المبادئ الخمسة
بقلم :المستشار علي محمد جريشة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرجيم
حمداً لله وصلاة على سيدنا رسول الله ورضى الله عن آله وأصحابه وعترته وأحبابه وبعد :ـ
فإن الحديث عن المبادئ الخمسة موضوع هذا الكتاب يدفعنا إلى الحديث عن باعث هذه المبادئ في القرن العشرين الميلادي أو القرن الرابع عشر الهجري .
وهو بلا شك الإمام المجدد والموقظ المنبه لهذه الأمة الإسلامية وذلك بإجماع علماء العصر ألا وهو الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله رحمة واسعة ورضى عنه .
ومن دلائل وعلامات التأهيل لهذا الأمر ولهذه المهمة الخطيرة هو استقامته منذ الصغر على أمر الله ونظرته العميقة والفاحصة لما تعانيه أمته وفهمه للطريق الموصل إلى رشدها .
منهاج : ومن علامات الرشد المبكر عنده والفهم العميق لغايته التي سيمضى في طريقها هو موضوع التعبير( الإنشاء ) الذي سجله في بداية العام الدراسي وهو في الصف لأول ( السنة الأولى ) بمدرسة دار العلوم وسنه لم يتجاوز الثامنة عشر بعد .
لقد دخل الأستاذ حجرة الدراسة على ما جرى عليه الأساتذة عادة وقطع الوقت مع طلابه فيما ينبغي أن يألفوه من الحياة المدرسية وليقضى الطالب فيها من ساعات العمر الغالية ساعات التحصيل لإقامة المستقبل وإلقاء الحجر الأساسي الأول في بناء الحياة والشباب في ذلك مختلفون فلا يفطن إلى خطرها وكبير قيمتها وجليل قدرها إلا القليل أما الكثير فيقطعون مراحل هذه الدراسة على هامش الحياة وهي حياة من يعيش ليأكل وليست حياة من يأكل ليعيش وشتان بين الحياتين.
أملى الأستاذ على طلبته موضوع إنشاء يقضون فيه وقتهم ويدربون خبرتهم وملكاتهم ويقفون على مدى سعة آفاقهم وهو كما يلي :
(( اشرح أعظم آمالك بعد إتمام دراستك وبين الوسائل التي تعدها لتحقيقها ))
أملاه الأستاذ من غير أن يلقى إليه بالاً ، ومن غير أن يدور بخلده أن بين طلابه من سيكون له في الناس ومع التاريخ والأجيال أمر خطير وشأن كبير ، وسجل الطالب حسن البنا في كراسته خواطره وآماله فكتب :
- اعتقد أن خير النفوس تلك النفس الطيبة التي ترى سعادتها في إسعاد الناس وإرشادهم وتستمد سرورها من إدخال السرور عليهم وذود المكروه عنهم وتعد التضحية في سبيل الإصلاح العام ربحاً وغنيمة والجهاد في الحق والهداية على توعر طريقهما وما فيه من مصاعب ومتاعب راحة ولذة تنفذ إلى أعماق القلوب فتشعر بأدائها وتغلغل في مظاهر هذا المجتمع فتتعرف ما يعكر على الناس صفاء عيشهم ومسرة حياتهم وما يزيد في هذا الصفاء ويضاعف تلك لمسرة لا يحدوها إلى ذلك إلا شعور بالرحمة لبنى الإنسان وعطف عليهم ورغبة شريفة في خيرهم فتحاول أن تبرئ هذه القلوب المريضة وتشرح تلك الصدور الحرجة وتسر هذه النفوس المنقبضة لا تحسب ساعة أسعد من تلك التي تنقذ فيها مخلوقا من هوة الشقاء الأبدي أو المادي وترشده إلى طريق الاستقامة والسعادة .
- واعتقد أن العمل الذي لا يعدو نفعه صاحبه ولا تتجاوز فائدته عامله قاصر ضئيل وخير الأعمال وأجلها ذلك الذي يتمتع بنتائجه العامل وغيره من أسرته وأمته وبنى جنسه وبقدر شمول هذا النفع يكون جلاله وخطره وعلى هذه العقيدة سلكت سبيل المعلمين لأني أراهم نوراً ساطعاً يبدو فيستنير به الجمع الكثير ويسرى في هداه الجم الغفير ، وإن كان كنور الشمعة تضئ للناس باحتراقها .
- وأعتقد أن أجل غاية يجب أن يرمى الإنسان إليها وأعظم ربح يربحه أن يحوز رضاء الله عنه فيدخله حظيرة قدسه ويخلع عليه جلابيب أنسه ويزحزحه عن جحيم عذابه وعذاب غضبه والذي يقصد إلى هذه الغاية يعترضه مفرق طريقين لكل خواصه ومميزاته يسلك أيهما شاء :
أولهما : طريق التصوف الصادق الذي يتلخص في الإخلاص والعمل وصرف القلب عن الاشتغال بالخلق خيرهم وشرهم وهو أقرب وأسلم .
والثاني : طريق التعليم والإرشاد الذي يجامع الأول في الإخلاص والعمل ويفارقه في الاختلاط بالناس ودرس أحوالهم وغشيان مجامعهم ووصف العلاج الناجع لعللهم وهذا أشرف عند الله وأعظم ندب إليه القرآن العظيم ونادى بفضله الرسول الكريم وقد رجح عندي الثاني بعد أن نهجت الأول لتعدى نفعه وعظيم فضله ، ولأنه أوجب الطريقين على المتعلم وأجملهما بمن فقه شيئاً { ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } .
- وأعتقد أن قومي بحكم الأدوية السياسية التي اجتازوها ، و المؤثرات الاجتماعية التي مرت بهم ، وبتأثير المدنية الغربية و الشبه الأوروبية و الفلسفة المادية ، و التقليد الإفرنجي بعدوا عن مقاصد دينهم ، ومرامي كتابهم ، ونسوا مجد آبائهم ، وآثار أسلافهم ، والتبس عليهم هذا الدين الصحيح بما نسب إليه ظلماً وجهلاً ، وسترت عنهم حقيقته الناصعة البيضاء ، وتعاليمه الحنيفية السمحة بحجب من الأوهام يحسر دونها البصر ، وتقف أمامها الفكر ، فواقع العوام في ظلمة الجهالة ، وتاه الشبان والمتعلمون في بيداء حيرة وشك ، أورث العقيدة فساداً ، وبدل الإيمان إلحاداً .
- وأعتقد كذلك أن النفس الإنسانية محبة بطبعها ، وأنه لابد من جهة تصرف إليها عاطفة حبها ، فلم أر أحداً أولى بعاطفة حبي من صديق امتزجت روحه بروحي فأوليته محبتي وآثرته بصداقتي .
- كل ذلك أعتقده عقيدة تأصلت في نفسي جذوتها وطالت فروعها وأحضرت أوراقها وما بقى إلا أن تثمر فكان أعظم آمالي بعد إتمام حياتي الدراسية أملان :
(خاص ) وهو إسعاد أسرتي وقرابتي والوفاء لذلك الصديق المحبوب ما استطعت إلى ذلك سبيل وإلى أكبر حد تسمح به حالتي ويقدرني الله عليه
( وعام ) وهو أن أكون مرشدا معلما إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار ومعظم العام قضيت ليلى في تعليم الآباء هدف دينهم ومنابع سعادتهم ومسرات حياتهم تارة بالخطابة والمحاورة وأخرى بالتأليف والكتابة وثالثة بالتجول والسياحة
- وقد أعددت لتحقيق الأول معرفة بالجميل وتقديرا للإحسان { وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان} ولتحقيق الثاني من الوسائل الخلقية ((الثبات والتضحية )) وهما ألزم للمصلح من ظله وسر نجاحه كله وما تخلق بهما مصلح فأخفق إخفاقا يزري به أو يشينه ومن الوسائل العملية درسا طويلا سأحاول أن تشهد لي به الأوراق الرسمية وتعرفا بالذين يعتنقون هذا المبدأ ويعطفون على أهله وجسما تعود الخشونة على ضآلته وألف المشقة على نحافته ونفسا بعتها لله صفقة رابحة وتجارة بمشيئته منجية راجيا منه قبولها سائله إتمامه ولكليهما عرفان بالواجب وعونا من الله سبحانه أقرأه في قوله { أ، تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم }
- ذلك عهد بيني وبين ربى أسجله على نفسي وأشهد عليه أستاذي في وحدة لا يؤثر فيها إلا الضمير وليل لا يطلع عليه إلا اللطيف الخبير { ومن أوفي بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما } .
ويعلق الأستاذ أحمد يونس الحجاجى رحمه الله على هذا الموضوع فيقول :
- وهكذا سجلت كراسة الطالب الشاب أمله ووسائل تنفيذه في موضوع إنشاء ، وأثبته التاريخ رسالة إنقاذ وفكرة تبعث مجداً ، وتجدد تاريخاً ، وتعيد نهضة ، يعاهد صاحبها الله على العمل لها و الجهاد لتحقيقها .
وأخذت كراسة الطالب مكانها بين كراسات الطلبة وقرأ الأستاذ الموضوع كما قرأ سائر الموضوعات ، وصححه وأعمل فيه قلمه الأحمر أيضاً ، وكانت الدرجة التي أستحقها 7 من 1. وهذا هو كل ما لقيه الموضوع من حظ وتقدير بين جدران المدرسة المحصورة .
ثم يقول : فماذا كان حظه بين آفاق الدنيا الواسعة يا ترى ...؟
وأحب أن أقول أن المبادئ الخمسة بعثت من جديد ،بل ولدت في تلك العبارات من موضوع التعبير ( الإنشاء ) :
- وأعتقد أن قومي بحكم الأدوية السياسية التي اجتازوها ، و المؤثرات الاجتماعية التي مرت بهم ، وبتأثير المدنية الغربية و الشبه الأوروبية و الفلسفة المادية ، و التقليد الإفرنجي بعدوا عن مقاصد دينهم ، ومرامي كتابهم ، ونسوا مجد آبائهم ، وآثار أسلافهم ، والتبس عليهم هذا الدين الصحيح بما نسب إليه ظلماً وجهلاً ، وسترت عنهم حقيقته الناصعة البيضاء ، وتعاليمه الحنيفية السمحة بحجب من الأوهام يحسر دونها البصر ، وتقف أمامها الفكر ، فواقع العوام في ظلمة الجهالة ، وتاه الشبان والمتعلمون في بيداء حيرة وشك ، أورث العقيدة فساداً ، وبدل الإيمان إلحاداً .
وأعتقد كذلك أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها من الرجوع إلى أصول الدين و التمسك بقانونه المتين ، و الرقى و التقدم تحت لوائه المنضود ) .
ولقد حدد الشاب حسن البنا منهاج حياته وخطته في المستقبل ، وهو هذا الموضوع الذي كتبه في أول عامه الدراسي حينما بدأ مرحلته التعليمية بدار العلوم عام 1926 م . و ما أن انتهي من دراسته التي كان ترتيبه الأول فيها حتى عين مدرساً بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية ، فألزم نفسه بهذا المنهاج ، فكان مدرساً للجيل الجديد ، أثناء النهار بمدرسته ، ومدرساً بالليل للآباء يبعث فيهم صحوة الدين من جديد ، ويعيد إلى مسامعهم المبادئ الخمسة :
الله غايتنــــــــــــا ، والرسول زعيمنـا ، والقرآن دستورنا ، والجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا .
ومما لاشك فيه أن شاباً نشأ منذ صباه على النحو الذي عرفناه ، تقي واستقامة وتجرداً وصفاء نفس وذكاء فكر وفطنة عرفت عنه منذ صباه ، ثم يذهب إلى القاهرة ليواصل تعليمه ، فيرى حال أمته وما صارت إليه بلاده ، و المستوى العلمي و الخلقي و الثقافي و الديني الذي أصبحت عليه تلك الأمة .
كل ذلك كان العامل الأساسي في أن يفكر ويفكر ويعمل فكره ، لإنقاذ الأمة ، وقد أوقف حياته من أجل هذه الغاية ، وصدق ما عاهد الله عليه ، فبارك الله خطواته وأقواله وأفعاله ، وجمع حوله قلوباً مؤمنة عاملة جادة راضية ، ساعية بين الناس تحمل ما يحمله هو إلى الناس في مدنهم وقراهم ، بل في أماكن تواجدهم في الحقل و المصنع و المتجر و الديوان بل و المقهى و المسجد .
وإني هنا أسجل ما قاله العالم الإسلامي الكبير أبو الحسن الندوى في هذا المقام فيقول :
- " إن كل من عرف ذلك عن كثب لا عن كتب ، وعاش متصلاً به عرف فضل هذه الشخصية التي قفزت إلى الوجود ، وفاجأت مصر ثم العالم العربي والإسلامي كله بدعوتها وتربيتها وجهادها وقوتها الفذة التي جمع الله فيها مواهب وطاقات قد تبدو متناقضة في عين كثير من علماء النفس والأخلاق ، ومن المؤرخين و الناقد ين ، هي العقل الهائل النير ، و الفهم المشرق الواسع ، و العاطفة القوية الجياشة ، و القلب المبارك الفياض ، و الروح المشبوبة النضرة ، واللسان الذرب البليغ ، و الزهد و القناعة - دون عنت - في الحياة الفردية ، و الحرص وبعد الهمة - دونما كلل - في سبيل نشر الدعوة و المبدأ ، و النفس الولوعة الطموح ، و الهمة السامقة الوثابة ، و النظر النافذ البعيد ، والإباء و الغيرة على الدعوة و التواضع في كل ما يخص النفس ... تواضعاً يكاد يجمع على الشهادة عارفوه حتى لكأنه - كما حدثنا كثير منهم - مثل رفيف الضياء : لا ثقل ولا ظل ولا غشاوة .
وقد تعاونت هذه الصفات و المواهب في تكوين قيادة دينية اجتماعية ، لم يعرف العالم العربي وما وراءه قيادة دينية سياسية أقوى وأعمق تأثيراً وأكثر إنتاجاً منها منذ قرون ، وفي تكوين حركة إسلامية يندر أن تجد - في دنيا العرب خاصة - حركة أوسع نطاقاً وأعظم نشاطاً وأكبر نفوذاً وأعظم تغلغلا في أحشاء المجتمع وأكثر استحواذاً على النفوس منها .
وقد تجلت عبقرية الداعي مع كثرة جوانب هذه العبقرية ومجالاتها في ناحيتين خاصتين لا يشاركه فيهما إلا القليل النادر من الدعاة و المربين و الزعماء و المصلحين ، أولاهما شغفه بدعوته وإيمانه واقتناعه بها وتفانيه فيها وانقطاعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ورسائله ، وذلك هو الشرط الأساسي و السمة الرئيسية للدعاة و القادة الذين يجرى الله على أيديهم الخير الكثير ، والناحية الثانية تأثيره العميق في نفوس أصحابه وتلاميذه ونجاحه المدهش في التربية والإنتاج ، فقد كان منشئ جيل ، ومربى شعب ، وصاحب مدرسة علمية فكرية خلقية ، وقد اثر في ميول من اتصل به من المتعلمين و العاملين ، وفي أذواقهم وفي مناهج تفكيرهم وأساليب بيانهم ولغتهم وخطاباتهم تأثيراً بقى على مر السنين والأحداث ، ولا يزال شعاراً وسمة يعرفون بها على اختلاف المكان و الزمان ."
وبعد :
فهذه هي شخصية إمامنا باعث المبادئ الخمسة في زماننا ، فاللهم ضاعف له الأجر و المثوبة بقدر ما بذل في النصح لأمته ،وبقدر ما أدى لدينه من نصرة ،وبقدر ما نفع المسلمين ، وبعث فيهم من همم وأحيا فيهم من موات النفوس ، وأيقظ فيهم من وعى جديد .
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة و السلام على رسول الله .
- { اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون }
- { اقتربت الساعة وانشق القمر }
- { أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون }
- { يا أيها الذين آمنوا اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد}
- { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه }
كل ذلك ... وهم في غفلة معرضون ، غفلة اختلطت فيها الغايات الهابط منها والمتعال ... الحقير منها و الجليل ...المحدود منها واللامحدود ، والمتسع منها المتزايد الاتساع ، بل مع الغفلة اضطربت مواقع الغايات ... فتقدم الهابط ، وساد الحقير ، وسيطر المحدود ... وتسألنا بعد ذلك ... ألسنا على الحق ؟ ألسنا مسلمين ؟ لم لا ينصرنا الله ؟
غفلة غابت فيها القيم و المثل في مجال القدوات ، فإذا في مواضع القدوة أسافل الناس ... فيكل ميدان
في الميدان الاجتماعي ... سبقت النجوم و الكواكب لتظلم الآفاق بتزيين الشهوات ، وتحبيب الكفر و الفسوق والعصيان .
وفي الميدان الاقتصادي ... تقدم الربا وسلاطين الربا ، ليكونوا أصحاب الملايين و المليارات و المسيطرين على بيوت المال ، وأسواق الأسهم و السندات وميادين المناقصات و المزايدات و المشروعات ... وتقهقر الصالحون ، وأخفي المتقون وخلا الميدان للقدوات المصنوعة دون مواجهة أو منافسة .
وفي الميدان السياسي ... ظهر الدجالون وبائعو الشعارات ، و المتآمرون على الشعوب لحساب أعدائها ... ليكونوا هم ( السادة ) ، و ( المقدمون ) وخلا الميدان أو كاد مما ينبغي أن يكون بيدهم الزمام ... وحار الناس في كل مكان وميدان ...
غفلة سادت فيها الفوضى وعمت البلوى ... وليس للناس من دستور ، ولا أمامهم من شريعة تبين لهم المعالم وتحدد لهم الطريق ، وإن وجد أو وجدت ... فمن صنع أيديهم ، للهوى فيها النصيب الأوفى ، حتى صاغوا الظلم قواعد ، و الباطل قوانين ، وزعموا بذلك الشرعية لأنظمتهم ودساتيرهم وأطلقوا عليها الأسماء و العناوين .
وغفلوا عن الدستور الرباني ، و الحكم الإلهي و البيان النبوي ... وفيها العصمة من الضلال ، و الملجأ من المظالم و المآثم ، و المخرج من الظلم و المصائب .
غفلة أخطأوا فيها السبيل ، وضلوا فيها الطريق ...فساروا في مسالك الشياطين ، ودروب الشهوات ... لا يرتوون ، ولا يشبعون ، وما علموا أن الجهاد هو الطريق ، ابتداء من جهاد النفس وانتهاء إلى جهاد الأعداء ... وأنه المفضي إلى الجنة - جنة عرضها السموات والأرض فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
وداعبت الغفلة الأماني ، فإذا بها أماني الشهوات وصورة جهنم تتراقص بين الأضواء الحمراء ، وعلى الألحان الصاخبة ، أو على مدارج الكراسي و العروش ... حرصاً على حياة ( آثمة 9 وجرياً وراء ( دنيا قصيرة ) ، { إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم } ، والأمنية التي بها عزت أجيالهم السابقة ، وتعز بها أجيال لاحقة بعيدة - بعيدة غائرة وسط ظلام الغفلة وظلمها المبين .
وكان على منَّ الله عليه بالنور أن يبين ، وكان على من حاول أن يجدد للأمة دينها أن يضع النقاط على الحروف ، ليعلم الناس ، ما الغاية ...؟
ما الغاية الأسمى والأجل الأعظم ؟ من القدوة ...؟ من الأسوة الحسنة و المثل الكريم ...؟
أين الدستور القويم و المنهج السليم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ؟ ولا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا يخلق على كثرة الرد ؟ أين الصدق ؟ أين العدل ؟ أين العلم ؟ أين الحق ، أين الهدى ؟ أين النور ؟ كيف السبيل القويم وسط السبل التي تفرقت وتتفرق بكم ؟ أين طريق العزة و الكرامة بعيداً عن المذلة و المهانة ؟
وأخيراً ما الأمنية العزيزة التي تحيا بها الشعوب ،بل وتحيا بها النفوس ، وغن بدت للناس أنها تضع نهاية أمانيهم الكاذبة الخادعة ؟ في دنياهم اللاهية العابثة ؟
نعم ... ما الغاية ، من القدوة ، أين الدستور ، كيف السبيل ، ما الأمنية العزيزة
مبادئ خمسة هتفت بها ... آلاف ... وملايين ....
- الله غايتنـــــــــــــا
- والرسول زعيمنــــــا
- والقرآن دستورنـــــا
- والجهاد سبيلنـــــــــا
- والموت في سبيل الله أسمى أمانينا
فجددت شباب الإسلام ، وأعادت صور السلف الصالح ، وبعثت من جديد مجداً تليداً بأيدينا أضعناه .
وكان علينا وفاءً وحباً أن نبين هذه المبادئ ... حتى لا يظن الناس أنها مجرد شعارات ... كسائر الشعارات ... وحتى يجد الناس فيها الحق و الحقيقة وسط غياهب الجهل وظلمات الجاهلية ... التي عاش الناس بها وفيها ... في غفلة معرضين .
الله غايتنا
غايتهم ... وغايتنا
1- أما غايتهم فهي المنصب العلمي ، أو المنصب السياسي أو الإيراد الكبير ، أو الفيلا الأنيقة ، أو السيارة الوجيهة ، أو الحياة الرافهة ، أو الملبس الأنيق ، أو الشهرة الواسعة ، أو مظاهر البطولة التي تستقطب الإعجاب ، أو المرأة حليلة أو خليلة ( زوجة أو عشيقة ) أو الأبناء ...
أو بعبارة أخرى .... حب الشهوات ...
أو بعبارة ثالثة .... حب الدنيا ...
ولقد أشار إليها القرآن الكريم في أكثر من موضع :{ زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة والأنعام و الحرث ذلك متاع الحياة الدنيا ... }
{ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا .... } ، { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ... }
2- والإسلام لا ينكر على الناس أن يكون لهم حظ من الدنيا ... بل لا ننكر على المؤمنين أن يمتلكوا الدنيا بل ونوجب عليهم ذلك أحياناً { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا خالصة يوم القيامة } ، لكن فرق كبير بين أن يمتلكوا الدنيا وبين أن تمتلكهم الدنيا ، فالأول ندعو إليه ونحببه ، و الثاني ننهي عنه ونستبعده ... وفرق كبير بين أن تكون الدنيا في أيديهم وأن تنتقل إلى قلوبهم ... فرق بين أن تكون الدنيا وسيلة وأن تكون غاية ... أن تكون سبيلاً ... وأن تصير منتهى ... وهذا كله راجع إلى فهمنا لحقيقة الدنيا ... ومآلها ...
3- إن الدنيا أولاً ... قصيرة مهما طالت ... وإلا فمن خلِّد فيها حتى من أعتى الجبابرة ... في القديم وفي الحديث ... ؟ وإنها متقلبة ... وإن بدت ذلولا مسالمة ... وإلا لو دامت لغيرك ما انتقلت إليك ...
ونظرة إلى حركة النقود ونظرة إلى الدورات الاقتصادية
ونظرة إلى الأحداث السياسية التي يمكن أن تسمى كذلك بالدورات السياسية ...
ونظرة إلى الأوضاع الاجتماعية للأفراد والأسر والأمم التي يمكن أن تسمى كذلك بالدورات الاجتماعية ...
كل ذلك يؤكد لنا معنى أشار إليه القرآن الكريم في عبارة قصيرة { وتلك الأيام نداولها بين الناس }
وأنها بعد ذلك ... حقيرة وإن بدت كبيرة أو عظيمة ... وإلا فما يعنى أقصى استمتاع بها ...؟
إن أقصى استمتاع بها يشاركك فيه .. أقل الحيوانات أو أدناها ... وهو ما أشار إليه القرآن { يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام } وهو ما يفسر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء ) .
وكون الدنيا قصيرة ومتقلبة ... كان يكفي ... لكنا نؤكد على مآلها ... وهو ما تفضي إليه الصفة الأولى من صفاتها أنها قصيرة
إن الموت الذي يحصد الناس من حولنا القريب منهم والبعيد ، العزيز منهم والعدو ، العظيم منهم والحقير ، المؤمن منهم والكافر ، البر منهم والفاجر ... إن هذا الموت وحده نذير ودليل نذير بقصر الدنيا وتقلبها وحقارتها ودليل على أنها سوف تنتهي كما انتهت حياة الفرد وكما انتهت حياة أسر وكما انتهت حياة أمم وكما انتهت حياة دول وإمبراطوريات
ولو كانت خالدة لخلد عليها شئ من ذلك { كل شئ هالك إلا وجهه } سبحانه وتعالى ولذلك عقب الله سبحانه وتعالى على مظاهر الحياة الدنيا في الآية الأولى{ زين للناس حب الشهوات من .}بقوله تعالى { ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب قل أؤنبئكم بخير من ذلكم }
وعقب سبحانه في الآية الثالثة { اعلموا أنما الحياة الدنيا } بقوله سبحانه { كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطماً }
فبين مراحل هذه الحياة كمراحل النبات
نبات يعجب ..
ثم يهيج ..
ثم يكون مصفراً..
ثم يكون حطاما ...
تلك إذن غايتهم ..
وتلك حقيقتها .. قصيرة متقلبة حقيرة .. وذلك مآلها .. تهيج ثم تصفر ثم تكون حطاما ..
فما غايتنا ؟
غايتنا :
4- أما غايتنا ... فهي غاية الوجود كله ... هي أغلى من الوجود كله ... هي أحلى من الحياة كلها ...
غايتهم فانية .... وغايتنا باقية ....
غايتهم حقيرة ... وغايتنا عظيمة ....
ثمرة غايتهم عاجلة زائلة ، وثمرة غايتنا آجلة خالدة ...
غايتنا .... الله ... سبحانه جل جلاله .
ومن أبقى من الله ... ؟
ومن أعظم من الله ... ؟
ومن أجلّ من الله .... ؟
تعالى اله عما يشركون { ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين } ، وعجلت إليك رب لترضى } .
5- هذه الغاية - ذلكم الله نجله ... نحبه حباً أوسع من الخوف ، ونخافه خوفاً يمنع من الاتكال و الغرور ونرجوه كل ذلك في آن واحد .
أما حبنا له ... فمن خلال معرفتنا به سبحانه ... وكلما زدنا معرفة زدنا حباً ونحن نتعرف على الله من خلال أسمائه وصفاته ... لأنها أسماء وصفات فاعلة مؤثرة ... فإذا كنا نحب إنساناً في الدنيا ... لأنه كريم ... فالله أكرم الأكرمين :" إن الله جميل يحب الجمال ، جواد يحب الجود ، ويعطى على الجود ما لا يعطى على سواه " وإذا كنا نحب إنساناً في الدنيا لأنه عظيم .... فالله أعظم العظماء .
وهكذا .... وتأملنا في أسماء الله الحسنى { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } يوصلنا إلى ما يلي :
أ- أن هذه الأسماء تعطى صفاتاً مطلقة ... بينما ما يوجد منها في الإنسان نسبى ، فاسم الله الرحمن ، واسمه الرحيم يعطى صفة الرحمة ، وهي بالنسبة لرب العالمين مطلقة ، بينما هي بالنسبة للإنسان نسبية ... فرحمة الإنسان لا تطيق إلا مجالاً محدوداً ... قد يكون مجال الأسرة والأقرباء ، لكنها مهما اتسعت لا يمكن أن تشمل الوجود كله ، ورحمة الله شملت الوجود كله { ورحمتي وسعت كل شئ ... } ورحمة الإنسان قد تقف دونها حدود أو سدود أو قيود ... لكن رحمة الله لا تقف دونها حدود ولا سدود ولا قيود ....
فالأم أو الزوجة تود أن توصل رحمتها لابنها أو زوجها السجين المكبل في قيد الأعداء لكنها لا تستطيع لما فرض عليها من سدود أو قيود ... أما رحمة الله فتخترق هذه القيود و الحدود و السدود ...
ويوماً ما صام أخ في السجن الحربي ... ولم يكن فيه إلا العذاب وطلب قبل المغرب إلى ساحة التعذيب ، فتقلب وجهه في السماء ضناً برحمة الله أن تتخلى عنه وهو صائم ... ثم جلس في مكان التعذيب ووجهه إلى الحائط شأن غيره من الجالسين المنتظرين ساعة التعذيب ثم سمع صوت الأذان من مكان سحيق ، فتقلب وجهه في السماء مرة أخرى لكنه حاول أن يعلل نفسه وهو صائم منذ أربع وعشرين ساعة أيمكن أن يأتي في مكان التعذيب طعام للإفطار ؟ أيمكن أن يسمح له حتى بشربة ماء ... ؟ أيمكن ... ؟ أيمكن .... ؟ لكن ظنه بالله كان كبيراً ، وأمله في رحمته كان واسعاً ففوجئ بمن يضع يده على كتفه ويقول له : هل أنت صائم ؟ وتحير إنه لم يسأل هذا السؤال في أي مرة سابقة منذ شهرين يشهد فيهما العذاب ولم يسأل أحد ممن حوله هذا السؤال ...؟ لم هذا السؤال له بالذات ولم يصرح لأحد ، وليس معه أحد ليصرح له ؟ لكنه قال في نفسه إنه صائم لله والله قادر على أن يحميه ... فرد بنبرة المتحدى : نعم صائم ... ففوجئ ... بطبق من الطعام لا يوزع مثله في السجن ولم يأكل مثله منذ شهرين ... ثم فوجئ فوقه بتمرة كبيرة حتى يكون الإفطار كما تقضى السنة .... سبحانك ربى سبحانك ... ما أعظم كرمك وحنانك .
و القصة طويلة نخرج منها بأن رحمة الله لا حدود لها ... ولا قيود عليها ... { ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم } { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم } .
ومثل آخر من عفو الله ومغفرته ... إن الإنسان قد يغفر لإنسان خطأ وقع فيه ... وإذا كان واسع الصدر سليم القلب انمحي هذا الخطأ من قلبه ... لكنه لا يمكن أن يتجاوز ذلك إلى أن يعتبر هذا الخطأ في حقه شيئاً طيبا أو صالحاً أو خدمة أو معروفاً ، أما رب العالمين فهو يصل في مغفرته إلى { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } ، " لو لم تذنبوا وتستغفروا لذهب الله بكم ولأتى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم " ، { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وتصل مغفرته ... أن يمحو الخطايا و الذنوب ، ويضع مكانها حسنات وحسنات .... { إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً } .
ب- وهذه الأسماء و الصفات نأخذ منها أنها تجتمع في آن واحد في ذات الله سبحانه رغم كثرتها ، وبرغم تعارض مدلولاتها الظاهرة ، فالإنسان الذي تغلب عليه الرحمة تخف أو تختفي عنده القسوة لكن رب العالمين يجمع في آن واحد بين الرحمة والانتقام ، وكل منها بصفة مطلقة ، فهو الرحمن الرحيم ، وهو المنتقم الجبار ... ولهذه مكانها ولتلك مكانها ... في الدنيا وفي الآخرة ... ولذا كان قوله { نبئ عبادي أنى أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم } { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير } .
و الإنسان رغم نسبية الصفات عنده لا يستطيع الجمع بين كثير منها ، بل يستحيل بل ويحرم عليه ادعاء بعضها ... بينما الصفات الإلهية لازمة وثابتة لله رب العالمين .
ومنها أسماء من أسمائه الحسنى لا يمكن للإنسان أن يتسمى ولا لأن يتصف بشيء من أنه " خلاق " أو " رزاق " أو " محيى "أو " مميت " أو" متكبر " ... أو غير ذلك مما تفرد به الله سبحانه .... وإذا أحببنا إنساناً لبعض صفات ... ففي الله سبحانه كل الصفات ... وإذا أحببنا إنساناً لصفات هي نسبية ، فهي في الله سبحانه مطلقة بلا حدود ولا قيود ...
جـ- وهذه الأسماء و الصفات ... فضلاً عن تعبدنا بذكرها و التأمل فيها و الدعاء به { ولله السماء الحسنى فادعوه بها } فهناك عبادة أعظم قد ترفعنا إلى مقام لا نحلم به ... ( إن من أحبكم إلى وأقربكم منى مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً .... ) ، ( إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم .... ) .
ومن يطيق صوم الدهر كله ؟ ... ومن يطيق قيام الليل كله ؟ لكن كلنا نطيق أن نتخلق بالخلق الكريم من تأملنا في أسماء الله وصفاته ومحاولتنا أخذ ما نستطيع وما يجوز لنا أن نأخذ ... مثل صفات الرحمة ، و الحنان والكرم و الصدق ... الخ .
وعلى ذلك فمن خلال أسماء الله وصفاته ... فذلك الخلق ... في النفس ... وفي الكون ... على أي نحو من الجمال و الكمال واللطف ... ؟ وذلك اللطف الإلهي في قضائه وقدره ... فيما نرى في أنفسنا ومن حولنا ، وتلك الإجابة للمضطر إذا دعاه ...
6- وتجرنا هذه إلى التي تليها ... نعم الله علينا ... وحسانه إلينا بالليل و النهار ... ونحن نبارزه بالمعاصي .
إن من أجل نعم الله علينا نعماً ثلاثاً :
نعمة الإسلام ، ونعمة الإيمان ، ونعمة الأخوة ... ونعدد بعدها نعمة الإيجاد من العدم ... أو من نطفة من ماء مهين ... نعمة إحياء هذه النطفة ثم تخليقها ... ونعمة الخلق في أحسن تقويم ... لا زحفاً على البطون ... ولا مشياً على أربع ... ونعمة التفضيل على سائر المخلوقات ...
ونعمة تسخير السموات والأرض .... براً وجواً وبحراً ... { وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل }
{ وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات و النخل و الزرع ... } { أحل لكم صيد البحر وطعامه ... } { ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ... }
فنعمة الإطعام ... من كل الثمرات ... صيفاً وشتاء ومن الأنعام ، ومن الطيور وغيرها ... كثير ...
كثير { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار } .
و البشر يحسن إلى البشر مرة أو مرات فيتعبده الإحسان .
وإحسان الله لا ينفك عن الإنسان لحظة ، ويتكرر عليه في اليوم مئات وآلاف المرات ... أفلا يتعبده أول ما يتعبده بالحب و العرفان ... وزمن أولى بالمسلم الذي عرف الله ، ووحده ، بهذا الحب و العرفان ؟ ...
7- ويأتي بعد ذلك ما يذكره بعض العلماء ... من أن الإنسان قد يأتلف مع آخر لاشتراك في الصفات قد لا يحسها حين يأتلف ومن هنا يفسرون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الأرواح جنود مجندة ، ما تعارف منها ائتلف ، وما تنافر منها اختلف "
ويقول إنه كلما سما الإنسان في أخلاقه ، واستمد من صفات الله سبحانه وأسماءه الحسنى ما يطيق ... كلما أحس بالألفة لرب العالمين و الحب له باعتبار هذا القدر من الاشتراك .
وهو سبب يستحق التأمل ... واله أعلم .
8- وكذلك نخشى غايتنا ونخافها ... نعم ... والله أحق أن نخشاه ...
ويأتي السؤال سريعاً ... وكيف يجتمع الحب مع الخوف ؟ ... وأقول وكثيراً ما يجتمع ، فالابن أو الابنة يحب أو تحب أباها لكنهما يخافانه إن أخطآ ، و الزوجة الصالحة تحب زوجها لكنها كذلك تخافه كما ترجوه { ولله المثل الأعلى }
وخشية الله كحب الله ينبغي أن تكون أكبر من كل خشية مما سواه ... فكما أن الله سبحانه وتعالى اعتبر حب غيره مثل حبه شركاً{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } وطلب إلينا أن يكون حبه في قلوبنا أكبر من كل حب { و الذين آمنوا أشد حباً لله } .
فكذلك الخوف ...
إذا تساوى خوف الله مع خوف غيره ... وقعنا في الشرك و العياذ بالله لأننا نظن بالعباد ما لا يكون إلا لرب العباد ...
ولا يتحقق لنا الإيمان الحق حتى يكبر خوف الله على خوف كل مخلوق {أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين } { الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله }
{ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من اله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم * إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين }
9- وإذا تولد في قلب المؤمن خوف الله تحققت عدة فوائد :
فهو أولاً : يتقى الله الذي يخافه ، كما يتقيه لأنه يحبه ، والخوف الممزوج بالحب يحقق أرقى أنواع العبادة للقلب و القلب الوجل من خشية الله ممزوج بحب الله ... قلب حي نابض يحسن ويحكم حركة الجوارح ، فلا تقارف محارم الله ، ويحسن ويحكم حركة الجوارح فتأتى كل ما يرضى الله ...
ومن ثمَّ فلا يجدك الله حيث نهاك ، ولا يفتقدك حيث أمرك ...
وهو ثانياً : يؤدى إلى انتفاء كل خوف من غير الله ... ومن ثم يبدو المؤمن في المواقف ... شجاعاً ثابتاً ..
وهو ما يظهر بوضوح في مواقف المؤمنين السابقين الذين رجح حب الله في قلوبهم على كل حب للدنيا أو في الدنيا ، ورجح خوف الله في قلوبهم على كل خوف في الوجود ...
انظر مثلاً إلى ذلك النفر من سحرة فرعون ، وهم يقفون أمام أكبر طاغية في التاريخ ... الذي قال { أنا ربكم الأعلى } ، و الذي تهددهم بقوله { فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمنّ أينا أشد عذاباً وأبقى } ، فلم تهتز قلوبهم خوفاً ولا وجلاً ، وإنما واجهوه ... بما يعجز غير المؤمن عن قوله { لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات و الذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا ... } ... وذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم ... بعد أن اشتد به أذى كفار قريش وراح من يحميه ويدافع عنه يجادله ... فقال عليه الصلاة و السلام و الدمع في عينيه :( يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره أو أهلك دونه ما تركته ) .
وتلك مواقف الأئمة :
أبو حنيفة : يأبى أن يلي منصب قاضى القضاة ... حتى لا يشارك في ظلم حاكم ولو بشق كلمة ... ويضيق عليه ويعذب حتى يموت ....
و الشافعي : كذلك تعرض للإيذاء
وأحمد : يقف صامداً في وجه فتن خلق القرآن ، يأبى أن يتلفظ بغير ما يعتقد أنه الحق ... فيعذب بألوان من العذاب مختلفة ... ويأبى أن ينطق بما يرضى الحاكم .... .
ومالك : يعذب كذلك حتى تنخلع يده من كتفه فيرخيها ولا يستطيع ضمها إلى الأخرى في الصلاة ، فيظل في أواخر حياته يرخى يديه حتى يظن البعض أنها سنة ... وهي نتيجة عدوان وقع عليه ...
ومن بعدهم :
سعيد بن جبير : الذي وقف في وجه الحجاج الظالم ، فعذبه حتى إذا جاءه الموت دعا ربه : اللهم لا تسلط الحجاج على أحد من بعدي فيستجيب الله دعوته ويموت الحجاج من بعد سعيد ويقول وهو يتعذب في مرض موته : مالي ولسعيد بن جبير ...
وأبو حازم فقيه المدينة ، يأتي عبد الملك بن مروان فيهرع إليه علية القوم ويأبى هو أن يذهب ، فيرسل إليه عبد الملك فيسأله لماذا لم تأتني ؟ فيقول ما بي حاجة إليك ؟ فيسأله لماذا نكره الموت ؟ فيجيبه بغير خوف - إلا من الله - ( لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فكرهتم أم تنتقلوا من العمار إلى الخراب ... ) فيقول : مالي عند الله ؟ .. فيقول : ابحث عن نفسك في قول الله تعالى { إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم }
وفي الحديث مواقف كثيرة
ماذا قال مروان حديد لجلادي سوريا ؟
ماذا قال كارم الأناضولي لمن حكموا عليه بالإعدام ؟
ماذا قال قبلهم سيد قطب ، وحسن البنا ؟
10- وهو ثالثاً يؤدى إلى جنة عرضها السموات والأرض ... ذلك في الباقية وفي العاجلة يؤدى إلى أن يكون له من الله مخرج ، وإلى أن يرزقه الله من حيث لا يحتسب ..
فأما الجنة فذلك وعد الله ، ووعد الله لا يتخلف ... فالخوف من الله يورث التقوى ، و الجنة أعدها الله للمتقين { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } .
11- وأما في هذه الدنيا ... فإن الله يجعل عاقبة التقوى أمرين { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب } .
وقصة الثلاثة الذين أغلقت الصخرة عليهم كهفهم دليل على الأولى ... وفي قصة موسى مع بنات شعيب دليل على الثانية { فسقى لهما ثم تولى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير * فجاءته إحداهما على استحياء قالت إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ... } إلى أن ذكر لنا القرآن { قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين } فقال له والدهما { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين .
وفي قصة الأخ الذي صام في السجن تقوى لله سبحانه ... في مكان لا يرى فيه إلا العذاب ، ثم لما جلس ووجهه إلى الحائط ينتظر دوره في العذاب إذا باليد التي ينتظر منها العذاب تمتد إليه ... بطعام شهي وفوق طبق الطعام تمرة ...
ولم يكن لذلك من تفسير إلا قدرة الله سبحانه ورحمته .
ثم ... ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به ) .
و ... { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب } .
12- لكن كيف السبيل إلى الخوف من الله ... ؟
أ- إننا نخافه أولاً من خلال أسمائه وصفاته ، فكما أن من أسمائه الرحمن ومن صفاته الرحمة فمن أسمائه المنتقم الجبار ... ومن صفاته الانتقام و الجبروت ...
ب- ونخافه ثانياً من خلال أفعاله ... فما يقع بالظالمين من انتقام يتحقق به قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ) ويتحقق به قول الله بالنسبة للجماعات و القرى { وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكراً * فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسراً } وقوله { وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً }
وأخيرا قوله :{ فكلاً أخذنا بذنبه
فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً
ومنهم من أخذته الصيحة
ومنهم من خسفنا به الأرض
ومنهم من أغرقنا
وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }
جـ- ونخافه ثالثاً من خلال عذابه ... { نبئ عبادي أنى أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم } ... البادئ من عذاب القبر ... حيث هو حفرة من حفر النار ، أو روضة من رياض الجنة ، و المار بموقف يوم القيامة { يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد } ... و المنتهي بعد ذلك إما إلى نعيم فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر { وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون } ، وإما إلى نار {ناراً وقودها الناس و الحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } .
كل ذلك يخوفنا به الله سبحانه وتعالى و القادر على كل شئ المطلع على كل شئ الذي لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء .
13- ونحن نرجو هذه الغاية :
نعم نرجو الله ربنا في عفوه ورحمته ، ونحسن به الظن كل الإحسان ، وإذا رجا العبد ربه... فقد امتزج الرجاء بالحب ، وسار مع الخوف فطار بها جميعاً إلى آفاق الاستشراف العالي .. وتكاملت فيه بذلك عناصر العبودية لله رب العالمين ... عبودية القلب وانقياده لخالقه وبارئه ومقلبه ومربيه ...
وما أصدق تصوير ابن القيم حين شبه العبودية بطائر رأسه حب الله وجناحاه الخوف و الرجاء في الله .
ولذا كان القرآن صريحاً ....
- { يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } و الدعاء مخ العبادة ...
- { ويدعوننا رغباً ورهباً } ، { ويرجون رحمته ويخافون عذابه }
- { نبئ عبادي أنى أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم } .
- ( أنا عند حسن ظن عبدي بي )
14- وفي الرجاء في الله فوائد :
أنه في حد ذاته إحدى عبادات القلب ... أنه اعتراف لله بالقدرة الخالقة الخارقة التي لا يعجزها شئ في الأرض ولا في السماء ، و التي تصنع القانون لكنها فوق القانون { لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون } فكما جعل قانون النار الإحراق ، فقد أمر { يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم } فكانت كذلك .
وهو بعد ذلك يسكب الأمل في قلب المستيئس مهما كانت الظروف فيدرك معنى قول الله { حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كُذِبوا جاءهم نصرنا } .
15- ... و الحب و الخوف و الرجاء ..
هي المشاعر الأساسية التي تتوافر في قلب المؤمن إزاء غايته ... الله .... وإلا فلابد قبلها من علم القلب ... قبل عمل القلب ... علم القلب بأسماء الله وصفاته ....
ولا بد معها - أي مع هذه المشاعر الثلاثة - أو بعدها مشاعر أخرى ... كالتوكل على الله ، والاعتصام بالله ووجل القلب إذا ذكر الله ، وزيادة الإيمان إذا تليت عليهم آياته ... { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون } إلى غير ذلك من المشاعر .
الرسول قدوتنا
الرسول القدوة
16- وحال رجل في ألف رجل خير من كلام ألف رجل لرجل .
حكمة بالغة
ذلك أن في النفس حب التقليد ... تلك فطرة وغريزة ... قد يستفاد منها تدنياً وتدلياً ، وقد يستفاد منها ترفعاً وتساميا ! والأمثلة أمامنا كثيرة ... في القديم وفي الحديث .
قد يبدأ الانحراف في مجتمع برجل أو امرأة ... ثم يزين للآخرين فيقلدون ، و التزيين كما يكون بالقول يكون بالفعل ، وهو بالفعل أشد وابلغ ! وقوم لوط حين تركوا النساء إلى الرجال { أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون } .
لم يبدأ انحرافهم دفعة واحدة ولا الجميع سقطوا فيه مرة واحدة ... بل ربما بدأ برجلين ثم ما زالت العدوى تسرى ... حتى صارت وباءً على هذا النحو الوبيل ! .
وحتى بلغت بعد ذلك أن صار المعروف منكراً و المنكر معروفاً وصار الطهر - في منطق المنحرفين - جريمة {أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون } .
وعبادة الأصنام ... وهي حجارة لا تضر ولا تنفع ... كيف بدأت ؟
بدأت حباً في رجل صالح أو رجال الحين ... فحاولوا أن يجعلوا لهم تماثيل على هيئتهم وشبههم ... ثم شيئاً فشيئاً راحوا لها عابدين وخروا لها ساجدين ...
ولم يبدأ الجميع دفعة واحدة ... بدأ بها ولهان ضل الطريق وأخطأ الهدف ثم تبعه آخرون مقلدون حتى صارت حجة الكافرين ر قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين } ، { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون } ... وهكذا في كل ضلال !
17- و الخير كذلك ... يبدأ بفرد ... ثم يصير جماعة ....
ثم يصير أمة ... لكن إن بقى وحده على الحق أو الخير ... فهو كذلك أمة .. إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفاً ولم يك من المشركين شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ، وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين .
وكل الذين آمنوا بالأنبياء وثبتوا على الحق حتى ماتوا ... بدءوا بفرد ، وانتهوا إلى جماعة { فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً }
و المثل الأخير ... أمة محمد عليه الصلاة و السلام ، ومن حملوا لواء الدعوة من بعده ... بدأت بمحمد عليه الصلاة و السلام ، وانتهت إلى خير أمة أخرجت للناس !
( ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ...) !
18- لكن أعترف :
أن سريان الباطل و الشر أسرع من سريان الحق و الخير ! ولذلك كان أهل الحق و الخير قلة ! وكان أهل الباطل و الشر كثرة { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله }
{ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } ذلك أن الصعود أصعب على النفس من الهبوط ، و التدلي أيسر على النسا من التسامي ! لكن الغلبة بإذن الله لهذه القلة ، والظهور بإذن الله للحق على الباطل .
{ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله }
{ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون }
ولئن وجدت في الماضي أمم بأسرها ضالة أو كافرة فإن الله سبحانه وتعالى جعل العصمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة المسلمة ، فلا يمكن أن تضل جميعاً ، بل تبقى دائماً فيها أمة أو ( جماعة ) أو ( طائفة ) قائمة بالحق ظاهرة عليه !
( لا تجتمع أمتي على ضلالة ) ، ( ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ...) !
19- وهذه الطائفة قد تبدأ بواحد :
وقد تكون واحداً و الواحد بالحق وحده طائفة أو جماعة أو أمة .
وفي حديث حذيفة بن اليمان إشارة إلى أنه يمكن أن يكون من على الحق واحد ( تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ، قال: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ، قال : فاعتزل تلك الفرق ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ) .
لكن ليس معنى ذلك الاستسلام ، و البقاء بعيداً عن الناس ... وإنما ينبغي مع ذلك المحاولة ، ولو أدت إلى القليل فنوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ولم ييأس من الإعراض ... حتى آمن به ثلاثة عشر على بعض الروايات فكان هؤلاء القلة أمة ... أنجاها الله وأغرق كل أعدائها { فكذبوه فأنجيناه ومن معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين }
و الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا كذلك ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لم يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ) .
( فوالله لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم )
( ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً ) .
وصدق الله العظيم { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين}ومع أن الترتيب الطبيعي هو : قال إنني من المسلمين ثم ( عمل صالحاً ) ثم ( دعا إلى الله ) بعد ذلك ، لكن الله سبحانه وتعالى يقدم الدعوة إلى الله على العمل الصالح ويقدم العمل الصالح على الشهادة ... بياناً لخطر هذا الأمر ، فيتقدم الخاص على العام ، ويكون التعميم بعد التخصيص تحقيقاً لهذا الهدف .
لكن ، مَن قدوات الناس الآن ؟
وبعبارة أخرى ... من يجعلون لهم مثلاً أعلى ؟
20- الهابطون في القاع ، أو الراضون بالدرك الأسفل ..... يجعلون قدواتهم أو مثلهم العليا ... من هم على شاكلتهم أو أشد هبوطاً منهم فيقلدونهم .
وهكذا .... صار الذين يعيشون في مستنقع الشهوات ... مثلاً وقدوات ، وزخرف حولهم الشكل ، وسلط عليهم الضوء وسموا بغير أسمائهم ... نجوماً ، وكواكب وأبطالاً وراح الرجال يقلدون النجوم الهابطة ، ويسيرون وراء الأبطال المزيفين !
وراحت النساء تقلدن الكواكب و النجوم ممن بعن أجسادهن للشيطان بثمن بخس ودراهم معدودة !
ونسوا العفة ، و الشرف والإحصان ... بل صارت العفة تخلفاً و الشرف رجعية والإحصان بدعة وخرافة !
وساقت ( يهود ) العالم الأوروبي والأمريكي إلى تجارة حقيرة باسم التحرر و التمدين ... تجارة الرقيق الأبيض ، حيث يؤجر جسد المرأة الجميلة أو يباع بأبخس الأثمان إلى جوار ما يقدم بغير ثمن ... بالمجان باسم الصداقة و الحب !! .
وأعرض الشباب عن الزواج ، وصارت أكثر الشعوب في أوروبا اليوم مهددة بالانقراض أو بسيطرة الأجانب النازحين إلى تلك البلاد ، وتفككت الأسر وانهارت وشاعت الفاحشة بما يرى الشباب ويسمع في أفلام الجنس وفي البارات و المراقص و الحانات وانهارت القيم شيئاً فشيئاً ... حتى لم يبق على أخص العلاقات وأشرفها : علاقة الأم بابنها ، وعلاقة الأخ بأخته ، وغطى ذلك الفحش الأحط من فحش الحيوان بفلسفات كاذبة وشعارات زائفة تحمل اسم العلم و العلم الحق منها براء !
وحضارة أمريكا وأوروبا اليوم على شفا جرف هار أقرب إلى السقوط الذريع منها إلى التقدم أو حتى إلى الوقوف !
21- وإذا ارتفع الناس في الدرك شيئاً ما أو قل هبوطهم في الدرك شيئاً ما اتخذوا قدوات أرفع في التدلي أو أخف في الهبوط ! فاتخذوا زعماء يدعون بدعوى الجاهلية ... من تعصب للون أو جنس أو وطن ، أو قومية ، مع أنه لا أساس لهذا التفضيل ، ولا دليل على هذه الخيرية !!
وسارت شعوب وراء زعمائها كما تسير الغنم وراء حزمة من الكلأ ! حتى أوردوهم موارد الهلاك ... إما مادياً أو معنوياً ... وكانت حروب تحت هذه الشعارات و الرايات الجاهلية أكلت الآلاف و الملايين بلا نتيجة ولا هدف ! .
هذا في الدنيا ....
وفي الآخرة فإن هؤلاء الزعماء ... سيكونون قادة كذلك ... لكنهم يقودون أقوامهم إلى النار ... { يقدم قومه القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود } ، { النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب }
ويكون السجال في النار بين السادة و العبيد { إذ تبرأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار }
{ قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعاً قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً من النار ، قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون * قالت أولاهم لأخراهم فما كان لنا عليكم من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تعملون } ، { وإذ يتحاجون في النار في الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار * قال الذين استكبروا إنا كلٌ فيها إن الله قد حكم بين العباد }
22- وحتى إذا افترضنا في هؤلاء الزعماء و القادة ومن هم في موضع القدوة أنهم على الحق و الهدى ... فإنه لا عصمة لبشر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ثمَّ فمن هو في موضع القدوة سوف يخطئ ويصيب ،وإذا أجزنا الإقتداء به أو تقليده فإن الناس من ورائه يقلدونه في الخير و الشر ، في الحق و الباطل ، في الصواب و الخطأ ... وقد يأتي عليه وقت يصيبه الضلال والانحراف فيقع الناس من ورائه في هذا الضلال والانحراف ، والأمثلة كثيرة من القديم يقص علينا القرآن { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ... }
ومن الحديث ...
قصة شيخ ... كان يوماً يسير مع الصادقين ، وفجأة دخل الوزارة مع الطغاة المجرمين ، فإذا به يتحول ويفتى بأن يرى الخطيب خطيبته عارية ، ويفتى أن تمسح المرأة على ( الباروكة ) كما مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمامته .
وأخيراً يتحدث عن السيد الفاضلة ( ... ) ويذكر اسم إحدى العاهرات .
وفي الولايات المتحدة ظهر زعيم مسلم ( أليجا محمد ) وفرح الناس وتبعه آلاف بل ملايين ولكنه كان منحرفاً فانحرف بهذه الملايين ...
كان يجعل صلاة الجمعة يوم الأحد ، وصيام رمضان في الشتاء ... الخ .. الخ
وهكذا لا يصلح البشر غير المعصوم أن يكون قدوة !
أما قدوتنا :
23- فلا بد أن يكون بشراً ... حتى يكون على الناس حجة ولا بد أن يكون معصوماً ... حتى لا يخطئ أو ينحرف فيضل وراءه الناس وليس ذلك إلا في شخص واحد ... هو محمد صلى الله عليه وسلم ... خاتم الأنبياء و المرسلين الذي نشهد له بالرسالة وفي كل صلاة وفي كل حين إثر شهادتنا بالوحدانية لرب العالمين ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) ذلكم محمد سيد ولد آدم ... قدوتنا .
{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر وذكر الله كثيراً }
24- ومجال الإقتداء به كبير :
ففي تطبيق الإسلام تطبيقاً عملياً ... الصورة الحية الماثلة أمامنا ... هو رسول الله صلى الله عليه وسلم .
سواء في مجال العقيدة :
إيماناً بالله ويقيناً به ...حباً لله وشوقاً إليه ، رجاء في الله واعتصاماً به ، خوفاً من الله وتوكلاً عليه ... الخ .
أو في مجال الأخلاق :
فقد امتدحه ربه :{ وإنك لعلى خلق عظيم }
وفي حلمه وكرمه وصدقه وأمانته وعفته وشجاعته وتواضعه ورحمته الكثير الكثير ....
لكن المثل الذي أود أذكره هو من صبره ، وصبره على مكاره الدعوة وإنما دائماً ، وإنما الصبر الذي أذكره هنا هو صبره على الجوع حتى يعلم الذين يسيئون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويصورونه مع الدراهم و الدنانير كيف كان يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلى جالساً ، فقلت يا رسول الله أراك تصلى جالساً فما أصابك ؟ قال :( الجوع يا أبا هريرة ) فبكيت فقال :( لا تبك يا أبا هريرة فإن شدة الحساب يوم القيامة لا تصيب الجائع إذا احتسب في دار الدنيا ) .
وروى أحمد في مسنده كان صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي طاوياً - وأهله لا يجدون عشاء - وكان أكثر خبزهم خبز الشعير .
وفي مجال الصلة بالله أو التعبد :
فلقد كان من قبل الرسالة يتعبد في غار حراء ، ويعتكف الأيام الطوال يفارق الفراش ، ويفارق المقام اللين ، ليختلي إلى ربه ويتناجى معه ... على ملة أبيه إبراهيم .
فلما اجتباه ربه واصطفاه ... زاد تعبده ولم يقل ، حتى كان يقيم الليل إلا قليلا ... ويطيل السجود ... وتورمت قدماه ، وقالت له عائشة رضى الله عنها :( لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، قال : أفلا أكون عبداً شكوراً ) صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله ، وفي صيامه كان يصوم ... ولا يفطر ، وإن نهانا - رحمة بنا - عن صوم الوصال وقال تبريراً لما يفعل :( إني أبيت يطعمني ربى ويسقيني ) .
وكان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان ويعتزل النساء ، وفي عامه الأخير اعتكف عشرين يوماً وهكذا ... كان مثلاً في تعبده نحتذيه ، وأسوة نتأسى بها .
وفي مجال معاملاته :
كان الزوج الحنون ... الذي يشارك أهله ... كان في حاجة أهله - كما أوردت كتب السيرة - ويعطيهن حقهن ويقسم بينه بالعدل و القسطاس ، كان إذا خلا بنسائه كان ألين الناس وأكرم الناس ضحاكاً بساماً .
وكان الأب المثالي ... حتى نعته فاطمة يوم وفاته ( يا أبتاه أجاب رباً دعاه ، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه ، يا أبتاه جبريل ننعاه ، فلما دفن قالت فاطمة رضى الله عنها : أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .
وكان في معاملته مع الناس هيناً ليناً حليماً كريماً : سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى ، سمحاً إذا قضى ، سمحاً إذا اقتضى ، فهو القائل عليه الصلاة و السلام :( رحم الله عبداً : سمحاً إذا باع ، سمحاً إذا اشترى ، سمحاً إذا اقتضى ) .
وكان معلماً مربيا ... لجيل لن يجود الزمن بمثله .
ورئيس دولة وضع الأسس و القواعد لتكون نماذج عملية لمن أراد مرة أخرى أن يقيم دولة الإسلام ، وإقامتها فريضة ، وأي فريضة .
القرآن دستورنا
البشر و المناهج
25- منذ القدم حاول البشر أن يكون لهم منهج ... يسيرون عليه في حياتهم فشريعة حامورابى عند قدماء المصريين ، و القانون الروماني عند الرومان ، وشروح ( الويدا ) عند الهنود
كل ذلك مما حمله التاريخ من شرائع البشر في القديم ...
وفي الحديث أمامنا صور كثيرة نكتفي بإذن الله بصورة من القديم وصورة من الحديث لنعرف ... كيف يمكن أن تكون عليه مناهج الناس وشرائعهم ، إذا تركت إليهم يصنعونها بأيديهم .
مثل من القديم :
26- فيظل الديانة الهندية القديمة ... و التي ما زالت موضع احترام عند البعض ولا يزال للبقر قدسية تحول دون ذبحها ، وتقف من أجلها المواصلات إذا قطعت الطريق ، ويوضع روثها على الرؤوس إذا تبرزت في الطريق ، بل ويشرب ( رئيس وزراء الهند ) كل يوم كوباً من بولها لتحدث له ( البركة ) من الإله المزيف المزعوم !
ينص قانون الهند - وهو شرح لكتابهم المقدس ( الويدا ) : على طالب العلم أن يتجنب الحلوى و اللحوم و الروائح الطيبة و النساء ، وكذلك يجب عليه أن لا يدلك جسمه بما له رائحة طيبة ، ولا يكتحل ، ولا يلبس حذاء ، ولا يتظلل بالشمسية وعليه ألا يهتم برزقه بل يحصل على رزقه بالتسول .
ويقسم القانون طبقات المجتمع إلى أربعة :
- أ- البراهمة ... وهم خلقوا في زعمهم من فم الإله ! وهم طبقة الحكام و العلماء و الكهنة .
- ب- الكشتريا ... وهم خلقوا في زعمهم من ذراع الإله ! وهم طبقة المدافعين و المتعلمين .
- حـ - الويشا ... وهم في زعمهم خلقوا من فخذ الإله ! وهم طبقة المزارعين و التجار .
- د- الشودرا ... وهم خلقوا في زعمهم من رجل الإله ! وهم طبقة الخدم التي تخدم الطوائف .
27- وفي صدد واجبات الطبقات الثلاثة الأخيرة تنص القوانين : يجب على الشودرى أن يمثل امتثالاً مطلقاً لأوامر البراهمة سادة الدار العارفين بالكتب المقدسة و المشتهرين بالفضائل فترجى له السعادة بعد موته ببعث أسمى .
لا يجوز للشودرى أن يجمع ثروات زائدة ولو كان ذلك من القادرين لأن ذلك يؤذى البرهمي ويدنيه من الشودرى .
ويجب نفي ابن الطبقة الدنيا الذي تحدثه نفسه بأن يساوى رجلاً من طبقة أعلى من طبقته وأن يوشم تحت الورك ، وتقطع يداه إذا علا من هو أعلى منه بيده أو بعصاه ، وتقطع رجله إذا هو رفسه برجله .
وإذا دعاه باسمه أو باسم طائفته بدون تقدير أدخل إلى فمه خنجر محمى ملوث النصل طوله عشرة قراريط ويأمر الملك بصب زيت حار في فمه وفي أذنيه إذا بلغ من الوقاحة أن يبدى رأياً للبراهمة في شئون وظائفهم !
ومثل من الحديث :
ما أقره البرلمان الإنجليزي في السبعينات من إقرار العلاقة غير المشروعة بين الرجال ، وما أقره البرلمان السوري في الثمانينات من إعدام كل من ينتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين !!
الناس وأرباب متفرقون :
28- { ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } وتوزع الناس في حياتهم بين أرباب متفرقين ... ، رب يشرع لهم في حياتهم الاجتماعية ... تقليداً وأعرافاً وأنظمة يطيعونها ... ويتعبدون بالامتثال لها ، وهي رذيلة وانحطاط !
وقد أتيح لي أن أرى بعض التقاليد التي يتعبد لها الغرب مثل عيد ( الفاشينج ) حيث يشوه الجميع خلقتهم ويجعلون لها أشكالاً من طيور أو حيوانات أو غير ذلك ويفرحون بذلك ويطربون !
ورب آخر يشرع في حياتهم الاقتصادية ... رأسمالية ، اشتراكية ، شيوعية .... وفي كل نظام يتخبطون ، وكل حزب بما لديهم فرحون !
ورب آخر يشرع لهم في حياتهم السياسية ... قومية ... وطنية .... ديمقراطية ... ثيوقراطية ... الخ ، و الناس يتمزقون في حياتهم بين هذه الأرباب ... وقد يجمعون في وقت واحد بين نظام مستمد من شرق وآخر مستمد من غرب ، وثالث مرقع من هذا وذاك !!
وقد يستشعر الناس هذا التمزق ، وقد يرون أثره ولا يشعرون ، وقد يشعرون ولا يعرفون الأسباب ! .
الإسلام .... وهذه الجاهلية
29- وواجه الإسلام هذا اللون من الجاهلية ... يعترفون بوجود الله ويشركون معه آلهة وأرباباً آخرين ... { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } ، { قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ، ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون } .
وواجه لوناً آخر من الجاهلية لم يتوافر من بعد ... حجارة تنحت ، ثم يسجد لها ... وآلهة من عجوة ... يسجدون لها ، ثم يأكلونها إذا جاعوا ، وكانت مأساة مضحكة مبكية ! وكانت قبل الإسلام هذه الجاهلية المركبة .
وكان بعد الإسلام اللون الأول من الجاهلية وبعض أنواع اللون الثالث ! وكان معها في النظام الاجتماعي ألوان من الجاهلية ( وأد البنات ) أي دفنهن أحياء { وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت }
{ وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتواري من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون } .
ومع وأد البنات أرث زوجة الأب كجزء من المتاع الذي يورث وأنظمة في الزواج لا تقل عن إباحية هذا العصر منها زواج المرأة لأكثر من رجل ، فإذا حملت دعته إلى من شاءت ممن تردد عليها من الرجال .
ومنها زواج الاستبضاع ... أي أن يرسل الرجل زوجته إلى أحد العباقرة أو الشجعان لتحمل منه فيكون الولد بزعمهم عبقرياً أو شجاعاً !! ..... الخ
ومنها زواج الشغار ... أي أن يتزوج رجل أخت رجل مقابل أن يزوجه أخته ...
30.- ولم يقبل الإسلام مهادنة أي لون من ألوان هذه الجاهلية ! ولم يقبل فيها أنصاف الحلول بل أعلنها صريحة ... إما منهج الإسلام ... وإلا فمنهج الجاهلية ... { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } .
خصائص هذا المنهج
31- وهذا المنهج مصطبغ بصبغة صاحبه ومنزله { صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون } ... ومن ثم فأول خصائصه وأهمها ... أنه رباني .. ومن هذه الخصيصة كل الخصائص الأخرى ! .
أ- منهج رباني :
لأنه من عند الله ... فيما أنزل من وحي ... كتاباً وسنة .... وربانية المنهج تعطيه ... كل صفات صاحبه ... فهو :
ب- منهج رحيم :
لأنه تنزيل من رحمن رحيم { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ... { ورحمتي وسعت كل شئ }
جـ - وهو منهج عدل :
لأنه من عند الله العدل ... الذي يقول :
- { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل }
- { كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين }
- { كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } .
- ( يا عبادي أنى حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ) .
و الذي يدعيه الناس من مناهج عدل ... مشكوك فيها لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، وتجرد الناس عن الهوى وتجردهم عن المصالح الشخصية ، وتجردهم عن تأثير البيئات و المجتمعات أمر بعيد ومستبعد ! .
وقد {رأينا نموذجاً من عدل الهنود في تقسيم الطبقات ورأينا نماذج العدل الحديثة في الاشتراكية و الشيوعية وما شابهها ! .
د- وهو منهج فعال :
يجمع بين جزاء الدنيا .. الذي يغدو أعدل من أي جزاء دنيوي آخر ، وجزاء الآخرة الذي يفقده أي نظام دنيوي آخر ! ومن ثمَّ يغدو مؤثراً ، ويغدو حافظاً وحارساً ... لا يحتاج إلى حراسة أخرى إن وجدت ! .
هـ- وهو منهج يجمع بين الثبات و المرونة :
الثبات في مصادره وفي أصوله ، وفي قيمه ، و المرونة في تفاصيله وقضاياه المتجددة حيث شرعه لها من المصادر ما يواجه بها حاجات الناس وقضاياهم المتجددة ! ولا يوجد على الأرض منهج يجمع بين الأمرين !
وأقصى ثبات هو للدستور الإنجليزي المدون في القرن الثالث عشر الميلادي وهو بثور لا يكفي وحده ، كما أنه يفتقد سائر الخصائص التي أشرت إليها ، وما بعد ذلك وما قبل ذلك أتى عليه روح التغير و التبديل ، وكل الكتب السماوية التي بين أيدينا رانت عليها سحب التغيير و التبديل عدا دين محمد عليه الصلاة والسلام { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } .
و الذي يحاول من مناهج البشر الثبات فإنه يفتقد المرونة ويعجز عن مواجهة القضايا المتجددة ... أما منهج الله فقد شرع من المصادر ما يسمح بالمرونة ، وما يجعله قادراً على مواجهة القضايا المتجددة فالقياس والاستحسان ، والاستصلاح ، و العرف ، .... الخ كلها مصادر تثرى الفقه الإسلامي بالحلول المتجددة لكل قضايا العصر .
و- وهو منهج يتسم بالشمول :
الشمول المكاني ... لكل أرض الإسلام ... فهي محكومة بهذا المنهج ، و الشمول الشخصي لكل أبناء الإسلام ... فكلهم محكوم به ولو ترك أرض الإسلام ... و الشمول الزماني ... من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قيام الساعة ، لأن هذا الدين هو آخر الأديان { مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } { ولكن رسول الله وخاتم النبيين } .
و الشمول الموضوعي ... لكل أمور الدنيا والآخرة ، وفي أمور الدنيا لكل أمور السياسة و الدين بالتعبير الحديث ، وفي هذه لكل الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية و السياسية ! وداخل هذا لكل الأفراد ولكل الأسر ولكل الأمم ... ما دامت قد شهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فأعلنت بذلك التزامها المنهج الرباني وارتضاءها به ، ولا يوجد منهج آخر له كل أنواع الشمول التي أشرت إليها ! .
ماذا أعطت مناهج البشر ؟ وماذا أعطى منهج الله ؟
32- أما عن مناهج البشر فقد أعطت تفرقة ظالمة بين الشريف و الضعيف ، وتفرقة ظالمة بين الطبقات ... الغنية و الفقيرة و الشريفة و الحقيرة ، وحروباً طاحنة بين القبائل ، ثم بين الأمم و الشعوب ... لا ناقة لها فيها ولا جمل .
وأعطت معها مصادرة للحريات ... مر باسم التيوقراطية ، وأخرى باسم الاشتراكية وثالثة باسم الديمقراطية .... تعددت الأسماء و السوط واحد .
وأعطت معها نظماً اقتصادية ... فيها المظالم ، وفيها المشاكل ، وفيها البطالة وفيها الدورات الاقتصادية وفيها مصادرة الجهد البشرى و الحافز الفردي ... الخ .
وتاريخ البشرية شاهد وخير شاهد !
ونظرة إلى أرقى الأنظمة اليوم وإلى حال الإنسان فيها وإلى التعاسة التي يعيشها ، ويحاول تغطيتها بأغطية زائفة ... ابتداء من البسمة المصطنعة إلى القبلة التقليدية الباردة وانتهاء إلى الحفلات و المناسبات ... كل ذلك يكفي للحكم عل حال الفرد وحال الأسرة وحال المجتمع .
33- أما عن منهج الله :
فقد أعطى ولا يزال يعطى للإنسانية الكثير ... وعطاء منهج الله فوق كل عطاء .... إنه عطاء كريم لا ينفد عطاؤه { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مدداً } ولا يزال الفقه الإسلامي يثرى كل يوم وكل حين بالجديد المستمد من عطاء رب العالمين ... وذلك في كل مجال ...
34- وعطاء منهج الله ... شمل الفرد ... فأخرجه من الظلمات إلى النور ، ومن الضيق إلى السعة ، ومن الحيرة والاضطراب إلى الطمأنينة و الهدوء ... { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } .
فعاش الفرد في ظلال منهج الله في سلام مع نفسه المطمئنة ، وفي سلام مع المجتمع الذي يعيش فيه ويحس فيه ما لا يحسه أي فرد في أي مجتمع آخر .
35- وعطاء منهج الله ... شمل الأسرة ... رباطاً وثيقاً ينتظم علاقاتها ويؤسسها على المودة و الرحمة ، يرسم علاقة الزوجين { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة }
يهتم بالآباء والأمهات اهتماماً لا يعرفه اليوم نظام على وجه الأرض { وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً } .
ويجعل هذه الأوامر عقب الأمر بعبادته { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً }
ويكررها في مواضع أخرى { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً } ، ويجعل عقوق الوالدين من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله ، قال صلى الله عليه وسلم :( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ( ثلاثاً ) قلنا بلى يا رسول الله قال :( الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئاً فجلس وقال : ألا وقول الزور وشهادة الزور ) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت ) .
وانظر إلى حال العجائز في الغرب ... وكيف لا يعرف الأبناء آباءهم إذا كبروا ، وكيف يصير الصديق الوحيد للعجوز رجلاً أو امرأة - هو الكلب ، الذي صار تعلق الغربيين به أكبر وأعمق من تعلقهم بالإنسان لما يؤديه هذا الكلب من دور في حياتهم في الوقت الذي يتنكر فيه الأقربون ! .
إن العجوز - أما أو أباً - تمضى عليه الشهور بل السنون لا يرى أولاده ،ولا يجد من يوده من الجيران ، ومن ثمَّ فإذا مرض فلا أحد يعوده ، وإذا قعد فلا أحد يزوره أو يسأل عنه ، وإذا مات فقد تمر أيام قبل أن يعرف بوفاته ، وقد لا تعرف وفاته إلا من خلال ما ينبعث من المسكن من رائحة كريهة ! { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار } ؟! .
36- وعطاء الله شمل المجتمع ...
فأقام علاقاته كذلك على التعاطف و التراحم ومثله بالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى ) وقام المجتمع على تكافل اقتصادي ... لا يبيت المجتمع وفيه جائع أو محتاج ، وقام على تكافل سياسي يسوده الانتصار للمظلوم والانتصار من الظالم .
{ و الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } ولقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف الفضول وقال : لو عرض عليه في الإسلام لقبله ) .
37- وعطاء منهج الله أحيا شعباً وأقام أمة :
{ وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } أمة استطاعت في نصف قرن أن تملك نصف الدنيا ، وأن تمتلك في ثمانين عاماً ما عجزت الإمبراطورية الرومانية خلال ثمانمائة عام .
وماذا كانت قبل ذلك ، كانت قبائل متنافرة يفخرون بقولهم :
ألا لا يجهل أحد علينا
- فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وبقولهم :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
- في النائبات على ما قد جاء برهاناً
بل يكون العدوان على أخيهم إذا لم يجدوا ما يعتدون عليه :
وأحياناً على بكر أخينا
- إذا لم نجد إلا أخانا
وكان حالهم :
أتيت و الناس فوضى لا تمر بهم
- إلا على صنم قد هام في صنم
وحسبنا حكم الله { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }
وفتحت مناطق وقارات بغير نقطة دم واحدة ، وما كان من حروب لم يكن موجهاً للشعوب ، ولم يكن إكراهاً على اعتناق الدين ، وإنما كان إزالة للطواغيت التي تقف حاجزاً دون اختيار الشعوب وحريتها في تقرير المصير و الوقائع كثيرة لا تحتاج إلى دليل .
38- أما الآن فقد يثور السؤال ... ولماذا توقف منهج الله عن العطاء ؟ وتبادر فنقول إن التوقف جاء منا لا منه .
فنحن أعطيناه ظهورنا وأعرضنا عنه كالذي يعطى ظهره للشمس ويجعل بينه وبينها سداً فلا يراها ثم يتساءل لماذا لا نرى الشمس أو لماذا لا تدفئنا الشمس { وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } .
ولا يزال منهج الله قادراً على العطاء كلما عدنا إليه ، ولا يزال وعد الله دائماً لا يتخلف متى تحققت شروطه .
- { ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز } .
- { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون }
الجهاد سبيلنا
الجهاد .... لماذا ؟
39- لأمر ما فطرت النفس على الرغبة و الرهبة .... فالرغبة يثيرها الوعد ، و الرهبة يثيرها الوعيد ... و النفس التي تتردد بين الرغبة و الرهبة ، ومن ثمَّ تحتاج إلى الوعد و الوعيد ...{ ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها } .
ولذا كان خطاب رب العالمين يمس الفطرتين معاً { نبئ عبادي أنى أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم } وكانت الآخرة متضمنة { جنة عرضها السموات والأرض } ، وفي الوقت نفسه متضمنة { ناراً وقودها الناس و الحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } .
وكان مما فطر الناس عليه وتعارفوا أن يجعلوا في الدنيا كذلك الجزاء بنوعيه : الثواب و العقاب .
وكان من تطبيق ذلك على مستوى الأفراد تقرير العقوبات : حدوداً وقصاصاً وتعازير ...
وكان من تطبيق ذلك على مستوى الأمم ما نسميه نحن بالجهاد وما يسمونه بالحروب .
وفي مجال القانون الدولي يعدون الحرب جزاءا على مخالفة القانون الدولي .
وفي مجال الشريعة الإسلامية ... فإن الجهاد شرع دفاعاً عن شرع الله وإزالة للعقبات من طريق دعوة الله .
أنواع الجهاد
40.- و الجهاد فرض عين لإقامة شرع الله { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } وهو كذلك فرض عين للدفاع عن دار الإسلام أو لاسترداد ما ضاع منها ، لكنه من وراء ذلك فرض كفاية إذا أريد فتح ديار جديدة لكسبها للإسلام .
ثواب الجهاد
41- وذكر الجهاد جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم جاء بلفظ الجهاد { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } كما جاء بلفظ القتال { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون } .
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل و القرآن ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم }
{ ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله و المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً } .
إن رجلاً قال : يا رسول الله : دلني على عمل يعدل الجهاد ، قال :( لا أجده ) ثم قال : ( هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر ، وتصوم ولا تفطر ؟ فقال : ومن يستطيع ذلك .
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ) .
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :( لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع ، ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم ) .
وعن أبى موسى أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم و الرجل يقاتل للذكر ، و الرجل يقاتل ليرى مكانه ، وفي رواية يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ، وفي رواية يقاتل غضباً ، فمن في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ) .
نحن و الجهاد :
42- إذا كان هذا كله ...
وكان العالم الإسلامي قد عطل فيه شرع الله ، ومزقت أمته في الأرض أمماً وأزيلت من الأرض دولة الإسلام ، وأخذت من أرضه أجزاء عزيزة يحتلها الكفرة الشيوعيون ، أو اليهود الحاقدون ، أو النصارى المتعصبون ... فهل بقى شك في أن الجهاد اليوم فرض عين ؟
وهل من سبيل لدفع هذا الشر كله ولجلب الخير كله إلا بالجهاد ؟ أو لسنا في الزمن الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها ، قيل : يا رسول الله فمن قلة يومئذٍ ؟ قال : لا إنكم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، قد دب الوهن في قلوبكم ونزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت ) أو لسنا بحاجة إلى حب الموت وكراهية الدنيا .... ليعود ما افتقدناه ولن نخسر شيئاً إلا ما كتب علينا ؟!
لذا ... وجب علينا أن يكون الشعار في القلب وفي العمل :
الجهاد سبيلنا .
الموت في سبيل الله أسمى أمانينا
الموت في سبيل الله
ارتباط :
43- ويرتبط بالجهاد ارتباطاً لا يقبل التجزئة ولا التفرقة الموت في سبيل الله .... فحب الموت في سبيل الله يدفع إلى الجهاد ، ويحمى وطيس القتال ويدفع الوهن الذي أصاب الأمة بعد أن كرهت الموت وأحبت الحياة !
فضل الموت في سبيل الله
44- { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين }
{ ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون }
وفي الحديث :( يغفر الله للشهيد كل شئ إلا الدين )
وعن أبى قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم فذكر أن الجهاد في سبيل الله والإيمان أفضل الأعمال فقام رجل فقال : يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عنى خطاياي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( نعم : إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدَّين فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك ) .
وعن جابر رضى الله عنه قال : قال رجل أين أنا يا رسول الله إن قتلت ؟ قال : في الجنة ) فألقى تمرات كن في يده ثم قاتل حتى قتل .
ويوم أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن أرواح إخوانكم في حواصل طير خضر تسرح حيث شاءت ترد أنهارها وتأكل ثمارها ثم تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة تحت العرش ) اقرأوا إن شئتم { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون }
وفي الحديث ( إن للشهيد عند ربه سبع خصال : يغفر له في أول دفقة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى حلية الإيمان ، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن يوم الفزع الأكبر ، ويوضع فوق رأسه تاج الوقار الياقوتة فيه خير من الدنيا وما فيها ، ويشفع في سبعين إنساناً من أهل بيته )
الموت .... لماذا ؟
45- احرص على الموت توهب لك الحياة .... وصدق الصديق رضى الله عنه ... حقاً : الحرص على الموت ... يدفع الوهن ... كما تقدم ... ويهب الحياة كما هو معلوم .
يهب الحياة للأمة في مجموعها .... ليست أي حياة ... شأن الحريصين عليها ، إن الحرص على الحياة ... يورث الوهن ، ويجعلها ذليلة ... ولذا كان قول الله في اليهود { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } وجاءت ( حياة ) منكرة دليلاً على أنها أية حياة ، وإن الحرص على الموت ... “ يهب الحياة “ معرفة لأنها حياة كريمة عزيزة ! .
46- وهذا ما رأيناه ماثلاً في تاريخ أمتنا الإسلامية :
يوم كانت حريصة على الموت ... وهبت الحياة الكريمة العزيزة وملكت نصف الدنيا في نصف قرن ... ويوم كانت حريصة على حياة أية حياة ... تجرعت حياة الذل مهينة ، ولم تنل منها إلا ما كتب لها .
هذه في الدنيا .
47- وفي الآخرة ما قدمناه ... ( ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ) بل من هذه أعلى الدرجات كما تقدم في الحديث :( أعد للمجاهدين في سبيل الله مائة درجة ما بين الدرجة والأخرى كما بين السماء والأرض - ونضيف إليه - .... وما لا يناله بعد الأنبياء و الصديقين إلا الشهداء .
{ و الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم } ، { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين وحسن أولئك رفيقاً } .
للشهيد عند ربه سبع خصال :( أولها مغفرة وآخرها شفاعة ) .
نماذج من المجاهدين
سير المجاهدين أطياف تحلق في الآفاق ... يراها الناس أشبه بالرؤى و المنامات ، وهي في الحقيقة تحلق في الآفاق .... باعتبار أنهم سموا عن حب الدنيا بما فيها ومن فيها ، وباعتبار أنهم بانتقالهم إلى الملأ الأعلى يكونون في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة تحت العرش ...
ومن هنا كان الإلمام بهذه السيرة العطرة أمر صعب المنال ، فالعقل قد لا يكفي وحده للإحاطة بالوقائع والأحداث ، ولئن أحاط فإنه لا يكفي لتصورها ولئن كفي لتصورها فإنه لا يكفي لتبريرها ... لماذا ... كيف .... الخ .
ولقد أكرمني الله بمعايشة بعضهم ممن أعادوا سير السلف الصالح ... كنت أحس أنى أعيش مع أطياف من الجنة تسعى على الأرض ... أو ملائكة من السماء رضيت أن تشاركنا الحياة ... أستغفر الله أحسب أن بعضهم أكرم على الله من الملائكة ، وكيف لا وقد كرم رب العلمين جدهم آدم ... حين أمر الملائكة أن تسجد له وقد خلقه من طين وخلقهم من نور .
وأبى إبليس أن يسجد ... وطمس المنطق العقلي السقيم روحه ... فقال { أأسجد لمن خلقت طينا } وقال { أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } فكانت معصية إباء وغطرسة ، وتطاولاً على مقام رب العالمين { إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } .
قال لي أحدهم ... أخي ... عندما صدر حكم الإعدام علىّ من قبل الظلمة الفجرة لقد كنت أقرأ القرآن ، وأنا أنتظر تنفيذ حكم الإعدام ... فكنت أرى من خلال سطوره وبين كلماته صور الجنة ماثلة أمام عيني ... تزيد شوقي للجنة .
وروى آخر ... أنه سمع أحدهم يقول لأخيه في المعركة وهو جريح ( دعني دعني يا أحمد فإني أشم رائحة الجنة ، وفاضت روحه )
وامتد بي الخيال إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
سيدي وحبيبي يا رسول الله ...
يا أول معلم علم الأمة الجهاد وحبيبه إلى نفسها ... لهفي عليك وأنت تجاهد الكفار في مكة وتحتمل أذاهم ،وتنفذ أمر ربك إليك { وجاهدهم به جهاداً كبيراً } ، ثم لهفي عليك ... وأنت تقف موقف الصلابة من مساومة الكفار لك ... مباشرة وعن طريق عمك ... حتى لتقول قولتك التي خلدها التاريخ :( يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري ... )
ثم لهفي عليك ... وأنت العزيز على ربك ، وأنت العزيز بين أهلك وقومك ، يتسلط عليك السفهاء ، ويطاردك الصبية بالحجارة حتى تدمى قدماك ، وقبلها يا حبيبي يا رسول الله دمى قلبك ... لإعراض قومك حتى قال لك رب العالمين { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً }، ( قاتل نفسك من شدة الأسف والأسى ) وعلمك وعلمنا من بعدك { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } .
ويأتيك ملك الجبال فيقول لك : إن ربك يقرئك السلام ويقول : إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين ... لكنك تجاهد نفسك وتحتمل الصبر مراً في سبيل الله وتتسامى على كل الدوافع البشرية و الشخصية ... وتدعو لهم :( اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) وتقول :( لعله يخرج من أصلابهم من يعبد الله ) عليك الصلاة و السلام يا سيدي يا رسول الله ... تدعو لمن آذاك ... بدلاً من أن تدعو عليهم ؟ سبحانك ربى لا يقدر عليها إلا رسول ...
وتنتقل بعد جهاد الدعوة وجهاد الصبر ... إلى جهاد السيف ...وتمتشق الحسام أشجع الناس وأقوى الناس وأسرع الناس ... ويسجل لك صاحبك ... ( كنا إذا حمى الوطيس احتمينا برسول الله عليه الصلاة و السلام ) .
ويجل لك التاريخ موقفك يوم أحد ... حين تفرق المسلمون ساعة الهزيمة إذ عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وتواثب الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم تنتاشه سهامهم وحرابهم وسيوفهم وكسرت رباعيته وشج وجهه وهو ثابت يقول :( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) .
ويصل حبك في القلوب أن تصل إلى امرأة نعى أبوها وأخوها وزوجها ... فتسأل : كيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون لها بخير ... فتقول : كل خطب دون رسول اله صلى الله عليه وسلم هين ... .
وموقفك يوم الأحزاب :{ إذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً }
ومع ذلك يبلغ ظنك بربك أن تضرب الحجر وأنت تشارك صحابتك حفر الخندق ... فتقول : الله أكبر ... فتحت علينا كنوز كسري وقيصر ... وقبلها تقول لسراقة وهو يطاردك بين مكة و المدينة وأنت أعزل من كل شئ :( أسلم يا سراقة وغداً تلبس سوارى كسري ) ويهنأ بها سراقة الذي يعيش عهد محمد صلى الله عليه وسلم ، وعهد أبى بكر الصديق ،وعهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه ... ويفتح الله على المسلمين أرض الفرس فيطالب سراقة عمر بوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فينفذه عمر .
وغيرها كثير ... كثير ...
أما الصديق رضى الله عنه ... فجهاده في مكة معك يا رسول الله - وهو أول من صدقك - حتى يبلغ بالكفار أن يضربوه حتى يفقد الوعي و النطق ، ومع ذلك فهو حين يفيق يسأل أول ما سأل عنك .... عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويرد جوار الكفار لأنه أبى عليه أن يرفع صوته في الصلاة حتى لا يتأثر الكفار من سماعهم القرآن ... وقد كان رضى الله عنه بكاء إذا تلا القرآن .
ثم يمول أبو بكر رضى الله عنه رحلة الهجرة المباركة ... يعد الناقتين ويعد الطعام ويعد الدليل ، ويعد من يزيل الثر حتى لا يتعرف الكفار على الطريق ، ويعد لنته أسماء ( ذات النطاقين ) لتحمل الزاد بين الحين و الحين ...
ويعيش معك صاحبك يا رسول الله ... مقاسماً لك الجهاد طول حياتك ، حتى إذا انتقلت إلى الرفيق الأعلى ، وحمل من بعدك الأمانة وهي ثقيلة ، وبدأت الفتنة تطل برأسها ، وارتد من ارتد ، ومنع الزكاة من منع وبدا للبعض أن أبا بكر الحليم الرحيم لن يرفع السيف بل إن عمر وهو من هو يجادل أبا بكر : كيف تقاتل من قال لا إله إلا الله ... وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به ، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم منى نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله ) فيقول أبا بكر ... إلا بحقه ... و الزكاة من حقه ... ويرقى فقهه الدقيق فيقول ( لا أفرق بين الصلاة و الزكاة ) ... وكيف يفرق والله جمع بينهما :{ فإذا انسلخ الشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم }
ثم كانت عزمه وتصميمه وقوته وهو الحليم الرحيم ( والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه ... ومن هنا سرى القول ... ردة ولا أبا بكر لها .
وكان هذا بعض جهاد أبى بكر .... رضى الله عنه
أما عمر - رضى الله عنه - فملحمة جهاد ... منذ دخل نور الإسلام قلبه ...
يخرج على رأس صف من المسلمين ، وسيد الشهداء حمزة على رأس الصف الآخر ، يتحدى الكفر و الكافرين في مكة وفي الكعبة ، وهو يردد وهم من خلفه يرددون الله أكبر .... الله أكبر ...
ويجاهد مع الرسول في غزواته ، ويقف بجوار أبى بكر وزيره الأول ....
ثم يأتي عهده ... فإذا به ملئ بالجهاد ... جهاد السيف ... وإذا برب العالمين يفتح به وفي عهده ... على المسلمين ما لم يفتح من قبل ... وتزول دولة الفرس كما زالت دولة الروم ... وهما أشبه اليوم بالقوتين الكبيرتين أمريكا وروسيا .
جهاد .... وأي جهاد .
ومن بعده على ابن أبى طالب رضى الله عنه
ما عرف الشرك ...
عرف الإسلام وهو بعد صبي ، فتربى في بيت النبوة ، وتخرج من مدرستها ، وكان أشجع الشجعان ...
حين طلب الكفار من ينازلهم يوم بدر ... دفع إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أول غزوة - بأشجع الناس وعلى رأسهم على ابن أبى طالب رضى الله عنه ثم كانت مشاركته في الغزوات بعد ذلك .
وكانت بيعته لأبى بكر ..... ثم لعمر ، ثم لعثمان ...
ولم يزعم علىّ لنفسه حقاً على أبى بكر ولا على عمر ولا على عثمان ...
لكن الذين خلفوا من بعده زعموا له ما لم يزعمه لنفسه ... ومن ثم بالغوا في حبه حتى انتقلوا إلى النقيض وكان من النقيض أن يزعموا أفضليته على الصاحبين أبى بكر وعمر أو على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه ، حتى قال بعض غلاتهم أن الوحي ضل في طريقه إلى على فنزل على محمد ... وما ظنوا بذلك أنهم يطعنون في أسماء الله وصفاته وهو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، فأين كان رب العالمين حين ضل الوحي أيها الضالون ؟
وبلغ الكفر ببعضهم أن زعموه إلهاً ، وزعموا أن الرعد صوته ، و البرق سوطه ، وأقاموا الصلوات وتوجهوا له بالدعوات ... { تعالى الله عما يقولون علوا كبيراً } .
وفي عهد ... حرق علىّ أمثال هؤلاء ... وبلغ الضلال بهم أن قالوا له وهو يحرقهم نشهد أنك أنت أنت الله فلا يحرق بالنار إلا إله ... سبحانك هذا إفك عظيم ... جاهد علىّ هؤلاء كما جاهد من قبلهم الكفار و المنافقين وجاهد من خرجوا عليه ... وعاش حياته جهاد كلها ... حتى طعنه ابن أبى ملجم قاتله الله .
ومن بعد جيل الصحابة جيل من التابعين ... جاهدوا كما جاهد أسلافهم ومازالت الأمة تلد جيلاً بعد جيل من المجاهدين ... حياتهم نماذج لإسلام حي يسعى على الأرض ، حتى كان عصرنا هذا ... عصر التخلف والاستعمار والاستعباد ... العصر الذي تنبأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم :(توشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ) والذي تنبأ به كذلك في :( دعاة على أبواب جهنم من أجابهم قذفوه فيها ) ... فظهر في هذا الجيل النكير مجاهدون ....
أحمد عرفان الشهيد في الهند
أبو الأعلى المودودي في باكستان
عبد القادر عودة ، وسيد قطب ، وحسن الهضيبي في مصر
مروان حديد ، عبد الستار الزعيم ، أحمد الفيصل ، وسالم الحامد في سوريا .
محمد عواد ، يحيى هاشم ، كارم الأناضولي في مصر .
ولا تزال الدعوة تفرز أجيالاً من المجاهدين ...
{ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً }
ولا نستطيع أن نحيط بكل هؤلاء ... لكننا سوف نأخذ نموذجاً من مجاهدين لم تجف دماؤهم مع سيلان هذا المداد ... و الله المستعان .
1- عبد الستار الزعيم .....
أحد الذين تولوا قيادة تنظيمية بعد لقاء مروان لربه ، لينفذ وصية مروان - رحمه الله - بمعاملة الخصوم كما أمرهم الله وأي خصوم أعتى من هؤلاء الكفرة الذين ألهوا عليا دون رب السموات والأرض ؟
حمل عبد الستار المسئولية وخطط ونظم ونفذ ... فكان من أدق من فعل ذلك ، ومل يستطع العدو الغاشم - فيما نقل لي - أن يكشف شيئاً من عمليات عبد الستار الزعيم ولا أن يقع في يد أحد من جنوده .
كسر حاجز الخوف ، وحطم وهم الرهبة ،وأزل هيبة السلطة .... وجعلها تجثوا على ركبتيها ....لا
تعرف من أين تتلقى الضربات ولا كيف ترد الضربات .
ولقي الله في الميدان وهو ابن الثلاثين ... ليخلف بعده رجالاً يحملون المسئولية .
2- أحمد الفيصل ...
درس على علماء حلب ، ونهل من مصادر العلم و المعرفة ،وعكف على الظلال يدرسه مع إخوانه ... وتفرغ بعد الثانوية ليثقف نفسه مع اكتفائه بالكسب من عمل يده كنجار وأحب الصغار وأحبه الصغار ودرس في المدارس وفي المساجد وطاف القرى والأماكن واتصل بالمجاهدين ، وفي يوم راح يزور بعضهم ، فكان في انتظاره زبانية النظام الكافر ... حملوه إلى الأقبية ... أوسعوه ضرباً وتعذيباً حتى تلف ، ولأنه من أسرة ينتمي إليها أحد قادة النظام، حملوه إلى المستشفي ليجروا له عملية ، واستدعى الأب ليرى ابنه ... فرآه يلفظ أنفاسه الأخيرة وتمتم الابن المطيع قتلوني يا أبى .... قتلوني قتلهم الله .
3- سالم الحامد ...
نجل عالم سوريا الجليل محمد الحامد ... دون الثلاثين ... تربى في حماه ... وفي مدرسة الجهاد و انضم إلى صفوف المجاهدين ، وفي معركة دامت ساعات بين مئات تحمل الآليات و الصواريخ وتركب الدبابات و السيارات المصفحة ... وبينه وحده .
على الطرف الآخر سقط عشرات ... وطلبت نجدات ، وهم يظنون أن داخل هذا المكان عدد كبير من المجاهدين وسالم - أكرمه الله - يتنقل بين النوافذ ليصليهم مرة قنابل وأخرى رصاصاً وثالثة قذائف ...
وفي الأخير نفذ ما كان معه وتوقف الرصاص و القذف من جانبه ، فاقتحمت القوة الغشوم المكان ، وكان ينتظرهم على السلم ومعه قنبلته الأخيرة فألقاها ونفسه عليهم وقتل منهم من قتل وجرح من جرح ليكون على طرف عشرات القتلى و الجرحى ، وعلى طرف آخر بطل واحد نفذ قول رب العالمين { فيقتلون ويقتلون } ليذهل الجميع من هذه المعركة ومن نتائجها ... رحمك الله يا سالم ورحم والدك المجاهد ... الذي خرَّج أبطالاً مثلك ... من أبنائه في الصلب ...وأبنائه وإخوانه في العقيدة ... رحمكم الله دوحة مباركة تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ، ويغيظ الله بهم الكفار ، ويشفي بها صدور قوم مؤمنين ...
وكنا نود أن نسرد الكثير ...لولا أنه لم يتيسر لنا من المعلومات إلا القليل ، فضلاً عن أنه لم تقم إلى هذا الأمر طائفة لتسجل هذه الصفحات المضيئة من تاريخ مجاهدي القرن الخامس عشر الهجري ... بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بألف وأربعمائة عام ....
سيدي يا رسول الله ...
لا يزال أحبابك على الطريق ... يحملون الراية ويجاهدون في سبيلها ، حتى تعود مرة أخرى الدولة التي جاهدت فأقمتها بالمدينة كريمة عزيزة رحيمة .
حبيبي يا رسول الله ...
وفدا دعوتك ... الدم و الروح ... وفداها الأبناء والآباء والإخوان ، وفداها الدنيا ما نملك منها وما لا نملك ... حتى يحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون ، ويتم نوره ولو كره الكافرون ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .....
خاتمة
وبعد فهذه المبادئ الخمسة
عاشت في قلبي .... حيناً تتردد بين الحنايا
ثم عاشت في نفسي فكراً يتقلب بين الزوايا
ثم عاشت في حياتي واقعاً يكابد المنايا
ولا تزال تعيش
يتحدد بها خط الإيمان العريض
ويتجدد بها مجد الإسلام التليد
وينتشر بها بإذن الله نوره المبين
و الجيل الذي يحملها
لن يكل بإذن الله ... حتى يجعلها واقعاً في نفسه وبين الناس
واقعاً أروع من الخيال ، يتخطى الحواجز ويحطم القيود
يهدم بيد واقعاً مريراً ، ويبنى بيد مستقبلاً عزيزاً
ونحن نقدمها للناس اليوم
فكراً مشروحاً ، ثم واقعاً في جيل عليها تربى
علهم بها يؤمنون
وعليها يسيرون
ومن أجلها يضحون
حتى يتم الله نوره ولو كره الكافرون