحهم الشخصية فحسب إنه أمنهم وسلامتهم الجسدية وسلامة أبنائهم وعشائرهم وطوائفهم وأسرهم المالكة للعباد والبلاد , والولايات المتحدة بدورها حريصة عليهم لأنهم أجراء حراستها في المنطقة , يحفظون لها مصالحها واستثماراتها وتدفق البترول على مصانعها وآلاتها ومؤسساتها مجاناً تقريبا ودون قيد أو شرط , فكيف لعلاقة مثل هذه أن لا تتسبب بتأجيج نيران الكراهية والحقد لدى شعوب المنطقة المغلوبة على أمرها من قبل هؤلاء الحكام الذين اغتصب معظمهم الحكم اغتصاباً ثم مضى يعيث فساداً في الأرض دون أن يترك لدى الناس أملاً ولا بارقة فجر ولا خلاص , ولا معارضاً ولا رأياً ولا كلمة تقال في حقه , اللهم إلا كلمات التبجيل والتأليه والتسييد له ولأبنائه ، ولحكمه وديمقراطيته وأفضاله وأياديه من بعده إلى أبد الآبدين .
هذه العلاقة المصيرية بين الولايات المتحدة وحكام المنطقة العربية هي المسؤولة إذن وبالدرجة الأولى عن هذا الشعور بالكراهية والذي لم تصل رائحته الولايات المتحدة إلا على متن تلك الطائرات التي دكّت برجي نيويورك في محاولة رهيبة لاستعادة ذلك النصر المسروق , الذي سرقته الولايات المتحدة من ”المجاهدين في أفغانستان “ يوم ادّعت أنها هي التي هزمت الشيوعية , بينما يعلم القاصي والداني أن معاقل الشيوعية لم تٌدك إلا على أيدي هؤلاء ”المجاهدين “ الذين نالوا في حينه مؤازرة الولايات المتحدة ودعمها المعنوي والإعلامي والاستراتيجي ورضاها المطلق عن حكومات العرب التي كانت تمول وتدعم بغض الطرف عن المتطوعين الذين هبوا لنجدة ونصرة إخوانهم في العقيدة , أولئك الشباب من عرب وغير عرب من الذين طلّقوا الدنيا ونزلوا في حينه ساحة أفغانستان والبوسنة وكوسوفا .. كانوا يومها يُدْعون بالمجاهدين! أما اليوم .. وعلى ضوء تحقيق هذه المعادلات الصعبة بين المهزوم والمنتصر , بين القوي والضعيف , بين الماضي والحاضر , بين الغرب والإسلام باعتباره القوة الوحيدة التي يمكن اعتبارها اليوم عدواً يبرر من أجله دوران آلة الحرب الصناعية الجبارة , وبقاء حلف شمال الأطلسي ودفع الاتحاد الأوروبي نحو حدود غير منطقية ولا واقعية ولا ممكنة , على ضوء هذه المعادلات وغيرها صار اليوم اسم أولئك ”المجاهدين “ .. ”إرهابيين “!
الإعلام العالمي الذي كان يملأ الأرض بالأمس القريب ندباً وبكاءً من أجل البوسنة وكوسوفا , هو نفسه اليوم الذي يكيل جميع أنواع الاتّهام لمن كان قد زار البوسنة وكوسوفا أيام مذابحهما الشهيرة ليقدم دواءً أو عوناً إنسانيا , الطائرات نفسها التي كانت تقل ّ المجاهدين من بعض دول الخليج العربي إلى أرض المحنة في الشيشان والبوسنة وكوسوفا عائدة بالجرحى والشهداء , هي نفس الطائرات التي تحمل اليوم الخبراء من الأمريكيين الذين يحاولون بمساعدة الحكومات المحلية وضع خطط للقضاء على الإرهاب الدولي! . أبناء المسلمين , بل خيرة أبناء المسلمين ممن ضحوا بالغالي والرخيص ويمموا شطر تلك البلدان تحت ضغط إعلام عالمي كان يزلزل ضمائر المسلمين استنهاضاً لهمهم للذود عن ثغور الإسلام , هؤلاء الشباب أنفسهم هم اليوم الذين تشهد صالات المحاكمات القضائية المسرحية الهزلية في طول العالم وعرضه محاكماتهم باعتبارهم أعضاء في تنظيم ”القاعدة “ الذي لم يكن له يوم ذهبوا إلى البوسنة والهرسك لون ولا طعم ولا رائحة ولا وجود !!, كانت رائحة الشهادة هي الرائحة الوحيدة التي تُروج لها أمريكا ومن ورائها حكوماتنا يوم كانت أمريكا ومن ورائها حكوماتنا بحاجة إلى إيمان وسواعد خيرة شباب الأمة ليهزموا بالنيابة عن الولايات المتحدة الاتحاد السوفييتي .. ولتتخلص حكوماتنا في هذه المعمعة وبالجملة من هؤلاء المشاغبين ذوي اللحى والجباه العنيدة , والعيون التي يلمع فيها بريق الأمل .. بالخلاص والحرية .
إنها أكبر عملية غشّ شهدها العالم في تاريخه , وأعظم عملية تشويه للحقائق بعد عملية تشويه الحق الإسلامي العربي في فلسطين والقدس , وأخطر لعب بمصائر الشعوب وإهانتها , وقط .. لم تمرّ الإهانة على الأمم والشعوب بمثل السهولة التي تظنها الولايات المتحدة .. أو تظنها حكوماتنا الساهرة للتخلص من الثوار والأحرار والأبطال والشجعان والمجاهدين واستئصال شأفتهم .. بدل الاستفادة من قدراتهم وصدقهم وطموحهم وتفانيهم في سبيل الحق , وترشيد ثوراتهم لمصلحة البلاد والعباد والمستقبل المذبوح مرة بيد الاستعمار المتربص بنا في كل حين , والمذبوح مليون مرة بيد هؤلاء القوم الذين قفزوا في غفلة من الأمة إلى كراسي الحكم فيها فالتصقوا بها بقدرة النار والحديد والدم وساموا العباد والبلاد سوء العذاب , وأمريكا .. واقفة تتفرج , أمّ الحريات والديمقراطيات وحقوق الإنسان , التي لا يكرهها العرب والمسلمون ولكنهم يعانون نوعاً من الذهول في مواجهة هذا الاستعمار الجديد المقنع بالدفاع عن المظلومين , الملتحف في واقع الأمر شملة آلهة الحرب وشياطينها المستعدون لالتهام العيون والقلوب والأكباد والمكتبات والمتاحف والجامعات والأخضر واليابس , يمرون بمناجل الموت والدمار على كل ما يعترض طريقهم .. طريق المدنية المزيفة , طريق حقوق الإنسان المدعاة , طريق الاستعمار الذي لم يكن وما كان قط إلا دماراً وخراباً وعذاباً للآخر في سبيل شهوة السلطة والاستيلاء على ثروات الأرض بأي ثمن وبأية طريق .
ورثت شعوبنا كراهيتها لسياسات الولايات المتحدة ضمن ما ورثته خلال حقبة التحرر والكفاح العالمي ضد الهيمنة الرأسمالية على دول العالم الثالث خلال الستينات ، ناهضت جماهيرنا حرب فيتنام التي شنتها الإدارة الأمريكية منتصف القرن العشرين ، ولكنه كان جلياً احترام هذه الجماهير ودعمها ” محمد علي كلاي “ المواطن الأمريكي الذي فضّل أن يدخل السجن على أن يذهب إلى حرب ظالمة غير عادلة ، ورثت الجماهير في المنطقة العربية رفضها لسياسات الولايات المتحدة مع ما ورثت من سوء ظن في الاستعمار وحقد على مؤامراته على المنطقة ، ورغبة في التحرر بعد أن انتقلت قيادة الحركة الاستعمارية العالمية من بريطانيا العظمى إلى ابنتها الشرعية الولايات المتحدة .
إنها كراهية تاريخية ليست على علاقة بهوية الولايات المتحدة الثقافية أو الحضارية أو الدينية بقدر ما هي مرتبطة مباشرة باسم ”الاستعمار “ في العالم ، والذي ينبغي أن يتم تصحيحه في أروقة الأمم المتحدة ليسمى ”بالتدمير“ والاستدمار ، وهو شيء يعرفه التاريخ وتشهد له الجغرافيا ، ويؤكده علم الاجتماع ، لم يدخل ”الاستدمار“ قرية ولا بلداً إلا ودمرها وجعل عاليها سافلها وحاول أن يكسر رُكب وسيقان أهلها بحيث لا يستطيعون من بعده الوقوف على أقدامهم ، إنها كراهية تتعلق بطبيعة العلاقة بين المستعمر وولاته الذين يسلمهم مقاليد الأمور في البلاد التي يدمرها ليحافظوا له على شلل الركب والسيقان ، وليكرس لهم تلك الحال بين المواطنين فلا هو يسمح لأحد بالوقوف على قدميه ولا هو يعطي تصريحاً بصناعة أرجل اصطناعية تعين الناس على المشي ، ولا هو يمكنهم من استيراد كرسي عجلات يستطيعون من خلاله بلوغ مقاصدهم .
مهمة الحاكم بأمر المستعمر كانت دائماً في تاريخ البشرية القضاء على كل أمل لدى الشعوب المستعمرة بالوقوف على قدميها لتستشرف رؤية الشمس وهي تشرق ، والإبقاء عليها كسيحة مكسورة جريحة تزحف في مستنقعات الانبطاح والاستسلام لأقدارها .
لكن السؤال الذي يفرض نفسه : إذا كانت هذه الشعوب تكره الولايات المتحدة فلماذا تنـزح زهرة شبابها بالمئات والآلاف لطلب العلم والمعرفة والحياة في الولايات المتحدة ؟! الشيء الذي تغير بالطبع بعد تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر ؟! .
كيف يمكننا القول بأن شعوب المنطقة تكره الولايات المتحدة إذا كنا نأكل على الطريقة الأمريكية ، ونحتفل بالحب المحرومين منه كعرب وفقط يوم القديس ”بالانتين“ على الطريقة الأمريكية ، ونلبس الكاوبوي مثل الأمريكان ونتحدث الإنجليزية باللهجة الأمريكية في أسواقنا وشوارعنا ومحافلنا ، ويسمع شبابنا الأغاني الأمريكية حتى دون أن يفقهوا أحيانا كلمة منها ، إذا كنا نتهافت على الأفلام الأمريكية ونعرف عن ممثلي أمريكا في هوليودها أكثر مما نعرف عن مؤسسة الصناعة المصرية المتعفنة المتآكلة ، والتي ثبت ويا للعار أن 70% من أفلامها لم تكن إلا نسخاً رخيصة جداً ورديئة جداً عن أفلام أمريكية شهيرة في قديمها وحديثها ، بل وحتى المسلسلات الفكاهية التي بدأت بغزو القنوات التلفازية العربية ليست إلا نوعاً من أنواع محاولات تقليد غبي مغرق في الحماقة للمسلسلات الأمريكية الفكاهية التربوية ، التي لم يفهم منها العرب إلا الضحك الأبله نتيجة عمليات الترجمة بالغة الرداءة ، وعمليات الاستنساخ المشبوه التي لم يكلف مقترفيها أنفسهم مجرد عناء قراءة نصوصها الأصلية الأدبية والفكرية التي اشتقت عنها مثل هذه الأعمال الفنية التربوية التوجيهية المذهلة في جودتها كما المذهل استنساخها الرديء عربياً! .
من هذا الذي يدّعي أنه يكره أمريكا وأسماء بناتنا في بعض العواصم العربية صارت تنحت من أسماء الأمريكيات الشهيرات ، ولا نقصد هنا ”مادالين أولبرايت“ ولا ”كونداليسا رايث “ ... ولكن ”سلمى الحايك “ ، و ”نيكول كيدمان “ .. ولارا ، وتمارا! .
كيف تُتهم هذه الشعوب بكراهية أمريكا ، والحلم الأمريكي جزء من وجودها وحياتها وتطلعاتها ، والكعبة الأمريكية هي الوجهة الإجبارية لكل شاب يتطلع إلى مستقبل علمي أو اقتصادي إيجابي في حياته .
النازحون نحو الولايات المتحدة لا تتجاوز نسبة الهاربين منهم من أوضاعنا السياسية الخمسة في المائة وقد تبلغ نسبة المهاجرين لأسباب اقتصادية الثلاثين بالمائة أما البقية فإنهم يمموا شطر العالم الجديد لأنهم يريدون تطوير قدراتهم العلمية والفكرية أو أنهم يريدون الخلاص من الوضع الاجتماعي المأزوم في بلادنا طلباً للحرية الإنسانية والفردية التي يمنحها المجتمع الأمريكي للمواطن والمقيم كي ينمو ويطور من قدراته وإمكانياته ومواهبه .
الولايات المتحدة ليست مجرد دولة من هذه الدول المتقدمة التي شهد القرن العشرين ولادتها أو نهضتها المدنية الصناعية المذهلة وحسب ، الولايات المتحدة تمثل الذروة التي وصل إليها المجتمع البشري كله في سعيه نحو بناء مدنية صناعية تقنية هي القمة في كل ما حققه الإنسان من تقدم علمي واجتماعي واقتصادي في القرن العشرين ، لم تكن مدنية وتقدم الولايات المتحدة منتجاً إنسانياً أمريكياً باستثناء ، بل كان تقدماً وتحصيلاً صنعه البشر جميعاً بكل أجناسهم وأعراقهم وانتماءاتهم الدينية والقومية والوطنية ، الصيني والهندي والعربي والروسي ، النصراني والبوذي واليهودي والمسلم ، الأوروبي والآسيوي والأفريقي ، كل بني البشر كانوا هناك في الولايات المتحدة يعملون في أجواء الحرية والكرامة الإنسانية والمساواة حتى استطاعوا أن يبلغوا بهذه المدنية عنان السماء ، ولذلك فإن الذين دكّوا برجي نيويورك يوم الحادي عشر من سبتمبر لم يفعلوا ما فعلوه إلا وهم يعلمون تماما أنهم إنما يضربون رمز هذا الصرح البشري العظيم .
من هنا استنبط كثير من المراقبين أن هجمات نيويورك لم ينفذها أفراد وإنما مؤسسات دولية تقف وراءها قوى عالمية جديدة تريد أن تغير النظام العالمي بضربة قاصمة ... وقد فعلت!! .
اتهام شعوب المنطقة العربية بكراهية الولايات المتحدة اتهام فيه افتراء وظلم كبير ، فلا يوجد مواطن فيها إلا ويتمنى أن يهاجر إلى الولايات المتحدة وأن يتزوج من امرأة أمريكية تريحه مما يعتقد أنه ”غباء المرأة العربية “ !! ، معظم شباب العرب يحلمون بالعيش في الولايات المتحدة وأن يتعلم كل منهم هذه الطريقة في الحياة الحرة الكريمة التي تزينها لنا معظم أفلام هوليود عن الولايات المتحدة .
كلنا نجلس مشدوهين أمام هذه الدعاية الضخمة التي تغزو أفكارنا وقلوبنا عن طريقة في الحياة لا تكاد تختلف كثيراً عن بعض أوجه طريقة حياة وتفكير كثير من الناس في صدر الإسلام !! ، هذا العنفوان الشعوري بالكرامة الإنسانية ، هذا التحرر من قيد العادات والتقاليد وأثقال المجتمع وأعراف القبائل ، هذه الحرية التي يتمتع بها الإنسان بالطول والعرض والارتفاع ، هذه القدرة على التفكير والتعبير الحرّ الكريم والارتقاء والنمو وصقل المواهب ، وتحويل الإرادة إلى عمل .
الإنسان في ظل المدنية الأمريكية كما يروي الذين عاشوا ويعيشون في الولايات المتحدة ، وكما تعكسه الصحافة والإعلام الأمريكيين ، وكما يظهر في هوليود - باعتبار الفن إحدى مرايا كل مجتمع ينتجه - الإنسان يبدو حراً كريماً مستقلا ً ، يختار حياته ، يصنع طريقه ، قادر على اتخاذ القرار بنفسه لنفسه ، يبكي عندما يريد أن يبكي لأنه يريد أن يبكي ، ويحبّ عندما يحبّ لأن قلبه خفق لهذا الحب ، عظيم بإنسانيته حقير بإنسانيته ، كبير بحريته ساقط بحريته ، هذه الصورة عن هذا الإنسان هي التي جعلت العالم يسقط على ركبتيه أمام الولايات المتحدة الأمريكية ، لقد غزت الولايات المتحدة الأمريكية قلوب شعوب العالم بصورة هذا الإنسان والدعاية له قبل أن ترتكب الحماقات التاريخية البالغة فتغزو بلاد هذا العالم بدباباتها وأباتشياتها وبحارتها الأشداء المتوحشين! .
صعب على المواطن الذي يعيش في المنطقة العربية كما في غيرها من المناطق التي تعاني من الهزيمة النفسية والثقافية في عالم التلفزيون والسينما أن لا ينبهر بهذه الدعاية ، صعب عليه أن لا تستعبده هذه الصورة المذهلة عن المواطن والمقيم في أمريكا واللذين يستطيعان سباب الرئيس والضحك منه والسخرية من أفعاله وانتقاده وتفنيد سياسته وكل شاردة وواردة في حياته الشخصية دون أن يتعرض إليهما أحد .. صعب على المواطن العربي المقهور أن يكره هذه الصورة الدعائية المشرقة عن عالم الناس الذين ولدتهم أمهاتهم أحراراً ، عن عالم البشر السواسية كأسنان المشط ، عن عالم كل ما فيه جميل وخيّر ونافع ومثير ومسلٍ وحرّ !! .
هذه هي الكلمة السحرية بالنسبة للمواطن العربي ”الحرية “التي ينام وينهض وهو يحلم بها ، حرية الرجل وحرية المرأة وحرية الإنسان وحرية المواطن والأوطان ، حتى لو كانت أفلاماً سينمائية دعائية لمؤسسة يهودية يعرف كل العرب هويتها وولاءها .
لا يمكن للعرب أن يكرهوا الولايات المتحدة الأمريكية ، ولكنهم مصابون بانفصام حاد في الشخصية فهم لا يعرفون ماذا يفعلون ولا كيف يفكرون ولا من يحبون ولا من يكرهون ، إنهم يحبون ”ماما أمريكا “ ولكنهم يكرهون ”بابا رئيسها “ ، يحبون الرمز الأمريكي ويكرهون المتسلط الأمريكي ، يحبون الثقافة والدعاية وطريقة الحياة التي تمثل آخر ما تمخض عنه العقل البشري اليوم من خلاصة تجارب البشر في توفير فرص أفضل لحياة أكرم للإنسان ، ولكنهم يكرهون هذا الذي تمخضت عنه شهوة سلطان القوة في خلاصة حماقات البشر في استعمال هذه القوة لاستعباد الآخرين ، وإعادة نفس الأخطاء التاريخية التي وقع فيها كل من استهوته القوة حتى اتخذها إلهاً فأعمته وأصمته حتى عن مجرد قراءة تاريخ الذين سلكوا ذات الطريق من قبله! .
كراهية العرب لأمريكا ليست كراهية جنس بشري يعيش في تلك الأرض ، ولا طريقة حياة أولئك الناس الذين يشكلون أصلاً مجموعة كاملة من كل أنواع البشر الذين يعيشون على هذه الأرض في هذه الحقبة من التاريخ ، ولا رفض لقيم الديمقراطية الأمريكية والغربية وطريقة تصورهما للحياة كما يدعي الرئيس الأمريكي ”بوش الابن “ وأتباعه من الأوروبيين .
راكبي الموجات - من أمثال رئيس الحكومة الإسبانية المطرود من الحكم والذي كان قد جرّ على إسبانية الويلات في زجه هذا البلد في حرب العراق - ، مدّعين أن أعداء أمريكا إنما يعملون لدكّ صرح حضارة الغرب وقيمه الثقافية والدينية ، وهذا من أعظم أنواع الافتراءات الحمقاء على التاريخ وعلى الإنسان .
الناس - في المنطقة العربية وخارج المنطقة العربية – لا يكرهون الولايات المتحدة الأمريكية ولكنهم يكرهون تصرفات زعمائها المنافقين الكذبة ، الذين تبهر ثقافة بلادهم أحاسيس البشرية عن طريق إنتاجاتها الهوليودية الضخمة التي تستند إلى أدب عظيم وعلوم مذهلة وفن راق متطور ، بينما تنكمش سلوكياتهم الحقيقية لتترجم أفعالاً وضيعة خسيسة حيوانية ساقطة ، شهد العالم بأسره بعضاً منها في سجن ”أبو غريب “ ، وفي معتقل ”غوانتانامو“ ! كما كان يشهد يومياً ما تقوم به إسرائيل محمية الولايات المتحدة في المنطقة العربية من قتل وذبح وسحل للفلسطينيين بمباركة ومساعدة ودعم الولايات المتحدة ، من هذا الذي يمكنه أن يفهم كيف يمكن لدولة أن تقصف بالصواريخ رجلاً في السبعين من عمره قعيد كرسي عجلات ؟! ومهما طبلت وزمرت أجهزة الإعلام الغربية بنعته بأنه ”شيخ الإرهاب“ في العالم ؟ من هذا الذي يمكنه أن يفهم كيف تمّ إعدام محمد الدرة أمام مرأى ومسمع من هذا العالم ؟! من هذا الذي يستطيع أن يفهم لماذا تقتحم قطعان المستوطنين اليهود كل حين باحة المسجد الأقصى بمثل الوحشية والصلف الذي تفعله والولايات المتحدة أبداً صامتة داعمة واقفة إلى جانب إسرائيلها ؟ .
عندما تسكت حكومات الولايات المتحدة الأمريكية على كل ما تفعله ”إسرائيل “ بالفلسطينيين ، عندما يشوه الإعلام الأمريكي الحقائق ويسمي الأشياء بغير أسمائها فيجعل المظلوم ظالماً والحق باطلاً ، وعندما تواصل هذه الحكومات المتعاقبة على البيت الأبيض دعمها للكيان اليهودي دون قيد أو شرط ، وينحني رئيسها ”بوش الابن “ ليقدم لضيفه السفاح ”مجرم الحرب شارون “ التشوكولا المغلفة بالعلم الإسرائيلي ، فهو يقدم مع ذلك ولاءه ورضاه بكل ما تفعله هذه الدولة الصنيعة بالشعب الفلسطيني الأعزل ، الذي لم يكفيه ما يعانيه ، حتى خرجت الولايات المتحدة ومعها ”إسرائيل“ على العالم بالصرعة السياسية الجديدة مطلع القرن الواحد والعشرين ، خلطة إعلامية متفجرة تضع وتصنف الكفاح الفلسطيني بأنه من فئة الإرهاب العالمي .. حيث يصبح النضال ضدّ المستعمر في فلسطين والعراق نوعاً من الإجرام العالمي المنظم المنضوي تحت عنوان الإرهاب ! .. يُجَرَّم ليس كل من يقوم به فحسب ، بل كل من يعتقده حقاً مشروعاً لكل شعب أبيّ مستعمر مقهور مظلوم معتدى عليه في هذا العالم .. عالم الولايات المتحدة في القرن الواحد والعشرين .. عالم الغاب! .
هذا فيض من غيض الممارسات الأمريكية الغير هوليودية ، مما يفر ّ أو لا يفرّ من قبضة الآلة الإعلامية الأمريكية الجبارة القادرة على وضع المساحيق السحرية حتى على أقبح وجه شيطاني عرفته البشرية في تاريخها ، وهو وجه عفريتة الحرب الغولية الشمطاء لتجعله وجها أقل قبحاً عن طريق وصف عمليات القتل والإبادة والقصف والانتقام للكرامة الأمريكية الجريحة في الحادي عشر من سبتمبر بإلقاء أمهات وآباء القنابل التي تزن آلاف الكيلوغرامات فوق رؤوس الأبرياء ، تصفها بأنها مجرد عمليات جراحية مختارة ! ، ولم لا ؟ إنها السياسة الإسرائيلية –الأمريكية بامتياز ، سياسة العقوبات الجماعية وضرب الأبرياء بوحشية بالغة لردع كل من تسول له نفسه أن يثور أو يقاوم أو يرفض .
كل هذا فضلاً عما تكشفه آلة الدعاية الأمريكية نفسها - ”هوليود“ - بين الحين والحين عن تردٍ أخلاقي مذهل يسود بين صفوف المجندين الأمريكان في ثكناتهم ووحداتهم العسكرية ، صوراً يندى لها جبين الإنسانية عن تعاملهم مع بعضهم البعض ، وعن تعاملهم مع الآخرين ، مما ينذر العالم بزحف طاعون من نوع جديد سوف يبتلع الأخضر واليابس ، طاعون غير غريب يعيد رسم معالم المنطقة بنفس المنطق ونفس الأسلوب الذي حاولت فيه من قبل القوات العسكرية الفرنسية والإيطالية والإنكليزية فرض تصوراتها على أرض هذه الأمة فشنقت ”عمر المختار“ ، وسحلت جثث الثوار الأحرار الأبطال الذين دافعوا عن أرضهم وديارهم وأعراضهم ، ذهبت إيطاليا ورحلت عن ليبيا ، جرجرت فرنسة أذيال خيبتها بعد 130 عاما وأيقنت بأن شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتمي على الأقل في اللغة التي يرتل بها كتابه المقدس ، ورحلت الإمبراطورية العجوز عن بلادنا ، وبقي ”عمر المختار “ وكل ”عمر مختار“ حياً في ضمير الأمة ،
ليت الولايات المتحدة تحسن قراءة التاريخ وتتعلم قراءته بالعربية ؟! .
لا يمكن أن نَفصل في حديثنا عن الولايات المتحدة بين السياسة والإعلام ، وبين الأخلاق والممارسات ، وبين البيت الأبيض وهوليود ، إن الولايات المتحدة هي كلّ هذا النسيج الذي لا يمكن لإنسان عربي أو غير عربي ولا مسلم ولا غير مسلم أن يكرهه بمجمله ولا أن يحبه بمجمله ، الولايات المتحدة اليوم هي الوجه الحقيقي لهذه الإنسانية التي تعيش اليوم على هذا الكوكب الذي ملئ ظلماً ولا بد لدولة كالولايات المتحدة أن تكون على رأس هرمه السياسي لأنها دولة قامت أصلاً على الظلم – تجاه سكان أمريكا الشمالية الأصليين - ولكنها وعلى الرغم من هذا الظلم استطاعت أن توفر للإنسان الكثير من مظاهر المدنية والإنسانية نفسها وبهذا سادت العالم وتمكنت من قيادته .
النفاق والدجل والظلم والكذب المدروس بدقة ودأب في مجال السياسة والإعلام ، هو ما يكرهه هذا العالم ، وهو ما يكرهه ويرفضه العالم العربي والإسلامي وكل إنسان حر نزيه على وجه هذه الأرض ولو لم يكن عربياً ولا مسلماً .
هذا هو ما يكرهه المواطن في المنطقة العربية ، كما يكرهه كل مواطن حر وإنسان شريف في هذا العالم ، الكذب والنفاق والتعامل مع الآخرين وكأنهم متخلفون عقلياً ، وكأن البشر يصدقون بمجموعهم ودائما كل الطبخات الإعلامية دون استفسار ولا فهمٍ ولا اعتراض ، وهنا يصدق في السياسة ما يصدق في الحياة ، وهو أن الشعوب قد تفاجيء جلاديها كما المستهينين بها بما لا يمكنهم تخيله ولا انتظاره ، لأن الشعوب كالأفراد لا تحتمل كثيراً ولا طويلاً الانتقاص منها وإهانتها .
لا أحد يمكنه أن يقدر أبعاد ردود فعل أمة على الإهانة ، وكان على الولايات المتحدة وحلفائها أن يفهموا أن احتمال الأمم له حدود ، حتى لو طال صمت أغلبية أبنائها واستكانتهم ، حتى لو انبطح كل حكامها تحت أقدام الغزاة ، ولكن لا يمكن للأمم أن تستكين طويلاً ولا أن تسكت إلى الأبد ، المخيف أن اجتماع الضغط الخارجي والقمع الداخلي يؤدي ودائماً إلى انفجارات لا تحمد عقباها ، شدة الضغط تؤدي إلى شدة الانفجار ، شدة الضغط مع سدّ المنافذ كلها تؤدي لانفجار القدر بما فيها ومن فيها ، سنن فيزيائية دقيقة لا يمكن تجاهلها في التعاون مع الأمم والشعوب والتاريخ .
التاريخ يشهد والبشر شاهدون على أن الإهانة تنقلب مع الزمن لتصبح سلاحاً للتدمير الشامل ، على مستوى الأفراد والأسر والشعوب والأمم والعالم ، والذين يُستضعفون في أرض كان حقاً أن يُنصروا في ذات الأرض التي استضعفوا فيها ويرثونها من بعد الذين ظلموا وأطالوا فيها الفساد .
إهانة الأمم كانت نقطة الغباء في السياسة الأمريكية التي اتّبعت خطى حَمقى دولة يهود ، الذين بالغوا في إهانة الفلسطينيين والانتقاص منهم حتى انقلب السحر عليهم فأصبحوا هم المحاصرين من قبل الفلسطينيين العزل ، المهددون بالقنبلة الديموغرافية ، لا فرات عندهم ولا نيل إنما يسرقون مياه شرب الفلسطينيين لملء أحواض سباحتهم على مرأى ومسمع من المحرومين ، بعد أن عجزوا عن الاستمرار في الولوغ في دماء الفلسطينيين بعد صبرا وشاتيلا ، وإسرائيل .. هي إسرائيل صاحبة الجيش الذي لا يهزم .. وهزمه بإذن الله حجر بيد أولاد الشوارع الحزينة المرصوفة بالقهر وخطوات الكادحين ، وهزمته صورة إعدام طفل يحاول الاحتماء بظهر أبيه ، وهزمه كرسي عجلات تفجر بصاروخ أطلقته أباتشية أمريكية ذات فجر فلسطيني ! .
لم تتعلم الولايات المتحدة دهاء البريطانيين في استيعاب أعدائهم ودغدغة عواطفهم وابتلاع ثرواتهم ووجودهم في أناقة لا تليق إلا بكبار مجرميها من السياسيين المعروفين تاريخياً ، كما لم تتعلم الدروس الثقافية السياسية الفرنسية التي تنازلت فيها إمبراطورية نابليون إلى درجة تبادل المواقع مع كثير من أعدائها الألداء وإلى درجة لم نعد نعرف فيها من الذي يغزو مَن ؟ هل فرنسا هي التي غزت الجزائر والمغرب أم أن المغرب والجزائر هما اللتان تغزوان أمام سمع العالم وبصره فرنسا اليوم ؟! . لم تتعلم الولايات المتحدة هذه الدروس البليغة في السياسة والثقافة والتاريخ ، ولم تتعلم من الدرس الذي لقنه لها التاريخ في فيتنام ، لكنها آثرت أن تجلس قبالة هذه الأمة بكل صلف وعجرفة وتمدّ قدميها في وجهها لتكيل لبعض أجرائها فيها الإهانات ، لم تفهم أن تلك الإهانات ولو لم تؤثر فيمن سمعها إلا أنها كانت قد وصلت سمع وضمير الأمة كلها ، ولا يمكن لأمة في الأرض مجتمعة أن تقبل بكل هذا الحجم من الذل وهذه الإهانات .
نحن لا نكره الولايات المتحدة الأمريكية في واقع الأمر ، ولكننا نكره سياساتها في العالم كما سياساتها في منطقتنا ، نكره كذب سياسييها وادعاءاتهم المفضوحة ، نكره نفاقهم وأقنعتهم المزيفة ، نكره حمايتها ودعمها لإسرائيل التي تعيث في أرضنا المقدسة فساداً كأخطبوط يضرب في أحشاء طفل عزيز على أمه وأبيه ، نكره صلفها وتكبرها ومعاملة الآخرين معاملة السادة للعبيد ، نكره سكوتها عن جلادينا ما داموا يحمون مصالحها في أرضنا ، نكره حمايتها للمستبدين في أرضنا حسب مزاجها ومصالحها لا حسب لوائح حقوق الإنسان وهيئة الأمم المتحدة ، نكره نفاقها وتلونها وتعدد ألسنتها ووجوهها وذلك المكيال الخاسر الذي تكيل فيه بألف معيار ومعيار وفق مصالحها وأهدافها .
نحن لا نكره الولايات المتحدة كبلد ولا كشعب ولا كحضارة ولا كثقافة ولا كفن ولا علم ولا تقنية ، بل إنها وجهة العالم وقبلة كل متطلع إلى غد أفضل ، ولكننا نكره كل ما تمثله الولايات المتحدة اليوم في عالم السياسة القذر ، وعالم العسكر المتخلف ، وعالم الفكر الصليبي الصهيوني الحاقد الذي يظن أن بإمكانه خداع البشرية بالتزييف والكذب والتمويه ، أعمته شهوة السلطة وسلطة المال والقوة العسكرية فلم يدرك أن الإنسان لا يغلب ولا يقهر ، وأن الحق قط لم يصبح باطلاً بقوة السلاح ، وأن الباطل أبداً لن يصبح حقاً بسطوة القوة .
المصادر:
(1) العقل العربي تعبير يشمل في هذا الموقع كل طرائق التفكير المنتشرة في المنطقة العربية سواء كان أصحابها ينتمون إلى العرب أو غير العرب من مجمل الأعراق التي تسكن المنطقة , وهو بالطبع اصطلاح يشمل كذلك العقل الإسلامي المغيب لفظه تماماً في محافلنا الثقافية اليوم .
تعتبر مراجعة كل ما كتبه الدكتور "محمد عابد الجابري " حول موضوع العقل العربي ضرورة في فهم طبيعة العقل العربي في هذه المرحلة من التاريخ .
(2) في مقال للبياك - كاتب صحفي إسباني - نشر في صحيفة الموندو في عددها الصادر في 27/11/2001 .
(3) الموقع الإلكتروني "إسلام أون لاين" صفحة الحدث بتاريخ 5/11/99 تحت عنوان : تورط الموساد محتمل , تصاعد الشكوك المصرية بشأن تفجيرات البوينج .
(4) "ابن عمي الثوموسول" هي دعاية إسبانية لأحد مشروبات الفواكه في التلفزيون الإسباني , حيث يخرج طفل صغير ضعيف وهو يحاول الهرب من مجموعة من الأطفال يريدون الاعتداء عليه بالضرب , فينادي ابن عم له طويل عريض اعتاد شرب هذا العصير , ليضربهم ويفرقهم عنه .
نحن لا نكره أمريكا! بقلم نوال السباعي مجلة الرائد عدد 256