دروس من حديث الثلاثاء

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
دروس من حديث الثلاثاء
بِسْــــمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

بقلم الشيخ أحمد عيسى عاشور

مقدمة

الإمام البنا وحديث الثلاثاء

الرجل والكلمة

سمعت عنه قبل أن ينتقل بدعوته من الإسماعيلية إلى القاهرة ، داعية من دعاة الإسلام الأفذاذ ، له قدم ثابتة في نشر الدعوة الإسلامية ، ولمست أثره الطيب في إصلاح المجتمع ، ذلك هو الإمام الشهيد الشيخ حسن البنا رحمه الله رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته مع النبيين والصديقين و الشهداء والصالحين ، ثم تعرفت على فضيلته في القاهرة ، وحضرت كثيرا من محاضراته التي كان يلقيها في دار (الإخوان المسلمين) الأولى والثانية ، كل يوم ثلاثاء ، حتى عرفت بحديث الثلاثاء ، أو عاطفة الثلاثاء ، كما يحنو له أن يسميها ، وكان هذا اليوم - الثلاثاء - يوما مشهودا ، يتجمع فيه الآلاف من أنحاء القاهرة ، ومن الإسكندرية إلى أسوان ، بل ومن خارج مصر ، ليستمعوا إلى حسن البنا ، يصعد المنصة في جلبابه الأبيض ، وعباءته البيضاء ، فيجيل النظر في الحاضرين لحظة ، قبل أن ينطلق صوت تتمثل فيه قوة العاطفة وسحر البيان الذي يصل إلى القلوب ، صوت لا يعتمد على الخطابة ، ولا إثارة العواطف بالصياح ، ولكن يعتمد على الحقائق ، يستثير العاطفة بإقناع العقل ، ويلهب الروح بالمعنى لا باللفظ ، وبالهدوء لا بالثورة ، وبالحجة لا بالإثارة ، حتى إن من استمع إلى هذه المحاضرة مرة واحدة لا يسعه إلا المواظبة عليها والحرص على حضورها مهما كانت الشواغل والموانع.

وكنت أنا أحد هؤلاء المأخوذين بها والحريصين على استماعها حتى أنني عزمت على نقلها إلى مجلة (الاعتصام) في وقت لم يكن الناس قد سمعوا بعد عن أجهزة التسجيل الصوتي (1940) ، ولقد وفقني الله إلى نقلها بطريقة بعيدة عن الفن الصحفي , لأني ما كنت أعرف فن الاختزال ولا تلقيته عن أحد , بل كان ذلك إلهاما من ربي , وتوفيقا منه تعالى , لأسعد بهذا التراث العظيم ولعله يكون في صالح عملي , وظللت أنقل حديث (الثلاثاء) طوال حياة الإمام الشهيد إلى قبيل وفاته رحمه الله.

وكان من عادتي الحضور إلى دار (الإخوان المسلمين) قبيل المغرب لحضور صلاة الجماعة , وبعد الأذان والإقامة كان الإمام الشهيد يطلب مني أن أصلي بالناس إماما ، فكنت أمتنع حياء منه وإكبارا له ، فكان يقول (صل بالأمر) فلا يسعني إلا امتثال الأمر نزولا على إرادته ، فإذا ما قضيت الصلاة ، انطلقت بين جموع الحاضرين للاستماع إلى الحديث ، وكنت الوحيد من بينهم الذي يسجله ومع ذلك لم أطلب مكانا مهيأ للكتابة ، بل كنت أجلس حيث ينتهي بي المجلس.

ومن المفارقات العجيبة أنني كنت في كل مرة أفاجأ بانتهاء المحاضرة ، وألمس ذلك من الحاضرين أيضا ، ذلك أن آخر المحاضرة كان يشد السامع إليها بطريقة جذابة أفضل مما يشده أولها ، ولا أدرى سر هذا ، ولكنه كان أبلغ مواهبه ، فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده.

ولقد وفقني الله في سنة 945 لأداء فريضة الحج , وشرفتني الجمعية الشرعية برئاسة بعثتها , وهناك تقابلت مع الإمام الشهيد في البلد الحرام والأرض المقدسة ، واستمعت لبعض محاضراته التي كان يلقيها في فندق (مصر) بمكة المشرفة مع رؤساء الوفود الإسلامية بدعوة من فضيلته ، كما استمعت لمحاضراته بمنى والمدينة المنورة بدار الحديث وسجلتها جميعا ، وأذكر هنا أن وفود المسلمين كانت تتقاطر في أي مكان ينزل فيه ، من إندونيسيا وجاوة وسيلان والهند ومدغشقر ونيجيريا والكاميرون وإيران وأفغانستان ، تتعرف عليه وتجتمع به ، وهو مع كل وفد منهم يتحدث عن أمور هي مصدر اهتمامهم ، يحدثهم عن قضاياهم ومشكلاتهم ، فيبهرهم كأنه قادم من بلادهم وليسوا هم القادمين عليه.

لكل هذا ، كان الناس يرون حسن البنا غريبا في محيط الناس ، بل وفي محيط الزعماء ، بطابعه وطبيعته فقد صنع تاريخا ، وحول مجرى الطريق .. فلما مات ، كان غريبا غاية الغرابة في موته ، فلم يصل عليه في المسجد غير والده ، ولم يمش خلف نعشه أحد من هؤلاء الأتباع الذين كانوا يملئون الدنيا ، لسبب بسيط هو أنهم كانوا في هذا الوقت يملئون السجون.

وإذا كان الإمام الشهيد حسن البنا قد مات ، فإن فكره لن يموت وتأثيره باق وممتد ، يتمثل في أجيال صنعها على مائدة الإسلام بأسلوب العصر ، ويتمثل في هذا المد العالمي للحركة الإسلامية التي وضع - رحمه الله - بذورها الأولى ، وحسن البنا بعد كل هذا ، هو مجدد الإسلام في القرن العشرين.

الدرس الأول: وصيتي لكم أيها الإخوان

نحمد الله تبارك وتعالى .. ونصلى ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

أيها الإخوة الفضلاء: أحييكم بتحية الإسلام تحية من عند الله مباركة طيبة فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته..

قبل أن نجيل النظر في كتاب الله تبارك وتعالى .. أحب أن أذكر الإخوان بأننا حين نلقي بهذه النظرات ، لا نقصد بها إلى استيعاب علمي ، أو تحليل فني ، وإنما نقصد بها إلى توجيه روحي وعقلي للمعاني العامة والكلية التي ألم بها كتاب الله تبارك وتعالى .. حتى يكون لنا من هذا التوجيه معين على الفهم في القرآن الكريم ، حين نتلوه ، وحين نقرؤه ، فنكون بذلك قد أخذنا بسنة التدبر والتذكر والادكار المذكور في كتاب الله تبارك وتعالى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:17). (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) (صّ:29).

نحن أيها الإخوة الأحباب لا نبغي من وراء هذه النظرات التي نلقيها على الآيات الكريمة أن نلم إلمامة شاملة كاملة بالنواحي العلمية أو الفنية في الموضوع الذي نتناوله ، ولكننا نريد توجيه الأرواح والقلوب والأذهان إلى هذه المقاصد السامية العالية التي قصد إليها كتاب الله تبارك وتعالى ـ القرآن الكريم ـ حين يتناول معنى من المعاني .. ثم أمامك يا آخي بعد هذا ، وأمام الباحثين باب البحث والتحليل ، أمامك أن تبحث كما تشاء ، وأن تدقق كما تشاء ، وإني أعتقد أيها الإخوة الأحباب أن مثل هذه اللحظات التي نسعد فيها بالتلاقي لا تعطينا الفرصة الكاملة لهذا التحليل العلمي والفني الذي يتناول الموضوع من كل أطرافه.

أيها الأحباب: إن كل ما نقصد إليه من هذه النظرات أن نجيل النظر في كتاب الله تبارك وتعالى ، فهو بحر زاخر بالدر ، من أي النواحي تأتيه ظفرت منه بالخير الكثير ، ولذا كان تجولنا في بعض المقاصد الكلية الإجمالية التي تناولتها آيات القرآن الكريم ، نتعاون أيها الإخوة على استجلائها ، فهي ـ ولله الحمد ـ جلية واضحة ، رجاء أن يجد كل منا مفتاحا للفقه في كتاب الله لتفهم آياته .. يستخدمه بينه وبين نفسه كلما وجد من نفسه فسحة من الوقت ، وكلما أراد أن يستزيد من أنوار هذا الكتاب وفوائده وفرائده ومنافعه.

ولسنا ندعي أن لهذه النظرات منتهى تنتهي إليه فكلما أجال المجيلون أنظارهم .. وكلما أدار المديرون أبصارهم في كتاب الله تبارك وتعالى ، فإن معانيه كأمواج البحر لا تنتهي ولا تتناهى فهو كلام العلي الكبير.

ووصيتي لكم أيها الإخوان أن تتصلوا بالقرآن في كل وقت فإنكم على فائدة جديدة ما اتصلتم بكتاب الله. اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، ولا أقل من ذلك يا نعم المجيب.

الدرس الثاني: واجبنا نحو القرآن الكريم

الإمام البنا الرجل القرأني

نحمد الله تبارك وتعالى ، ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.

أيها الإخوة الأحباب .. أحييكم بتحية الإسلام ، تحية من عند الله مباركة طيبة فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته .. في الحقيقة إن الإنسان ليعجب من موقف الناس أمام كتاب الله تعالى: القرآن الكريم ، وكما قلت للإخوان من قبل ، إن موقف الناس من كتاب الله في هذه الأيام ، مثلهم كمثل جماعة أحاط بهم الظلام من كل مكان ، فهم يتخبطون فيه ، ويسيرون فيه على غير هدى ، فتارة يقعون في هاوية ، وأخرى يصطدمون بحجر ، وثالثة يصطدم بعضهم ببعض ، ولا يزالون هكذا يخبطون خبطا عشوائيا ، ويسيرون في ظلام دامس ، مع أن بين أيديهم زرا كهربائيا لو وصلت إليه أصابعهم فإن حركة يسيرة يمكن أن توقد مصباحا مشرقا منيرا .. فهذا أيها الإخوان هو مثل الناس الآن ، ومثل كتاب الله وموقفهم من كتاب الله.

العالم بأسره يتخبط في دياجير الظلام .. العالم كله يسير في مسالكه على غير هدى ، أفلست النظم وتحطم المجتمع ، وتدهورت القوميات ، وكلما وضع الناس لأنفسهم نظاما ، انقلب رأسا على عقب ، والناس لا يجدون الآن سبيلا إلا الدعاء والحزن والبكاء ، ومن الغريب أن بين أيديهم القرآن الكريم كتاب الله تبارك وتعالى ..

كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمـول

لا يستطيعون سبيلا إلى الهداية ، وبين أيديهم النور (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى:52) , (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (لأعراف:157) , (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ , يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:15-16) , (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (ابراهيم:1) , (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (التغابن:8).

ثم نعود أيها الإخوان فنقول: لعله من المفهوم أن الكافرين الذين لم يفتح الله بصائرهم لهذا النور ، يسيرون في حياتهم على غير هدى ، هذا معقول ومقبول ، لأن الله تبارك وتعالى يقول: (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) (النور:40) .. ولكن فما بال المؤمنين الذين آمنوا به وصدقوه واعتقدوه وأحبوه واحترموه وعظموه ولا يخلو بيت من بيوتهم ولا يخلو جيب من جيوبهم من نسخة من كتاب الله تعالى .. القرآن الكريم.

شأنهم أيها الإخوان أن أهل الكفر قد خدعوهم عن نورهم ، وأبعدوهم عن هديهم ، وضللوهم عن طريقهم ، وأبعدوا أيديهم عن هذا المصدر الكريم ، عن زر الكهرباء ، تارة بالسياسة وتارة بالعلم الدنيوي (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:7) .. وطورا بالمال وأخرى بالشهوات وخامسة بالخداع وتارة بالقوة والقهر والجبروت.

كل هذه الوسائل أيها الإخوة استخدمها أهل الكفر ، وأبعدوا الناس ، أبعدوا المسلمين عن هديهم ، وسايرهم المسلمون حينا من الدهر ، وجروا وراء ضلالهم .. فكانت النتيجة أن نسي المسلمون مصدر هذا الهدي ، واتبعوا الكافرين مع أن الله تبارك وتعالى قد حذرهم من ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ , بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) (آل عمران:150)..

أيها الإخوان .. ولما كان قد سبق في علم الله تعالى أن أهل الكفر قد يهددون أهل الإيمان بما بين أيديهم من قوة وبأس ، فأراد سبحانه أن يستأصل من قلوب المسلمين هذه الشبهة فقال: (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (آل عمران:151) .. ثم يأتى الله سبحانه بحادثة تطبيقية لتكون مقرونة بالدليل القاطع (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:152).

هكذا أيها الإخوان يحذر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالقرآن ، من أن ينهجوا نهج أهل الكفر ، أو أن ينخدعوا بحيلهم وبخدعهم ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) (آل عمران:100) , (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ , وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران:102-103) , (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) (آل عمران:149).

فأهل الكفر ، مطبوعون على الخداع وعلى الكيد لأهل الإيمان (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) (البقرة:109) , (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) (النساء:89) , (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (الممتحنة:2).

وبكل الوضوح أيها الإخوة فإنه لن تبرأ هذه الصدور من هذه المودة .. مودة أن يعود المؤمنون كفارا (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) (البقرة:217).

فهذا تصوير صادق لعاطفة أهل الكفر نحو أهل الإيمان . . ومع كل هذا فقد استولت عليهم سماحة أهل الإيمان ونسوا هذا التحذير (هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ , إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) (آل عمران:119-120).

ورغم هذا التحذير ، ورغم أن كتاب الله قد كشف عن أنفسهم هذا الكشف ، بعد كل هذا نهوي بأنفسنا إلى الهاوية ، ونسير في أذناب أهل الكفر ، ونعمل كما يعمل أهل الكفر ، وهم يخدعوننا عن هذا بكل وسيلة وبكل أسلوب ، فإن كان هذا النور ليس له وجود عند الكافرين ، فقد أفلحوا بالفعل في أن يبعدونا عن هذا النور.

فما هو الموقف الآن أيها الإخوان ؟.. الموقف الآن هو أن أهل الكفر لا يؤمنون بهذا النور، وأهل الإيمان لا يعملون به ، وهذا موقف مؤلم ، موقف كله عقوق للإنسانية ، ومن هنا يجب على الذين اهتدوا بهدي القرآن أن يعملوا على أن ينقذوا أنفسهم وأن ينقذوا الناس .. فما هو واجبنا نحن الذين آمنا بالقرآن ؟ واجبنا أيها الإخوان نحو القرآن الكريم أربعة:

أن نؤمن إيمانا جازما لازما قويا لا ضعف فيه ولا وهن معه بأنه لا ينقذنا إلا منهاج اجتماعي مستمد من كتاب الله تبارك وتعالى ، منهاج مأخوذ من كتاب الله وصادر عنه ، وأن كل نظام اجتماعي حيوي لا يعتمد على القرآن الكريم ولا يستمد من القرآن الكريم في كل ناحية من نواحي الحياة ، منهاج فاشل .. فمثلا ، هم يعالجون الحالة الاقتصادية بترقيعات لا تسمن ولا تغنى من جوع على حين أن القرآن الكريم :

ـ نظم الزكاة . ـ حرم الربا. ـ أوجب الكسب والعمل. ـ منع الترف. ـ أوجد التراحم بين الناس.

وبهذا تحل مشكلة الفقر ، وبغير هذا لا يمكن أن يكون ، وغير هذا لا يتعدى أن يكون مسكنات وقتية .. ومثلا ، في مشكلة الصحة ، تجدون أيها الإخوان ، أن مثلهم كمثل من يفتح حنفية قطرها ثلاثة ملليمترات وتحتها بالوعة قطرها ثلاثة أمتار فيعملون مستشفيات متنقلة ، ووحدات صحية ، ولكن أصل الداء لم يستأصل ، مستوى المعيشة منحط ، بينما الإسلام يأمر برفع هذا المستوى ، المنكرات تحطم وتهدم كما يقول سيدنا رسول الله: (لم تظهر الفاحشة في قوم قط ، حتى يعلنوا بها ، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا).

وهناك أيها الإخوة مثل آخر وهو حالة محاربة الجريمة:

هل نضع السارق في السجن ليتخصص على أساتذة الإجرام؟.. وكلما طالت مدة إقامته في السجن زاد تخصصه في الإجرام ؟.. وإذا كان الأخذ بهذا النص القرآني قد أفادت البلاد منه كثيرا ، فما بالك يا أخي لو طبق النظام جميعه . الإسلام وحدة واحدة أيها الإخوان ، لا يقبل الشركة ، فيجب أن نؤمن بأن الإسلام هو الصالح لإنقاذ هذه الأمة من كل ناحية من نواحي حياتها .

وعلينا بعد ذلك ـ نحن المسلمين ـ نحو كتاب الله تبارك وتعالى ، أن نتخذ منه أنيسا وسميرا ومعلما ، نتلوه ونقرأه ، وألا يمر بنا يوم من الأيام حتى تكون لنا صلة بالله تبارك وتعالى ، فهكذا كان أسلافنا رضى الله عنهم ، ما كانوا يشبعون من القرآن الكريم ، وما كانوا يهجرونه ، بل كانوا يتفانون في ذلك حتى تدخل رسول الله r في هذا ، ونهاهم عن الغلو فيه ، فلا أقل يا أخي من أن يكون لك ورد من القرآن ، مهما كان هينا ، ومهما كان يسيرا ، والسنة ألا تزيد على شهر للختمة ، ولا تقل عن ثلاثة أيام ، وقد كان سيدنا عمر بن عبد العزيز إذا شغل بمصلحة من مصالح المسلمين جاء بالمصحف وقرأ ولو آيتين أو ثلاثا ، ويقول: (حتى لا أكون ممن اتخذوا هذا القرآن مهجورا) ، ويقول رسول الله r : (من استمع إلى آية من كتاب الله ، كتبت له حسنة مضاعفة ، ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة) ، أما من حفظ القرآن ثم نسيه ، فقد ارتكب إثما عظيما ، فيجب أيها الإخوة أن تكثروا من تلاوة القرآن الكريم ، وأن تجعلوا لأنفسكم وردا من كتاب الله تبارك وتعالى ، وأن تواظبوا عليه اقتداء بسلف الأمة ، واقتداء بأمر الله تبارك وتعالى ، وانتفاعا بما في كتابه سبحانه .

وعلينا بعد ذلك أن نلاحظ ـ حين نقرأ القرآن ـ آداب التلاوة ، وحين نسمع كتاب الله آداب الاستماع ، وأن نحاول ما استطعنا أن نتدبر وأن نتأثر ، يقول رسول الله r : (إن هذا القرآن نزل بحزن ، فإن قرأتموه فابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا) .. ومعنى هذا يا أخي ، أنه إذا لم يكن قلبك حاضرا بالدرجة التي تتأثر بها فحاول أن تتأثر ، ولا يصرفنك الشيطان عن جمال التدبر فلا تتأثر ، وواظب حتى إذا لم يكن في القراءة إلا تحريك اللسان فاقرأ.. وليكن لك وقت للحفظ ، ووقت للذكر ، وحاول أن تتأثر بالقرآن تأثرا حقيقيا .. ذكروا أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذهب في ليلة يعس ، فسمع قارئا يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم (وَالطُّورِ , وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ , فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ , وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ , وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ , وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ , إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ , مَا لَهُ مِن دَافِع) (الطور:1-8) فحين سمع هذا قال : (قسم حق ورب الكعبة) , وخرّ مغشيا عليه ، فاحتمله صحابي يدعى أسلم ، وذهب به إلى بيته ، وبقى هناك مريضا ثلاثين يوما يعوده الناس .. وكذلك يا أخي كان عمر بن عبد العزيز ، جاء بعد العشاء فتوضأ ، ووقف يصلى .. وكان يقرأ : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ , مِن دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ , وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) (الصافات:22-24) ومازال يكرر قوله تعالى (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) حتى جاء المؤذن يؤذن لصلاة الصبح..

هكذا أيها الإخوان كان تأثرهم بكتاب الله تبارك وتعالى ، وكانوا على أيام الإمام الشافعي إذا أرادوا في مكة أن يتأثروا بكتاب الله ، أرسلوا إليه فيقرأ ، ولا يرى إلا باكيا في مثل هذا اليوم ، ونحن أيضا علينا أن نقرأ القرآن قراءة مثمرة..

وإذا كان القرآن يصل إلى قلوب الكافرين وهم أبعد خلق الله عن التأثر بكتاب الله ، فما بالنا؟! هذا مثلا عتبة بن ربيعة ـ وهو منهم ـ يقول حين سمعه من رسول الله r : (إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو من كلام البشر) ، وما كان من النجاشي وقومه حين سمعوا لجعفر وهو يتلو ، ففاضت أعينهم من الدمع ، فكيف يكون شأن المؤمن؟! إن شأن المؤمن في تلاوة كتاب الله تبارك وتعالى يكون كما قال سبحانه: (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:23).

وبعد أن نؤمن يا أخي بأن كتاب الله هو المنقذ الوحيد ، بعد هذا يجب علينا أن نصل إلى العمل بأحكامه ، وأحكام القرآن الكريم كما تظهر لنا ، وكما نعلمها تنقسم قسمين:

ـالأحكام الفردية:

التي تخص كل إنسان بنفسه ، كالصلاة والصيام والزكاة والحج والتوبة والاستغفار ، والأخلاق من صدق ووفاء ومن شهادة ومن أمانة ، فهذه الأحكام يا أخي تتعلق بالمجتمع العام ، ويستطيع كل إنسان أن يؤديها بنفسه ، فحين تقرأ القرآن يجب أن تقف عند أحكامه وحدوده ، فمن لم يكن يصلى ، ويقرأ قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (النور:56) فلابد أن يصلى وحين تقرأ : (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) (لأعراف:85) فيجب أن تؤدى إلى كل ذي حق حقه ، وجب ألا تحتاج إلى من يحملك على هذا ، فالحلال بين والحرام بين.

والقسم الثاني:

هو الأحكام التي تتصل بالمجتمع ، الأحكام التي تتعلق بالحاكم ، وهذه واجبات الدولة ، مثل الحدود و الجهاد ، فالأمور التي هي من أعمال الدولة في الإسلام يجب على الدولة أن تنفذها ، وإن لم تنفذها فهي مسئولة بين يدي الله تبارك وتعالى ، وواجب الشعب في هذه الحالة أن يطالب بتنفيذها ، فإن الإسلام لا يعفى الأمة من المسئولية.

والآن .. كيف تصل الأمة إلى هذا ؟

على الأمة أولا أن تتحد .. على الأمة أن تجمع كلمتها وتطالب وتلح في الطلب ، وأن تتخذ في هذا كل سبيل .. خصوصا إذا كان نظام الدولة كنظام الدولة في مصر .. فإذا كان ذلك كذلك ، فلا عذر لأحد في عدم الجهر بهذا الأمر ، والأمة غير معفية من مراقبة الدولة.

علينا أيها الإخوان أن نوحد صفنا ، علينا أن نجمع كلمتنا ، حتى نكون قوة يحسب حسابها ، وتكون لها كلمتها ، وتجد الدولة نفسها أمام الأمر الواقع ، وبذلك نصل من قريب أو من بعيد إن شاء الله تبارك وتعالى ..

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

الدرس الثالث: الإنسان في القرآن

نحمد الله تبارك وتعالى ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وآله ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين ، أيها الإخوة الأحباب تحية من عند الله مباركة طيبة فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته..

تذكرون أيها الأحباب أننا وعدنا أن يكون كلامنا في حديث هذه الليلة نظرات في كتاب الله تبارك وتعالى ، ولست أقصد بهذه النظرات أن تكون إحصاء لحقائق علمية ولا عرضا لمذاهب خلافية أو لكثير من وجوه التفسير ، لم أقصد لهذا ، ولكني قصدت إلى أمر واحد أحب أن أذكره لكم ، ذلك أنني أريد أن أمهد سبيل الفهم لكتاب الله بين يدي من يقرؤه ، أريد أن أعرض للمعاني الكلية ، وأن أفسح باب الفهم لكتاب الله تبارك وتعالى ، لعلكم تذكرون أيها الإخوة ، الحكمة التي تقول: (من عرف نفسه فقد عرف ربه) ، فأنت يا أخي إذا عرفت نفسك حق المعرفة وإذا أدركت الوضع الصحيح الذي وضعك الله فيه ، والمكانة والمنزلة التي أنزلك إياها ، استطعمت أن تقوم بحق نفسك ، وحق ربك ، فتصل بذلك إلى معرفة الله تعالى (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذريات:21) ، فنحن نريد يا أخي أن نستبصر لنرى ، أين هي مكانتنا كبشر؟ ، وما هو واجبنا ونحن في هذه المكانة؟ ، نريد أن نعلم الوضع الرباني الذي وضعنا الله فيه ، لنقوم بحق أنفسنا ، ثم لنعلم تبعا لذلك حق الله علينا ..

وحينما نعرض يا أخي لهذا الموضوع من هذه الزاوية ، نجد أنه يدور حول محور أساسي وهو قصة آدم عليه السلام ، وقد ذكرت هذه القصة في مواضع كثيرة من القرآن ، في سورة البقرة ، في سورة الأعراف ، في سورة الحجر , في سورة الإسراء ، في سورة طه , في سورة ص ، في سورة الرحمن ، في هذه السور جميعا إلمامة حق بخلق الإنسان .. فأنت ترى يا أخي أن الله تبارك وتعالى ذكر الإنسان في كثير من سور القرآن ، في سورة البقرة: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة:28)، وفى نفس السورة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:30) ، هذه قصة الإنسان في القرآن كما صورتها سورة البقرة.

وفى سورة الأعراف يأتي هذا العرض بشيء من التفصيل ، (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ , قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ , قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ , قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ , قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ , قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ , ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ , قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ , وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ , فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ , وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ , فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ , قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ , قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ , قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ) (الأعراف:11-25)

هذه الآيات تناولت قصة آدم عليه السلام بشيء من التفصيل تناولت ما كان بين الحق تبارك وتعالى وبين الشيطان ، وتناولت ما كان من الأسباب في ضلالة الشيطان ، وهو الكبر، وما كان من أسباب زلة آدم ، وهو الاغترار به.

وأيضا كذلك يا أخي ترى هذا المعنى في سورة الحجر بشيء من التفصيل .. فتعرض الآيات خلق الله تبارك وتعالى للإنسان من صلصال من حمأ مسنون ، كيف سواه ونفخ فيه من روحه ، ثم أمر الملائكة أن يسجدوا له ، لهذا السر الإلـهي وهذه اللطيفة الربانية ، فسجد الملائكة إلا إبليس الذي ادعى بأنه لم يكن ليسجد لبشر من صلصال من حمأ مسنون ، ذكر المادة فقط ونسى أنها لا تزن شيئا قبل أن ينفخ الله فيها من روحه.

كان إبليس متكبرا فأعماه الكبر عن إدراك السر الذي من أجله وجب عليه السجود ، فوجبت عليه اللعنة (قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ , وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ , قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ , قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ , إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ , قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ , إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ , قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ , إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) (الحجر:34-42).

وهنا تجد يا أخي أن القصة قد عرضت بتوافق واشتراك في المعاني الكلية ، وبتفصيل في بعض المواقع ، ففيها أن إبليس قد اعترف بربوبيته تعالى ، وفيها يبين الله عز وجل أن هناك فريقا ليس لإبليس سلطان عليهم..

وفي سورة الإسراء ، تجد إلمامة موجزة بقصة آدم ، تلمس منها شيئا عن طريقة استيلاء إبليس على الناس وبيان أكاذيب وعوده لهم . .

(قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً , قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا , وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا , إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا) (الإسراء:62-65)

وفي سورة طه تجد يا أخي إلماما بالصورة العامة للقصة ، واشتراكا في الوقائع والمعاني الكلية ، ولكن تلمس إشارة إلى أن الإنسان ضعيف ما لم يدركه الله بقوته وأشار إلى أن الإنسان من طبائعه النسيان ، فنسي وطمع ، (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى , فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى , ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (طـه:120-122).

وقع هذا بعد أن كان الله قد عهد إلى آدم وأوصاه ، فنسي وضعف ولم يكن له من العزم ما يدفع به وساوس الشيطان..

وفى سورة ص يأتي العرض بتفسير أن الصلصال والحمأ المسنون كان طينا ، ويتجلى تكريم الله تبارك وتعالى للإنسان فيها (قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ) (صّ:75) , وفيها إقرار إبليس بعزة الله تبارك وتعالى ، وأن اللعنة التي نزلت عليه لعنة ربانية.

وحينما نلقي نظرات على سورة الرحمن بعد أن القصة قد ألمت بعنصر الإنسان المادي (خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) (الرحمن:14) , وفيها إشارة إلى أن عنصرنا هو من طينة هذه الأرض ، ومن جوهرها ومن معدنها.

وإذا نظرنا إلى القصة بظاهرها كما جاءت في هذه الآيات الكريمة من سور القرآن الكريم ، نجدها تدل على شيء واضح وجلي ، لا يقبل التأويل ، وهو أن الإنسان في شكله المادي قد خلق على غير مثال سابق عليه ، وليس متسلسلا عن غيره كما يقول بعض علماء الحيوان.

ولكن هناك مذاهب مادية أيضا تفند ما ذهب إليه القائلون بتسلسل الإنسان عن غيره ، إذ اعترف دارون نفسه بأنه لم يستطع أن يعرف سر الحياة ، واعترف بأنه كلما تعمق في بحوثه هذه أدرك أن أصل الحياة هو الله تبارك وتعالى ، أما كيفية الخلق ، فلم يفصلها القرآن الكريم ، ولم تعرض لها السنة في آثار مفصلة ولكن ما نؤمن به هو أنك أيها الإنسان بمادتك فقط دون روحك جزء من الأرض التي أنت عليها ، وأنك لست نوعا من أنواع الحيوان يتغير حسب بيئته , وأن ما يتعلل به زعماء المادية وعلماؤها من شبهات في هذا الأمر ، إنما هو مجرد فروض افترضها علماء الحيوان , (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36) هذا من ناحية التكوين المادي للإنسان ، التكوين الطيني كما ذكره القرآن الكريم.

الإنسان من كائنات الملأ الأعلى

ثم نأتي للتكوين الروحي (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) وهنا يتبين يا أخي أن الإنسان ليس عنصرا واحدا ، ليس مادة فقط ، ولا طينا فحسب ، ولكنه طين قد نفخ فيه من روح الله تبارك وتعالى ، إنك يا أخي لست هذا الغلاف الطيني ، لست هذا الغلاف اللحمي ، ولكنك خلق من روح الله ، لم تكن قبله سوى قبضة من الطين ، وأنت بعده صرت بشرا سويا ، فأنت بذلك كائن من كائنات الملأ الأعلى ، لأن إنسانيتك لم تتكون ولم تكن تتشكل إلا بعد أن نفخ الله فيك من روحه ، أما حقيقة هذه الروح وماهيتها وكنهها وسرها ، فلا شأن لك بها ، وإنما يكفي أن تعلم يا أخي أن هذه الروح عنصر رباني ، وأن كل ما يتصل بالله تبارك وتعالى فهو أكبر من تفكير الإنسان وفوق قدرة عقله وأبعد عن استنتاجه..

وهناك معنى ثالث تعرضه القصة ، هذا المعنى يتصل يا أخي بنسبتك كإنسان إلى الملائكة ، ومكانتك من هذا الخلق الرباني النوراني ، أنت ترى أن الله تعالى قد أسجد لك الملائكة بعد أن أمدك بروح منه ، فأنت بذلك أيها الإنسان أعظم عند الله من الملائكة فلو أنك حققت إنسانيتك كنت أسمى من الملائكة ، أما إذا ما نسيت فقد لحقت بالشيطان ، لو أديت حقوق هذه الإنسانية كما أرادها الله تبارك وتعالى ، لخدمتك الملائكة ، ولقد ثبت أن الملائكة كانوا يعودون المرضى من الصالحين ويوضح القرآن الكريم أنهم سيكونون في خدمتك يوم القيامة ، فالملائكة يا أخي ما هم إلا عباد لله ، وخلق من خلقه ، لا يعصون الله تعالى ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وأن التجلي الإلهي عليهم ، تجل من ناحية واحدة ، ناحية الطاعة ، أما تجليه سبحانه وتعالى عليك أيها الإنسان فهو أعظم ، لأنه تجلى الاختيار.

والمعنى الرابع الذي تعرضه القصة ، يتعلق بصلتك بالشيطان ونجد يا أخي أن العرض قد أوضح هذه العلاقة ، في أن بينك وبين الشيطان عداوة وخصومة عنيفة ممتدة ، حتى أن الحياة في جوهرها ليست إلا صراعا بينك وبينه ، وقد حذرك الله تعالى منه في أكثر من موضع من القرآن الكريم (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) (البقرة:36) ,(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ , وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (يّـس:60-61).

والمعنى الخامس الذي تتناوله القصة ، يتعلق بمكانك أيها الإنسان ، بمقرك وموطنك ، فلقد ذكرت القصة أنك مخلوق من الكائنات العلوية ، نشأت في الملأ الأعلى ، ثم أهبطت على هذه الأرض اختيارا ، ثم أنك إلى هذا المقر والمكان والموطن العلوي تعود إذا أنت عرفت طريق الرجوع ، ورحم الله القائل : حي على جنات عدن.

ثم لم يقف القران في تناوله لقصة الإنسان عند حدود ، فيأتي المعنى السادس الذي تناول فيه نسبة الإنسان إلى الكون كله ، فإذا به كائن علوي بين الكائنات ، وله الخلافة في هذه الدنيا (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة:30) ، فالأرض قد سلمت للإنسان ، ليعمرها لا ليخربها أو يدمرها.

ثم هو مسلط عليها ، والكون كله مسخر له (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان:20) ، فمنزلة الإنسان تتجلى في هذا القول:

قد رشحوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل فأنت أيها الإنسان ، الخليفة المنتدب لتعمير الأرض ، وسخر الله لك فيها كل شيء فيها حتى تؤدى مهمتك بإخلاص ، هذه يا أخي منزلتك بين الكائنات.

ثم يأتي الحديث عن نسبة الإنسان للإنسان ، أو المعنى السابع الذي لم يتركه القرآن الكريم ، فإذا به ينادى: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) (آل عمران:195) ، )(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13).

لم يجعل الله تعالى الأمم والقبائل والشعوب لتتنافر أو لتتناحر ، بل جعلها سبحانه وتعالى لتتعارف وتتعاون ، ونسبة الإنسان للإنسان في القرآن هي الأخوة ، الإنسان أخو الإنسان ، على أساس نسبته كإنسان إلى الله تعالى التي أجملها في القرآن في قوله : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ) (الذريات:56).

نتيجة عملية ـ الروح والنفس:

الإمام البنا هذا الرجل الرباني

وعند ذلك يا أخي نريد أن نتناول ناحية ، عرض لها القرآن الكريم بصفة خاصة وهى ناحية الروح الإنساني ، هذه الروح يا أخي هي في الواقع لب الإنسانية ، وهى لذلك تقع موقع القلب من بحثنا هذا ، وهى النتيجة العملية لهذا الحديث ، أنت تعلم يا أخي أن لك تكوينا روحيا ، وأن الله تعالى قد نفخ فيك من روحه ، حقيقة هذه الروح لا تعنيك ، لأن الله تبارك وتعالى قد أمر نبيه أن يجيب السائلين عن أمر الروح بأنها من أمر الله ، ولا شك أن الروح عنصر عظيم , جليل ، مشرق ، مستنير ، لأنه من أمر الله ، ولاشك أنه عالم فوق المادة ، فوق هذه النواميس الأرضية ، عالم كله نور ، كله إشراق ، كله صفاء ، ولكن عندما يذكر القرآن الكريم النفس الإنسانية ، فإنه يذكر صفاتها فيقول الله تبارك وتعالى:

(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد:10) , ويقول : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا , فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس:7-8) ، فالنفس المجردة يا أخي ، هي نفس مخيرة تفعل الخير وتفعل الشر . . تقدر على الخير ، وتقدر على الشر ، وقد وضع الله تعالى بين يديها الوسائل التي تستخدمها وتستعين بها إلى الخير ، إن اتجهت إليه. وتستخدمها إلى الشر إن اتجهت إليه ، هذه اللطيفة الربانية هي التي تقدر وتتدبر ، تستطيع يا أخي أن تدرك الخير والشر ، وتميز بينهما . . وهذه اللطيفة الربانية مستعدة دائما للترقي العلمي والعرفاني إلى أقصى الحدود الممكنة ، فلست يا أخي ملكا ، كل اتجاهك إلى الخير ، كما أنك يا أخي لست شيطانا كل اتجاهاتك إلى الشر ، ولكنك مهيأ بحكمة الله للاتجاهين فنفسك الإنسانية واسعة الحدود ، مرنة الطبيعة ، تقبل الخير ، كما تقبل الشر..

هذا ، ونلاحظ يا أخي أنه مع التسامي بالنفس الإنسانية في القرآن الكريم ، ومع أن هذه النفس عالمة فاضلة ، مع أنها مشرقة مستنيرة ، فإن الإنسان لا يذكر في القرآن إلا ومعه الميل إلى الشر ، (وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (الأحزاب:72) , (إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (العاديات:6) ، (وَالْعَصْرِ , إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر:1-2) ، (إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً , إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً , وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (المعارج:19-21) ، وذلك يا أخي ، لأن النفس الإنسانية حينما احتلت هذا الجسم ، وهى بوضعها الرباني ، نسيت وجهلت وتطبعت بطابع الإناء والوعاء الذي نزلت فيه ، تطبعت بميول المادة وبخصائصها ، ليس هذا فحسب ، بل إن الشيطان قد سلط عليها ، ومازال يسيطر عليها ويزين لها. وإذا كانت النفس قد خدعت بالشيطان وهى في أمرها الأول ، فما بالك يا أخي وقد نزلت إلى وطنها الثاني وإلى وعائها المادي ، مع علو الأصل ومع سمو الخلق.

والآن يا أخي ، ما الدواء؟ وما العلاج؟ ، هل تهوي الإنسانية ؟! ... أبدا لن تهوي (إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ , إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر:3) (إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً , إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً , وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا , إِلا الْمُصَلِّينَ , الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ) (المعارج:19-23) ،

إذن يا أخي ، فالعلاج لهذا الصدأ في المطهر لهذه الأدران ، هناك المدد من النور ، وذلك هو الجهاد الدائم المستمر ، لم يتركك الله سدى ، بل أرسل إليك الرسل ومعهم الكتب ، حتى يمكن حفظ الروح على طهرها ، وحتى يدوم إقبالك على الله ، بفضله وهدايته ، ولقد أشار القران الكريم إلى أن للنفس في هذا الجهاد مراحل ودرجات ، فداوم يا أخي صلتك بالله ، وداوم ذكرك لله ، وطاعتك له ، وإقبالك على الله ، هذا هو الجلاء الذي يجلو نفسك كلما هبطت إلى مستوى المادة (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (يوسف:53) ، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69). وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم