بين القومية والإسلامية
قال محدثى:إنكم معشر الإخوان المسلمين تقولون إن فكرتكم إسلامية, وإنكم تريدون أن تلفتوا أنظار الناس إلى ما فى ماضى الإسلام ونظامه وتعاليمه من صلاحية وخير ومن قوة وجمال وروعة حتى يأخذ الناس بهذه التعاليم , وتعمل الأمم الإسلامية والدول الإسلامية على تطبيقها وصبغ مجتمعاتها بهذه الصبغة القرآنية .
قلت: أجل .إننا نريد ذلك ,ونعتقد أننا بهذا التوجيه نخدم أنفسنا ونسوق الخير إلى الناس .
فقال:ذلك حسن جميل ولا أنكر عليكم ما تريدون .
ولكن أحب أن أدلكم على ما هو خير من ذلك وأقرب مثالا ؛أن تجعلوا لب دعوتكم المعنى الوطنى الخالص ,المصرى الخالص,القومى الخالص,فإنكم بذلك تستطيعون أن تظفروا بهدف محدد ,وتستطيعون كذلك أن تنفوا كثيرا من الشبهات والظنون ,وأت تسايروا الفكرة العالمية التى ترحب ب الجهاد الوطنى وتنفر من كل نزعة دينية ,وتستطيعون كذلك أن تطمئنوا غير المسلمين من المواطنين فتزول بذلك من طريقكم عقبات كثيرة يتعبكم ولاشك أن تزيلوها بغير هذا السبيل ,وستظل ماثلة أمامكم قائمة فى طريقكم لو ظللتم مستمسكين بدعوتكم إلى الإسلام وندائكم بقواعده بقواعده ونظمه وتعاليمه,وأنتم تعلمون أن أوروبا وأمريكا والدول الغربية المتمدينة تنفر كل النفور من مثل هذه الدعوات,وأن المعاهدات المعقودة بيننا وبين هذه الدول وآخرها معاهدة "مونترو"
مثلا- تأبى علينا أن نيسر فى هذه الطريق فلهذا أحب أن تعدلوا عن نسبة فكرتكم إلى الإسلام ولتجعلوها فكرة قومية وطنية ؛فإن هذه الجهود الجبارة التى يبذلها شباب الإخوان حرام أن تضيع هكذا من غير طائل وأن تتحطم على صخرة هذه العقبات !! ثم إذا أردتم مع هذا أن تتخذوا الدعوة الدينية ستارا تجمعون به دهماء الناس وعوامهم على فكرتكم وتقودونهم من هذا الزمام على اعتباره أقرب الوسائل إلى قلوبهم فإن لكم ذلك ,وهى حكمة فى الدعوة أقركم عليها ولا أخالفكم فيها .
قلت :إن من رأينا – أيها الإخوان – أن نرحب بكل من يتقدم إلينا بنصح أو توجيه ,وألا نعتقد فى أنفسنا الكمال بل نفترض فيها دائما النقص والخطأ – على ثقتنا والحمد لله بتوفيق الله إيانا – ونحن لهذا نرحب بكل من يتقدم إلينا بفكرة أو رأى أو نصيحة , ونحن على هذا نشكرك على غيرتك , ولكن لنا رأيا فى نظرتك وفكرتك فاسمع أيها الصديق :أما إننا نتخذ من الغكرة الدينية ستارا نجمع به دهماء الناس ونقودهم بزمامه ونحن إنما نريد بهم سبيلا غير سبيل الدين القويم أو صراطا غير صراطه المستقيم ,فهذا ما لا يدور لنا بخلد ولا يخطر ببال ,وهو الخديعة والنفاق والخبال , وما كان لفكرة حق ولا لنهضة شعب أن تقوم على المخادعة والختل أو التزييف والمكر , وأسوأ قادة لأمة أولئك الذين يقولون ما لا يفعلون و ويظهرون بما لا يبطنون , والله أعلم بما يوعون , فبشرهم بعذاب أليم , وهو المقت كل المقت , وقد نهينا عن ذلك بصريح قول الله العلى الكبير :{ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون *كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } (الصف:2-3) .
فنحن نخالفك فيما ذهبت إليه ,ولا نرى أن فكرة تبرير الوسيلة بالغاية فكرة صحيحة فى بناء النهضات الخالدة وهداية الأمم إلى سبيل الرشاد .
وأما أن دعوتنا لأنها دعوة دينية تخالف وجهة النظر العالمية التى ترمى إلى التحلل من التدين والقضاء على البقية من شعائر الأديان ومظاهرها فلا أظنك على حق فيما ذهبت إليه من ذلك ,فإن العالم بعد هذا الدرس القاسى والهوة السحيقة التى أردته فيها المطامع المادية والآراء الإلحادية والشهوات الزائغة الزائلة قد أخذ يتجه إلى هدى السماء يتلمس فيه ضياء يهديه ودواء يشفيه , على أننا لا يضرنا أن نخالف من لا يرى رأينا ما دمنا نعتقد أننا على الحق وغيرنا على الباطل , وأن نجاهر بفكرتنا ما دمنا نؤمن بأنها فكرة الإنقاذ وسواها لا يؤدى إلا إلى الهلاك والدمار .
والواقع يؤيدنا والحوادث تزكى ما نقول , ولقد قال الواقع وصدقت الحوادث :إن هذه المدينة المادية الحالية خاطئة أو ناقصة وليست كاملة أبدا لأنها عجزت عن أن تقرأ السلام فى الأرض وتسوق الإنسانية لبنى الإنسان فما تدعو إليه من الرجوع إلى هدى السماء والأخذ بتعاليم الأديان يصحح خطأها ويكمل نقصها . فلا علينا من بأس أن نجاهر الناس بهذه الحقائق , بل إنه من العقوق لأنفسنا وللعالم أن نسكت عن هذا البيان .
وأما أن دول أوروبا وأمريكا لا يرضيها أن نعود إلى الإسلام ولا أن نتقيد بنظمه وتعاليمه , وأن المعاهدات التى بيننا وبينهم تحول دون ذلك المقصد وتقف عقبة فى طريق تحقيقه فأعتقد أن ذلك غير صحيح أيضا , فإن هذه الدول وقد صرحت فى مواثيقها بأنها إنما تقاتل من أجل حرية الأمم والشعوب , ثم أعلنت أنها تدع لكل شعب حرية النظر فى تقرير نظامه الداخلى ومصيره الخارجى , لا نظنها بعد ذلك تقف عقبة فى طريق أمة تريد أن تحيا مسلمة شعارها الإسلام وغايتها السلام , ولا أظن شيئا من هذه المعاهدات يحول بيننا وبين ما نريد من محاربة للمنكرات وضرب على أيدى المجرمين وقضاء على الفساد فى الأرض , وليس فى الدنيا أمة تقبل على نفسها أن تتصف بأنها تحمى الحرية وتدافع عن المجرمين الأشرار .
وأما خوف المواطنين من غير المسلمين من أن تسود فكرة الإسلام فذلك وهم قديم لا وجود له فى هذه الأيام بعد أن ألفت الآلام والآمال بين الأرواح ووحدت بين القلوب وبين قول الإسلام نفسه فى كتابه الكريم :{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}(الممتحنة:8) . وبين أن يكون شعار المسلمين للذميين:"لهم ما لنا وعليهم ما علينا " .
وعلينا –نحن- المسلمين بعد هذا أن نكشف للناس جميعا عن تراث ديننا وسماحته وشمول أحكامه وعظم صلاحيته لكل زمان ومكان , ولا يصح أن نعتذر لتقصيرنا بخوف غيرنا , بل علينا أن نكافح ونجاهد ما استطعنا فى سبيل إقناع الجميع بوجهة نظرنا وعدالة قضيتنا وما تسوقه من خير إلينا وإلى الناس , ولانقول نخشى أن تصيبنا دائرة فقد قال تبارك وتعالى :{ فعسى الله أن يأتى بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا فى أنفسهم نادمين }( المائدة:52) .
ثم اسمع يا صديقى : إنك حين تنادى إلى الأمة الإسلامية تخدم القومية (المصرية كانت أو غير المصرية بأقوى الدوافع الى خدمتها ) وتدخل إليها من أوسع أبوابها وترتقى هذه الخدمة فى نفسك من مرتبة المشاعر إلى مرتبة الواجبات والفرائض , ويتجدد لها بين حنايا ضلوعك حافز من مراقبة الله وهو لا يغفل ولا ينسى . هذه واحدة .
ثم إنك بذلك تكون قد تخيرت النهضة وطنك أقوى الدعائم وأقوم الأصول والقواعد وأخلد المظاهر والشعائر, وهذه الثانية .
وأنت مع هذين سترضى الله تبارك وتعالى , وستنصر بجنود السماء إن خذلتك جنود الأرض وما يعلم جنود ربك إلا هو , وهذه الثالثة .
والرابعة أنك ستنضمن لفكرتك تأييد أربعمائة مليون من القلوب التى تؤمن بالإسلام وتهفو تشوقا إلى عزته ومجده فى عصر سوف لا تعيش فيه إلا المجموعات الكبيرة من بنى الإنسان .
ومع هذا فأنت كما قدمت لك حين نجاهد فى سبيل القومية أروع الجهاد ولا يتنافيان فماذا ترى؟
قال : آمنت .