رسائل الإمام الشهيد حسن البنا
الإمام الشهيد/ حسن البنا (1906 م- 1949 م)
دعوتنا
مصـــارحة
نحب أن نصارح الناس بغايتنا ، وأن نجلي أمامهم منهجنا ، وأن نوجه إليهم دعوتنا ، في غير لبس ولا غموض ، أضوأ من الشمس وأوضح من فلق الصبح وأبين من غرة النهار.
بـــراءة
ونحب مع هذا أن يعلم قومنا – و كل المسلمين قومنا – أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة بريئة نزيهة ، قد تسامت في نزاهتها حتى جاوزت المطامع الشخصية ، واحتقرت المنافع المادية ، وخلفت وراءها الأهواء والأغراض ، ومضت قدما في الطريق التي رسمها الحق تبارك وتعالى للداعين إليه :
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108) . فلسنا نسأل الناس شيئا ، و لا نقتضيهم مالا ولا نطالبهم بأجر ، ولا نستزيد بهم وجاهة ، ولا نريد منهم جزاء ولا شكورا ، إن أجرنا في ذلك إلا على الذي فطرنا.
عـاطــفة
و نحب أن يعلم قومنا أنهم احب إلينا من أنفسنا ، و أنه حبيب إلى هذه النفوس أن تذهب فداء لعزتهم إن كان فيها الفداء ، و أن تزهق ثمنا لمجدهم و كرامتهم و دينهم و آمالهم إن كان فيها الغناء، و ما أوقفنا هذا الموقف منهم إلا هذه العاطفة التي استبدت بقلوبنا و ملكت علينا مشاعرنا ، فأقضت مضاجعنا ، و أسالت مدامعنا ، و إنه لعزيز علينا جد عزيز أن نرى ما يحيط بقومنا ثم نستسلم للذل أو نرضى بالهوان أو نستكين لليأس ، فنحن نعمل للناس في سبيل الله أكثر مما نعمل لأنفسنا، فنحن لكم لا لغيركم أيها الأحباب ، و لن نكون عليكم في يوم من الأيام.
لله الفضل و المنة
و لسنا نمتن بشيء ولا نرى لأنفسنا في ذلك فضلا ، و إنما نعتقد قول الله تعالى :
( بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17) .
وكم نتمنى – لو تنفع المنى – أن تتفتح هذه القلوب على مرأى و مسمع من أمتنا ، فينظر إخواننا هل يرون فيها إلا حب الخير لهم و الإشفاق عليهم و التفاني في صالحهم ؟
وهل يجدون إلا ألما مضنيا من هذا الحال التي وصلنا إليها ؟ و لكن حسبنا أن الله يعلم ذلك كله ، و هو وحده الكفيل بالتأييد الموفق للتسديد، بيده أزمة القلوب و مفاتيحها ، من يهد الله فلا مضل له و من يضلل الله فلا هادي له و هو حسبنا و نعم الوكيل . أليس الله بكاف عبده؟
أصناف أربعة
و كل الذي نريده من الناس أن يكونوا أمامنا واحدا من أربعة :
مؤمـن :
إما شخص آمن بدعوتنا و صدق بقولنا و أعجب بمبادئنا ، و رأى فيها خيرا اطمأنت إليه نفسه ، و سكن له فؤاده ، فهذا ندعوه أن يبادر بالانضمام إلينا و العمل معنا حتى يكثر به عدد المجاهدين و يعلوا بصوته صوت الداعين ، و لا معنى لإيمان لا يتبعه عمل ، و لا فائدة في عقيدة لا تدفع صاحبها إلى تحقيقها و التضحية في سبيلها ، و كذلك كان السابقون الأولون ممن شرح الله صدورهم لهدايته فاتبعوا أنبيائه و آمنوا برسالاته و جاهدوا فيه حق جهاده ، و لهؤلاء من الله أجزل الأجر و أن يكون لهم مثل ثواب من اتبعوهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا.
متـردد :
وإما شخص لم يستبين وجه الحق ، و لم يتعرف في قولنا معنى الإخلاص و الفائدة ، فهذا نتركه لتردده و نوصيه بأن يتصل بنا عن كثب ، و يقرأ عنا من قريب أو بعيد ، و يطالع كتاباتنا و يزور أنديتنا و يتعرف إلى إخواننا ، فسيطمئن بعد ذلك لنا إن شاء الله ، و كذلك كان شأن المترددين من أتباع الرسل من قبل .
نفـعي :
وإما شخص لا يريد أن يبذل معونته إلا إذا عرف ما يعود عليه من فائدة و ما يجره هذا البذل له من مغنم فنقول له : حنانيك ليس عندنا من جزاء إلا ثواب الله إن أخلصت ، و الجنة إن علم فيك خيرا ، أما نحن فمغمورون جاها فقراء مالا ، شأننا التضحية بما معنا و بذل ما في أيدينا ، و رجاؤنا رضوان الله سبحانه و تعالى و هو نعم المولى و نعم النصير ، فإن كشف الله الغشاوة عن قلبه و أزاح كابوس الطمع عن فؤاده فسيعلم أن ما عند الله خير و أبقى ، و سينضم إلى كتيبة الله ليجود بما معه من عرض الحياة الدنيا لينال ثواب الله في العقبى ، و ما عندكم ينفد و ما عند الله باق , و إن كانت الأخرى فالله عني عمن لا يرى لله الحق الأول في نفسه و ماله و دنياه و آخرته و موته و حياته , و كذلك كان شأن قوم من أشباهه حين أبوا مبايعة رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا أن يجعل لهم الأمر من بعده , فما كان جوابه صلى الله عليه و سلم إلا أن أعلمهم أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده , و العاقبة للمتقين
متحامـل :
و إما شخص أساء فينا ظنه و أحاطت بنا شكوكه ، فهو لا يرانا إلا بالمنظار الأسود القاتم ، و لا يتحدث عنا إلا بلسان المتحرج المتشكك ، و يأبى إلا أن يلج في غروره و يسدر في شكوكه و يظل مع أوهامه ، فهذا ندعو الله لنا و له أن يرينا الحق حقا و يرزقنا اتباعه و الباطل باطلا و يرزقنا اجتنابه ، و أن يلهمنا و إياه الرشد ، ندعوه إن قبل الدعاء و نناديه إن أجاب النداء و ندعو الله فيه و هو أهل الرجاء ، و لقد أنزل الله على نبيه الكريم في صنف من الناس :(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) (القصص:56) .
وهذا سنظل نحبه و نرجو فيئه إلينا و اقتناعه بدعوتنا ، و إنما شعارنا معه ما أرشدنا إليه المصطفى صلى الله عليه و سلم من قبل : (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
نحب أن يكون الناس معنا واحدا من هؤلاء ، و قد حان الوقت الذي يجب فيه على المسلم أن يدرك غايته و يحدد وجهته ، و يعمل لهذه الوجهة حتى يصل إلى غايته المنشودة ، أما تلك الغفلة السادرة و الخطرات اللاهية و القلوب الساهية و الانصياع الأعمى و اتباع كل ناعق فما هو من سبيل المؤمنين في شيء .
فــنـاء
و نحب أن يعلم قومنا إلى جانب هذا أن هذه الدعوة لا يصلح لها إلا من حاطها من كل جوانبها و وهب لها ما تكلفه إياه من نفسه و ماله و وقته و صحته ، قال تعالى :
(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24) .
فهي دعوة لا تقبل الشركة إذ أن طبيعتها الوحدة فمن استعد لذلك فقد عاش بها و عاشت به ، و من ضعف عن هذا العبء فسيحرم ثواب المجاهدين و يكون مع المخلفين و يقعد مع القاعدين ، و يستبدل الله لدعوته به قوما آخرين (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) (المائدة:54) .
وضــوح
نحن ندعو الناس إلي (مبدأ) .. مبدأ واضح محدود مسلم به منهم جميعاً ، هم جميعاً يعرفونه ويؤمنون به ويدينون بأحقيته ويعلمون أن فيه خلاصهم وإسعادهم وراحتهم ... مبدأ أثبتت التجربة وحكم التاريخ صلاحيته للخلود وأهليته لإصلاح الوجود .
إيمانان
والفرق بيننا وبين قومنا بعد اتفاقنا في الإيمان بهذا المبدأ أنه عندهم إيمان مخدر نائم في نفوسهم لا يريدون أن ينزلوا علي حكمه ولا أن يعملون بمقتضاه ، علي حين أنه إيمان ملتهب مشتعل قوي يقظ في نفوس الإخوان المسلمين .
ظاهرة نفسية عجيبة نلمسها ويلمسها غيرنا في نفوسنا نحن الشرقيين أن نؤمن بالفكرة إيمانا يخيل للناس حين نتحدث إليهم عنا أنها ستحملنا علي نسف الجبال وبذل النفس والمال واحتمال المصاعب ومقارعة الخطوب حتى ننتصر بها أو تنتصر بنا ، حتى إذا هدأت ثائرة الكلام وانفض نظام الجمع نسي كل إيمانه وغفل عن فكرته ، فهو لا يفكر في العمل لها ولا بحدث نفسه بأن يجاهد أضعف الجهاد في سبيلها ، بل إنه قد يبالغ في هذه الغفلة وهذا النسيان حتى يعمل علي ضدها وهو يشعر أو لا يشعر ؟ أولست تضحك عجباً حين تري رجلاً من رجال الفكر والعمل والثقافة في ساعتين اثنتين متجاورتين من ساعات النهار ملحداً مع الملحدين وعابداً مع العابدين ! .
هذا الخور أو النسيان أو الغفلة أو النوم أو قل ما شئت هو الذي جعلنا نحاول أن نوقظ (مبدأنا) وهو هو المبدأ المسلم به من قومنا في نفوس هؤلاء القوم المحبوبين .
دعــــوات
وإذن سأعود إلي أول كلمتي فأقول إن دعوة الإخوان المسلمين دعوة مبدأ ، وفي الشرق والغرب اليوم دعوات ومبادئ وفكر ومذاهب وآراء ومنازع كلها تتقسم عقول الناس وتتنازع ألبابهم ، وكل منها يزينه أهله ويقوم بالدعاية له أبناؤه وأتباعه وعشاقه ومريدوه ، ويدعون له المزايا والمحاسن ويبالغون في هذا الادعاء ما يبرزه للناس جميلاً خلاباً رائعاً .
دعاة
والدعاة اليوم غيرهم بالأمس فهم مثقفون مجهزون مدربون أخصائيون - ولا سيما في البلاد الغربية - حيث تختص بكل فكرة كتيبة مدربة توضح غامضها وتكشف عن محاسنها وتبتكر لها وسائل النشر وطرائق الدعاية ، وتتلمس لها في نفوس الناس أيسر السبل وأهونها وأقربها إلي الاقتناع والاتباع .
وســـائـل
و وسائل الدعاية الآن غيرها بالأمس كذلك , فقد كانت دعاية الأمس كلمة تلقى في خطبة أو اجتماع أو كلمة تكتب في رسالة أو خطاب , أما الآن فنشرات و مجلات و جرائد و رسالات و مسارح و خيالات و حاك و مذياع , و قد ذلل ذلك كله سبل الوصول إلى قلوب الناس جميعهم , نساء و رجالا في بيوتهم و متاجرهم و مصانعهم و مزارعهم.
لهذا كان من واجب أهل الدعوة أن يحسنوا تلك الوسائل جميعا حتى يأتي عملهم بثمرته المطلوبة و مالي و لهذا الاستطراد ؟ سأعود مرة ثانية فأقول إن العالم الآن في حال تخمة بالدعوات ما بين سياسية و قومية و وطنية و اقتصادية و عسكرية و سلمية , فأين دعوة الإخوان المسلمين من هذا المزيج المركب كله ؟
سيدعوني ذلك أن أتكلم في أمرين : أولهما هيكل دعوتنا الإيجابي المجرد , ثم بعد ذلك موقفها من كل نوع من أنواع الدعوات .
لا تؤاخذني بهذا الاستطراد فقد أخذت على نفسي أن اكتب في كما أتحدث , و أن أتناول موضوعي بهذا اللون من ألوان الكتابة في غير تكلف ولا عناء , و إنما أريد أن يفهمني كما الناس أنا و يصل كلامي إلى نفوسهم خاليا من التزويق و التقسيم.
إســلامـنا
اسمع يا أخي : دعوتنا دعوة أجمع ما توصف به أنها ( إسلامية ) و لهذه الكلمة معنى واسع غير ذلك المعنى الضيق الذي يفهمه الناس، فإنا نعتقد أن الإسلام معنى شامل ينتظم شؤون الحياة جميعا، و يفتي في كل شأن منها و يضع له نظاما محكما دقيقا، و لا يقف مكتوفا أمام المشكلات الحيوية و النظم التي لا بد منها لإصلاح الناس. فهم بعض الناس خطأ أن الإسلام مقصور على ضروب من العبادات أو أوضاع من الروحانية، و حصروا أنفسهم و أفهامهم في هذه الدوائر الضيقة من دوائر الفهم المحصور.
و لكنا نفهم الإسلام على غير هذا الوجه فهما فسيحا واسعا ينتظم شؤون الدنيا و الآخرة ، و لسنا ندعي هذا ادعاء أو نتوسع فيه من أنفسنا ، و إنما هو ما فهمناه من كتاب الله و سيرة المسلمين الأولين، فإن شاء القارئ أن يفهم دعوة الإخوان بشيء أوسع من كلمة إسلامية فليمسك بمصحفه و ليجرد نفسه من الهوى و الغاية ثم يتفهم ما عليه القرآن فسيرى في ذلك دعوة الإخوان.
أجل : دعوتنا إسلامية ، بكل ما تحتمل الكلمة من معان ، فافهم فيها ما شئت بعد ذلك و أنت في فهمك هذا مقيد بكتاب الله و سنة رسوله و سيرة السلف الصالحين من المسلمين ، فأما كتاب الله فهو أساس الإسلام و دعامته و أما سنة نبيه فهي مبينة الكتاب و شارحته و أما سيرة السلف الصالح فهم رضوان الله عليهم منفذو أوامره و الآخذون بتعاليمه و هم المثل العملية و الصورة الماثلة لهذه الأوامر و التعاليم. موقفنا من الدعوات المختلفة.
و موقفنا من الدعوات المختلفة التي طغت في هذا العصر ففرقت القلوب و بلبلت الأفكار أن نزنها بميزان دعوتنا فما وافقها فمرحبا به و ما خالفها فنحن براء منه و نحن مؤمنون بأن دعوتنا عامة محيطة لا تغادر جزءا صالحا من أية دعوة إلا ألمت به و أشارت إليه.
الوطنية
افتتن كثير من الناس بدعوة الوطنية تارة و القومية تارة أخرى و بخاصة في الشرق حيث تشعر الشعوب الشرقية بإساءة الغرب إليها إساءة نالت من عزتها و كرامتها و استقلالها و أخذت من مالها و من دمها و حيث تتألم هذه الشعوب من هذا النير الغربي الذي فرض عليها فرضا , فهي تحاول الخلاص منه بكل ما في و سعها من قوة و منعة و جهاد و جلاد , فانطلقت ألسن الزعماء و سالت انهار الصحف , و كتب الكاتبون و خطب الخطباء و هتف الهاتفون باسم الوطنية و جلال القومية.
حسن ذلك و جميل و لكن من غير الحسن وغير الجميل أنك تحاول إفهام الشعوب الشرقية و هي مسلمة أن ذلك في الإسلام بأوفى وأزكى و أسمى و أنبل مما هو في أفواه الغربيين و كتابات الأوروبيين أبوا ذلك عليك و لجوا في تقليدهم يعمهون , و زعموا لك أن الإسلام من ناحية و هذه الفكرة من ناحية أخرى ، و ظن بعضهم أن ذلك مما يفرق وحدة الأمة و يضعف رابطة الشباب
هذا الوهم الخاطئ كان خطرا على الشعوب الشرقية من كل الوجهات و بهذا الوهم أحببت أن أعرض هنا إلى موقف الإخوان المسلمين و دعوتهم من فكرة الوطنية و ذلك الموقف الذي ارتضوه لأنفسهم و الذي يريدون و يحاولون أن يرضاه الناس معهم .
وطنية الحنين
إن كان دعاة الوطنية يريدون بها حب هذه الأرض، وألفتها والحنين إليها والانعطاف حولها، فذلك أمر مركوز في فطر النفوس من جهة، مأمور به في الإسلام من جهة أخرى، وإن بلالا الذي ضحى بكل شيء في سبيل عقيدته، ودينه هو بلال الذي كان يهتف في دار الهجرة بالحنين إلى مكة في أبيات تسيل رقة وتقطر حلاوة: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
- بواد وحولي إذ خر وجليـل
وهل أردن يوما مياه مجـنة
- وهل يبدون لي شامة وطفيل
ولقد سمع رسول ص وصف مكة من أصيل فجرى دمعه حنينا إليها وقال: (يا أصيل دع القلوب تقر).
وطنية الحرية والعزة
وإن كانوا يريدون أن من الواجب العمل بكل جهد في تحرير الوطن من الغاصبين وتوفير استقلاله، وغرس مبادئ العزة والحرية في نفوس أبنائه، فنحن معهم في ذلك أيضا وقد شدد الإسلام في ذلك أبلغ التشديد، فقال تبارك وتعالى: (وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون:8) ، ويقول: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء:141) .
وطنية المجتمع
وإن كانوا يريدون بالوطنية تقوية الرابطة بين أفراد القطر الواحد، وإرشادهم إلى طريق استخدام هذه التقوية في مصالحهم، فذلك نوافقهم فيه أيضا ويراه الإسلام فريضة لازمة، فيقول نبيه صلى الله عليه وسلم : (وكونوا عباد الله إخوانا) , ويقول القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران:118) .
وطنية الفتح
وإن كانوا يريدون بالوطنية فتح البلاد وسيادة الأرض فقد فرض ذلك الإسلام ووجه الفاتحين إلى أفضل استعمار وأبرك فتح، فذلك قوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ) (البقرة:193).
وطنية الحزبية
و إن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر و تتضاغن و تتراشق بالسباب و تترامى بالتهم و يكيد بعضها لبعض , و تتشيع لمناهج وضعية أملتها الأهواء و شكلتها الغايات و الأعراض و فسرتها الأفهام و فق المصالح الشخصية , و العدو يستغل كل ذلك لمصلحته و يزيد وقود هذه النار اشتعالا يفرقهم في الحق و يجمعهم على الباطل , و يحرم عليهم اتصال بعضهم ببعض و تعاون بعضهم مع بعض و يحل لهم هذه الصلة به و الالتفات حوله فلا يقصدون إلا داره و لا يجتمعون إلا زواره , فتلك وطنية زائفة لا خير فيها لدعاتها و لا للناس
فها أنت ذا قد رأيت أننا مع دعاة الوطنية , بل مع غلاتهم في كل معانيها الصالحة التي تعود بالخير على البلاد و العباد , و قد رأيت مع هذا أن تلك الدعوى الوطنية الطويلة العريضة لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام
حدود وطنيتنا
أما وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية , فكل بقعة فيها مسلم يقول ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) وطن عندنا له حرمته و قداسته و حبه و الإخلاص له و الجهاد في سبيل خيره , و كل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا و إخواننا نهتم لهم و نشعر بشعورهم و نحس بإحساسهم .
ودعاة الوطنية فقط ليسوا كذلك فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض ، ويظهر ذلك الفارق العملي فيما إذا أرادت أمة من الأمم أن تقوى نفسها على حساب غيرها فنحن لا نرضى ذلك على حساب أي قطر إسلامي ، وإنما نطلب القوة لنا جميعا ، ودعاة الوطنية المجردة لا يرون في ذلك بأسا، ومن هنا تتفكك الروابط وتضعف القوى ويضرب العدو بعضهم ببعض .
غاية وطنيتنا
هذه واحدة . والثانية أن الوطنيين فقط ، جل ما يقصدون إليه تخليص بلادهم فإذا ما عملوا لتقويتها بعد ذلك اهتموا بالنواحي المادية كما تفعل أوربا الآن ، أما نحن فنعتقد أن المسلم في عنقه أمانة عليه أن يبذل نفسه ودمه وماله في سبيل أدائها تلك هداية البشر بنور الإسلام , و رفع علمه خفاقا في كل ربوع الأرض , لا يبغي بذلك مالا و لا جاها و سلطاننا على أحد و لا استعبادا لشعب , و إنما يبغي وجه الله وحده و إسعاد العالم بدينه و إعلاء كلمته , و ذلك ما حدا بالسلف الصالحين رضوان الله عليهم إلى هذه الفتوح القدسية التي أدهشت الدنيا و أربت على كل ما عرف التاريخ من سرعة و عدل ونبل و فضل .
وحدة :
وأحب أن أنبهك إلى سقوط ذلك الزعم القائل إن الجري عن هذا المبدأ يمزق وحدة الأمة التي تتألف من عناصر دينية مختلفة , فإن الإسلام و هو دين الوحدة و المساواة كفل هذه الروابط بين الجميع ما داموا متعاونين على الخير , (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8) , فمن أين يأتي التفريق إذاً؟
أفرأيت بعد كيف أننا متفقون مع أشد الناس غلوا في الوطنية في حب الخير للبلاد و الجهاد في سبيل في سبيل تخليصها و خيرها و ارتقائها , و نعمل و نؤيد كل من يسعى في ذلك بإخلاص , بل أحب أن تعلم أن مهمتهم إن كانت تنتهي بتحرير الوطن و استرداد مجده فإن ذلك عند الإخوان المسلمين بعض الطريق فقط أو مرحلة منه واحدة و يبقى بعد ذلك أن يعملوا لترفع راية الوطن الإسلامي على كل بقاع الأرض و يخفق لواء المصحف في كل مكان .
القـومـية
و الآن سأتحدث إليك عن موقفنا من مبدأ القومية :
قومية المجد
إن كان الذين يعتزون بمبدأ "القومية" يقصدون به أن الأخلاف يجب أن ينهجوا نهج الأسلاف في مراقي المجد والعظمة ومدارك النبوغ والهمة وأن تكون لهم بهم في ذلك قدوة حسنة، وأن عظمة الأب مما يعتز به الابن ويجد لها الحماس والأريحية بدافع الصلة والوراثة، فهو مقصد حسن جميل نشجعه ونأخذ به، وهل عدتنا في إيقاظ همة الحاضرين إلا أن نحدوهم بأمجاد الماضين؟ ولعل الإشارة إلى هذا في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) , فها أنت ذا ترى أن الإسلام لا يمنع من القومية بهذا المعنى الفاضل النبيل.
قومية الأمة
وإذا قصد بالقومية أن عشيرة الرجل وأمته أولى الناس بخيره وبره وأحقهم بإحسانه وجهاده فهو حق كذلك، ومن ذا الذي لا يرى أولى الناس بجهوده قومه الذين نشأ فيهم ونما بينهم؟
لعمري لرهط المرء خير بقية
- عليه وإن عالوا به كل مركب
وإذا قصد بالقومية أننا جميعا مبتلون مطالبون بالعمل والجهاد، فعلى كل جماعة أن تحقق الغاية من جهتها حتى تلتقي إن شاء الله في ساحة النصر فنعم التقسيم هذا، ومن لنا بمن يحدو الأمم الشرقية كتائب كل في ميدانها حتى نلتقي جميعا في بحبوحة الحرية والخلاص؟
كل هذا وأشباهه في معنى القومية جميل معجب لا يأباه الإسلام، وهو مقياسنا، بل ينفسح صدرنا له ونحض عليه.
القومية الجاهلية
أما أن يراد بالقومية إحياء عادات جاهلية درست، وإقامة ذكريات بائدة خلت وتعفية حضارة نافعة استقرت، والتحلل من عقدة الإسلام ورباطه بدعوى القومية والاعتزاز بالجنس، كما فعلت بعض الدول في المغالاة بتحطيم مظاهر الإسلام والعروبة، حتى الأسماء وحروف الكتابة وألفاظ اللغة، وإحياء ما اندرس من عادات جاهلية، فذلك في القومية معنى ذميم وخيم العاقبة وسيئ المغبة، يؤدي بالشرق إلى خسارة فادحة يضيع معها تراثه وتنحط بها منزلته ويفقد أخص مميزاته وأقدس مظاهر شرقه ونبله، ولا يضر ذلك دين الله شيئا : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد:38) .
قومية العدوان
وأما أن يراد بالقومية الاعتزاز بالجنس إلى درجة تؤدي إلى انتقاص الأجناس الأخرى والعدوان عليها والتضحية بها في سبيل عزة أمة وبقائها، كما تنادي بذلك ألمانيا وإيطاليا مثلا، بل كما تدعي كل أمة تنادي بأنها فوق الجميع.فهذا معنى ذميم كذلك ليس من الإنسانية في شيء، ومعناه أن يتناحر الجنس البشري في سبيل وهم من الأوهام لا حقيقة له ولا خير فيه.
دعامتان
الإخوان المسلمون لا يؤمنون بالقومية بهذه المعاني ولا بأشباهها ولا يقولون فرعونية وعربية وفينيقية وسورية ولا شيئا من هذه الألقاب والأسماء التي يتنابز بها الناس، ولكنهم يؤمنون بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإنسان الكامل بل أكمل معلم علم الإنسان الخير: (إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). ما أروع هذا وأجمله وأعدله، الناس لآدم فهم في ذلك أكفاء، والناس يتفاضلون بالأعمال فواجبهم التنافس في الخير، دعامتان قويمتان لو بنيت عليهما الإنسانية لارتفعت بالبشر إلى علياء السموات، الناس لآدم فهم إخوان فعليهم أن يتعاونوا وأن يسالم بعضهم بعضا، ويرحم بعضهم بعضا، ويدل بعضهم بعضا على الخير، والتفاضل بالأعمال. فعليهم أن يجتهدوا كل من ناحيته حتى ترقى الإنسانية، فهل رأيت سموا بالإنسانية أعلى من هذا السمو أو تربية أفضل من هذه التربية؟
خواص العروبة:
ولسنا مع هذا ننكر خواص الأمم ومميزاتها الخلقية، فنحن نعلم أن لكل شعب مميزاته وقسطه من الفضيلة والخلق، ونعلم أن الشعوب في هذا تتفاوت وتتفاضل، ونعتقد أن العروبة لها من ذلك النصيب الأوفى والأوفر، ولكن ليس معنى هذا أن تتخذ الشعوب هذه المزايا ذريعة إلى العدوان، بل عليها أن تتخذ ذلك وسيلة إلى تحقيق المهمة السابقة التي كلفها كل شعب، تلك هي النهوض بالإنسانية، ولعلك لست واجدا في التاريخ من أدرك هذا المعنى من شعوب الأرض كما أدركته تلك الكتيبة العربية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هذا استطراد اقتضاه السير في البحث و لا أحب أن أتابعه حتى لا يشط بنا القول و لكن أعود إلى ما نحن بسبيله.
رباط العقيدة
أما إذ عرفت هذا فاعلم – أيدك الله – أن الإخوان المسلمين بالنسبة إليهم قسمين :
قسم اعتقد ما اعتقدوه من دين الله و كتابه و آمن ببعثه و رسوله و ما جاء به ، و هؤلاء تربطنا بهم أقدس الروابط ، رابطة العقيدة و هي عندنا أقدس من رابطة الدم و رابطة الأرض , فهؤلاء هم قومنا الأقربون الذين نحنّ إليهم ونعمل في سبيلهم و نذود عن حماهم و نفتديهم بالنفس و المال , في أي أرض كانوا و من أية سلالة انحدروا .
و قوم ليسوا كذلك و لم نرتبط معهم بعد بهذا الرباط فهؤلاء نسالمهم ما سالمونا و نحب لهم الخير ما كفوا عدوانهم عنا , و نعتقد أن بيننا و بينهم رابطة هي رابطة الدعوة , علينا أن ندعوهم إلى ما نحن عليه لنه خير الإنسانية كلها , و أن نسلك إلى نجاح هذه الدعوة ما حدد لها الدين نفسه من سبل و وسائل , فمن اعتدى علينا منهم رددنا عدوانه بأفضل ما يرد به عنوان المعتدين .
أما إذا أردت ذلك من كتاب الله فاسمع :
1 – (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات:10).
2 – (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ , إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) (الممتحنة:8-9) .
و لعلي أكون بذلك قد كشفت لك عن هذه الناحية من دعوتنا بما لا يدعها في نفسك ملتبسة أو غامضة , لعلك بعد ذلك عرفت إلى أي قبيل ينتسب الإخوان المسلمون
أمام الخـلافات الدينية
أتحدث إليك الآن عن دعوتنا أمام الخلافات الدينية و الآراء المذهبية.
نجمع ولا نفرق
اعلم ـ فقهك الله ـ أولا: أن دعوة الإخوان المسلمين دعوة عامة لا تنتسب إلى طائفة خاصة، ولا تنحاز إلى رأي عرف عند الناس بلون خاص ومستلزمات وتوابع خاصة، وهي تتوجه إلى صميم الدين ولبه، وتود أن تتوحد وجهة الأنظار والهمم حتى يكون العمل أجدى والإنتاج أعظم وأكبر، فدعوة الإخوان دعوة بيضاء نقية غير ملونة بلون، وهي مع الحق أينما كان، تحب الإجماع، وتكره الشذوذ وإن أعظم ما مني به المسلمون الفرقة والخلاف، وأساس ما انتصروا به الحب والوحدة.
ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، هذه قاعدة أساسية وهدف معلوم لكل أخ مسلم، وعقيدة راسخة في نفوسنا، نصدر عنها وندعو إليها.
الخلاف ضروري
ونحن مع هذا نعتقد أن الخلاف في فروع الدين أمر لا بد منه ضرورة، ولا يمكن أن نتحد في هذه الفروع والآراء والمذاهب لأسباب عدة: منها اختلاف العقول في قوة الاستنباط أو ضعفه، وإدراك الدلائل والجهل بها والغوص على أعماق المعاني، وارتباط الحقائق بعضها ببعض، والدين آيات وأحاديث ونصوص يفسرها العقل والرأي في حدود اللغة وقوانينها، والناس في ذلك جد متفاوتين فلا بد من خلاف.
ومنها سعة العلم وضيقه، وإن هذا بلغه ما لم يبلغ ذاك والآخر شأنه كذلك، وقد قال مالك لأبي جعفر:
إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة.
ومنها اختلاف البيئات حتى أن التطبيق ليختلف باختلاف كل بيئة، وإنك لترى الإمام الشافعي رضي الله عنه يفتي بالقديم في العراق ويفتي بالجديد في مصر، وهو في كليهما آخذ بما استبان له وما اتضح عنده لا يعدو أن يتحرى الحق في كليهما.
ومنها اختلاف الاطمئنان القلبي إلى الرواية عند التلقين لها، فبينما نجد هذا الراوي ثقة عند هذا الإمام تطمئن إليه نفسه وتطيب بالأخذ به، تراه مجروحا عند غيره لما علم عن حاله.
ومنها اختلاف تقدير الدلالات فهذا يعتبر عمل الناس مقدما على حبر الآحاد مثلا، وذاك لا يقول معه به، وهكذا..
الإجماع على أمر فرعي متعذر
كل هذه أسباب جعلتنا نعتقد أن الإجماع على أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل، بل هو يتنافى مع طبيعة الدين، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور، ويماشي الأزمان، وهو لهذا سهل مرن هين، لين، لا جمود فيه ولا تشديد.
نعتذر لمخالفينا:
نعتقد هذا فنلتمس العذر لمن يخالفوننا في بعض الفرعيات، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبدا حائلا دون ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده، وأوسع مشتملاته، ألسنا مسلمين وهم كذلك؟ وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان نفوسنا وهم يحبون ذلك؟ وألسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا؟ ففيم الخلاف إذن؟ ولماذا لا يكون رأينا مجالا للنظر عندهم كرأيهم عندنا؟ ولماذا لا نتفاهم في جو الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعو إلى التفاهم؟
هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخالف بعضهم بعضا في الإفتاء فهل أوقع ذلك اختلافا بينهم في القلوب؟ وهل فرق وحدتهم أو فرق رابطتهم؟ اللهم لا وما حديث صلاة العصر في قريظة ببعيد.
وإذا كان هؤلاء قد اختلفوا وهم أقرب الناس عهدا بالنبوة وأعرفهم بقرائن الأحكام، فما بالنا نتناحر في خلافات تافهة لا خطر لها؟ وإذا كان الأئمة وهم أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسوله قد اختلف بعضهم مع بعض وناظر بعضهم بعضا، فلم لا يسعنا ما وسعهم؟ وإذا كان الخلاف قد وقع في أشهر المسائل الفرعية وأوضحها كالأذان الذي ينادى به خمس مرات في اليوم الواحد، ووردت به النصوص والآثار، فما بالك في دقائق المسائل التي مرجعها إلى الرأي والاستنباط؟
وثم أمر آخر جدير بالنظر، إن الناس كانوا إذا اختلفوا رجعوا إلى (الخليفة) وشرطه الإمامة، فيقضي بينهم ويرفع حكمه الخلاف، أما الآن فأين الخليفة؟ وإذا كان الأمر كذلك فأولى بالمسلمين أن يبحثوا عن القاضي، ثم يعرضوا قضيتهم عليه، فإن اختلافهم من غير مرجع لا يردهم إلا إلى خلاف آخر.
يعلم الإخوان المسلمون كل هذه الحيثيات، فهم لهذا أوسع الناس صدرا مع مخالفيهم، ويرون أن مع كل قوم علما، وفي كل دعوة حقا وباطلا، فهم يتحرون الحق ويأخذون به، ويحاولون في هوادة ورفق إقناع المخالفين بوجهة نظرهم. فإن اقتنعوا فذاك، وإن لم يقتنعوا فإخوان في الدين، نسأل الله لنا ولهم الهداية.
ذلك منهاج الإخوان المسلمين أمام مخالفيهم في المسائل الفرعية في دين الله يمكن أن أجمله لك في أن الإخوان يجيزون الخلاف، ويكرهون التعصب للرأي، ويحاولون الوصول إلى الحق، ويحملون الناس على ذلك بألطف وسائل اللين والحب.
إلـى العـلاج
يا أخي : اعلم و تعلم أن مثل الأمم في قوتها و ضعفها و شبابها و شيخوختها و صحتها و سقمها مثل الأفراد سواء بسواء , فالفرد بينما تراه قويا معافى صحيحا سليما , فإذا بك تراه قد انتابته العلل و أحاطت به السقام و هدّت بنيته القوية الأمراض و الآلام , و لا يزال يشكو و يئن حتى تتداركه رحمة الله تبارك و تعالى بطبيب ماهر و نطاسي بارع يعلم موطن العلة و يحسن تشخيصها حتى و يتعرف موضع الداء و يخلص في علاجه , فإذا بك بعد حين ترى هذا المريض و قد عادت إليه قوته و رجعت إليه صحته , ربما كان بعد هذا العلاج خيرا من قبله .
قل مثل هذا في الأمم تماما , تعترضها حوادث الزمن بما يهدد كيانها و يصدع بنيانها و يسري في مظاهر قوتها سريان الداء , و لا يزال يلح عليها و يتشبث بها حتى ينال منها فتبدو هزيلة ضعيفة يطمع فيها الطامعون و ينال منها الغاصبون فلا تقوى على رد غاصب و لا تمنع من مطامح طامح , و علاجها إنما يكون بأمور ثلاثة : معرفة موطن الداء ,و الصبر على آلام العلاج , و النطاسي الذي يتولى ذلك حتى يحقق اله على يديه الغاية و يتمم الشفاء و الظفر .
الأعــراض
و قد علمتنا التجارب و عرفتنا الحوادث أن داء هذه الأمم الشرقية متشعب المناحي كثير الأعراض قد نال من كل مظاهر حياتها , فهي مصابه في ناحيتها السياسية بالاستعمار من جانب أعدائها , و الحزبية و الخصومة و الفرقة و الشتات من جانب أبنائها , و في ناحيتها الاقتصادية بانتشار الربا بين كل طبقاتها و استيلاء الشركات الأجنبية على مواردها و خيراتها , و هي مصابة من الناحية الفكرية بالفوضى و المروق و الإلحاد يهدم عقائدها و يحطم المثل العليا في نفوس أبنائها , و في ناحيتها الاجتماعية بالإباحية في عاداتها و أخلاقها و التحلل من عقدة الفضائل ورثتها عن الغر الميامين من أسلافها و بالتقليد الغربي يسري في مناحي حياتها سريان لعاب الأفاعي فيسمم دمائها و يعكر صفو هنائها و بالقوانين الوضعية التي لا تزجر مجرما و لا تؤدب معتديا و لا ترد ظالما , و لا تغني يوما من الأيام غناء القوانين السماوية التي وضعها خالق الخلق و مالك الملك و رب النفوس و بارئها , و بفوضى في سياسة التعليم و التربية تحول دون التوجيه الصحيح لنشئها و رجال مستقبلها و حملة أمانة النهوض بها , و في ناحيتها النفسية بيأس قاتل و خمول مميت و جبن فاضح و ذلة حقيرة و خنوثة فاشية و شح و أنانية تكف الأيدي عن البذل و تقف حجابا دون التضحية و تخرج الأمة من صفوف المجاهدين إلى اللاهين اللاعبين .
وماذا يرجى من أمة اجتمعت على غزوها كل هذه العوامل بأقوى مظاهرها و أشد أعراضها: الاستعمار و الحزبية , و الربا و الشركات الأجنبية , و الإلحاد و الإباحية و فوضى التعليم و التشريع , و اليأس و الشح , و الخنوثة و الجبن , و الإعجاب بالخصم إعجابا يدعو إلى تقليده في كل ما صدر عنه و بخاصة في سيئات أعماله .
إن داء واحدا من هذه الأدواء يكفي لقتل أمم متظاهرة , فكيف و قد تفشت جميعا في كل أمة على حدة ؟ لولا مناعة و حصانة و جلادة و شدة في هذه الأمم الشرقية التي جاذبها خصومها حبل العداء من بعيد , و دأبوا على تلقيحها بجراثيم هذه الأمراض زمنا طويلا حتى باضت و أفرخت , لولا ذلك لعفت آثارها و لبادت من الوجود , و لكن يأبى الله ذلك و المؤمنون .
يا أخي : هذا هو التشخيص الذي يلمسه الإخوان في أمراض هذه الأمة , و هذا هو الذي يعملون في سبيل أن يبرئها منه و يعيد إليها ما فقدت من صحة و شباب .
أمل و شعور
أحب أن تعلم يا أخي أننا لسنا يائسين من أنفسنا و أننا نأمل خيرا كثيرا و نعتقد أنه لا يحول بيننا و بين النجاح إلا هذا اليأس ، فإذا قوي الأمل في نفوسنا فسنصل إلى خير كثير إن شاء الله تعالى، لهذا نحن لسنا يائسين و لا يتطرق إلى قلوبنا و الحمد لله.
و كل ما حولنا يبشر بالأمل رغم تشاؤم المتشائمين، إنك إذا دخلت على مريض فوجدته تدرج من كلام إلى صمت ومن حركة إلى سكون شعرت بقرب نهايته و عسر شفائه و استفحال دائه ، فإذا انعكس الأمر وأخذ يتدرج من صمت إلى كلام و من همود إلى حركة شعرت بقرب شفائه و تقدمه في طريق الصحة والعافية.
و لقد أتى على هذه الأمم الشرقية حين من الدهر جمدت فيه حتى ملها الجمود وسكنت حتى أعياها السكون و لكنها الآن تغلي غليانا بيقظة شاملة في كل مناحي الحياة، وتضطرم اضطراما بالمشاعر الحية القوية و الأحاسيس العنيفة.
و لولا ثقل القيود من جهة والفوضى في التوجيه من جهة أخرى لكان لهذه اليقظة أروع الآثار، و لن تظل هذه القيود قيودا أبد الدهر فإنما الدهر قلب، و ما بين طرفة عين و انتباهتها يغير الله من حال إلى حال، و لن يظل الحائر حائرا فإنما بعد الحيرة هدى و بعد الفوضى استقرار ، ولله الأمر من قبل ومن بعد .
لهذا لسنا يائسين أبدا , و آيات الله تبارك و تعالى و أحاديث رسوله صلى اله عليه و سلم وسنته تعالى في تربية الأمم وإنهاض الشعوب بعد أن تشرف على الفناء , و ما قصه علينا في كتابه , كل ذلك ينادينا بالأمل الواسع , و يرشدنا إلى طريق النهوض و لقد علم المسلون – لو يتعلمون - .
و إنك لتقرأ الآية الكريمة في أول سورة القصص:
(طسم , تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ , نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ , إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ , وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ , وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص:1-6) .
تقرأ هذه الآية الكريمة فترى كيف يطغى الباطل في صولته و يعتز بقوته، و يطمئن إلى جبروته و يغفل عن عين الحق التي ترقبه، حتى إذا فرح بما أوتي أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، و أبت إرادة الله إلا أن تنتصر للمظلومين و تأخذ بناصر المهضومين المستضعفين فإذا الباطل منهار من أساسه و إذا الحق قائم البنيان متين الأركان وإذا أهله هم الغالبون ، وليس بعد هذه الآية الكريمة وأمثالها من آيات كتاب الله عذر في اليأس والقنوط لأمة من أمم الإسلام تؤمن بالله ورسوله وكتابه. فمتى يتفقه المسلمون في كتاب الله ؟
لمثل هذا يا أخي وهو كثير في دين الله لم ييأس الإخوان المسلمون من أن ينزل نصر الله على هذه الأمم رغم ما يبدوا أمامها من عقبات ، وعلى ضوء هذا الأمل يعملون عمل الآمل المجد و الله المستعان.
أما الوسيلة التي وعدتك الكلام عليها فهي أركان ثلاثة تدور عليها فكرة الإخوان:
أولها_ المنهاج الصحيح: وقد وجده الإخوان في كتاب الله و سنة رسوله و أحكام الإسلام حين يفهمها المسلمون على وجهها غضة نقية بعيدة عن الدخائل و المفتريات فعكفوا على دراسة الإسلام على هذا الأساس دراسة سهلة واسعة مستوعبة.
و ثانيها_ العاملون المؤمنون: و لهذا أخذ الإخوان أنفسهم بتطبيق ما فهموه من دين الله تطبيقا لا هوادة فيه و لا لين، و هم بحمد الله مؤمنون بفكرتهم مطمئنون لغايتهم واثقون بتأييد الله إياهم ما داموا له يعملون و على هدي رسوله يسيرون.
و ثالثها_ القيادة الحازمة الموثوق بها: و قد وجدها الإخوان المسلمون كذلك، فهم لها مطيعون و تحت لوائها يعملون.
هذا ما أردت أن أتحدث به إليك عن دعوتنا و هو تعبير له تعبير، و أنت يوسف هذه الأحلام، فإن راقك ما نحن عليه فيدك مع أيدينا لنعمل سويا في هذا السبيل و الله و لي توفيقنا و هو حسبنا و نعم الوكيل فنعم المولى و نعم النصير.
إلى أي شيء ندعو الناس؟
تمـهـيد
قد تتحدث إلى كثير من الناس في موضوعات مختلفة فتعتقد أنك قد أوضحت كل الإيضاح و أبنت كل الإبانة , و أنك لم تدع سبيلا للكشف عما في نفسك إلا سلكتها , حتى تركت من تحدثهم على المحجة البيضاء و جعلت لهم ما تريد بحديثك من الحقائق كفلق الصبح أو كالشمس في رابعة النهار كما يقولون , و ما أشد دهشتك بعد قيل حين ينكشف لك أن القوم لم يفهموا عنك و لم يدركوا قولك .
رأيت ذلك مرات و لمسته من عدة مواقف , و اعتقد أن السر فيه لا يعدوا أحد أمرين : إما أن الذي يقيس به كل منا و ما يسمع عنه مختلف , فيختلف تبعا لذلك الفهم و الإدراك , و إما أن يكون القول في ذاته ملتبسا غامضا و إن اعتقد قائله أنه واضح مكشوف .
المقياس
و أنا أريد في هذه الكلمة أن أكشف للناس عن دعوة الإخوان المسلمين و غايتها و مقاصدها و أساليبها و وسائلها في صراحة و وضوح و في بيان و جلاء , و أحب أولا أن أحدد المقياس الذي نقيس به هذا التوضيح , و سأجتهد في أن يكون القول سهلا ميسورا لا يتعذر فهمه على قارئ يحب أن يستفيد , و أظن أن أحدا من الأمة الإسلامية جميعا لا يخالفني في أن يكون هذا المقياس هو كتاب الله نستقي من فيضه و نستمد من بحره و نرجع إلى حكمه .
يا قومنا
إن القرآن الكريم كتاب جامع جمع الله فيه أصول العقائد و أسس المصالح الاجتماعية , و كليات الشرائع الدنيوية , فيه أوامر وفيه نواه , فهل عمل المسلمون بما في القرآن فاعتقدوا و أيقنوا بما ذكر الله من المعتقدات , و فهموا ما أوضح لهم من الغايات ؟ و هل طبقوا شرائعه الاجتماعية و الحيوية على تصرفاتهم في شؤون حياتهم ؟ إن انتهينا من بحثنا أنهم كذلك فقد وصلنا معا إلى الغاية , و إن تكشف البحث عن بعدهم عن طريق القرآن و إهمالهم لتعاليمه و أوامره فاعلم أن مهمتنا أن نعود بأنفسنا و بمن تبعنا إلى هذا السبيل.
غاية الحياة في القرآن
إن القرآن حدد غايات الحياة و مقاصد الناس فيها فبين أن قوما غايتهم من الحياة الكل و المتعة فقال تبارك و تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (محمد:12) .
و بين أن قوما مهمتهم في الحياة الزينة و العرض الزائل فقال تبارك و تعالى :
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14)
وبين أن قوما آخرين شأنهم في الحياة إيقاد الفتن و إحياء الشرور , أولئك الذين قال الله فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ , وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَالله ُلاَ يُحِبُّ الفَسَادَ) (البقرة:204-205)
تلك مقاصد من مقاصد الناس في الحياة نزه الله المؤمنين عنها و برأهم منها و كلفهم مهمة أرقى , و ألقى على عاتقهم واجبا أسمى ذلك الواجب هو: هداية الناس إلى الحق , و إرشاد الناس جميعا إلى الخير , و إنارة العالم كله بشمس الإسلام فذلك قوله تبارك و تعالى :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ , وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ و َتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:77-78). و معنى هذا أن القرآن الكريم يقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة , و يعطيهم حق الهيمنة و السيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصاية النبيلة و إذا فذلك من شأننا لا من شأن الغرب و لمدنية الإسلام لا لمدنية المادة .
وصاية المسلم تضحية لا استفادة
ثم بين الله تبارك و تعالى أن المؤمن في سبيل هذه الغاية قد باع لله نفسه و ماله فليس له فيها شيء و إنما هي وقف على نجاح هذه الدعوة وإيصالها إلى قلوب الناس و ذلك قوله تعالى :
(إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) (التوبة:111).
و ومن ذلك نرى المسلم يجعل دنياه وقفا على دعونه ليكسب آخرته جزاء تضحيته و من هنا كان الفاتح المسلم أستاذا يتصف بكل ما يجب أن يتحلى به الأستاذ من نور و هداية و رحمة و رأفة , وكان الفتح الإسلامي فتح تمدين و تحضير و إرشاد و تعليم , و أين هذا ما يقوم به الاستعمار الغربي الآن ؟
أين المسلمون من هذه الغاية؟
فبربك عزيزي : هل فهم المسلمون من كتاب ربهم هذا المعنى فسمت نفوسهم و رقت أرواحهم , و تحرروا من رق المادة و تطهروا من لذة الشهوات و الأهواء , و ترفعوا عن سفاسف الأمور و دنايا المقاصد , و وجهوا وجوههم للذي فطر السموات و الأرض حنفاء يعلون كلمة الله و يجاهدون في سبيله , و ينشرون دينه و يذودون عن حياض شريعته , أم هؤلاء أسرى الشهوات و عبيد الأهواء و المطامع , كل همهم لقمة لينة و مركب فاره و حلة جميلة و نومة مريحة و امرأة وضيئة و مظهر كاذب و لقب أجوف رضوا بالأماني و ابتلوا بحظوظهم و خاضوا بحار الجد دعوى فما ابتلوا و صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم : (تعس عبد الدينار , تعس عبد الدرهم , تعس عبد القطيفة)
الغاية أصل الأعمال
و بما أن الغاية هي التي تدفع إلى الطريق , و لما كانت الغاية في أمتنا غامضة مضطربة كان لابد من أن نوضح و نحدد , و أظننا وصلنا إلى كثير من التوضيح و اتفقنا على أن مهمتنا سيادة الدنيا و إرشاد الإنسانية كلها إلى نظم الإسلام الصالحة و تعاليمه التي بغيرها أن يسعد الإنسان .
مصادر غايتنا
تلك هي الرسالة التي يريد الإخوان المسلمون أن يبلغوها للناس و أن تفهمها الأمة الإسلامية حق الفهم , و تهب لإنفاذها في عزم و في مضاء , لم يبتعها الإخوان ابتداعا , و لم يختلقوها من أنفسهم , و إنما هي الرسالة التي تتجلى في كل آية من آيات القرآن الكريم , و تبدوا في غاية الوضوح في كل حديث من أحاديث الرسول العظيم صلى الله عليه و سلم و تظهر في كل عمل من أعمال الصدر الأول الذين هم المثل الأعلى لفهم الإسلام و إنفاذ تعاليم الإسلام , فإن شاء المسلمون في أن يقبلوا هذه الرسالة كان ذلك دليل الإيمان و الإسلام الصحيح , و إن رأوا فيها حرجا أو غضاضة فبيننا و بينهم كتاب الله تبارك و تعالى , حكم عدل و قول فصل يحكم بيننا و بين إخواننا و يظهر الحق لنا أو علينا (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين) (الأعراف:89).
استطراد
يتساءل كثير من إخواننا الذين أحببناهم من كل قلوبنا و وقفنا لخيرهم و العمل لمصلحتهم الدنيوية و الأخروية جهودنا و أموالنا و أرواحنا، و فنينا في هذه الغاية، غاية إسعاد أمتنا و إخواننا ، عن أموالنا و أنفسنا.
و كم أتمنى أن يطلع هؤلاء الإخوان المتسائلون على شباب الإخوان المسلمين و قد سهرت عيونهم و الناس نيام، و شغلت نفوسهم و الخليون هجع، و أكب أحدهم على مكتبه من العصر إلى منتصف الليل عاملا مجتهدا و مفكرا مجدا، و لا يزال كذلك طول شهره، حتى إذا ما انتهى الشهر جعل مورده موردا لجماعته، و نفقته نفقة لدعوته، و ماله خادما لغايته، و لسان حاله يقول: لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الله. و معاذ الله أن نمن على أمتنا فنحن منها و لها و إنما نتوسل إليها بهذه التضحية أن تفقه دعوتنا و تستجيب لندائنا.
من أين المال ؟
يتساءل هؤلاء الإخوان المحبوبون الذين يرمقون الإخوان المسلمين عن بعد و يرقبونهم عن كثب قائلين: من أين ينفقون؟ و أنى لهم المال اللازم لدعوة نجحت و ازدهرت كدعوتهم و الوقت عصيب و النفوس شحيحة؟
و إني أجيب هؤلاء بأن الدعوات الدينية عمادها الإيمان قبل المال ، و العقيدة قبل الأعراض الزائلة ، و إذا وجد المؤمن الصحيح و جدت معه وسائل النجاح جميعا، و إن في مال الإخوان المسلمين القليل الذي يقتطعونه من نفقاتهم و يقتصدونه من ضرورياتهم و مطالب بيوتهم و أولادهم، و يجودون به طيبة نفوسهم سخية به قلوبهم، يود أحدهم لو كان له أضعاف أضعاف فينفقه في سبيل الله ، فإذا لم يجد بعضهم شيئا تولوا و أعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون.
في هذا المال القليل و الإيمان الكبير و لله الحمد و العزة بلاغ لقوم عابدين و نجاح للعاملين الصادقين , و إن الله الذي بيده كل شيء ليبارك في القرش الواحد من قروش الإخوان , و (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) (البقرة:276).
(وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) (الروم:39) .
نحن و السياسة
و يقول قوم آخرون إن الإخوان المسلمين قوم سياسيون و دعوتهم سياسية و لهم من وراء ذلك مآرب أخرى . و لا ندري إلى متى تتقارض أمتنا التهم و تتبادل الظنون و تتنابز بالألقاب، و تترك يقينا يؤيده الواقع في سبيل ظن توحيه الشكوك.
يا قومنا: إننا نناديكم و القرآن في يميننا و السنة في شمالنا، و عمل السلف الصالحين من أبناء هذه الأمة قدوتنا، و ندعوكم إلى الإسلام و تعاليم الإسلام و أحكام الإسلام ، فإن كان هذا من السياسة عندكم فهذه سياستنا، و إن كان من يدعوكم إلى هذه المبادئ سياسيا فنحن أعرق الناس و الحمد لله في السياسة، و إن شئتم أن تسموا ذلك سياسة فقولوا ما شئتم فلن تضرنا الأسماء متى وضحت المسميات و انكشفت الغايات.
يا قومنا: لا تحجبكم الألفاظ عن الحقائق و الأسماء عن الغايات، و لا الأعراض عن الجوهر، و إن للإسلام لسياسة في طيها سعادة الدنيا و صلاح الآخرة، و تلك هي سياستنا لا نبغي بها بديلا فسوسوا بها أنفسكم، و احملوا عليها غيركم تظفروا بالعزة الأخروية، و لتعلمن نبأه بعد حين.
قوميتنا وعلى أي أساس ترتكز؟
أيها الأخ تعال نصغ معا إلى صوت العزة الإلهية يدوي في أجواء الآفاق , ويملأ الأرض و السبع الطباق , و يوحي في نفس كل مؤمن أسمى معاني العزة و الفخار , حين يسمع هذا النداء الذي تستمع له السموات و الأرض و من فيهن منذ أن بلغه المبين إلى هذا الوجود , إلى حيث لا نهاية إذا كتب له الخلود :
أجل أجل يا أخي : هذا نداء ربك إليك , فلبيك اللهم لبيك , و حمدا و شكرا لك لانحصي ثناء عليك , أنت ولي المؤمنين و نصير العاملين و المدافع عن المظلومين الذين حوربوا في بيوتهم و أخرجوا من ديارهم , عز من لجأ إليك و انتصر من احتمى بحماك.
أجل أجل يا أخي : تعال نستمع معا إلى صوت القرآن الكريم , و نطرب بتلاوة الآيات البينات , و نسجل جمال هذه العزة في صحائف ذلك الكتاب المطهر .
إلي إلي يا أخي واسمع قول الله تبارك وتعالى :
1 – (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (البقرة:257)
2 – (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) (آل عمران:150) .
3 – (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)(المائدة:55).
4 – (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (لأعراف:196).
5 – (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:51).
6 – (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ , الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس:62-63).
7 – (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) (محمد:11).
ألست ترى في هذه الآيات البينات أن الله تبارك و تعالى ينسبك إلى نفسه و تمنحك فضل ولايته و يفيض عليك من فيض عزته ؟
و في الحديث الشريف الذي يرويه المختار صلى الله عليه و سلم عن ربه فيما معناه : (يقول الله تبارك وتعالى يوم القيامة : يا بني آدم جعلت نسبا وجعلتم نسبا فقلتم فلان ابن فلان وقلت : " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " فاليوم أرفع نسبى وأوضع نسبكم)
لهذا أيها الأخ الكريم فضل السلف الصالح أن يرفعوا نسبتهم إلى الله تبارك و تعالى , ويجعلوا أساس صلاتهم ومحور أعمالهم تحقيق هذه النسبة الشريفة فينادي أحدهم صاحبه قائلا:
لا تدعني إلا بيا عبدها
- فإنه أشرف أسمائي
في حين يجيب الآخر من سأله عن أبيه أتميمي هو أم قيسي :
أبي الإسلام لا أب لي سواه
- إذا افتخروا بقيس أو تميم
ليس بعد ذلك عزة
أيها الأخ العزيز : إن الناس إنما يفخرون بأنسابهم لما يأنسون من المجد والشرف في أعمال جدودهم ، ولما يقصدون من نفخ روح العزة و الكرامة في نفوس أبنائهم وراء هذين المقصدين شئ، أفلا ترى نسبتك إلى الله تبارك وتعالى أسمى ما يطمح إليه الطامحون من معاني العزة والمجد : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعاً) (النساء:139) , وأولى ما يرفع نفسك إلى عليين وينفخ فيها روح النهوض مع العاملين ، و أي شرف أكبر و أي رافع إلى فضيلة أعظم من أن ترى نفسك ربانيا ، بالله صلتك وإليه نسبتك ، ولأمر ما قال الله تبارك وتعالى : (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79)
أعظم مصادر القوة
و في النسبة إلى الحق تبارك و تعالى معنى آخر يدركه من التحق بهذه النسبة , ذلك هو الفيض الأعم من الإيمان , و الثقة بالنجاح الذي يغمر قلبك فلا تخشى الناس جميعا و لا ترهب العالم كله إن وقف أمامك يحاول ان ينال عقيدتك أو ينتقص من مبدأك :
(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173) .
و لأمر ما كان الواحد من أولئك القلائل المؤمنين بالله و ثقته و تأييده يقف أمام الجحفل اللجب و الجيش اللهام , فلا يرهب صولته و لا يخشى أذاه لأنه لا يخشى أحدا إلا الله , و أي شيء أعظم من تلك القوة التي تنسكب من قلب الرجل المؤمن حين يجيش صدره بقول الله : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ) (آل عمران:160) .
قوميتنا عالية النسبة
و هناك معنى آخر من معاني السمو الاجتماعي في انتساب الناس إلى الله تبارك و تعالى , ذلك هو تآخي الشعوب و تآزر الجماعات و القضاء على تلك المطامع التي توحي بها العصبية و يؤرث نيرانها بين الأمم التقاطع و التخاصم , فمن للعالم بان يجتمع بقوة حول راية الله .. ؟
أحلام الأمس و حقائق اليوم
هذا كلام طال عهد المسلمين باستماعه فقد يكون غامضا عليهم غير مفهوم لديهم , و قد يقول قائل : ما لهؤلاء الجماعة يكتبون في هذه المعاني التي لا يمكن أن تتحقق , وما بالهم يسبحون في جو الخيال و الأحلام ؟
على رسلكم أيها الإخوان في الإسلام و الملة فغن ما ترونه اليوم غامضا بعيدا كان عند بدهيا قريبا , و لن يثمر جهادكم حتى يكون كذلك عندكم , و صدقوني إن المسلمين الأولين فهموا من القرآن لأول ما قرأوه و نزل فيهم , ما ندلي به اليوم و نقصه عليكم .
وأصارحكم بان عقيدة الإخوان المسلمين يحيون بها يأملون الخير فيها و يموتون عليها , و يرون فيها كل ما تصبوا إليه نفوسهم من متعة و جمال و إسعاد و حق : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16) .
أيها الإخوان : إذا اتفقتم معنا على هذا الأساس فاعلموا أن انتسابكم إلى الله تبارك و تعالى يفرض عليكم أن تقدروا المهمة التي ألقاها على عاتقكم ,و تنشطوا للعمل لها و التضحية في سبيلها فهل أنتم فاعلون ؟
مهمة المسلم
إن مهمة المسلم الحق لخصها الله تبارك و تعالى في آية واحدة من كتابه , و رددها القرآن الكريم بعد ذلك في عدة آيات , فأما تلك الآية التي اشتملت على مهمة السلمين في الحياة فهي قول الله تبارك وتعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ , وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ و َتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:77-78).
هذا كلام لا لبس فيه و لا غموض , و والله إن له لحلاوة و إن عليه لطلاوة , و إنه لواضح كالصبح ظاهر كالنور , يملأ الآذان و يدخل على القلوب بغير استئذان , أفلم يسمعه المسلمون قبل الآن ؟ أم سمعوه و لكن على قلوبهم أقفالا فلا تعي و لا تتدبر ؟
يأمر الله المسلمين أن يركعوا و يسجدوا و أن يقيموا الصلاة التي هي لب العبادة و عمود الإسلام و أظهر مظاهره , و أن يعبدوا الله و لا يشركوا به شيئا , و أن يفعلوا الخير ما استطاعوا , و هو حين يأمرهم بفعل الخير ينهاهم بذلك عن الشر و إن من أول الخير أن تترك الشر , فما أوجز و ما أبلغ ! و رتب لهم على ذلك النجاح و الفلاح و الفوز و تلك هي المهمة الفردية لكل مسلم التي يجب عليه أن يقوم بها بنفسه في خلوة أو جماعة .
حق الإنسانية
ثم أمرهم بعد ذلك أن يجاهدوا في الله حق جهاده بنشر هذه الدعوة و تعميمها بين الناس بالحجة و البرهان , فإن أبوا إلا العسف و الجور و التمرد فبالسيف والسنان :
والناس إذ ظلموا البرهان و اعتسفوا
- فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
حراسة الحق بالقوة
و ما أحكم القائل : ( القوة اضمن طريق لإحقاق الحق , و ما اجمل أن تسير القوة و الحق جنبا إلى جنب ) فهذا الجهاد في سبيل نشر الدعوة الإسلامية فضلا عن الاحتفاظ بمقدسات الإسلام فريضة الله على المسلمين كما فرض عليهم الصوم و الصلاة و الحج و الزكاة و فعل الخير و ترك الشر , و ألزمهم إياها و ندبهم إليها , و لم يعذر في ذلك أحد فيه قوة و استطاعة , و إنها لآية زاجرة رادعة و موعظة بالغة زاجرة :
(انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) (التوبة:41)
و قد كشف الله سر هذا التكليف و حكمة هذه الفريضة التي افترضها على المسلمين بعد هذا الأمر , فبين لهم أنه اجتباهم و اختارهم و اصطفاهم دون الناس ليكونوا سواس خلقه و أمناءه على شريعته و خلفاءه في أرضه , و ورثة رسوله في دعوته , و مهد لهم الدين و أحكم التشريع و سهل الأحكام و جعلها من الصلاحية لكل زمان و مكان بحيث يتقبلها العالم , و ترى فيها الإنسانية أمنيتها المرجوة و أملها المنتظر : (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ و َتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) (الحج:78)
و تلك هي المهمة الاجتماعية التي ندب الله إليها المسلمين جميعا , و أن يكونوا صفا واحدا و كتلة و قوة , و أن يكونوا هم جيش الخلاص الذي ينقذ الإنسانية و يهديها سواء السبيل .
رهبان بالليل فرسان بالنهار
ثم أوضح الحق تبارك و تعالى للناس بعد ذلك الرابطة بين التكاليف من صلاة وصوم بالتكاليف الاجتماعية و أن الأولى وسيلة للثانية , و أن العقيدة الصحيحة أساسهما معا , حتى لا يكون لأناس مندوحة من القعود عن فرائضهم الفردية بحجة انهم يعملون للمجموع , و حتى لا يكون لآخرين مندوحة من القعود عن العمل للمجموع بحجة أنهم مشغولين بعباداتهم مستغرقون في صلتهم لربهم , فما أدق و احكم , و من أحسن من الله حديثا ؟
أيها المسلمون : عبادة ربكم و الجهاد في سبيل التمكين لدينكم و إعزاز شريعتكم هي مهمتكم في الحياة , فإن أديتموها حق الأداء فانتم الفائزون , و إن أديتم بعضها أو أهملتموها جميعا فإليكم أسوق قول الله تبارك و تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ , فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) (المؤمنون:115-116) .
لهذا المعنى جاء أوصاف أصحاب محمد و هم صفوة الله من خلقه و السلف الصالح من عباده : ( رهبان بالليل فرسان بالنهار ) ترى أحدهم في ليله ماثلا في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم و يبكي بكاء الحزين و يقول : ( يا دنيا غري غيري ) فإذا انفلق الصباح و دوى النفير يدعو المجاهدين , رايته رئبالا على صهوة جواده , يزار الزارة فتدوي لها جنبات الميدان .
بالله عليك ما هذا التناسق العجيب و التزاوج بين الغريب و المزيج الفريد بين عمل الدنيا و مهامها و شؤون الآخرة و روحانيتها ؟ و لكنه الإسلام الذي جمع من كل شيء أحسنه .
استعمار الأستاذية و الإصلاح
و لهذا المعنى أيها المسلمون نفر المسلمون , بعد أن اختار نبيه – صلى الله عليه و سلم – الرفيق الأعلى في أقطار الأرض , قرآنه في صدورهم و مساكنهم على سروجهم و سيوفهم بأيديهم , حجتهم واضحة على ألسنتهم يدعون الناس إلى إحدى ثلاث : الإسلام أو الجزية أو القتال , فمن أسلم فهو أخوهم له ما لهم و عليه ما عليهم , و من أدى الجزية فهو في ذمتهم و عهدهم يقومون بحقه و يرعون عهده و يوفون له بشرطه , و من أبى جالدوه حتى يظهرهم الله عليه , (وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) (التوبة:32) .
ما فعلوا ذلك لسلطان , فزهادتهم في الجاه و الشهرة معروفة عند الخاص و العام , و لقد قضى دينهم على تلك المظاهر الزائفة التي يستمتع بها أقوام على حساب آخرين , فكان خليفتهم كأحدهم , يفرض له من المال و العطاء ما لرجل منهم ليس بأفضلهم و لا أدركهم , و لا يميزه إلا بما أفاض الله عليه من جلال الإيمان و هيبة اليقين , و لم ذلك لمال , فحسب أحدهم كسرة يرد بها جوعته و جرعة يطفئ بها ظمأته , و الصوم لديهم قربة , و الجوع أحب عندهم من الشبع , و حظ أحدهم من الملبس ما يستر به عورته , و كتابهم يناديهم بقول الله تعالى :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) (محمد:12)
و نبيهم يقول لهم : (تعس عبد الدينار , تعس عبد الدرهم , تعس عبد القطيفة)
إذا لم يكن مخرجهم من ديارهم لجاه أو مال أو سلطة أو استعمار أو استبداد , و إنما كان لأداء رسالة خاصة هي رسالة نبيهم التي تركها أمانة بين أيديهم , و أمرهم أن يجاهدوا في سبيلها , حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله .
آن لنا أن نفهم
كان المسلمون يفهمون هذا قديما و يعملون له و يحملهم إيمانهم على التضحية في سبيله , أما في هذه الأيام فقد تفرق المسلمون في فهم مهمتهم و اتخذوا من التأويل و التعطيل سندا للقعود و الكسل , فمن قائل يقول لك : مضى وقت الجهاد و العمل , و آخر يثبط همتك يقول لك بان الوسائل معدومة و الأمم الإسلامية مقيدة , و ثالث رضي من دينه كلمات يلوكها لسانه صباح مساء , و قنع من عبادته بركعات يؤديها و قلبه هواء
لا لا أيها الإخوان , القرآن يناديكم بوضوح و جلاء :
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحجرات:15) .
و أما في السنة فيقول لكم الرسول : (إذا ضن الناس بالدينار و الدرهم و تبايعوا بالعينة و تبعوا أذناب البقر و تركوا الجهاد في سبيل الله , أدخل الله تعالى عليهم ذلا لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم) رواه الأمام أحمد في مسنده , و الطبراني في الكبير , و البيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن عمر .
و أنتم تقرأون في كتب الفقه ما ألف منها قديما أو حديثا متى يكون الجهاد فرض كفاية و متى يكون فرض عين , و تعلمون حقائق ذلك و معناه حق العلم , فما هذا الخمول الذي ضرب بجدرانه ؟ و ما هذا اليأس الذي قبض على القلوب فلا تعي ولا تفيق ؟ هذا أيها المسلمون عصر التكوين فكونوا أنفسكم و بذلك تتكون أمتكم .
إن هذه الفريضة تحتاج إلى منكم نفوسا مؤمنة و قلوبا سليمة , فاعملوا على تقوية إيمانكم و سلامة صدوركم , و تحتاج منكم تضحية بالمال و الجهود فاستعدوا لذلك فإن ما عندكم ينفد و ما عند الله باق , و إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم جنة عرضها السموات و الأرض .
من أين نبدأ؟
إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ: تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو الفئة التي تدعو إليه على الأقل، إلى "قوة نفسية عظيمة" تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه، والخديعة بغيره. على هذه الأركان الأولية التي هي من خصوص النفوس وحدها، وعلى هذه القوة الروحية الهائلة، تبنى المبادئ وتتربى الأمم الناهضة، وتتكون الشعوب الفتية، وتتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمناً طويلاً.
وكل شعب فقد هذه الصفات الأربعة، أو على الأقل فقدها قواده ودعاة الإصلاح فيه، فهو شعب عابث مسكين، لا يصل إلى خير، ولا يحقق أملاً، وحسبه أن يعيش في جو من الأحلام والظنون والأوهام: (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (يونس:36) .
هذا هو قانون الله تبارك وتعالى وسنته في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلاً:
(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11) .
و هو أيضا القانون الذي عبر عنه النبي في الحديث الشريف الذي رواه أبو داود :
(يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل: ومن قِلّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ اللّه من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفنَّ اللّه في قلوبكم الوهن , فقال قائل: يا رسول اللّه وما الوهن ؟ قال: حبُّ الدنيا وكراهية الموت) أولست تراه قد بين أن سبب ضعف الأمم و ذلة الشعوب وهن نفوسها و ضعف قلوبها و خلاء أفئدتها من الأخلاق الفاضلة و صفات الرجولة الصحيحة , و إن كثر عددها و زادت خيراتها و ثمراتها.
و إن الأمة إذا رتعت في النعيم و أنست بالترف و غرقت في أعراض المادة و افتتنت بزهرة الحياة الدنيا , و نسيت احتمال الشدائد و مقارعة الخطوب و المجاهدة في سبيل الحق , فقل على عزتها و آمالها العفاء .
بين القوتين
يظن كثير من الناس أن الشرق تعوزه القوة المادية من المال و العتاد و آلات الحرب و الكفاح لينهض و يسابق الأمم التي سلبت حقه و هضمت أهله , ذلك صحيح و مهم , و لكن أهم منه و ألزم : القوة الروحية من الخلق الفاضل و النفس النبيلة و الإيمان و معرفتها و الإرادة الماضية , و التضحية في سبيل الواجب و الوفاء الذي تنبني عليه الثقة و الوحدة , و عنهما تكون القوة .
لو آمن الشرق بحقه و غير من نفسه و اعتنى بقوة الروح و عني بتقويم الأخلاق , لأتته وسائل القوة المادية من كل جانب و عند صحائف التاريخ الخبر اليقين.
يعتقد الإخوان المسلمون هذا تمام الاعتقاد , و هم لهذا دائبون في تطهير أرواحهم و تقوية نفوسهم و تقوية أخلاقهم , و هم لهذا يجاهدون بدعوتهم و يريدون الناس على مبادئهم و يطالبون الأمة بإصلاح النفوس و تقويم الأخلاق .
و هم لم يبتدعوا ذلك ابتداعا شأنهم في كل ما يقولون و لكنهم يستمدونه من القاموس الأعظم و البحر الخضم و الدستور المحكم و المرجع الأعلى , ذلك هو كتاب الله تبارك و تعالى , و قد سمعت من قبل تلك المادة الخالدة من ذلكم القانون :
(إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11) .
و لقد كشف القرآن عن هذا المعنى في كثير من آياته , بل إنه ضرب مثلا تطبيقيا خالدا واضحا كل الوضوح صادقا كل الصدق في قصة بني إسرائيل , تلك القصة الرائعة التي ترسم لكل أمة يائسة طريق التكوين .
المنهاج واضح
يعتقد الإخوان المسلمون أن الله تبارك و تعالى حين أنزل القرآن و أمر عباده أن يتبعوا محمدا و رضي لهم الإسلام دينا , و وضع في هذا الدين القويم كل الأصول اللازمة لحياة الأمم و نهضتها و إسعادها , و ذلك مصداق قول الله تبارك و تعالى :
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف:157).
و مصداق قول الرسول في الحديث الشريف ما معناه (والله ما تركت من شر إلا و نهيتكم عنه) و أنت إذا أمعنت النظر في تعاليم الإسلام وجدته قد وضع أصح القواعد و أنسب النظم و أدق القوانين لحياة الفرد رجلا و امرأة , و حياة الأسرة في تكوينها و انحلالها , و حياة الأمم في نشوئها و قوتها و انحلالها , و حلل الفكر التي وقف أمامها المصلحون .
فالعالمية و القومية و الاشتراكية و الرأسمالية و البلشفية و الحرب و توزيع الثروة , و الصلة بين المنتج و المستهلك و ما يمت بصلة قريبة أو بعيدة إلى هذه البحوث التي تشغل بال ساسة الأمم و فلاسفة الاجتماع , كل هذه نعتقد أن الإسلام خاض في لبها , و وضع للعالم النظم التي تكفل له الانتفاع بما فيها من محاسن , و تجنب ما تستتبعه من خطر و ويلات , و ليس ذلك مقام تفصيل في هذا المقال , فإنما نقول ما نعتقد و نبين للناس ما ندعوهم إليه , ولنا بعد ذلك جولات نفصل فيها ما نقول .
لا بد من أن نتبع
وإذا كان الإخوان المسلمون يعتقدون ذلك فهم يطالبون الناس بان يعملوا على أن تكون قواعد الإسلام الأصول التي تبنى عليها نهضة الشرق الحديث في كل شان من شؤون الحياة , ويعتقدون أن كل مظهر من مظاهر النهضة يتنافى مع قواعد الإسلام و يصطدم بأحكام القرآن فهو تجربة فاسدة فاشلة , ستخرج منها الأمم بتضحيات كبيرة في غير فائدة , فخير للأمم التي تريد النهوض أن تسلك إليه أخصر الطريق باتباعها أحكام الإسلام .
والإخوان المسلمون لا يختصون بهذه الدعوة قطرا دون قطر من الأقطار الإسلامية , ولكنهم يرسلونها صيحة يرجون أن تصل إلى آذان القادة و الزعماء في كل قطر يدين أبناؤه بدين الإسلام , و إنهم لينتهزون لذلك هذه الفرصة التي تتحد فيها الأقطار الإسلامية و تحاول بناء مستقبلها على دعائم ثابتة من أصول الرقي و التقدم و العمران .
احذروا الانحراف
و إن أكبر ما يخشاه الإخوان المسلمون أن تندفع الشعوب الشرقية الإسلامية في تيار التقليد , فترقع نهضاتها بتلك النظم البالية التي انتقضت على نفسها و أثبتت التجربة فسادها وعدم صلاحيتها , إن لكل أمة من أمم الإسلام دستورا عاما فيجب أن تستمد مواد دستورها العام من أحكام القرآن الكريم , و إن الأمم التي تقول في أول مادة من مواد دستورها : إن دينها الرسمي الإسلام , يجب أن تضع بقية المواد على أساس هذه القاعدة , و كل مادة لا يسيغها الإسلام و لا تجيزها أحكامه يجب أن تحذف من حتى لا يظهر التناقض في القانون الأساسي للدولة .
أصلحوا القانون
وإن لكل أمة قانونا يتحاكم إليه أبنائها , و هذا القانون يجب أن يكون مستمدا من أحكام الشريعة الإسلامية مأخوذا عن القرآن الكريم متفقا مع أصول الفقه الإسلامي , و إن الشريعة الإسلامية و فيما وضعه المشترعون المسلمون ما يسد الثغرة و يفي بالحاجة و ينقع الغلة , و يؤدي إلى أفضل النتائج و أبرك الثمرات , و إن في حدود الله لو نفذت لزاجرا يردع المجرم و إن اعتاد الإجرام , و يكف العادي و إن تأصل في نفسه العدوان و يريح الحكومات من عناء التجارب الفاشلة , و التجربة تثبت ذلك و تؤيده , و أصول التشريع الحديث تنادي به و تدعمه , و الله تبارك و تعالى يفرضه و يوجبه :
(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة:44) .
أصلحوا مظهر الاجتماع
وإن في كل أمة مظاهر من الحياة الاجتماعية تشرف عليها الحكومات و ينظمها القانون و تحميها السلطات , فعلى كل أمة شرقية إسلامية أن تعمل على أن تكون كل هذه المظاهر مما يتفق و آداب الدين و يساير و يساير تشريع الإسلام و أوامره , إن البغاء الرسمي لطخة عار في جبين كل أمة تقدر هذه الفضيلة , فما بالك بالأمم الإسلامية التي التي يفرض عليها دينها محاربة البغاء و الضرب على يد الزناة بشدة :
(وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور:2).
إن حانات الخمر في أظهر شوارع المدن و أبرز أحيائها , و تلك اللوحات الطويلة العريضة عن المشروبات الروحية , و هذه الإعلانات الظاهرة الواضحة عن أم الخبائث مظاهر يأباها الدين , و يجرمها القرآن الكريم أشد التحريم .
حاربوا الإباحية
و إن هذه الإباحية المغرية و المتعة الفاتنة و اللهو العابث في الشوارع و المجامع و المصايف والمرابع يناقض ما أوصى به الإسلام باتباعه من عفة و شهامة و إباء و انصراف إلى الجد و ابتعاد عن الإسفاف (إن الله تعالى يحب معالي الأمور و يكره سفاسفها) .
فكل هذه المظاهر و أشباهها , على الأمم الإسلامية أن تبذل في محاربتها و مناهضتها كل ما في وسع سلطانها و قوانينها من طاقة و مجهود لا تني عن ذلك و لا تتواكل .
نظموا التعليم
وإن لكل أمة و شعب إسلامي سياسة في التعليم و تخريج الناشئة و بناء رجال المستقبل , الذين تتوقف عليهم حياة الأمة الجديدة , فيجب أن تبنى هذه السياسة على أصول حكيمة تضمن للناشئين مناعة دينية و حصانة خلقية , و معرفة بأحكام دينهم , و اعتدادا بمجده الغابر وحضارته الواسعة .
هذا قليل من كثير من الأصول التي يريد الإخوان المسلمون أن ترعاها الأمم الإسلامية في بناء النهضة الحديثة , و هم يوجهون دعوتهم هذه إلى كل المسلمين شعوبا و حكومات , و وسيلتهم في الوصول إلى تحقيق هذه الغايات الإسلامية السامية وسيلة واحدة : أن يبنوا ما فيها من مزية و أحكام , حتى إذا ذكر الناس ذلك و اقتنعوا بفائدته أنتج ذلك عملهم له و نزولهم على حكمه :
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108) .
انتفعوا بإخاء إخوانكم
ينادي الإسلام أبناءه و متبعيه فيقول لهم :
(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) (آل عمران:103).
و يقول القرآن الكريم في آية أخرى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10)
و في آية أخرى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة:71) .
و يقول النبي الكريم صلى الله عليه و سلم : (و كونوا عباد الله إخوانا) و كذلك فهم المسلمون الأولون – رضوان الله عليهم – من الإسلام هذا المعنى الأخوي و أملت عليهم عقيدتهم في دين الله أخلد عواطف الحب و التآلف , و أنبل مظاهر الأخوة و التعارف , فكانوا رجلا واحدا و قلبا واحدا و يدا واحدة , حتى امتن الله بذلك في كتابه فقال تبارك و تعالى :
(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) (لأنفال:63).
تطبيق
وإن ذلك المهاجر الذي كان يترك أهله , و يفارق أرضه في مكة و يفر بدينه , كان يجد أمامه أبناء الإسلام من فتيان يثرب ينتظرون و كلهم شوق إليه و حب له و سرور بمقدمه , و ما كان لهم سابق معرفة و لا قديم صلة , و ما ربطهم به وشيجة من صهر أو عمومة , و ما دفعتهم إليه غاية أو منفعة , و إنما هي عقيدة الإسلام جعلتهم يحنون إليه و يتصلون به , و يعدونه جزءا من أنفسهم و شقيقا لأرواحهم , و ما هو إلا أن يصل المسجد حتى يلتف حوله الغر الميامين من الأوس و الخزرج , كلهم يدعوه إلى بيته و يؤثره على نفسه و يفديه بروحه وعياله , ويتشبث بمطلبه هذا حتى يؤول الأمر إلى الاقتراع , حتى روى الإمام البخاري ما معناه : (ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة) .
وحتى خلد القرآن للأنصار ذلك الفضل أبد الدهر , فما زال يبدو غرة مشرقة في جبين السنين في قول الله تبارك و تعالى :
(وَالَّذِينَ تَبَوَّءوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر:9) .
و على هذا درج أبناء الإسلام و خص الرعيل الأول ممن وجدت بين نفوسهم الأخوة الإيمانية , لا فرق بين مهاجرهم و أنصارهم , و لا بين مكيّهم و يمنيّهم , حتى أثنى الرسول على الأشاعرة من أهل اليمن بقوله صلى الله عليه و سلم ما معناه(نعم القوم الأشعريون إذا جهدوا في سفر أو حضر جمعوا ما عندهم فوضعوه في مزادتهم ثم قسموه بينهم بالسوية).
وأنت إذا قرأت القرآن الكريم , و أحاديث النبي العظيم صلى الله عليه و سلم , و طالعت سير الغر الميامين من أبناء هذا الدين , رأيت من ذلك ما يقر عينك و يملأ سمعك و قلبك .
أخوة تعلن الإنسانية
و لقد أثمرت هذه العقيدة ثمرتين لابد لنا من أن نجنيهما و نتحدث إليك عما فيهما من حلاوة لذة و خير و فائدة .
فأما الأولى منها : فقد أنتجت هذه العقيدة أن الاستعمار الإسلامي لم يشبهه أي استعمار في التاريخ أبدا , لا في غايته و لا في مسالكه و إدارته و لا في نتائجه و فائدته , فإن المستعمر المسلم إنما كان يفتح الأرض حين يفتحها ليعلي فيها كلمة الحق , و ينير أفقها بسنة القرآن الكريم , فإذا أشرقت على نفوس أهلها شمس الهداية المحمدية فقد زالت الفوارق و محيت المظالم , و شملها العدل و الإنصاف و الحب و الإخاء , و لم يكن هناك فاتح غالب و خصم مغلوب , و لكن إخوان متحابون متآلفون , و من هنا تذوب فكرة القومية , و تنجاب كما ينجاب الثلج سقطت عليه أشعه الشمس قوية مشرقة أمام فكرة الأخوة الإسلامية التي يبثها القرآن في نفوس من يتبعونه جميعا .
إن ذلك الفاتح المسلم قبل أن يغزوا من غزا و يغلب من غلب , قد باع أهله , و تجرد من عصبيته و قوميته في سبيل الله , فهو لا يغزو لعصبية و لا يغلب لقومية و لا ينتصر لجنسية , و لكنه حين يعمل لله و لله وحده لا شريك له , و إن أروع ما أثر من الإخلاص في الغاية , و تجريد النفس من الهوى ما جاء في الحديث الشريف ما معناه أن رجلا جاء إلى النبي فقال له يا رسول الله , إني أحب أن أجاهد في سبيل الله , و أحب أن يرى موقفي فسكت النبي و لم يجبه , فنزلت الآية الكريمة :
(فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف:110).
أرأيت كيف اعتبر الإسلام تطلع هذا الشخص إلى الثناء و المدح و هما من طبائع النفوس شركا خفيا يجب أن يتنزه عنه و يسمو بشرف الغاية النبيلة عنه ؟ و هل هناك أخلص من أن ينسى الإنسان نفسه في سبيل غايته ؟ و هل تظن أن رجلا يشترط عليه دينه أن يتجرد من نفسه و يكبت عواطفها و ميولها و أهواءها حتى يكون جهاده خالصا لله وحده , يفكر بعد هذا في أن يجاهد لعصبية أو يغزو لجنس أو قومية ؟ .. اللهم لا .
إن ذلك المغلوب الذي شاء له القدر أن يسعد بالإسلام و يهتدي به , ما ترك بلده و أرضه لأجنبي عنه يتحكم فيها و يسخره تسخير العبد الذليل , و يستأثر دونه بخيراتها , و لكنه ترك ما ترك لأنه يخلطه بنفسه و يمزجه بروحه و يناديه بإخلاص : لك ما لنا و عليك ما علينا , وكتاب الله تبارك و تعالى يفصل بيننا , فكلاهما فني في غايته و ضحّى في سبيل مبدئه , و ترك ما ترك ليعم الإنسانية نور الله , و تسطع عليها شمس القرآن الكريم , و في ذلك تمام إسعادها و كمال رقيها لو كانوا يعلمون .
أفق الوطن الإسلامي
أما الثمرة الثانية : فإن الأخوة الإسلامية جعلت كل مسلم يعتقد أن كل شبر من الأرض , فيه أخ يدين بدين القرآن الكريم ، قطعة من الأرض الإسلامية العامة التي يفرض الإسلام علي كل أبنائه أن يعملوا لحمايتها وإسعادها فكان من ذلك أن أتسع أفق الوطن الإسلامي وسما عن حدود الوطنية الجغرافية والوطنية الدموية إلى وطنية المبادئ السامية والعقائد الخالصة الصحيحة ، والحقائق التي جعلها الله للعالم هدى ونوراً , والإسلام حين يشعر أبناءه بهذا المعنى ويقرره في نفوسهم يفرض عليهم فريضة لازمة لحماية أرض الإسلام من عدوان المعتدين , وتخليصها من غصب الغاصبين ، وتحصينها من مطامع المتعدين .
طريق طويلة
أرجو أن تكون هذه الكلمات المتتاليات في بيان دعوة الإخوان المسلمين قد كشفت للقراء عن غايتهم , و أبانت لهم و لو إلى حد ما عن مناهجهم في السير إلى هذه الغاية , و قد تحدثت من قبل إلى إخواننا الغيورين على الإسلام و مجده حديثا طويلا هو أشبه بهذه الكلمات التي رآها القراء تحت عنوان : ( إلى أي شيء ندعو الناس )
و لقد أصغى إلى من حدثتهم إصغاء مشكورا , و كنا نتفهم القول تباعا أولا فأول , حتى خرجنا من المحادثة مقتنعين تماما بشرف الغاية و نجاح الوسيلة , و كم كانت دهشتي عظيمة حين رأيت منهم شبه إجماع على أن هذه السبيل مع التسليم بنجاحها طويلة , و أن التيارات الجارفة الهدامة في البلد قوية , مما يجعل اليأس يدب إلى القلوب و القنوط يستولي على النفوس , و حتى لا يجد القراء الكرام هذا الشعور الذي وجده أولئك المتحدثون من قبل , أحببت أن تكون هذه الكلمات مفعمة بالأمل , فياضة باليقين في النجاح إن شاء الله , و لله الأمر من قبل و من بعد , و سأحصر الموضوع في نظرتين إيجابيتين :
نظرة اجتماعية
يقول علماء الاجتماع إن حقائق اليوم هي أحلام الأمس , و أحلام اليوم هي حقائق الغد , و تلك نظرة يؤيدها الواقع و يعززها الدليل و البرهان , بل هي محور تقدم الإنسانية و تدرجها مدارج الكمال , فمن ذا الذي كان يصدق أن يصل العلماء إلى ما وصلوا إليه من المكتشفات و المخترعات قبل حدوثها ببضع سنين , بل إن أساطين العلم أنفسهم أنكروها لأول عهدهم بها , حتى أثبتها الواقع و أيدها البرهان , و المثل على ذلك كثيرة , و هي من البداهة بحيث يكفينا ذلك عن الإطالة بذكرها .
نظرة تاريخية
وإن نهضات الأمم جميعاً، إنما بدأت على حال من الضعف يخيَّل للناظر إليها، أن وصولها إلى ما تبتغي ضرب من المحال.
ومع هذا الخيال، فقد حدثنا التاريخ أن الصبر والثبات والحكمة والأناة وصلت بهذه النهضات الضعيفة النشأة، القليلة الوسائل، إلى ذروة ما يرجوه القائمون بها، من توفيق ونجاح، ومن ذا الذي كان يصدِّق أن الجزيرة العربية وهي تلك الصحراء الجافة المجدبة تنبت النور والعرفان، وتسيطر بنفوذ أبنائها الروحي والسياسي على أعظم دول العالم؟ ومن ذا الذي كان يظن أن أبا بكر صاحب القلب الرقيق الليِّن، وقد انتقض الناس عليه، وحار أنصاره في أمرهم، يستطيع أن يخرج في يوم واحد أحد عشر جيشاً، تقمع العصاة وتقوِّم المعوج ، وتؤدب الطاغي وتنتقم من المرتدين، وتستخلص حق الله في الزكاة من المانعين؟. ومن ذا الذي كان يصدق أن هذه الشيعة الضئيلة المستترة من بني علي و العباس تستطيع أن تقلب ذلك الملك القوي الواسع الأكناف ما بين عشية وضحاها , و هي ما كانت في يوم من الأيام إلا عرضة للقتل و التشريد و النفي و التهديد ؟. ومن ذا الذي كان يظن أن صلاح الدين الأيوبي يقف الأعوام الطوال ، فيردّ ملوك أوروبا على أعقابهم مدحورين ، مع توافر عددهم وتظاهر جيوشهم، حتى اجتمع عليه خمسة وعشرون ملكاً من ملوكهم الأكابر؟
ذلك في التاريخ القديم، وفي التاريخ الحديث أروع المثل على ذلك، فمن كان يظن أن الملك عبد العزيز آل سعود ، وقد نفيت أسرته وشرِّد أهله وسُلب ملكه، يسترد هذا الملك ببضعة وعشرين رجلاً، ثم يكون بعد ذلك أملاً من آمال العالم الإسلامي في إعادة مجده وإحياء وحدته؟ ومن كان يصدق أن ذلك العامل الألماني( هتلر ) يصل إلى ما وصل إليه من قوة النفوذ و نجاح الغاية ؟
هل هناك طريق أخرى؟
و ثم نظرتان سلبيتان تحدثان النتيجة بعينها و توجهان قلب الغيور إلى العمل توجيها صحيحا .
أولاهما : أن هذه الطريق مهما طالت فليس هناك غيرها في بناء النهضات بناء صحيحا و قد أثبتت التجربة صحة هذه النظرية .
الواجب أولا
و ثانيتهما : أن العامل يعمل لأداء الواجب أولا , ثم للأجر الأخروي ثانيا , ثم للإفادة ثالثا , و هو إن عمل فقد أدى الواجب , و فاز بثواب الله ما في ذلك من شك , متى توفرت شروطه , و بقيت الإفادة و أمرها إلى الله , فقد تأتي فرصة لم تكن في حسابه تجعل عمله يأتي بأبرك الثمرات , على حين إنه إذا قعد عن العمل فقد لزمه إثم التقصير , و ضاع منه أجر الجهاد و حرم الإفادة قطعا , فأي الفريقين خير مقاما و أحسن نديا ؟ و قد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في صراحة و وضوح في الآية الكريمة : (وَ إِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ , فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ) (الأعراف:164-165).
قصة أمة تتكون
ضعف
نحن الآن أمام جبار متكبر يستعبد عباد الله و يستضعفهم و يتخذهم خدما و حشما و عبيدا و خولا , و بين شعب من الشعوب الكريمة المجيدة استعبده ذلك الطاغية الجبار , ثم أراد الله تبارك تعالى أن يعيد لهذا الشعب المجيد حريته المسلوبة و كرامته المغصوبة و مجده الضائع و عزه البائد , فكان أول شعاع من فجر حرية هذا الشعب إشراق شمس زعيمه العظيم (موسى ) على الوجود طفلا رضيعا :
(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ , إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ , وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ) (القصص:3-5).
زعامة
و نحن بعد هذا أمام هذا الزعيم و قد بلغ أشده و استوى , و تولته العناية الإلهية , بعد أن أنفت نفسه الظلم و عافت الضيم , ففر بنفسه و هرب بحريته , حيث اصطنعه الله لنفسه و حمله عبء رسالته , و أسند إليه خلاص شعبه , فآب مملوءا بالإيمان مؤيدا باليقين , يواجه ذلك الجبار فيطلب إليه أن يعيد إلى شعبه حريته و يترك له كرامته و يؤمن به و يتبعه . و ما أروع ذلك التهكم المر اللاذع حين يحكي القرآن الكريم قول الرسول العظيم (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إسرائيل) (الشعراء:22).
أيها الجبار المتحكم في عباد الله لا عبادك , هل من النعمة التي تذكرنا بها و الجميل الذي تسديه إلي أن تستعبد شعبي و تحقر أمتي و تمتهن قومي ؟ إنها صيحة الحق دوت من فم النبي الكريم فزلزلت عرش الجبار و هزت ملكه :
(فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ , أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسرائيل , قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ , وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ , فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء:16-21).
صراع
و نحن الآن نشهد غضبة القوة على الحق كيف تثور عليه و تنتقم منه و تعذب أهله و تقهر مناصريه , ثم كيف يصبر أهل الحق على كل ذلك , و كيف يعللهم رؤساؤهم بالآمال الحلوة و الأماني العزبة حتى لا يجد الخور إلى نفوسهم سبيلا :
(وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ , قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف:127-128) .
إيمان
و ما أروع أن نشهد ذلك النموذج الخالد من الثبات و الصبر , و الاستمساك بعروة الحق , و الاستهانة بكل شيء حتى الحياة في سبيل الإيمان و العقيدة من أتباع هذا الزعيم الذين آمنوا بدعوته , و قد تحدوا هذا الجبار في استهانة و استماتة :
(فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا , إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه:72-73) .
انتصار
فإذا رأينا كل ذلك رأينا عاقبته في القسم الخامس و ما أدراك ما هي ؟ فوز و فلاح و انتصار و نجاح و بشرى تزف إلى المهضومين , و أمل يتحقق للحالمين , و صيحة الحق المبين تدوي في آفاق الأرض :
(يَا بَنِي إسرائيل قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ) (طه:80) .
هل نحن قوم عمليون؟
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْمَــنِ الرَّحِيـمِ
قد أجبنا في الرسالة السابقة (إلى أي شئ ندعو الناس)عن سؤال يتردد كثيرا علي أفواه كثير من الناس , فهم كانوا يسألون دائما كلما دعاهم داع إلى تشجيع (جماعة الإخوان المسلمون) والي أي شيء تدعو جماعة الإخوان المسلمون؟ وأحسبني أوضحت مبادئ هذه الدعوة بما يجعل الجواب علي هذا السؤال واضحا لا لبس فيه ولا غموض , وأظنني أجملت لهؤلاء السائلين مبادئ هذه الدعوة في الكلمة الأولى ثم فصلتها في الكلمات التي تلتها فلم يبق عذر للذي يريد أن يتعرف حقيقة دعوة الإخوان إجمالا وتفصيلا .
سؤال مهم .. وأصناف سائليه
وبقي سؤال آخر يتردد كثيرا علي أفواه الناس كذلك كلما دعاهم داع إلى تشجيع هذه الجماعة , التي تدأب علي العمل ليل نهار لا تبتغي من أحد جزاء ولا شكورا , ولا تعمل إلا لله وحده ولا تعتمد في خطواتها إلا علي تأييده ونصره وما النصر إلا من عند الله , وشعار كل عامل من العاملين : إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب . هذا السؤال الآخر أن يقول لك ذلك الذي تدعوه في استهانة وإعراض غالبا :
وهل هذه الجماعة جماعة عملية ؟وهل أعضاؤها قوم عمليون ؟
وهذا السائل أحد أصناف من الناس ...
إما شخص متهكم مستهتر لا يعنيه إلا أمر نفسه , ولا يقصد من إلقاء هذا السؤال إلا أن يهزأ بالجماعات والدعوات والمبادئ والمصلحين , لأنه لا يدين بغير مصلحته الشخصية , ولا يهمه من أمر الناس إلا الناحية التي يستغلهم منها لفائدتهم فقط ..
أو هو شخص غافل عن نفسه وعن الناس جميعا فلا غاية ولا وسيلة ولا فكر ولا عقيدة ..
وإما شخص مغرم بتشقيق الكلام وتنميق الجمل والعبارات وإرسال الألفاظ فخمة ضخمة ليقول السامعون إنه عالم , وليظن الناس أنه علي شئ وليس هو علي شئ وليلقي في روعك أنه يود العمل ولا يقعده عن مزاولته إلا أنه لا يجد الطريق العملي إليه , وهو يعلم كذب نفسه في هذه الدعوى وإنما يتخذها ستارا يغطي به قصوره وخوره وأنانيته وأثرته ..
وإما شخص يحاول تعجيز من يدعوه ليتخذ من عجزه عن الإجابة عذراً للقعود بالعلة للخمول والمكسلة ، وسبباً للانصراف عن العمل للمجموع .
وآية ذلك عند هؤلاء جميعاً أنك إذا فاجأتهم بالطريق العمليّ , وأوضحت لهم مناهج العمل المثمر , وأخذت بأبصارهم وأسماعهم وعقولهم وأيديهم إلى الطريق المستقيم لوّوا رؤوسهم وحاروا في أمرهم وأسقط في أيديهم , وظهر الاضطراب والتردد في ألفاظهم وحركاتهم وسكناتهم وأخذوا ينتحلون المعاذير ويرجئونك إلى وقت الفراغ ويتخلصون منك بمختلف الوسائل ، ذلك بعد آن يكونوا أمضوك اعتراضاً وأجهدوك نقاشاً ومحاوره ، ورأيتهم بعد ذلك يصدون وهم مستكبرون .
وإنما مثلهم في ذلك كالذي حدثوا أن رجلاً أعد سيفا قاطعاً ورمحاً نافذاً وعدةً وسلاحاً ، وأخذ كل ليلة ينظر إليها ويتحرق أسفا ً لأنه لا يرى خصما أمامه يُظهر في نزاله براعته ويؤيد بحربه شجاعته ، فأرادت امرأة أن تختبر صدق قوله ، فأيقظته ذات ليلة مع السحر ونادته بلهجة المستغيث : قم أبا فلان فقد طرقتنا الخيل ، فاستيقظ فزعا تعلوه صفرة الجبن وتهز أوصاله رعدة الخوف ، وأخذ يردد في ذهول واضطراب : الخيل.. الخيل.. لا يزيد على ذلك ولا يحاول أن يدفع عن نفسه ، وأصبح الصبح وقد ذهب عقله خوفاً وإشفاقا ، وطار لبه وجلا ورعبا ، وما نازل خصما ولا رأى عدوا ، وذلك كما قال القائل :
وإذا ما خلا الجبان بأرض
- طلب الطعن وحده والنزالا
بل كما قال الله تبارك وتعالى :
(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلاً , أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (الأحزاب:18-19) .
وليس لنا مع هذا الألوان من الناس قول وليس لهم عندنا جواب إلا أن نقول لهم : سلام عليكم لا نبتغى الجاهلين . وما لهؤلاء كتبنا ولا إياهم خطبنا . فلقد أملنا فيهم الخير طويلا ، انخدعنا بمعسول دعاويهم وعذب ألفاظهم حينا .. ثم تكشف أمرهم عن وقت أضيع ، ومجهود عقيم ، وتعويق عن الطريق , ورأينا منهم ضروبا وألوانا وأصنافا وأشكالا جعلت النفس لا تركن إليهم ولا تعتمد في شأن من الشؤون مهما كان صغيرا عليهم .
وهناك صنف آخر من الناس قليل بعدده كثير بجهده , نادر ولكنه مبارك ميمون ، يسألك هذا السؤال إذا دعوته المشاركة والتشجيع بغيرة وإخلاص، إنه غيور تملأ الغيرة قلبه ، عامل يود لو علم طريق العمل المثمر ليندفع فيها ، مجاهدا ولكنه لا يرى الميدان الذي تظهر فيه بطولته ، خبر الناس ودرس الهيئات وتقلب في الجماعات فلم يرى ما يملأ نفسه ويشبع نهمته ويسكن فؤاده ويقر ثأر شعوره ويرضي يقظة ضميره ، ولو رآه لكان أول الصف ولعد في الميدان بألف ، ولكان في حلبة العاملين سابقا مجليا سائل الغرة ممسوح الجبين .
هذا الصنف هو الحلقة المفقودة والضالة المنشودة ، وأنا على ثقة أنه إن وقع في أذنه هذا النداء وتلقى فؤاده هذا النجاء لن يكون إلا أحد الرجلين : إما عامل مع المجدين ، وإما عاطف من المحبين ، ولن يكون غير ذلك أبدا . فهو إن لم يكن للفكرة فلن يكون عليها .
ولهذا الصنف نكتب .. وإياه نخاطب ومعه نتفاهم ..وان الله وحده هو الذي يختار جنده وينتخب صفوة العاملين له : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (القصص:56) , ولعلنا نوفق إلى ما قصدنا إليه .. والله يقول الحق وهو يهدى السبيل .
للغيورين من أبناء الإسلام
لهذا الصنف :الكريم المعادن ، النفيس الجواهر ،العالي الهمة ، النبيل النفس ، الذي يود العمل ويتمناه ، ويقعد بهم عن تحقيق أمنيته قول القائل :
وزهدي في الناس معرفتي بهم
- وطول اختباري صاحبا بعد صاحب
فلم ترني الأيام خِـلا تسـرني
- مبـاديه إلا سـاءنى في العواقـب
نقول: أنت الآن أمام دعوة جديدة وقوم ناشئين يدعونك إلى العمل معهم والانضمام إليهم والسعي بجوارهم إلى الغاية التي هي أمل كل مسلم ورجاء كل مؤمن ، ومن حقك أن تسأل عن مدي وسائلهم العملية ، ومن واجبك أن تتحرى وتتفقه فيما يدعونك إليه. ولقد أعجبني من صديق دعوته إلى جماعتنا أنه كان يراجعني في كل كلمه ويقف أمام كل عبارة ويناقش كل وسيله حتى إذا اقتنعت نفسه قال كلمته فما زالت مرعية الجانب محققه المعني واضحة الأثر ، وما زال هو العامل المجد إلى الآن وأرجو أن يظل كذلك بحول الله تعالى . ولكنا مع هذا نسوق لمثل هذا الأخ الكريم هذه الملاحظات : -
ألا يرى الأخ معنا أن الأجدر بنا بدل أن نسأل هذا السؤال أن ندخل ضمن الجماعة ونعمل مع العاملين فيها ونلقى بدلونا بين الدلاء ، فان رأينا خيرا ً فذلك , وان كانت الأخرى فطريق الانفصال واضحة ، ولا سيما إذا كان الباب على مصراعيه لمن يدخل أو يخرج وكانت أعمال الجماعة جلية على المكشوف كما يقولون لا خفاء بها ولا سر فيها ؟ ولقد حدثوا أن النحويين اختلفوا فيما بينهم على عدد أبيات ألفية ابن مالك ، فكان هذا الخلاف مثار جدل عنف لم يوصلهم إلى شيء ، حتى تدخل أحد عقلائهم فأحضر نسخة منها وقال : ها هي ذه عدوها واتفقوا ...فكان في ذلك حسم الخلاف .
هذه جماعة الإخوان يا عزيزي في كل مكان تنادى الناس وتفتح لهم قلبها وبابها وناديها ، فهلم فان رأيت ما تحب فعلى بركة الله وان لم تر ذلك فقل كما قال بشار :
إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها
- خرجت مع البازي على سواد
أولا يرى الأخ معنا أن الجماعات هي الأفراد منضمة ، فإذا كان كل فرد يسأل هذا السؤال فأين الجماعة إذن ؟ هذه خدعة عقلية يقع فيها كثير من الناس ، فأنت إذا شئت أن تعرف الكرسي قلت هو جسم يتركب من مقعد ومسند وأربع أرجل ، ولكن ألست ترى أن هذه خديعة وان ذلك ليس بصحيح ، فهل الجسم غير هذه الثلاثة ؟ وإذا جردت الكرسي من أرجله ومقعده ومسنده فهل يبقى هناك جسم أو أثر يصح أن تطلق عليه صفة الوجود فضلا عن الصفات الأخرى؟
كذلك يخدع الناس أنفسهم في قضية الجماعات والأفراد ، فهم يظنون أن الجماعات شيء والأفراد شيء وما الجماعات في الحقيقة إلا أفراد ، وما الأفراد إلا حقائق الجماعات ولبنات بنائها ، فإذا تنافرت هذه اللبنات وأخذ كل فرد يسأل عن الجماعة... فأين الجماعة إذن؟ ومن السائل ومن المسئول؟ وإنما أوقعنا في هذه الورطة ما عودناه من خلق التواكل الذي جعلنا نترك العبء كله لفرد واحد أو يدفعه كل منا على أخيه ففلا يزال مهملا لا يستقر على حال ولا ينهض به أحد ، وها أنا ذا أصارح كل الغيورين من أبناء الإسلام بأن كل جماعة إسلامية في هذا العصر محتاجة أشد الحاجة إلى الفرد العامل المفكر .. إلى العنصر الجريء المنتج . فحرام على ككل منت آنس من نفسه شيئا من هذا أن يتأخر عن النفير دقيقة واحدة .
أولا يرى ـ أيده الله وأيد به ـ أن عليه أن يدخل إلى الجماعة التي تدعوه فان وجدها عملية كما يحب قرت عينه وفرحت نفسه ، وان لم يجدها كذلك حملها بوضوح شخصيته وقوة تأثيره على ما يجب من وسائل العمل ، فان لم تستقم له كان قد أعذر إلى ربه ونفسه ولعلهم يتقون ؟
و لاسيما إذا كان الذين يوجهون إليه هذه الدعوة قوم يعلمون أن فوق كل ذي علم عليم ، وأن لكل ذي رأى حقا في إبداء رأيه ، وإن المصطفى e وهو أصح الناس رأياً وأنضجهم فكراً وأكبرهم عقلا –أخذ برأي الحباب في بدر وبرأي سلمان في الخندق ، وهم يفرحون بكل من يأخذ بفكرتهم إلى وسائل العمل الصحيح .
أولا يرى الأخ كذلك أنه إن كان قد جرب مرة أو مرتين أو فوق ذلك فان ذلك لا ييئسه ومن واجبه أن يعاود الكره مرات حتى يظفر بأمنيته ويصادف بغيته ، فانه إن قنط فاته بذلك خير كثير ؟ كالذي حدثوا أن صيادا ظفر بسمكه كبيرة ثم رأى في قاع الماء صدفة ظنها لؤلؤه فترك السمكة وأخذ الصدفة ، فلما رآها ندم على ما فرط منه ثم وقع له حوت صغير وعرضت لؤلؤة ظنها صدفة فأعرض عنها وقنع بحوته ففاته خير كثير .
أو كالذي حدثوا أن بطة في غدير رأت في الماء ظلا ظنته سمكه فأخذت تهوى بمنقارها تلتقطه حتى أتعبها ذلك فتركته غاضبة ، ثم عرضت لها سمكة فظنتها ظلا وتركتها ففاتتها الفرصة السانحة وخسرت الأمنية المطلوبة .
هذه ملاحظات نتقدم بها إلى الذين يريدون أن يعملوا للإسلام من أبنائه الغيورين ، وهي جديرة بالنظر فيما نعتقد .
وندعوهم بدعوة الإخوان المسلمين ، فعليهم أن يجربوا ولا يتواكلوا ، ويندمجوا فإن وجدوا صالحا شجعوه , وإن وجدوا معوجا أقاموه ، ولاتكن تجربتهم حائلا بينهم وبين التقدم ، ونأمل أن يروا من الإخوان ما تقر به أعينهم أن شاء الله تعالى ، وإنا موجزون بعض ذلك في الكلمات التالية.
مؤسسـات ومشـاريع
يعتقد كثير من إخواننا أن الجماعة العملية هي التي تقوم بعمل المشروعات العامة النافعة وتترك في مقرها أثراً خالداً من المؤسسات المفيدة . وسنجاريهم في هذا المقال ، ونزن "جماعة الإخوان المسلمين " بهذا الميزان ، ولنا في الكلمات التالية إن شاء الله تعالى ميزان آخر ـ نزن به جماعتنا ونقدر به الجهود العملية ـ قد يكون في باب نهضات الأمم أصح تقديراً وأدق تعبيراً من ميزان اليوم ، وكلاً وعد الله الحسنى .
انتشرت فكرة الإخوان المسلمين فيما يزيد علي خمسين بلداً من بلدان القطر المصري وقامت في كل بلد من هذه البلدان تقريباً بمشروع نافع أو مؤسسة مفيدة ، فأنت تراها في الإسماعيلية قد أسست مسجد الإخوان المسلمين ونادي الإخوان المسلمين وأنشأت معهد حراء الإسلامي لتعليم البنين ومدرسة أم المؤمنين ..
وفي شبراخيت قد أسست كذلك مسجد الإخوان ونادي الإخوان ومعهد حراء ، وأقامت بجوار هذه العمارة الفخمة داراً للصناعة يتعلم فيها طلبه المعهد الذين لا يستطيعون إتمام التعليم وتريد الجمعية أن تهيئ لهم سبيل الحياة العملية بتخريجهم صناعاً مثقفين وعمالاً مهذبين ..
وفي محمودية البحيرة قامت بمثل ذلك ، فأنشأت منسجاً للنسيج والسجاد إلى جوار معهد تحفيظ القرآن بدار نادي الإخوان المسلمين الرحيب .. وفي المنزلة دقهلية معهد لتحفيظ القرآن ظهرت ثمرته رغم قصر المدة ، وها هو يقدم لنا حفاظاً متقنين في هذه الفترة الوجيزة التي أنشئ فيها ..وقل مثل ذلك أو بعضه ـ ولا لزوم للتكرار ـ في كل شعبة من شعب الإخوان المسلمين المنتشرة في أنحاء القطر المصري من إدفو إلى الإسكندرية ..
وفي كثير من جمعيات الإخوان المسلمين تجد لجاناً تطوعت للمصالحات بين الأفراد والأسر المتخاصمة , يجري الله علي يديها خيراً كثيراً ويحل بها من المشاكل ما شغل القضاء مدة طويلة ..
وفي كثير منها لجان للصدقات تتفقد البائسين والمعوزين في المواسم والأعياد وغيرها , وتحاول بذلك القيام بواجب رعاية هؤلاء من جهة ورد غائلة ذئاب المبشّرين عنهم من ناحية أخري ..
وفي كثير منها لجان للوعظ والتذكير في المجتمعات التي لا يظن أن تكون مجامع وعظ كالمقاهي والأندية العامة وحفلات الأفراح والتعزية ونحوها ..
وفي كثير منها ولا سيما في النواحي القروية لجان تطوعت للإشراف علي المرافق العامة في القرية من ترميم المساجد وتنظيف الشوارع وإضاءة الطرقات والسعي في إيجاد المشافي المتنقلة ، وما إلى ذلك من كل ما يعود علي القرية بفائدة في دينها ودنياها ..
وفي كثير منها لجان لمحاربة العادات الفاسدة والجهالات المنتشرة في البيئات البعيدة عن مناهل العلم كالزار ونحوه ، وإلي جانبها لجان لإحياء السنن والفرائض التي نسيها الناس بالعمل لا بالقول : كجمع زكاة الحبوب في مخزن خاص وتوزيعها بمعرفة الجماعة علي المستحقين بدون محاباة ولا تحيز ، كما فعلت ذلك دائرة الإخوان ببرمبال القديمة مثلاً..
وفي القاهرة أنشئت "جريدة الإخوان المسلمين " الأسبوعية ، ولم تمض فترة وجيزة قليلة حتى وجدت إلى جانبها "مطبعة الإخوان المسلمين " وكل ذلك في وقت لم يتجاوز عاماً..
ولقد كان لجماعة الإخوان المسلمين في حركة التبشير الأخيرة بل في كل وقت عمل جليل في دفع خطر التبشير عن المستضعفين والفقراء وأبناء الأمة ، فبيوت الإخوان لإيوائهم ، ودور صناعاتهم مستعدة لتعليمهم ، ومدارسهم ترحب قبولهم ولجانهم تحذر الناس من شرور هؤلاء المضللين الذين يخادعون الناس عن عقائدهم ويستغلون الفقر والمرض في إضلالهم وإذلالهم .
تلك بعض آثار جماعة الإخوان المسلمين العملية ، ولا أذكر لك الدروس والمحاضرات والخطب والمقالات والوفود والرحلات والمجامع والزيارات ، فلعل هذه في عرف الناس وسائل قولية ، وقد قلنا حتى مللنا القول وتكلمنا حتى سئمنا الكلام ولم يبق إلا أن نعمل .
ولعلك تعجب حين تعلم أن جماعة الإخوان المسلمين التي قامت بهذه الأعمال العظيمة لم تأخذ إعانة حكومية مرة من المرات ، ولم تستعن بمال هيئة من الهيئات اللهم إلا خمسمائة جنيه تبرعت بها شركة قناة السويس للجماعة بمناسبة عمارة المسجد والمدرسة بالإسماعيلية .
وإن الناس ليتقولون كثيراً ، وليظنون وبعض الظن إثم ، ولينطقون بما ليس لهم به علم ، وما علينا في ذلك من بأس . وحسبنا أن يعلم الله أن ذلك بتوفيقه وأنها أموال الإخوان الخاصة أنفقت بإخلاص فأثمرت وبوركت وآتت أكلها كل حين بإذن ربها وحسبنا أن نقول لهم في عبارة صريحة واضحة نتحدى بها كل إنسان وكل هيئة وكل شخص كائناً من كان : أن جماعة الإخوان المسلمين لم تستعن في مشروعاتها بغير أعضائها ، وهي بذلك جد فخورة تجد لذة التضحية ونشوة الفرح بالإنفاق في سبيل الله .
ولعلك تعجب كذلك إذا علمت أن الاشتراك المالي في جماعة الإخوان المسلمين اختياري لا إجباري ،وأن العضو الذي يتخلف عن دفع الاشتراك لا ينقض ذلك من حقوق أخوّته شيئاً ، ومع أن هذا نص صريح في القانون الأساسي للجماعة فان الإخوان ـ جزاهم الله خيرا ـ يبادرون إلى التضحية في سبيل الله إذا دعاهم إليها داعي الواجب ويأتون في ذلك بالعجب العاجب ،وأسمع أحدثك .
في بناء مسجد الإسماعيلية ، دعاهم رئيسهم إلى التبرع فقام أحد الأعضاء الصناع وتبرع بجنيه ونصف بعد ثلاثة أيام ، هو صانع فقير أنى له بهذا المبلغ ؟ أراد أن يقترض فأبت نفسه وخشي الممالطة .. حاول الحصول على هذا المبلغ من غير هذا الباب فلم يجد السبيل ميسرة..لم يبق أمامه إذا إلا أن يبيع دراجته التي يركبها من محل عمله ومن محل عمله إلى منزله وبينهما ستة كيلو مترات ! وفعلاً أنفذ الفكرة وأحضر المبلغ في نهاية الموعد تماماً فجمع بين الوفاء بموعده والقيام بتبرعه..
ولاحظ رئيس الإخوان أنه صار يتأخر عن درس العشاء ولا يدركه إلا بشق النفس ، وسأله عن ذلك فلم يجب ، فأجاب عنه صديق عرف سره وأخبر الرئيس أنه باع عجلته ليفي بتبرعه وأصبح يعود علي رجليه فيتأخر عن الدرس ، وأكبر الرئيس والإخوان هذه الهمة وحيوا فيه هذه الأريحية وأقروا تبرعه كما هو واكتتبوا له في دراجة جديدة خير من دراجته لتكون عنده ذكرى الإعجاب بهذا الوفاء .
بمثل هذه النفوس التي تمتُّ بصلة إلى نفوس السابقين الأولين من رجال الإسلام الغرّ الميامين نهضت فكرة الإخوان المسلمين ، ونجحت مؤسساتهم وتمت مشروعاتهم .
إنهم فقراء ولكنهم كرماء ، إنهم قليلو المال ولكنهم أسخياء النفوس ، فهم يجودون بالكثير من هذا القليل فيكون كثيراً وتباركه نعمة الله فيأتي بالخير العميم .
ولعلي بهذه الناحية قد كشفت ناحية غمضت علي بعض الذين رأوا جهود الإخوان فلم يجدوا يجدوا لنجاحهم سراً إلا أن يتهموهم باستجداء الهيئات وخدمة المصالح والأغراض ، وهم والحمد لله من ذلك براء .
وأما بعد ، فهي صفحة من صفحات جهاد الإخوان المسلمين العملي نتقدم بها إلى الذين يريدون أن يزِنوا الجماعة بميزان المؤسسات والمشروعات .
والإخوان دائبون في أن تصبح هذه الصفحة صفحات يتألف منها إن شاء الله تبارك وتعالى كتاب من أعمال الخير البريئة النزيهة الخالصة لوجه الله تبارك وتعالى . ولعلهم بذلك يفكرون في تشجيع هذه الجماعة الماضية قدما إلى غايتها تعتمد على ربها وتثق بصدق وعده وهناك صفحه أخرى سنتحدث عنها إن شاء الله .
إعــداد الرجـال
رأيت في المقال السابق أن "جماعة الإخوان المسلمين" كانت في طليعة الجمعيات المنتجة من حيث المشروعات العامة والمؤسسات النافعة ..من مساجد ومدارس ، ولجان خير وبر ، ودروس ومحاضرات وخطب وعظات ، وأندية يتناوبها القول والفعل .
ولكن الأمم المجاهدة التي تواجه نهضة جديدة وتجتاز دور انتقال خطير ، وتريد أن تبني حياتها المستقبلة على أساس متين يضمن للجيل الناشئ الرفاهة والهناءة ، وتطالب بحق مسلوب وعز مغصوب ، في حاجة إلى بناء آخر غير هذه الأبنية ...
إنها في مسيس الحادة إلى بناء النفوس وتشييد الأخلاق وطبع أبنائها على خلق الرجولة الصحيحة ، حتى يصمدوا لما يقف في طريقهم من عقبات ويتغلبوا علي ما يعترضهم من مصاعب.
إن الرجل سر حياة الأمم ومصدر نهضاتها وإن تاريخ الأمم جميعاً إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات .
وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة .
وإني اعتقد ـ والتاريخ يؤيدني ـ أن الرجل الواحد في وسعه أن يبني أمة إن صحت رجولته ، وفي وسعه أن يهدمها كذلك إذا توجهت هذه الرجولة إلى ناحية الهدم لا ناحية البناء ..
وإن الأمم تجتاز أدوار من الحياة كتلك الأدوار التي يجتازها الأفراد علي السواء : فقد ينشأ هذا الفرد بين أبوين مترفين آمنين ناعمين فلا يجد من مشاغل الحياة ما يشغل باله ويؤلم نفسه ولا يطالب بما يرهقه أو يضنيه ، وقد ينشأ الفرد الآخر في ظروف عصبيه وبين أبوين فقيرين ضعيفين فلا يطلع عليه فجر الحياة حتى تتكدس علي رأسه المطالب وتتقاضاه الواجبات من كل جانب وسبحان من قسم الحظوظ فلا عتاب ولا ملامسة .
وقد شاءت لنا الظروف أن ننشأ في هذا الجيل الذي تتزاحم الأمم فيه بالمناكب وتتنازع البقاء أشد التنازع وتكون الغلبة دائماً للقوي السابق ..
وشاءت لنا الظروف كذلك أن نواجه نتائج أغاليط الماضي ونتجرع مرارتها ، وأن يكون رأب الصدع وجبر الكسر ، وإنقاذ أنفسنا وأبنائنا ، واسترداد عزتنا ومجدنا ، وإحياء حضارتنا وتعاليم ديننا .. وشاءت لنا الظروف كذلك أن نخوض لجة عهد الانتقال الأهوج ، حيث تلعب العواصف الفكرية والتيارات النفسية والأهواء الشخصية بالأفراد وبالأمم وبالحكومات وبالهيئات وبالعالم كله ، وحيث يتبلل الفكر وتضطرب النفس ويقف الربان في وسط اللجة يتلمس الطريق ويتحسس السبيل وقد اشتبهت عليه الأعلام وانطمست أمامه الصور ووقف علي رأس كل طريق داع يدعوا إليه في ليل دامس معتكر وظلمات بعضها فوق بعض ، حتى لا تجد كلمة تعبر بها عن نفسية الأمم في مثل هذا العهد أفضل من "الفوضى" ..
كذلك شاءت لنا ظروفنا أن نواجه كل ذلك وأن نعمل على إنقاذ الأمة من الخطر المحدق بها من كل ناحية . وإن الأمة التي تحيط بها ظروف كظروفنا ، وتنهض لمهمة كمهمتنا ، وتواجه واجبات كتلك التي نواجهها ، لا ينفعها أن تتسلى بالمسكنات أو تتعلل بالآمال والأماني .
وإنما عليها أن تعد نفسها لكفاح طويل عنيف وصراع قوي شديد : بين الحق والباطل وبين النافع والضار وبين صاحب الحق وغاصبه وسالك الطريق وناكبه وبين المخلصين الغيورين والأدعياء المزيفين .
وأن عليها أن تعلم أن الجهاد من الجهد ، والجهد هو التعب والعناء ، وليس مع الجهاد راحه حتى يضع النضال أوزاره وعند الصباح يحمد القوم السرى .
وليس للأمة عدة في هذه السبيل الموحشة إلا النفس المؤمنة والعزيمة القوية الصادقة والسخاء بالتضحيات والإقدام عند الملمّات وبغير ذلك تغلب علي أمرها ويكون الفشل حليف أبنائها.
ومع أن ظروفنا هي ما علمت .. فإن نفوسنا لا تزال تلك النفوس الرخوة اللينة المترفة الناعمة التي تجرح خديها خطرات النسيم ويدمى بنانها لمس الحرير .
وفتياتنا وفتياننا هم عدة المستقبل ومعقد الأمل لا يزال حظ أحدهم أو إحداهن مظهرا فاخراً أو أكلة طيبة أو حلة أنيقة أو مركباً فارهاً أو وظيفة وجيهة أو لقباً أجوف ، وإن اشترى ذلك بحريته وإن أنفق عليه من كرامته وإن أضاع في سبيله حق أمته .
وهل رأيت أولئك الشبان الذين تنطق وجوههم بسمات الفتوة وتلوح على محياهم مخايل النشاط ويجرى في قسماتهم ماء الشباب المشرق الرقراق وهم يتألمون على أبواب رؤساء المصالح والدواوين بأيديهم طلبات الوظائف ؟ وهل رأيتهم يتوسلون بالصغير والكبير ويرجون الحقير والأمير ويوسطون حتى سعاة المكاتب وحجاب الوزارات في قضايا المأرب وقبول الطلبات ؟
هل تظن ـ يا عزيزي القارئ ـ أن هذا الشباب إذا أسعفه الحظ وتحقق له الأمل التحق بوظيفة من هذه الوظائف الرسمية يفكر يوماً من الأيام في تركها أو التخلي عنها في سبيل عزة أو كرامة وإن سيم الخسف وسوء العذاب ؟
نفوسنا الحالية في حاجة إلى علا ج كبير وتقويم شامل وإصلاح يتناول الشعور الخامد والخلق الفاسد والشح المقيم .
وإن الآمال الكبيرة التي تطوف برؤوس المصلحين من رجالات هذه الأمة ، والظروف العصيبة التي نجتازها تطالبنا بإلحاح بتجديد نفوسنا وبناء أرواحنا بناءً غير هذا الذي أبلته السنون وأخلقته الحوادث وذهبت الأيام بما كان فيه من مناعة وقوة ، وبغير هذه التقوية الروحية والتجديد النفسي لا يمكن أن نخطو إلى الأمام خطوة .
إذا علمت هذا وكنت معي أن هذا المقياس أصح وأدق في نهضات الأمم والشعوب فاعلم أن الغرض الأول الذي ترمى إليه جمعيات الإخوان المسلمين (التربية الصحيحة ) : تربية الأمة على النفس الفاضلة والخلق النبيل السامي ، وإيقاظ ذلك الشعور الحي الذي يسوق الأمم إلى الذود على كرامتها والجد في استرداد مجدها وتحمل كل عنت ومشقة في سبيل الوصول إلى الغاية ..
ولعلك تسأل بعد هذا : وما الوسائل التي اتخذها الإخوان المسلمين لتجديد نفوسهم وتقويم أخلاقهم ؟ وهل جرب الإخوان هذه الوسائل ؟ وإلى أي مدى نجحت تجربتهم ؟ وموعدنا الكلمات التالية ان شاء الله .
تحديد الوسيلة واعتماد المبدأ
قد علمت أيها القارئ الكريم أن الإخوان المسلمين يقصدون أول ما يقصدون إلى تربية النفوس وتجديد الأرواح وتقوية الأخلاق وتنمية الرجولة الصحيحة في نفوس الأمة ، وقد يعتقدون أن ذلك هو الأساس الأول الذي تبنى عليه نهضات الأمم والشعوب .
وقد استعرضوا وسائل ذلك وطرائق الوصول إليه فلم يجدوا فيها أقرب ولا أجدى من الفكرة الدينية استمساك بالأهداب (الدين) .
الدين الذي يحيى الضمير ويوقظ الشعور وينبه القلوب ، ويترك مع كل نفس رقيباً لا يغفل وحارساً لا يسهو وشاهداً لا يجامل ولا يحابى ولا يضل ولا ينسى ، يصاحبها في الغدوة والروحة والمجتمع والخلوة ، ويراقبها في كل زمان ويلاحظها في كل مكان ، ويدفعها إلى الخيرات دفاعاً ويدعها عن المآثم دعاً ، ويجنبها طريق الذلل ويبصرها سبيل الخير والشر : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (الزخرف:80) .
الدين : الذي يجمع أشتات الفضائل ويلم أطراف المكارم ويجعل لكل فضلة جزاء ولكل مكرمة كفاءً ويدعو إلى تزكية النفوس والسمو بها وتطعير الأرواح وتصفيتها (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا , وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:9-10) .
الدين : الذي يدعو إلى التضحية في سبيل الحق ، والفناء في إرشاد الخلق ، ويضمن لمن فعل ذلك أجزل المثوبة ، ويد لمن سلك هذا النهج أحسن الجزاء , ويقدر الحسنة وان صغرت ويزن السيئة وان حقرت ، ويبدل الفناء في الحق خلوداً والموت في الجهاد وجوداً .
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران:169) (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الأنبياء:47) .
الدين:الذي يشترى من المرء هذه الأغراض الدنيوية وتلك المظاهر المادية بسعادة تمتلئ بها نفسه ويهنأ بها قلبه من فضل الله ورحمته ورضوانه ومحبته . (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ) (النحل:96)
الدين : الذي يجمع كل ذلك ، ثم هو بعد يصافح الفطرة ويمازج القلوب ويخالط النفوس فيتحد بها وتتحد به ، ويتخلل ذرات الأرواح ويساير العقول فلا يشذ عنها ولا تنبو عنه .. يهش له الفلاح في حقله ، ويفرح به الصانع في معمله ، ويفهمه الصبي في مكتبه ، ويجد ويجد لذته وحلاوته العالم في بحوثه ، ويسمو بفكرته الفيلسوف في تأملاته .
وهل رأيت على نفوس البشر سلطاناً من الدين ؟ وهل رأيت في تاريخ البشرية أعظم تأثيراً في حياة الأمم والشعوب منه وهل رأيت للفلاسفة والعلماء ما كان من التأثير البليغ للمرسلين والأنبياء ؟
لا وأبيك فإنما الدين قبس من روح الله السارية في ذرات هذه النفوس وفطرها يضئ ظلامها وتشرق بنوره ويأوي إليها فتهش له .فإذا تمكن منها كان كل شئ له فداء :
(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24) .
الدين : الذي يسمو بقدسيته وجلاله فوق كل نفس ، ويعلو علي كل رأس ، ويجل عن الاختلاق ، ويتنزه عن التقليد والمحاكاة ، فيوحد بذلك بين القلوب ويؤلف بين النفوس ، ويقطع مادة النزاع ، ويحسم أصول الخلاف ، ويزيد ذلك ثباتاً وقوة بتوجيه القلوب إلى الله وحده ، وصرف النفوس عن الأغراض والمطامع والشهوات واللذائذ ، والسمو بالمقاصد والأعمال إلى مراتب المخلصين الصادقين الذين يبتغون بعملهم وجه الله لا يرجون من ورائه جزاءً ولا شكوراً , (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى:13)
الدين : الذي يسمو بالوفاء إلى درجة الشهادة ، ويعده فريضة يسأل بين يدي الله عنها ، وفضيلة يتقرب بها إلى الله بها ، ودليلاً علي الرجولة الكاملة والعزيمة الصادقة , (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً , لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) (الأحزاب:23-24) .
الدين : مجتمع الفكر الصائبة ومعقد الآمال المتشعبة ورمز الأماني الفردية والاجتماعية والقومية والعالمية وذلك تعبير له تعبير , (وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون:8) .
رأى قوم أن يصلحوا من أخلاق الأمة عن طريق العلم والثقافة ، ورأى آخرون أن يصلحوه عن طريق الأدب والفن ، ورأي غيرهم أن يكون هذا الإصلاح عن طريق أساليب السياسة ، وسلك غير هؤلاء طريق الرياضة .
وكل أولئك أصابوا في تحديد معاني هذه الألفاظ أو أخطأوا ، وسددوا أو تباعدوا ، وليس هذا مجال النقد والتحديد ولكن أريد أن أقول أن الإخوان المسلمين رأوا أن أفعل الوسائل في إصلاح نفوس الأمم : (الدين).
ورأوا إلى جانب هذا أن الدين الإسلامي جمع محاسن كل هذه الوسائل وبعد عن مساوئها فاطمأنت إليه نفوسهم وانشرحت به صدورهم وكان أول وسائلهم العملية في تطهير النفوس وتجديد الأرواح : (تحديد الوسيلة واختيار المبدأ) وعلي هذا الأساس وضعت (عقيدة الإخوان المسلمين) مستخلصة من كتاب الله وسنة رسوله لا تخرج عنهما قيد شعرة .
وفرض الإخوان علي أنفسهم حفاظها والتزام حدودها وتنفيذ نصوصها والقيام بتعهداتها .
وأعتقد أنها وسيلة عملية في تربية النفوس وتقويم الأخلاق ، وبهذه المناسبة أذكر كل أخ مسلم بأن من واجبه أن يحفظ عقيدته ويعمل علي إنفاذ ما تستلزمه من تعهدات , (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة:119).
منزلة الصــلاة
قد علمت ـ أعزك الله ـ أن الإخوان المسلمين رأوا في الإسلام أفضل الوسائل لتهذيب نفوسهم وتجديد أرواحهم وتزكية أخلاقهم ، فاقتبسوا من نوره عقيدتهم واغترفوا من فيضه مشربهم .
وأنت جد عليهم بأن منزلة الصلاة من الإسلام منزلة الرأس من الجسد , فهي عماده ودعامته وركنه وشعيرته ومظهره الخالد وآيته الباقية , وهى مع ذلك قرة العين وراحة الضمير وأنس النفس وبهجة القلب والصلة بين العبد والرب , والمرفأة تصعد برقيها أرواح المحبين إلى أعلى عليين فتنعم بالأنس وترتع في رياض القدس وتجتمع لها أسباب السعادة من عالمي الغيب والشهادة .
وتلك بارقة تسطع في نفس من قدح زنادها ، وحلاوة يستشعرها من تذوق شهدها ، وهل رأيت بربك أعزب وأحلى وأروع وأجلى من مظهر ذلك الخاشع العابد الراكع الساجد القانت آناء الليل يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه وقد نامت العيون وهدأت الجفون واطمأنت الجنوب في المضاجع وخلا كل حبيب بحبيبه ونادى منادى العارفين من المحبين :
سهر العيون لغير وجهك ضائع
- وبكاؤهن لغير فقدك باطل
آه يا أخي ، إن موقفاً واحداً من هذه المواقف أنفع للقلب وأفعل في النفس وأذكى للروح من ألف عظة قولية وألف رواية تمثيلية وألف محاضرة كلامية ، وجرب تر ، ولأمر ما كان ذلك في لسان القرآن آية الإحسان , (إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ , كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ , وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الذريات:16-18) .
ولأمر ما كان أجر هؤلاء سنياً خفياً , (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة:17) ، ألم يكن عملهم خفياً كذلك ، وهل تصلح الخلوات في حضرة الرقباء؟ وهل يلذ لمحب في غير خلوة نجاء ؟ وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟ ولقد حدثوا أن أبا القاسم الجنيد رؤي بعد وفاته فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : طاحت الإشارات وفنيت العبارات وغابت العلوم وضاعت الرسوم وما نفعنا إلا ركيعات كنا نركعها في جوف الليل .
لا تستغرب ـ أيها القارئ الكريم ـ فما نفع القلب خير من خلوة يدخل بها ميدان فكره ، وما تزكت النفس بأفضل من ركعات خاشعات تجلو القلوب وتقشع صدأ الذنوب وتغسل درن العيوب وتقذف في القلب نور الإيمان وتثلج الصدر ببرد اليقين .
والمسلمون في هذا العصر أمام الصلاة طرائق قدد وطوائف بدد: فمنهم قوم أضاعوها وأهملوها وتركوها وجهلوها ، وإذا ذكرتهم بأمرها أو خضت معهم في شأنها لوّوا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون ويحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم .
ولا أحب أن أقول أن منهم من ينهي عنها ويحقر من أدّاها ويصفه بالرجعية والتأخر والجمود والتقهقر ، وانك لتسمع من هؤلاء وأشباههم أذى كثيراً ومزاعم غريبة وكلاما تعجب منه وتندهش له وكأنهم لم يسمعوا قول الله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ , الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) (الماعون:4-5).
وإنه ليزداد عجبك ويتضاعف اندهاشك حين تعلم أن من الذين يعملون لدعوة الإسلام ، ويتصدرون كراسي الدفاع في القضية الإسلامية ، من يهمل أمر الصلاة ويصغر من شأنها كأن النبي لم يصرح بأنها عماد الدين وفريضة المؤمنين ، وكأنهم لم يسمعوا قوله صلى الله عليه وسلم (ليس بين العبد والشرك إلا ترك الصلاة فإذا تركها فقد أشرك) .
ولسنا نحاول أن نقنع هؤلاء بما هو أوضح من الصبح وأجلي من الضوء وأظهر من الشمس ، ولكنا نسأل الله لنا ولهم كمال الهداية وتمام التوفيق .
ونحن بعد هؤلاء أمام صنفين من المسلمين :
الغالبية العظمي والكثرة الساحقة ، وهؤلاء يؤدون صلاة آلية ميكانيكية ورثوها عن آبائهم واعتادوها بمرور الأيام وكر الأعوام لا يتعرفون أسرارها ولا يستشعرون آثارها ، وحسب أحدهم أن يلفظ الكلمات ويأتي بالحركات ويسرد الهيئات ثم ينصرف معتقداً أنه أدي الفريضة وأقام الصلاة وخلص من العقوبة ونال الثواب ..
هذا وهم لا حقيقة له . وليست هذه الأقوال والأفعال من الصلاة إلا جسما روحه الفهم وقوامه الخشوع وعماده التأثر ، وقد ورد في الحديث (إنما الصلاة تمسكن وتواضع وتضرع وتأوه..الخ ) (ورد من رواية الترمذى والنسائي).
ولهذا رأيت أكثر الناس لا ينتفعون بصلاتهم ولا ينتهون بها عن الفحشاء والمنكر ، مع أنها لو كملت لأثمرت تزكية النفس وتطهير القلب ولمنعت صاحبها اقتراف الآثام وغشيان المحارم .
وصنف ثاني من الناس ـ وهو قليل نادر ـ فهم هذه المعاني من أسرار الصلاة فهو جاد في تحقيقها عامل علي استكمالها ، يصلي بخشوع وتدبر واطمئنان وتفكر ، ويخرج من صلاته وقد تذوق حلاوة العبادة وتأثر بمشاعر الطاعة واستنار بنور الله الذي يتجلى به علي من وصلوا نفوسهم بجلال معرفته . وفي الحديث : (من صلي صلاة لوقتها وأسبغ وضوءها وأتم ركوعها وسجودها وخشوعها عرجت وهي بيضاء مصفرة تقول حفظك الله كما حفظتني ومن صلاها لغير وقتها ولم يسبغ وضوءها ولم يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها عرجت وهي سوداء مظلمة تقول ضيعك الله كما ضيعتني ، حتى إذا كانت حيث شاء الله لفت كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه).
ولهذا تفاوتت درجات الناس واختلفت ثوابهم وإن اتحدت الصلاة شكلا ومظهراً وقولا وفعلاً .
ولهذا كانت عناية السلف الصالحين رضوان الله عليهم عظيمة بإحضار قلوبهم في صلواتهم وتمام خشوعهم في عباداتهم . ولهذا كان أول وصف وصف به المؤمنون : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون:2) .
علم الإخوان المسلمون هذا فأخذوا أنفسهم به وحاولوا أن يدرجوا عليه وكان أهم مظهر من مظاهرهم العملية : أن يحسنوا الصلاة ، وهم يعتقدون أنهم بهذا يسلكون أقرب السبل إلى تجديد النفوس وتطهير الأرواح , (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153) .
فيا أيها الأخ المسلم : تفهم ذلك جيداً ، وكن مثال الإحسان في صلاتك ، واعتقد أن أول الخطوات العملية فيها بيننا أن نحسن الصلاة والزكاة.
هما فريضتان ، جعلهما الله سياج الملة ومظهر الشريعة , وقرن بينهما في كثير من آيات كتابه الكريم تنبيهاً علي عظيم فضلهما وإظهاراًلجلالة قدرهما :هما الصلاة والزكاة ..فبالأولي صلاح ما بينك وبين الله ، وبالثانية صلاح مابينك وبين الخلق .
وهل في الوجود إلا خالق ومخلوق ؟ فإذا صلح شأنه معهما فقد بلغت غاية الصلاح ووصلت إلى ذروة السعادة .
الــزكاة
ولئن كانت الصلاة مطهرة النفس وتصفية الروح ، فإن الزكاة مطهرة المال وتصفية الكسب : (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (التوبة:103)
ولقد جعل الله تبارك وتعالى الصلاة والزكاة مظهر الإيمان ودليل صحة العقيدة ، وأشار القرآن في الآية الكريمة : (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (التوبة:11) , وهو بمفهومه يدل علي أن من قصر في أداء الصلاة والزكاة فليس من الإخوان في الدين .
وكان هذا المعني هو الذي فهمه أبو بكر رضي الله عنه حين قاتل مانعي الزكاة وأقره عليه صحابة رسول الله وأطلق علي كثير ممن منعوا الزكاة (المرتدون) : روي الستة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (لما توفي النبي ، وكفر من كفر من العرب ، قال عمر لأبي بكر رضي الله عنهما : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه علي الله تعالى)؟ فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال .
والله لو منعوني عقالاًً كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم علي منعها . قال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق) . وفي رواية عقالاً (والعناق الأنثي من ولد المعز ، والعقال الحبل الذي تقيد به الدابة) .
فانظر يا رعاك الله كيف عبر أبو هريرة رضي الله عنه عن مانعي الزكاة بقوله : (كفر من كفر) ، وكيف رأي أبو بكر أن منع الزكاة هدم للدين يستوجب قتال مانعها وأن شهد أن لا إله إلا الله ، وكيف أقر عمر رأي أبي بكر وعرف أنه الحق .
ولقد توعد الله ورسوله مانعي الزكاة أشد الوعيد ، فقال تبارك وتعالى : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ , يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) (التوبة:34-35) ، وفي الحديث أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : (من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه يقول أنا كنزك ), والشجاع الأقرع هو الثعبان الخطر واللهزمتان هما الشدقان .
وفي الحديث كذلك :(ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة ، يقولون : ربنا ظلمونا حقوقنا التي جعلت لنا فيقول الله تبارك وتعالى وعزتي وجلالي لأدنينكم ولأبعدنهم).
وإنما كان ذلك كذلك لان الزكاة نظام المشروعات وقوام الأعمال النافعة وتقويم الفطرة الشحيحة .. تعود السخاء وتدرب علي القصد وتطبع القلوب علي الحب وتدعو النفوس إلى الألفة وتنزع الأغلال والأحقاد ، وتدعو إلى التعاون والتساند في الخيرات وتجنب أصول الشرور والمفاسد ، وتخمد نار الثورات والفتن ..وكل امرئ يولي الجميل محبب ، ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا .
والزكاة مهمة من مهمات الحاكم : عليه القيام بجمعها ، وتنظيم تحصيلها والإشراف علي إنفاقها في مصارفها التي جعل الله لها .
ولو أن الحكومات الإسلامية عنيت بشأن الزكاة لكانت لها مورداً حلالاً طيباً يغنيها عن الضرائب الجائرة والمكوس الظالمة ولأحيت بذلك فريضة ضائعة وركناً مهملا من أركان الإسلام .
فأما إذا نسيت الحكومات الإسلامية واجبها حيال الزكاة جمعاً وإعطاءً ، فإن على الأفراد أن يقوموا بإحياء هذه الشعيرة وإعادة هذه الفريضة وإخراج حق الله لعيال الله ، فمن قصر في ذلك فإثمه على نفسه وجريرته على عنقه وجزاؤه أليم عند ربه .
وها أنت ترى أن أفراد المسلمين تغافلوا عن حق الله في أموالهم ولم يخروا نصيب الفقراء من إيرادهم ، مما قطع العلائق وأكثر الجرائم ولوث النفوس وزاد أحقادها وأضغانها .
رأى الإخوان المسلمون ذلك فأرادوا أن يكونوا الرعيل الأول يضربون للناس المثل عملياً في إحياء هذا الركن ، ويبدءون بأنفسهم فيخرجون زكاة أموالهم طيبة بها نفوسهم ، فإذا نجحوا في ذلك كانوا حجة على المقصرين ودليلاً للراغبين ودعاة للقاعدين .
وقد سبقت إلى الخير في هذا الشأن برمبال القديمة من أعمال مديرية الدقهلية بالقطر المصري ، فجمعت الزكاة وصرفتها في مصارفها التي جاءت بها الآية الكريمة :
(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة:60).
ولقد كنت عظيم الإشفاق شديد الخوف من انقسام الوحدة وانصداع الكلمة ، لأن في المسلمين الآن خصال تحول دون اجتماعهم على مثل هذا الخير ، ولا سيما إذا اتصل بالمادة والمال فما بالك إذا كان المشروع من أساسه مالياً ؟ كنت أخشى على إخوان برمبال شح الأغنياء وغلهم أيديهم عن الإعطاء ..وتهم الظنيين الذين يخلقون لكل شيء عيباً ولو كان هو الكمال مجسماً ، فيلمزون المطوعين بالرياء ويلمزون الجامعين بالمحاباة .. وجشع الآخذين الذين يود أحدهم أن لو كان ما جمع له كله ليس من غيره من منصب .. والعادات المتوارثة التي درجنا عليها والتي تجعل كل بيت ممن بقيت فيهم بقية من المحافظة على إخراج الزكاة يفضل أن يشرف بنفسه على صرف زكاة ماله ولا يؤثر بذلك غيرة مهما كان في هذا الإيثار من فائدة .
كنت أخشى على إخوان برمبال هذه المعوقات الأربعة وهي واضحة ملموسة في مجتمعاتنا مما يبكي ويؤسف ولكن إخوان برمبال وأهل برمبال كانوا أرفع من ذلك وأسمي فقرت بهم العين وسعدت بهم النفس واطمأن بعملهم القلب وأثبتوا للناس أن الطهارة ـ إن خالطت نفوسهم ـ والثقة ـ إن تبودلت بينهم ـ كفيلتان بتذليل كل عقبة .
لقد كان أغنياء برمبال أرفع من أن يمتنعوا عن أداء حق الله إذ داعي الزكاة بهم أهابا ..ولقد كان فقراء برمبال أرفع من أن تمتد أعينهم إلى حقوق إخوانهم فما هو إلا أن وصل إلى كل منهم ما قسم له من الزكوات المجموعة حتى سرت نفسه ولهج لسانه بالدعاء للمزكين وللمنظمين .. ولقد كان إخوان برمبال أحكم وأحزم بتوفيق الله تعالى من أن يدعو للتهم مجالا وللظنة شبهة .
فتكونت منهم لجنة أولي لعمل الكشوف بالمستحقين أخذ عليها العهد والميثاق ألا تحابي ولا تجامل ولا تفشي سرا ولا تظهر عورة ثم تلتها لجنه أخرى للفحص عن هذه الكشوف ومراجعتها والتثبت من صحتها ثم لجنه ثالثة لتقدير الأنصبة المستحقة لكل من تثبت حاجته واستحقاقه ثم لجنه رابعة لمراجعة هذا التقدير وإقراره ثم لجنه خامسة للقيام بالتوزيع عمليا .
وكان هذا النظام الدقيق الموفق مدعاة إلى الإعجاب والفرح من كل من شاهدوه أو علموا به أو رأوا آثاره الرضية في نفوس برمبال وجيران برمبال ..وكان أهل برمبال بعد ذلك أكبر من العادات وأسمي من القيود فاتبعوا الرشد وأثاروا التعاون وضربوا في ذلك أروع المثل في تحقيق أمنية كنا نحلم بها من زمن بعيد .
أفلست ترى أيها القارئ بعد هذا البيان أن الإخوان المسلمين قوم عمليون ... وأفلا يري الإخوان المسلمون في ذلك تحقيقاً لآمالهم فيعملوا علي أن نسمع في القريب عن هذه الخطوات الموفقة في بقية الشعب النشيطة (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج:78).
الجهـاد عزّنــا
مر الأسبوع الفائت ولم أناج القراء الكرام فيه بهذه الخطرات التي تمليها العاطفة ويفيض بها القلب عن جهود الإخوان المسلمين .
ولا أكتم القراء الكرام أني وجدت لذلك ألم الحرمان ووخز الضمير لا لأننا نحب أن نرائي الناس بعملنا أو نظهرهم علي جهودنا , فقد يعلم الله أن الإخوان المسلمين يعملون وهم يبتغون وجه الله ويريدون بذلك رضوانه ولا ينتظرون من أحد جزاء ولا شكورا , ويعتقدون أنهم إنما يقومون ببعض ما يوجبه الإسلام علي أبنائه ولا يزالون بعد مقصرين .
وإنما نحب أن نبلغ الناس دعوتنا ونحدد لهم وجهتنا ونكشف عن حقيقتنا ، لعلنا نجد منهم أعوانا على الخير وهداة إلى البر فيتضاعف النفع ويقرب المدى وتدنو الغاية ويتحقق ما نرجو من إصلاح شامل وإنقاذ عاجل .
وإن كل يوم يمضي لا تعمل فيه الأمة عملاً للنهوض من كبوتها يؤخرها أمداً طويلاً .وإن في دعوة الإخوان لو فقهها الناس لمنقذاً ، وإن في منهاجهم لو اتبعته الأمة لنجاحاً , وإن في جهودهم لو أعينوا عليها لأملاً ، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم .
وبعد فقد ورد في الصحيح ما معناه أن معاذاً t كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : (إن شئت يا معاذ حدثتك برأس هذا الأمر وذروة السنام منه .
إن رأس هذا الأمر لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، وإن قوام هذا الأمر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإن ذروة السنام منه الجهاد في سبيل الله .
إنما أمرت أن أقاتل الناس حتى يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ، فإذا فعلوا ذلك فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم علي الله عز وجل , والذي نفس محمد بيده ما شحب وجه ولا أغبرت قدم في عمل تبتغي به درجات الجنة بعد الصلاة المفروضة كجهاد في سبيل الله ، ولا أثقل ميزان عبد كدابّه تنفق (أي تموت) في سبيل الله أو يحمل عليها في سبيل الله).
ذلك تعريف النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام وهو أعرف الناس بالإسلام وإن الإخوان المسلمين لا يحملون الناس علي غير الإسلام ومبادئ الإسلام ، ولا ينهجون إلا مناهج الإسلام وشعاب الإسلام .
وقد حدثتك عنهم في الصلاة والزكاة وما يريدون من أنفسهم ومن الناس حيالها ، وهي قوام الأمر ودعامته .
فلأتحدث إليك الآن عن الإخوان المسلمين المجاهدين ، وماذا يريدون من أنفسهم ومن الناس حيال الجهاد في سبيل الله وهو من الإسلام ذروة السنام .
من الجهاد في الإسلام أيها الحبيب : عاطفة حيه قويه تفيض حناناً إلى عز الإسلام ومجده ، وتهفو شوقاً إلى سلطانه وقوته ، وتبكي حزناً علي ما وصل إليه المسلمون من ضعف وما وقعوا فيه من مهانة ، وتشتعل ألماً علي هذا الحال الذي لا يرضي الله ولا يرضي محمداً عليه الصلاة والسلام ولا يرضي نفساً مسلمة وقلباً مؤمناً .و(من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) كما ورد في الحديث الصحيح .
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
- إن كان في القلب إسلام وإيمان
ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب : أن يحملك هذا الهم الدائم والجوى اللاحق علي التفكير الجدي في طريق النجاح وتلمس سبيل الخلاص وقضاء وقت طويل في فكرة عميقة تمحص بها سبل العمل وتتلمس فيها أوجه الحيل لعلك تجد لأمتك منفذا أو تصادف منقذاً ، ونية المرء خير من عمله والله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب : أن تنزل عن بعض وقتك وبعض مالك وبعض مطالب نفسك لخير الإسلام وبني المسلمين ..فإن كنت قائداً ففي مطالب القيادة تنفق ، وإن كنت تابعاً ففي مساعدة الداعين تفعل ، وفي كل خير , وكلا وعد الله الحسني , والله تبارك وتعالى يقول (مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ , وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (التوبة:120-121) .
ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب : أن تأمر بالمعروف وأن تنهي عن المنكر ، وأن تنصح لله ورسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم ، وأن تدعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنه وما ترك قوم التناصح الا ذلوا وما أهملوا التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر الا خذلوا , (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسرائيل عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ , كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة:78-79) .
و من الجهاد في سبيل الله ايها الحبيب :ان تتنكر لمن تنكر لدينه وان تقاطع من عادي الله ورسوله فلا يكون بينك وبينه صله ولا معامله ولا مؤاكله ولا مشاربه وفي الحديث : (إن أول ما دخل النقص علي بني إسرائيل انة كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فانه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو علي حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلو ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض).
ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب : أن تكون جندياً لله تقف له نفسك ومالك لا تبقي علي ذلك من شئ . فإذا هدد مجد الإسلام وديست كرامة الإسلام ودوي نفير النهضه لاستعادة مجد الإسلام كنت أول مجيب للنداء وأول متقدم للجهاد , (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة:111) , وفي الحديث: (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات علي شعبة من النفاق) رواه مسلم وأبو داود والنسائي .وبذلك يتحقق ما يريد الله من نشر الإسلام حتى يعم الأرض جميعاً .
ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب: أن تعمل علي إقامة ميزان العدل وإصلاح شئون الخلق وانصاف المظلوم والضرب علي يد الظالم مهما كان مركزه وسلطانه .
وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان أو أمير جائر) رواه أبو داود والبخاري بمعناه ، وعن جابر رضي الله عنه : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) رواه ابن ماجه باسناد صحيح .
ومن الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى ان لم توفق إلى شئ من ذلك كله : أن تحب المجاهدين من كل قلبك وتنصح لهم بمحض رأيك وقد كتب الله لك بذلك الأجر وأخلاك من التبعة .
ولا تكن غير ذلك فيطبع علي قلبك ويؤاخذك أشد المؤاخذة : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ , وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ , إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة:91-93).
وبعد فهذه بعض مراتب الجهاد في الإسلام ودرجاته فأين الإخوان المسلمون من هذه الدرجات؟ فأما أنهم محزونون لما وصل اليه المسلمون آلمون ، فعلم الله أن أحدهم يجد من ذلك ما يذيب لفائف قلبة وينال من أعماق نفسة ويحز في قرارة فؤادة ويمنعة في كثير من الأحايين الأنس بأهله وإخوانه والمتعة بكل ما في الوجود من لذة وجمال .
وأما انهم يفكرون في سبيل الخلاص ، فعلم الله أنه ما من فكرة تحتل أفكارهم وما من خطة تستهوى عواطفهم وما من شان يشغل عقولهم كهذا الشان الذي ملك عليهم رؤوسهم وقلوبهم واستبد منهم بشعورهم وتفكيرهم.
وأما أنهم يبذلون في هذا السبيل وقتا ومالا ، فحسبك أن تزور ناديا من أنديتهم لترى عيونا أذبلها السهر ووجوها أشحبها الجلد وجسوما أضناها النصب وأخذ منها الإعياء على أنها فتيّة بإيمانها قوية بعقيدتها ، وشبابا يقضون ليلهم إلى ما بعد انتصافه مكبين على المكتب أو عاكفين على المناضد وأترابهم في لهوهم وأنسهم ومتعتهم وسمرهم . ورب عين ساهرة لعين نائمة وإنما نحتسب ذلك عند الله ولانمتن به , (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17) .
فإذا سألت عن المال الذي ينفق علي دعوتهم فما هو إلا مالهم القليل يبذلونه في سخاء ورضاء وراحة وطمأنينة . وإنهم ليحمدون الله إذ ترقت تضحيتهم بالمال من درجة السخاء بكماليات العيش إلى درجة الاقتصاد من ضرورياته وإنفاق ما يقتصد في سبيل الدعوة , (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر:9) , ما أسعدنا أن يقبل الله منا ذلك وهو منه وإليه .
وأما أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر : فقد بدأوا في ذلك بأنفسهم ثم بأسرهم وبيوتهم ثم بإخوانهم وأصدقائهم وهم يتذرعون في ذلك بالصبر والأناه والحكمة والموعظة وهل تري جريدتهم هذه إلا مظهراً من مظاهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وهل تري عظاتهم وأقوالهم إلا سبيلاً في هذه السبيل ؟ وأما ما بقي من درجات الجهاد فواجب الجماعة فعلي الجماعة أن تجيب , وإن الإخوان المسلمين في ذلك الرعيل الاول لا يدخرون وسعاً ولا يحتجزون جهداً ، وهم يعلمون منزلة ذلك من الإسلام ويعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من لقي الله بغير اثر من جهاد لقي الله وفيه ثلمة) رواه الترمذي وابن ماجه . وهم يسألون الله أن يوفقهم إلى لقائه وليس بهم ثلمات .
وقد قال الله تعالى لنبيه : (لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) (النساء:84) ، وإنا لنرجوا أن نكون بذلك قد أبلغنا الجماعة ، وأن يكون هذا الصوت قد وصل إلى نفوسهم فوجد منها خصوبة يزداد بها عدد العاملين وتنتظم معها صفوف المجاهدين (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).
حــق القرآن
ما رأيت ضائعاً أشبه بمحتفظ به ولا مهملاً أشبه بمعني بشأنه من القرآن الكريم في أمتنا هذه : أنزل الله القرآن الكريم كتاباً محكماً ونظاماً شاملاً وقواماً لأمر الدين والدنيا , (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42) .
وأعتقد ان أهم الأغراض التي تجب علي الأمة الإسلامية حيال القرآن الكريم ثلاثة مقاصد :
أولها : الإكثار من تلاوته ، والتعبد بقراءته ، والتقرب إلى الله تبارك وتعالى به ..
وثانيها : جعله مصدراً لاحكام الدين وشرائعه ، منه تؤخذ وتستنبط وتستقي وتتعلم ..
وثالثها: جعله أساساً لأحكام الدنيا منه تستمد وعلي مواده الحكيمة تطبق .
تلك أهم المقاصد والأغراض التي أنزل الله لها كتابه وأرسل به نبيه وتركه فينا من بعده واعظاً مذكراً وحكماً عدلاً وقسطاساً مستقيماً .
ولقد فهم السلف رضوان الله عليهم هذه المقاصد فقاموا بتحقيقها خير قيام , فكان منهم من يقرأ القرآن في ثلاث ومنهم من يقرأه في سبع ومنهم من يقرأه في أقل من ذلك أو أكثر .
ولقد كان بعضهم إذا شغل عن ورده من القرآن نظر في المصحف وقرأ بعض الآيات الكريمة وقال : حتى لا أكون ممن اتخذوا هذا القرآن مهجوراً .
فكان القرآن ربيع قلوبهم وورد عباداتهم يتلونه آناء الليل وأطراف النهار .ورضي الله عن الخليفة الثالث الذي لم يسل المصحف والحصار علي بابه والسيف علي عنقه
تمني كتاب الله أول ليلة
- وآخره لا في حمام المقادر
ويرحم الله ذلك الذي لم يجد في رثائه من أن يقول :
ضحوا بأشمط عنوان السجود به
- يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
وأنت إذا رجعت إلى سيرهم لم تجد واحدا منهم هجر كتاب الله أو ترك تلاوته أسبوعاً واحدا فضلا عن شهر كامل فضلا عن السنين والأعوام .
ولا أحب أن أطيل عليك بما أشرقت به كتب السير واستنارت بضوء سناه صحائف كتب التاريخ .
وهم حينما أرادوا أن يستنبطوا أحكام دين الله كان القرآن أول المصادر ، وما الأول إذن ان لم يكن كتاب الله ؟ وها أنت ترى أن المصطفي صلى الله عليه وسلم قد أقر معاذا حين سأله بم يحكم ، فقال بكتاب الله وبدأ به ثم ثنا بالسنة المطهرة.
وقد علمت أن عمر رضي الله عنه حظر علي كثير من الصحابة الكرام أن يحدثوا الناس ـ وهم حديثوا عهد بالإسلام ـ بالأحاديث والوقائع حتى يفقهوهم في كتاب الله أولا ويقفوهم علي حلاله وحرامه .
وقد علمت كذلك أن الأئمة من صدور التابعين وتابعيهم بإحسان أمثال سعيد بن المسيب ما كانوا يسمحون للناس بتدوين فتاويهم حذر الانصراف بأقوالهم عن كتاب الله . ولقد مزق سعيد الصحيفة من يد من دوّن إفتاءه وقال : تأخذ كلامي وتدع كتاب الله ثم تذهب تقول قال سعيد قال سعيد ! عليك بكتاب الله وسنة رسوله .
أفلست ترى من هذا وغيره أن السلف الصالحين رضوان الله عليهم قد جعلوا كتاب الله تعالى أصل الأصول التي يستنبطون منها دين الله وأحكامه .
وما كانت أحكام الدنيا عندهم الا وفق ما يأمر به ونزولاً علي حكمه .. حقوق تؤدى وحدود تقام وأحكام تنفذ وأوامر تسري لا إلغاء ولاتعطيل ولا تعليل ولا تأويل .
كذلك كان ، يوم كان الإسلام غضاً طرياً ، وثمر الدين بالغاً جنياً ، ويوم فهم المسلمون حكمة وجود القرآن بينهم كما علمهم رب القرآن ونبي القرآن , (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) (صّ:29).
ثم دالت تلك الدولة ، وذهب ماكان للقرآن علي عقول الناس وألبابهم من صولة ، وسرت في ألسنتهم وعقولهم لوثة العجمة ، فإذا هم في ناحية والقرأن في ناحية أخرى وبين الناحيتين بعد المشرقين :
سارت مشرقة وسرت مغرباً
- شتان بين مشرق ومغرب
فأما التعبد بتلاوة القرآن وقرائته آناء الليل وأطراف النهار فالنذر اليسير منا من عني بذلك وعمل عليه .. وأما بقية المتعبدين فلهم فيما وضعوا لأنفسهم ووضع لهم شيوخهم من أوراد وأحزاب ووظائف وصلوات ما تركوا به كتاب الله وأحلوه محله حفظاً و اهتماماً وتعبداً وتلاوةً وترديداً وتكراراً .
وما نحرم تلاوة الأوراد الصحيحة ، ولا نحول بين الناس والأدعية والأحزاب التي لا تخالف ظاهر الشريعة . ولكن نقول لهم : كتاب الله أولى أولاً ، رتبوا على أنفسكم منه أحزاباً تصل قلوبكم به وتربط أرواحكم بفيضه وإشراقه ، ثم اذكروا الله بعد ذلك بما شئتم من الصيغ التي تنطبق علي أحكام الدين . أما أن تهملوا القرآن جملة وتجعلوا عبادتكم كلها مما وضعتم لأنفسكم أو وضع غيركم لكم فترك لكتاب الله ، وإهمال لحقوقه .
وأما استنباط الأحكام منه فقد وقع الناس في جهالة بكتاب الله تجعل بينهم وبين ذلك حجاباً كثيفاً وسداًُ منيعاً ، مما اضطرهم إلى القناعة بالملخصات والرضا بالتعليقات وقصر هممهم عن السمو إلى ما هو أرقي من ذلك من الغايات .
وأما تطبيق أحكامه الدنيوية فقد استبدلها القوم بغيرها وأحلوا سواها محلها ، وجعلوا تشريع الأجانب وما وضع الفرنسيون والرومان أساساً لتشريعهم ومصدراً لأحكامهم .
وبذلك تعطلت أحكام كتاب الله وأصبحت بين المسلمين نسياً منسياً وفيها ـ علم الله ـ لهم كل خير لو كانوا يسمعون .. واكتفى المسلمون بعد هذا كله من القرآن الكريم بأن جعلوه تمائم لأمراضهم وزينة لمجتمعاتهم وسلوة في حفلهم وأفراحهم وأحزانهم .
وليتهم إذ جعلوه كذلك أعطوه حقه بل تراهم في محله لاهين غافلين لاعبين منصرفين إلى اللغو والحديث واللهو العبث ، والله تبارك وتعالى يقول : (وَإِذَا قُرِئَ القرآن فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (لأعراف:204) .
كان القرآن فيما مضى زينة الصلوات فأصبح اليوم زينة الحفلات ، وكان قسطاس العدالة في المحاكم فصار سلوة العابثين في المواسم وكان واسطة العقد في الخطب والعظات فسار بواسطة العقد في الحلى والتميمات , أفلست محقاً حين قلت : ما رأيت ضائعاً أشبه لمحتفظٍ به من كتاب الله ! تناقض عجيب في هذا الموقف منا أمام القرآن : أننا نعظمه ، ما في ذلك شك .. ونذوذ عنه ، ما في ذلك شك .. ونقترب إلى الله به ما في ذلك شك ، ولكن ياقوم : أخطأتم طريق التعظيم وتنكبتم سبيل الذود عنه وضللتم عن جادة التقرب إلى الله به .
أليس من الإضاعة لكتاب الله أن ترى المراكز التي كان القرآن يعفي منها عدداً عظيماً من القرعة العسكرية صارت اليوم خلواً ممن يحفظه ويتقدم للمعافاه به ؟
أوليس من الإضاعة لكتاب الله أن ترى الطالب يدخل الأزهر الشريف وهو يحفظه لأن ذلك شرط دخوله ، ثم يخرج منه وقد نسيه لأن القرآن لم يشترط في إجازته بنهاية مدة تعليمه. فتراه إن خرج ليكون إماماً يصلى بالناس قصر بهم ، وإن كان واعظاً استند إلى فقهاء الريف الحافظين في عظاته ودروسه ، وإن كان محامياً أو قاضياً لجأ إلى المصحف في تصحيح الآيات التي يستشهد بها من كتاب الله ! إننا حقيقةً أضعنا كتاب الله وكأنه بيننا كتاب أثري لا يسري مفعوله ولا ينفذ حكمه ، وهذا في الحقيقه أصل ما أصابنا من بلاء وشر .
وإذا علمت هذا أيها القارىء الكريم .. فاعلم أن الإخوان المسلمين يحاولون في جد أن يعودوا هم أولاً إلى كتاب الله ، يتعبدون بتلاوته ويستنيرون في تفهم أقوال الأئمة الأعلام بأياته ويطالبون الناس بإنفاذ أحكامه ويدعون الناس معهم إلى تحقيق هذا الغاية التي هى أنبل غايات المسلم في الحياة , ولله الأمر من قبل ومن بعد .
منهج الإخوان وميزانهم
أنت إذا رجعت تاريخ النهضات في الأمم المختلفة شرقية وغربية قديما وحديثا , رأيت أن القائمين بكل نهضة موفقة نجحت وأثمرت كان لهم منهاج محدود عليه يعملون وهدف محدود إليه يقصدون .. وضعه الداعون إلى النهوض وعملوا على تحقيقه ما امتد بهم الأجل وأمكنهم العمل , حتى إذا حيل بينهم وبينه وانتهت بهم تلك الفترة القصيرة فتره الحياة في هذه الدنيا , خلفهم من قومهم غيرهم يعملون على منهاجهم ، ويبدءون من حيث انتهى أولئك ، لا يقطعون ما وصل ، ولا يهدمون ما بنو ، ولا ينقضون ما أسسوا وشادوا ، ولا يخربون ما عمروا .
فإما زادوا عمل أسلافهم تحسينا ، أو مكنوا نتائجه تمكيناً ، وإما تبعوهم على آثارهم فزادوا البناء طبقة وساروا بالأمة شوطاً إلى الغاية حيث يصلون بها إلى ما تبتغي ، أو ينصرفون راشدين ويخلفهم غيرهم .
وهكذا دواليك حتى تحقق الآمال وتصدق الأحلام ويتم النهوض ويثمر الجهاد وتصل الأمة إلى ما إليه قصدت وله عملت , (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة:7) .
راجع تاريخ الهيئات والشعوب تر هذا القول واضحا بينا ، وأن أساس النجاح في كل نهضاتها منهج محدود وقوم يعملون في حدود هذا المنهج ، لا يملون ولا يفترون ولايسأمون ولا يمتنون ، ذلك واضح جلي في الخطوات التي سلكتها دعوة الإسلام الأولى ، فقد وضع الله لها منهاجاً محدوداً يسير بالمسلمين الأولين رضوان الله عليهم إليه ..دعوة في السر .. ثم إعلان بهذه الدعوة ونضال في سبيلها لا يمل .. ثم هجرة إلى حيث القلوب الخصبة والنفوس المستعدة .. فإخاء بين هذه النفوس وتمكين عرى الإيمان في قلوبها ..ثم نضال جدي وانتصاف من الباطل للحق .
وهذا أبو بكر يريد أن يخرج من مكة إلى المدينة فيأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتظر حتى يأتيه هو إذن الله بذلك . حتى إذا تمت الخطوات في القسم الأول من منهاج الدعوة ، وهى التي أنيطت بالرسول صلى الله عليه وسلم تشريعاً وتطبيقاً ، أنزل الله قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً) (المائدة:3).
ثم جاء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين من نقلوا هذا النموذج الكامل من جزيرة العرب إلى غيرها من بلدان العالم لتكون كلمة الله هي العليا , وحتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله. وأنت إذا رجعت بذاكرتك إلى تاريخ الفرق الإسلامية ، وإلي الأدوار التي سبقت ، وقارنت قيام الدولة العباسية في الشرق ، ثم إلى نهضة الدول الحديثة الأوربية من فرنسا وايطاليا وروسيا و تركيا ـ سواء في الدور الأول وهو دور تكوين الوحدات وتأسيس الحكومات أو في هذا الدور وهو دور تكوين المبادىء ومناصرة النظريات ـ لرأيت ذلك يخضع إلى مناهج معروفة الخطوات تؤدى إلى النتيجة الحتمية التي تعمل لها الأمة .
أعتقد يا عزيزي أن كل انقلاب تاريخى وكل نهضة في أمة تسير طبق هذا القانون .. حتى النهضات الدينية التي يرأسها الأنبياء والمرسلون صلوات الله عليهم ، إلا أن هذه النهضات يرسم منهاجها الحق تبارك وتعالى ويهدى الرسول ومن ورائه قومه ويرشدهم إلى خطوات المنهج خطوة خطوة ، كل خطوة في وقتها المناسب ، ويؤيدهم في كل ذلك بنصره .. فتكون النهضة موفقه لا محالة , (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:21) , ومن أين يأتي الخطأ إذا كان واضع المنهج العليم الخبير ومنفذه معصوم من الزلل محفوظ من الخطأ مؤيد بالتوفيق والنصرـ ومن هنا كانت النبوات رحمةً للعالمين ـ ؟
هذا كلام أعتقد أن القراء فيه قسمان : قسم درس تاريخ الأمم وأطوار نهوضها فهو مؤمن به معتقد له ، وقسم لم تتح له هذه الفرصة فإن شاء ليعلم أني لم أقل إلا الحق وإن شاء وثق فما أريد إلا الإصلاح ما استطعت .
كان ذلك في النهضات الموفقة ، فهل سارت نهضتنا وفق هذا القانون الكوني والسنة الاجتماعية ..؟ ذلك ما أشك فيه كثيراً ، فإني ألاحظ أن خلق التسرع المركوز في طباعنا ، وسرعة التأثر وهياج العواطف الذي يبدو فينا واضحاً ، وغيرهما من أسباب اجتماعية وغير اجتماعيه .. جعلت نهضتنا فورات عاطفية تشتد وتقوى بقوة المؤثر الوقتي وشدته ثم تخمد وتزول كأن لم يكن شىء . ولئن كانت الغاية التي نعمل لها جميعاً واضحة معروفة للكثيرين فأنا واثق من أمرين يلازمان هذه المعرفة :
الأمر الأول : أن الوسائل غير معروفة ولا محدودة ، وقد تكون متعاكسة يخبط بعضها بعضاً ونحن لا نشعر .
والأمر الثاني : أن الصلة منقطعة تماماً بين السابق اللاحق .. يصل السابق إلى نصف الطريق فإذا جاء اللاحق لم يتبعه لإنقطاع الصلة بينهم ، فيبدأ طريقاً جيداً قد يصل فيه إلى مقدار ما وصل سابقه وقد يقصر عنه وقد يسبق قليلاً ، ولكنه على كل حال لا يصل بالأمانة إلى النهاية لأن أعمار الأفراد قصيرة بالنسبة لأعمار النهضات والشعوب .
ونحن نتصور أن الواحد يستطيع أن يحقق للأمة كل ما تبتغي ، وهى فكرة خيالية وخدعة نفسية عاطفية يجب أن تزول من نفس كل عامل حتى ينتفع بها عمل سلفه .
هذا استطراد لابد منه وبعده أقول لك إن للإخوان المسلمين منهاجاً محدوداً يتابعون السير عليه ويزنون أنفسهم بميزانه ويعرفون بين الفينة والفينة أين هم منه .
فإذا سألتهم عن أصول هذا المنهاج النظرية ما هي؟ .. فإني أجيبك في صراحة تامة : هو الأصول و القواعد التي جاء بها القرآن . فإذا قلت وما وسائلهم و خطواتهم العملية أقول لك في صراحة كذلك : هي الوسائل والخطوات التي أثرت عن الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم ، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وأما بعد ، فبهذه الكلمة تنتهي تلك السلسلة المجملة من الحديث عن الإخوان المسلمين العمليين . وأرجو أن يكون لها أثرها المنشود في نفس قرائنا الكرام ، فيؤازروا أولئك القوم الذين وقفوا كل شيء في سبيل الله والدعوة ، وينضموا إليهم ليساهموا معهم في هذه النهضة الموفقة ، التي يكسب العامل فيها كل يوم نصراً جديداً ، إن لم يؤده إلى الفتح فسيؤدي إليه من بعده بفضل مجهوده إن شاء الله : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة:105) .
بين الأمس واليوم
1 - رسـالة النبـي الأمـين
منذ ألف و ثلاثمائة سنة و سبعين عاما نادى محمد بن عبد الله النبي الأمي في بطن مكة و على راس الصفا : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (لأعراف:158) .
فكانت تلك الدعوة الجامعة حدا فاصلا في الكون كله , بين ماض مظلم , و مستقبل باهر مشرق , و حاضر زاخر سعيد , و إعلانا واضحا مبينا لنظام جديد شارعه الله العليم الخبير و مبلغه محمد البشير النذير , و كتابه القرآن الواضح المنير , و جنده السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار , و الذين اتبعوهم بإحسان , و ليس من وضع الناس , و لكنه صبغة الله , و من أحسن من الله صبغة : (مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ , صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأمُورُ) (الشورى:52-53) .
2 - منهاج القرآن الكريم في الإصلاح الاجتماعي
والقرآن هو الجامع لأصول هذا الإصلاح الاجتماعي الشامل , و قد أخذ يتنزل على النبي صلى الله عليه و سلم ,ويعلن به المؤمنين بين الآن و الآن بحسب الوقائع و الظروف و المناسبات (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا , وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) (الفرقان:32-33) .
حتى اكتمل به الوحي و حفظ في الصدور و السطور في مدى اثنتين و عشرين سنة و نيفا , و قد جمع الله فيه لهذه الأمة تبيان كل شيء , و أصول الإصلاح الاجتماعي الكامل الذي جاء به تكاد تنحصر في هذه الأصول :
أ ـ الربانية .
ب ـ التسامي بالنفس الإنسانية .
ج ـ تقرير عقيدة الجزاء .
د ـ إعلان الأخوة بين الناس .
هـ ـ النهوض بالرجل و المرأة جميعا , و إعلان التكافل و المساواة بينهما , و تحديد مهمة كل منهم تحديدا دقيقا .
و ـ تأمين المجتمع بتقرير حق الحياة و الملك و العمل و الصحة و الحرية و العلم و الأمن لكل فرد و تحديد موارد الكسب .
ز ـ ضبط الغريزتين : غريزة حفظ النفس , و حفظ النوع , و تنظيم مطالب الفم و الفرج
ح ـ الشدة في محاربة الجرائم الأصلية .
ط ـ تأكيد وحدة الأمة و القضاء على كل مظاهر الفرقة و أسبابها .
ي ـ إلزام الأمة الجهاد في سبيل مبادئ الحق التي جاء بها النظام .
ك ـ اعتبار الدولة ممثلة للفكرة و قائمة على حمايتها , و مسؤولة عن تحقيق أهدافها في المجتمع الخاص , و إبلاغها للناس جميعا .
3 - الشـعائر العـملية لهذا النظـام
و قد خالف النظام القرآني غيره من النظم الوضعية و الفلسفات النظرية فلم يترك مبادئه و تعاليمه نظريات في النفوس , و لا أراء في الكتب , و لا كلمات على الأفواه و الشفاه , و لكنه وضع لتركيزها و تثبيتها و الانتفاع بآثارها و نتائجها مظاهر عملية , و ألزم الأمة التي تؤمن به و تدين له بالحرص على هذه الأعمال و جعلها فرائض عليها لا تقبل في تضييعها هوادة , بل يثيب العاملين و يعاقب المقصرين عقوبة قد تخرج بالواحد منهم من حدود هذا المجتمع الإسلامي و تطوح به إلى مكان سحيق . و أهم هذه الفرائض التي جعلها هذا النظام سياجا لتركيز مبادئه هي :
أ ـ الصلاة و الذكر و التوبة و الاستغفار...الخ .
ب ـ الصيام و العفة و التحذير من الترف .
ج ـ الزكاة و الصدقة و الإنفاق في سبيل الله .
د ـ الحج و السياحة و الرحلة و الكف و النظر في ملكوت الله .
هـ ـ الكسب و العمل و تحريم السؤال .
و ـ الجهاد و القتال و تجهيز المقاتلين , و رعاية أهليهم و مصالحهم من بعدهم .
ز ـ الأمر بالمعروف و بذل النصيحة .
ح ـ النهي عن المنكر ومقاطعة مواطنه و فاعليه .
ط ـ التزود بالعلم و المعرفة لكل مسلم و مسلمة في فنون الحياة المختلفة كل فيما يليق به .
ي ـ حسن المعاملة و كمال التخلق بالأخلاق الفاضلة .
ك ـ الحرص على سلامة البدن و المحافظة على الحواس .
ل ـ التضامن الاجتماعي بين الحاكم و المحكوم بالرعاية و الطاعة معا .
فالمسلم مطالب بأداء هذه الوجبات , و النهوض بها كما فصلها النظام القرآني , و عليه ألا يقصر في شيء منها , و قد ورد ذكرها جميعا في القرآن , و بينتها بيانا شافيا أعمال النبي و أصحابه و الذين اتبعوهم بإحسان في بساطة و وضوح , كل عمل فيها أو عدة أعمال تقوي و تركز أو عدة مبادئ من النظريات السابقة التي جاء هذا النظام لتحقيقها و إفادة الناس بنتائجها و آثارها .
4 - الـدولـة الإسلامـية الأولــى
على قواعد هذا النظام الاجتماعي القرآني الفاضل قامت الدولة الإسلامية الأولى تؤمن به إيمانا عميقا و تطبقه تطبيقا دقيقا و تنشره في العالمين , حتى كان الخليفة الأول رضي الله عنه يقول : ( لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله ) و حتى أنه ليقاتل مانعي الزكاة و يعتبرهم مرتدين بهدمهم هذا الركن من أركان النظام و يقول : ( والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم ما استمسك السيف بيدي ) .
و كانت الوحدة بكل معانيها و مظاهرها شمل هذه الأمة الناشئة , فالوحدة الاجتماعية شاملة بتعميم نظام القرآن و لغة القرآن , و الوحدة السياسية شاملة في ظل أمير المؤمنين و تحت لواء الخلافة في العاصمة , و لم يحل دونها أن كانت الفكرة الإسلامية فكرة لا مركزية في الجيوش , و في بيوت المال , و في تصرفات الولاة , إذ أن الجميع يعملون بعقيدة واحدة و بتوجيه عام متحد .
و لقد طردت هذه المبادئ القرآنية الوثنية المخرفة في جزيرة العرب و في بلاد الفرس فقضت عليها , و طاردت اليهودية الماكرة فحصرتها في نطاق ضيق و قضت على سلطانها الديني و السياسي قضاء تاما , وصارعت المسيحية حتى انحصر ظلها في قارتي آسيا و أفريقيا و انحازت إلى أوربا في ظل الدولة الرومانية الشرقية بالقسطنطينية , و تركز بذلك السلطان الروحي والسياسي بالدولة الإسلامية في القارتين العظيمتين , و ألحت بالغزو على القارة الثالثة تهاجم القسطنطينية من الشرق وتحاصرها حتى يجهدها الحصار , و تأتيها من الغرب فتقتحم الأندلس وتصل جنودها المظفرة إلى قلب فرنسا و إلى شمال و جنوب إيطاليا , و تقيم في غرب أوربا دولة شامخة البنيان مشرقة بالعلم و العرفان , و يتم لها بعد ذلك فتح القسطنطينية نفسها وحصر المسيحية و حصر المسيحية في هذا الجزء المحدود من قلب أوربا , وتمخر الأساطيل الإسلامية عباب البحرين الأبيض و الأحمر فيصير كل منهما بحيرة إسلامية , وتقبض قوات الدولة الإسلامية بذلك على مفاتيح البحار في الشرق والغرب وتتم لها السيادة البرية و البحرية .
وقد اتصلت بغيرها من الأمم ، ونقلت كثيراً من الحضارات ، ولكنها تغلبت بقوة إيمانها ومتانة نظامها عليها جميعاً ، فعربتها أو كادت ، واستطاعت أن تصبغها وأن تحملها على لغتها ودينها بما فيهما من روعة وحيوية وجمال ، ولم يمنعها أن تأخذ النافع من هذه الحضارات جميعاً ، من غير أن يؤثر ذلك في وحدتها الاجتماعية أو السياسية .
5 - عوامل التحلل في كيان الدولة الإسلامية
ومع هذه القوة البالغة والسلطان الواسع فإن عوامل التحلل فإن عوامل التحلل قد أخذت تتسلل إلى كيان هذه الأمة القرآنية , وتعظم و تنتشر و تقوى شيئا فشيئا حتى مزقت هذا الكيان وقضت على الدولة الإسلامية المركزية في القرن السادس الهجري بأيدي التتار , وفي القرن الرابع عشر الهجري مرة ثانية , وتركت وراءها في كلتا المرتين أمما مبعثرة و دويلات صغيرة تتوق إلى الوحدة و تتوثب للنهوض .
و كان أهم هذه العوامل :
أ ـ الخلافات السياسية والعصبية وتنازع الرياسة والجاه , مع التحذير الشديد الذي جاء به الإسلام في ذلك و التزهيد في الإمارة و لفت النظر إلى هذه الناحية التي هي سوس الأمم و محطمة الشعوب و الدول : (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46) , و مع هذه الوصية البالغة بالإخلاص لله وحده في القول و العمل و التنفير من حب الشهرة و المحمدة .
ب ـ الخلافات الدينية والمذهبية والانصراف عن الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة , وإهمال كتاب الله و سنة الرسول صلى الله عليه وسلم , و الجمود و التعصب للآراء و الأقوال , والولع بالجدل والمناظرات و المراء , وكل ذلك مما حذر منه الإسلام ونهى عنه أشد النهي , حتى قال الرسول : (ما ضل قوم بعدي على هدى إلا أوتوا الجدل) .
ج ـ الانغماس في ألوان الترف والنعيم , والإقبال على المتعة والشهوات , حتى أثر عن حكام المسلمين في كثير من العصور ما لم يؤثر عن غيرهم , مع أنهم يقرءون قول الله تبارك وتعالى :
(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً) (الإسراء:16) .
د ـ انتقال السلطة والرياسة إلى غير العرب، من الفرس تارة، والديلم تارة أخرى، والمماليك والأتراك وغيرهم ممن لم يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح، ولم تشرق قلوبهم بأنوار القرآن لصعوبة إدراكهم لمعانيه , مع أنهم يقرءون قول الله تبارك و تعالى :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران:118).
هـ ـ إهمال العلوم العملية والمعارف الكونية، وصرف الأوقات وتضييع الجهود في فلسفات نظرية عقيمة وعلوم خيالية سقيمة , مع أن الإسلام يحثهم على النظر في الكون واكتناه أسرار الخلق والسير في الأرض , ويأمرهم أن يتفكروا في ملكوت الله : (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) (يونس:101) .
و ـ غرور الحكام بسلطانهم، والانخداع بقوتهم، وإهمال النظر في التطور الاجتماعي للأمم من غيرهم ، حتى سبقتهم في الاستعداد والأهبة، وأخذتهم على غرة , وقد أمرهم القرآن باليقظة و حذرهم من مغبة الغفلة و اعتبر الغافلين كالأنعام بل هم أضل :
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) (الأعراف:179).
ز ـ الانخداع بدسائس المتملقين من خصومهم ، والإعجاب بأعمالهم ومظاهر حياتهم ، والاندفاع في تقليدهم فيما يضر ولا ينفع , مع النهي الشديد عن التشبه بهم و الأمر الصريح بمخالفتهم و المحافظة على مقومات الأمة الإسلامية والتحذير من مغبة هذا التقليد حتى قال القرآن الكريم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ) (آل عمران:100) .
و قال في آية أخرى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ) (آل عمران:149) .
6 - صــراع سيـاسـي
( أ ) محاولات القضاء على الأمة الإسلامية : أخذت هذه العوامل تعمل في كيان الدولة الإسلامية و الأمة الإسلامية عملها , و ظنت الأمم الموتورة أن قد سنحت الفرصة لتأخذ بثأرها و تقضي على هذه الدولة الإسلامية التي فتحت بلادها من قبل , و غيرت معالم أوضاعها في كل شؤون الحياة , فانحدر التتار كالسيل الدافق على الدولة الإسلامية , و أخذوا يقطعون أشلاءها جزءا جزءا حتى وصلوا إلى بغداد قلب الخلافة العباسية , و وطئوها بنعالهم في شخص الخليفة المستعصم , و بذلك تبدد شمل الدولة و انتثر عقد الخلافة لأول مرة و تفرقت الأمم إلى دويلات صغيرة , فكل قبيلة فيها أمير المؤمنين و منبر , و تنبهت المسيحية في أوربا و جمعت جموعها و قذفت الشرق المسلم في آسيا و أفريقيا بكتائبها في تسع حملات صليبية اشتملت على خير ما فيها من فرسان و ملوك و عتاد , و تمكنت هذه القوات الزاحفة من إقامة دولة صليبية في بيت المقدس و تهديد أمم الإسلام في الشرق و الغرب و مهاجمة مصر أقوى هذه الدول إذ ذاك .
( ب ) انتصارات متتالية : و لكن الله تبارك و تعالى لم يأذن بعد بانتصار الباطل على الحق , فاستطاعت مصر أن تجمع حولها فلول بعض هذه الدويلات و تقذف بهم في نحر الصليبيين بقيادة صلاح الدين , فتستعيد منهم بيت المقدس و تريهم كيف تكون الهزيمة في حطين , ثم تقف في وجه التتار بقيادة الظاهر بيبرس و تردهم على أعقابهم خاسئين في عين جالوت , ثم تعيد رسم الخلافة من جديد , و يريد الله بعد ذلك أن تقوم للإسلام دولة وارفة الظلال قوية البأس شديدة المراس , تجمع كلمة أهله و تضم تحت لوائها معظم أممه و شعوبه , و يأبى لها علو الهمة إلا أن تغزو المسيحية في عقر دارها , فتفتح القسطنطينية و يمتد سلطانها في قلب أوربا حتى يصل إلى فيينا , تلك هي دولة الأتراك العثمانية .
( ج ) بواكير النهضة في أوربا : اطمأنت الدولة الإسلامية تحت لواء العثمانيين إلى سلطانها و استنامت إليه , و غفلت عن كل ما يدور حولها , و لكن أوربا التي اتصلت بأضواء الإسلام غربا بالأندلس و شرقا بالحملات الصليبية , لم تضع الفرصة و لم تغفل عن الاستفادة بهذه الدروس , فأخذت تتقوى و تتجمع تحت لواء الفرنجة في بلاد الغال , واستطاعت بعد ذلك أن تصد تيار الغزو الإسلامي الغربي , و أن تبث الدسائس بين صفوف مسلمي الأندلس , و أن تضرب بعضهم ببعض إلى أن قذفت بهم أخيرا إلى ما وراء البحر أو إلى العدوة الأفريقية , فقامت مقامهم الدولة الإسبانيولية الفتية , و ما زالت أوربا تتقوى و تتجمع و تفكر و تتعلم , و تجوب البلاد و تكشف الأقطار , حتى كان كشف أمريكا عملا من أعمال أسبانيا و كشف طريق الهند عملا من أعمال البرتغال , و توالت فيها صيحات الإصلاح و نبغ بها كثير من المصلحين و أقبلت على العلم الكوني و المعرفة المنتجة المثمرة , و انتهت بها هذه الثورات الإصلاحية إلى تكوين القوميات و تكوين دولة قوية جعلت هدفها جميعا أن تمزق هذه الدول الإسلامية التي قاسمتها أوربا استأثرت دونها بأفريقيا و آسيا , و تحالفت هذه الدول الفتية على ذلك أحلافا رقت بها إلى درجة القداسة في كثير الأحيان .
( د ) هجوم جديد : و امتدت الأيدي الأوربية بحكم الكشف و الضرب في الأرض و الرحلة إلى أقصى آفاقها البعيدة , إلى كثير من بلدان الإسلام كالهند و بعض الولايات الإسلامية المجاورة لها , و أخذت تعمل في جد للوصول إلى تمزيق دولة الإسلام القوية الواسعة و أخذت تضع لذلك المشروعات الكثيرة تعبر عنها أحيانا بالمسألة الشرقية , و أخرى باقتسام تركة الرجل المريض , و اخذت كل دولة تنتهز الفرصة السانحة و تنتحل الأسباب الواهية , و تهاجم الدولة الوادعة اللاهية فتنقص بعض أطرافها أو تهد جانبا من كيانها , و استمرت هذه المهاجمة أمدا طويلا انسلخ فيه عن الدولة العثمانية كثير من الأقطار الإسلامية , و وقعت تحت السلطان الأوربي كالمغرب الأقصى و شمال أوربا و استقل فيه كثير من البلاد غير الإسلامية التي كانت تحت سلطان العثمانيين كاليونان و دول البلقان , و كان الدور الختامي في هذا الصراع الحرب العالمية الأولى سنة 1914 – 1918 م الذي انتهى بهزيمة تركيا و حلفائها و بذلك سنحت الرصة كاملة لأقوى شعوب أوربا ( إنجلترا و فرنسا ) و إلى جوارهما ( إيطاليا ) فوضعت يدها على هذا الميراث الضخم من أمم الإسلام و شعوبه , و بسطت سلطانها عليها بأسماء مختلفة من احتلال و استعمار و وصاية و انتداب و تقاسمته على هذا النحو :
1 - أفريقيا الشمالية ( مراكش و الجزائر و تونس ) مستعمرات فرنسية , تتخللها منطقة نفوذ دولية في طنجة , و مستعمرات أسبانية في الريف .
2 - طرابلس و برقة مستعمرة إيطالية لم تشأ إيطاليا أن تبقي على شيء من آثار الإسلام فيها , ففرضت عليها التجنس بالجنسية الإيطالية و أسمتها إيطاليا الجنوبية , و قذفتها بالآلاف من جياع الأسر و ذئاب البشر .
3 - مصر و السودان تحت الحماية الإنجليزية لا تملك إحداهما لنفسها من أمرها شيئا .
4 - فلسطين مستعمرة إنجليزية أباحت إنجلترا لنفسها أن تبيعها لليهود لينشئوا فيها الوطن القومي الصهيوني .
5 - سوريا مستعمرة فرنسية .
6 - العراق مستعمرة إنجليزية .
7 - الحجاز حكومة ضعيفة متداعية تنتظر الصدقات و تتشبث بالعهود الزائفة و المواثيق الباطلة .
8 - اليمن حكومة منزوية و شعب فقير مهدد بالغزو في كل مكان في أي وقت من الأوقات .
9 - بقية أقسام الجزيرة العربية إمارات صغيرة يعيش أمراؤها في كنف القناصل الإنجليزية و يقاتلون بفتات موائدهم و تشتعل صدورهم بنيران التحاقد و التباغض , هذا مع الوعود المؤكدة و المواثيق المغلظة التي قطعها الحلفاء لعاهل الجزيرة الملك حسين أن يساعدوه على استقلال العرب و تدعيم سلطان الخلافة العربية .
10 - إيران و الأفغان حكومات مضطربة تتوزعها الأطماع من كل مكان فهي تحت كنف هذه الأمة تارة و إلى جانب تلك تارة أخرى .
11 - الهند مستعمرة إنجليزية .
12 - تركستان و ما جاورها مستعمرات روسية يذيقها البلاشفة مر العذاب .
و فيما عدا ذلك فهناك الأقليات الإسلامية المنثورة في كثير من البلدان لا تعرف دولة تلجأ إلى حمايتها , أو حكومة مسلحة تحتمي بجنسيتها كالمسلمين في الحبشة و الصين و البلقان و بلاد أفريقية الوسطى و الجنوبية و الشرقية و الغربية .
وبهذا الوضع انتصرت أوربا في هذا الصراع السياسي , و تم لها ما أرادت من تمزيق الإمبراطورية الإسلامية و الذهاب بدولة الإسلام , و حذفها سياسيا من دائرة الدول الحية العظيمة .
( هـ ) إلى القوة من جديد :و لكن هذا العدوان الصارخ و الاستهتار بالعهود و المواثيق أحرج الصدور و أثار النفوس , فهبت هذه الأمم تطالب باستقلالها و تجاهد لاسترداد حريتها و مجدها , و اشتعلت فيها الثورات لهذا المعنى , فثارت تركيا و ثارت مصر و ثارت العراق و سوريا و تكررت الثورات في فلسطين و الريف في بلاد المغرب , و عمت اليقظة في النفوس كل مكان , و وصلت شعوب الإسلام بذلك إلى بعض الحقوق , فاستقلت تركيا في حدودها الجديدة , و اعتبرت مصر و العراق دولتين مستقلتين , و قامت في الحجاز و نجد دولة السعوديين , و حافظت اليمن و إيران و أفغانستان على وضعياتها , المستقلة , و قاربت سوريا أن تسلب الاعتراف باستقلالها , و لفتت فلسطين أنظار العالم إليها بكفاحها , و خطا المسلمون و لا شك خطوات طيبة و أن كانت قليلة و بطيئة نحو الأهداف الكريمة التي قصدوها من استعادة حريتهم و استرداد مجدهم و بناء دولتهم , و لئن اتجهت هذه الخطوات إلى المعنى القومي الخاص و طالبت كل أمة بحقها في الحرية كأمة مستقلة , و تعمد كثير من العاملين لهذه النهضة أن يغفل فكرة الوحدة فإن مصير هذه الخطوات سيكون و لا شك التجمع و عودة الأمة الإسلامية كدولة متحدة تضم شتات شعوب العالم الإسلامي و ترفع راية الإسلام و تحمل دعوته , فليس في الدنيا أمة يجمعها ما يجمع المسلمون من وحدة اللغة و الاشتراك في المصالح المادية و الروحية و التشابه في الآلام و الآمال .
( و ) حرب جديدة:و لقد خرجت الدول الأوربية من الحرب العالمية و بذور الحقد و البغضاء متأثرة في صدور الكثير منها , و جاء مؤتمر الصلح و معاهداته لطمات قاسية لبعضها و خيبة أمل مؤلمة لكثير منها , هذا إلى ظهور كثير من الفكر الجديدة , المبادئ المتعصبة شديدة التعصب , و لابد أن تنتهي هذه الحال بهذه الأمم إلى خلاف جديد و حرب طاحنة ضروس تبدد شملهم و تمزق وحدتهم و تعيدهم إلى رشدهم و تردهم عن ظلمهم , و تهب لأمم الإسلام فرصة أخرى تسوي فيها صفوفها و تجمع شملها و تستكمل حريتها و استقلالها و تسترد دولتها و وحدتها تحت لواء أمير المؤمنين :
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ , وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ) (القصص:5-6) .
7 - صــراع اجــتماعـي
حضارة جديدة : إن الأمم الأوربية التي اتصلت بالإسلام و شعوبه في الشرق بالحروب الصليبية , و في الغرب بمجاورة عرب الأندلس و خالطتهم , و لم تستفد من هذا الاتصال مجرد الشعور القوي أو التجمع و التوحد السياسي , و لكنها أفادت إلى جانب ذلك يقظة ذهنية و عقلية كبيرة و اكتسبت علوما و معارف جمة , و ظهرت فيها نهضة أدبية و علمية واسعة النطاق , و قامت الكنيسة تناقض هذه الظاهرة الغريبة , و قامت الكنيسة تناقض هذه الظاهرة الغريبة بكل ما أوتيت من قوة , و تذيق رجالها من الأدباء و العلماء مر العذاب , و تعتدي عليهم محاكم التفتيش و تثير ضدهم الدول و الشعوب , و لكن ذلك كله لم يجدها نفعا و لم تثبت تعاليمها أمام حقائق العلم و كشوفه , و خرجت النهضة العلمية منتصرة كل الانتصار و تنبهت الدولة بذلك , فصارعت الكنيسة هي الأخرى حتى صرعتها , و تخلص بذلك المجتمع الأوربي تخلصا تاما من سلطانها و طارد رجالها إلى المعبد و الأديرة و ألزم البابا الإقامة في الفاتيكان , و حصر عمل رجال الدين في نطاق ضيق من شؤون الحياة لا يخرجون عنه و لا يتطلعون إلى سواه , و لم تبق أوربا على المسيحية إلا كتراث تاريخي , و عامل من عوامل تهذيب البسطاء و الأغرار من دهماء الشعوب , و وسيلة من وسائل التغلب و الاستعمار و قضاء المآرب السياسية .
وامتد أمام الأوربيين رواق العلم و انفسح مجال الاختراع و الكشف , و ضعفت الماكينة الإنتاج و وجهت الحياة وجهة صناعية , و سار ذلك جنبا إلى جنب مع نشأة الدولة القوية و امتداد سلطانها إلى كثير من البلاد و الأقطار , فأقبلت الدنيا على هذه الأمم الأوربية و جبيت إليها ثمرات كل شيء , و تدفقت عليها الأموال من كل مكان , فكان طبيعيا بعد ذلك أن تقوم الحياة الأوربية و الحضارة الأوربية على قاعدة إقصاء الدين عن مظاهر الحياة الاجتماعية و بخاصة الدولة و المحكمة و المدرسة و طغيان النظرية المادية و جعلها المقياس في كل شيء ... و تبعا لذلك صارت مظاهر هذه الحضارة مظاهر مادية بحتة تهدم ما جاءت به الأديان السماوية ، وتناقض كل المناقضة تلك الأصول التي قررها الإسلام الحنيف، وجعلها أساساً لحضارته التي جمعت بين الروحانية والمادية جميعها، ومن أهم الظواهر التي لازمت المدنية الأوروبية:
1 ـ الإلحاد والشك في الله وإنكار الروح ونسيان الجزاء الأخروي والوقوف عند حدود الكون المادي المحسوس: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:7).
2 ـ الإباحية والتهافت على اللذة والتفنن في الاستمتاع وإطلاق الغرائز الدنيا من عقالها، وإشباع شهوتي البطن والفرج، وتجهيز المرأة بكل صنوف المفاتن والمغريات، والإغراق في الموبقات إغراقا يحطم الأجسام والعقول ويقضي على نظام الأسر ويهدم سعادة البيوت: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (محمد:12).
3 ـ الأثرة في الأفراد ، فكل إنسان لا يريد إلا خير نفسه، وفي الطبقات، فكل طبقة تتعالى على من سواها وتود أن تحظى بالمغانم دونها، وفي الشعوب، فكل أمة تتعصب لجنسها وتنتقص غيرها وتحاول أن تلتهم من هي أضعف منها.
4 ـ الربا والاعتراف بشرعيته واعتباره قاعدة التعامل، والتفنن في صوره وضروبه وتعميمه بين الدول والأفراد.
وقد أنتجت هذه المظاهر المادية البحتة في المجتمع الأوروبي فساد النفوس، وضعف الأخلاق، والتراخي في محاربة الجرائم ، فكثرت المشكلات ، وظهرت المبادئ الهدامة ، واشتعلت الثورات المخربة المدمرة ، واضطربت النظم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فلم تستقر على حال، وتمزقت الدول بالطوائف والأحزاب ، وتناحرت الشعوب على المطامع والأحقاد ، وأثبتت هذه المدنية الحديثة عجزها التام عن تأمين المجتمع الإنساني ، وإقرار الطمأنينة والسلام فيه ، وفشلت في إسعاد الناس ، رغم ما فتحت عليهم من حقائق العلم والمعرفة ، وما وفرت لهم من أسباب الغنى والثراء، وما مكنت لدولها في الأرض من قوة وسلطان و لما يمض عليها قرن كامل من الزمان .
8 - طغيان المادة على بلاد الإسلام
وقد عمل الأوروبيون جاهدين على أن تغمر موجة هذه الحياة المادية ، بمظاهرها الفاسدة وجراثيمها القتالة ، جميع البلاد الإسلامية التي امتدت إليها أيديهم ، وأوقعها سوء الطالع تحت سلطانهم ، مع حرصهم الشديد على أن يحتجزوا دون هذه الأمم عناصر الصلاح والقوة ، من العلوم والمعارف والصناعات ، والنظم النافعة ، وقد أحكموا خطة هذا الغزو الاجتماعي ، إحكاماً شديدا ً، واستعانوا بدهائهم السياسي ، وسلطانهم العسكري ، حتى تم لهم ما أرادوا.
أغروا كبار المسلمين بالاستدانة منهم والتعامل معهم ، وسهَّلوا عليهم ذلك وهوَّنوه عليهم ، واستطاعوا بذلك أن يكتسبوا حق التدخل الاقتصادي ، وأن يغرقوا البلاد برؤوس أموالهم ومصارفهم وشركاتهم ، وأن يديروا دولاب العمل الاقتصادي كما يريدون ، وأن يستأثروا دون الأهلين بالأرباح الطائلة ، والثروات العظيمة ، وتمكنوا بعد ذلك من أن يغيروا قواعد الحكم والقضاء والتعليم ، وأن يصبغوا النظم السياسية والتشريعية والثقافية بصبغتهم الخالصة في أقوى بلاد الإسلام .
وجلبوا إلى هذه الديار نساءهم الكاسيات العاريات ، وخمورهم ومسارحهم ومراقصهم وملاهيهم، وقصصهم وجرائدهم، ورواياتهم وخيالاتهم ، وعبثهم ومجونهم ، وأباحوا فيها من الجرائم ما لم يبيحوه في ديارهم ، وزينوا هذه الدنيا الصاخبة العابثة ، التي تعج بالإثم وتطفح بالفجور ، في أعين البسطاء الأغرار من المسلمين الأغنياء ، وذوي الرأي فيهم ، وأهل المكان والسلطان .
ولم يكفهم هذا حتى أنشأوا المدارس والمعاهد العلمية والثقافية في عقر ديار الإسلام، تقذف في نفوس أبنائه الشك والإلحاد وتعلمهم كيف ينتقصون أنفسهم، ويحتقرون دينهم ووطنهم، وينسلخون من تقاليدهم وعقائدهم، ويقدسون كل ما هو غربي، ويؤمنون بأن ما يصدر عن الأوروبيين وحده هو المثل الأعلى في هذه الحياة.
واحتوت هذه المدارس على الطبقة العليا وحدها وصارت وقفاً عليها، وأبناء هذه الطبقة هم العظماء والحكام، ومن سيكون بيدهم بعد قليل مقاليد الأمور في هذه الأمم والشعوب، ومن لم يتم نضجه في هذه المعاهد الموضعية، فإن في البعثات المتلاحقة ما يكفل لهم التمام.
ونجح هذا الغزو الاجتماعي المنظم العنيف أعظم النجاح، فهو غزو محبب إلى النفوس، لاصق بالقلوب طويل العمر، قوي الأثر، وهو لهذا أخطر من الغزو السياسي والعسكري بأضعاف الأضعاف .
و تغالت بعض الأمم الإسلامية في الإعجاب بهذه الحضارة الأوربية و التبرم بصبغتها الإسلامية , حتى أعلنت تركيا أنها دولة غير إسلامية و تبعت الأوربيين بعنف قاس في كل ما يصنعون , و حاول ذلك أمان الله خان ملك الأفغان فطاحت تلك المحاولة بعرشه , و ازدادت في مصر مظاهر هذا التقليد و استفحلت حتى استطاع رجل من ذوي الرأي فيها أن يجهر بأنه لا سبيل إلا الترقي إلا بأن نأخذ بهذه الحضارة خيرها و شرها و حلوها و مرها و ما يحب منها و ما يكره و ما يحمد منها و ما يعاب , و أخذت تنتقل في سرعة و قوة من مصر إلى ما جاورها من البلاد حتى وصلت إلى أقصى المغرب , و طوفت بالمشاعر المقدسة في ربوع الحجاز .
ونستطيع أن نقسم البلاد الإسلامية بحسب تأثرها بهذه الحضارة المادية و طغيان مادتها عليها إلى ثلاثة أقسام :
1 - بلاد بلغ هذا التأثر مبلغا عظيما يصل إلى القلوب و المشاعر , كما غير الأوضاع و المظاهر , و من هذه البلاد تركيا و مصر , فقد انحسر ظل الفكرة الإسلامية في هذه البلاد عن كل الأوضاع الاجتماعية , و طوردت الفكرة الإسلامية لتقبع في المساجد و الزوايا و الربط و التكايا .
2 - بلاد تأثرت بهذه الحضارة في أوضاعها و مظاهرها الرسمية , و لكنها لم تتغلب فيها على المشاعر القلبية كإيران و بلاد المغرب و شمال أفريقيا .
3 - بلاد لم تتأثر بهذه الحضارة فيها إلا طبقة خاصة من المثقفين و الحكام دون العامة و الدهماء كسوريا و العراق و الحجاز و كثير من أجزاء الجزيرة العربية و بقية ممالك الإسلام .
و مع هذا فالموجة تمتد بسرعة البرق لتصل إلى ما لم تصل إليه بعد من النفوس و الطبقات و الأوضاع.
ولقد استطاع خصوم الإسلام أن يخدعوا عقلاء المسلمين وأن يضعوا ستاراً كثيفاً أمام أعين الغير منهم، بتصوير الإسلام نفسه تصويراً قاصراً في ضروب من العقائد والعبادات والأخلاق، إلى جانب مجموعة من الطقوس والخرافات والمظاهر الجوفاء، وأعانهم على هذه الخديعة: جهل المسلمين بحقيقة دينهم، حتى استراح كثير منهم إلى هذا التصوير واطمأنوا إليه ورضوا به، وطال عليهم في ذلك الأمد، حتى صار من العسير أن نفهم أحدهم أن الإسلام نظام اجتماعي كامل يتناول كل شؤون الحياة.
نستطيع بعد ذلك أن نقول: إن الحضارة الغربية بمبادئها المادية، قد انتصرت في هذا الصراع الاجتماعي على الحضارة الإسلامية، بمبادئها القويمة الجامعة للروح والمادة معاً في أرض الإسلام نفسه، وفي حرب ضروس، ميدانها نفوس المسلمين، وأرواحهم وعقائدهم وعقولهم، كما انتصرت في الميدان السياسي والعسكري، و لا عجب في هذا، فإن مظاهر الحياة لا تتجزأ، والقوة قوة فيها جميعاً، والضعف ضعف فيها جميعاً كذلك: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران:140) , وإن كان مبادئ الإسلام وتعاليمه ظلت قوية في ذاتها فياضة بالخصب والحياة، جذابة أخاذة بروعتها وجمالها، وستظل كذلك، لأنها الحق ولن تقوم الحياة الإنسانية كاملة فاضلة بغيرها، ولأنها من صنع الله وفي حياطته: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) , (وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة:32) .
يـقـظـة: و كما كان لذلك العدوان السياسي أثره في تنبيه المشاعر القومية , كان لهذا الطغيان الاجتماعي أثره في انتعاش الفكرة الإسلامية , فارتفعت الأصوات من كل مكان تطالب بالرجوع إلى الإسلام و تفهم أحكامه و تطبيق نظامه , و لابد أن يأتي قريبا ذلك اليوم الذي تندك فيه صروح هذه المدنية المادية على رؤوس أهلها , و حينئذ يشعرون بسعير الجوع الروحي تشتعل به قلوبهم و أرواحهم و لا يجدون الغذاء و الشفاء و الدواء إلا في تعاليم هذا الكتاب الكريم :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ , قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس:57-58).
9 - دعوتنا دعوة للبعث والإنقاذ
( أ ) تركة مثقلة : وهكذا أيها الإخوان أراد الله أن نرث هذه التركة المثقلة بالتبعات ، وأن يشرق نور دعوتكم في ثنايا هذه الظلام وأن يهيئكم الله لإعلاء كلمته وإظهار شريعته وإقامة دولته من جديد : ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز .
( ب ) أهدافنا العامة : ماذا نريد أيها الإخوان ؟ أنريد جمع المال وهو ظل زائل ؟ أم سعة الجاه وهو عرض حائل ؟ أم نريد الجبروت في الأرض : إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الأعراف . ونحن نقرأ قول الله تبارك وتعالي (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83). شهد الله أننا لا نريد شيئاً من هذا وما لهذا عملنا ولا إليه دعونا ، ولكن اذكروا دائما أن لكم هدفين أساسيين :
1 - أن يتحرر الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي وذلك حق طبيعي لكل إنسان ، لا ينكره إلا ظالم جائر أو مستبد قاهر .
2 - أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة تعمل بأحكام الإسلام وتطبق نظامه الاجتماعي وتعلن مبادئه القويمة وتبلغ دعوته الحكيمة الناس ، وما لم تقم هذه الدولة فإن المسلمين جميعاً آثمون مسؤولون بين يدي الله العلي الكبير عن تقصيرهم في إقامتها وقعودهم عن إيجادهم .
ومن العقوق للإنسانية في هذه الظروف الحائرة أن تقوم فيها دولة تهتف بالمبادئ الظالمة وتنادي بالدعوات الغاشمة ولا يكون في الناس من يعمل لتقوم دولة الحق والعدالة والسلام .
نريد تحقيق هذين الهدفين في وادي النيل وفي بلاد العروبة وفي كل أرض أسعدها الله بعقيدة الإسلام : دين وجنسية وعقيدة توحد بين جميع المسلمين .
( ج ) أهدافنا الخاصة : ولنا بعد هذين الهدفين أهداف خاصة لا يصير المجتمع إسلامياً كاملاً إلا بتحقيقها . فاذكروا أيها الإخوان أن أكثر من 60% من المصريين يعيشون أقل من معيشة الحيوان ، ولا يحصلون علي القوت إلا بشق النفس ، وأن مصر مهددة بمجاعة قاتلة ومعرضة لكثير من المشكلات الاقتصادية التي لا يعلم نتيجتها إلا الله ، وأن مصر بها أكثر من 230 شركة أجنبية تحتكر كل المرافق العامة وكل المنافع الهامة في جميع أنحاء البلاد ، وأن دولاب التجارة والصناعة والمنشآت الاقتصادية كلها في أيدي الأجانب المرابين ، وأن الثروة العقارية تنتقل بسرعة البرق من أيدي الوطنيين إلى أيدي هؤلاء ، وأن مصر أكثر بلاد العالم المتمدين أمراضاً وأوبئة وعاهات ، وان أكثر من 90% من الشعب المصري مهدد بضعف البنية وفقد الحواس ومختلف العلل و الأمراض ، وأن مصر لا زالت إلى الآن جاهلة لم يصل عدد المتعلمين فيها إلى الخمس بما في ذلك أكثر من مائة ألف شخص لا يتجاوز تعليمهم برامج مدارس الإلزام ، وأن الجرائم تتضاعف في مصر وتتكاثر بدرجة هائلة حتى أن السجون لتخرج أكثر مما تخرج المدارس ، وأن مصر لم تستطع إلى الآن أن تجهز فرقة واحدة في الجيش كاملة المعدات ، وأن هذه المعاني والصور تتراءى في كل بلد من بلدان العالم الإسلامي ، فمن أهدافكم أن تعملوا لإصلاح التعليم ومحاربة الفقر والجهل والمرض والجريمة وتكوين مجتمع نموذجي أن ينتسب إلى شريعة الإسلام.
( د ) وسائلنا العامة : كيف نصل إلى هذه الأهداف ؟ إن الخطب والأموال والمكاتبات والدروس والمحاضرات وتشخيص الداء ووصف الدواء كل ذلك وحده لا يجدي نفعاً ولا يحقق غاية ولا يصل بالداعين إلى هدف من الأهداف ؛ ولكن للدعوات وسائل لا بد من الأخذ بها والعمل لها . والوسائل العامة للدعوات لا تتغير ولا تتبدل ولا تعدو هذه الأمور الثلاثة :
1 - الإيمان العميق .
2 - التكوين الدقيق .
3 - العمل المتواصل .
وتلك هي وسائلكم العامة أيها الإخوان فآمنوا بفكرتكم وتجمعوا حولها واعملوا لها واثبتوا عليها .
( هـ ) وسائل إضافية : وقد تكون إلى جانب هذه الوسائل العامة وسائل إضافية لا بد من الأخذ بها وسلوك سبيلها ، منها السلبي ومنها الإيجابي ، ومنها ما يتفق مع عرف الناس ومنها ما يخرج علي هذا العرف ويخالفه ويناقضه ، ومنها ما فيه لين ومنها ما فيه شدة ، ولا بد أن نروض أنفسنا علي تحمل ذلك كله و الإعداد لهذا كله حتى نضمن النجاح .
قد يطلب إلينا أن نخالف عادات ومألوفات وأن نخرج علي نظم وأوضاع ألفها الناس وتعارفوا عليها ، وليست الدعوة في حقيقة أمرها إلا خروجاً علي المألوفات وتغييراً للعادات والأوضاع ، فهل أنتم مستعدون لذلك أيها الإخوان ؟
( و ) تثبيط : وسيقول كثير من الناس : وماذا تعني هذه الوسائل ؟ وما عساها أن تنفع في بناء أمة وترميم مجتمع هذه المشكلات المزمنة ومع استقرار الحال علي هذه المفاسد المتعددة ؟ وكيف تعالجون الاقتصاد علي غير أساس الربا ؟ وكيف تصنعون في قضية المرأة ؟ وكيف تنالون حقكم بغير قوة ؟ فاعلموا أيها الإخوان أن وساوس الشيطان يلقيها في أمنية كل مصلح فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم واذكروا لهؤلاء جميعاً أن التاريخ يقص علينا من نبأ الأمم الماضية والحاضرة ما فيه عظة وعبرة . والأمة التي تصمم علي الحياة لا يمكن أن تموت .
( ز ) العقبات في طريقنا : أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس ، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها ستلتقي منهم خصومه شديدة وعداوة قاسية ، و ستجدون أمامكم كثيراً من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات ، وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات . أما الآن فلا زلتم مجهولين تمهدون للدعوة وتستعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد . سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم ، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله ، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان ، وستقف في وجهكم كل الحكومات علي السواء ، وستحاول كل حكومة أن تجد من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم .
وسيتذرع الغاصبون بكل طرق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم ، وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان . وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات ، وسيحاولون أن يبصقوا بها كل نقيصة ، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة ، معتمدين علي قوتهم وسلطانهم ، ومعتدين بأموالهم ونفوذهم : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة:32) .
وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان ، فستجنون وتعتقلون ، وتنقلون وتشردون ، وتصادر مصالحكم وتعطل أعمالكم وتفتش بيوتكم ، وقد يطول بكم مدي هذا الامتحان : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2) .
ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ .......... فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ) (الصف:10-14) . فهل أنتم مصرون علي أن تكونوا أنصار الله ؟
( ح ) عوامل النجاح : ومن الحق أيها الإخوان أن نذكر أمام هذه العقبات جميعاً أننا ندعو بدعوة الله وهي أسمي الدعوات ، وننادي بفكرة الإسلام وهي أقوي الفكر ،
ونقدم للناس شريعة القرآن وهي أعدل الشرائع , (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) (البقرة:138) , وأن العالم كله في حاجة إلى هذه الدعوة وكل ما فيه يمهد لها و يهيئ سبيلها ، وأننا بحمد الله براء من المطامع الشخصية بعيدون عن المنافع الذاتية ، ولا نقصد إلا وجه الله وخير الناس ولا نعمل إلا ابتغاء مرضاته ، وإننا نترقب تأييد الله ونصره الله فلا غالب له : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) (محمد:11) . فقوة دعوتنا وحاجة إليها ونبالة مقصدنا وتأييد الله إيانا هي عوامل النجاح التي لا تثبت أمامها عقبة ولا يقف في طريقها عائق : (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21) .
10 - وصـــيـة
أيها الإخوان المسلمون ، اسمعوا :
أردت بهذه الكلمات أن أضع فكرتكم أمام أنظاركم فلعل ساعات عصيبة تنتظرنا يحال فيها بيني وبينكم إلي حين ؛ فلا أستطيع أن أتحدث معكم أو أكتب إليكم ، فأوصيكم أن تتدبروا هذه الكلمات وأن تحفظوها إذا استطعتم وأن تجتمعوا عليها ، وإن تحت كل كلمة لمعاني جمة.
أيها الإخوان : أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزباً سياسياً ولا هيئة موضعية لأغراض محدودة المقاصد . ولكنكم روح جديد يسري في قلب هذه الأمة فيحييه بالقرآن ، ونور جديد يشرق فيسدد ظلام المادة بمعرفة الله ، وصوت داو يعلو مردداً دعوة الرسول صلي الله عليه وسلم ومن الحق الذي لا غلو فيه أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلي عنه الناس .
إذا قيل إلام لكم تدعون ؟ ... فقولوا ندعو إلي الإسلام الذي جاء به محمد صلي الله عليه وسلم والحكومة جزء منه والحرية فريضة من فرائضه ، فإن قيل لكم هذه سياسة ! فقولوا هذا هو الإسلام ونحن لا نعرف هذه الأقسام .
وإن قيل لكم أنتم دعاة ثورة ، فقولوا نحن دعاة حق وسلام نعتقده ونعتز به ، فإن ثرتم علينا ووقفتم في طريق دعوتنا فقد أذن الله أن ندفع عن أنفسنا وكنتم الثائرين الظالمين . وإن قيل لكم إنكم تستعينون بالأشخاص والهيئات فقولوا : (آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) (غافر:84) , فإن لجّوا في عدوانهم فقولوا : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص:55) .
واجــبات
أيها الإخوان ..
ـ آمنوا بالله واعتزوا بمعرفته والاعتماد عليه والاستناد إليه ، فلا تخافوا غيره ولا ترهبوا سواه. وأدوا فرائضه واجتنبوا نواهيه .
ـ وتخلقوا بالفضائل وتمسكوا بالكمالات . وكونوا أقوياء بأخلاقكم أعزاء بما وهب الله لكم من عزة المؤمنين وكرامة الاتقاء الصالحين .
ـ وأقبلوا علي القرآن تتدارسونه ، وعلي السيرة المطهرة تتذاكرونها ، وكونوا عمليين لا جدليين ؛ فإذا هدي الله قوما ألهمهم العمل ؛ وما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل.
ـ وتحابوا فيما بينكم ، واحرصوا كل الحرص علي رابطتكم فهي سر قوتكم وعماد نجاحكم ، واثبتوا حتى يفتح الله بينكم وبين قومكم بالحق وهو خير الفاتحين .
ـ واسمعوا وأطيعوا لقيادتكم في العسر واليسر والمنشط والمكره ، فهي رمز فكرتكم وحلقة الاتصال فيما بينكم .
ـ وترقبوا بعد ذلك نصر الله وتأييده . والفرصة آتية لا ريب فيها , (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ , بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:4-5) .
وفقنا الله وإياكم لما يحبه و يرضاه ، وسلك بنا وبكم مسالك الأخيار المهتدين ، وأحياناً حياة الأعزاء السعداء وأماتنا موت المجاهدين والشهداء إنه نعم المولي ونعم النصير .
رسالة المؤتمر الخامس
مقدمــة
بِـسْــمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـمِ
أيها الإخوان :
كنت أود أن نظل دائما نعمل ولا نتكلم , وأن نكل الأعمال وحدها الحديث عن الإخوان وخطوات الإخوان , وكنت أحب أن تتصل خطواتكم اللاحقة بخطواتكم السابقة في هدوء وسكون من غير هذا الفاصل الذي نحدد به جهاد عشر سنوات مضت لنستأنف مرحلة أخرى من مراحل الجهاد الدائب في سبيل تحقيق فكرتنا السامية .
ولكنكم أردتم هذا , وأحببتم أن تسعدونا بهذا الاجتماع الشامل فشكرا لكم , و لا بأس أن ننتهز هذه الفرصة الكريمة فنستعرض نتائجنا , ونراجع فهرس أعمالنا , ونستوثق من مراحل طريقنا ونحدد الغاية والوسيلة فتتضح الفكرة المبهمة , و تصحح النظرة الخاطئة , و تعلم الخطوة المجهولة , وتتم الحلقة المفقودة , ويعرف الناس الإخوان المسلمين على حقيقة دعوتهم , من غير لبس ولا غموض .
لا بأس بهذا , ولا بأس بأن يتقدم إلينا من وصلته هذه الدعوة و من سمع أو قرا هذا البيان , برأيه في غايتنا و وسيلتنا و خطواتنا فنأخذ الصالح من رأيه , و ننزل على الحق من مشورته , فإن الدين النصيحة لله و لرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم .
أيها الإخوان :
أجدني في غنى عن تحيتكم و شكركم , وعن وصف ما يغمرني من السعادة بموقفي هذا بينكم , ومن السرور و الفرح بلقائكم و من الأمل العظيم بمؤازرتكم و توفيق الله إياكم .
أجدني في غنى عن بيان هذا كله بهذا الفيض من العواطف النبيلة الذي يغمر ج هذا الاجتماع , فكان كل ما فيه ينطق بالحب العميق والارتباط الوثيق و الأخوة الصادقة و التعاون المكين , ووفقكم الله لخير ما يحب ويرضى .
الإخوان فكرة في نفوس أربعة
أيها الإخوان الكرام :
طالعت كثيرا و جربت كثيرا و خالطت أوساطا كثيرة و شهدت حوادث عدة , فخرجت من هذه السياحة القصيرة المدى الطويلة المراحل بعقيدة ثابتة لا تتزلزل , هي أن :
السعادة التي ينشدها الناس جميعا إنما تفيض عليهم من نفوسهم و قلوبهم , و لا تأتيهم من خارج هذه القلوب أبدا , و أن الشقاء الذي يحيط بهم و يهربون منه إنما يصيبهم بهذه النفوس و القلوب كذلك , و إن القرآن الكريم يؤيد هذا المعنى و يوضحه , ذلك قول الله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11) .
و ما رأيت كلاهما أعمق في فلسفة الاجتماع من قول ذلك :
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
- و لكن أخلاق الرجال تضيق
اعتقدت هذا و اعتقدت إلى جانبه أنه ليست هناك نظم و لا تعاليم تكفل سعادة هذه النفوس البشرية و تهدي الناس إلى الطرق لهذه السعادة كتعاليم الإسلام الحنيف الفطرية الواضحة , و ليس هنا مجال تفصيل هذه التعاليم هذه التعاليم , و لا مجال التدليل على أنها تتضمن هذه النتيجة , و تكفل سعادة البشرية جميعا فلذلك مجال آخر , فضلا عن أننا كلنا فيما أعتقد شركاء في التسليم بصحة هذه النظرية , على أن كثيرا من غير المسلمين يقر بها و يعترف بما في الإسلام من جمال و كمال .
و لهذا وقفت نفسي منذ نشأت على غاية واحدة هي إرشاد الناس إلى الإسلام حقيقة و عملا , و لهذا كانت فكرة الإخوان المسلمين إسلامية بحتة في غايتها و في وسائلها , لا تتصل بغير الإسلام ي شيء .
ظلت هذه الخواطر حديثا نفسانيا ومناجاة روحية بها في نفسي لنفسي , و قد أفضي بها إلى كثير ممن حولي , و قد تظهر في شكل دعة فردية أو خطابة وعظية أو درس في المساجد إذا سنحت فرصة التدريس , أو حث لبعض الأصدقاء و العلماء على بذل الهمة و مضاعفة المجهود , في إنقاذ الناس و إرشادهم إلى ما في الإسلام من خير .
ثم كانت في مصر و غيرها من بلدان العالم الإسلامي حوادث عدة ألهبت نفسي و أهابت كوامن في قلبي , و لفتت نظري إلى وجوب الجد و العمل , و سلوك طريق التكوين بعد التنبيه , و التأسيس بعد التدريس , و لا أطيل عليكم بتفصيل حوادث انتهى أمرها و عفت آثارها , و فاء إلى الرشد أو بعض الرشد أصحابها .
و لقد أخذت أفاتح كثيرا من كبار القوم في وجوب النهوض و العمل و سلوك طريق الجد و التكوين , فكنت أجد التثبيط أحيانا و التشجيع أحيانا و التريث أحيانا , و لكني لم أجد ما أريد من الاهتمام بتنظيم الجهود العملية , و من الوفاء أذكر في هذا المقام المرحوم أحمد باشا تيمور أفسح الله له في جنته , فما رأيته إلا مثالا للهمة المتوثبة و الغيرة المتوقدة , و ما تحدثت إليه في شأن من شؤون الأمة العامة إلا وجدت العقل الكامل و الاستعداد التام و الإلمام الشامل و ترقب ساعة العمل , فرحمه الله و أجزل مثوبته .
و ليت وجهي شطر الأصدقاء و الإخوان ممن جمعني و إياهم عهد الطلب و صدق الود و الشعور بالواجب , فوجدت استعدادا حسنا , و كان أسرعهم إلى مشاركتي عبء التفكير و أكثرهم اقتناعا بوجوب العمل في إسراع و همة , الإخوان الفضلاء : أحمد أفندي السكري , و الأخ المفضال المرحوم الشيخ حامد عسكرية اسكنه الله فسيح جنته , و الأخ الشيخ أحمد عبد الحميد وكثير غيرهم .
و كان عهد و كان موثق أن يعمل كل منا لهذه الغاية , حتى يتحول العرف العام في الأمة إلى وجهة إسلامية صالحة .
ليس يعلم أحد إلا الله كم من الليالي كنا نقضيها نستعرض حال الأمة ، وما وصلت إليه في مختلف مظاهر حياتها، ونحلل العلل والأدواء، ونفكر في العلاج وحسم الداء , ويفيض بنا التأثر لما وصلنا إليه إلى حد البكاء , وكم كنا نعجب إذ نرى أنفسنا في مثل هذه المشغلة النفسانية العنيفة و الخليون هاجعون يتسكعون بين المقاهي و يترددون على أندية الفساد و الإتلاف , فإذا سألت أحدهم عما يحمله على هذه الجلسة الفارغة المملة قال لك : أقتل الوقت , و ما دري هذه المسكين أن من يقتل وقته إنما يقتل نفسه , فإنما الوقت هو الحياة .
كنا نعجب لهؤلاء الناس و كثير منهم من المثقفين , و من هم أولى منا بحمل هذا العبء , ثم يقول بعضنا لبعض : أليس هذا داء من أدواء الأمة و لعله أخطرها , ألاّ تفكر في مرضها و ألاّ تعمل لعلاج نفسها . و لهذا و أمثاله نعمل و لإصلاح هذا الفساد , وقفنا أنفسنا فنتعزى و نحمد الله على أن جعلنا من الداعين إليه العاملين لدينه .
و عمل الزمن عمله فتفرقنا نحن الأربعة فكان أحمد أفندي السكري بالمحمودية , و كان المرحوم الشيخ حامد عسكرية بالزقازيق , و كان الشيخ أحمد عبد الحميد بكفر الدوار , و كنت بالإسماعيلية أذكر قول الشاعر :
بالشام أهلي و بغداد الهوى و أنا
- بالرقمتين و بالفسطاط جيراني
و في الإسماعيلية أيها الإخوان وضعت أول نواة تكوينية للفكرة , و ظهرت أول هيئة متواضعة نعمل و نحمل لوائها نعاهد الله على الجندية التامة في سبيلها تحت اسم (الإخوان المسلمون) و كان ذلك في ذي القعدة سنة 1347 هـ .
إسلام الإخوان المسلمين
و اسمحوا لي إخواني استخدام هذا التعبير , و لست أعني به أن للإخوان المسلمين إسلاما جديدا غير الإسلام الذي جاء به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه , و إنما أعني أن كثيرا من المسلمين في كثير من المسلمين في كثير من العصور خلعوا عن الإسلام نعوتا و أوصافا و رسوما من عند أنفسهم , و استخدموا مرونته و سعته استخداما ضارا مع أنها لم تكن إلا للحكمة السامية , فاختلفوا في معنى الإسلام اختلافا , وانطبعت للإسلام في نفس أبنائه صور عدة تقرب أو تبعد أو تنطبق على الإسلام الأول الذي مثله رسول الله و أصحابه خير تمثيل .
فمن الناس من لا يرى الإسلام شيئا غير حدود العبادة الظاهرة فإن أداها أو رأى من يؤديها اطمأن إلى ذلك و رضي به و حسبه قد وصل على لب الإسلام , و ذلك هو المعنى الشائع عند عامة المسلمين . و من الناس من يرى الإسلام إلا الخلق الفاضل و الروحانية الفياضة , و الغذاء الفلسفي الشهي للعقل و الروح , و البعد بهما عن أدران المادة الطاغية الظالمة .
و منهم من يقف إسلامه عند حد الإعجاب بهذه المعاني الحيوية العملية في الإسلام فلا يتطلب النظر إلى غيرها و لا يعجبه التفكير في سواها .
و منهم من يرى الإسلام نوع من العقائد الموروثة و الأعمال التقليدية التي لا غناء فيها و لا تقدم معها , فهو متبرم بالإسلام و بكل ما يتصل بالإسلام , و تجد هذا المعنى واضحا في نفوس كثير من الذين ثقفوا ثقافة أجنبية و لم تتح لهم فرص حسن الاتصال بالحقائق الإسلامية فهم لم يعرفوا عن الإسلام شيئا أصلا , أو عرفوه صورة مشوهة بمخالطة من لم يحسنوا تمثيله من المسلمين .
و تحت هذه الأقسام جميعا تندرج أقسام أخرى يختلف نظر كل منها إلى الإسلام عن نظر الآخر قليلا أو كثيرا , وقليل من الناس أدرك الإسلام صورة كاملة واضحة تنتظم هذه المعاني جميعا .
هذه الصور المتعددة للإسلام الواحد في نفوس الناس جعلتهم يختلفون اختلافا بينا في فهم الإخوان المسلمون وتصور فكرتهم .
فمن الناس من يتصور الإخوان المسلمون جماعة وعظية إرشادية كل همها أن تقدم للناس العظات فتزهدهم في الدنيا و تذكرهم بالآخرة .
و منهم من يتصور الإخوان المسلمين طريقة صوفية تعني بتعليم الناس ضروب الذكر و فنون العبادة و فنون العبادة و ما يتبع ذلك من تجرد و زهادة .
و منهم من يظنهم جماعة نظرية فقهية كل نظرهم أن تقف عند طائفة من الإحكام تجادل فيها و تناضل عنها , و تحمل الناس عليها و تخاصم أو تسالم من لم يسلم بها معها .
و قليل من الناس خالطوا الإخوان المسلمين و امتزجوا بهم و لم يقفوا عند حدود السماع و لم يخلعوا على الإخوان المسلمين إسلاما يتصورنه هم , فعرفوا حقيقتهم و أدركوا كل شيء عن دعوتهم علما وعملا , وهذا أحببت أن أتحدث لحضراتكم عن معنى الإسلام و صورته الماثلة في نفوس الإخوان , المسلمين , حتى يكون الأساس الذي ندعو إليه و نعتز بالانتساب له و الاستمداد منه واضحا جليا .
( 1 ) نحن نعتقد أن أحكام الإسلام و تعاليمه شاملة تنتظم شؤون الناس في الدنيا و الآخرة , و أن الذين يظنون أن هذه التعاليم إنما تتناول الناحية العبادية أو الروحية دون غيرها من النواحي مخطئو نفي هذا الظن , فالإسلام عقيدة و عبادة , و وطن و جنسية , و دين ودولة , , و روحانية و عمل , و مصحف و سيف , و القرآن الكريم ينطق بذلك كله و يعتبره من لب الإسلام و من صميمه و يوصي بالإحسان فيه جميعه , و إلى هذا تشير الآية الكريمة : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) (القصص:77)
و إنك لتقرأ في القرآن و في الصلاة إن شئت قول الله تبارك و تعالي في العقيدة و العبادة : (وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (البينة:5) .
وتقرأ قوله تعالى في الحكم والقضاء و السياسة : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65)
و تقرأ قوله تعالى في الدين و التجارة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) (البقرة:282)
و تقرا قوله تعالى في الجهاد و القتال و الغزو : (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ) (النساء:102) و إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة البارعة في هذه الأغراض نفسها و في غيرها من الآداب العامة و شؤون الاجتماع .
و هكذا اتصل الإخوان بكل بكتاب الله و استلهموه و استرشدوه فأيقنوا أن الإسلام هو هذا المعنى الكلي الشامل , وأنه يجب أن يهيمن على كل شؤون الحياة و أن تصطبغ جميعها به و أن تنزل على حكمه , وأن تساير قواعده و تعاليمه و تستمد منها ما دامت الأمة تريد أن تكون مسلمة إسلاما صحيحا , أما إذا أسلمت في عباداتها و قلدت غير المسلمين في بقية شؤونها , فهي أمة ناقصة الإسلام تضاهئ الذين قال تعالى فيهم : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:85)
( 2 ) إلى جانب هذا يعتقد الإخوان المسلمون أن أساس التعاليم الإسلامية معينها هو كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم , اللذان إن تمسكت بهما فلن تضل أبدا , و أن كثيرا من الآراء و العلوم التي اتصلت بالإسلام و تلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها و الشعوب التي عاصرتها , و لهذا يجب أن تستقي النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي معين السهولة الأولى , و أن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة و التابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم , و أن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية حتى لا نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا الله به , و لا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معنا.
( 3 ) و إلى جانب هذا أيضا يعتقد الإخوان المسلمون أن الإسلام كدين عام انتظم كل شؤون الحياة في كل الشعوب و الأمم لكل الأعصار و الأزمان , جاء أكمل و أسمى من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة و خصوصا في الأمور الدنيوية البحتة , فهو إنما يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشؤون , و يرشد الناس إلى الطريق العملية للتطبيق عليها و السير في حدودها .
و لضمان حق الصواب في هذا التطبيق أو تحريهما على الأقل , عني الإسلام عناية تامة بعلاج النفس الإنسانية و هي مصدر النظم و مادة التفكير و التصوير و التشكل , فوصف لها من الأدوية الناجعة ما يطهرها من الهوى و يغسلها من أضرار الغرض و الغاية و يهديها إلى الكمال و الفضيلة , و يزجرها عن الجور القصور العدوان , و إذا استقامت النفس و صفت فقد أصبحت كل ما يصدر عنها صالحا جميلا , يقولون إن العدل ليس في نص القانون و لكنه في نفس القاضي , و قد تأتي بالقانون الكامل العادل إلى القاضي ذي الهوى و الغاية فيطبقه تطبيقا جائرا لا عدل معه , و قد تأتي بالقانون الناقص و الجائر إلى القاضي الفاضل العادل البعيد عن الأهواء و الغايات فيطبقه تطبيقا فاضلا عادلا فيه كل الخير و البر و الرحمة و الإنصاف و من هنا كانت النفس الإنسانية محل عناية كبرى في كتاب الله , و كانت النفوس الأولى التي صاغها هذا الإسلام مثال الكمال الإنساني , و لهذا كله كانت طبيعة الإسلام تساير العصور و الأمم , و تتسع لكل الأغراض و المطالب , و لهذا أيضا كان الإسلام لا يأبى أبدا الاستفادة من كل نظام صالح لا يتعارض مع قواعده الكلية و أصوله العامة .
لا أحب أيها أن استرسل في هذا البيان فذلك باب و اسع و حسبنا هذه الإلمامة الموجزة تلقي ضوءا على هذا المعنى للفكرة الإسلامية في نفوس الإخوان المسلمين .
الإخوان فكرة إصلاحية شاملة
كان من نتيجة هذا الفهم العام الشامل للإسلام عند الإخوان المسلمين أن شملت فكرتهم كل نواحي الإصلاح في الأمة ، وتمثلت فيها كل عناصر غيرها من الفكر الإصلاحية ، وأصبح كل مصلح مخلص غيور يجد فيها أمنيته ، والتقت عندها آمال محبي الإصلاح الذين عرفوها وفهموا مراميها ، وتستطيع أن تقول ولا حرج عليك ، إن الإخوان المسلمين :
( 1 ) دعوة سلفية : لأنهم يدعون إلى العودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله.
( 2 ) وطريقة سنية : لأنهم يحملون أنفسهم علي العمل بالسنة المطهرة في كل شيء ، وبخاصة في العقائد والعبادات ما وجدوا إلى ذلك سبيلا .
( 3 ) وحقيقة صوفية : لأنهم يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس ، ونقاء القلب ، والمواظبة علي العمل ، و الإعراض عن الخلق ، والحب في الله ، والارتباط علي الخير .
( 4 ) وهيئة سياسية : لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل وتعديل النظر في صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم في الخارج ، وتربية الشعب علي العزة والكرامة والحرص علي قوميته إلي أبعد حد .
( 5 ) وجماعة رياضية : لأنهم يعنون بجسومهم ، ويعلمون أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف ، وأن النبي صلي الله عليه وسلم يقول : (إن لبدنك عليك حقاً) و إن تكاليف الإسلام كلها لا يمكن أن تؤدي كاملة صحيحة إلا بالجسم القوي ، فالصلاة والصوم والحج والزكاة لا بد لها من جسم يحتمل أعباء الكسب والعمل والكفاح في طلب الرزق ، ولأنهم تبعاً لذلك يعنون بتشكيلاتهم وفرقهم الرياضية عناية تضارع وربما فاقت كثيراً من الأندية المتخصصة بالرياضة البدنية وحدها .
( 6 ) ورابطة علمية ثقافية : لأن الإسلام يجعل طلب العلم فريضة علي كل مسلم ومسلمة ، ولأن أندية الإخوان هي في الواقع مدارس للتعليم والتثقيف ومعاهد لتربية الجسم والعقل والروح .
( 7 ) وشركة اقتصادية : لأن الإسلام يعني بتدبير المال و كسبه من وجهه وهو الذي يقول نبيه صلي الله عليه وسلم : (نعم المال الصالح للرجل الصالح) ويقول : (من أمسي كالاً من عمل يده أمسي مغفوراً له) ، (إن الله يحب المؤمن المحترف)
( 8 ) وفكرة اجتماعية : لأنهم يعنون بأدواء المجتمع الإسلامي ويحاولون الوصول إلي طرق علاجها وشفاء الأمة منها .
وهكذا نري أن شمول معني الإسلام قد أكسب فكرتنا شمولاً لكل مناحي الإصلاح ، ووجه نشاط الإخوان إلي كل هذه النواحي ، وهم في الوقت الذي يتجه فيه غيرهم إلي ناحية واحدة دون غيرها يتجهون إليها جميعاً ويعلمون أن الإسلام يطالبهم بها جميعاً .
ومن هنا كان كثير من مظاهر أعمال الإخوان يبدو أمام الناس متناقضاً وما هو بمتناقض .
فقد يري الناس الأخ المسلم في المحراب خاشعاً متبتلاً يبكي ويتذلل ، وبعد قليل سكون هو بعينه واعظاً مدرساً يقرع الآذان بزواخر الوعظ ، وبعد قليل تراه نفسه رياضياً أنيقاً يرمي بالكرة أو يدرب علي العدو أو يمارس السباحة ، وبعد فترة يكون هو بعينه في متجره أو معمله يزاول صناعته في أمانة وفي إخلاص . هذه مظاهر قد يراها الناس متنافرة لا يلتئم بعضها ببعض ، ولو علموا أنها جميعاً يجمعها الإسلام ويأمر بها الإسلام ويحض عليها الإسلام لتحققوا فيها مظاهر الالتئام ومعاني الانسجام ، ومع هذا الشمول فقد اجتنب الإخوان كل ما يؤخذ علي هذه النواحي من المآخذ ومواطن النقد والتقصير.
كما اجتنبوا التعصب للألقاب إذ جمعهم الإسلام الجامع حول لقب واحد هو الإخوان المسلمون.
خصائص دعوة الإخوان
لعل من صنع الله لدعوة الإخوان المسلمين أن تنبت بالإسماعيلية , و أن يكون ذلك على أثر خلاف فقهي بين الأهلين و انقسام دام سنوات حول بعض النقاط الفرعية التي أذكى نار الفرقة فيها ذوو المطامع و الأغراض , و أن تصادف نشأتها عهد الصراع القوي العنيف بين الأجنبي المتعصب و الوطني المجاهد , فكان من أثر هذه الظروف أن تميزت هذه الدعوة بخصائص خالفت فيها كثيرا من الدعوات التي عاصرتها . و من هذه الخصائص :
( 1 ) البعد عن مواطن الخلاف
( 2 ) البعد عن هيمنة الأعيان و الكبراء
( 3 ) البعد عن الأحزاب و الهيئات
( 4 ) العناية بالتكوين و التدرج في الخطوات
( 5 ) إيثار الناحية العملية الإنتاجية على الدعاية والإعلانات
( 6 ) وشدة الإقبال من الشباب
( 7 ) و سرعة الانتشار في القرى و المدن
1 - البعد عن مواطن الخلاف
فأما البعد عن مواطن الخلاف الفقهي فلأن الإخوان يعتقدون أن الخلاف في الفرعيات أمر ضروري لابد منه، إذ إن أصول الإسلام آيات وأحاديث وأعمال تختلف في فهمها وتصورها العقول و الأفهام ، لهذا كان الخلاف واقعاً بين الصحابة أنفسهم ومازال كذلك، وسيظل إلى يوم القيامة، وما أحكم الإمام مالك ـ رضي الله عنه ـ حين قال لأبي جعفر وقد أراد أن يحمل الناس على الموطأ: "إن أصحاب رسول الله ص تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة"، وليس العيب في الخلاف ولكن العيب في التعصب للرأي والحجر على عقول الناس وآرائهم، هذه النظرة إلى الأمور الخلافية جمعت القلوب المتفرقة على الفكرة الواحدة، وحسب الناس أن يجتمعوا على ما يصير به المسلم مسلماً كما قال زيد ـ رضي الله عنه ـ وكانت هذه النظرة ضرورية لجماعة تريد أن تنشر فكرة في بلد لم تهدأ بعد فيه ثائرة الخلاف على أمور لا معنى للجدل ولا للخلاف فيها .
2 - البعد عن هيمنة الكبراء و الأعيان :
و أما البعد عن هيمنة الكبراء و الأعيان فلانصرافهم عن هذه الدعوات الناشئة المجردة من الغايات و الأهواء إلى الدعوات القائمة , التي تستتبع المغانم و تجر المنافع و لو في ظن الناس لا في حقيقة الحال , و لأننا معشر القائمين بدعوة الإخوان تعمدنا هذا , لأول عهد الدعوة بالظهور , حتى لا يطمس لونها الصافي لون آخر من ألوان الدعوات التي يروج لها هؤلاء الكبراء , و حتى لا يحاول أحد منهم أن يستغلها أو يوجهها في غير الغاية التي تقصد إليها , و ذلك إلى أن كثير من العظماء ينقصه الكمال الإسلامي الذي يجب أن يتصف به المسلم العادي فضلا عن المسلم العظيم الذي يحمل اسم دعوة إسلامية لإرشاد الناس , و على هذا فقد ظل هذا الصنف بعيدا عن الإخوان اللهم إلا قليلا من الأكرمين الفضلاء , يفهم فكرتهم و يعطف على غايتهم و يشارك في أعمالهم و يتمنى لهم التوفيق و النجاح .
3 - البعد عن الهيئات و الأحزاب
وأما البعد عن الاتصال بالأحزاب و الهيئات فلما كان و لا يزال بين هذه الهيئات من التنافر و التناحر الذي لا يتفق مع أخوة الإسلام , و دعوة الإسلام عامة تجمع و لا تفرق و لا ينهض بها و لا يعمل لها إلا من تجرد من كل ألوانه و صار لله خالصا , و قد كان هذا المعنى من قبل عسيرا على النفوس الطامحة , التي تريد أن تصل عن طريق حزبيتها أو جماعتها إلى ما تريد من جاه و مال , لهذا آثرنا أن نتجنب الجميع و أن نصبر على الحرمان من كثير من العناصر الصالحة حتى ينكشف الغطاء , و يدرك الناس بعض الحقائق المستورة عنهم فيعودوا إلى الخطة المثلى بعد التجربة و قد امتلأت قلوبهم باليقين و الإيمان .
و نحن الآن وقد اشتد ساعد الدعوة و صلب عودها و أصبحت تستطيع أن توجه و لا توجه و أن تؤثر و لا تتأثر , نهيب بالكبراء و الأعيان و الهيئات و الأحزاب أن ينضموا إلينا , و أن يسلكوا سبيلنا و أن يعملوا معنا و أن يتركوا هذه المظاهر الفارغة التي لا غناء فيها , و يتوحدوا تحت لواء القرآن العظيم يستظلوا براية النبي الكريم و منهاج الإسلام القويم , فإن أجابوا فهو خيرهم و سعادتهم في الدنيا و الآخرة و تستطيع الدعوة بهم أن تختصر الوقت و الجهود , و إن أبوا فلا بأس علينا أن ننتظر قليلا و نلتمس المعونة من الله و حده حتى يحاط بهم أو يسقط في أيديهم و يضطرون إلى العمل للدعوة أذنابا و قد كانوا يستطيعون أن يكونوا رؤساء , ( وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21)
4 - التدرج في الخطوات
وأما التدرج والاعتماد على التربية ووضوح الخطوات في طريق الإخوان المسلمين، فذلك أنهم اعتقدوا أن كل دعوة لابد لها من مراحل ثلاث: مرحلة الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة وإيصالها إلى الجماهير من طبقات الشعب، ثم مرحلة التكوين وتخير الأنصار وإعداد الجنود وتعبئة الصفوف من بين هؤلاء المدعوين، ثم بعد ذلك كله مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج، وكثيراً ما تسير هذه المراحل الثلاث جنباً إلى جنب نظراً لوحدة الدعوة وقوة الارتباط بينها جميعاً، فالداعي يدعو، وهو في الوقت نفسه يتخير ويربي، وهو في الوقت عينه يعمل وينفذ كذلك .
ولكن لاشك في أن الغاية الأخيرة أو النتيجة الكاملة لا تظهر إلا بعد عموم الدعاية وكثرة الأنصار، ومتانة التكوين.
في حدود هذه المراحل سارت دعوتنا ولا تزال تسير، فقد بدأنا بالدعوة فوجهناها إلى الأمة في دروس متتالية وفي رحلات متلاحقة وفي مطبوعات كثيرة وفي حفلات عامة وخاصة، وفي جريدة الإخوان المسلمين الأولى ثم في مجلة النذير الأسبوعية، ولا زلنا ندعو، وسنظل كذلك، حتى لا يكون هناك فرد واحد لم تصله دعوة الإخوان المسلمين على حقيقتها الناصعة، وعلى وجهها الصحيح، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، وأظن أننا وصلنا في هذه المرحلة إلى درجة نطمئن عليها وعلى اطراد السير فيها، وصار من ألزم واجباتنا أن نخطو الخطوة الثانية، خطوة الاختيار والتكوين والتعبئة .
خطونا الخطوة الثانية في صور ثلاث:
1 ـ الكتائب: ويراد بها تقوية الصف بالتعارف، وتمازج النفوس والأرواح ومقاومة العادات والمألوفات، والمران على حسن الصلة بالله تبارك وتعالى، واستمداد النصر منه، وهذا هو معهد التربية الروحية للإخوان المسلمين.
2 ـ الفرق للكشافة والجوالة والألعاب الرياضية: ويراد بها تقوية الصف بتنمية جسوم الإخوان، وتعويدهم الطاعة والنظام والأخلاق الرياضية الفاضلة، وإعدادهم للجندية الصحيحة التي يفرضها الإسلام على كل مسلم، وهذا هو معهد التربية الجسمية للإخوان المسلمين.
3 ـ درس التعاليم في الكتائب أو في أندية الإخوان المسلمين: ويراد بها تقوية الصف بتنمية أفكار الإخوان وعقولهم بدراسة جامعة لأهم ما يلزم الأخ المسلم معرفته لدينه ودنياه، وهذا هو معهد التربية العلمية والفكرية للإخوان المسلمين، ذلك إلى مختلف نواحي النشاط الأخرى التي يدرب بها الإخوان على الواجب الذي ينتظرهم كجماعة تعد نفسها لقيادة أمة، بل لهداية العالمين.
بعد أن نطمئن على موقفنا من هذه الخطوة نخطو إن شاء الله الخطوة الثالثة، وهي الخطوة العملية التي تظهر بعدها الثمار الكاملة لدعوة الإخوان المسلمين .
مصارحة
أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم :
اسمعوها مني كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع : إن طريقكم هذا مرسومة خطواته موضوعة حدوده . ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول ، أجل قد تكون طريقاً طويلة ولكن ليس هناك غيرها .
إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة والجد والعمل الدائب ، فمن أراد منكم أن يستعجل ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك بحال ، وخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلي غيرها من الدعوات .
ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك علي الله ، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين : إما النصر والسيادة ، وإما الشهادة والسعادة .
أيها الإخوان المسلمون :
ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول ، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف ، وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع ، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة .
ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ، ولا تصادموا نواميس الكون فأنها غلابة ، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها علي بعض ، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد .
أيها الإخوان المسلمون
إنكم تبتغون وجه الله وتحصيل مثوبته ورضوانه ، وذلك مكفول لكم ما دمتم مخلصين . ولم يكلفكم الله نتائج الأعمال ولكن كلفكم صدق التوجه وحسن الاستعداد ، ونحن بعد ذلك إما مخطئون فلنا أجر العاملين المجتهدين ، وإما مصيبون فلنا أجر الفائزين المصيبين .
علي أن التجارب في الماضي والحاضر قد أثبتت أنه لا خير إلا طريقكم ، ولا إنتاج إلا مع خطتكم ، ولا صواب إلا فيما تعملون ، فلا تغامروا بجهودكم ولا تقامروا بشعار نجاحكم . واعملوا والله معكم ولن يتركم أعمالكم والفوز للعاملين (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (البقرة:143) .
متي تكون خطوتنا التنفيذية ؟
أيها الإخوان المسلمون :
نحن هنا في مؤتمر أعتبره مؤتمراً عائلياً يضم أسرة الإخوان المسلمين ، وأريد أن أكون معكم صريحاً للغاية فلم تعد تنفعنا إلا المصارحة : إن ميدان القول غير ميدان الخيال ، وميدان العمل غير ميدان القول ، وميدان الجهاد غير ميدان العمل ، وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ .
يسهل علي كثير ين أن يتخيلوا ، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يستطاع تصويره أقوالا باللسان ، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا ولكن قليلاً من هذا الكثير يثبت عند العمل ، وكثير من هذا القليل يستطيع أن يعمل ، ولكن قليلا منهم يقدر علي حمل أعباء الجهاد الشاق والعمل المضني .
وهؤلاء المجاهدون وهم الصفوة القلائل من الأنصار قد يخطئون الطريق ولا يصيبون الهدف إن لم تتداركهم عناية الله ، وفي قصة طالوت بيان لما أقول ، فأعدوا أنفسكم وأقبلوا عليها بالتربية الصحيحة والاختبار الدقيق وامتحنوها بالعمل ، العمل القوي البغيض لديها الشاق عليها ، وافطموها عن شهواتها ومألوفاتها وعاداتها .
وفي الوقت الذي يكون فيه منكم ـ معشر الإخوان المسلمين ـ ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها نفسيا روحياً بالإيمان والعقيدة ، وفكرياً بالعلم والثقافة ، وجسمياً بالتدريب والرياضة ، في هذا الوقت طالبوني بأن أخوض بكم لحج البحار ، وأقتحم بكم عنان السماء .
وأغزو بكم كل عنيد جبار ، فإني فاعل إن شاء الله ، وصدق رسول الله القائل: (ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة).
إني أقدر لذلك وقتاً ليس طويلاً بعد توفيق الله واستمداد معونته وتقديم إذنه ومشيئته ، وقد تستطيعون أنتم معشر نواب الإخوان ومندوبهم أن تقصروا هذا الآجل إذا بذلتم همتكم وضاعفتم جهودكم ، وقد تهملون فيخطئ هذا الحساب ، وتختلف النتائج المترتبة عليه ، فأشعروا أنفسكم العبء وألقوا الكتائب وكونوا الفرق ، وأقبلوا علي الدروس ، وسارعوا إلي التدريب وانشروا دعوتكم في الجهاد التي لم تصل إليها بعد ، ولا تضيعوا دقيقة بغير عمل .
وقد يظن من يسمع هذا أن الإخوان المسلمين قليل عددهم أو ضعيف مجهودهم ، ولست إلى هذا أقصد وليس هذا هو مفهوم كلامي ، فالإخوان المسلمون والحمد لله كثيرون ، وإن جماعة يمثلها في هذا الاجتماع آلاف من أعضائها كل منهم ينوب عن شعبة كاملة لأكثر من أن يستقل عددها أو ينسي مجهودها أو يغمط حقها ، ولكن أقصد إلى ما ذكرت أولا من أن رجل القول غير رجل العمل , و رجل العمل غير رجل الجهاد , و رجل الجهاد فقط غير رجل الجهاد المنتج الحكيم الذي يؤدي إلى أعظم الربح بأقل التضحيات .
5 - إيثار الناحية العملية
وأما إيثار الناحية العملية فقد أثارها في نفوس الإخوان و دعا إليها في منهاجهم أمور : منها ما جاء في الإسلام خاصا بهذه الناحية بالذات , و مخافة أن تشوب هذه الأعمال شوائب الرياء فيسرع إليها التلف و الفساد و الموازنة بين هذه النظرة و بين ما ورد في إذاعة الخير والأمر به والمسارعة إلى إعلانه ليتعدى نفسه , أمر دقيق قلما يتم إلا بتوفيق .
و منها نفور الإخوان الطبيعي من اعتماد الناس على الدعايات الكاذبة و التهريج الذي ليس من ورائه عمل , و ما أنتجه في هذه الأمة من أثر سيئ و تضليل كبير و فساد ملموس .
و منها ما كان يخشاه الإخوان من معاجلة الدعوة بخصومة حادة أو صداقة ضارة ينتج عن كليهما تعويق السير أو تعطيل عن الغاية .
كل هذه أمور و ضعها الإخوان في ميزانهم آثروا أن يسيروا في دعوتهم بجد و إسراع و إن لم يشعر بهم إلا من حولهم , و إن لم يؤثر ذلك إلا في محيطهم .
قليل من الناس من يعرف أن الداعية من دعاة الإخوان قد يخرج من عمله المصلحي في عصر الخميس , فإذا هو في العشاء بالمنيا يحاضر الناس , و إذا هو في صلاة الجمعة يخطب بمنفلوط , فإذا هو في العصر يحاضر بأسيوط , و بعد العشاء يحاضر بسوهاج , ثم يعود أدراجه هادئ النفس مطمئن القلب يحمد الله على ما وفقه إليه و لا يشعر به إلا الذين استمعوه .
هذا مجهود لو قام به غير الإخوان لملأ الدنيا صياحا و دعاية , و لكن الإخوان ـ لما قدمت ـ يؤثرون ألا يراهم الناس إلا عاملين , فمن أقنعه العمل فبها , و من لم يؤثر فيه العمل فلن يرشده القول .
قد يقضي الأخ شهرا أو شهرين بعيدا عن أهله و بيته و زوجه و ولده يدعو إلى الله , هو في الليل محاضر و في النهار مسافر , يوما بحزوى و يوما بالعقيق , فيلقي أكثر من ستين محاضرة من شرق القطر إلى غربه , و قد تضم الحفلات التي يحاضر فيها الآلاف من مختلف الطبقات , ثم هو بعد ذلك يوصي ألا يكون محل دعاية أو إعلان .
يعقد الإخوان معسكرا نموذجيا بالأسكندرية قرابة شهر فيكون معسكرا نموذجيا بحق , يجمع رياضة الفكر و الروح إلى رياضة البدن و الجسم , و تتمثل فيه بجلاء وضوح المعاني الرياضية و العسكرية الكاملة , و يدوم ذلك طول هذه الفترة , و يضم تحت خيامه المباركة مائة من الشباب التقي المؤمن , فلا يكون لذلك صداه في غير من حضروه من الإخوان المسلمين .
يعقد مؤتمر كمؤتمركم هذا و هو في الواقع أصدق برلمان لمصر إذ مثلت فيه مديرياتها و مراكزها و قراها و حواضرها من كل الطبقات أصدق تمثيل , و قد حضرتم جميعا لا يحملكم إلى ذلك إلا الرغبة الأكيدة في العمل المنتج , فنوجه إليكم الدعوة و يضمكم معشر الإخوان المسلمين هذا المكان المبارك .
يقوم الإخوان المسلمون بهذا و بغيره من ضروب الإصلاح التي تنتج أحسن الآثار ثم هم بذلك لا يتشدقون و لا يباهون , و لا يذكرون حتى الحقيقة فضلا عن المبالغة و الإغراق , و لو كان بعض هذا النشاط و بعض هذه الأعمال مما يوفق إليه غير الإخوان من الهيئات لملئوا الدنيا صراخا , و لأسمعوا من في المشرق و المغرب , و عجب فنحن في عصر الدعايات .
أيها الإخوان :
ذلك المعنى الذي تقصدون إليه معنى جميل حقا و خطة محمودة عند الله و عند الناس , فادرجوا عليها و لا بأس عليكم , و لكن لا حظوا أنكم الآن و قد أرغمتكم الدعوة على أن تتخطوا الحواجز الخاصة إلى ا لميادين الواسعة , و قد أظهرت الدعوة نفسها فأخذ الناس يتساءلون عنها و عنكم , و أخذ بعض الفضوليين يتطوع بتصويركم لغيركم و هو لا يدري قليلا و لا كثيرا من شؤونكم , فقد وجب عليكم أن تبينوا للناس غايتكم و وسيلتكم و حدود فكرتكم و منهاج أعمالكم , و أن تعلنوا هذه الأعمال على الناس لا للمباهاة بها و لكن للإرشاد إلى ما فيها من نفع للأمة و خير لأبنائها فاكتبوا إلى النذير و هي لسانكم , و اكتبوا إلى الصحف اليومية و أظنها لا تقف ي سبيلكم , و احرصوا على أن تكونوا صادقين لا تتجاوزون الحقيقة , و أن تكون دعايتكم في حدود الأدب الكامل و الخلق الفاضل و الحرص التام على جمع القلوب و تأليف الأرواح , و استشعروا كلما ظهرت دعوتكم أن الفضل في ذلك كله لله : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17) .
6 - إقبال الشباب على الدعوة
و أما إقبال الشباب على الدعوة , و نموها في كثير من الأوساط التي هي أخصب المنابت للدعوات التي هي أخصب المنابت للدعوات من الطبقات العاملة و الوسطى , فتوفيق كبير نحمد الله عليه , فقد أقبل الشباب من كل مكان على دعوة الإخوان يؤمن بها و يؤيدها و يناصرها , و يعاهد الله على النهوض بحقها و العمل في سبيلها .
تقدم ستة من شباب الجامعة منذ سنوات يهبون الله نفوسهم و جهودهم , و علم الله منهم ذلك فأيدهم و آزرهم , فإذا بالجامعة كلها من أنصار الإخوان المسلمين تحبهم و تحترمهم و تتمنى لهم النجاح , و إذا من الشباب الجامعي فئة كريمة مؤمنة تتفانى في الدعوة و تبشر بها في كل مكان .
قل مثل ذلك في الأزهر الشريف , و الأزهر بطبعه معقل الدعوة الإسلامية و موئل الإسلام , فليس غريبا عليه أن يعتبر دعوة الإخوان المسلمين دعوته و أن يعد غايتها غايته , و أن تمتلئ الصفوف الإخوانية و الأندية الإخوانية بشبابه الناهض و علمائه الفضلاء و مدرسيه و وعاظه , و أن يكون لهم جميعا أكبر الأثر في نشر الدعوة و تأييدها و المناداة بها في كل مكان , و لم يقتصر إقبال الشباب على طوائف الطلبة و الفضلاء و من إليهم , بل إن كثيرا من طبقات الشعب المؤمنة أقبل على الدعوة و كان خير معوان في مناصرتها , و إن كثيرا من الشباب كان ضالا فهداه الله و كان حائرا فأرشده الله , و كانت المعصية له عادة فوفقه الله إلى الطاعة , و كان لا يعرف له غاية من الحياة فوضحت أمامه الغاية , (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ) (النور:35) .
و إنا لنعتبر ذلك من علامات التوفيق و نلمس كل يوم تقدما جديدا في هذا الباب يدعونا إلى الأمل القوي و المثابرة و مضاعفة الجهود , (وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (آل عمران:126) .
7 - سرعة الانتشار في القرى و المدن
و أما سرعة انتشار الدعوة في القرى و المدن فقد قدمت لكم أن الدعوة نشأت في الإسماعيلية , و ترعرعت في جوها الصافي و درجت على رمالها الممتدة الجميلة , يغذيها و ينميها ما ترى ما ترى كل صباح و مساء من مظاهر الاحتلال الأجنبي و الاستئثار الأوربي بخير هذا البلد , فهذه قناة السويس علة الداء و أصل البلاء , و في الغرب المعسكر الإنجليزي بأدواته و معداته , و في المشرق المكتب العام لإدارة شركة القناة بأثاثه و رياسته و عظمته و مرتباته , و المصري غريب بين كل هذه الأجواء في بلده محروم و غيره ينعم بخير وطنه ذليل , و الأجنبي يعتز بما يغتصبه من موارد رزقه , كان هذا الشعور غذاء جميلا و مدادا طيبا لدعوة الإخوان فبسطت رواقها في منطقة القناة ثم تخطتها إلى البحر الصغير ثم إلى مديرية الدقهلية , تحتل قلوب المؤمنين بها بذرة صغيرة متواضعة , ثم لا تلبث أن تستولي على هذه القلوب و تستغرق شعورها و تفكيرها , و تصبح للرجل أمل الآمال و غاية الغايات فيدعو و يضحي و يبذل .
و خطت الدعوة إلى القاهرة باندماج جمعية الحضارة الإسلامية بدعاتها و أدواتها إلى الإخوان , إيمانا بفكرتهم و إيثارا للعمل مع الجماعة , و زهادة في الألقاب و الأسماء , و احتقارا لهذه الأنانية الفردية التي أفسدت علينا كل عمل , ثم تبع ذلك تكون مكتب الإرشاد العام بالقاهرة و إشرافه على شعب الجماعة الناشئة في الأقاليم و البلدان , و عمله الدائب على نشر الفكرة و إيصالها للبلدان التي لم تتصل بها بعد .
و دأب المكتب بعد ذلك يقتطع أعضاؤه من قوتهم و أوقاتهم و جهودهم ما يستعينون به على خدمة عقيدتهم في عفة الأسد , و في طهارة ماء الغمام , لا يمدون لأحد يدا و لا يسألون كبيرا و لا هيئة شيئا , و لا يأخذون من مال حكومة و لا يطلبون معونة أحد إلا الله , حتى انتشرت شعب الإخوان بسرعة فائقة في جميع نواحي القطر المصري من أسوان إلى الأسكندرية إلى رشيد إلى بورسعيد إلى السويس إلى طنطا , إلى الفيوم إلى بني سويف , إلى المنيا , إلى أسيوط , إلى جرجا , إلى قنا , و فيما بين ذلك من المراكز و القرى .
و لم تقف عند هذه الحدود المصرية بل تجاوزتها إلى القسم الجنوبي من الوطن الغالي , إلى السودان المفدى , ثم إلى بقية أجزاء الوطن الإسلامي العزيز : سوريا بأقسامها شرقا , و المغرب بأقسامه غربا , ثم إلى غير ذلك من بقية بلادنا الإسلامية المباركة .
كنا نوجه الدعوة و نعمل على انتشارها , أما الآن فقد صارت الدعوة تسبقنا إلى البلاد و القرى و تضطرنا إلى ملاحقتها و أداء حقوقها مهما كان في ذلك من عنت و من إرهاق , و المهم أن الصلة بين هذه الهيئات كلها ليس مجرد التشابه في الاسم أو الوحدة في المقصد العام , كلا بل إنها أقوى الصلات جميعا , إنها صلة الحب العميق و التعاون الوثيق ,و الارتباط القدسي المتين , و الالتفاف التام حول محور الدعوة و مركزها , و الوحدة و الشاملة في الألم و الأمل و الجهاد و العمل , و الوسائل و الغايات و المناهج و الخطوات , و ليس بعد ذلك زيادة لمستزيد .
و ليست هذه الهيئات في البلدان القرى مقتصرة في عملها على تنفيذ تعليمات المكتب الرئيسي لها بالقاهرة , بل إنها تجد و تعمل في مناحي الخدمة العامة فتبني أنديتها , و كثير منها قد بنى داره و أصبحت ملكا خالصا له خاصا به , و كثير منها كذلك قام بالكثير من المشروعات الخيرية و الاقتصادية و الاجتماعية , و جميعها دائمة النشاط جمة الإنتاج كما أن صلة المكتب بفروعه و هيئاته المختلفة ليست صلة الرئيس بالمرؤوس , و ليس صلة الإدارة البحتة و الإشراف العلمي فقط ,و لكنها صلة فوق ذلك كله : صلة الروح أولا , و صلة أفراد الأسرة الواحدة بعضهم ببعض , التزاور في الله , فدعاة الإخوان يزورن إخوانهم و يختلطون بهم و يعرفون أهم ما يتصل بحياتهم و شؤونهم الخاصة و العامة , و لم يتوفر ذك لهيئة من الهيئات القائمة فيما أعلم , وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
أيها الإخوان :
لا أكتمكم أني مزهو بهذه الوحدة الإخوانية الصادقة , فخور بهذا الارتباط الرباني القوي المتين , عظيم الأمل في المستقبل , ما دمتم كذلك أخوة في الله متحابين متعاونين , فاحرصوا على هذه الوحدة فإنها سلاحكم و عدتكم .
و عن كثيرا من الناس ليتساءل : و من أين يقوم الإخوان المسلمون بنفقات هذه الدعوة , و هي نفقات كثيرة تعجز الأغنياء فضلا عن الفقراء ؟ ألا فليعلم هؤلاء و ليعلم غيرهم أن الإخوان المسلمين لا يبخلون على دعوتهم يوما من الأيام بقوت أولادهم و عصارة دمائهم و ثمن ضرورياتهم , فضلا عن كمالياتهم و الفائض من نفقاتهم , و أنهم يوم أن حملوا هذا العبء عرفوا جيدا أنها دعوة لا ترضى بأقل من الدم و المال , فخرجوا عن ذلك كله لله و فقهوا معنى قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة:111) , فقبلوا البيع و قدموا البضاعة عن رضا و طيب نفس , معتقدين أن الفضل كله لله , فاستغنوا بما في أيديهم عما في أيدي الناس , و منحهم الله البركة في القليل فأنتج الكثير .
إلى الآن أيها الإخوان لم يمنح مكتب الإرشاد العام إعانة واحدة من حكومة أيا كانت , و ها هو يباهي و يفاخر و يتحدى الناس جميعا أن يقول أحدهم إن هذا المكتب قد دخل خزانته قرش واحد من غير جيوب أعضائه , و لسنا نريد إلا هذا ، ولن نقبل إلا من عضو أو من محب ، ولن نعتمد علي الحكومات في شيء ، ولا تجعلوا في ترتيبكم ولا منهاجكم ذلك ولا تنظروا إليه ولا تعملوا له ، (وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (النساء:32).
تلك أيها الإخوان بعض خصائص دعوتكم ، انتهزت هذه الفرصة لأتحدث إليكم عنها ، وأنتقل بعد ذلك إلى ناحية هامة من نواحي الدعوة قد يلتبس الأمر في موقف الإخوان منها علي كثير من الناس ، وربما خفي علي بعض الإخوان أنفسهم حتى نحدد معاً ونكشف معاً ما عسي أن يكون من إبهام .
منهاج الإخوان المسلمين
الغاية والوسيلة
أظنكم أيها الاخوة الفضلاء قد عرفتم من هذا الحديث الطويل غاية الإخوان ووسيلتهم ومهمتهم تماماً . إن غاية الإخوان تنحصر في تكوين جيل جديد من المؤمنين بتعاليم الإسلام الصحيح يعمل علي صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية الكاملة في كل مظاهر حياتها : صيغة الله ومن أحسن من الله صيغة وأن وسيلتهم في ذلك تنحصر في تغيير العرف العام وتربية أنصار الدعوة علي هذه التعاليم حتى يكونوا قدوة لغيرهم في التمسك بها والحرص عليها والنزول علي حكمها ؛ وأنهم ساروا إلى غايتهم في حدود وسيلتهم فوصلوا إلى درجة من النجاح يطمئنون إليها ويحمدون الله عليها ، و أظنني لست في حاجة إلي مزيد شرح أو بيان في هذه الناحية .
الإخوان والقوة والثورة
ويتساءل كثير من الناس : هل في عزم الإخوان المسلمين أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم والوصول إلى غايتهم ؟ وهل يفكر الإخوان المسلمين في إعداد ثورة عامة علي النظام السياسي أو النظام الاجتماعي في مصر ؟ .... ولا أريد أن أدع هؤلاء المتسائلين في حيرة ، بل إني أنتهز هذه الفرصة فأكشف اللثام عن الجواب السافر لهذا في وضوح وفي جلاء ، فليسمع من يشاء .
أما القوة فشعار الإسلام في كل نظمه و تشريعاته , فالقرآن الكريم ينادي في وضوح و جلاء: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) (لأنفال:60). و النبي يقول (المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف) , بل إن القوة شعار الإسلام حتى في الدعاء و هو مظهر الخشوع و المسكنة , واسمع ما كان يدعو به النبي في خاصة نفسه و يعلمه أصحابه و يناجي به ربه : (اللّهُمّ إِنّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الْهَمّ وَالْحَزَنِ، وَأَعوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأعوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ والْبُخْلِ وَأعوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدّيْنِ وَقَهْرِ الرّجَال) , ألا ترى في هذه الأدعية أنه قد استعاذ بالله من كل مظهر من مظاهر الضعف : ضعف الإرادة بالهم و الحزن , و ضعف الإنتاج بالعجز و الكسل , و ضعف الجيب و المال بالجبن و البخل , و ضعف العزة و الكرامة بالدين و القهر ؟ .. فماذا تريد من إنسان يتبع هذا الدين إلا أن يكون قويا في كل شيء , شعاره القوة في كل شيء ؟.. فالإخوان المسلمون لابد أن يكونوا أقوياء , و لابد أن يعملوا في قوة .
و لكن الإخوان المسلمين أعمق فكرا و أبعد نظرا من أن تستهويهم سطحية الأعمال و الفكر , فلا يغوصوا في أعماقها و لا يزنوا نتائجها و ما يقصد منها و ما يراد بها , فهم يعلمون أن أول درجة من درجات القوة قوة العقيدة و الإيمان , ثم يلي ذلك قوة الوحدة و الارتباط , ثم بعدهما قوة الساعد و السلاح , و لا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعا , و أنها إذا استخدمت قوة الساعد و السلاح و هي مفككة الأوصال مضطربة النظام أو ضعيفة العقيدة خامدة الإيمان فسيكون مصيرها الفناء و الهلاك .
هذه نظرة , و نظرة أخرى : هل أوصى الإسلام ـ و القوة شعاره ـ باستخدام القوة في كل الظروف و الأحوال ؟ أم حدد لذلك حدودا و اشترط شروطا و وجه القوة توجيها محدودا ؟ و نظرة ثالثة : هل تكون القوة أول علاج أم أن آخر الدواء الكي ؟ و هل من الواجب أن يوازن الإنسان بين نتائج استخدام القوة النافعة و نتائجها الضارة و ما يحيط بهذا الاستخدام من ظروف ؟ أم من واجبه أن يستخدم القوة و ليكن بعد ذلك ما يكون ؟ هذه نظرات يلقيها الإخوان المسلمون على أسلوب استخدام القوة قبل أن يقدموا عليه , و الثورة أعنف مظاهر القوة , فنظر الإخوان المسلمون إليها أدق و أعمق , و بخاصة في وطن كمصر جرب حظه من الثورات فلم يجن من ورائها إلا ما تعلمون .
و بعد كل هذه النظرات و التقديرات أقول لهؤلاء المتسائلين : إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها ، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة ، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون أولاً، وينتظرون بعد ذلك ثم يقدمون في كرامة وعزة ، ويحتملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضاء وارتياح.
وأما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها , ولا يعتمدون عليها ، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها ، وإن كانوا يصارحون كل حكومة في مصر بأن الحال إذا دامت علي هذا المنوال ولم يفكر أولو الأمر في إصلاح عاجل وعلاج سريع لهذا المشاكل ، فسيؤدي ذلك حتما إلي ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم ، ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال ، وإهمال مرافق الإصلاح , وليست هذه المشاكل التي تتعقد بمرور الزمن و يستفحل أمرها بمضي الأيام إلا نذيراً من هذه النذر ، فليسرع المنقذون بالأعمال .
الإخوان المسلمون والحكم
ويتساءل فريق آخر من الناس : هل في منهاج الإخوان المسلمين أن يكونوا حكومة وأن يطالبوا بالحكم ؟ وما وسيلتهم إلى ذلك ؟ ... ولا أدع هؤلاء المتسائلين أيضاً في حيرة ، ولا نبخل عليهم بالجواب .
فالإخوان المسلمون يسيرون في جميع خطواتهم وآمالهم وأعمالهم علي هدي الإسلام الحنيف كما فهموه ، وكما أبانوا عن فهمهم هذا في أول هذه الكلمة . وهذا الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنا من أركانه ، ويعتمد علي التنفيذ كما يعتمد علي الإرشاد ، وقديماً قال الخليفة الثالث رضي الله عنه : (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) . وقد جعل النبي صلي الله عليه وسلم الحكم عروة من عري الإسلام . والحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول ، لا من الفقهيات والفروع ، فالإسلام حكم وتنفيذ ، كما هو تشريع وتعليم ، كما هو قانون وقضاء ، لا ينفك واحد منها عن الآخر . والمصلح الإسلامي إن رضي لنفسه أن يكون فقيهاً مرشداً يقرر الأحكام ويرتل التعاليم ويسرد الفروع والأصول ، وترك أهل التنفيذ يشرعون للأمة ما لم يأذن به الله ويحملونها بقوة التنفيذ علي مخالفة أوامره ، فان النتيجة الطبيعية أن صوت هذا المصلح سيكون صرخة في واد ونفخة في رماد كما يقولون .
قد يكون مفهوما أن يقنع المصلحون الإسلاميون برتبة الوعظ و الإرشاد إذا وجدوا من أهل التنفيذ من أهل التنفيذ إصغاء لأوامر الله و تنفيذا لأحكامه و إيصالا لآياته و لأحاديث نبيه , و أما الحال كما نرى : التشريع الإسلامي في واد و التشريع الفعلي في واد آخر , فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف .
هذا كلام واضح لم نأت به من عند أنفسنا , و لكننا نقرر به أحكام الإسلام الحنيف وعلى هذا فالإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي قرآني فهم جنوده وأنصاره وأعوانه وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله .
وعلى هذا فالإخوان المسلمون أعقل و أحزم من أن يتقدموا لمهمة الحكم و نفوس الأمة على هذا الحال , فلابد من فترة تنتشر فيها مبادئ الإخوان و تسود , و يتعلم فيها الشعب كيف يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة .
و كلمة لابد أن نقولها في هذا الموقف : هي أن الإخوان المسلمين لم يروا في حكومة من الحكومات التي عاصروها ـ و لا الحكومة القائمة و لا الحكومة السابقة , و لا غيرهما من الحكومات الحزبية ـ ن ينهض بهذا العبء أو من يبدي الاستعداد الصحيح لمناصرة الفكرة الإسلامية , فلتعلم الأمة ذلك , و لتطالب حكامها بحقوقها الإسلامية , و ليعمل الإخوان المسلمون .
و كلمة ثانية : أنه ليس أعمق في الخطأ من ظن بعض الناس أن الإخوان المسلمين كانوا في أي عهد من عهود دعوتهم مطية لحكومة من الحكومات , أو منفذين لغاية غير غايتهم , أو عاملين على منهاج غير منهاجهم , فليعلم ذلك من لم يكن يعلمه من الإخوان و من غير الإخوان .
الإخوان المسلمون و الدستور
ويتساءل كذلك فريق من الناس ما موقف مجموعة الإخوان المسلمين من الدستور المصري ؟ و لاسيما بعد أن كتب الأخ صالح أفندي عشماوي رئيس تحرير مجلة النذير في هذا الموضوع , و تناولت كتابته صحيفة ( مصر الفتاة ) بالنقد و الموازنة ,و هذه فرصة طيبة لأتحدث إلى حضراتكم فيها عن رأي الإخوان المسلمين و موقفهم من الدستور المصري , وأحب قبل هذا أن نفرق دائما بين ( الدستور ) وهو نظام الحكم العام الذي ينظم حدود السلطات وواجبات الحاكمين ومدى صلتهم بالمحكومين , وبين ( القانون ) وهو الذي ينظم صلة الأفراد بعضهم ببعض ويحمى حقوقهم الأدبية والمادية ويحاسبهم على ما يأتون من أعمال . و أستطيع بعد هذا البيان أن أجلي لكم موقفنا من نظام الحكم الدستوري عامة , و من الدستور المصري خاصة :
الواقع أيها الإخوان : أن الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستوري التي تتلخص في المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها , وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأمة وعلى مسئولية الحكام أمام الشعب و محاسبتهم على ما يعملون من أعمال , وبيان حدود كل سلطة من السلطات هذه الأصول كلها يتجلى للباحث أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم .
ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظاماً آخر .
بقي بعد ذلك أمران :
أولهما النصوص التي تصاغ في قالبها هذه المبادئ ,
و ثانيهما طريقة التطبيق التي تفسر بها عمليا هذه النصوص ,
إن المبدأ السليم القويم قد يوضع في نص مبهم غامض فيدع مجالا للعبث و بسلامة المبدأ في ذاته , و إن النص الظاهر الواضح للمبدأ السليم القويم قد يطبق و ينفذ بطريقة يمليها الهوى و توحيها الشهوات , فيذهب هذا التطبيق بكل ما يرجى من فائدة .
و إذا تقرر هذا فإن من نصوص من الدستور المصري ما يراه الإخوان المسلمون غامضا مبهما يدع مجالا واسعا للتأويل و التفسير الذي تمليه الغايات و الأهواء , فهي في حاجة إلى وضوح و إلى تحديد و بيان ... هذه واحدة , و الثانية : هي أن طريقة التنفيذ التي يطبق بها الدستور , و يتوصل بها إلى جني ثمرات الحكم الدستوري في مصر , طريقة أثبتت التجارب فشلها و جنت الأمة منها الأضرار لا المنافع , فهي في حاجة شديدة إلى تحوير و إلى تعديل يحقق المقصود و يفي بالغاية .
و حسبنا أن نشير هنا إلى قانون الانتخاب , و هو وسيلة اختيار النواب الذين يمثلون الأمة و يقومون بتنفيذ دستورها و حمايته , و ما جره هذا القانون على الأمة من خصومات و حزازات , و ما أنتجه يشهد به الواقع الملموس , و لابد أن تكون فينا الشجاعة الكافية لمواجهة الأخطاء و العمل على تعديلها . لهذا يعمل الإخوان المسلمون جهدهم حتى تحدد النصوص المبهمة في الدستور المصري , و تعدل الطريقة التي ينفذ بها هذا الدستور في البلاد , و أظن أن موقف الإخوان قد وضح بهذا البيان , و ردت الأمور إلى نصابها الصحيح .
إن الأخ صالح أفندي عشماوي قد أراد أن يعبر في مقاله الأول عن وجهة النقد التي يراها الإخوان فاحتد و اشتد , و لما نبهناه إلى أن هذا ليس موقفنا في الواقع , فنحن نسلم بالمبادئ الأساسية للحكم الدستوري باعتبارها متفقة بل مستمدة من نظام الإسلام , و إنما ننقد الإبهام و طرائق الإنفاذ , أراد أن يعبر عن ذلك و يقر الأمر في وضعه الطبيعي بالنسبة للإخوان فتساهل و لان , و هو في كلا الموقفين مأجور , فالخير أراد , و نية المرء خير من عمله , و نحن نشكر الذين أخذوا على الأخ صالح أفندي هذا الموقف , و لا يضره فيما أعتقد أن يستفيد من هذا التنبيه فيؤثر الاعتدال في كل حال , و أعتقد أنه لا مجال لقول بعد هذا البيان , أما الأمثلة التفصيلية و الأدلة الوافية و وصف طرائق العلاج و الإصلاح ففي رسالة خاصة إن شاء الله .
الإخوان المسلمون و القانون
قدمت أن الدستور شيء و القانون شيء آخر , و قد أبنت موقف الإخوان من الدستور , و أبين لحضراتكم الآن موقفهم من القانون .
إن الإسلام لم يجئ خلواً من القوانين، بل هو قد أوضح كثيراً من أصول التشريع وجزئيات الأحكام، سواء أكانت مادية أم جنائية، تجارية أم دولية ، والقرآن والأحاديث فياضة بهذه المعاني، وكتب الفقهاء غنية كل الغنى بكل هذه النواحي، وقد اعترف الأجانب أنفسهم بهذه الحقيقة، وأقرها مؤتمر لاهاي الدولي أمام ممثلي الأمم من رجال القانون في العالم كله .
فمن غير المفهوم ولا المعقول أن يكون القانون في أمة إسلامية متناقضًا مع تعاليم دينها وأحكام قرآنها وسنة نبيها، مصطدماً كل الاصطدام بما جاء عن الله ورسوله، وقد حذر الله نبيه ص من ذلك من قبل، فقال تبارك وتعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ , أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:49-50) , ذلك بعد قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ـُ الظَّالِمُونَ ـ الْفَاسِقُونَ) (المائدة:44 , 45 , 47) ، فكيف يكون موقف المسلم الذي يؤمن بالله وكلماته إذا سمع هذه الآيات البينات وغيرها من الأحاديث والأحكام، ثم رأى نفسه محكوماً بقانون يصطدم معها؟ فإذا طالب بالتعديل قيل له: إن الأجانب لا يرضون بهذا ولا يوافقون عليه ، ثم يقال بعد هذا الحجر والتضييق : إن المصريين مستقلون وهم لم يملكوا بعد أن يتمتعوا بحرية الدين، وهي أقدس الحريات .
على أن هذه القوانين الوضعية كما تصطدم بالدين ونصوصه تصطدم بالدستور الوضعي نفسه الذي يقرر أن دين الدولة هو الإسلام , فكيف نوافق بين هذين يا أولى الألباب ؟ وإذا كان الله ورسوله قد حرم الزنا وحظر الربا ومنع الخمور وحارب الميسر وجاء القانون يحمى الزانية و الزاني ويلزم بالربا ويبيح الخمر وينظم القمار فكيف يكون موقف المسلم بينهما ؟ أيطيع الله ورسوله ويعصى الحكومة وقانونها والله خير وأبقى ؟ أم يعصى الله ورسوله ويطيع الحكومة فيشقى في الآخرة والأولى ؟ نريد الجواب على هذا من رفعة رئيس الحكومة و معالي وزير العدل و من علمائنا الفضلاء الأجلاء .
أما الإخوان المسلمون فهم لا يوافقون على هذا القانون أبدا ولا يرضونه بحال وسيعملون بكل سبيل على أن يحل مكانه التشريع الإسلامي العادل الفاضل في نواحي القانون ولسنا هنا في مقام الرد على ما قيل في هذه الناحية من شبهات أو ما يعترض سبيلها من توهم العقبات ولكننا في مقام بيان موقفنا الذي عملنا وسنعمل عليه متخطين في سبيله كل عقبة موضحين كل شبهة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله . و لقد تقدم الإخوان المسلمون إلى معالي وزير العدل بمذكرة إضافية في هذا الموضوع , و لقد حذروا الحكومة في نهايتها من إحراج الناس هذا الإحراج , فالعقيدة أثمن ما في الوجود , و سوف يعاودون الكرّة , و سوف لا يكون ذلك آخر مجهودهم (وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(التوبة:32) الإخوان والقومية والعروبة والإسلام
كثيرا ما تتوزع أفكار الناس في هذه النواحي الثلاثة : الوحدة القومية والوحدة العربية والوحدة الإسلامية وقد يضيفون إلى ذلك الوحدة الشرقية ثم تنطلق الألسنة والأفكار بالموازنة بينها وإمكان تحققها أو صعوبة ذلك الإمكان ، ومبلغ الفائدة أو الضر منها و التشجيع لبعضها دون البعض الآخر . فما موقف الإخوان المسلمين من هذا الخليط ومن الأفكار والمناحي ؟ ولا سيما وكثير من الناس يغمزون الإخوان المسلمين في وطنيتهم ويعتبرون تمسكهم بالأفكار الإسلامية مناعة إياهم من الإخلاص للناحية الوطنية .
والجواب عن هذا أننا لن نحيد عن القاعدة التي وضعناها أساسا لفكرتنا وهى السير على هدى الإسلام وضوء تعاليمه السامية . فما موقف الإسلام نفسه من هذه النواحي ؟ إن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة لا مناص منها وأن يعمل كل إنسان لخير بلده وأن يتفانى في خدمته , و أن يقدم أكثر ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها وأن يقدم في ذلك الأقرب فالأقرب رحما وجوارا حتى أنه لا يجز أن تنقل الزكوات أبعد من مسافة القصر – إلا لضرورة – إيثارا للأقربين بالمعروف فكل مسلم مفروض عليه أن يسد الثغرة التي هي عليها وأن يخدم الوطن الذي نشأ فيه ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية لأن ذلك مفروض عليه من رب العالمين وكان الإخوان المسلمون بالتالي أشد الناس حرصا على خير وطنهم وتفانيا في خدمة قومهم , وهم يتمنون لهذه البلاد العزيزة المجيدة كل عزة ومجد وكل تقدم ورقى , وكل فلاح ونجاح , و قد انتهت إليها رياسة الأمم الإسلامية بحكم ظروف كثيرة تضافرت على هذا الوضع الكريم , و إن حب المدينة لم يمنع رسول الله أن يحن إلى مكة و أن يقول لأصيل , و قد أخذ يصفها (يا أصيل دع القلوب تقر) و أن يجهل بلالا يهتف في قرارة نفسه :
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليـل وهل أردن يوما ميـاه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
فالإخوان المسلمون يحبون وطنهم , ويحرصون على وحدته القومية بهذا الاعتبار لا يجدون غضاضة على أي إنسان يخلص لبلده , وأن يفنى في سبيل قومه وأن يتمنى لوطنه كل مجد وكل عزة وفخار , هذا من وجهة القومية الخاصة .
ثم إن الإسلام الحنيف نشأ عربيا و وصل إلى الأمم عن طريق العرب , و جاء كتابه بلسان عربي مبين , و توحدت الأمم باسمه على هذا اللسان يوم كان المسلمون مسلمين , و قد جاء في الأثر : إذا ذل العرب ذل الإسلام , و قد تحقق هذا المعنى حين دال سلطان العرب السياسي و انتقل المر من أيديهم إلى غيرهم من الأعاجم و الديلم و من إليهم , فالعرب هم عصبة الإسلام و حراسه .
وأحب هنا أن ننوه إلى أن الإخوان المسلمين يعتبرون العروبة , كما عرفها النبي , فيما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه : (ألا إن العربية اللسان , ألا إن العربية السان) .
ومن هنا كانت وحدة العرب أمرا لابد منه لإعادة الإسلام وإقامة دولته وإعزاز سلطانه , ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا موقف مجموعة البحث من الوحدة العربية .
بقي علينا أن نحدد موقفنا من الوحدة الإسلامية , و الحق أن الإسلام كما هو عقيدة وأنه قضى على الفوارق النسبية بين الناس فالله تبارك وتعالى يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10) , والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم) والمسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على سواهم .
فالإسلام والحالة هذه لا يعترف بالحدود الجغرافية ولا يعتبر الفروق الجنسية والدموية , ويعتبر المسلمين جميعا أمة واحدة , ويعتبر الوطن الإسلامي وطنا واحدا مهما تباعدت أقطاره وتناءت حدوده . وكذلك الإخوان المسلمون يقدسون هذه الوحدة ويؤمنون بهذه الجامعة , ويعملون لجمع كلمة المسلمين وإعزاز أخوان الإسلام وينادون بأن وطنهم هو كل شبر أرض فيه مسلم يقول (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وما أروع ما قال في هذا المعنى شاعر من شعراء الإخوان :
ولست أدرى سوى الإسلام لي وطنا الشام فيها و وادي النيل سيان وكلمـــا ذكر اسم الله فى بلــد عددت أرجاءه من لب أوطـاني
يقول بعض الناس : إن ذلك يناقض تيار الفكرة السائدة في العالم فكرة التعصب للأجناس و الألوان , و العالم الآن تجربة موجة القوميات الجنسية , فكيف تقفون أمام هذا التيار , و كيف تخرجون على ما اتفق عليه الناس ؟ و جواب ذلك أن الناس يخطئون و أن نتائج خطئهم في ذلك ظاهرة ملموسة في إقلاق راحة الأمم و تعذيب ضمائر الشعوب مما لا يحتاج إلى برهان , و ليست مهمة الطبيب أن يجاري المرضى و لكن أن يعالجهم و أن يهديهم سواء السبيل , و تلك مهمة الإسلام و من وصل دعوته بالإسلام .
و يقول آخرون : إن ذلك غير ممكن و العمل له عبث لا طائل من تحته و مجهود لا فائدة منه , و خير للذين يعملون لهذه الجامعة أن يعملوا لأقوامهم يخدموا أوطانهم الخاصة بجهودهم .
و الجواب على هذا أن هذه لغة الضعف و الاستكانة , فقد كانت هذه الأمم مفرقة من قبل متخالفة في كل شيء : الدين و اللغة , و المشاعر و الآمال و الآلام , فوحدها الإسلام و جمع قلوبها على كلمة سواء , و مازال الإسلام كما هو بحدوده و رسومه , فإذا وجد من أبنائه من ينهض بعبء الدعوة إليه و تجديده في نفوس المسلمين , فإنه يجمع هذه الأمم جميعا من جديد كما جمعها من قديم , و الإعادة أهون من الابتداء , و التجربة أصدق دليل على الإمكان .
يهتف بعض الناس بعد هذا بالوحدة الشرقية , و أظن أنه لم يثر هذه النعرة في نفوس الهاتفين بها إلا تعصب الغربيين لغربهم و سوء عقيدتهم في الشرق و أبنائه , و هم في ذلك مخطئون , و إذا استمر الغربيون على عقيدتهم هذه فستجر عليهم الوبال و النكال , و الإخوان المسلمون لا ينظرون إلى هذه الوحدة الشرقية إلا من خلال هذه العاطفة فقط , و الشرق و الغرب عندهم سيان إذا استوى موقفهما من الإسلام , و هم لا يزنون الناس إلا بهذا الميزان .
وضح إذا أن الإخوان المسلمين يحترمون قوميتهم الخاصة باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود , و لا يرون بأسا بأن يعمل كل إنسان لوطنه , و أن يقدمه للوطن على سواه , ثم هم بعد ذلك يؤيدون الوحدة العربية باعتبارها الحلقة الثانية في النهوض , ثم هم يعملون للجامعة الإسلامية باعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامي العام , ولى أن أقول بعد هذا : إن الإخوان يريدون الخير للعالم كله , فهم ينادون بالوحدة العالمية لأن هذا هو مرمى الإسلام وهدفه ومعنى قول الله تبارك وتعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107) .
و أنا في غنى بعد هذا البيان أن أقول أنه لا تعارض بين هذه الوحدات بهذا الاعتبار , و بان كل منهما يشد أزر الأخرى يحقق الغاية منها , فإذا أراد أقوام أن يتخذوا من المناداة بالقومية الخاصة سلاحا يميت الشعور بما عداها , فالإخوان المسلمون ليسوا معهم و لعل هذا هو الفارق بيننا و بين كثير من الناس .
الإخوان المسلمون و الخلافة
و لعل من تمام هذا البحث أن أعرض لموقف الإخوان المسلمين من الخلافة و ما يتصل بها , و بيان ذلك أن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية , و مظهر الارتباط بين أمم الإسلام , و إنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكر في أمرها و الاهتمام بشأنها , و الخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله , و لهذا قدم الصحابة رضوان الله عليهم النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي و دفنه , حتى فرغوا إلى تلك المهمة و اطمأنوا إلى إنجازها .
و الأحاديث التي وردت في وجوب نصب الإمام , و بيان أحكام الإمامة و تفصيل ما يتعلق بها , لا تدع مجالا للشك في أن من واجب المسلمين أن يهتموا بالتفكير في أمر خلافتهم منذ حورت عن منهاجها ثم ألغيت بتاتا إلى الآن .
والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم ، و هم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لابد منها , و أن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لابد أن تسبقها خطوات :
لا بد من تعاون تام ثقافي و اجتماعي و اقتصادي بين الشعوب الإسلامية كلها ، يلي ذلك تكوين الأحلاف والمعاهدات ، وعقد المجامع والمؤتمرات بين هذه البلاد ،و إن المؤتمر البرلماني الإسلامي لقضية فلسطين و دعوة وفود الممالك الإسلامية إلى لندن للمناداة بحقوق العرب في الأرض المباركة لظاهرتان طيبتان و خطوتان واسعتان في هذا السبيل , ثم يلي ذلك تكوين عصبة الأمم الإسلامية , حتى إذا تم ذلك للمسلمين نتج عنه الاجتماع على (الإمام) الذي هو واسطة العقد ، ومجتمع الشمل ، ومهوى الأفئدة ، وظل الله في الأرض .
الإخوان والهيئات المختلفة
الإخوان المسلمون و الهيئات الإسلامية
و الآن و قد أفصحت عن رأي الإخوان و موقفهم في كثير من المسائل العامة التي تشغل أذهان الأمة في هذه الأوقات , أحب كذلك أن أفصح لحضراتكم عن موقف الإخوان المسلمين من الهيئات الإسلامية في مصر , ذلك أن كثيرا من محبي الخير يتمنون أن تجتمع هذه الهيئات و تتوحد في جمعية إسلامية ترمي عن قوس واحدة , ذلك أمل كبير و أمنية عزيزة يتمناها كل محب للإصلاح في هذا البلد .
والإخوان المسلمون يرون في الهيئات الإسلامية على اختلاف ميادينها تعمل لنصرة الإسلام ، ويتمنون لها جميعا النجاح ، و لم يفتهم أن يجعلوا من منهاجهم التقرب منها والعمل على جمعها و توحيدها حول الفكرة العامة ،و قد تقرر هذا في المؤتمر الدوري الرابع للإخوان بالمنصورة و أسيوط في العام الفائت , و أبشركم بأن مكتب الإرشاد حين أخذ يعمل على تنفيذ هذا القرار , وجد روحا طيبة من كل الهيئات التي اتصل بها و تحدث إليها , مما يبشر بنجاح المسعى مع الزمن إن شاء الله .
الإخوان و الشبان
كثيرا ما يتردد سؤال على أذهان الناس : ما الفرق بين جماعة الإخوان المسلمين و جماعة الشبان ؟ و لماذا لا تكونان هيئة واحدة تعملان على منهاج واحد ؟ و أحب قبل الجواب أن أؤكد للذين يسرهم وحدة الجهود و تعاون العاملين أن الإخوان و الشبان و بخاصة هنا في القاهرة , لا يشعرون بأنهم في ميدان مناقشة و لكن في ميدان تعاون قوي وثيق , و أن كثيرا من القضايا الإسلامية العامة يظهر فيها الإخوان و الشبان شيئا واحدا و جماعة واحدة , إذ أن الغاية العامة مشتركة و هي العمل لما فيه إعزاز الإسلام وإسعاد المسلمين , و إنما تقع فروق يسيرة في أسلوب الدعوة و في خطة القائمين بها و توجيه جهودهم في كلتا الجماعتين , و إن الوقت الذي ستظهر فيه الجماعات الإسلامية كلها جبهة موحدة غير بعيد على ما أعتقد , الزمن كفيل بتحقيق ذلك إن شاء الله .
الإخوان المسلمون و الأحزاب
والإخوان المسلمون يعتقدون أن الأحزاب السياسية المصرية جميعا قد وجدت في ظروف خاصة , و لدواع أكثرها شخصي لا مصلحي , و شرح ذلك تعلمونه حضراتكم جميعا .
و يعتقدون كذلك أن هذه الأحزاب لم تحدد برامجها و مناهجها إلى الآن , فكل منها سيدعي أنه يعمل لمصلحة الأمة في كل نواحي الإصلاح , و لكن ما تفاصيل هذه الأعمال , و ما وسائل تحقيقها ؟ و ما الذي أعد من هذه الوسائل , و ما العقبات التي ينتظر أن تقف في سبيل التنفيذ , و ما أعد لتذليلها ؟ كل ذلك لا جواب له عند رؤساء الأحزاب و إدارات الأحزاب , فهم قد اتفقوا في هذا الفراغ , كما اتفقوا في أمر آخر هو التهالك على الحكم وتسخير كل دعاية حزبية وكل وسيلة شريفة وغير شريفة في سبيل الوصول إليه , و تجريح كل من يحول من الخصوم الحزبيين دون الحصول عليه .
ويعتقد الإخوان كذلك أن هذه الحزبية قد أفسدت على الناس كل مرافق حياتهم وعطلت مصالحهم , وأتلفت أخلاقهم , ومزقت روابطهم , وكان لها في حياتهم العامة والخاصة أسوأ الأثر .
ويعتقدون كذلك أن النظام النيابي , بل حتى البرلماني , في غنى عن نظام الأحزاب بصورتها الحاضرة في مصر , و إلا لما قامت الحكومات الائتلافية في البلاد الديمقراطية فالحجة القائلة بأن النظام البرلماني لا يتصور إلا بوجود الأحزاب حجة واهية وكثير من البلاد الدستورية البرلمانية تسير على نظام الحزب الواحد وذلك في الإمكان .
كما يعتقد الإخوان أن هناك فارقاً بين حرية الرأي والتفكير والإبانة والإفصاح والشورى والنصيحة ، وهو يوجبه الإسلام ، و بين التعصب للرأي و الخروج على الجماعة والعمل الدائب على توسيع هوة الانقسام في الأمة وزعزعة سلطان الحكام ، و هو ما تستلزمه الحزبية و يأباه الإسلام و يحرمه أشد التحريم ، و الإسلام في كل تشريعاته إنما يدعو إلى الوحدة و التعاون .
هذا مجمل نظرة الإخوان إلى قضية الحزبية و الأحزاب في مصر , و هم لهذا قد طلبوا إلى رؤساء الأحزاب , منذ عام تقريبا أن يطرحوا هذه الخصومة جانبا و ينضم بعضهم إلى بعض , كما اقترحوا التوسط في هذه القضية على صاحب السمو الأمير عمر طوسون .. كما طلبوا من جلالة الملك حل هذه الأحزاب القائمة حتى تندمج جميعا في هيئة شعبية واحدة تعمل لصالح الأمة على قواعد الإسلام .
و إذا كانت الظروف لم تساعد في الماضي على تحقيق هذه الفكرة , فإننا نعتقد أن هذا العام كان دليلا على صدق نظرة الإخوان , و كان مقنعا لمن كان في شك بأنه لا خير في بقاء هذه الأحزاب , و سيواصل الإخوان جهودهم في هذا السبيل , و سيصلون إلى ما يريدون بتوفيق الله و فضل يقظة الأمة , و بتوالي فشل رجال الأحزاب في ميادينها سيتحقق قطعا ناموس الله : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (الرعد:17) .
يظن بعد رجال الأحزاب أننا إنما نقصد بهذه التعاليم هدم حزبهم خدمة لغيره من الأحزاب و جريا وراء منفعة خاصة , و ليس أدل على خطأ هذه النظرة من أن هذا الوهم قد سرى إلى نفوس الأحزاب جميعا , فكثير من رجال الوفد من يتهم الإخوان المسلمين بأنهم يعملون لمحاربته و بأنه وحده هو المقصود بهذه النعوت و الأوصاف , و بأن الإخوان إنما يحملون الناس على محاربته و الانفضاض عنه , و بأنهم إنما يقصدون بذلك خدمة الحكومة و تقوية الأحزاب الممثلة فيها , و في الوقت الذي نسمع فيه هذه التهمة بعينها من أحزاب الحكومة أيضا ! فهل هناك دليل أصدق من هذا على أن الإخوان يقفون من الجميع موقفا واحدا , و يصدرون فيه عن عقيدتهم , و يعملون فيه بوحي من ضمائرهم و إيمانهم ؟ أحب أن أقول لإخواننا من دعاة الأحزاب و رجالها : إن اليوم الذي يستخدم فيه الإخوان المسلمون لغير فكرتهم الإسلامية البحتة لم يجئ و لن يجئ أبدا , و إن الإخوان لا يضمرون لحزب من الأحزاب أيا كان خصومة خاصة به , و لكنهم يعتقدون أن من قرارة نفوسهم أن مصر لا يصلحها و لا ينقذها إلا أن تنحل هذه الأحزاب كلها , و تتألف هيئة وطنية عاملة تقود الأمة إلى الفوز وفق تعاليم القرآن الكريم .
و بهذه المناسبة أقول إن الإخوان المسلمين يعتقدون عقم فكرة الائتلاف بين الأحزاب , يعتقدون أنها مسكن لا علاج , و سرعان ما ينقض المؤتلفون بعضهم على بعض , فتعود الحرب بينهم جذعة على أشد ما كانت عليه قبل الائتلاف , و العلاج الحاسم الناجح أن تزول هذه الأحزاب مشكورة فقد أدت مهمتها وانتهت الظروف التي أوجدتها و لكل زمان دولة و رجال كما يقولون .
الإخوان و مصر الفتاة
بهذه المناسبة لابد لي أن أعرض لموقف الإخوان المسلمين من جماعة مصر الفتاة , لقد تكونت هذه جماعة الإخوان منذ عشر سنين و تكونت جماعة مصر الفتاة منذ خمس سنين , فجمعية الإخوان تكبر جمعية مصر الفتاة بضعف عمرها تماما , و مع هذا أيضا شاع في كثير من الأوساط أن جماعة الإخوان من شعب مصر الفتاة , و سبب ذلك أن مصر الفتاة اعتمدت على الدعاية و الإعلان في الوقت الذي آثر فيه الإخوان العمل و الإنتاج , و ما علينا من ذلك كله فسواء أكان الإخوان هم الذين رسموا لمصر الفتاة طريق الجهاد و العمل للإسلام أم أن مصر الفتاة هي التي أظهرت الإخوان و أبرزتهم للناس , و هم قد ولدوا قبلها و سبقوها إلى الجهاد و الميدان بخمس سنوات أي بمثل عمرها , و ذلك أمر نظري لا يقيم له الإخوان وزنا , و لكن الذي أنبه أريد أن إليه في هذه الكلمة أن الإخوان المسلمين لم يكونوا يوما من الأيام في صفوف مصر الفتاة و لا عاملين لها , و لا أقصد بذلك أن أنال منها أو من القائمين بدعوتها و لكن أقول تقريرا للواقع , و أن جريدة مصر الفتاة هاجمت الإخوان و اتهمتهم تهما غير صحيحة و زعمت أنهم يعتدون عليها و يتهمونها و ذلك غير صحيح أيضا , و نحن معشر الإخوان لم نعقب على ما كتب أهمية , و لا نحب أن نؤاخذ بشيء منه , و أرجو أن يكون ذلك هو شعور الإخوان جميعا .
و أن كثيرا من الناس يود لو اتحدت جماعة مصر الفتاة مع الإخوان المسلمين , و هذا شعور ما من شك في أنه جميل نبيل فليس أجمل من الوحدة و التعاون على الخير , و لكن من الأمور ما ليس يفصل فيه إلا الزمن وحده , في مصر الفتاة من لا يرى الإخوان إلا جماعة وعظية و ينكر عليهم كل ما سوى ذلك من منهاجهم , و في الإخوان من يعتقد أن مصر الفتاة لم ينضج في نفوس كثيرا من أعضائها بعد المعنى الإسلامي الصحيح نضجا يؤهلهم للمناداة بالدعوة الإسلامية خالصة سليمة , فلنترك للزمن أداء مهمته و إصدار حكمه و هو خير كفيل بالصقل و التميز .
و ليس معنى هذا أن الإخوان سيحاربون مصر الفتاة بل إنه ليسرنا أن يوفق كل عامل للخير و إلى الخير , و لا يحب الإخوان أن يخلطوا البناء بهدم , و في ميدان الجهاد متسع للجميع . ذلك موقفنا من مصر الفتاة مادامت قد أعلنت أنها ليست حزبا سياسيا , و أنها تعمل و ستظل تعمل للفكرة الإسلامية و لمبادئ الإسلام , و في ذلك الواقع انتصار جديد لمبادئ الإخوان المسلمين . بقي أمر أخير ذلك هو موقف الإخوان من مصر الفتاة في قضية تحطيم الحانات , و معلوم أنه ما من غيور في مصر يتمنى أن يرى فوق أرضها حانة واحدة , و قد ألقى الإخوان تبعة هذا التحطيم على الحكومة قبل الذين فعلوه , لأنها هي التي أحرجت شعبها المسلم هذا الإحراج و لم تفطن إلى ذلك التغيير النفساني , و الاتجاه الجديد القوي الذي طرأ عليه من تقديس الإسلام و الاعتزاز بتعاليمه , و قديما قيل : (قبل أن تأمر الباكي بالكف عن البكاء , تأمر الضارب بالكف أن يرفع العصا) , و نحن نعتقد أن هذا التحدي لم يحن وقته بعد , و لابد من تخير الظروف المناسبة أو استخدام منتهى الحكمة فيه , و إنفاذه بصور أخف ضررا و أبلغ في الدلالة على المقصد , كلفت نظر الحكومة إلى واجبها الإسلامي , و بالرغم من أن المقبوض عليهم لم يعترفوا , فقد وجه الإخوان إلى معالي وزير العدل , يلفتون نظر معاليه فيه إلى وجوب النظر في هذه القضية نظرة خاصة تتناسب مع الدافع الشريف فيها , و أن يسرع بإصدار تشريع يحمي البلاد من هذه المهالك الخلقية .
موقف الإخوان من الدول الأوربية
بعد هذا البيان عن موقف الإخوان المسلمين , الذي يمليه عليهم الإسلام , في أهم القضايا الداخلية , يحسن أن أتحدث إلى حضراتكم عن موقفهم من الدول الأوربية : الإسلام كما قدمت يعتبر المسلمين أمة واحدة تجمعها العقيدة و يشارك بعضها بعضا في الآمال و الآلام , و أي عدوان يقع على واحدة منها أو على فرد من المسلمين فهو واقع عليهم جميعا . أضحكني و أبكاني حكم فقهي رأيته عرضا في كتاب (الشرح الصغير على أقرب المسالك) قال مؤلفه : (مسألة امرأة مسلمة سبيت بالمشرق وجب على أهل المغرب تخليصها و افتداؤها و لو أتي ذلك على جميع أموال المسلمين) , و رأيت مثله قبل ذلك في كتاب ( البحر في مذهب الأحناف ) , رأيت هذا فضحكت و بكيت و قلت لنفسي : أين عيون هؤلاء الكاتبين لتنظر المسلمين جميعا في أسر غيرهم من أهل الكفر و العدوان ؟؟ أريد أن استخلص من هذا أن الوطن الإسلامي واحد لا يتجزأ , و أن العدوان على جزء من أجزائه عدوان عليه كله , هذه واحدة , و الثانية أن الإسلام فرض على المسلمين أن يكونوا أئمة في ديارهم , سادة في أوطانهم , بل ليس ذلك فحسب , بل إن عليهم أن يحملوا غيرهم على الدخول في دعوتهم و الاهتداء بأنوار الإسلام التي اهتدوا بها من قبل .
و من هنا يعتقد الإخوان المسلمين أن كل أمة اعتدت و تعتدي على أوطان الإسلام دولة ظالمة لابد أن تكف عن عدوانها و لابد من أن يعد المسلمون أنفسهم و يعملوا متساندين على التخلص من نيرها .
إن إنجلترا لا تزال تضايق مصر رغم محالفتها إياها , و لا فائدة في أن نقول إن المعاهدة نافعة أو ضارة أو ينبغي تعديلها أو يجب إنفاذها فهذا كلام لا طائل تحته و المعاهدة غل في عنق مصر و قيد في يدها ما في ذلك شك , و هل تستطيع أن تستطيع أن تتخلص من هذا القيد إلا بالعمل و حسن الاستعداد ؟ فلسان القوة هو أبلغ لسان , فلتعمل على ذلك و لتكتسب الوقت إن أرادت الحرية و الاستقلال .
و إن إنجلترا لا تزال تسئ إلى فلسطين و تحاول أن تنقص من حقوق أهلها , و فلسطين وطن لكل مسلم باعتبارها من أرض الإسلام و باعتبارها مهد الأنبياء , و باعتبارها مقر المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله , ففلسطين دين على إنجلترا للمسلمين لا تهدأ ثائرتهم حتى توفيهم فيه حقهم , و إنجلترا تعلم ذلك العلم , ذلك ما حداها إلى دعوة ممثلي البلاد الإسلامية إلى مؤتمر لندن , و آنا ننتهز هذه الفرصة فنذكرها بأن حقوق العرب لا يمكن أن تنقص , و بأن هذه الأعمال القاسية التي يدأب ممثلوها على ارتكابها في فلسطين ليست مما يساعد على حسن ظن المسلمين بها , و خير لها أن تكف هذه الحملات العداونية عن الأبرياء الأحرار , و إنا لنبعث لسماحة المفتي الأكبر من فوق هذا المنبر أخلص تحيات الإخوان المسلمين بها و أطيب تمنياتهم , و لن يضر سماحته و لن يضير آل الحسيني أن تفتش دورهم و يسجن أحرارهم , فذلك مما يزيدهم شرفا إلى شرفهم و فخارا إلى فخارهم , و نذكر الوفود الإسلامية بمكر إنجلترا و خداعها و بوجوب القيام على حقوق العرب كاملة غير منقوصة .
و بهذه المناسبة أذكر الإخوان بأنه قد تألفت لجنة عامة بدار الشبان المسلمين من الجمعيات الإسلامية جميعا , للتعاون على إصدار قرش موحد يوزع من أول السنة الهجرية إغاثة لفلسطين المجاهدة , و سيحل هذا الطابع محل كل الطوابع المختلفة لكل الهيئات , فالوصية للإخوان أن يبذلوا جهدهم في تشجيع هذه اللجنة بتوزيع طوابعها حين صدورها , و بتصفية ما قد يكون موجودا لديهم من حساب الطوابع القديمة و إعادتها إلى المكتب لإعدامها .
و لنا حساب بعد ذلك مع إنجلترا في الأقاليم الإسلامية التي تحتلها بغير حق , و التي يفرض الإسلام على أهلها و علينا معهم أن نعمل لإنقاذها و خلاصها .
أما فرنسا التي ادعت صداقة الإسلام حينا من الدهر فلها مع المسلمين حساب طويل , و لا ننسى لها هذا الموقف المخجل مع سوريا الشقيقة , و لا ننسى لها موقفها في قضية المغرب الأقصى و الظهير البربري , و لا ننسى أن كثيرا من إخواننا الأعزاء , شباب المغرب الأقصى الوطني الحر المجاهد , في أعماق السجون و أطراف المنافي , و سيأتي اليوم الذي يصفى فيه هذا الحساب , (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران:140) .
و ليس حسابنا مع إيطاليا بأقل من حسابنا مع فرنسا , فطرابلس العربية المسلمة الجارة القريبة العزيزة , يعمل الدوتشى و رجاله على إفنائها و إبادة أهلها و استئصالها و محو كل أثر للعروبة و الإسلام منها , و كيف يكون فيها أثر للعروبة و الإسلام و قد اعتبرت جزءا من إيطاليا ؟ و لا يجد الدوتشي بعد ذلك مانعا يمنعه من أن يدعي أنه حامي الإسلام و أن يطلب بهذا العنوان صداقة المسلمين !!
أيها الإخوان المسلمون :
هذا الكلام يدمي القلوب و يفتت الأكباد ! و حسبي هذه الفواجع في هذا البيان , فتلك سلسلة لا آخر لها , و انتم تعرفون هذا , و لكن عليكم أن تبينوه للناس , و أن تعلموهم أن الإسلام لا يرضى من أبنائه بأقل من الحرية والاستقلال ، فضلاً عن السيادة وإعلان الجهاد ، ولو كلفهم ذلك الدم والمال فالموت خير من هذه الحياة , حياة العبودية و الرق و الاستذلال ! و أنتم إن فعلتم ذلك و صدقتم الله العزيمة فلابد من النصر إن شاء الله : (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:21) .
خـاتـمـة
أيها الإخوان المسلمون :
تقدمت إليكم في هذا البيان بخلاصة وافية موجزة عن فكرتكم في مظهرها الخاص , و اليوم كنت احب أن استعرض معكم بعض المشاكل الاجتماعية و الاقتصادية القائمة في المجتمع المصري , و إن شئتم فقولوا الإسلامي فإن الداء يكون واحدا في الجميع , لولا ضيق الوقت , و لولا أن ينحصر في واحدة هي : ضعف الأخلاق و فقدان المثل العليا , و إيثار المصلحة الخاصة على المصلحة العامة , و الجبن عن مواجهة الحقائق , و الهروب من تبعات العلاج , و الفرقة قاتلها الله , هذا هو الداء , و الدواء كلمة واحدة أيضا هي ضد هذه الأخلاق , هي علاج النفوس أيها الإخوان و تقويم أخلاق الشعب : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا , وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:9-10) .
أيها الإخوان المسلمون :
لقد قام هذا الدين بجهاد أسلافكم علي دعائم قوية من الإيمان بالله ، و الزهادة في متعة الحياة الفانية وإيثار دار الخلود ، والتضحية بالدم والروح والمال في سبيل مناصرة الحق ، وحب الموت في سبيل الله والسير في ذلك كله علي هدي القرآن الكريم . فعلي هذه الدعائم القوية أسسوا نهضتكم و أصلحوا نفوسكم وركزوا دعوتكم وقودوا الأمة إلي الخير ، (وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) (محمد:35) .
أيها الإخوان المسلمون :
لا تيئسوا فليس اليأس من أخلاق المسلمين ، وحقائق اليوم أحلام الأمس ، وأحلام الأمس ، وأحلام اليوم حقائق الغد . ولا زال في الوقت متسع ، ولا زالت عناصر السلامة قوية عظيمة في نفوس شعوبكم المؤمنة رغم طغيان مظاهر الفساد . والضعيف لا يظل ضعيفاً طول حياته ، والقوي لا تدوم قوته أبد الآبدين : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص:5) .
إن الزمان سيتمخض عن كثير من الحوادث الجسام ، وإن الفرص ستسنح للأعمال العظيمة ، وإن العالم ينظر دعوتكم دعوة الهداية والفوز والسلام لتخلصه مما هو فيه من آلام , وإن الدور عليكم في قيادة الأمم وسيادة الشعوب ، وتلك الأيام نداولها بين الناس ، وترجون من الله ما لا يرجون ، فاستعدوا واعملوا اليوم ، فقد تعجزون عن العمل غداً . لقد خاطبت المتحمسين منكم أن يتريثوا و ينتظروا دورة الزمان ، و إني لأخاطب المتقاعدين أن ينهضوا و يعملوا فليس مع الجهاد راحة : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69) وإلي الأمام دائماً ...
والله أكبر ولله الحمد
في مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين
بِسْــمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيـمِ
الحمد لله والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً , فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيما)ً المحرم 1357هجرية
إلـي العمـــل
أيها الاخوة ..
كلما وقفت هذا الموقف من جمهور يستمع ، سألت الله أن يقرب اليوم الذي ندع فيه ميدان الكلام إلي ميدان العمل ، وميدان وضع الخطط والمناهج إلي ميدان الإنفاذ والتحقيق ، فقد طال الوقت الذي قضيناه خطباء متكلمين والزمن يطالبنا في إلحاح بالأعمال الجدية المنتجة ، والدنيا كلها تأخذ بأسباب القوة والاستعداد ، ونحن مازلنا بعد في دنيا الأقاويل والأحلام :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ , كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ , إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف:2-4)
أيها الأخوة ..
تحدث إليكم الإخوان في شمول معني الإسلام وإحاطته واستيعابه لكل مظاهر حياة الأمم ، ناهضة أو مستقرة منشئة أو مستكملة ، وعرض بعضهم لموقف الإسلام من الوطنية ، فأظهركم علي أن وطنية الإسلام هي أوســع الوطنية حدوداً ، وأعمها وجوداً ، وأسماها خلوداً ، وأن أشد المتطرفين لوطنه المتعصبين لقومه لن يجد في دعــوة الوطنيين المجردين ما يلقاه من حماسة وطنية المؤمنين ، ولست أفيض في شرح ذلك بعد إذ عرضوا له ، ولكــــني سأعرض إلي ناحية واحدة كثر فأغظ الناس بها وكثر تبعاً لذلك غلطهم فيها ، هي : (السياسة والإسلام) .
الـدين .. والسياسة
قلما تجد إنساناً يتحدث إليك عن السياسة والإسلام إلا وجدته يفصل بينهما فصلاً ، ويضع كل واحد من المعنيين في جانب ، فهما عند الناس لا يلتقيان ولا يجتمعان ، ومن هنا سميت هذه جمعية إسلامية لا سياسية ، وذلك اجتماع ديني لا سياسة فيه ، ورأيت في صدر قوانين الجمعيات الإسلامية ومناهجها (لا تتعرض الجمعية للشئون السياسية) .
وقبل أن أعرض إلي هذه النظرة بتزكية أو تخطئة احب أن الفت النظر إلى أمرين مهمين :
أولهما : أن الفارق بعيد ن عن الحزبية والسياسية ، وقد يجتمعان وقد يفترقان ، فقد يكون الرجال سياسيا بكل ما في الكلمة من معان وهو لا يتصل بحزب ولا يموت إليه ، وقد يكون حزبياًُ وليدري من أمر السياسة شيئاً، وقد يجمع بينهما فيكون سياسياً حزبياً أو حزبياً سياسياً حد سواء ، وأنا حين أتكلم عن السياسة في هذه الكلمة فإنما أريد السياسة المطلقة ، وهى النظر في شؤون الأمة الداخلية والخارجية غير مقيدة بالحز بينة بحال .. هذا أمر.
والثاني : أن غير المسلمين حينما جهلوا هذا الإسلام ، أو حينما أعياهم أمر وثباته في نفوس اتباعه ، ورسوخه فت قلوب المؤمنين به ، واستعداد كل مسلم لتفديتة بالنفس والمال ، لم يحول أن يجرحوا في نفوس المسلمين اسم الإسلام ولا مظاهره وشكلياته ، ولكنهم حاولوا يحصروا معناه في دائرة ضيقة تذهب بكل مافية من نواح قوية عملية ، وان تركب للمسلمين بعد ذلك قشور من الألقاب والأشكال والمظهريات لا تسمن ولا تغنى من جوع .... فافهموا المسلمين أن الإسلام شئ والاجتماع شيء أخر ، وان الإسلام شيء والقانون شئ غيره ، وان الإسلام شئ ومسائل الاقتصاد لا تتصل به ، وان الإسلام شئ والثقافة العامة سواه ، وان الإسلام شئ يجب أن يكون بعيداً عن السياسة .
فحدثوني بربكم أيها الإخوان ، إذا كان الإسلام شيئا غير السياسة وغير الاجتماع ،وغير الاقتصاد ، وغير الثقافة ... فما هو إذن ؟ ....
أهو هذه الركعات الخالية من القلب الحاضر.. أم هذا الألفاظ التي هي كما تقون رابعة العدوية :استغفار يحتاج إلى استغفار .. ألهذا أيها الاخوة نزل القران نظاما كامل محكما مفصلا :(تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:89) .
هذا المعنى المتضائل لفكر الإسلام ، وهذه الحدود الضيقة التي حددها معنى الإسلام ، هي التي حاول خصوم الإسلام أن يحصر فيها المسلمين ، وان يضحكوا عليهم بأن يقولوا لهم بأن تركنا لكم حرية الدين ، وان الدستور ينص على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام .
الإسلام الشـامـل
أنا أعلن أيها الإخوان من فوق المنبر بكل صراحة ووضوح وقوة ، أن الإسلام شئ غير هذا المعنى الذي أراد خصومة والأعداء من أبنائه أن يحصرون فيه ويقيدون به ، وأن الإسلام عقيدة وعبادة ، ووطن وجنسية ، وسماحة وقوه ، وخلق ومادة ، وثقافة وقانون , وأن المسلم مطالب بحكم إسلامه أن يعني بكل شؤون أمته ، ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم .
واعتقد أن أسلافنا رضوان الله عليه ما فهموا للإسلام معنى غير هذا ، فبه كانوا يحكمون ، وله كانوا يجاهدون ، وعلى قواعده كانوا يتعلمون ، وفى حدوده كانوا يسيرون في كل شان من شؤون الحياة الدنيا العملية قبل شؤون الآخرة الروحية ، ورحم الله الخليفة الأول إذ يقول : (لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله).
بعد هذا التحديد العام لمعنى الإسلام الشامل ولمعنى السياسة المجردة عن الحزبية ، أستطيع أن اجهر في صراحة بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيا ، يعيد النظر في شؤون أمته ، مهتما بها غيور عليا . وأستطيع كذلك أن أقول أن هذا التحديد التجريد أمر لا يقره الإسلام ، وأن على كل جمعية إسلامية أن تضع في رأس برنامجها الاهتمام بشؤون أمتها السياسية وإلا كانت تحتاج هي نفسها إلى أن تفهم معنى الإسلام.
دعوني أيها الاخوة استرسل معكم قليلا في تقرير هذا المعنى الذي قد يبدو مفاجأة غريبة على قوم تعودوا إن يسمعوا دائما نغمة التفريق بين الإسلام والسياسة ، والذي قد يدع بعض الناس يقولون بعد انصرافنا من هذا الحفل : إن جماعة الإخوان المسلمين قد تركت مبادئها ، وخرجت علي صفتها ، وصارت جماعة سياسية بعد أن كانت جمعية دينية ، ثم يذهب كل متأول في ناحية من نواحي التأويل ملتمساً أسباب هذا الانقلاب في نظره ، وعلم الله أيها السادة أن الإخوان ما كانوا يوماً من الأيام غير سياسيين ، ولن يكونوا يوماً من الأيام غير مسلمين ، وما فرقت دعوتهم أبداً بين السياسة والدين ، ولن يراهم الناس في ساعة من نهار حزبيين(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص:55) ، ومحال أن يسيروا لغاية غير غايتهم أو يعملوا لفكرة سوي فكرتهم أو يتلونوا بلون غير الإسلام الحنيف :(صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة:138) .
السياسة الداخـليـة
دعوني أيها الأخوة أسترسل معكم في تقرير هذا المعني ، فأقول إن كان يراد بالسياسة معناها الداخلي من حيث تنظيم أمر الحكومة وبيان مهماتها وتفصيل حقوقها وواجباتها ومراقبة الحاكمين والإشراف عليهم ليطاعوا إذا أحسنوا وينقدوا إذا أساءوا ... فالإسلام قد عني بهذه الناحية ، ووضع لها القواعد والأصول ، وفصل حقوق الحاكم والمحكوم ، وبين مواقف الظالم والمظلوم ، ووضع لكل حداً لا يحدوه ولا يتجاوزه . فالدساتير والقوانين المدنية والجنائية بفروعها المختلفة عرض لها الإسلام ، ووضع نفسه منها بالموضع الذي يجعله أول مصادرها وأقدس منابعها . وهو حين فعل هذا إنما وضع الأصول الكلية ، والقواعد العامة ، والمقاصد الجامعة ، وفرض علي الناس تحقيقها ، وترك لهم الجزئيات والتفاصيل يطبقونها بحسب ظروفهم وعصورهم ، ويجتهدون في ذلك ما وسعتهم المصلحة وواتاهم الاجتهاد .
وقد قرر الإسلام سلطة الأمة وأكدها ، وأوصي بأن يكون كل مسلم مشرفاً تمام الإشراف علي تصرفات حكومته ، يقدم لها النصح والمعونة ويناقشها الحساب ، وهو كما فرض علي الحاكم أن يعمل لمصلحة المحكومين بإحقاق الحق وإبطال الباطل فرض علي المحكومين كذلك أن يسمعوا ويطيعوا للحاكم ما كان كذلك ، فإذا انحرف فقد وجب عليهم أن يقوموه علي الحق ويلزموه حدود القانون ويعيدوه إلي نصاب العدالة ، هذه تعاليم كلها من كتاب الله :(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ , وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ , أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:48-50) ، إلي عشر من الآيات الكريمة التي تناولت كل ما ذكرنا بالبيان والتفصيل .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في تقرير سلطة الأمة وتقرير الرأي العام فيها : (الدين النصيحة) . قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : (لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين و عامتهم) .. ويقول أيضاً (إن من أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) ، ويقول كذلك (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلي إمام جائر فأمره ونهاه فقتله) .. وإلي مئات الأحاديث التي تفصل هذا المعني وتوضحه ، وتوجب علي المسلمين أن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر ، وأن يراقبوا حكامهم ويشرفوا علي مبلغ احترامهم للحق وإنفاذهم لأحكام الله .
فهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يأمر بهذا التدخل ، أو الإشراف أو التناصح ، أو سمه ما شئت ، وحين يحض عليه ، ويبين أنه الجهاد الأكبر ، وأن جزاءه الشهادة العظمي .. يخالف تعاليم الإسلام فيخلط السياسة بالدين ، أم أ، هذه هي طبيعة الإسلام الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأننا في الوقت الذي نعدل فيه بالإسلام عن هذا المعني نصور لأنفسنا إسلاماً خاصاً غير الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه .
لقد تقرر هذا المعني الفسيح للإسلام الصحيح في نفوس السلف الصالح لهذه الأمة ، وخالط أرواحهم وعقولهم ، وظهر في كل أدوار حياتهم الاستقلالية قبل ظهور هذا الإسلام الاستعماري الخانع الذليل .
ومن هنا أيها الإخوان كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلمون في نظم الحكم ، ويجاهدون في مناصرة الحق ، ويحتملون عبء سياسة الأمة ، ويظهرون علي الصفة التي وصفوا أنفسهم بها (رهبان بالليل فرسان بالنهار) حتى كانت أم المؤمنين عائشة الصدِّيقة تخطب الناس في دقائق السياسة ، وتصور لهم مواقف الحكومات في بيان رائع وحجة قوية ، ومن هنا كانت الكتيبة التي شقت عصا الطاعة على الحجاج وحاربته وأنكرت عليه بقيادة ابن الأشعث تسمي كتيبة الفقهاء ، إذ كان فيها سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأضرابهما من فقهاء التابعين وجلة علمائهم.
ومن هنا رأينا من مواقف الأئمة رضوان الله عليهم في مناصحة الملوك ومواجهة الأمراء والحكام بالحق ما يضيق بذكر بعضه فضلاً عن كله المقام .
ومن هنا كذلك كانت كتب الفقه الإسلامي قديماً وحديثاً فياضة بأحكام الأمارة والقضاء والشهادة والدعاوى والبيوع والمعاملات والحدود والتعزيزات ، ذلك إلي أن الإسلام أحكام عملية وروحية ، إن قررتها السلطة التشريعية فإنما تقوم علي حراستها وإنفاذ السلطة التنفيذية والقضائية ، ولا قيمة لقول الخطيب كل جمعة علي المنبر(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90) ، في الوقت الذي يجيز فيه القانون السكر وتحمي الشرطة السكيرين وتقودهم إلي بيوتهم آمنين مطمئنين ، ولهذا كانت تعاليم القرآن لا تنفك عن سطوة السلطان ، ولهذا كانت السياسة جزءاً من الدين ، وكان من واجبات المسلم أن يعني بعلاج الناحية الحكومية كما يعني بعلاج الناحية الروحية .
وذلك موقف الإسلام من السياسة الداخلية .
السياسة الخـارجـية
فإن أريد بالسياسة معناها الخارجي ، وهو المحافظة علي استقلال الأمة وحريتها ، وأشعارها كرامتها وعزتها ، والسير بها إلي الأهداف المجيدة التي تحتل بها مكانتها بين الأمم ومنزلتها الكريمة في الشعوب والدول ، وتخليصها من استبداد غيرها بها وتدخله في شؤونها ، مع تحديد الصلة بينها وبين سواها تحديداً يفصل حقوقها جميعاً ، ويوجه الدول كلها إلي السلام العالمي العام وهو ما يسمونه (القانون الدولي) .. فإن الإسلام قد عني بذلك كل العناية وأفتي فيه بوضوح وجلاء ، وألزم المسلمين أن يأخذوا بهذه الأحكام في السلم والحرب علي السواء ، ومن قصر في ذلك وأهمله فقد جهل الإسلام أو خرج عليه .
قرر الإسلام سيادة الأمة الإسلامية وأستاذيتها للأمم في آيات كثيرة من القرآن ومنها قوله تعالى:(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (آل عمران:110) ، وقوله تعالى :(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة:143) ، وقوله تعالى:(وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون:8) ، وأكد قوامتها وأرشدها إلي طريق صيانتها وإلي ضرر تدخل غيرها في شؤونها بمثل قوله تعالى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ , هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) (آل عمران:118-119) ، وأشار إلي مضار الاستعمار وسوء أثره في الشعوب فقال تبارك وتعالى :(إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل:34) .
ثم أوجب علي الأمة المحافظة علي هذه السيادة ، وأمرها باستعداد العدة و استكمال القوة ، حتى يسير الحق محفوظاً بجلال السلطة كما هو مشرق بأنوار الهداية(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (لأنفال:60) ، ولم يغفل التحذير من صورة النصر ونشوة الاعتزاز وما تجلبه من مجانبة للعدالة وهضم للحقوق ، فحذر المسلمين العدوان علي أية حال في قوله تعالى :(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا) (المائدة:8) ، مع قوله تعالى(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:41).
ومن هنا أيها الإخوة رأينا أخلاء المسجد ، وأنضاء العبادة ، وحفظة الكتاب الكريم ، بل وأبناء الروابط والزوايا من السلف رضوان الله عليهم ، لا يقنعون باستقلال بلادهم ، ولا بعزة قومهم ، ولا بتحرير شعوبهم ، ولكنهم ينسابون في الأرض ، ويسيحون في آفاق البلاد فاتحين معلمين ، يحررون الأمم كما تحرروا ، ويهدونها بنور الله الذي اهتدوا به ، ويرشدونها إلي سعادة الدنيا والآخرة ، لا يغلون ولا يغدرون ، ولا يظلمون ولا يعتدون ، ولا يستعبدون الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً.
ومن هنا رأينا عقبة بن نافع يخوض الأطلسي بلبة جواده قائلاً : (اللهم لو علمت وراء هذا البحر أرضاً لمضيت في البلاد مجاهداً في سبيلك) ، في الوقت الذي يكون فيه أبناء العباس الأشقاء قد دفن أحدهم بالطائف إلي جوار مكة ، والثاني بأرض الترك من أقصي الشرق ، والثالث بأفريقيا من أقصي المغرب ، جهاداً في سبيل الله وابتغاء لمرضاته . وهكذا فهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان أن السياسة الخارجية من صميم الإسلام .
الحـقوق الـدولــية
وأحب قبل أن أختم هذا الاسترسال أن أؤكد لحضراتكم تأكيداً قاطعاً أن سياسة الإسلام داخلية أو خارجية تكفل تمام الكفالة حقوق غير المسلمين ، سواء أكانت حقوق دولية أم كانت حقوق وطنية للأقليات غير المسلمة ، وذلك لأن شرف الإسلام الدولي أقدس شرف عرفه التاريخ ، والله تبارك وتعالى يقول :(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) (لأنفال:58) ، ويقول :(إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4) ، ويقول تعالى :(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (لأنفال:61).
ولئن كانت إيطاليا المتمدنة قد غزت الحبشة حتى استولت عليها ولم تعلن عليها حرباً ولم تسبق إلي ذلك بإنذار ، وحذت حذوها اليابان الراقية فهي تحارب الصين ولم تخطرها ولم تعلنها ، فإن التاريخ لم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عن صحابته أنهم قاتلوا قوماً أو غزوا قبيلاً دون أن يوجهوا الدعوة ويتقدموا بالإنذار وينبذوا إليه علي سواء .
وقد كفل الإسلام حقوق الأقليات بنص قرآني هو قول الله تبارك وتعالى :(لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8) . كما أن هذه السياسة الإسلامية نفسها لا تنافي أبداً الحكم الدستوري الشورى ، وهي واضعة أصله ومرشدة الناس إليه في قوله تعالى من أوصاف المؤمنين(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقناهُمْ يُنْفِقُونَ) (الشورى:38) ، وقوله تعالى:(وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) (آل عمران:159) ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه وينزل علي رأي الفرد منهم متي وضح له صوابه كما فعل ذلك مع الحباب بن منذر في غزوة بدر ، ويقول لأبي بكر وعمر : (لو اجتمعتما ما خالفتكما) ، وكذلك ترك عمر الأمر شوري بين المسلمين ، ومازال المسلمون بخير ما كان أمرهم شورى بينهم .
سـعة التشـريع الإسلامي
كما أن تعاليم الإسلام وسياسته ليس فيها معني رجعي أبداً ، بل هي علي أدق قواعد التشريع الصالح ، وقد اعترف التشريع لكثير منها ـ وسيكشف الزمن للناس علي جلاله ما لم يعرفوا ـ بأنها قد سبقته في دقة الأحكام وتصوير الأمور وسعة النظر ، وشهد بذلك كثير من غير المسلمين كما ورد كثيراً في كلام "الميسو لامبير" و إضرابه ، وأكدت ذلك مؤتمرات التشريع الدولية علي أن الإسلام قد وضع من القواعد الكلية ما يترك للمسلم باباً واسعاً في الانتفاع بكل تشريع نافع مفيد لا يتعارض مع أصول الإسلام ومقاصده و أثاب علي الاجتهاد بشروطه ، وقرر قاعدة المصالح المرسلة ، واعتبر العرف ، واحترم رأي الإمام . كل هذه القواعد تجعل التشريع الإسلامي في الذروة السامية بين الشرائع والقوانين والأحكام .
هذه معان أحب أيها السادة أن تذيع بيننا وأن نذيعها في الناس ، فإن كثيرين لازالوا يفهمون من معنى النظام الإسلامي ما لا يتفق بحال مع الحقيقة ، وهم لهذا ينفرون منه ويحاربون الدعوة إليه ، ولو فقهوه علي وجهه لرجعوا به ولكانوا من أوائل أنصاره وأشدهم تحمساً له وأعلاهم صوتاً في الدعوة إليه .
الحـزبيـة السـياسـية
أيها الاخوة الكرام ..
بقي للسياسة معني آخر يؤسفني أن أقول أنه وحده هو المعني الذي يرادفها ويلازمها بغير حق في أذهان كثير منا ، ذلك هو (الحزبية).
وإن لي في الحزبية السياسية آراء هي لي خاصة ولا أحب أن أفرضها علي الناس فإن ذلك ليس لي ولا لأحد ، ولكني كذلك لا أحب أن أكتمها عنهم ، وأري أن واجب النصيحة للامة ـ وخصوصاً في مثل هذا الظروف ـ يدعوني إلي المجاهرة بها وعرضها علي الناس في وضوح وجلاء ، وأحب كذلك أن يفهم جيداً أني حينما أتحدث عن الحزبية السياسية فليس معني هذا أني أعرض لحزب دون حزب ، أو أرجح أحد الأحزاب علي غيره ، أو أن أنتقص أحدها وأزكي الأخر ، ليس ذلك من مهماتي ، ولكني سأتناول المبدأ من حيث هو ، وسأعرض للنتائج والآثار المترتبة عليه ، وأدع الحكم علي الأحزاب للتاريخ وللرأي العام والجزاء الحق لله وحده(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (آل عمران:30) . أعتقد أيها السادة ، أن الحزبية السياسية إن جازت في بعض الظروف في بعض البلدان ، فهي لا تجوز في كلها ، وهي لا تجوز في مصر أبداً ، وخاصةً في هذا الوقت الذي نستفتح فيه عهداً جديداً ، ونريد أن نبني أمتنا بناء قوياً يستلزم تعاون الجهود وتوافر القوي والانتفاع بكل المواهب ، والاستقرار الكامل والتفرغ التام لنواحي الإصلاح . إن وراءنا في الإصلاح الداخلي منهاجاً واسعاً مطولاً ، يجب أن نصرف كل الجهود إلي تحقيقه ، لإنقاذ هذا الشعب الدائم الحيوية ، الجم النشاط ، المجهز بكل وسائل النشاط ، الذي لا ينقصه إلا القيادة الصالحة والتوجيه القويم ، حتى يتكون أصلح تكوين ، يقضي علي الضعف والفقر والجهل والرذيلة ، وهي معاول الهدم وسوس النهضات ، وليس هنا محل تفصيل هذا المنهاج فذلك له وقت آخر ، وأنا أعلم أننا جميعاً نشعر بثقل وطأة الأعباء ، وبالمجهودات العظيمة التي يجب أن تبذل في سبيل التنظيم الداخلي في كل مظاهر الحياة .
وأعتقد كذلك أننا جربنا الوحدة مرتين , كانت كل واحدة منهما ألمع نجم في تاريخ النهضة , أما أولاهما ففي فجر النهضة حينما برزت الأمة صفا متحدا تنادي بحقها وتطالب باستحقاقها في اجتماع أفزع الغاصبين وروع المستعمرين ووهنت أمام سلطانه قوى الظالمين , أما الثاني فحين تكوين الجبهة الوطنية التي خطت بنا خطوة مهما كانت قصيرة فهي إلى الأمام على كل حال , وجربنا التفرقة في مرات كثيرة من قبل ومن بعد فما رأينا إلا تمزيق الجهود , وإحباط الأعمال , وإفساد الشؤون , وإتلاف الأخلاق , وخراب البيوت وتقطيع الأرحام , واستفادة الخصوم على حساب المختلفين المتنابزين .
الحزبيـة والتدخل
وأعتقد أيها السادة أن التدخل الأجنبي في شؤون الأمة , ليس له من باب إلا التدابر والخلاف , وهذا النظام الحزبي البغيض , وأنه مهما انتصر أحد الفريقين فإن الخصوم بالمرصاد , يلوّحون له بخصمه الآخر , ويقفون منهما موقف القرد من القطتين , ولا يجني الشعب من وراء ذلك إلا الخسارة من كرامته واستقلاله وأخلاقه ومصالحه .
إننا يا إخوان أمة لم نستكمل استقلالنا بعد استكمالا تاما , ولا زلنا في الميزان , ولا زالت المطامع تحيط بنا من كل مكان , ولا سياج لحماية هذا الاستقلال والقضاء على تلك المطامع إلا الوحدة والتكلف . وإذا جاز لبعض الأمم التي استكملت استقلالها وفرغت من تكوين نفسها أن تختلف وتتحزب في فرعيات الأمور , فإن ذلك لا يجوز في الأمم الناشئة أبدا , على أننا نلاحظ أن الحوادث العالمية قد ألجأت الأمم جميعا إلى التجرد من الحزبية مطلقا , أو الإبقاء على حزبية صورية تقليدية مع الوحدة في كل الاتجاهات
لا أحـزاب في مصر
وأعتقد كذلك أن هذه الأحزاب المصرية الحالية أحزاب مصنوعة أكثر منها حقيقية , وأن العامل في وجودها شخصي أكثر منه وطني , وأن المهمة والحوادث التي كونت هذه الأحزاب ويجب أن ينتهي هذا النظام بانتهائها.
لقد تكوّن الوفد المصري من الأمة كلها للمطالبة بالاستقلال على أساس المفاوضة وتلك هي مهمته , ثم تفرع منه حزب الأحرار الدستوريين للخلاف في أسلوب المفاوضات , وقد انتهت المفاوضة بأساليبها ونظمها وقواعدها فانتهت مهمتها بذلك , , وتكوّن حزب الشعب لإيجاد نظام خاص ودستور خاص , وقد انتهى ذلك الدستور وذلك النظام بأشكاله وأوضاعه فانتهت مهمته هو الآخر , وتكون حزب الشعب لموقف خاص بين السراي والأحزاب , لقد انتهت هذه الظروف جميعا , وتجددت ظروف أخرى تستدعي مناهج وأعمالا , فلا معنى أبدا لبقاء هذه الأحزاب , ولا معنى أبدا للرجوع على الماضي والمستقبل يلح إلحاحا صارخا بالعمل والسير بأسرع ما يمكن من الخطوات.
الإسلام لا يقـر الحـزبية
وبعد هذا كله أعتقد أيها السادة أن الإسلام وهو دين الوحدة في كل شئ , وهو دين سلامة الصدور , ونقاء القلوب , والإخاء الصحيح , والتعاون الصادق بين بني الإنسان جميعا فضلا عن الأمة الواحدة والشعب الواحد , لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه ولا يوافق عليه , والقرآن الكريم يقول :(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران:103) , ويقول رسول الله e (هل أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصوم ؟ قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين , فإن فساد ذات البين هي الحالقة , لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين) .
وكل ما يستتبعه هذا النظام الحزبي ,من تنابز وتقاطع , وتدابر وبغضاء , يمقته الإسلام أشد المقت , ويحذر منه في كثير من الأحاديث والآيات , وتفصيل ذلك يطول و وكل حضراتكم به عليم.
حـرية الـرأي
وفرق أيها الإخوان بين الحزبية التي شعارها الخلاف والانقسام في الرأي والوجهة العامة وفي كل ما يتفرع منها , وبين حرية الآراء التي يبيحها الإسلام ويحض عليها , وبين تمحيص الأمور وبحث الشؤون والاختلاف فيما يعرض تحريا للحق , حتى إذا وضح نزل على حكمه الجميع سواء أكان ذلك اتباعا للأغلبية أو للإجماع , فلا تظهر الأمة إلا مجتمعة ولا يرى القادة إلا متفقين.
أيها الإخوان لقد آن الأوان أن ترتفع الأصوات بالقضاء على نظام الحزبية في مصر , وأن يستبدل به نظام تجتمع به الكلمة وتتوحد به جهود الأمة حول منهاج إسلامي صالح تتوافر على وضعه وإنفاذه القوى والجهود . هذه نظرات يرى الإخوان المسلمون أن واجبهم الإسلامي أولا والوطني ثانيا والإنساني ثالثا يفرض عليهم فرضا لا مناص منه أن يجهروا بها وأن يعرضوها على الناس و في إيمان عميق وبرهان وثيق , معتقدين أن تحقيقها هو السبيل الوحيد لتدعيم النهضة على أفضل القواعد والأصول ,(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (لأنفال:24).
خـاتمــــة
وبعد أيها الإخوان , فهذه نظرات سيضحك لها كثير من الناس حين يستمعون إليها , وأولئك هم الذين يئسوا من أنفسهم وغفلوا عن تأييد الله لعباده المؤمنين , وجهلوا أن هذا الذي تجهرون به اليوم ليس شيئا جديدا ولكنه دعوة الإسلام التي جاء بها رسول الله e وجاهد في سبيلها وعمل لها أصحابه من بعده , والتي يجب على كل مسلم يؤمن بالله وبرسوله وكتابه أن يعمل لها كما عملوا ويجاهد في سبيلها كما جاهدوا.
أمّا أنتم أيها الإخوان فتؤمنون بذلك كله و وتعتقدون أن الله غالب على أمره , وان الله معكم على ذلك البرهان العلمي والتطور التاريخي والوضع الجغرافي والتأييد الرباني , وتجدون البشرى في قول رب العالمين :(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص:5) , واعلموا أن الله معكم , ولا أطيل عليكم في بيان واجبكم فإنكم لتعلمونه , فآمنوا وأخلصوا واعملوا وانتظروا ساعة الفوز وترقبوا وقت الانتصار .. و(للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ , بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:5) .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
دعوة للشباب
بِسـْـــــمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـمِ
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه .
{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ , قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ , قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ , قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ , قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ}
عـوامـل النجــاح
أيها الشباب :
أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد إمام المصلحين وسيد المجاهدين ، وعلى اله وصحبه والتابعين.
أيها الشباب :
إنما تنجح الفكرة إذا قوي الإيمان بها ، وتوفر الإخلاص في سبيلها ، وازدادت الحماسة لها ، ووجد الاستعداد الذي يحمل على التضحية والعمل لتحقيقها . وتكاد تكون هذه الأركان الأربعة : الإيمان، والإخلاص ، والحماسة ، والعمل من خصائص الشباب . لان أساس الإيمان القلب الذكي ، وأساس الإخلاص الفؤاد النقي ، وأساس الحماسة الشعور القوي ، وأساس العمل العزم الفتي ، وهذه كلها لا تكون إلا للشباب. ومن هنا كان الشباب قديما و حديثا في كل أمة عماد نهضتها ، وفي كل نهضة سر قوتها ، وفي كل فكرة حامل رايتها: (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) (الكهف:13) .
ومن هنا كثرت واجباتكم ، ومن هنا عظمت تبعاتكم ، ومن هنا تضاعفت حقوق أمتكم عليكم ، ومن هنا ثقلت الأمانة في أعناقكم . ومن هنا وجب عليكم أن تفكروا طويلا ، وأن تعملوا كثيرا ، وأن تحددوا موقفكم ، وأن تتقدموا للإنقاذ ، وأن تعطوا الأمة حقها كاملا من هذا الشباب.
قد ينشأ الشاب في أمة وادعة هادئة ، قوي سلطانها واستبحر عمرانها ، فينصرف إلى نفسه اكثر مما ينصرف إلى أمته ، ويلهو ويعبث وهو هادئ النفس مرتاح الضمير . وقد ينشأ في أمة جاهدة عاملة قد استولى عليها غيرها ، واستبد بشؤونها خصمها فهي تجاهد ما استطاعت في سبيل استرداد الحق المسلوب، والتراث المغصوب ، والحرية الضائعة والأمجاد الرفيعة، والمثل العالية. وحينئذ يكون من أوجب الواجبات على هذا الشباب أن ينصرف إلى أمته أكثر مما ينصرف إلى نفسه. وهو إذ يفعل ذلك يفوز بالخير العاجل في ميدان النصر، و الخير الآجل من مثوبة الله. ولعل من حسن حظنا أن كنت من الفريق الثاني فتفتحت أعيننا على أمة دائبة الجهاد مستمرة الكفاح في سبيل الحق والحرية. واستعدوا يا رجال فما أقرب النصر للمؤمنين وما أعظم النجاح للعاملين الدائبين.
أيها الشباب:
لعل من أخطر النواحي في الأمة الناهضة- وهي في فجر نهضتها- اختلاف الدعوات، واختلاط الصيحات، وتعدد المناهج ، وتباين الخطط والطرائق ، و كثرة المتصدين للتزعم والقيادة . وكل ذلك تفريق في الجهود وتوزيع للقوى يتعذر معه الوصول إلى الغايات. ومن هنا كانت دراسة هذه الدعوات والموازنة بينها أمرا أساسيا لا بد منه لمن يريد الإصلاح .
ومن هنا كان من واجبي أن أشرح لكم في وضوح موجز دعوة الإسلام في القرن الهجري الرابع عشر.
دعوتنـا في العصـر الحـديث
لقد آمنا إيمانا لا جدال فيه ولا شك معه، واعتقدنا عقيدة أثبت من الرواسي وأعمق من خفايا الضمائر، بأنه ليس هناك إلا فكرة واحدة هي التي تنقذ الدنيا المعذبة وترشد الإنسانية الحائرة وتهدي الناس سواء السبيل، وهي لذلك تستحق أن يضحي في سبيل إعلانها و التبشير بها وحمل الناس عليها بالأرواح والأموال وكل رخيص وغال، هذه الفكرة هي الإسلام الحنيف الذي لا عوج فيه ولا شر معه ولا ضلال لمن اتبعه : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران:18) .
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً) (المائدة:3) .
ففكرتنا لهذا إسلامية بحتة، على الإسلام ترتكز ومنه تستمد وله تجاهد وفي سبيل إعلاء كلمته تعمل , لا تعدل بالإسلام نظاما ، ولا ترضى سواه إماما ، ولا تطيع لغيره أحكاما. (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران:85) .
و لقد أتى على الإسلام والمسلمين حين من الدهر توالت فيه الحوادث وتتابعت الكوارث، وعمل خصوم الإسلام على إطفاء روائه وإخفاء بهائه وتضليل أبنائه و تعطيل حدوده ، و إضعاف جنوده ، وتحريف تعاليمه وأحكامه تارة بالنقص منها ، وأخرى بالزيادة فيها ، وثالثة بتأويلها على غير وجهها ، وساعدهم على ذلك ضياع سلطة الإسلام السياسية و تمزيق إمبراطوريته العالمية وتسريح جيوشه المحمدية ووقوع أممه في قبضة أهل الكفر مستذلين مستعمرين.
فأول واجباتنا نحن الإخوان أن نبين للناس حدود هذا الإسلام واضحة كاملة بينة لا زيادة فيها ولا نقص بها ولا لبس معها، وذلك هو الجزء النظري من فكرتنا، وأن نطالبهم بتحقيقها ونحملهم على إنفاذها ونأخذهم بالعمل بها، وذلك هو الجزء العملي لي هذه الفكرة.
وعمادنا في ذلك كله كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والسنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ، والسيرة المطهرة لسلف هذه الأمة ، لا نبغي من وراء ذلك إلا إرضاء الله وأداء الواجب وهداية البشر وإرشاد الناس.
وسنجاهد في سبيل تحقيق فكرتنا، وسنكافح لها ما حيينا وسندعو الناس جميعا إليها ، وسنبذل كل شيء في سبيلها ، فنحيا بها كراما أو نموت كراما ، وسيكون شعارنا الدائم : الله غايتنا ، والرسول زعيمنا ، والقرآن دستورنا ، والجهاد سبيلنا ، والموت في سبيل الله أسمى أمانينا.
أيها الشباب :
إن الله قد أعزكم بالنسبة إليه والإيمان به والتنشئة على دينه، وكتب لكم بذلك مرتبة الصدارة من الدنيا ومنزلة الزعامة من العالمين وكرامة الأستاذ بين تلامذته.
(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (آل عمران:110) . (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) (البقرة:143) فأول ما يدعوكم إليه أن تؤمنوا بأنفسكم ، أن تعلموا منزلتكم وأن تعتقدوا أنكم سادة الدنيا وإن أراد لكم خصومكم الذل ، وأساتذة العالمين وإن ظهر عليكم غيركم بظاهر من الحياة الدنيا والعاقبة للمتقين.
فجددوا أيها الشباب إيمانكم ، وحددوا غاياتكم وأهدافكم، وأول القوة الإيمان ، ونتيجة هذا الإيمان الوحدة ، وعاقبة الوحدة النصر المؤزر المبين. فآمنوا وتآخوا واعلموا وترقبوا بعد ذلك النصر.. وبشر المؤمنين.
إن العالم كله حائر يضطرب ، كل ما فيه من النظم قد عجز عن علاجه ولا دواء له إلا الإسلام، فتقدموا باسم الله لإنقاذه، فالجميع في انتظار المنقذ، ولن يكون المنقذ إلا رسالة الإسلام التي تحملون مشعلها وتبشرون بها.
مــاذا نريــد؟
أيها الشباب :
إن منهاج الإخوان المسلمين محدود المراحل واضح الخطوات، فنحن نعلم تماما ماذا نريد ونعرف الوسيلة إلى تحقيق هذه الإرادة .
ا - نريد أولا الرجل المسلم في تفكيره وعقيدته ، وفي خلقه وعاطفته ، وفي عمله وتصرفه. فهذا هو تكويننا الفردي.
2 - ونريد بعد ذلك البيت المسلم في تفكيره وعقيدته وفي خلقه وعاطفته وفي عمله وتصرفه ونحن لهذا نعنى بالمرأة عنايتنا بالرجل ، ونعنى بالطفولة عنايتنا بالشباب وهذا هو تكويننا الأسري.
3 - ونريد بعد ذلك الشعب المسلم في ذلك كله أيضا ونحن لهذا نعمل على أن تصل دعوتنا إلى كل بيت ، وأن يسمع صوتنا في كل مكان ، وأن تتيسر فكرتنا وتتغلغل في القرى والنجوع والمدن والمراكز والحواضر والأمصار، لا نألو في ذلك جهدا ولا نترك وسيلة.
4 - ونريد بعد ذلك الحكومة المسلمة التي تقود هدا الشعب إلى المسجد ، وتحمل به الناس على هدى الإسلام من بعد كما حملتهم على ذلك بأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أبي بكر وعمر من قبل . ونحن لهذا لا نعترف بأي نظام حكومي لا يرتكز على أساس الإسلام ولا يستمد منه ، ولا نعترف بهذه الأحزاب السياسية ، ولا بهذه الأشكال التقليدية التي أرغمنا أهل الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها، وسنعمل على إحياء نظام الحكم الإسلامي بكل مظاهره ، وتكوين الحكومة الإسلامية على أساس هذا النظام.
5 - ونريد بعد ذلك أن نضم إلينا كل جزء من وطننا الإسلامي الذي فرقته السياسة الغربية وأضاعت وحدته المطامع الأوروبية. ونحن لهذا لا نعترف بهذه التقسيمات السياسية ولا نسلم بهذه الاتفاقات الدولية، التي تجعل من الوطن الإسلامي دويلات ضعيفة ممزقة يسهل ابتلاعها على الغاصبين، ولا نسكت على هضم حرية هذه الشعوب واستبداد غيرها بها. فمصر و سورية والعراق والحجاز واليمن وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش وكل شبر أرض فيه مسلم يقول : لا إله إلا الله ، كل ذلك وطننا الكبير الذي نسعى لتحريره وإنقاذه وخلاصه وضم أجزائه بعضها إلى بعض.
ولئن كان الرايخ الألماني يفرض نفسه حاميا لكل من يجري في عروقه دم الألمان ، فإن العقيدة إسلامية توجب على كل مسلم قوي أن يعتبر نفسه حاميا لكل من تشربت نفسه تعاليم القرآن . فلا يجوز في عرف الإسلام أن يكون العامل العنصري أقوى في الرابطة من العامل الإيماني. والعقيدة هي كل شيء في الإسلام، وهل الإيمان إلا الحب والبغض؟
6 - ونريد بعد ذلك أن تعود راية الله خافقة عالية على تلك البقاع التي سعدت بالإسلام حينا من الدهر ودوى فيها صوت المؤذن بالتكبير والتهليل ، ثم أراد لها نكد الطالع أن ينحسر عنها ضياؤه فتعود إلى الكفر بعد الإسلام . فالأندلس وصقلية والبلقان وجنوب إيطاليا وجزائر بحر الروم ، كلها مستعمرات إسلامية يجب أن تعود إلى أحضان الإسلام ، ويجب أن يعود البحر الأبيض والبحر الأحمر بحيرتين إسلاميتين كما كانتا من قبل , ولئن كان السنيور موسوليني يرى من حقه أن يعيد الإمبراطورية الرومانية ، وما تكونت هذه الإمبراطورية المزعومة قديما إلا على أساس المطامع والأهواء ، فإن من حقنا أن نعيد مجد الإمبراطورية الإسلامية التي قامت على العدالة والإنصاف ونشر النور والهداية ببن الناس.
7 - نريد بعد ذلك ومعه أن نعلن دعوتنا على العالم وان نبلغ الناس جميعا ، وأن نعم بها آفاق الأرض ، وأن نخضع لها كل جبار ، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ، ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم .
ولكل مرحلة من هذه المراحل خطواتها وفروعها ووسائلها، وإنما نجمل هنا القول دون إطالة ولا تفصيل ، والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ليقل القاصرون الجبناء أن هذا خيال عريق ووهم استولى على نفوس هؤلاء الناس ، وذلك هو الضعف الذي لا نعرفه ولا يعرفه الإسلام . ذلك هو الوهن الذي قذف في قلوب هذه الأمة فمكن لأعدائها فيها ، وذلك هو خراب القلب من الإيمان وهو علة سقوط المسلمين . وإنما نعلن في وضوح وصراحة أن كل مسلم لا يؤمن بهذا المنهاج ولا يعمل لتحقيقه لاحظ له في الإسلام ، فليبحث له عن فكرة أخرى يدين بها ويعمل لها.
يا شباب :
لستم أضعف ممن قبلكم ممن حقق الله على أيديهم هذا المنهاج فلا تهنوا وتضعفوا، وضعوا نصب أعينكم قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173) . سنربي أنفسنا ليكون منا الرجل المسلم ، وسنربي بيوتنا ليكون منها البيت المسلم ، وسنربى شعبنا ليكون منه الشعب المسلم؟ وسنكون من بين هذا الشعب المسلم ، وسنسير بخطوات ثابتة إلى تمام الشوط ، والى الهدف الذي وضعه الله لنا لا الذي وضعناه لأنفسنا، وسنصل بإذن الله وبمعونته ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولوكره الكافرون.
وقد أعددنا لذلك إيمانا لا يتزعزع ، وعملا لا يتوقف، وثقة بالله لا تضعف ، وأرواحا أسعد أيامها يوم تلقى الله شهيدة في سبيله.
فليكن ذلك من صميم السياسة الداخلية والخارجية ، فإنما نستمد ذلك من الإسلام، ونجد بأن هذا التفريق بين الدين والسياسة ليس من تعاليم الإسلام الحنيف ، ولا يعرفه المسلمون الصادقون في دينهم الفاهمون لروحه وتعاليمه، فليهجرنا من يريد تحويلنا عن هذا المنهاج فإنه خصم للإسلام أو جاهل به، وليس له سبيل إلا أحد هذين الوضعين.
مـن هـم الإخوان المسلمين؟
أيها الشباب: يخطئ من يظن أن جماعة الإخوان المسلمين (جماعة دراويش) قد حصروا أنفسهم في دائرة ضيقة من العبادات الإسلامية ، كل همهم صلاة وصوم وذكر وتسبيح. فالمسلمون الأولون لم يعرفوا الإسلام بهذه الصورة، ولم يؤمنوا به على هذا النحو؟ ولكنهم آمنوا به عقيدة وعبادة، ووطنا وجنسية ، وخلقا ومادة ، وثقافة وقانونا ، وسماحة و قوة . واعتقدوه نظاما كاملا يفرض نفسه على كل مظاهر الحياة وينظم أمر الدنيا كما ينظم الآخرة . اعتقدوه نظاما عمليا وروحيا معا فهو عندهم دين ودولة ، ومصحف وسيف . وهم مع هذا لا يهملون أمر عبادتهم ولا يقصرون في أداء فرائضهم لربهم ، يحاولون إحسان الصلاة ويتلون كتاب الله ، ويذكرون الله تبارك وتعالى على النحو الذي أمر به وفي الحدود التي وضعها لهم، في غير غلو ولا سرف ، فلا تنطع ولا تعمق ، وهم أعرف بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم : (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى) ، وهم مع هذا يأخذون من دنياهم بالنصيب الذي لا يضر بآخرتهم، ويعلمون قول الله تبارك وتعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (لأعراف:32) .
و إن الإخوان ليعلمون أن خير وصف لخير جماعة هو وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم : (رهبان في الليل فرسان في النهار) ، وكذلك يحاولون أن يكونوا والله المستعان.
ويخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين يتبرمون بالوطن والوطنية، فالمسلمون أشد الناس إخلاصا لأوطانهم وتفانيا في خدمة هذه الأوطان واحتراما لكل من يعمل لها مخلصا، وها قد علمت إلى أي حد يذهبون في وطنيتهم والى أي عزة يبغون بأمتهم . ولكن الفارق بين المسلمين وبين غيرهم من دعاة الوطنية المجردة أن أساس وطنية المسلمين العقيدة الإسلامية. فهم يعملون لوطن مثل مصر ويجاهدون في سبيله ويفنون في هذا الجهاد لان مصر من أرض الإسلام وزعيمة أممه؟ كما أنهم لا يقفون بهذا الشعور عند حدودها بل يشركون معها فيه كل أرض إسلامية وكل وطن إسلامي ، على حين يقف كل وطني مجرد عند حدود أمته ولا يشعر بفريضة العمل للوطن إلا عن طريق التقليد أو الظهور أو المباهاة أو المنافع، لا عن طريق الفريضة المنزلة من الله على عباده . وحسبك من وطنية الإخوان المسلمين أنهم يعتقدون عقيدة جازمة لازمة أن التفريط في أي شبر أرض يقطنه مسلم جريمة لا تغتفر حتى يعيدوه أو يهلكوا دون إعادته، ولا نجاة لهم من الله إلا بهذا. ويخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين دعاة كسل أو إهمال، فالإخوان يعلنون في كل أوقاتهم أن المسلم لا بد أن يكون إماما في كل شيء ، ولا يرضون بغير القيادة والعمل والجهاد والسبق في كل شيء ، في العلم وفي القوة وفي الصحة وفي المال. والتأخر في أية ناحية من النواحي ضار بفكرتنا مخالف لتعاليم ديننا ، ونحن مع هذا ننكر على الناس هذه المادية الجارفة التي تجعلهم يريدون أن يعيشوا لأنفسهم فقط وأن ينصرفوا بمواهبهم وأوقاتهم وجهودهم إلى الأنانية الشخصية ، فلا يعمل أحدهم لغيره شيئا ولا يعنى من أمر أمته بشيء ، والنبي صلى الله عليه و سلم يقول: (من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم) ، كما يقول: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء).
ويخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين دعاة تفريق عنصري بين طبقات الأمة فنحن نعلم أن الإسلام عني أدق العناية باحترام الرابطة الإنسانية العامة بين بني الإنسان في مثل . قوله تعالى: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (البقرة:285) . وقد حرم الإسلام الاعتداء حتى في حالات الغضب والخصومة فقال تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة:8) .
وأوصى بالبر والإحسان بين المواطنين وإن اختلفت عقائدهم وأديانهم: (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة:8).
كما أوصى بإنصاف الذميين وحسن معاملتهم: ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا ). نعلم كل هذا فلا ندعو إلى فرقة عنصرية ، ولا إلى عصبية طائفية . ولكننا إلى جانب هذا لا نشتري هذه الوحدة بإيماننا ولا نساوم في سبيلها على عقيدتنا ولا نهدر من أجلها مصالح المسلمين ، وإنما نشتريها بالحق والإنصاف والعدالة وكفى. فمن حاول غير ذلك أوقفناه عند حده وأبنا له خطأ ما ذهب إليه: ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين. ويخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين يعملون لحساب هيئة من الهيئات أو يعتمدون على جماعة من الجماعات . فالإخوان المسلمون يعملون لغايتهم على هدى من ربهم، وهي الإسلام وأبناؤه في كل زمان ومكان ، وينفقون مما رزقهم الله ابتغاء مرضاته، ويفخرون بأنهم إلى الآن لم يمدوا يدهم إلى أحد ولم يستعينوا بفرد ولا هيئة ولا جماعة.
أيها الشباب:
على هذه القواعد الثابتة وإلى هذه التعاليم السامية ندعوكم جميعا. فإن آمنتم بفكرتنا ، واتبعتم خطواتنا ، وسلكتم معنا سبيل الإسلام الحنيف ، وتجردتم من كل فكرة سوى ذلك ، ووقفتم لعقيدتكم كل جهودكم فهو الخير لكم في الدنيا والآخرة ، وسيحقق الله بكم إن شاء الله ما حقق بأسلافكم في العصر الأول ، وسيجد كل عامل صادق منكم في ميدان الإسلام ما يرضى همته ويستغرق نشاطه إذا كان من الصادقين . وإن أبيتم إلا التذبذب والاضطراب ، والتردد بين الدعوات الحائرة والمناهج الفاشلة ، فإن كتيبة الله ستسير غير عابئة بقلة ولا بكثرة : (وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (آل عمران:126).
مـهـمّتنـا
بِسْــمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـمِ
الحمد لله , وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
أحييكم بتحية الإسلام تحية من عند الله مباركة طيبة , فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أيها الإخوان المسلمون ...
أيها الناس أجمعون ...
في هذا الصخب الداوي من صدى الحوادث الكثيرة المريرة , التي تلدها الليالي الحبالى في هذا الزمان ,وفي هذا التيار المتدفق الفياض من الدعوات التي تهتف بها أرجاء الكون , وتسري بها أمواج الأثير في أنحاء المعمورة , مجهزة بكل ما يغري و يخدع من الآمال والوعود والمظاهر .
نتقدم بدعوتنا نحن الإخوان المسلمون ...
هادئة ...
لكنها أقوى من الزوابع العاصفة ...
متواضعة ...
لكنها أعز من الشم الرواسي ...
محدودة ...
لكنها أوسع من حدود هذه الأقطار الأرضية جميعاً ..
خالية من المظاهر والبهرج الكاذب ...
ولكنها محفوفة بجلال الحق ، وروعة الوحي ، ورعاية الله ...
مجردة من المطامع والأهواء والغايات الشخصية والمنافع الفردية ، ولكنها تورث المؤمنين بها والصادقين في العمل لها السيادة في الدنيا والجنة في الآخرة .
على ضـوء الدعـوة الأولـى
أيها الإخوان المسلمون ...
أيها الناس أجمعون ...
اسمعوها صريحة داوية , يجلجل بها صوت الداعي الأول من بعد كما جلجل بها من قبل : (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ , قُمْ فَأَنْذِرْ , وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) (المدثر:3) .
ويدوي معها سر قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر:94) . ويهتف بها لسان الوحي مخاطبا الناس أجمعين : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (لأعراف:158)
أين نحن من تعاليم الإسلام؟
أيها الإخوان المسلمون ...
أيها الناس أجمعون ...
إن الله بعث لكم إماماً ، ووضع لكم نظاماً ، وفصل أحكاماً ، وأنزل كتاباً ، وأحل حلالاً ، وحرم حراماً ، وأرشدكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم ، وهداكم سواء السبيل ؛ فهل اتبعتم إمامه ، واحترمتم نظامه ، وأنفذتم أحكامه ، وقدستم كتابه ، وأحللتم حلاله ، وحرمتم حرامه؟
كونوا صرحاء في الجواب ، وسترون الحقيقة واضحة أمامكم ، كل النظم التي تسيرون عليها في شؤونكم الحيوية نظم تقليدية بحتة لا تتصل بالإسلام ، ولا تستمد منه ولا تعتمد عليه :
نظام الحكم الداخلي.
نظام العلاقات الدولية.
نظام القضاء.
نظام الدفاع والجندية.
نظام المال والاقتصاد للدولة والأفراد.
نظام الثقافة والتعليم.
بل نظام الأسرة والبيت.
بل نظام الفرد في سلوكه الخاص.
الروح العام الذي يهيمن على الحاكمين والمحكومين ، ويشكل مظاهر الحياة على اختلافها ، كل ذلك بعيد عن الإسلام وتعاليم الإسلام.
وماذا بقي بعد هذا؟
هذه المساجد الشامخة القائمة التي يعمرها الفقراء والعاجزون ، فيؤدون فيها ركعات خالية من معاني الروحانية والخشوع إلا من هدَى الله؟
هذه الأيام التي تصام في العام فتكون موسماً للتعطل والتبطل والطعام والشراب ، وقلما تتجدد فيها نفس أو تزكو بها روح..
(إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) (صّ:24) .
هذه المظاهر الخادعة من المسابح والملابس ، واللحى والمراسم ، والطقوس والألفاظ والكلمات..
أهذا هو الإسلام الذي أراده الله أن يكون رحمته العظمى ، ومنته الكبرى على العالمين؟
أهذا هدي محمد صلى الله عليه وسلم الذي أراد به أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور؟
أهذا هو تشريع القرآن الذي عالج أدواء الأمم ومشكلات الشعوب ، ووضع للإصلاح أدق القواعد وأرسخ الأصول؟ موجة التقليد الغربي
أيها الإخوان المسلمون ...
بل أيها الناس أجمعون ...
من الحق أن نعترف بان موجة قوية جارفة وتيارا شديدا دفاقا قد طغى على العقول والأفكار في غفلة من الزمن , وفي غرور من أمم الإسلام , وانغماس منهم في الترف والنعيم .. فقامت مبادئ ودعوات , وظهرت نظم وفلسفات , وتأسست حضارات ومدنيات , ونافست هذه كلها فكرة الإسلام في نفوس أبنائها , وغزت أممه في عقر دارها , وأحاطت بهم من كل مكان , ودخلت عليهم بلدانهم وبيوتهم ومخادعهم , بل احتلت قلوبهم وعقولهم ومشاعرهم , وتهيأت لها من أسباب الإغواء والإغراء والقوة والتمكن ما لم يتهيأ لغيرها من قبل , واجتاحت أمما إسلامية بأسرها , وانخدعت بها دول كانت في الصميم والذؤابة من دول الإسلام , وتأثر ما بقي تأثرا بالغا , ونشأ في كل الأمم الإسلامية جيل مخضرم , إلى غير الإسلام أقرب , تصدّر في تصريف أمورها واحتل مكان الزعامة الفكرية والروحية والسياسية والتنفيذية منها , فدفع بالشعوب مغافلة إلى ما يريد , بل إلى ما ألف وهي لا تدري ما تدري ما يراد بها ولا ما تصير إليه , وارتفعت أصوات الدعاة إلى الفكرة الطاغية : أن خلصونا مما بقي من الإسلام وآثار الإسلام , وتقبلوا معنا راضين لا كارهين مستلزمات هذه الحياة وتكاليفها وأفكارها ومظاهرها , واطرحوا بقية الفكرة البالية من رؤوسكم ونفوسكم , ولا تكونوا مخادعين منافقين معاندين , تعملون عمل الغربيين وتقولون قول المسلمين .
من الحق أن نعرف أننا بعدنا عن هدي الإسلام وأصوله وقواعده ، والإسلام لا يأبى أن نقتبس النافع وأن نأخذ الحكمة أنى وجدناها ، ولكنه يأبى كل الإباء أن نتشبه في كل شيء بمن ليسوا من دين الله على شيء ، وأن نطرح عقائده وفرائضه وحدوده وأحكامه ، لنجري وراء قوم فتنتهم الدنيا واستهوتهم الشياطين.
حقاً لقد تقدم العلم ، وتقدم الفن ، وتقدم الفكر ، وتزايد المال، وتبرجت الدنيا ، وأخذت الأرض زخرفها وازينت ، وأترف الناس ونعموا ؛ ولكن هل جلب شيء من هذا السعادة لهم؟ وهل أمن لهم شيء من هذا الحياة ، أو ساق إلى نفوسهم الهدوء والطمأنينة؟
هل اطمأنت الجنوب في المضاجع؟
هل جفت الجفون من المدامع؟
هل حوربت الجريمة ، واستراح المجتمع من شرور المجرمين؟
هل استغنى الفقراء وأشبعت الملايين التي تفوق الحصر بطون الجائعين؟
هل ساقت هذه الملاهي والمفاتن ، التي ملأت الفضاء وسرت مسرى الهواء ، العزاء إلى المحزونين؟
هل تذوقت الشعوب طعم الراحة والهدوء ، وأمنت عدوان المعتدين وظلم الظالمين؟
لا شيء من هذا أيها الناس ، فما فضل هذه الحضارة إذن على غيرها من الحضارات؟
وهل هذا فحسب؟
ألسنا نرى هذه النظم والتعاليم والفلسفات حتى في العلوم والأرقام يحطم بعضها بعضا , ويقضي بعضها على بعض , ويرجع الناس بعد طول التجربة وعظيم التضحيات فيها بمرارة الفشل وخيبة الأمل وألم الحرمان؟
مـهـمّتنـا
ما مهمتنا إذاً نحن الإخوان المسلمين؟
أما إجمالا : فهي أن نقف في وجه هذه الموجة الطاغية من مدنية المادة ,وحضارات المتع والشهوات ,التي جرفت الشعوب الإسلامية , فأبعدتها عن زعامة النبي وهداية القرآن , وحرمت العالم من أنوار هديها , وأخرت تقدمه مئات السنين , حتى تنحسر عن أرضنا ويبرأ من بلائها قومنا , ولسنا واقفين عند هذا الحد بل سنلاحقها في أرضها , وسنغزوها في عقر دارها , حتى يهتف العالم كله باسم النبي , وتوقن الدنيا كلها بتعاليم القرآن , وينتشر ظل الإسلام الوارف على الأرض , وحينئذ يتحقق للمسلم ما ينشده ,فلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله و (للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ , بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:5) .
هذه مهمتنا نحن الإخوان المسلمين إجمالا.
وأما في بعض تفاصيلها : فهي أن يكون في مصر أولا – بحكم أنها في المقدمة من دول الإسلام وشعوبه – ثم في غيرها كذلك :
ـ نظام داخلي للحكم يتحقق به قول الله تبارك وتعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) (المائدة:49) .
ـ ونظام للعلاقات الدولية يتحقق به قول القرآن الكريم : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة:143) .
ـ ونظام عملي للقضاء يستمد من الآية الكريمة : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65).
ـ ونظام للدفاع والجندية يحقق مرمى النفير العام : (انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) (التوبة:41) .
ـ ونظام اقتصادي استقلالي للثروة والمال والدولة والأفراد أساسه قول الله تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء:5) . ـ ونظام للثقافة والتعليم يقضي على الجهالة والظلام , ,ويطابق جلال الوحي في أول آية من كتاب الله : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1) .
ـ ونظام الأسرة والبيت ينشئ الصبي المسلم والفتاة المسلمة والرجل المسلم ويحقق قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم:6) . ـ ونظام للفرد في سلوكه الخاص يحقق الفلاح المقصود بقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (الشمس:9) .
ـ وروح عام يهيمن على كل فرد في الأمة من حاكم أو محكوم قوامه قول الله تعالى : (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ) (القصص:77) .
نحن نريد:
ـ الفرد المسلم ...
ـ والبيت المسلم ...
ـ والشعب المسلم ...
ـ والحكومة المسلمة ...
ـ والدولة التي تقود الدول الإسلامية ، وتضم شتات المسلمين ، وتستعيد مجدهم ، وترد عليهم أرضهم المفقودة وأوطانهم المسلوبة وبلادهم المغصوبة ، ثم تحمل علم الجهاد ولواء الدعوة إلى الله ، حتى تسعد العالم بتعاليم الإسلام.
عـدتنــا
هذه غايتنا أيها الناس ... وهذا منهاجنا
فما عدتنا لتحقيق هذا المنهاج ؟
عدتنا هي عدة سلفنا من قبل , والسلاح الذي غزا به زعيمنا وقدوتنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته معه العالم , مع قلة العدد وقلة المورد وعظيم الجهد :
, هو السلاح الذي سنحمله لنغزو به العالم من جديد .
لقد آمنوا أعمق الإيمان وأقواه وأقدسه وأخلده :
ـ بالله ونصره وتأييده : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ) (آل عمران:160) .
ـ وبالقائد وصدقه وإمامته : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب:21).
ـ وبالمنهاج ومزيته وصلاحيته : (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ , يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) (المائدة:15-16) .
ـ وبالإخاء وحقوقه وقدسيته : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10) .
ـ وبالجزاء وجلاله وعظمته وجزالته : (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (التوبة:120) .
ـ وبأنفسهم : فهم الجماعة التي وقع عليها اختيار القدر لإنقاذ العالمين , وكتب لهم الفضل بذلك ,فكانوا خير أمة أخرجت للناس .
لقد سمعوا المنادي ينادي للإيمان فآمنوا , ونحن نرجو أن يحبب الله إلينا هذا الإيمان , ويزينه في قلوبنا كما حببه إليهم وزينه من قبل في قلوبهم ...فالإيمان أول عدتنا .
ولقد علموا أصدق العلم وأوثقه أن , أن دعوتهم هذه لا تنتصر إلا بالجهاد , والتضحية والبذل وتقديم النفس والمال , فقدموا النفوس وبذلوا الأرواح ,وجاهدوا في الله حق جهاده , وسمعوا هاتف الرحمن يهتف بهم : (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (التوبة:24) . فأصاخوا للنذير , وخرجوا عن كل شيء , طيبة بذلك نفوسهم , راضية قلوبهم , مستبشرين ببيعهم الذي بايعوا الله به .
يعانق أحدهم الموت وهو يهتف : ركضا إلى الله بغير زاد .
ويبذل أحدهم المال كله قائلا : تركت لعيالي الله ورسوله .
ويخطر أحدهم والسيف على عنقه : ولست أبالي حين اقتل مسلما عن أي جنب كان في الله مصرعي
كذلك كانوا : صدق جهاد , وعظيم تضحية , وكبير بذل , وكذلك نحاول أن نكون ... فالجهاد من عدتنا كذلك .
ونحن بعد هذا كله واثقون بنصر الله , مطمئنون إليه : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ , الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:40-41) .
بين الخيال و الحقيقة
سيقول الذين يسمعون هذا إنه الخيال بعينه وإنه الوهم , وإنه الغرور .
وأنّى لهؤلاء الذين لا يملكون إلا الإيمان والجهاد أن يقاوموا هذه القوى المتآلبة المجتمعة , والأسلحة المتنوعة المختلفة , وأن يصلوا إلى حقهم ,وهم بين ذراعي و جبهة الأسد ؟ سيقول كثيرون هذا , و لعل لهم بعض العذر ,فهم قد يئسوا من أنفسهم , ويئسوا من صلتهم بالقوي القادر , أما نحن فنقول إنها الحقيقة التي نؤمن بها ونعمل لها , ونحن نقرأ قول الله تعالى : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لا يَرْجُونَ) (النساء:104) .
وإن الذين فتحوا أقطار الدنيا , ومكن الله لهم في الأرض من أسلافنا لم يكونوا أكثر عددا , ولا أعظم عدة , ولكنهم مؤمنون مجاهدون , ونحن سنعتد اليوم بما اعتد به رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قال يبشر خبابا : (والله ليتمن هذا الأمر ، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله و الذئب على غنمه) وكانوا إذ ذاك يستترون.
ويوم وعد سراقة بن مالك سوار كسرى , وكان مهاجرا بدينه ليس معه إلا الله وصاحبه .
ويوم هتف مطلعا على قصور الروم البيضاء , وقد حاصره المشركون في مدينته بجنود من فوقهم ومن أسفل منهم : (وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) (الأحزاب:10) .
ثم ماذا كان بعد ذلك .....؟؟
كان أن أصغى مسمع الدهر لدعوة رسول الله , وترددت في فم الزمان آيات قرآنية , وأشرقت شموس الهداية في كل مكان من قلوب أصحابه وأتباعه , وعمّ الكون نور , ورفرف على الدنيا سلام , وتذوقت الإنسانية حلاوة السعادة بعدالة الحكم , , وأمن المحكوم في ظل هذا الرعيل الأول من تلامذة محمد صلوات الله عليه وسلامه , وفتحت قصور الروم , ودانت مدائن الفرس , ومدت الأرض بأعناقها , وألقت بجرانها وزويت أكنافها , واستسلمت مختارة للهداية المنقذة , ترف عليها أنفاس النبوة , وتمازجها أنفاس الوحي المقدس , وتحققت بها رحمة الله من كل جانب : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً , وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً , وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (الأحزاب:25-27) .
سنعتد أيها الناس اليوم بهذه العدة , وسننتصر كما انتصر أسلافنا بالأمس القريب , وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم و وسيتحقق لنا وعد الله تبارك وتعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ , وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ) (القصص:5-6) . (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60) .
لو كانت لنا حكومة
لو كانت لنا حكومة إسلامية صحيحة الإسلام , صادقة الإيمان , مستقلة التفكير والتنفيذ , تعلم حق العلم عظمة الكنز الذي بين يديها , وجلال النظام الإسلامي الذي ورثته , وتؤمن بان فيه شفاء شعبها و وهداية الناس جميعا ... لكان لنا أن نطلب إليها أن تدعم الدنيا باسم الإسلام , وأن تطالب غيرها من الدول بالبحث والنظر فيه , وأن تسوقها سوقا إليه بالدعوات المتكررة والإقناع والدليل والبعثات المتتالية , وبغير ذلك من وسائل الدعوة والإبلاغ , ولاكتسبت مركزا روحيا وسياسيا وعمليا بين غيرها من الحكومات , ولاستطاعت أن تجدد حيوية الشعب , وتدفع به نحو المجد والنور , وتثير في نفسه الحماسة والجد والعمل .
عجيب أن تجد الشيوعية دولة تهتف بها , وتدعو إليها , وتنفق في سبيلها , وتحمل الناس عليها , وأن تجد الفاشية والنازية أمما تقدسها , وتجاهد لها ,وتعتز باتباعها , وتخضع كل النظم الحيوية لتعاليمها , وأن تجد المذاهب الاجتماعية والسياسية المختلفة أنصار أقوياء , يقفون عليها أرواحهم وعقولهم وأفكارهم وأقلامهم وأموالهم وصحفهم وجهودهم , ويحيون ويموتون لها.
ولا نجد حكومة إسلامية تقوم بواجب الدعوة إلى الإسلام , الذي جمع محاسن هذه النظم جميعا وطرح مساوئها , وتقدمه لغيرها من الشعوب كنظام عالمي فيه الحل الصحيح الواضح المريح لكل مشكلات البشرية , مع أن الإسلام جعل الدعوة فريضة لازمة , وأوجبها على المسلمين شعوبا وجماعات قبل أن تخلق هذه النظم , وقبل أن يعرف فيها نظام الدعايات : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104) .
ولكن أنّى لحكامنا هذا , وهم جميعا قد تربوا في أحضان الأجانب , ودانوا بفكرتهم , على آثارهم يهرعون , وفي مرضاتهم يتنافسون ؟ ولعلنا لا نكون مبالغين إذا قلنا إن الفكرة الاستقلالية في تصريف الشؤون والأعمال لم تخطر ببالهم ,فضلا عن أن تكون منهاج عملهم.
لقد تقدمنا بهذه الأمنية إلى كثير من الحاكمين في مصر , وكان طبيعيا ألا يكون لهذه الدعوة اثر عملي , فإن قوما فقدوا الإسلام في أنفسهم وبيوتهم وشؤونهم الخاصة والعامة لأعجز من أن يفيضوه على غيرهم , ويتقدموا بدعوة سواهم إليه , وفاقد الشيء لا يعطيه .
ليست هذه مهمتهم أيها الإخوان , فقد أثبتت التجارب عجزهم المطلق عن أدائها , ولكنها مهمة هذا النشء الجديد , فأحسنوا دعوته , وجدوا في تكوينه ,وعلموه استقلال النفس والقلب , واستقلال الفكر والعقل , واستقلال الجهاد والعمل , واملأوا روحه الوثابة بجلال الإسلام وروعة القرآن , وجنّدوه تحت لواء محمد ورايته , وسترون منه في القريب الحاكم المسلم الذي يجاهد نفسه ويسعد غيره .
طبيعة فكرتنـا
أيها الإخوان المسلمون ...
بل أيها الناس أجمعون ...
لسنا حزباً سياسياً , وإن كانت السياسة على قواعد الإسلام من صميم فكرتنا..
ولسنا جمعية خيرية إصلاحية ، وإن كان عمل الخير والإصلاح من أعظم مقاصدنا..
ولسنا فرقاً رياضية ، وإن كانت الرياضة البدنية والروحية من أهم وسائلنا..
لسنا شيئاً من هذه التشكيلات ، فإنها جميعاً تبررها غاية موضعية محدودة لمدة معدودة ، وقد لا يوحي بتأليفها إلا مجرد الرغبة في تأليف هيئة ، والتحلي بالألقاب الإدارية فيها.
ولكننا أيها الناس : فكرة وعقيدة ، ونظام ومنهاج ، لا يحدده موضع , ولا يقيده جنس ، ولا يقف دونه حاجز جغرافي ، ولا ينتهي بأمر حتى يرث الله الأرض ومن عليها , ذلك لأنه نظام رب العالمين ، ومنهاج رسوله الأمين .
نحن أيها الناس ـ ولا فخر ـ أصحاب رسول الله ، وحملة رايته من بعده ، ورافعو لوائه كما رفعوه ، وناشرو لوائه كما نشروه ، وحافظو قرآنه كما حفظوه ، والمبشرون بدعوته كما بشروا ، ورحمة الله للعالمين (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (صّ:88) .
أيها الإخوان المسلمون :
هذه منزلتكم , فلا تصغروا في أنفسكم , فتقيسوا أنفسكم بغيركم , أو تسلكوا في دعوتكم سبيلا غير سبيل المؤمنين , أو توازنوا بين دعوتكم التي تتخذ نورها من نور الله ومنهاجها من سنة رسوله , بغيرها من الدعوات التي تبررها الضرورات , وتذهب بها الحوادث والأيام .
لقد دعوتم وجاهدتم , ولقد رأيتم ثمار هذا المجهود الضئيل أصواتا تهتف بزعامة رسول الله وهيمنة نظام القرآن , ووجوب النهوض للعمل , وتخليص الغاية لله , ودماء تسيل من شباب طاهر كريم في سبيل الله , ورغبة صادقة للشهادة في سبيل الله . وهذا نجاح فوق ما كنتم تنتظرون , فواصلوا جهودكم , واعملوا , (وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد:35) .
فمن تبعنا الآن فقد فاز بالسبق , ومن تقاعد عنا من المخلصين اليوم فسيلحق بنا غدا , وللسابق عليه الفضل . ومن رغب عن دعوتنا , زهادة , أو سخرية بها , أو استصغارا لها , أو يائسا من انتصارها , فستثبت له الأيام عظيم خطأه , وسيقذف الله بحقنا على باطله فيدمغه فإذا هو زاهق.
فإلينا أيها المؤمنون العاملون , والمجاهدون المخلصون , فهنا الطريق السوي , والصراط المستقيم , ولا توزعوا القوى والجهود .
(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153) .
من هم الإخوان المسلمون؟
بِسْــمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـمِ
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ
والصلاة والسلام علي سيدنا محمد إمام المجاهدين وعلي آله وصحبه ومن جاهد في سبيل دعوته إلى يوم الدين
من هم الإخوان المسلمون؟
أيها الإخوان المسلمون :
بعد عامين من مؤتمركم الماضي بدار آل لطف الله (في الثالث عشر من ذي الحجة سنة 1357 هجرية ) دار فيهما الفلك دورته ، ورأي العالم فيها مختلف الأحداث والظروف ، وانفجر أخيراً (مخزن البارود) ، ودوي علي الأرض من جديد نفير الحرب بعد أن زعم أهلوها أنهم قد أقروا فيها السلام ، تجتمعون الآن ـ أيها الإخوان ـ لتراجعوا صفحة أعمالكم ، ولتبينوا مراحل منهاجكم ، ولتتحدثوا إلى أنفسكم وإلي الناس عن دعوتكم من جديد ، لعل في ذلك تبصرة وذكري ، والذكري تنفع المؤمنين .
أيها الإخوان المجاهدون الذين اجتمعت الليلة من أقصي مصر المباركة إلى أقصاها ..
أحب أن تتبينوا جيداً من أنتم في أهل هذا العصر ؟ .. وما دعوتكم بين الدعوات .. وأية جماعة جماعتكم .. ولأي معني جمع الله بينكم ووحد قلوبكم ووجهتكم ، وأظهر فكرتكم في هذا الوقت العصيب الذي تتلهف فيه الدنيا إلى دعوة السلام والإنقاذ .
فاذكروا جيداً أيها الاخوة .. أنكم الغرباء الذين يصلحون عند فساد الناس ، وأنكم العقل الجديد الذي يريد الله أن يفرق به بين الحق والباطل في وقت التبس عليها فيه الحق بالباطل ، وأنكم دعاة الإسلام ، وحملة القرآن ، وصلة الأرض بالسماء ، وورثه محمد r وخلفاء صحابته من بعده ، فضلت دعوتكم الدعوات ، وسمت غايتكم علي الغايات ، واستندتم إلى ركن شديد ، واستمسكتم بعروة وثقي لا انفصام له ، وأخذتم بنور مبين وقد التبست علي الناس المسالك وضلوا سواء السبيل , والله غالب على أمره.
تجــرد
واذكروا جيداً أيها الإخوان أنه ما من رجل منكم ـ أومن إخوانكم الذين حبسهم العذر عن حضور مؤتمركم ـ يرجو بمناصرة هذه الدعوة والعمل تحت رايتها غاية من غايات الدنيا أو عرضاً من أعراضها ، وأنكم تبذلون من ذات أنفسكم وذات يدكم ، لا تعتمدون إلا علي الله ، ولا تستمدون المعونة والتأييد إلا منه ، ولا ترجون إلا ثوابه ولا تبتغون إلا وجهه , (وَكَفَى بِاللهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللهِ نَصِيراً) (النساء:45)
فهــم
واذكروا جيداً أيها الإخوان .. أن الله قد من عليكم ، ففهمتم الإسلام فهماً نقياً صافياً ، سهلاً شاملاً ، كافياً ووافياً ، يساير العصور ويفي بحاجات الأمم ، ويجلب السعادة للناس ، بعيداً عن جمود الجامدين وتحلل الإباحيين وتعقيد المتفلسفين ، لا غلو فيه ولا تفريط ، مستمداً من كتاب الله وسنة رسوله وسيرة السلف الصالحين استمداداً منطبقاً منصفاً ، بقلب المؤمن الصادق ، وعقل الرياضي الدقيق ، وعرفتموه علي وجهه : عقيدة وعبادة ، ووطن وجنس ، وخلق ومادة ، وسماحة وقوة ، وثقافة وقانون . واعتقدتموه علي حقيقته : دين ودولة ، وحكومة وأمة ، ومصحف وسيف ، وخلافة من الله للمسلمين في أمم الأرض أجمعين : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة:143) .
أُخــوّة
واذكروا جيداً أيها الإخوان .. أن كل شعبة من شعبكم وحدة متصلة الروح مؤتلفة القلوب ، جمعتها الغاية السامية علي هدف واحد وأمل واحد وألم واحد وجهاد واحد ، وأن هذه الوحدات المؤتلفة يرتبط بعضها ببعض ويتصل بعضها ببعض ويحن بعضها إلى بعض ويقدر بعضها بعضاً ، وتشعر كل أمة منها أنها لا تتم إلا باخوتها ولا تكمل أخوتها إلا بها ، كلبنات البناء المرصوص يشد بعضه بعضاً ، وأنها جميعاً ترتبط بمركزها العام أوثق ارتباط وأسماه وأعلاه ، روحياً وإدارياً وعملياً ومظهرياً ، وتدور حوله كما تدور المجموعة المتماسكة من الكواكب المنيرة حول محورها الجاذب وأصلها الثابت ، لتحقق بذلك قول الله تبارك وتعالي : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10) .
جـهاد
واذكروا جيداً أيها الأخوة أن الله تبارك وتعالي قد بارك جهادكم ونشر فكرتكم وجمع القلوب عليكم ، فلا يمر يوم حتى تتكون لكم شعب وينتصر لمبادئكم عدد غير قليل ممن كانوا يجهلونها أو ييأسون من نجاحها أو يتبرمون بها أو يكيدون لها ، وبذلك وصلت دعوتكم إلى مختلف الطبقات ، وتغلغلت في المجتمعات ، ووجدت الأتباع والأنصار في كل الأوساط البيئات :
ـ آلاف من الشباب المؤمن مستعدون للعمل والجهاد في سبيل الإصلاح الحق .
ـ دور في كل مكان مجهزة للدعوة والإرشاد والتوجيه الصالح .
ـ فرق منظمة تزاول الرياضة البدنية والروحية بلذة وشغف وسرور .
ـ شعب منبثة في القرى والكفور والنجوع والمدن والحواضر تربو علي الخمسمائة تتعاون وتتكاتف وتتسابق في الخيرات .
ـ ألسنة وأقلام مفصحة مبينة تكشف للناس عن جمال الإسلام وروعة الإسلام وحقائق الإسلام.
ـ بعثات مستمرة تنفر في سبيل الله لتتفقه في الدين ولتعلمه الناس .
هذه بعض آثار جهادكم أيها الإخوان ترونها واضحة تتضاعف وتزداد : (ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) (الأنعام:88) .
تضـحية
واذكروا جيداً أيها الإخوة أن دعوتكم أعف الدعوات ، وأن جماعتكم أشرف الجماعات ، وأن مواردكم من جيوبكم لا من جيوب غيركم ، ونفقات دعوتكم من قوت أولادكم ومخصصات بيوتكم وأن أحداً من الناس أو هيئة من الهيئات أو حكومة من الحكومات , أو دولة من الدول .. لا تستطيع أن تجد لها في ذلك منة عليكم , وما ذلك بكثير على دعوة أقل ما يطلب من أهلها النفس والمال : (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة:111) .
إخـلاص
اذكروا هذا جيدا ـ أيها الإخوان ـ لا للفخر و لا للمباهاة , ولكن لتعلموا أن الله قد كتب لدعوتكم من الإيمان والإخلاص والفهم والوحدة والتأييد والتضحية ما لم يكتبه لكثير من الدعوات الرائجة السوق , العالية البوق , الفخمة المظاهر , وتلك الصفات هي دعائم الدعوات الصالحة . فاجتهدوا أن تحرصوا عليها كاملة ، وأن تزيدوها في أنفسكم ثباتاً وقوة ، واعلموا أنه ليس لكم في ذلك فضل ولا منة , (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17).
هـل نحن قوم غـامضون؟
أيها الإخوان المسلمين ..
بعد اثني عشرة عاماً مضت وأنتم تجهرون بدعوتكم وتبلغونها للناس , لا زال هناك فريق يتساءل عن الإخوان المسلمين , ويراهم أمامه جماعة غامضة , فهل أنتم قوم غامضون؟ وسأجيب على هذا السؤال بصراحة ووضوح . وسأتكلم عن غاية الإخوان المسلمين , وعن وسيلتهم وعن موقفهم من الهيئات المختلفة , وعن موقفهم في هذه الظروف الحاضرة التي تظلل الناس حوادثها . والكثير منكم أحاط بذلك علما , وقد سبق لنا أن فصلناه في رسائل الإخوان وكتاباتهم ومحاضراتهم , وإنما نذكر ذلك الآن في إيجاز تذكرة للغافل وتعليما لمن لم يكن يعلم .
غاية الإخوان المسلمين
يعمل الإخوان المسلمون لغايتين : غاية قريبة يبدو هدفها وتظهر ثمرتها لأول يوم ينضم فيه الفرد إلى الجماعة , أو تظهر الجماعة الإخوانية فيه في ميدان العمل العام . وغاية بعيدة لابد فيها من ترقب الفرص وانتظار الزمن وحسن الإعداد وسبق التكوين .
فأما الغاية الأولى فهي مساهمة في الخير العام أيا كان لونه ونوعه , والخدمة الاجتماعية كلما سمحت بها الظروف .
يتصل الأخ بالإخوان , فيكون مطالبا بتطهير نفسه وتقويم مسلكه وإعداد روحه وعقله وجسمه للجهاد الطويل الذي ينتظره في مستقبل الأيام , ثم هو مطالب بأن يشيع هذه الروح في أسرته وأصدقائه وبيئته , فلا يكون الأخ أخا مسلما حقا حتى يطبق على نفسه أحكام الإسلام وأخلاق الإسلام , ويقف عند حدود الأمر والنهي التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا , فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا , قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا , وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:7-10) .
وتتكون الجماعة من جماعات الإخوان ، فتتخذ داراً وتعمل علي تعليم الأميين وتلقين الناس أحكام الدين وتقوم بالوعظ والإرشاد والإصلاح بين المتخاصمين ، وإقامة المنشآت النافعة من مدارس ومعاهد و مستوصفات ومساجد في حدود مقدرتها والظروف التي تحيط بها ، وكثير من شعب الإخوان ينهض بهذه الواجبات يؤديها غلي حالة مرضية من حسن الأداء .
فهل هذا ما يريده الإخوان المسلمون ويجهزون أنفسهم له ويأخذونها به ؟!
لا أيها الإخوان ليس هذا ك ما نريد ، هو بعض ما نريد ابتغاء مرضاة الله .. هو الهدف الأول القريب ، صرف الوقت في طاعة وخير حتى يجيء الظرف المناسب وتحين ساعة العمل للإصلاح الشامل المنشود .
أما غاية الإخوان الأساسية .. أما هدف الإخوان الأسمى .. أما الإصلاح الذي يريده الإخوان ويهيؤن له أنفسهم .. فهو إصلاح شامل كامل تتعاون عليه قوي الأمة جميعاً وتتجه نحوه الأمة جميعاً ويتناول كل الأوضاع القائمة بالتغيير والتبديل .
إن الإخوان المسلمين يهتفون بدعوة ، ويؤمنون بمنهاج ، ويناصرون عقيدة ، ويعملون في سبيل إرشاد الناس إلى نظام اجتماعي يتناول شؤون الحياة جميعاً اسمه (الإسلام) .. نزل به الروح الأمين علي قلب سيد المرسلين ليكون به من المنذرين بلسان عربي أمين .. ويريدون بعث الأمة الإسلامية النموذجية التي تدين بالسلام الحق ، فيكون لها هادياً وإماماً ، وتعرف في الناس بأنها دولة القرآن التي تصطبغ به والتي تذود عنه والتي تدعو إليه والتي تجاهد في سبيله وتضحي في هذا السبيل بالنفوس والأموال .
لقد جاء الإسلام نظاماً وإماماً ، ديناً ودولة ، تشريعاً وتنفيذاً ، فبقي النظام وزال الإمام ، واستمر الدين وضاعت الدولة ، وازدهر التشريع وذوي التنفيذ . أليس هذا هو الواقع أيها الإخوان ؟! وإلا فأين الحكم بما أنزل الله في الدماء والأموال والأعراض ؟ والله تبارك وتعالي يقول لنبيه r : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) (المائدة:49) .
والإخوان المسلمون يعلمون ليتأيد النظام بالحكام ، ولتحيا من جديد دولة الإسلام ، ولتشمل بالنفاذ هذه الأحكام ، ولتقوم في الناس حكومة مسلمة ، تؤيدها أمة مسلمة ، تنظم حياتها شريعة مسلمة أمر الله بها نبيه r في كتابه حيث قال : (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُون , إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) (الجاثـية:18-19) .
بعض نتائج فساد النظام الاجتماعي الحالي في مصر
أيها الإخوان ..
إننا في اخصب بقاع الأرض وأعذبها ماء , وأعدلها هواء , وأيسرها رزقا ,وأكثرها خيرا , وأوسطها دارا ,وأقدمها مدنية وحضارة وعلما ومعرفة , وأحفلها بآثار العمران الروحي والمادي والعملي والفني , وفي بلدنا المواد الأولية والخامات الصناعية والخيرات الزراعية وكل ما تحتاج إليه أمة قوية تريد أن تستغني بنفسها وتسوق الخير إلى غيرها , وما من أجنبي هبط هذا البلد الأمين إلا صح بعد مرض واغتنى بعد فاقة وعز بعد ذلة وأترف بعد البؤس والشقاء .. فماذا أفاد المصريون أنفسهم من ذلك كله؟ لا شيء .. وهل ينتشر الفقر والجهل والمرض والضعف في بلد كما ينتشر في مصر الغنية مهد الحضارة وزعيمة أقطار الشرق غير مدافعة؟!
إليكم أيها الإخوان بعض الأرقام التي تنطق بما يهددنا من أخطار اجتماعية ماحقة ساحقة إن لم يتداركنا فيها الله برحمته فسيكون لها أفدح النتائج وأعظم الآثار:
( 1 ) الفلاحون في مصر يبلغون ثمانية ملايين , والأرض المنزرعة نحو ستة ملايين من الأفدنة وعلى هذا الاعتبار يخص الفرد الواحد نحو ثلثي فدان .
فإذا لاحظنا على جانب هذا أن الأرض تفقد خواصها لضعف المصارف وكثرة الإجهاد , وإنها لهذا السبب تأخذ من السماد الصناعي أضعاف غيرها من التي تقل عنها جودة وخصوبة , وإن عدد السكان يتكاثر تكاثرا سريعا , وإن التوزيع في هذه الأرض يجعل من هذا العدد أربعة ملايين لا يملكون شيئا , ومليونين لا يزيد ملكهم عن نصف فدان ومعظم الباقي لا يزيد ملكه على خمسة أفدنة , علمنا مبلغ الفقر الذي يعانيه الفلاحون المصريون ودرجة إنحطاط مستوى المعيشة بينهم درجة ترعب وتخيف.
إن أربعة ملايين من المصريين لا يحصل أحدهم على ثمانين قرشا في الشهر بشق النفس , فإذا فرضنا أن له زوجة وثلاثة أولاد وهو متوسط ما يكون عليه الحال في الريف المصري بل الأسر المصرية عامة , كان متوسط ما يخص الفرد في العام جنيهين , وهو أقل بكثير مما يعيش به الحمار , فإن يتكلف صاحبه (140 قرشا خمس فدان برسيم و 30 قرشا حملا ونصف الحمل من التبن و 150 قرشا أردب فول و 20 قرشا أربعة قراريط عفش ذرة ومجموعها 340 قرشا) وهو ضعف ما يعيش به الفرد من هؤلاء الآدميين في مصر , وبذلك يكون أربعة ملايين مصري يعيشون اقل من عيشة الحيوان.
ثم إذا نظرت إلى طبقة الملاك الكبار وجدتهم مكبلين بالديون أذلاء للمحاكم والبنوك. إن البنك العقاري وحده يحوز من الرهون قريبا من نصف مليون فدان , ويبلغ دينه على الملاك المصريين 17 مليونا من الجنيهات إلى أكتوبر سنة 1936 , وهذا بنك واحد.
وقد بلغ ثمن ما نزعت ملكيته للديون من الأرض والمنازل في سنة 1939 (346.256 جنيها) فعلى أي شيء تدل هذه الأرقام؟
( 2 ) العمال في مصر يبلغون (5.718.127) أي نحوا من ستة ملايين عامل , يشكو التعطل (511.119) أي أكثر من نصف مليون لا يجدون شيئا , وهناك الجيوش من حملة الشهادات العاطلين.
فكيف يشعر إنسان هذه حاله بكرامته الإنسانية أو يعرف معنى العاطفة القومية والوطنية وهو بلد لا يستطيع أن يجد فيه القوت , ولقد استعاذ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الفقر , وقديما قيل : يكاد الفقر أن يكون كفرا , فضلا عن أن المشتغلين من العمال مهددون باستغلال أصحاب رأس المال وضعف الأجور والإرهاق في العمل , ولم تصدر الحكومات بعد التشريع الكافي لحماية هؤلاء البائسين , وقد ضاعفت حالة الحرب القائمة هذا العدد من المتعطلين وزادت العاملين منهم بؤسا على بؤسهم.
( 3 ) شركات الاحتكار في مصر قد وضعت يدها على مرافق الحياة والمنافع العامة , فالنور والمياه والملح والنقل ونحوها كلها في يد هذه الشركات التي لا ترقب في مصري إلاّ ولا ذمة , والتي تحقق أفحش الأرباح وتضن حتى باستخدام المصريين في أعمالها.
لقد بلغت أرباح شركة المياه منذ تأسست في 27 مايو سنة 1865 إلى سنة 1933 عشرين مليونا من الجنيهات , وقد بلغ التفريط والتهاون بالحكومة المصرية أن باعت حصتها في أرباح الشركة في عهد وزارة رياض باشا (وكان ناظر الشغال حينذاك محمد زكي باشا) بمبلغ عشرين ألفا من الجنيهات مع أن حصتها في صافي الربح من تاريخ البيع وهو 10 يوليو سنة 1899 إلى سنة 1934 فقط مبلغ مليونين ونصف من الجنيهات . إن في مصر 320 شركة أجنبية تستغل جميع مرافق الحياة , وقد بلغت أرباحها في سنة 1938 الماضية (7.637.482 جنيها) وهذه الشركات جميعا تخالف نصوص العقود في كثير من التصرفات ثم لا يكون التصرف معها إلا متراخيا ضعيفا يفوت الفائدة على الحكومة والجمهور معا.
ولعل من الطريف المبكي أن نقول إن عدد الشركات المصرية إلى سنة 1938 بلغ إحدى عشر شركة فقط مقابل 320 شركة أجنبية.
( 4 ) لقد استقبلت العيادات الحكومية المصرية سنة 1934 (7.241.383) مريضا منهم مليون بالبلهارسيا , وأكثر من نصف مليون بالأنكلستوما , ومليون ونصف بالرمد , وفي مصر 90 في المائة مريض بالرمد والطفيليات , وفيها 55.575 من فاقدي البصر , ويكشف لنا الكشف الطبي في المدارس وفي المعاهد وفي الجامعة ـ ومنها الكلية الحربية ـ حقائق عجيبة عن ضعف بنية الطلاب وهم زهرة شباب الأمة , وكل ذلك في أمة علمها نبيها أن تسأل الله أن يعافيها في أبدانها وفي سمعها وفي بصرها.
( 5 ) إن مصر بعد هذا الجهاد الطويل لا زالت بها آلاف كثير ممن لا يخط الألف , ولازال عدد المتعلمين فيها لا يجاوز الخمس (20 في المائة) من بينهم تلاميذ المدارس الإلزامية الذين لا يحسنون شيئا وكثير منهم لم يجاوز شهادة إتمام الدراسة الابتدائية و حتى الذين تعلموا تعليما عاليا لا تنقطع الشكوى من أن مؤهلاتهم العلمية لا تمكنهم من النجاح الكامل في الحياة العملية , وتتردد هذه الشكوى على لسان وزراء المعارف ورؤساء دوائر العمال وغيرهم .
( 6 ) وقد انحط مستوى الخلُق انحطاطا عجيبا فقد بلغ عدد الذين حوكموا بجرائم تخالف القانون في سنة 1938 أكثر من مليون مصري ومصرية دخل منهم السجن زهاء مائة ألف أو يزيدون , عدا من لم تصل إليهم يد القضاء ولم تعرف جرائمهم بعد.
هذا مع جرأة كثير من الشبان وغير الشبان على المخالفات الدينية التي لا يؤاخذ عليها القانون الوضعي كشرب الخمر والإقبال على القمار واليانصيب والسباق ونحوها , والعبث وما إليه مما لا يحصيه العد , بدون خشية ولا حياء.
( 7 ) ومع أننا فقدنا مقومات الحياة المادية من العلم الدنيوي النافع ومن الثروة والمال ومن القوة الصحية , فهل أبقينا على شيء من قوانا الروحية؟ كلا .. كلا.
كم من المصريين يؤمن بالله حق الإيمان , ويعتمد عليه حق الاعتماد؟ ...
وكم منهم يعتز بكرامته القومية وعزته الإسلامية؟ ...
وكم منهم يؤدي الصلوات؟ ...
وكم من هؤلاء المؤدين يقيمها على وجهها ويتعرف أحكامها وأسرارها؟ ...
وكم منهم يؤدي الزكاة ويتحرى بها مصارفها والغاية منها؟ ...
وكم منهم يخشى الله ويتقيه ويبتعد عن المعصية ويتجنب كبائر الإثم والفواحش؟ ...
يجيبنا الواقع المشاهد عن الأسئلة جميعا جوابا يؤلم ويحزن ويحز نفس كل مؤمن غيور.
الـداء والـدواء
أيها الإخوان ..
هذه لغة الأرقام , وهذا قليل من كثير من مظاهر البؤس والشقاء في مصر.
فما سبب ذلك كله؟ ..
ومن المسؤول عنه؟ ..
وكيف نتخلص منه وما الطريق , وما الطريق إلى الإصلاح؟ ..
السـبب
أما سبب ذلك ففساد النظام الاجتماعي في مصر فسادا لابد له من علاج , فقد غزتنا أوربا منذ مائة سنة بجيوشها السياسية وجيوشها العسكرية وقوانينها ونظمها ومدارسها وعلومها وفنونها, وإلى جانب هذا بخمرها ونسائها ومتعها وترفها وعاداتها وتقاليدها , ووجدت منا صدورا رحبة وأدوات طيعة تقبل كل ما يعرض عليها , ولقد أعجبنا بذلك كله , ولم نقف عند حد الانتفاع بما يفيد من علم ومعرفة وفن ونظام وقوة ومنعة وعزة واستعلاء ,بل كنا عند حسن ظن الغاصبين بنا فأسلمنا لهم قيادنا , وأهملنا من أجلهم ديننا , وقدمو لنا الضار من بضاعتهم فأقبلنا عليه , وحجبوا عنا النافع منها وغفلنا عنه , وزاد الطين بلّة أن تفرقنا على الفتات شيعا وأحزابا يضرب بعضنا وجوه بعض وينال بعضنا من بعض , لا نتبين هدفا ولا نجتمع على منهاج.
المسؤول
أما المسؤول عن ذلك فالحاكم والمحكوم على السواء : الحاكم الذي لانت قناته للغامزين , وسلس قياده للغاصبين , وعني بنفسه اكثر مما عني بقومه , حتى فشت في الإدارة المصرية عطلت فائدتها وجرت على الناس بلائها .. فالأنانية والرشوة والمحاباة والعجز والتكاسل والتعقيد كلها صفات بارزة في الإدارة المصرية , والمحكوم الذي رضي بالذلة وعجز وغفل عن الواجب وخدع بالباطل وانقاد وراء الأهواء وفقد قوة الإيمان وقوة الجماعة فأصبح نهب الناهبين وطعمة الطامعين.
الخــلاص
أما كيف نتخلص من ذلك فبالجهاد والكفاح , ولا حياة مع اليأس ولا يأس مع الحياة , فنخلص من ذلك كله بتحطيم هذا الوضع الفاسد وأن نستبدل به نظاما اجتماعيا خيرا منه , تقوم عليه وتحرسه حكومة حازمة تهب نفسها لوطنها وتعمل جاهدة لإنقاذ شعبها , يؤيدها شعب متحد الكلمة قوي الإيمان ,ولئن فقدت الأمة مصباح وهاج نهتدي بنوره ونسير على هداه.
ولا تستطيع حكومة مصرية أن تقوم بهذا الإصلاح الاجتماعي حتى تتحرر تماما من الضعف والعجز والخوف والتدخل السياسي الذي يقيد خطواتها , وتتخلص من هذا النير الفكري الذي وضعته أوربا في أعناقنا فأضعف نفوسنا وأوهن مقاومتنا.
ونحن نستقبل في هذه الأيام حوادث جساما تغير النظم والأوضاع وتجدد الدول والممالك , فاولى بنا أن نتخذها فرصة سانحة للتحلل من آثار الماضي وبناء المستقبل المجيد على دعائم قويمة من هذا الإصلاح الإسلامي القويم.
ولهذا كان هدف الإخوان المسلمين يتلخص في كلمتين :
ـ العودة للنظام الإسلامي الاجتماعي
ـ والتحرر الكامل من كل سلطان أجنبي
وبذلك نستطيع أن ننقذ مصر من آثار هذه الويلات . ولنا بعد ذلك آمال جسام في إحياء مجد الإسلام وعظمة الإسلام , يراها الناس بعيدة ونراها قريبة : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (الروم:60).
وسيلة الإخوان المسلمين
أما وسائلنا العامة:
ـ فالإقناع ونشر الدعوة بكل وسائل النشر حتى يفقهها الرأي العام ويناصرها عن عقيدة وإيمان.
ـ ثم استخلاص العناصر الطيبة لتكون هي الدعائم الثابتة لفكرة الإصلاح.
ـ ثم النضال الدستوري حتى يرتفع صوت هذه الدعوة في الأندية الرسمية وتناصرها وتنحاز إليها القوة التنفيذية، وعلى هذا الأساس سيتقدم مرشحو الإخوان المسلمين حين يجيء الوقت المناسب إلى الأمة ليمثلوها في الهيئات النيابية، ونحن واثقون بعون الله من النجاح مادمنا نبتغي بذلك وجه الله (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج:40).
أما سوي ذلك من الوسائل فلن نلجأ إليه إلا مكرهين ن ولن نستخدمه إلا مضطرين ، وسنكون حينئذ صرحاء شرفاء ، لا نحجم عن إعلان موقفنا واضحاً لا لبس فيه ولا غموض معه ، ونحن علي استعداد تام لتحمل نتائج عملنا أياً كانت ، لا نلقي التبعة علي غيرنا ، ولا نتمسح بسوانا ، ونحن نعلم أن ما عند الله خير وأبقي ، وأن الفناء في الحق هو عين البقاء ، وأنه لا دعوة بغير جهاد ، ولا جهاد بغير اضطهاد ، وعندئذ تدنو ساعة النصر ويحين وقت الفوز ، ويتحقق قول الملك الحق المبين : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف:110).
نحن و السياسة
وقد يقول بعض الناس : وما للإخوان والبرلمان والإخوان جماعة دينية وهذه سبيل الهيئات السياسية؟ أليس هذا يؤيد ما يقول الناس من أن الإخوان المسلمين قوم سياسيون لا يقفون عند حد الدعوة للإسلام كما يدعون؟ وأقول لهذا القائل في صراحة ووضوح : أيها الأخ .. أما أنا سياسيون حزبيون نناصر حزبا ونناهض آخر فلسنا كذلك ولن نكونه , ولا يستطيع أحد أن يأتي على هذا بدليل أو شبه دليل.
وأما أننا سياسيون بمعنى أننا نهتم بشئون أمتنا ، ونعتقد أن القوة التنفيذية جزء من تعاليم الإسلام تدخل في نطاقه وتندرج تحت أحكامه ، وأن الحرية السياسية والعزة القومية ركن من أركانه وفريضة من فرائضه ، وأننا نعمل جاهدين لاستكمال الحرية ولإصلاح الأداة التنفيذية فنحن كذلك ، ونعتقد أننا لم نأت فيه بشيء جديد ، فهذا المعروف عن كل مسلم درس الإسلام دراسة صحيحة ونحن لا نعلم دعوتنا ولانتصور معنى لوجودنا إلا تحقيق هذه الأهداف. ولم نخرج بذلك قيد شعرة عن الدعوة إلى الإسلام ، والإسلام لا يكتفي من المسلم بالوعظ والإرشاد ولكنه يحدوه دائما إلى الكفاح والجهاد (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).
أما موقفنا من الهيئات في مصر فصريح واضح نتحدث به ونكتب عنه في كل الظروف والمناسبات......
نحن والحكومات
فأما موقفنا من الحكومات المصرية على اختلاف ألوانها فهو موقف الناصح الشفيق , الذي يتمنى لها السداد والتوفيق , وأن يصلح الله بها الفساد , وإن كانت التجارب الكثيرة كلها تقنعنا بأننا في واد وهي في واد , ويا ويح الشجيّ من الخليّ.
لقد رسمنا للحكومات المصرية المتعاقبة كثيرا من مناهج الإصلاح , وتقدمنا لكثير منها بمذكرات إضافية في كثير من الشؤون التي تمس صميم الحياة المصرية ..
لقد لفتنا نظرها إلى وجوب العناية بإصلاح الأداة الحكومية نفسها باختيار الرجال وتركيز الأعمال وتبسيط الإجراءات ومراعاة الكفايات و القضاء على الاستثناءات ..
وإلى إصلاح منابع الثقافة العامة بإعادة النظر في سياسة التعليم ومراقبة الصحف والكتب والسينما والمسارح والإذاعة , واستدراك نواحي النقص فيها وتوجيهها الوجهة الصالحة.
وإصلاح القانون باستمداده من شرائع الإسلام , ومحاربة المنكر ومقاومة الإثم بالحدود وبالعقوبات الزاجرة الرادعة ..
وتوجيه الشعب وجهة صالحة بشغله بالنافع من الأعمال في أوقات الفراغ.
فماذا أفاد كل ذلك؟ .. لا شيء , ولقد قامت وزارة الشؤون الاجتماعية لسد هذا الفراغ فماذا فعلت وقد مضى عليها أكثر من عام ونصف عام؟
ماذا أنجزت من الأعمال ؟ .. لا شيء , وستظل "لا شيء" هي الجواب لكل المقترحات مادمنا لا نجد الشجاعة الكافية للخروج من سجن التقليد والثورة على هذا الروتين العتيق , وما دمنا لم نحدد المنهاج ولم نتخير لإنفاذه الأكفاء من الرجال , ومع هذا فسنظل في موقف الناصحين يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين.
نحن و الأحزاب
أما موقفنا من الأحزاب السياسية فلسنا نفاضل بينها ولا ننحاز إلى واحد منها ولكننا نعتقد أنها تتفق جميعا في عدة أمور :
تتفق في أن كثيراً من رجالها قد عملوا على خدمة القضية السياسية المصرية، واشتركوا فعلاً في الجهاد في سبيلها، وفي الوصول إلى ما وصلت إليه مصر من ثمرات هذا الجهاد الضئيلة أو الجليلة، فنحن في هذه الناحية لا نبخس هؤلاء الرجال حقهم.
وتتفق كذلك في أن حزباً منها لم يحدد بعدُ منهاجًا دقيقاً لما يريد من ضروب الإصلاح ، ولم يضع هدفاً يرمي إليه ، وهي لهذا لا تتفاوت في المناهج والأغراض والغايات.
وتتفق كذلك في أنها جميعاً لم تقتنع بعدُ بوجوب المناداة بالإصلاح الاجتماعي على قواعد الإسلام وتعاليم الإسلام ، ولا زال أقطابها جميعاً يفهمون الإسلام على أنه ضروب من العبادات والروحانيات لا صلة لها بحياة الأمم والشعوب الاجتماعية والدنيوية.
وتتفق بعد ذلك في أنها تعاقبت على حكم هذا البلد فلم تأت بجديد ، ولم يجد الناس في ظل حكمها ما كانوا يأملون من تقدم مادّي أو أدبيّ , ولقد كان لهذا أثر العملي , فقامت في مصر الحكومات غير الحزبية في أحرج الظروف وأدق المواقف , ومنها الحكومة الحالية.
وإذاً فلا خلاف بين الأحزاب المصرية إلا في مظاهر شكلية ، وشؤون شخصية ، لا يهتم لها الإخوان المسلمون ، ولهذا فهم ينظرون إلى هذه الأحزاب جميعاً نظرة واحدة ، ويرفعون دعوتهــم ـ وهي ميراث رسول الله ـ فوق هذا المستوى الحزبي كله ، ويوجهونها واضحة مستنيرة إلى كل رجال هذه الأحزاب على السواء ، ويودّون أن لو أدرك حضراتهم هذه الحقيقة ، وقدّروا هذه الظروف الدقيقة ، ونزلوا على حكم الوطنية الصحيحة ، فتوحدت كلمتهم ، واجتمعوا على منهاج واحد ، تصلح به الأحوال وتتحقق الآمال ، وليس أمامهم إلا منهاج الإخوان المسلمين ، بل هدى رب العالمين (صِرَاطِ اللهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) (الشورى:53)
ونحن لا نهاجم لأننا في حاجة إلى الجهد الذي يبذل في الخصومة والكفاح السلبي لننفقه في عمل نافع وكفاح إيجابي وندع حسابهم للزمن معتقدين أن البقاء للأصلح (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ) (الرعد:17).
نحن والهيئات الإسلامية
وأما موقفنا من الهيئات الإسلامية علي اختلاف نزعاتها ، فموقف حب و إخاء وتعاون وولاء ، نحبها ونعاونها ، ونحاول جاهدين أن نقرب بين وجهات النظر ونوفق بين مختلف الفكر توفيقاً ينتصر به الحق في ظل التعاون والحب . ولا يباعد بيننا وبينها رأي فقهي أو خلاف مذهبي ، فدين الله يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه . ولقد وفقنا الله إلى خطة مثلي ، إذ نتحري الحق في أسلوب لين يستهوي القلوب وتطمئن إليه العقول ، ونعتقد أنه سيأتي اليوم الذي تزول فيه الأسماء والألقاب والفوارق الشكلية والحواجز النظرية وتحل محلها وحدة عملية تجمع صفوف الكتيبة المحمدية حيث لا يكون هناك إلا إخوان مسلمون ، للدين عاملون وفي سبيل الله مجاهدون : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) (المائدة:56) .
كلمة حــق
نحب بعد هذا أن نقول كلمة صريحة لأولئك الذين لا زالوا يظنون أن الإخوان يعملون لحساب شخص أو جماعة : اتقوا الله أيها الناس ، ولا تقولون ما لا تعملون . واذكروا قول الله تعالي : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (الأحزاب:58) ، وقول رسول الله r : (وإن أبغضكم إلى وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الملتمسون للبرءاء العيب) ، وليعلموا تماماً أن اليوم الذي يكون فيه الإخوان المسلمون مطية لغيرهم أو أداة لمنهاج لا يتصل بمنهاجهم لم يخلق بعد . و أذكر أنني كتبت في إحدى المناسبات خطاباً لأحد الباشوات جاء في آخره :
(والإخوان المسلمون يا رفعة الباشا لا يقادون برغبة ولا برهبة ، ولا يخشون أحداً إلا الله ، ولا يغريهم جاه ولا منصب ، ولا يطمعون في منفعة ولا مال ، ولا تعلق نفوسهم بعرض من أعراض هذه الحياة الفانية ، ولكنهم يبتغون رضوان الله ويرجون ثواب الآخرة ، ويتمثلون في كل خطواتهم قول الله تبارك وتعالي : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذريات:50)
فهم يفرون من كل الغايات والمطامع إلى غاية واحدة ومقصد واحد هو رضوان الله ، وهم لهذا لا يشتغلون في منهاج غير منهاجهم ولا يصلحون لدعوة غير دعوتهم ، ولا يصطبغون بلون غير الإسلام : (صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) (البقرة:138) ... فمن حاول أن يخدعهم خدع ، ومن أراد أن يستغلهم خسر ، ومن طمع في تسخيرهم لهواه أخفق ... ومن أخلص معهم في غايتهم ووافقهم على متن طريقهم سعد بهم وسعدوا به ، ورأى فيهم الجنود البسلاء والإخوة الأوفياء ، يفدونه بأرواحهم ويحوطونه بقلوبهم وجهودهم ، ويرون له بعد ذلك الفضل عليهم........
أكتب لكم هذا يا رفعة الباشا لا رجاء معونة مادية لجماعة الإخوان المسلمين ولا رغبة في مساعدة نفعية لأحد أعضائها العاملين ، ولكن لأدعوكم إلى صف هؤلاء الإخوان بعد دراستهم دراسة جدية صحيحة تقنعكم بمنهاجهم وتنتج تعاونكم معهم في إصلاح المجتمع المصري على أساس متين من الخلق الإسلامي وتعاليم الإسلام .. و (للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ , بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم:4-5) .
بمثل هذا الأسلوب نخاطب الناس , ونكتب لرفعة النحاس باشا و محمد محمود باشا وعلي ماهر باشا و حسين سري باشا , وغيرهم مما نريد أن نعذر إلى الله بإبلاغهم الدعوة وتوجيههم إلى ما نعتقد أن فيه الخير والصواب لهم وللناس ..
أفيقال بعد هذا أن الإخوان المسلمين يعملون لحساب شخص أو هيئة كبر ذلك أم صغر قل أم كثر .. (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) (النور:12) . ومعاذ الله أن نكون في يوم من الأيام لغير الإسلام وتعاليم الإسلام .
موقفنا في الظروف الحاضرة
من المؤتمر الخامس إلى المؤتمر السادس مضى عامان , تعاقبت فيها الحوادث الجسام على مصر في الداخل والخارج . وقد قابل المركز العام للإخوان المسلمين ومن ورائه شعبه جميعا كل حادثة بما يناسبها , ووقفوا منها الموقف الذي يلائمها , من تأييد أو تسديد أو نقد أو تزكية , مستنيرين في ذلك بوحي الغاية السامية , وبقواعد منهاجهم السليم .
وكان أجل تلك الحوادث وأشدها خطرا وأعمقها أثرا إعلان الحرب وامتداد لهيبها إلى مصر ,ووقوف أوربا معسكرين متناحرين يعمل كل منهما على إفناء الآخر وإبادته ,حتى أخفقت وسائل التهدئة وسل الحسام بعد أن خرس الكلام .
لقد أعلنت الحكومة المصرية موقف مصر , وأيدها في ذلك البرلمان , وأيدها في ذلك الرأي العام , وأيدها الإخوان المسلمون أيضا , ويمكن تلخيص هذا الموقف في كلمتين (الحياد والاستعداد) .
وهو موقف واضح مستنير لو استكمل شروط الصحة فإن هذا الحياد محال أن يكون حقيقيا والمعاهدة المصرية الإنجليزية تفرض علينا أن نقدم كل المساعدات الممكنة للقوات البريطانية ونحن قد قمنا بذلك فعلا , وجندت مصر تجنيدا حقيقيا لمساعدة إنجلترا , فأعلنت الأحكام العرفية وفرضت الرقابة على الصحف واستخدمت السكك الحديدية والمطارات والموانئ والتليفونات والتلغرافات وكل طرق المواصلات , وقدمت طلبات السلطة العسكرية البريطانية في جميع الشؤون على كل الطلبات , وحجزت المواد اللازمة للجيش وللأعمال الحربية مهما كانت الحاجة إليها شديدة , وأرسل الجيش المصري إلى الحدود وإلى السودان , وصارت مصر حقيقة لا خيالا في حالة حرب مما جعل هذا الحياد لا قيمة له في الواقع .
كما أن الاستعداد لن يكون كاملا وأمامه عقبات مادية وسياسية تجعل الوقت يمر دون أن نجهز أنفسنا بالقليل من المعدات العسكرية أو المدنية .
وإذاً فرضاء مصر بهذا الموقف الصوري العجيب ليس عن طواعية واختيار , وكلنه عن كراهية واضطرار , وليس هناك موقف أفضل منه مادمنا مجبرين عليه ,ونهيب بالحكومة المصرية جاهدين أن تعمل ما وسعها العمل على استكمال العدة , وتجهيز الشعب بوسائل الدفاع العسكرية والمدنية أخذا بالحيطة واستعدادا للطوارئ .
أما الوقف الذي ترضاه مصر وتهش له وتقنع به فلا يخرج عن أحد أمرين :
إما أن إنجلترا لا تثق بنا ولا تعتمد علينا ولا تعتبرنا حلفاء حقيقين لها , وحينئذٍ يكون عليها أن تصارحنا بذلك وأن تخلي أرضنا وأن توفر علينا مساعداتنا وأن تحلنا من قيود المعاهدة التي تنص على المحالفة وترتب عليها المساعدة , وذلك فرض مستبعد طبعا .
وإما أنها تثق بنا وتعتبرنا حلفاء لها وتقدر حسن نيتنا وصدق معونتنا , وقد قدمنا البرهان على ذلك فعلا ,فمنذ نشبت الحرب إلى الآن والحكومة المصرية لا تدخر وسعا في مشاركتها سراء الحرب وضرائها , فعليها حينئذٍ أن تطمئنا على مستقبلنا في هذه الحوادث وبعدها , فتعلن الآن بصفة رسمية المحافظة على استقلال مصر والسودان , وأن بققاء القوات البريطانية في مصر موقوت بالحرب , وتشمل هذا الإعلان بالمساعدة الفعلية لنا , فتسمح لنا بزيادة عدد جيشنا وبتقوية سلاحنا وبإعداد شعبنا , وحينئذٍ نتعاون تعاونا صادقا ونحمل أعباء الحرب معا ونتقاسم الأعمال العسكرية والمدنية ,فيحمل الجيش المصري عبء الحرب في السودان مثلا حتى يطهره الله من العدو المغير , وتحرس الجيوش البريطانية الحدود الغربية حتى تضع الحرب أوزارها .هذا كلام صريح نعتقد أنه من الخير أن يكون واضحا , ولا يغني مصر شيئا أن تسمع ثناء الجرائد والمجلات الإنجليزية وعبارات المجاملة التي يحييها بها الساسة البريطانيون , ولا عبارات التقدير التي يشكرون بها المساعدة المصرية الجليلة , وإنما ينفعها الكلام الرسمي والعمل المنتج .إن مصر ستفي من جانبها بالتزاماتها التي سجلتها عليها المعاهدة , لأنها لا تملك إلا هذا ولا تستطيع غيره ماديا وأدبيا , ولكن تمسك الحكومة البريطانية تمسكا جامدا بروح المعاهدة ونصها في وقت واحد تفسر فيه هذه النصوص لمصلحة طرف واحد , وفي ظروف تعصف بالدول والشعوب والأموال والأرواح والأمم والحكومات والنظم والمعاهدات , فهو تمسك إن رضيه الفقه السياسي فلن يرضاه الشعب الأبي , ولقد جاهدت مصر في سبيل استقلالها , وستجاهد في سبيل ذلك إن أعوزها الجهاد , وهي ضنية بهذا الاستقلال أن يسلب قبل أن يكتمل ,ويزول قبل أن يتم , ولا تريد أن تكون في حمى غيرها , أو أن تظل تحت رحمة سواها مهما كلفها ذلك من التضحيات , وإذ كانت الحكومة البريطانية تسمع من الحكومة المصرية أو الساسة المصريين كلاما غير هذا فإنما هي المجاملة الدبلوماسية .
أما نحن فنصور عقائد الشعب الحقيقية على صورتها الطبيعية , لا نبتغي من وراء ذلك إلا تعاونا سليما على أساس سليم .
بل إننا نريد أن ننتهز هذه الفرصة , فنتقدم مخلصين إلى الساسة الغربيين فنلفت أنظارهم إلى فرصة سانحة لعلها إن أفلتت منهم اليوم فلن تعود إلا بعد حين لا يعلم إلا الله مداه , وإن وفقوا إلى الانتفاع بها فهو الخير لهم وللعالم أجمع .
لقد ردد الساسة جميعا كلمة " النظام الجديد " ... فهتلر يريد أن يتقدم للناس بنظام جديد ، وتشرشل يقول إن إنجلترا المنتصرة ستحمل الناس على نظام جديد ، وروزفلت يتنبأ ويشيد بهذا النظام الجديد ، والجميع يشيرون إلى أن هذا النظام الجديد سينظم أوروبا ويعيد إليها الأمن والطمأنينة والسلام ، فأين حظ الشرق والمسلمين من هذا النظام المنشود ؟
نريد هنا أن نلفت أنظار الساسة الغربيين إلى أن الفكرة الاستعمارية إن كانت قد أفلست في الماضي مرة ، فهي في المستقبل أشد فشلاً لا محالة ، وقد تنبهت المشاعر وتيقظت حواس الشعوب ، وان سياسة القهر والضغط والجبروت لم تأت في الماضي إلا بعكس المقصود منه ، وقد عجزت عن قيادة القلوب والشعوب ، وهى في المستقبل أشد عجزاً .
وأن سياسة الخداع والدهاء والمرونة السياسية إن هدأ بها الجو حينا فلا تلبث أن تهب العاصفة قوية عنيفة . وقد تكشفت هذه السياسة عن كثير من الأخطاء والمشكلات والمنازعات ، وهى في المستقبل أضعف من أن توصل إلى المقصود .
وإذاً فلا بد من سياسة جديدة ، وهى سياسة التعاون والتحالف الصادق البريء ، المبنى على التآخي والتقدير ، وتبادل المنافع والمصالح المادية والأدبية بين أفراد الأسرة الإنسانية في الشرق والغرب ، لا بين دول أوروبا فقط ، وبهذه السياسة وحدها يستقر النظام الجديد وينتشر في ظله الأمن والسلام . إن حكم الجبروت والقهر قد فات ، ولن تستطيع أوروبا بعد اليوم أن تحكم الشرق بالحديد والنار . وأن هذه النظريات السياسية البالية لن تتفق مع تطور الحوادث ورقى الشعوب ونهضة الأمم الإسلامية ، ولا مع المبادئ والمشاعر التي ستطلع بها هذه الحرب الضروس على الناس .
ولسنا وحدنا الذين نقول هذا ، بل هم الساسة الأوروبيون أنفسهم ، ونحن نضع هذه النظريات أمام أعين الساسة البريطانيين والساسة الفرنسيين وغيرهم من ساسة الدول الاستعمارية ، على أنها نصائح تنفعهم أكثر مما هي مطالب تنفعنا ، فليأخذوا أو ليدعوا ، وقد وطَنًا أنفسنا على ان نعيش أحراراً عظماء أو نموت أطهاراً كرماء .
ونحن لا نطمع في حق سوانا ، ولا يستطيع أحد أن ينكر علينا حقنا. وان خيراً لكل أمة أن تعيش متعاونة مع غيرها ، من أن تعيش متنافسة مع سواها حينا من الدهر، يندلع بعده لهيب الثورة في البلاد المغصوبة ، وجحيم الحرب بين الدول المتنافسة
هذا كلام قد يراه الناس من الإفراط في حسن الظن , ولعله إلى الخيال أقرب , ولعل من الناس من يرى أن من الكياسة ألا يقال في مثل هذه الظروف , ولكني أعتقد أن المصارحة دائما هي أفضل طريق للوصول , ولا ندري متى وكيف تتم هذه الحرب , ولأن ننبه أذهان قومنا إلى ما يجب أن يكون فنبرئ بذلك ذمتنا ونقدم نصيحتنا أولى بنا من أن نفوت الفرصة المواتية , (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب:4).
وعلى هذه الأسس العادلة يظفر العالم بتعاون شريف وسلام طويل , أما أغنية الديمقراطية والديكتاتورية فأنشودة نعتقد أنم الحرب الحالية ستدخل عليها ألحانا جديدة وأنغاما جديدة , ولكن يكون في الدنيا بعد هذه المحنة ديمقراطية كالتي عهدها الناس , ولا ديكتاتورية كهذه الديكتاتورية التي عرفوها . ولن تكون هناك فاشية ولا شيوعية على غرار هذه الأوضاع المألوفة , ولكن ستكون هناك نظم في الحكم وأساليب في الاجتماع تبدعها الحرب ابتداعا ويخترعها الساسة اختراعا , ثم يضعونها موضع التجربة من جديد . وتلك سنة الله ونظام المجتمع .
وما أجل أن يهتدي أولئك الساسة يومئذ بنور الله , ويكشفوا عن قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم غشاوة التعصب الممقوت , ويتخذوا الإسلام الحنيف الذي أخذ من كل شيء أحسنه أساسا لنظمهم السياسية والمدنية والاجتماعية , فتتحقق الوحدة الإنسانية الروحية التي طال عليها الأمد والتي لا يحققها إلا سماحة الإسلام وهدي الإسلام , (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ , يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:15-16) .
طور جديد في دعوة الإخوان المسلمين
بـِسْــمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيـمِ
هذا طور جديد في دعوة الإخوان المسلمين ،
أحببت أن أتحدث إلى القراء عنها فيه.. فقد نشأت هذه الدعوة والناس في انصراف عن الفكرة الإسلامية وفى إعجاب بالفكرة الغربية المادية فأخذت طريقها في هدوء إلى قلوب الطبقة الأولى من الناس ، طبقة الجماهير المؤمنة السليمة العقائد والصدور، وظلت في نفوسهم أمينة عزيزة وعاطفة متوقدة كريمة وشعلة مشرقة منيرة ، على حين كانت جمهرة المفكرين وأهل الرأي والتوجيه يروجون للفكرة الأخرى ويهتفون بها ويدعون الناس إليها ويزينوها في الأسماع والأبصار والقلوب بمختلف صنوف التزيين والتحسين. وشاء الله أن تقع الأحداث العنيفة (الحرب العالمية الثانية) التي هزت كل العقول والمشاعر والقلوب والأفكار، وأشعرت الإنسانية الحاجة الشديدة إلى إعادة النظر في مناهج الحياة وقواعد المدنية ودعائم التحضر ، وانطلقت الأصوات من كل مكان تهيئ لنظام جديد وعلاج جديد.
وصادف ذلك امتحان لدعوة الإخوان كشف عن جوهرها ولفت أنظار الناس إليها ، وجمع كثيراً من القلوب النافرة حولها ، وبذلك انتقلت الدعوة إلى القلوب المؤمنة والعقول المفكرة ، وأصبحت قاعدة مسلمّا بها بعد أن كانت عاطفة متحمسة ، ونظر إليها كثير من الناس على أنها مبادئ ممكنة التحقيق صالحه للتطبيق ، فلم تعد حلماً في الرؤوس أو وجداناً في النفوس فقط.
وكان طبيعيا أن تكثر الأسئلة عن مرامي الدعوة وكنهها وعن الطرق التي يسلكها أهلها والقائمون بها في علاج ما يحيط بتطبيق مبدئها وتعاليمها من مشاكل داخلية وخارجية ، ولم يعد يكفى في الجواب عن ذلك كلام مرتجل أو خطابة تثير المشاعر أو عبارات تؤثر في العواطف ، بل صار واجبا على أهل هذه الدعوة أن يصورها للناس تصويرا منطقيا دقيقا واضحا مبينا على أدق قواعد البحث العلمي ، وأن يرسموا أمام الناس الطرق العملية المنتجة التي أعدوها لتحقيق ما يريدون ، ولتذليل ما سيصادفون من عقبات لابد من وجودها في الطريق .
ولعل طورا آخر ينتظر هذه الدعوة حين توضع موضع التجربة العملية ،وحينئذ يتم هذا الهيكل الذي تجهز له هذه اللبنات ، وحينئذ يرى الناس أي خير سينالون من تطبيق هذه المبادئ السامية وتحقيق هذه الأهداف العالية.
وسأتناول إن شاء الله خصائص هذه الدعوة ومراميها ، والشبهات التي تورد عليها والعقبات التي تحيط بها في هذا الطور الجديد ، مستمدا من الله المعونة والتوفيق.
ربانية عالمية
أخص خصائص دعوتنا أنها ربانية عالمية :
أ ـ أما أنها ربانية فلأن الأساس الذي تدور عليه أهدافنا جميعا ، أن يتعرف الناس إلى ربهم ، وأن يستمدوا من فيض هذه الصلة روحانية كريمة تسموا بأنفسهم عن جمود المادة الصماء وجحودها إلى طهر الإنسانية الفاضلة وجمالها. نحن الإخوان المسلمين لنهتف من كل قلوبنا:
"الله غايتنا" فأول أهداف هذه الدعوة أن يتذكر الناس من جديد هذه الصلة التي تربطهم بالله تبارك وتعالى والتي نسوها فأنساهم الله أنفسهم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:21) . وهذا في الحقيقة هو المفتاح الأول لمغاليق المشكلات الإنسانية التي أوصدها الجمود والمادية في وجوه البشر جميعاً فلم يستطيعوا إلى حلها سبيلاً ، وبغير هذا المفتاح فلا إصلاح .
ب ـ وأما أنها عالمية فلأنها موجهه إلى الناس كافه لأن الناس في حكمها إخوة : أصلهم واحد ، وأبوهم واحد ، ونسبهم واحد ، لا يتفاضلون إلا بالتقوى و بما يقدم أحدهم المجموع من خير سابغ وفضل شامل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) . فنحن لا نؤمن بالعنصرية الجنسية ولا نشجع عصبية الأجناس والألوان ، ولكن ندعو إلى الأخوة العادلة بين بنى الإنسان .
قرأت لأحد زعماء الغرب أنه يقسم الجنس البشرى إلى مبتكرين ومحافظين ومخربين ، وهو يعتبر قومه مبتكرين ويعتبر قوما آخرين من الغربيين محافظين ، ويعتبرنا نحن الشرقيين وما إلينا عدا هذين مخربين ومدمرين , هذا التقسيم ظالم جائر فضلا عن أنه غير صحيح بأصله ، فالجنس البشرى كله مرده إلى دم واحد وطينه واحدة وإن اختلفت البيئات والوسائط والمدارك والثقافات . وإذا هذب الإنسان استطاع أن يرتقي من رتبته إلى أعلي منها بدرجة ما يصل إليه من تهذيب . وليس هناك جنس من بني آدم لا يمكن إصلاحه في حدود ظروفه وبيئته الخاصة به . هذا من جهة , ومن جهة أخري فإن هذا الشرق الذي وضع في صف المخربين والمدمرين هو مبعث المدنيات ومشرق الحضارات ومهبط الرسالات ، وهو مفيض ذلك كله علي الغرب ، لا ينكر هذا إلا جاحد مكابر . ومثل هذه المزاعم الباطلة إنما هي نزوات من غرور الإنسان وطيش الوجدان لا يمكن أن تستقر علي أساسها نهضات أو تقوم على قاعدتها مدنيات , وما دام في الناس من يشعر بمثل هذا الشعور لأخيه الإنسان فلا أمن ولا سلام ولا اطمئنان حتى يعود الناس إلى علم الأخوة فيرفعونه خفاقاً ، ويستظلون بظله الوارف الأمين ، ولن يجدوا طريقاً معبدة إلى ذلك كطريق الإسلام الذي يقول كتابه : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات:13) . ويقول نبيه : (ليس منا من دعا إلى عصيبة ، وليس منا من مات علي عصيبة) رواه أحمد من حديث جبير بن مطعم .
ولهذا كانت دعوة الإخوان المسلمين ربانية إنسانية .
بين العقلية الغيبية والعقلية العلمية
ولقد تذبذب العقل البشري منذ وجد الإنسان علي ظهر الأرض إلى يومه هذا ـ وأغلب الظن كذلك حتى تتداركه هداية من الله ـ بين أطوار ثلاثة ، وإن شئت قلت بين ألوان ثلاثة من ألوان التفكير والتصوير :
1 ـ طور الخرافة والبساطة والتسليم المطلق للغيب المجهول والقوي الخفية البعيدة عنه . فهو ينسب إليها كل شيء ويفسر بها كل شيء . ولا يري لنفسه معها عملاً ولا فكراً ، وكثيراً ما استبد هذا الطور بالإنسان في أدوار حياته الأولي يوم عاش علي هذه الأرض يجهلها وتجهله ، ولعل أقواماً من بني الإنسان لا يزالون يعيشون علي هذا النحو إلى الآن .
2 ـ وطور الجمود والمادية والتنكر لهذا الغيب المجهول ، والخروج علي هذه القوي البعيدة علي حس الإنسان والتمرد علي كل ما يتصل إليها بسبب ، ومحاولة تفسير مظاهر الكون جميعاً محاولة مادية صرفة وفق قوانين تجريبية اهتدي إليها الإنسان بطول تجاربه ودوام بحثه وتفكيره . وكثيراً ما طغى هذا التفكير علي العقل الإنساني في هذه العصور الحديثة ، التي وصل فيها الإنسان إلى الكشف عن كثير من مجهولات الطبيعة ، وعرف فيها الكثير من خواص الكائنات ، فظن أنه واصل لا محالة بهذا الأسلوب إلى معرفة ما هناك ، وإن كان الذي يعرفه بالنسبة إلى ما يجهله كالذرة من الرمال في الفلاة الواسعة الفسيحة .
وفي هذا الدور أنكر الإنسان المادي الألوهية وما يتصل بها والنبوات وما يمت إليها والآخرة والجزاء والعالم الروحي بكل ما فيه ، ولم ير شيئاً إلا هذا العالم الأدنى المحدود يفسر ظواهره بحسب قوانينه المادية الصرفة .
كلا هذين اللونين من ألوان التفكير خطأ صريح وغلو فاحش وجهالة من الإنسان بما يحيط بالإنسان .
3 ـ ولقد جاء الإسلام الحنيف يفصل القضية فصلاً حقاً ، فيقرر حق العالم الروحي ويوضح صلة الإنسان بالله رب الكائنات جميعاً وبالحياة الآخرة بعد هذه الحياة الدنيا ، ويجعل الإيمان بالله أساس إصلاح النفس التي هي من عالم الروح فعلاً والتي لا سبيل إلى صلاحها إلا بهذا الإيمان , ويصف ذلك العالم الغيبي المجهول وصفاً يقربه إلى الأذهان ولا يتنافى مع بدهيات العقول ، وهو مع هذا يقرر فضل هذا العالم المادي وما فيه من خير للناس لو عمروه بالحق وانتفعوا في حدود الخير ، ويدعو إلى النظر السليم في ملكوت السماوات والأرض ، ويعتبر هذا النظر أقرب إلى معرفة الله العلي الكبير . هذا الموقف من الإسلام الحنيف ألزم العقل البشري لوناً من ألوان التفكير ، هو أكملها وأتمها وأكثرها انطباقاً علي واقع الحياة ومنطق الكون ، وأعظمها نفعاً لبني الإنسان : ذلك هو الجمع بين الإيمان بالغيب والانتفاع بالعقل . فنحن نعيش في عالمين فعلاً لا في عالم واحد ، ونحن عاجزون عن تفسير كثير من ظواهر الكون فعلاً ، عاجزون عن إدراك كل الحقائق الأولية التي تحيط بنا . ونحن في إدراكها ننتقل من مجهول إلى مجهول حتى ينتهي بنا العجز إلى الإقرار بعظمة الله ، ونحن نشعر من أعماق قلوبنا بعاطفة الإيمان قوية مشبوبة ، لأن الإيمان من فطرة نفوسنا وهو لها ضرورة من ضرورات حياتها كالغذاء والهواء والماء للأجسام سواء بسواء . ونحن بعد ذلك نلمس أن المجتمع الإنساني لن يصلحه إلا اعتقاد روحي يبعث في النفوس مراقبة الله والتعزي بمعرفته ، ومن هنا كان لزاماً علي الناس أن يعودوا إلى الإيمان بالله والنبوات وبالروح وبالحياة الآخرة ، وبالجزاء فيها علي الأعمال (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ , وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) (الزلزلة:7-8) .
كل هذا في الوقت الذي يجب عليهم فيه أن يطلقوا لعقولهم العنان لتعلم وتعرف وتخترع وتكتشف وتسخر هذه المادة الصماء وتنتفع بما في الوجود من خيرات وميزات : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (طـه:114) , وإلي هذه اللون من التفكير الذي يجمع بين العقليتين الغيبية والعلمية ندعو الناس . لقد عاش الغرب أخريات أيامه مادي النزعة لا يشعر بغير المادة ولا يعترف بغير المادة ولا يحس بوجود غيرها حتى ماتت في نفوس أبنائه عواطف الرحمة الإنسانية ، وخبت أنواع الروحانية الربانية . وهيمن الغرب علي الدنيا بأسرها بعلومة ومعارفه ومباهجه وزخارفه وكشوفه ومخترعاته وجنوده وأمواله , وصبغ الفكر البشري في كل مكان بصبغته هذه .
والآن والدنيا كلها تكتوي بهذه النيران تنبثق الدعوة من جانب جديد لتهيب بالناس في الشرق والغرب معاً أن يمزجوا المادة بالروح , وأن يؤمنوا بالغيب والشهادة ، وأن يعترفوا من جديد إلى الله : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذريات:50) .
القومية والعروبة والشرقية والعالمية
وكما أن دعوتنا هذه ربانية تدعو إلى هجر المادية ومقاومتها والوقوف في وجه طغيانها والحد من سلطانها والفرار إلى الله والإيمان به والاعتماد عليه وحسن مراقبته في كل عمل , فهي كذلك إنسانية تدعو إلى الأخوة بين بني الإنسان وترمى إلى إسعادهم جميعاً لأنها إسلامية , والإسلام للناس كافه ليس لجنس دون جنس ولا لأمه دون أخرى , (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان:1) , (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف:158) , (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) (سـبأ:28) .
ومن هذا العموم في بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ومدى رسالته استمدت دعوتنا العموم في هدفها ومرماها ، فهي دعوة توجه الناس جميعا وتسعى لخيرهم جميعا وتؤاخي بينهم جميعا ولا تعترف بفوارق الأجناس والألوان و لا تتغير بتغير الشعوب والأوطان .
وتتردد في أفواه الدعاة والناس ألفاظ كثيرة يعنون بها أراء ومذاهب فأين مكان هذه الألفاظ في دعوتنا؟ إن لكل لفظ من هذه الألفاظ ولكل رأى من هذه الآراء مكانا في دعوتنا لا لأننا نعمل لإرضاء الجميع و نجامل في الفكرة وعلى حسابها ولكن لأن طبيعة دعوتنا هكذا عموم وشمول :
أ ـ فالـمصرية أو القومية: لها في دعوتنا مكانها وحقها في الكفاح والنضال.
إننا مصريون بهذه البقعة الكريمة التي نبتنا فيها ونشأنا عليها . ومصر بلد مؤمن تلقي الإسلام تلقياً كريماً وذاد عنه العدوان في كثير من أدوار التاريخ وأخلص في اعتناقه و طوى عليه أعطف المشاعر وأنبل العواطف ، وهو لا يصلح إلا بالإسلام ولا يداوى إلا بعقاقيره ولا يطب له إلا بعلاجه . وقد انتهت إليه بحكم الظروف الكثيرة حضانة الفكرة الإسلامية والقيام عليها فكيف لا نعمل لمصر و لخير مصر ؟ وكيف لا ندفع عن مصر بكل ما نستطيع ، وكيف يقال إن الإيمان بالمصرية لا يتفق مع ما يجب أن يدعو إليه رجل ينادي بالإسلام ويهتف بالإسلام! إننا نعتز بأننا مخلصون لهذا الوطن الحبيب عاملون له مجاهدون في سبيل خيره ، وسنظل كذلك ما حيينا معتقدين أن هذه هي الحلقة الأولي في سلسلة النهضة المنشودة ، وأنها جزء من الوطن العربي العام ، وأننا حين نعمل لمصر نعمل للعروبة والشرق والإسلام .
وليس يضيرنا في هذا كله أن نعني بتاريخ مصر القديم , وبما سبق إليه قدماء المصريين الناس من المعارف والعلوم . فنحن نرحب بمصر القديمة كتاريخ فيه مجد وفيه علم ومعرفة . ونحارب هذه النظرية بكل قوانا كمنهاج عملي يراد صبغ مصر به ودعوتها إليه بعد أن هداها الله بتعاليم الإسلام وشرح لها صدرها وأنار به بصيرتها وزادها به شرفاً ومجداً فوق مجدها ، وخلصها بذلك مما لاحق هذا التاريخ من أوضار الوثنية وأدران الشرك وعادات الجاهلية .
ب ـ والعروبة : أو الجامعة العربية ، لها في دعوتنا كذلك مكانها البارز وحظها الوافر , فالعرب هم أمة الإسلام الأولي وشعبة المتخير ، وبحق ما قاله r : (إذا ذل العرب ذل الإسلام) ولن ينهض الإسلام بغير اجتماع كلمة الشعوب العربية ونهضتها ، وإن كل شبر أرض في وطن عربي نعتبره من صميم أرضنا ومن لباب وطننا .
فهذه الحدود الجغرافية والتقسيمات السياسية لا تمزق في أنفسنا أبداً معني الوحدة العربية الإسلامية التي جمعت القلوب علي أمل واحد وجعلت من هذه الأقطار جميعاً أمة واحدة مهما حاول المحاولون وافتري الشعوبيون .
ومن أروع المعانـي في هذا السبيل ما حدد به الرسول r معني العروبـة إذ فسرها بأنها اللسان والإسلام . فقد روي الحافظ بن عساكر بسنده عن مالك قول النبي r : (يا أيها الناس إن الرب واحد , والأب واحد ، والدين واحد ، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم ، وإنما هي اللسان فمن تكلم بالعربية فهو عربي) . وبذلك نعلم أن هذه الشعوب الممتدة من خليج فارس إلى طنجة ومراكش علي المحيط الأطلسي كلها عربية تجمعها العقيدة ويوجد بينها اللسان ، وتؤلفها بعد ذلك هذه الوضعية المتناسقة في رقعة من الأرض واحدة متصلة متشابهة لا يحول بين أجزائها حائل ،ولا يفرق بين حدودها فارق ، ونحن نعتقد أننا حين نعمل للعروبة نعمل للإسلام ولخير العالم كله .
ج ـ والشرقية :لها في دعوتنا مكانها وإن كان المعني الذي يجمع المشاعر فيها معني وقتياً طارئاً ، إنما ولده وأوجده اعتزاز الغرب بحضارته وتغاليه بمدنيته ، وانعزاله عن هذه الأمم التي سماها الأمم الشرقية وتقسيمه العالم إلى شرقي وغربي ، وندائه بهذا التقسيم حتى في قول أحد شعرائه المأثور : الشرق شرق والغرب غرب ولا يمكن أن يجتمعا . هذا المعني الطارئ هو الذي جعل الشرقيين يعتبرون أنفسهم صفاً يقابل الصف الغربي ، أما حين يعود الغرب إلى الإنصاف ويدع سبيل الاعتداء والإجحاف فتزول هذه العصبية الطارئة وتحل محلها الفكرة الناشئة ، فكرة التعاون بين الشعوب علي ما فيه خيرها وارتقاؤها .
د ـ أما العالمية :أو الإنسانية فهي هدفنا الأسمى وغايتنا العظمي وختام الحلقات في سلسلة الإصلاح . والدنيا صائرة إلى ذلك لا محالة فهذا التجمع في الأمم ، والتكتل في الأجناس والشعوب ، وتداخل الضعفاء بعضهم في بعض ليكتسبوا بهذا التداخل قوة ، وانضمام المتفرقين ليجدوا في هذا الانضمام أنس الوحدة , كل ذلك ممهد لسيادة الفكرة العالمية وحلولها محل الفكرة الشعوبية القومية التي آمن بها الناس من قبل ، وكان لا بد أن يؤمنوا هذا الإيمان لتتجمع الخلايا الأصلية ، ثم كان لا بد أن يتخلوا عنها لتتألف المجموعات الكبيرة ، ولتحقق بهذا التآلف الوحدة الأخيرة . وهي خطوات إن أبطأ بها الزمن فلا بد أن تكون ، وحسبنا أن نتخذ منها هدفاً ، وأن نضعها نصب أعيننا مثلاً ، وأن نقيم هذا البناء الإنساني لبنته وليس علينا أن يتم البناء ، فلكل أجل كتاب .
وإذا كان في الدنيا الآن دعوات كثيرة ونظم كثير يقوم معظمها على أساس العصبية القومية التي تستهوي قلوب الشعوب وتحرك عواطف الأمم ، فان هذه الدروس القاسية التي يتلقاها العالم من آثار هذه القوة الطاغية بأن يفنى الناس إلى الرشد ويعودوا إلى التعاون والإخاء . ولقد رسم الإسلام للدنيا هذه السبيل فوحد العقيدة أولا، ثم وحد النظام والإعمال بعد ذلك ، وظهر هذا المعنى الساحر النيل في كل فروعه العملية .
فرب الناس واحد ، ومصدر الدين واحد ، والأنبياء جميعاً مقدسون معظمون ، والكتب السماوية كلها من عند الله ، والغاية المنشودة اجتماع القلوب , (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى:13) , والقرآن عربي وهو أساس هذا الدين ،وركن الصلاة أفضل القربات إلى الله ، وتلك هي الوسيلة العملية إلى وحدة اللسان بعد وحدة الإيمان .
وهذه الصلاة وتلك الزكاة ، والحج والصوم إنما هي كلها تشريعات اجتماعية يراد بها توثيق الوحدة وجع الكلمة وإزالة الفوارق وكشف الحجب والموانع بين بنى الإنسان .
ومن هنا كانت دعوتنا ذات مراحل نرجو أن تتحقق تباعا ، وأن نقطعها جميعا وأن نصل بعدها إلى الغاية . نرجو أن تقوم في مصر دولة مسلمة تحتضن دعوة الإسلام ، وتجمع كلمة العرب وتعمل لخيرهم وتحمي المسلمين في أكناف الأرض من عدوان كل ذي عدوان ، وتنشر كلمة الله وتبلغ رسالته .. حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
يقظة الروح ـ الإيمان والعزة والأمل
وينظر الناس في الدعوات إلى مظاهرها العملية وألوانها الشكلية ، ويهملون كثيرا النظر إلى الدوافع النفسية والإلهامات الروحية التي هي في الحقيقة مدد الدعوات وغذاؤها وعليها يتوقف انتصارها ونماؤها . وتلك حقيقة لا يجادل فيها إلا البعيد عن دراسة الدعوات وتعرف أسرارها ، إن من وراء المظاهر جميعا في كل دعوة روحا دافعة ، وقوة باطنة تسيرها وتهيمن عليها وتدفع إليها ، ومحال أن تنهض أمة بغير هذه اليقظة الحقيقية في النفوس والأرواح والمشاعر: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11) .
ولهذا أستطيع أن أقول إن أول ما نهتم له في دعوتنا ، وأهم ما نعول علية في نمائها وظهورها وانتشارها هذه اليقظة الروحية المرتجلة . فنحن نريد أول ما نريد يقظة الروح ، حياة القلوب ، صحوة حقيقية في الوجدان والمشاعر ، وليس يعنينا أن نتكلم عما نريد بهذه الدعوة من فروع الإصلاح في النواحي العملية المختلفة بقدر ما يعنينا أن نركز في النفوس هذه الفكرة .
نحن نريد نفوساً حية قوية فتية ، قلوباً جديدة خفاقة ، مشاعر غيورة ملتهبة متأججة ، أرواحاً طموحة متطلعة متوثبة ، تتخيل مثلاً علياً ، وأهدافاً سامية لتسمو نحوها وتتطلع إليها ثم تصل إليها ، ولابد من أن تحدد هذه الأهداف والمثل ، ولابد من أن تحصر هذه العواطف والمشاعر ، ولابد من أن تركز حتى تصبح عقيدة لا تقبل جدلاً ولا تحتمل شكاً ولا ريباً . وبغير هذا التحديد والتركيز سيكون مثل هذا الصحوة مثل الشعاع التائه في البيداء لا ضوء له ولا حرارة فيه ، فما حدود الأهداف وما منتهاها ؟!
إننا نتحرى بدعوتنا نهج الدعوة الأولي ونحاول أن تكون هذه الدعوة الحديثة صدي حقيقياً لتلك الدعوة السابقة التي هتف بها رسول الله r في بطحاء مكة قبل ألف ومئات من السنين ، فما أولانا بالرجوع بأذهاننا وتصوراتنا إلى ذلك العصر المشرق بنور النبوة ، الزاهي بجلال الوحي ، لنقف بين يدي الأستاذ الأول وهو سيد المربين وفخر المرسلين الهادين ، لنتلقى عنه الإصلاح من جديد ، وندرس خطوات الدعوة من جديد .
أي نور من وهج الشموس الربانية أشعله النبي الكريم في قلوب صحابته فأشرقت وأضاءت بعد ظلمة و ديجور ؟ وأي ماء من فيض الحياة الروحية أفاضه عليها فاهتزت وربت ونمت فيها الأزاهير وأورقت بالوجدانيات والمشاعر وترعرعت فيها العواطف والضمائر ؟! إن النبي قذف في قلوب صحابته بهذه المشاعر الثلاثة فأشرقت بها وانطبعت عليها :
( أ ) قذف في قلوبهم أن ما جاء به هو الحق وما عداه الباطل وأن رسالته خير الرسالات ، ونهجه أفضل المناهج ، وشريعته أكمل النظم التي تتحقق بها سعادة الناس أجمعين ، وتلا عليهم من كتاب الله ما يزيد هذا المعني ثباتاً في النفس وتمسكاً في القلب : (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ , وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ) (الزخرف:43-44) , (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (النمل:79) , (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الجاثـية:18) , (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) . فآمنوا بهذا واعتقدوه وصدروا عنه .
( ب ) وقذف في قلوبهم أنهم ما داموا أهل الحق وما داموا حملة رسالة النور وغيرهم يتخبط في الظلام ، وما دام بين يديهم هدى السماء لإرشاد الأرض فهم إذن يجب أن يكونوا أساتذة الناس وان يقعدوا من غيرهم مقعد الأستاذ من تلميذه : يجنوا عليه ويرشده ويقومه ويسدده ويقوده إلى الخير ويهديه سواء السبيل .
وجاء القرآن الكريم يثبت هذا المعني ويزيده كذلك وضوحاً ، وصاروا يتلقون عن نبيهم من وحي السماء : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (آل عمران:110) , (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة:143) , (وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج:78). فآمنوا بهذا أيضاً واعتقدوه وصدروا عنه .
( ج ) وقذف في قلوبهم أنهم ما داموا كذلك مؤمنين بهذا الحق معتزين بانتسابهم إليه ، فإن الله معهم يعينهم ويرشدهم وينصرهم ويؤيدهم ويمدهم إذا تخلي عنهم الناس ، ويدفع عنهم إذا أعوزهم النصير وهو معهم أينما كانوا . وإذا لم ينهض معهم جند الأرض تنزل عليهم المدد من جند السماء وأخذوا يقرءون هذه المعاني السامية واضحة في كتاب الله : (إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (لأعراف:128) , (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الأنبياء:105) , (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج:40) , (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:21) , (وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (يوسف:21) , (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) (لأنفال:12) , (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم:47) , (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ) (القصص:5) . قرءوا هذا وفقهوه جيداً فآمنوا به واعتقدوه وصدروا عنه .
وبهذه المشاعر الثلاثة : الإيمان بعظمة الرسالة والاعتزاز باعتناقها والأمل في تأييد الله إياها ، أحياها الراعي الأول r في قلوب المؤمنين من صحابته بإذن الله , وحدد لهم أهدافهم في هذه الحياة ، فاندفعوا يحملون رسالتهم محفوظة في صدورهم أو مصاحفهم ، بادية في أخلاقهم وأعمالهم معتدين بتكريم الله إياهم واثقين بنصره وتأييده , فدانت لهم الأرض وفرضوا علي الدنيا مدنية المبادئ الفاضلة وحضارة الأخلاق الرحيمة العادلة ، وبدلوا فيها سيئات المادية الجامدة إلى حسنات الربانية الخالدة , ويأبى الله إلا أن يتم نوره .
إلى هذه المشاعر الثلاثة ندعو الناس أولاً
أيها الناس , قبل أن نتحدث إليكم في هذه الدعوة عن الصلاة والصوم وعن القضاء والحكم وعن العادات والعبادات وعن النظم وعن المعاملات ، نتحدث إليكم عن القلب الحي والروح الحي والنفس الشاعرة والوجدان اليقظ والإيمان العميق بهذه الأركان الثلاثة : الإيمان بعظمة الرسالة والاعتزاز باعتناقها والأمل في تأييد الله إياها , فهل أنتم مؤمنون ؟ .
الفرد المسلم ، البيت المسلم ، الأمة المسلمة
وهذا الشعور القوي الذي يجب أن تفيض به النفوس ، وهذه اليقظة الروحية التي ندعو الناس إليها لابد أن يكون لها أثرها العملي في حياتهم !ولابــد أن تسبقها ولا شــك نهضــة عمليــة تتنــاول الأفـــراد والأســر والمـجتمعات .
( أ ) ستعمل هذه اليقظة عملها في الفرد فإذا به نموذج قائم لما يريده الإسلام في الأفراد ... إن الإسلام يريد في الفرد وجداناً شاعراً يتذوق الجمال والقبح ، وإدراكاً صحيحاً يتصور الصواب والخطأ ، وإدارة حازمة لا تضعف ولا تلين أمام الحق ، وجسماً سليماً يقوم بأعباء الواجبات الإنسانية حق القيام ويصبح أداة صالحة لتحقيق الإرادة الصالحة وينصر الحق والخير .
وقد وضع الإسلام تكاليفه الشخصية علي القواعد التي توصل إلى هذه النتائج كلها ، وفي النظر الإسلامي ما يرقي بالعقول والألباب ويدفعها إلى كشف ستائر الكون ومعرفة دقائق الوجود .
وفي الخلق الإسلامي ما يربي الإرادة الحازمة والعزيمة الماضية الصارمة ، وفي النظام الإسلامي في الطعام والشراب والمنام وتوابع ذلك من شؤون الحياة ما لو اتبعه الفرد لحفظ جسمه من مهلكات لا دواء لها ، ولظل في وقاية من فواتك الأمراض .
ولهذا نجوب علي الأخ المسلم أن يتعبد بما أمره الله به ليرقي وجدانه ، وأن يتعلم ما وسعه العلم ليتسع إدراكه وأن يتخلق بأخلاق الإسلام لتقوي إرادته ، وأن يلتزم نظام الإسلام في الطعام والشراب والنوم ليحفظ الله عليه بدنه من غوائل الأمراض والسقام .
والإسلام حين يضع هذه القواعد لا يضعها للرجال ويدع النساء ولكن الصنفين في هذه الناحية الفردية في الإسلام سواء ، فعلي الأخت المسلمة أن تكون كالأخ المسلم في دقة وجدانها وسمو إدراكها ومكانة خلقها وسلامة بدنها .
( ب ) وسيكون لهذا الإصلاح الفردي أثره في الأسرة ، ذلك أن الأسرة مجموعة أفراد ، فإذا صلح الرجل وصلحت المرأة ـ وهما عماد للأسرة ـ استطاع أن يكونا بيتاً نموذجياً وفق القواعد التي وضعها الإسلام ، وقد وضع الإسلام قواعد البيت فأحكم وضعها ، فأرشد إلى حسن الاختيار ، وبين أفضل الطرائق للارتباط وحدد الحقوق والواجبات ، وأوجب علي الطرفين رعاية ثمرات هذا الزواج حتى ينع وتنضج في غير عبث ولا إهمال ، وعالج ما يعترض هذه الحياة الزوجية من المشكلات أدق علاج ، وأختط في كل نظراته طريقاً وسطاً لا تفريط فيه ولا إفراط .
( ج ) وإذا صلحت الأسرة فقد صلحت الأمة مجموعة هذه الأسر وإنما الأسرة أمة مصغرة والأمة أسرة مكبرة ، وقد وضع الإسلام للأمة قواعد الحياة الاجتماعية السعيدة ، فعقد بين بنيها آصرة الأخوة وجعلها قرينة الإيمان ، ورفع مستوى هذه الصلة إلى المحبة بل إلى الإيثار ، وقضى على كل ما من شأنه أن يمزق هذه الروابط أو يضعف هذه الوشائج ، وحدد الحقوق والواجبات والصلات ،فللأبوة حقها وعليها واجبها ، وللنبوة مثال ذلك ، ولذوى القربى حقوقهم وعليهم واجباتهم ، وفصل مهمة الحاكم والمحكوم أدق تفصيل ، وبين المعاملات بين الناس أحكامها بأفصح بيان ، ولم يجعل لأحد علي أحد فضلاً إلا بالتقوى فلا سيد ولا مسود ولا أمراء ولا عبيد ، ولكن الناس في ذات الله سواسية كأسنان المشط ، إنما يتفاوتون بعمل الصالحات ، وكذلك حدد صلات الأمم بعضها ببعض ، وبين حقوق كل صنف فيها وواجباته ، ولم يدع من ذلك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .
وقد عالج الإسلام بعد ذلك مشاكل المجتمعات . فالوقاية مما يؤدي إليها أولاً واستئصال ما عساه أن يحدث منها ثانياً . فلكل مشكلة اجتماعية عنده دواء ، والدواء الأول في كل علاج صلاح النفوس والتضامن الاجتماعي بين بني الإنسان .
والإسلام يحيط بكل ذلك لا يسلك سبيل العنت ، ولا يحمل الناس علي ما يؤدي إلى الحرج ولكن يريد بالناس اليسر ولا يريد بهم العسر ، ويضع القواعد الكلية ويدع الفرعيات الجزئية ويرسم طرائق التطبيق ، ويكل للأزمان والعصور وبعد ذلك أن تعمل عملها وهو لذلك شريعة كل زمان ومكان ، وهو لذلك يفرض نشر الدعوة حتى تشمل الناس أجمعين ويتحقق قوله تعالي : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107) . وإذا قوي الشعور الذي أشرنا إليه آنفاً ، وأدي إلى نتيجته التي وضعناها الآن ، فطبق نظام الإسلام علي الفرد والبيت والأمة ، ووصلت الرسالة إلى القلب والآذان ، فقد نجحت فكرتنا واستجيبت دعوتنا ويأبى الله إلا أن يتم نوره .
بين الصبغة الاستقلالية والصبغة التقليدية
نحن نريد الفرد المسلم ، والبيت المسلم ، والشعب المسلم ، ولكنا نريد قبل ذلك أن تسود الفكرة الإسلامية حتى تؤثر في كل هذه الأوضاع وتصبغها بصبغة الإسلام ، وبدون ذلك لن نصل إلى شيء ، نريد أن نفكر تفكيراً استقلالياً يعتمد علي أساس الإسلام الحنيف لا علي أساس الفكرة التقليدية التي جعلتنا نتقيد بنظريات الغرب واتجاهاته في كل شيء ، نريد أن نتميز بمقوماتنا ومشخصات حياتنا كأمة عظيمة مجيدة تجر وراءها أقدم وأفضل ما عرف التاريخ من دلائل ومظاهر الفخار والمجد.
لقد ورثنا هذا الإسلام الحنيف واصطبغنا به صبغة ثابتة قوية ، تغلغلت في الضمائر والمشاعر ولصقت بحنايا الضلوع وشغاف القلوب ؛ واندمجت مصر بكليتها في الإسلام بكليته : عقيدته ولغته وحضارته ودافعت عنة وذادت عن حياضه وردت عنة عادية المعتدين ، وجاهدت في سبيله ما وسعها الجهاد بمالها ودم أبنائها ، وأنقذته من براثن التتار وأنياب الصليبيين ، وردت الجميع على أعقابهم خاسرين ، استقرت فيها فيها علوم الإسلام ومعارفه ،واحتوت الأزهر أقدم جامعة تقوم على حياطتة ورعايته وحراسته ، وانتهت إليها زعامة شعوبه الأدبية والاجتماعية ، وصارت مطمح أنظار الجميع ومعقد آمالهم.
هذا الإسلام ، عقيدته ونظمه ولغته وحضارته ، ميراث عزيز غال على مصر ليس تفريطها فيه بالشيء الهين ولا إبعادها عنه بالأمر المستطاع مهما بذلت في سبيل ذلك الجهود الهدامة المدمرة . ومن هنا بدت مظاهر الإسلام قوية فياضة زاهرة دفاقة في كثير من جوانب الحياة المصرية : فأسماؤها إسلامية ولغتها عربية ، وهذه المساجد العظيمة يذكر فيها اسم الله ويعلو منها نداء الحق صباح مساء ، وهذه مشاعرنا لا تهتز لشيء اهتزازها للإسلام وما يتصل بالإسلام . كل ذلك حق ، ولكن هذه الحضارة الغربية قد غزتنا غزواً قوياً عنيفاً بالعلم والمال ، وبالسياسة والترف ، والمتعة واللهو وضروب الحياة الناعمة العابثة المغرية التي لم نكن نعرفها من قبل . فأعجبنا بها ، وركنا إليها ، وأثر هذا الغزو فينا أبلغ الأثر وانحسر ظل الفكرة الإسلامية عن الحياة الاجتماعية في كثير من شؤونها الهامة ، واندفعنا نغير أوضاعنا الحيوية ونصبغ معظمها بالصبغة الأوروبية ، وحصرنا سلطان الإسلام في حياتنا علي القلوب والمحاريب ، وفصلنا عنه شؤون الحياة العملية ، وباعدنا بينه وبينها مباعدة شديدة وبهذا أصبحنا نحيا حياة ثنائية متذبذبة أو متناقضة .
الإسلام بما فيه من روعة وجلال ، وبسلطانه الساحر العذب الجذاب ، وأصوله الثابتة المدعمة القوية ، وحجته البـالغة يجذب إليـه القلـوب والمشاعر ، ويجعلنا نحن المؤمنين به في حنين دائم إليه . وهذه الحياة الغربية بما تحتويه من مباهج ومفاتن وبما لها من مظاهر القوة المادية تحاول أن تسيطر وتهيمن علي ما بقي لنا من شؤوننا الحيوية . هذا وضع مشاهد ملموس يراه ويعلمه كل ما يعنيه أمر هذه الأمة ، ولا بد أن ينتهي هذا التذبذب إلى استقرار ولابد أن يتغلب أحد الجانبين علي الآخر فلكل شيء نهاية !.
فنحن الإخوان المسلمين نشفق كل الإشفاق من أن تكون هذه النهاية هي التحلل مما بقي من مظاهر الإسلام والانغماس الكلي في الحياة الغربية بكل مظاهرها ، ولقد ارتفعت بذلك صيحات وقامت علي قواعده دعوات ، وسبقتنا غليه شعوب وحكومات ، وإن كان ذلك كله قد خفت وطأته الآن أمام ما يقاسي العالم كله من محن وويلات.
نحن نشفق من هذا المصير ، وندعو إلى أن تعود مصر إلى تعاليم الإسلام وقواعده ، تعتمد عليها وتستمد منها وتبني علي أساسها النهضة الجديدة وتركز عليها الأوضاع الاجتماعية في المستقبل إن شاء الله . وإذ كان الإسلام يدعو إلى أن نأخذ من كل شيء أحسنه ، وينادي بأن الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها ، ولا يمنع من أن تقتبس الأمة الإسلامية الخير من أي مكان ، فليس هناك ما يمنع من أن ننقل كل ما هو نافع مفيد عن غيرنا مفيد ونطبقه وفق قواعد ديننا ونظام حياتنا وحاجات شعبنا .
أما أثر هذا التذبذب في مظاهر حياتنا العملية فكبير واضح ، ولعلة مصدر كثير من المشكلات في التعليم والقضاء ، وفى حياة الأسرة وفى منابع الثقافة العامة وفى غير ذلك من الشؤون العامة ، هل هناك أمة غير مصر يسير التعليم فيها من أول خطواته على هذين اللونين من ألوان التربية ، فهناك التعليم الديني يتصل بنصف الأمة وينتهي إلى الأزهر ومعاهدة وكلياته ، وهناك التعليم المدني يتصل بالنصف الثاني ويتميز كل منها بخواصه ومميزاته ؟ وهل لذلك من سبب سوى أن السلسلة الأولى هي أثر الإسلام الباقي في نفوس هذه الأمة وأن السلسلة الثانية هي نتاج مجاراة الغرب والأخذ عنة ، فما الذي يمنع من توحيد التعليم في مراحله الأولى على أساس التربية القومية الإسلامية ثم يكون بعد ذلك التخصص ؟ وهل هناك أمة غير مصر ينقسم فيها القضاء إلى شرعي وغير شرعي كما ينقسم القضاء المصري وهل لذلك سبب سوى أن القضاء الأول أثر الإسلام في الحياة المصرية والثاني وليد النقل عن الغرب والأخذ عنه ، وما الذي يمنع من أن تتوحد المحكمة على أساس اعتبار الشريعة الإسلامية هي شريعة البلاد ومصدر التقنين ؟ وهذه البيوت المصرية ، ألسنا نلمح فيها أثر هذه الحياة المذبذبة المتناقضة ، فكثير من الأسر المصرية لا تزال شديدة المحافظة على ما ورث من تعاليم الإسلام وآدابه في الوقت في الوقت الذي انسلخ فيه الكثير عن هذه التعاليم وخرج على هذه الآداب وغلبت علية نزعة التقليد في كل شيء بل جاوز بعضنا ذلك الحد حتى صار غريبا أكثر من الغربيين .
ولا بد من وضع حد لهذا التفاوت الغريب حتى نظفر بالأمة الموحدة ، فبدون الوحدة لا تحقق نهضة ولا تحيا أمة حياة الكمال .
لهذا يدعوا الإخوان المسلمون إلى أن يكون الأساس الذي تعتمد علية نهضتنا هو توحيد مظاهر الحياة العملية في الأمة على أساس الإسلام وقواعده وبذلك تبنى مصر نفسها ، وتقدم للعالم كله أكمل نماذج الحياة الإنسانية الصحيحة.
وسيلتنا العامة .. بين جماعة وفكرة
الكلام عن الوسيلة العامة للإخوان المسلمين يقف بنا أمام هذه الدعوة كجمعية من الجمعيات التي تقوم بالخدمة العامة ، ثم يقف بنا كذلك أمامها كدعوة من الدعوات التجديدية لحياة الأمم والشعوب التي ترسم لها منهاجا جديدا تؤمن به وتسير عليه.
أ ـ لا شك أن جماعات الإخوان تقوم بالخدمة العامة من بناء المساجد وعماراتها ، ومن فتح المدارس والمكاتب والإشراف عليها، ومن إنشاء الأندية والفرق وتوجيهها ورعايتها ، ومن الاحتفال بالذكريات الإسلامية احتفالا يليق بجلالها وعظمتها ، ومن الإصلاح بين الناس في القرى والبلدان إصلاحا يوفر عليهم كثيرا من الجهود والأموال ، ومن التوسط بين الأغنياء الغافلين والفقراء المعوزين بتنظيم الإحسان وجمع الصدقات لتوزع في المواسم والأعياد ، لاشك أن الإخوان يقومون بهذا كله ولهم فيه والحمد لله أثر يذكر، وقد تضاعفت نشاطهم في هذه النواحي مضاعفة ملموسة في هذا الدور من أدوار الدعوة بطبيعة التفات الناس إليها وإقبالهم عليها ، ووسيلة الإخوان في هذه الميادين التنظيم والتطوع والاستعانة بأهل الرأي والخبرة ، وتدبير ما تحتاج إليه هذه المشروعات من أموال من المشتركين تارة ومن المتبرعين أخرى إلى ما ينفع لمثل هذه المشروعات ، ولسنا نقول إن الإخوان قد اكتملت جهودهم في هذه الناحية ولكنا نقول انهم يسيرون بخطوات واسعة نحو الكمال ، والله الموفق المستعان. هؤلاء هم الإخوان وتلك هي دعوتهم كجماعة من جماعات الخدمة العامة .
ب ـ ولكن الإخوان كما علمت ليسوا كذلك فحسب ، ولكن لب دعوتهم فكرة وعقيدة يقذفون بها في نفوس الناس ليتربى عليها الرأي العام وتؤمن بها القلوب وتجتمع من حولها الأرواح : تلك هي العمل للإسلام والعمل به في كل نواحي الحياة .
أما الوسيلة إلى تحقيق ذلك فليست المال ، والتاريخ منذ عرف إلى الآن يحدثنا أن الدعوات لا تقوم أول أمرها بالمال ولا تنهض به بحال ، فهي تحتاج إلى مال في بعض مراحل طريقها ولكن محالا أن يكون قوامها ودعامتها، فرجال الدعوات وأنصارها هم دائما المقلون من هذا المال وسل التاريخ ينبئك ، وليست الوسيلة القوة كذلك فالدعوة الحقة إنما تخاطب الأرواح أولا وتناجى القلوب وتطرق مغاليق النفوس ، ومحال أن تثبت بالعصا أو أن تصل إليها على شبا الأسنة والسهام ، ولكن الوسيلة في تركيز كل دعوة وثباتها معروفة معلومة مقروءة لكل من له إلمام بتاريخ الجماعات ...
وخلاصة ذلك جملتان : إيمان وعمل ومحبة وإخاء . ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركيز دعوته في نفوس الرعيل الأول من أصحابه أكثر من أنه دعاهم إلى الإيمان ، ثم جمع قلوبهم على الحب والإخاء ، فاجتمعت قوة العقيدة إلى قوة الوحدة وصارت جماعتهم هي الجماعة النموذجية التي لابد أن تظهر كلمتها وتنتصر دعوتها وان ناوأها أهل الأرض جميعا، وماذا فعل الدعاة من قبل ومن بعد أكثر من هذا ؟ ينادون بالفكرة ويوضحونها ويدعون الناس إليها فيؤمنون بها ويعملون لتحقيقها ويجتمعون عليها ويزدادون عددا فتزداد الفكرة بهم ظهورا حتى تبلغ مداها وتبتلع ما سواها ، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا . وليست دعوة الإخوان بدعا في الدعوات فهي صدى من الدعوة الأولى يدوي في قلوب هؤلاء المؤمنين ويزداد على ألسنتهم . ويحاولون أن يقذفوا به إيمانا في قلوب الأمة المسلمة ليظهر عملا في تصرفاتها ولتجمع قلوبها علية ، فإذا فعلوا ذلك فأيدهم الله ونصرهم وهداهم سواء السبيل .. فإلى الإيمان والعمل وإلى الحب والإخاء أيها الإخوان والله معكم وتلك هي وسيلتكم والله غالب على أمره ..
في اجتماع رؤوساء المناطق ومراكز الجهاد
المنعقد بالقاهرة في 3 شوال سنة 1364هـ الموافق 8 سبتمبر سنة 1945 م
مقدمـة
بِسْــمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيـمِ
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين ..
أيها الاخوة الفضلاء..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وبعد ، فقد خطر لي أن أشكركم على ما تجشمتم من مشقة وتحملتم من عناء وأنفقتم من نفقة في سبيل حضوركم هذا الاجتماع ، ولكنى سألت نفسي : أليس ذلك هو أيسر ما تقتضيه الدعوة من واجبات ؟ وإذاً ففيم الشكر ، وقديما قيل : لا شكر على واجب ، ولهذا عدلت عن أن أتقدم إليكم شاكرا ، ولكن ذلك لا يحول بيني وبين أن أتقدم إليكم مبشرا ، بما أعد الله لعباده العاملين المخلصين من عظيم الأجر وجزيل المثوبة متى عملوا واخلصوا واستجابوا لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم ، فبشراكم أيها الإخوان .. إنكم ما خطوتم خطوة أو أنفقتم نفقة تبتغون بها إعزاز كلمة الله ونصر الدعوة والاجتماع على الحب في الله والتآخي في الله , إلا كتب الله لكم بها ، ورفع لكم بها في الملأ الأعلى ذكرا ، وصدق الله العظيم : (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (التوبة:121) , كما أني أتقدم كذلك مهنئنا بهذا الموسم , موسم عيد الفطر , سائلا الله تبارك وتعالى أن يعيده على الإنسانية التائهة بالهداية والتوفيق , وإن كان عيدنا الحقيقي يوم تنتصر دعوتنا , وتنهض دولتنا , وتعلو بنا كلمة الله في أرضه ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله .
أيها الإخوة الأحبة الفضلاء ...
أي معنى جليل , وأي شعور نبيل يثيره اجتماعكم في نفس من يراكم , إذا اتصل شعوره بشعوركم , ونفذت بصيرته إلى أعماق نفوسكم , فرأى أي دافع كريم استولى عليكم فدفع بكم إلى هذا المكان ، ورأي أي تفكير سام بريء طهور تزدحم به في هذه الساعات خواطركم ، وأي جلال ووقار ورحمة وسكينة ورضوان تحف الآن بمجلسكم هذا وتتغشاكم في أماكنكم.
أمة جديدة :
جديدة في قلوبها النقية البيضاء التي يغمرها الإيمان واليقين جديدة في عقولها المشرقة المستنيرة بتعاليم القرآن الكريم , وهداية رب العالمين .
جديدة في آمالها وأمانيها التي لا تمت إلى الأنانية بسبب ، ولكنها تبقي الخير والسعادة للناس أجمعين. جديدة في وسائلها الواضحة الصريحة العادلة الرحيمة التي تبدأ بالحكمة والموعظة الحسنة وتنتهي بالإنصاف والعدالة الرحمة ، وتنتظر مثوبة ذلك في قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83).
أيها الإخوة الفضلاء ..
اذكروا نعمة عليكم واقدروا أنفسكم واقدروا دعوتكم ، وأبشروا فالمستقبل لكم والله معكم ولن يتركم أعمالكم ، وثقوا بأنكم تمثلون تمثيلا حقيقيا أمة وادي النيل التي يفوق عددها ثلاثين مليونا ، ومعها بقية الأمة العربية التي تناهز سبعين مليونا ، ومن ورائها العالم الإسلامي الذي يبلغ ثلاثمائة مليونا من المسلمين ، أنتم تمثلون هذه المجموعة من الناس تمثيلا حقيقيا صحيحا قد تنكره عليكم الجهات الرسمية والشكليات العملية ، ولكن هل يشك منصف عادل في أنكم هنا في اجتماعكم هذا تختلج نفوسكم بما تختلج به هذه النفوس جميعا من المشاعر؟ وتمتلئ رؤوسكم بما تمتلئ به هذه الرؤوس جميعا من الأفكار؟ وتنطلق ألسنتكم بما تردده تلك الألسن من الكلمات؟
ولو خُلّي بين هؤلاء وبين حريتهم لصافحت أيديهم أيديكم في حرارة وشوق ، وضمت صدورهم صدوركم في حب ولهف ، ودوّى هتافهم عاليا قويا مع هتافكم : الله اكبر ولله الحمد ، وهي الأخوة التي لا تنفصم والتي جمع عليها القرآن قلوب المؤمنين به في كل مكان ، وسجّلها لهم إذ يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10) .
فيا أيها الممثلون الحقيقيون لخير أمة أخرجت للناس اسمعوا ..
أولاً ـ ما هي دعوتكم؟
لقد أعلنتم من أول يوم أن دعوتكم "إسلامية صميمة" على الإسلام تعتمد ومنه تستمد ، وهتفتم بها من كل قلوبكم (الله غايتنا ، والرسول قدوتنا ، والقرآن دستورنا ، والجهاد سبيلنا ، الموت في سبيل الله أسمى أمانينا ..) ولكنكم مع هذا فهمتم الإسلام فهما شاملا :
1 ـ فآمنتم به نظاما اجتماعيا كاملا يصحح للناس أوضاع مجتمعهم في كل شئ ، فلا يدع صغيرة ولا كبيرة من شؤون الحياة إلا تناولها ، وأوضح ما فيها من خير ليقبل الناس عليه ، وما فيها من شر ليجتنبوه .
2 ـ وآمنتم كذلك بأن من واجب المسلم الحق أن يجاهد في سبيل هذا الإسلام حتى يهيمن على المجتمع كله ، ويحتل مكانه الذي هيأه الله له في دنيا البشر.
3 ـ وآمنتم كذلك بأن ذلك أمر ممكن ميسور لو أراده المسلمون واجتمعوا عليه .
وقد تكون هذه الأمور الثلاثة محلّ خلاف بينكم وبين فريق من المسلمين أنفسهم ، فلا زال كثيرون لا يرون الإسلام إلا في صور من العقائد الصحيحة أو الفاسدة , والعبادات الكاملة أو الناقصة .. ولا يزال الكثيرون يرون أن الجهاد في سبيل هذا الإسلام أمر قد انقضى وقته ومضى زمنه .. ولا يزال الكثيرون يرون أن العقبات أمام المجاهدين في سبيل هذه الغاية أكبر من أن يزيلها شئ .
ولهذا القصور في الفهم والصغر في الهمم واليأس في النفوس استسلم كثير من الناس للأمر الواقع ، وظنوا أن ذلك يرفع عنهم اللوم في الدنيا والعذاب في الآخرة ، ونسوا قول الله تبارك وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:97) ، فقمتم أنتم أيها الإخوان المسلمون تنفضون عنكم وعن الناس أوضار القصور والضعف واليأس ، وتنتظرون موعود الله تبارك وتعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ , الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:40-41) .
بين دورين
لقد جاء الإسلام الحنيف يقرر للدنيا أعدل المبادئ وأقوم الشرائع الربانية ، ويسمو بالنفس الإنسانية ويقدس الأخوة العالمية ، ويضع عقيدة الخلود والجزاء دافعا إلى الأعمال الصالحة ومانعا من الفساد في الأرض ، ويرسم الطريق العملي لذلك كله في حياة الناس اليومية ثم في أوضاعهم المدنية ، ويحيى على ذلك القلوب ، ويجمع عليه الأمة ، ويقيم على أساسه الدولة ، ويوجب الدعوة إليه في الناس كلهم حتى لا تكون فتة ويكون الدين كله لله.
ومضت على هذا حياة المسلمين حينا من الدهر ، علت فيها دعوتهم ، وامتدت دولتهم ، وتمكن سلطانهم ، وسادوا أمم الدنيا ، وكانوا أساتذة الناس ، ووعدهم الله على ذلك أجمل المثوبة ، وحقق لهم هذا الوعد : (فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:148).
ثم اختلط عليهم بعد ذلك الأمر ، فاتخذوا الدين طقوسا وأشكالا ، والعلم والمعرفة جدلا ومراء ، ووزعوا مهمة الإصلاح لتكون أداة للدنيا ووسيلة للجاه والمال ، ففسدت النفوس أولا وتفرقت الكلمة بعد ذلك ، ودالت الدولة تبعا لهذا ، وطمع في المسلمين من لا يدفع عن نفسه ، فوقعوا تحت حكم غيرهم وسلطانه ، وتغّيرت تبعا لذلك كل أوضاع حياتهم الأدبية والعلمية.
وأراد المصلحون الغيورون أن يتداركوا الأمر ، فقامت طائفة تحاول إصلاح النفوس ، وقامت أخرى تحاول خدمة الشعوب ، واختصت ثالثة نفسها بتقويم أداة الحكم ،وأطلق كل على نفسه اسما يرضاه ووصفا يعجبه ، انتصر لمهمته ، وانتقص مهمة غيره ، وكان شرط هذا الاختصاص ـ ليكون نافعا مفيدا ـ أن تقوّى كل ناحية الأخرى وتكون سنادا لها ، فيدفع من يهيمنون على تربية النفوس أتباعهم إلى خدمة المجتمعات ، وهؤلاء ينبهون من معهم إلى أن صلاح المجتمع بصلاح الحكم ، حتى يتآزر الجميع على الإصلاح العام . وكان شرط هذا الاختصاص كذلك أن تقوم هناك الهيئة الجامعة التي تأخذ بأطرافه وتجمع بين حواشيه ، وكان شرط هذا الاختصاص أخيرا أن به الأكفاء المخلصون ، ولكن هذا كله لم يتوفر إلا نادرا ، والنادر لا حكم له .
مقاصد الدعوة ووسائلها العامة
وظهرت دعوتكم أيها الإخوان في ثنايا هذه السحب المتراكمة جميعاً , فلمعت كما يلمع البرق الوامض , ثم أنارت كما تنير الشمس المشرقة , تبعث في القوم النور والحياة واليقظة بعد طول نوم وخمود , فكانت أغراضكم وأهدافكم هي أغراض الإسلام الحنيف ومقاصده .
1 ـ تصحيح فهم المسلمين لدينهم وشرح دعوت القرآن الكريم شرحا وضحا ، وعرضها عرضا كريما يوافق روح العصر ، ويكشف عما فيها من روعة وجمال ، ويرد عنها الأباطيل والشبهات.
2 ـ ثم جمع المسلمين عمليا على مبادئ كتابهم الكريم بتجديد أثره البالغ القوى في النفوس .
3 ـ ثم خدمة المجتمعات وتنقيتها بمحاربة الجهل والمرض والفقر والرذيلة ، وتشجيع البر والنفع العام في آية صورة .
4 ـ ولن يستشعر أحد العزة والكرامة ويتذوق طعم الحياة الكريمة إلا إذا شبع بطنه واستغني عن غيره ، وتوفرت له ضروريات حياته ، وإلي ذلك نظر الإسلام فلم يهمل المعاني الاقتصادية ولم يتغافل عن الإصلاح المالي ، بل إنه وضع لذلك أفضل القواعد التي تنمي وحدة الأمة أفراداً وجماعات , وترفع مستوي المعيشة وتقرب بين الطبقات ، وتؤمن الجميع أنفسهم وزراريهم وأولادهم ، وتضمن لهم العدالة الاجتماعية الصحيحة ، وتوفر الفرص المتكافئة للجميع علي السواء .
لم يحتقر الإسلام المال ، ولم يزهد في الثروة ولم يحرم الطيبات , بل اعتبر المال من نعم الله الواجبة الشكر ، وقال النبي r : (نعم المال الصالح للرجل الصالح) ، واستعاذ من العوز والفقر وقرنه بالكفر فقال : (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر) ، وحث بعد ذلك علي العمل والكسب ، واعتبر ذلك قربة إلي الله تؤدي إلي حبه ومثوبته ومغفرته . فقال رسول الله r : (إن الله يحب المؤمن المحترف) كما قال : (من أمسي كالاً من عمل يده أمسي مغفوراً له) ، وحرم السؤال والاستجداء لما في ذلك من مذلة وهوان .
ثم أوصي بعد هذا بالمحافظة علي هذا المال والاعتدال في إنفاقه وابتغاء أفضل السبل به فقال القرآن الكريم : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً) (النساء:5) ، وقال : (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) (الفرقان:67) .
ثم لفت النظر إلي منابع الثروة وأصول طرائق الكسب من التجارة والزراعة والصناعة والثروات الحيوانية والمعدنية والمائية والهوائية والقوي الكونية ، وكل ذلك واضح في كتاب الله العلي الكبير ، وحث المسلمين علي استغلالها وتثميرها والانتفاع بها وعدم الغفلة عنها ، جمع لهم ذلك في إشارة واضحة , (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) (لقمان:20).
ثم حرم الكسب الحرام كله إلي البغضاء والشحناء وفساد المجتمعات ، لأن الإسلام حين أراد لن يوفر للفرد وسائل الحياة والرفاهية أراد كذلك أن يوفر للمجتمع حياة التكافل والطمأنينة , ويقضي فيه علي فحش الأثرة والأنانية ، فحرم الربا وحرم النصب وحرم الاحتيال , ووضع في ذلك القاعدة المعروفة من تقديم المنفعة العامة علي المنفعة الخاصة دائماً ، فإذا تعارضت حقوق الفرد مع حقوق الجماعة أهدرت الحقوق الفردية وعوض عنها أصحابها ، وأقيمت حقوق الجماعة بما يوصل للخير العام .
ولم يقف أمر النظام الاقتصادي الإسلامي عند هذا الحد , ولكنه رسم الخطط الأساسية للتقريب بين الطبقات فانتقص من مال الغني بما يزكيه ويطهره وينقيه ويكسبه القلوب والمحامد , وزهّده في الترف والخيلاء ورغّبه في الصدقة والإحسان , وأجزل له في ذلك المثوبة والعطاء وقرر للفقير حقاً معلوماً وجعله في كفالة الدولة أولاً وفي كفالة الأقارب ثانياً وفي كفالة المجتمع بعد ذلك . ثم قرر بعد هذا صور التعامل النافع للفرد الحافظ للجماعة تقريراً عجيباً في دقته وشموله وآثاره ونتائجه ، وأقام الضمير الإنساني مهيمناً عليها من وراء هذه الصور الظاهرية . كل هذا بعض ما وضع الإسلام من قواعد ينظم بها شأن الحياة الاقتصادية للمؤمنين ، وقد فصلت الحياة الاقتصادية الممسوخة التي يحياها الناس في هذه الأعصر بين الاقتصاد والإسلام ، فقمتم أنتم ومن أهدافكم وأغراضكم الإصلاح الاقتصادي بتنمية الثروة القومية وحمايتها ، والعمل علي رفع مستوي المعيشة ، والتقريب بين الطبقات ، وتوفير العدالة الاجتماعية ، والتأمين الكامل للمواطنين جميعاً ، وإقرار الأوضاع التي جاء بها الإسلام في ذلك كله .
5 ـ وإذا كانت هذه الأهداف جميعاً لا تتحقق إلا في ظل الدولة الصالحة وقد عرفتنا الأيام ألوان الحكومات التي تقوم علي غير النظام الإسلامي , فإذا هي جميعاً لا تزيد الأمر إلا شدة ، مع أن دستور بلاد الذي ارتضته نظاماً لنفسها يعلن في المادة (149) منه : (أن دين الدولة الإسلام ولغتها الرسمية اللغة العربية ) ، فكان لابد أن تطالبوا بحق الإسلام في إقامة الحكومة التي ترتكز علي أصوله وأحكامه وتعاليمه , وشرط ذلك الحرية والاستقلال الكامل فكان طبيعياً أن يكون من أهدافكم ـ كدعوة إسلامية صحيحة كاملة ـ تحرير وادي النيل والبلاد العربية والوطن الإسلامي بكل أجزاؤه من كل سلطان أجنبي .
6 ـ ودعوة الإسلام الحنيف ليست قاصرة علي شعب دون شعب أو قطر دون قطر فإن الله يقول لنبيه r : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) (سـبأ:28) ، ويقول (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان:1) ، ويقول : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (إبراهيم:1) ، وذلك أول أساس روحي وعملي ، وضع في هذه الأرض للوحدة العالمية التي يهتف بها الزعماء وتمهد لها المخترعات وتتجمع عليها أفكار الأرض وتتهيأ لها الشعوب والأمم في هذه الأيام , فمن دعواتكم أيها الإخوة الأحبة أن تساهموا في السلام العالمي وفي بناء الحياة الجديدة للناس بإظهارهم علي محاسن دينكم وتجليه مبادئه وتعاليمه لهم وتقديمها إليهم بعد هذا الظمأ القاسي الذي التهبت به أكبادهم في هذه الحياة المادية الميكانيكية القاسية .
تلك هي مقاصد دعوتكم وأغراض هيئتكم ، كلها من الإسلام الحنيف لا تخرج عنه قيد شعرة و (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ) (لأعراف:43).
أما وسائلكم من هذه الغاية فهي وسائل الدعوة الأولي :
1 ـ نشر الدعوة للتبليغ وتربية النفوس علي هذه التعاليم عملياً للتكوين.
2 ـ ووضع المناهج الصالحة في شؤون الحياة للتوجيه والتقدم إلي الأئمة والهيئات النيابية والتنفيذية والدولية.
3 ـ وفي أثناء ذلك من مهمتكم إسداء الخير والمعروف للناس .
هكذا كنتم منذ وضع الأساس الأول لدعوتكم في شهر ذي القعدة 1347هـ ، 1928 م , وعلي هذا ظللتم وثبتم وستظلون وتثبتون حتى يحقق الله وعده إن شاء الله .
وصفنا
وسيقول الناس ما معني هذا وما أنتم أيها الإخوان ؟ أننا لم نفهمكم بعد ، فأفهمونا أنفسكم وضعوا لأنفسكم عنواناً نعرفكم به كما تعرف الهيئات بالعناوين .
هل أنتم طريقة صوفية ؟ أم مؤسسة اجتماعية ؟ أم حزب سياسي ؟ كونوا واحداً من هذه الأسماء والمسميات لنعرفكم بأسمائكم وصفتكم .
فقولوا لهؤلاء المتسائلين : نحن دعوة القرآن الحق الشاملة الجامعة :
ـ طريقة صوفية نقية : لإصلاح النفوس وتطهير الأرواح وجمع القلوب علي الله العلي الكبير .
ـ وجمعية خيرية نافعة تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتواسي المكروب وتبر بالسائل والمحروم وتصلح بين المتخاصمين .
ـ ومؤسسة اجتماعية قائمة : تحارب الجهل والفقر والمرض والرذيلة في أية صورة من الصور .
ـ وحزب سياسي نظيف يجمع الكلمة ويبرأ من الغرض ويحدد الغاية ويحسن القيادة والتوجيه .
وقد يقولون بعد هذا كله لازلتم غامضين فأجيبوهم : لأنه ليس في يدكم مفتاح النور الذي تبصروننا علي ضوئه ... نحن الإسلام أيها الناس فمن فهمه على وجهه الصحيح فقد عرفنا كما يعرف نفسه فافهموا الإسلام أو قولوا عنا بعد ذلك ما تريدون .!
نحن ووزارة الشؤون الاجتماعية
أيها الاخوة الأحبة ..
على هذا الوضع الواضح الكريم نشأت دعوتكم ودرجت ،ثم أنشئت خلال ذلك وزارة الشؤون الاجتماعية وكان من مهمتها تنشيط أعمال البر وتشجيع الهيئات الشعبية والجمعيات الخيرية وإعانتها ماديا وأدبيا على ما هي بسبيله من عمل الخير ، ورأينا أن لا مانع من أن نتعاون معها في ذلك في الناحية التي تخصها من نشاطنا واتصالنا بها على هذا الأساس وأذنّا لشعب الإخوان أن تتصل بها كذلك ، واستمرت صلتنا بوزارة الشؤون على هذا النحو من التفاهم والتعاون إلى الآن ، حتى صدر القانون رقم 49 لسنة 1945 م الخاص بتنظيم الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية والتبرع للوجوه الخيرية وفيه تحديد لمعنى الجمعية والمؤسسة . وبتطبيق هذا التحديد على هيئة الإخوان المسلمين نراه لا ينطبق عليها بحال فلا هي جمعية خيرية ولا هي مؤسسة اجتماعية وإن كانت تعمل الخير وتخدم المجتمع فإنها تعتمد في ذلك أولا على مال أعضائها وعلى ما يجمع من الجمهور.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فان هذا ليس كل أغراضها ولم تنشأ له خاصة . ولسنا نأبى أن نتعاون مع وزارة الشؤون في الخير وخدمة الناس فإننا نرحب بذلك ونوده ولكننا نريد أن توضع الأمور في وضعها الصحيح وألا نضع أنفسنا ودعوتنا التي وقفنا لها الدم والمال والحياة والأبناء وهي عندنا أمل الآمال في موضع يغل يدها ويحول بينها وبين العمل لتحقيق أغراضها والوصول إلي أهدافها .
هل يتوهم إنسان أن دعوة الإخوان وجماعتهم تكون في عرف القانون ومنطق الأوضاع السليمة الصحيحة ـ وهي الهيئة التي تعمل لتنشر في الدنيا دعوة القرآن وتحيي أمته وتقيم دولته وتواجه الدنيا بتعاليمه لينعم الناس في ظله بما يحلمون به من سعادة وسلام , (قََدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ , يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:15-16) ، هذه الهيئة أيها الإخوان وهذا مقصدها ـ هل يتوهم أحد أن تكون في عرف القانون وفي منطق الأوضاع كجماعة لتكفين موتي الفقراء ؟ وجماعة قطرة الحليب ؟ وجماعة أنصار الإحسان ؟ وعلم الله أننا لا نستصغر ناحية من نواحي البر ولا ننتقص عملاً من أعمال الخير مهما كان ، ولكن لكل مقام مقال . لهذا رأي مكتب الإرشاد أن يعدل النظام الأساسي تعديلاً يوضح أهداف الدعوة ووسائلها وضوحاً ينص علي انفصال ناحيتي البر والرياضة في إداراتهما وحساباتهما عن الهيئة الرئيسية لها تسهيلاً لمهمة التعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية ـ إن شاء الله ـ من جهة ومع كل الهيئات التي تعمل لهاتين الناحيتين من جهة أخري . وسيعرض عليكم مشروع التعديل وقرار المكتب في هذا الشأن كله في نهاية هذا الاجتماع , (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب:4) .
ثانياً ـ حقوقنا الوطنية
أما فيما يتعلق بالأمر الثاني الذي اجتمعتم من أجله وهو التذكير بالحقوق الوطنية لوادي النيل وللعالم الإسلامي وتبيين طرق العمل لإحقاقها والوصول إليها فاسمعوا أيها الإخوان : تأكدوا أن واجبكم أنتم في ذلك كأفراد وهيئة من أثقل الواجبات ، وأن تبعتكم من أعظم التبعات ، أنكم في ذلك تطالبون بأكثر مما يطالب به الناس ، وتحملون منه أكثر مما يحملون ، فلقد أراد الله ...
أن تستيقظوا حين كان يغطّ غيركم في نومه ...
وأن تؤمنوا حين كان يهيم سواكم في شكه ...
وأن تأملوا حين تغشت الناس سحابة اليأس ...
وأن تتجمعوا وقد تشققت العصا واختلف أمر الهيئات والأحزاب ...
أن يلتف الناس حولكم وتنتهي الثقة إليكم ويحف الأمل بكم حين فقد الناس أملهم وثقتهم , وكاد كل واحد يشك حتى في نفسه ..
ويظهر الله أمركم فلم يقف عند حدود مصر والسودان بل جاوزها إلى غيرها من الأقطار والبلدان .
ويشاء الله لكم بعد هذا أن تمر بكم عواصف هذه الحرب الضروس ست سنوات كاملة ، فتمزق من غيركم من الداخل والخارج ما شاء الله لها أن تمزق ، ولكنها تمر بكم أنتم مرا رفيقا يُقوي ولا يُضعف ولا يزعزع وينبه ولا يوهن ، ويزيدكم بنصر الله إيمانا وبرعايته ثقة لأنكم بكلمته تنطقون ولدعوته تعملون فأنتم لذلك على عينه تصنعون (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (الطور:48) . ومن هنا كان واجبكم أكبر الواجبات وكانت تبعتكم أثقل التبعات .
انتهاز الفرصة
ثم تأكدوا بعد ذلك أنها الفرصة السانحة التي لا تعوض ، وماذا تنتظرون بعد ذلك ، ولقد انتهت هذه الحرب الضروس وخرج منها الحلفاء بنصر لم يكونوا يتوقعونه ، وسلم لهم أعداؤهم بغير قيد ولا شرط ، وعرفت حكوماتهم وهيئاتهم وشعوبهم قيمة الوقت ، فلم يضيعوه سدي ولم ينفقوه هباء في الجدل الفارغ والخصومة القاتلة والنوم العميق ، ولكنهم كانوا يحاربون ويرتبون ، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها ، كان مؤتمر سان فرانسيسكو ومؤتمر بوتسدام ومؤتمر وزراء الخارجية في لندن ولم تبق عليه إلا ليال وأيام ، وفي خلال ذلك مقابلات واجتماعات وتصريحات وقرارات ، وخطب ومقالات ، وحكومات أثر حكومات ، وهكذا تسير الدول الكبرى وتتأهل الدول الأخرى ، في سرعة ويقظة واهتمام ، ويقرر مصائر العالم ويحدد مستقبل الأمم والشعوب في هذه الساعات الفاصلة في تاريخ الناس ، فإذا وقع الأمر فقلما يتغير إلا بالمجهود العنيف والدأب المخيف فما الذي تنتظرون ؟ والأمر أمركم وأنتم موضع البحث والتقرير ، علي مصالحكم يشتد الجدل والخلاف ، وإليها تتجه المطامع والآمال ، أفلا ترون بعد هذا كله أنها ساعات لها ما بعدها بل أنها أحرج الساعات في تاريخنا الحديث .؟
بين الوطنية والاجتماع
قال لي أحد أصدقاء الإخوان الذين لا يتهمون في رأي ولا في نصيحة منذ أيام قلائل : أليس الأروح للإخوان والأجدى علي الوطن أن تشتغل هيئة الإخوان بالأغراض الأدبية والاجتماعية والاقتصادية من برنامجها ـ وهي من الإسلام أيضاً ـ وتدع الناحية القومية أو الوطنية أو السياسية بعبارة أخري لسواها من الهيئات حتى لا يتعرض للعواصف القاسية هذا البناء العالي الذي أصبح للغيورين أملاً وفي تاريخ هذه النهضة عملاً ؟ . فقلت له في صراحة وإخلاص وتأثر : والله يا أخي إني لأشاركك هذا الرأي ، وأجد في أعماق نفسي هذا الشعور قوياً عميقاً ، وأكره أشد الكراهية ما يصحب هذا النضال من مظاهر وآثار في النفوس وفي الصلات وما يجر إليه من نواحي الشهرة والجاه الكاذب الذي يلهي الناس عن الحقائق والواجبات ، وكم كنت أتمني أن تكون الظروف معي ومعك ، وأن تدع لنا الحوادث من الوقت ما يتسع لهذا الذي تحب وأحب ، وليس ذلك عن حب للراحة أو إيثاراً للدعة ، ولكن الأمور هي كما تري الآن :
الدول الكبرى ـ وقد خرجت منتصرة ـ تعمل جاهدة ليل نهار وتحاول بل تتعمد أن تتغافل عن حقوقنا وأن تنسي ما بذلت لنا من عهود ومواثيق والوقت يمر مر السحاب .
والهيئات السياسية عندنا قد غفلت عن هذا الواجب واشتغلت عنه بما تقرأ في صحفها وجرائدها من تنابز بالألقاب وتخاصم علي الأسلاب ، علي أن الحوادث قد أعانت ذوي الأغراض علي أن يفرقوا وحدتها ، ويفضوا الناس عنها ، ويظهروا رجالها أمام الرأي العام بمظهر الملوثين العابثين ، ففقد الشعب ثقته بقادته ، وخسر القادة الجنود ، والأنصار فقدوا هم أيضاً الثقة بأنفسهم والثقة بحقهم .
والشعور الوطني كما تري في ثورة وقوة وحماس وبخاصة في هذا النفر من الشباب المثقف ، وإن لم يكن في هذا الشعب كله الذي ألح عليه الفقر وأمضه الجوع والعري وأكل منه الغلاء والجهد ، وما لم تقده أيد حكيمة وتصرفه عقول مجربة فقد يسير في طريق لا تؤدي إلي نجاح ولا تصل إلي غاية .
وإلي جانب هذا الشعور الوطني هذا التهيؤ من جانب الأمة العربية وما جاورها من الإسلام للوحدة والاجتماع والرغبة في تنسيق الجهود والأعمال ، وليست هيئة من الهيئات أقرب إلي قلوب هذه الشعوب وأقدر علي الظهور في هذا الميدان من الإخوان .
كل ذلك يا أخي جعلنا وقد قضينا سبعة عشر عاماً في الإعداد والاستعداد ، وأفهمنا الناس فيها الأمر علي حقيقته ، من أن السياسة والحرية والعزة من أوامر القرآن ، وأن حب الأوطان من الإيمان ، ولم يتبق بعد هيئة من الهيئات علي وحدتها وثقة الناس بها وأملهم فيها إلا الإخوان ، كل ذلك يا أخي جعلني أشعر شعوراً قد ارتقي إلي مرتبة الاعتقاد ، إننا لم يعد لنا الخيار ، وإن من واجبنا الآن أن نقود هذه النفوس الحائرة ونرشد هذه المشاعر الثائرة ونخطو هذه الخطوة والله المستعان .
علي أن هناك نظرة أخري ليست بأقل مما تقدم أهمية . ألست ترى يا أخي أن أهم عوامل الفساد والإفساد لحياة هذا الشعب المصري وغيره من الشعوب العربية والإسلامية هذا التدخل والتحكم الأجنبي الذي أفقدنا عزتنا ووجهنا غير وجهتنا وبدل أوضاع حياتنا وضحك علينا بالقشور وصرفنا عن اللباب ، ثم هذا الضعف المتناهي من هذه الحكومات التي جعلت من نفسها أداة طيعة إن لم تكن مسرعة في يد الأجنبي يتحكم بها في رقاب الناس كما يشاء وينفذ بها مطالبه وخططه كما يريد سافراً أو مستتراً .
أولست ترى أن أول باب للإصلاح أن نجاهد هذين المظهرين ، وأن يتحرر الناس من هذين النيرين ، وإلا فكل مجهود إلي ضياع ، وقد جربنا ذلك في أنفسنا وفي غيرنا ولمسناه وعرفناه ، فإذا لم ندخل علي القوم من الباب في هذه الفترة من الزمن فمتي إذن ؟.
والله يا أخي لو كنا أمة مستقلة تصرف أمورها حكومة يقظة لكان في كل غرض من أغراض دعوتنا علي حدة متسعة لكل أوقاتنا ومجهوداتنا ، فهذا الغرض العلمي من شرح دعوة الإسلام والكشف عما فيها من روعة وجمال ، وهذا الغرض الاجتماعي من مساواة المنكوبين ومعاونة البائسين ، وهذا الغرض الاقتصادي من استنفاد الثروة القومية وتنميتها وحمايتها ، كل غرض من هذه الأغراض يستغرق أضعاف وقتنا ويستنفد أمثال جهودنا ولكن ما كل ما يتمني المرء يدركه والله أعلم حيث يجعل رسالته .
وفي مثل هذه الساعات الهامة الفاصلة يكون هذا الجهاد الوطني فرضاً عينياً علي كل الأفراد والهيئات ... فقال ذلك الصديق الأخ في تأثر وحماس : صدقت سيروا علي بركة الله والله معكم.
أيها الاخوة الفضلاء ..
تأكدوا كذلك أن لبلادنا حقوقاً ومطالب قومية لم تنلها بعد ، ولا فائدة من ذكر العوامل التاريخية والحوادث التي أدت إلي انتقاص هذه الحقوق واغتصابها ، ولكن الذي يفيد ويجدي أن نؤمن إيماناً قوياً جارفاً بهذه الحقوق ، وأن نجاهد جهاداً داعباً عنيفاً في سبيل تخليصها والوصول إليها ، وبالإيمان والجهاد والأمل والعمل ننتصر ونصل إن شاء الله وما ضاع حق وراءه مطالب .
نحن حين نؤمن ونجاهد لا نعتمد في جهادنا علي قوة السلاح وكثرة الجيوش والأساطيل ، فنحن نعلم أننا عزل من ذلك كله ، ونشعر أعمق الشعور بما يكبل أيدينا وأرجلنا من القيود والأغلال الثقال ، وحسب العالم ما قاسي من الاعتماد علي القوة ونبذ القانون وإهمال قواعد العدالة والإنصاف ، ولكننا نعمد علي أن هذا هو حقنا الطبيعي الذي لا ينكره علينا إلا جاحد ومكابر ، فلسنا أمة بدائبة تحتاج إلي الرعاية والوصاية والتوجيه ولكنا أمة ورثت أمجد الحضارات وأعرق المدنيات وأنارت الدنيا بالعلم والمعرفة وحين لم تكن هذه الأمم الحديثة تدري من أمر الوجود شـيئاً.
ونعتمد علي أننا ساهمنا في المجهود العربي بأموالنا ودمائنا وأبنائنا وأرضنا ومواصلاتنا وأقواتنا وكل مرافق حياتنا ، وعرضنا كل شيء للخطر الداهم ، ووقفنا إلي جانب الأمم المتحدة وقفات كان لها أثرها في هذا النصر ولا شك ، ولم نشأ أن نساوم في ساعة العسرة علي حق من حقوقنا أو نثير مطلباً من مطالبنا ، ولكنا تركنا ذلك كله وديعة بين يدي الضمير الإنساني العالمي معتمدين علي نبل حلفائنا وصدق وعودهم .
ونعتمد علي هذه العهود والمواثيق التي قطعها الحلفاء علي أنفسهم ومنها ميثاق الأطلنطي ، وتلك التصريحات والخطب ، والكلمات والنشرات التي أعلنوا فيها شعوباً وحكومات ، أنهم يحاربون في سبيل العدالة والتحرير ويريدون نصرة المظلومين وإنقاذ البشرية من العبودية والاستبداد ، وإنشاء عالم جديد يقوم علي التعاون وكفالة الحريات والقانون والإنصاف .
ونعتمد كذلك علي التطور في التفكير العالمي وهذه اليقظة في الضمير الإنساني ، ويا ويح الدنيا إذا كانت ستسودها وتصرفها من جديد الأفكار الرجعية ، وتتحكم فيها المطامع الاستعمارية ، وإذا كانت الدول المنتصرة تظن أن في استطاعتها أن تقود الدنيا من جديد بالحديد والنار ، فما أبعد هذا الظن وأعرقه في الوهم والخيال ، فإن موجة اليقظة التي أحدثتها هذه الهزات العنيفة لا يمكن أن يقف تيارها حتى يصل إلي غايته ويبلغ مداه ، ولن يستقر بعد اليوم في الأرض السلام إلا إذا أدركت الدول الكبرى هذه الحقيقة واعترفت لغيرها من الأمم والشعوب بحقها في الحياة والحرية والاستقلال .
ولسنا من الغفلة وضعف الإدراك بحيث نعتقد أن في وسعنا أن نعيش بمعزل عن الناس و بمنأى عن الوحدة العالمية التي يتهيأ لها الأرض جميعاً والتي انطلق من حناجرنا نحن المسلمين أول من صوت يهتف بها ويدعو إليها ويتلو آيات الرحمة والسلام (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107) ، ولكنا ندرك أن الدنيا لم تكن في حاجة إلي التعاون وتبادل المصالح والمنافع في يوم من الأيام كما هي في حاجة إلي ذلك الآن ، ونحن علي استعداد لمناصرة هذا التعاون وتحقيقه ، في ظل مثل عليا فاضلة ، تضمن الحقوق وتصون الحريات ويأخذ معها القوي بيد الضعيف حتى ينهض .
مطالبنا
ونحن حين نطالب بحقنا لا نغالي ولا نتعسف ، ولا نريد علواً في الأرض ولا فساداً ، ولكنا نقف عند الحق الطبيعي الذي لا يمكن أن يحيا بدونه فرد أو شعب حياة عزيزة كريمة .
وادي النيل
فنحن نطلب : لوادي النيل
1 ـ أن تجلو عنه الجنود الأجنبية : فلا يكون هناك جيش احتلال في أية بقعة من بقاعه . وماذا تغني هذه الفئة القليلة من الجنود إذا فقدت الثقة وفسدت العلاقات وإرضاء النفوس والاعتراف بالحقوق هو أضمن وسيلة لتبادل المنافع والمحافظة علي المصالح .
2 ـ وأن ترفع هذه القيود والأغلال التي فرضت علي تجارتنا وزراعتنا وصناعتنا إبان الحرب وقبل الحرب والتي قبلناها مساهمة منا في المجهود الحربي ، وأن تلاحظ الدول الأجنبية أننا أمة يتكاثر عددها باضطراد وتضيق بها أرضها وموارد ثروتها ، وأنه ليس من العدل أن يأخذ الأجنبي كل شيء أيضاً ، إننا لا نكره الأجانب ولا نريد أن نقطع صلات التعاون بيننا وبينهم ، ونحن نعلم تماماً أننا لا نستغني عن رؤوس أموالهم وعن خبرتهم الفنية ، ولكنا لا نريد كذلك أن يكون هذا التعاون علي قاعدة أن لهم الغنم وعلينا الغرم . والواجب أن تقدر كل هذه العوامل الاجتماعية والاقتصادية . إن عددنا يكثر ومستوي المعيشة عندنا أقل منه في أية أمة من الأمم الراقية ، فأكثر من نصف المصريين يعيش أقل من عيشة الحيوان ، ومع هذا يفكر الأجانب في الهجرة إلي أرضنا وفي تقييد حريتنا في التصدير والاستيراد والتجارة والزراعة والنقد . ولا ينتج ذلك كله إلا حرج الصدور وإثارة الشعور ، والضغط الشديد يولد الانفجار .
3 ـ وقناة السويس ـ أرض مصرية حفرت بدماء مصرية وجهود أبنائها فيجب أن يكون لمصر حق الإشراف عليها وحمايتها وتنظيم شأنها ، ولقد قارب أمد امتيازها الانتهاء وتفكر بعض الدول في التدخل في شأنها أنها قد اشترت عدداً كبيراً من أسهمها . إن مصير هذه القناة إلينا بعد عدد قليل من السنين ، ومن واجبنا أن نتنبه لذلك من الآن وأن نطالب بزيادة عدد الموظفين من المصريين في الأقسام المختلفة وبخاصة الأقسام الفنية التي تحتاج إلي دراية ومران . يجب أن نستعد للمستقبل وألا ننتظر الحوادث حتى تفاجئنا ونحن علي غير استعداد . ويجب أن تعترف لنا الدول بهذا الحق الثابت وتقرنا عليه .
4 ـ والسودان : لا نقول أننا نطالب بحق مصر فيه فليس لمصر حقوق في السودان ولكن السودان جزء من الوطن فهو مصر الجنوبية ومصر هي السودان الشمالي وكلاهما وادي النيل ، هذا كلام نريد أن يكون مفهوماً جيداً للدول الأجنبية كلها عامة ولإخواننا ومواطنينا أبناء السودان خاصة .
إن النيل الذي تتوقف عليه حياة مصر أرضاً ونباتاً وحيواناً وأناساً إنما ينحدر إليها من السودان ومن مائه ومن طميه تكونت أرض الجنوب كما نشأت أرض الشمال ومنها نشأت هذه الجسوم وجرت هذه الدماء فنحن أيها الأخوة السودانيون من ماء واحد وطينة واحدة وإذا قال لكم قائل أن مصر تريد أن تستعمركم لتستغل أرضكم وتستغلي عليكم وتستطيل بالسلطان في أرضكم فقولوا أنها فرية كاذبة نحن نريد السودان جزءاً من مصر كما أن مصر جزءاً منه للسوداني ما للمصري من حقوق وعليه ما عليه من واجبات .
إذا فتحت المدارس في مصر مثلها في السودان وإذا أنشئت المحاكم في الشمال أنشئت في الجنوب وتتوحد الجنسية ويتوحد القانون ويتوحد كل شيء في مظاهر الحياة الاجتماعية في جزأي الوطن الواحد وادي النيل . وإذا كان المغرضون قد استطاعوا أن يصوروا الأمور علي غير وضعها الصحيح فإن ذلك الباطل لا يغني من الحق شيئاً . لقد عملت الدعاية الأجنبية عملها في السودان ، ولكن إخواننا السودانيين مؤمنون وأذكياء وهم يشعرون تماماً أن ما يجدونه الآن من ملاطفة ولين موقوت إلي حين ثم بعد ذلك ينكشف الاستعمار عن الاستعمار ويتحقق لهم قول الله العلي الكبير: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) (النمل:34) .
ولقد حاولت الإدارة السودانية أن تفصل السودان الجنوبي عن السودان الشمالي فصلاً تاماً ، والسودان الجنوبي هو منبع الثروة هو مستقرها في السودان كله فهو موضع الغابات ومرعي الحيوان ومستقر المعادن ، ولقد حجبته الحكومة عن أهل السودان الشمالي وضربت عليه نطاقاً من المراقبة الشديدة ، وحرمت الذهاب إليه حتى علي التجار من السودانيين أنفسهم ، وأطلقت فيه الدعاية التبشيرية من مختلف الإرساليات وجعلته نهباً مقسماً بينها ومع هذا كله فلازال الإسلام يشق طريقه إليه والله غالبٌ علي أمره ومن الغريب أن حكومة مصر لا تهتم لكثير مما يقع في السودان ولا تخطو خطوة إيجابية في سبيله ولكنا لن نسكت علي هذا الحال . ونعتقد أن الهيئات السودانية التي تطالب الوحدة التامة مع مصر ـ إن وجدت هذه الهيئات ـ لو علمت هذا الوضع الصحيح الذي نعلنه ونؤمن به ونعمل علي أساسه لبادرت بأسرع ما يمكن لإعلان هذا الرأي وتقريره ، فإن مصر إذا كانت تحتاج السودان لتطمئن علي ماء النيل وهو حياتها فإن السودان أحوج ما يكون إلي مصر في كل مقومات الحياة كذلك وكلاهما جزء يتمم الآخر ولا شك ، وذلك فضلاً عن وحدة اللغة والدين والمشاعر والمظاهر والأنساب والدماء . وسنظل نطالب بهذا الحق ونستمسك به حتى نصل إليه إن شاء الله لأنه حق والحق لابد أن يعلو ويظهر, (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء:18) .
برقة وطرابلس
5 ـ ونريد بعد ذلك تأميناً لحدودنا ، حدودنا الغربية ، لا بأن نحتل برقة ، ولا بأن نستعمر طرابلس ، فنحن أكرم علي أنفسنا والحق أكرم علينا من أن نذهب هذا المذهب الظالم ، ولكن أننا نأمن علي حدودنا الغربية يوم تسلم ليبيا لأهلها العرب الذين جاهدوا في سبيلها عشرات السنين جهاد الأبطال ، وكان ختام ذلك أن اشترك جيشهم الحديث في الحرب جنباً إلي جنب مع جنود الحلفاء ، وتقوم فيها حكومة عربية مستقلة وتظل وطناً موحداً حراً مستقلاً ، وإذا كانت إنكلترا قد حررت الحبشة من نير الاستعمار الإيطالي ثم سلمتها إلي إمبراطورها مملكة مستقلة موحدة ، فإن من واجبها أن تفعل ذلك في ليبيا وليس جهادها في سبيل حريتها بأقل من جهاد الحبشة . وليس للتفريق بينهما في المعاملة إلا تأويل واحد هو أن روح التعصب للمسيحية علي الإسلام لازالت تتحكم في نفوس بعض الدول الغربية الراقية حتى في القرن العشرين ، ومع هذا يقال أننا نحن المتعصبون وإلي الله المشتكي ، وليس في الدنيا أبلغ في الاستهتار بكرامة العرب والمسلمين من أن يقال أن هناك تفكير من بعض الدول في إعادة المستعمرات الإيطالية إلي إيطاليا !! هذا عجيب ومدهش حقاً .. إيطاليا العدو المحارب ترد إليها حريتها ومستعمراتها والغرب الحلفاء المجاهدون يستبعد وطنهم ويسلمه حلفاؤهم رغم المواثيق والعهود ويريد الناس بعد ذلك أن يستقر في الأرض أمن وسلام !! .
وقريب من هذا ما يشاع من أن طرابلس ستكون لإيطاليا تحت إشراف هيئة دولية وأن ساحل برقة سيعطي لليونان وأن صحراء ليبيا ستكون للعرب تحت انتداب ثنائي مصري إنكلـيزي معـاً ! ما هـذا أيها المنتصرون ؟ ما شأن اليونان بساحل برقة وأي غفلة هذه تغشي عقول المصريين ليتقدموا إلي صحراء تستنزف الدم والجهد والمال ليعمروها ثم يتركوها ؟ وأي ذليل يرضي بأن يحكم كثباناً من الرمال تحت سلطان الانتداب و الاحتلال .. وهل ترضي اليونان بهذا العدوان ؟ وهل نسيت درس احتلال الأناضول من قبل ؟ .
والليالي من الزمان حبالي مثقلات يلدن كل عجيب
نحن نريد أن تؤمن حدودنا الغربية باستقلال ليبيا ووحدتها وقيام حكومة عربية صديقة فيها ورد ما أخذ منا ظلماً وعدواناً فتعود إلينا جعبوب مصرية كما كانت من قبل .
وفلسطين أيضاً
كما نريد أن تؤمن حدودنا الشرقية بحل قضية فلسطين حلاً يحقق وجهة النظر العربية أيضاً يحول دون تغلب اليهود علي مرافق هذه البلاد . إن مصر والعالم العربي والإسلامي كله يفتدي فلسطين ، فأما مصر فلأنها حدها الشرقي المتاخم ، وأما بلاد العرب فلأن فلسطين قلبها الخافق و واسطة عقدها ومركز وحدتها وهي ضنينة بهذه الوحدة أن تتمزق مهما كانت الظروف ومهما كلفها ذلك من تضحيات ، وأما العالم الإسلامي فلأن فلسطين أولي القبلتين وثاني الحرمين ومسرىr رسول الله .
وهذه الحقيقة يجب أن تضعها الدول المتحدة نصب عينها ، فصداقة المسلمين والعرب في كفة ومطامع اليهود في فلسطين في الكفة الأخرى ، ولعل من خير اليهود أنفسهم أن يصرفوا وجوههم عن هذه الناحية .
لا شك في أننا نتألم لمحنة اليهود تألماً شديداً ولكن ليس معني هذا أن ينصفوا بظلم العرب وأن ترفع عنهم بهلاك غيرهم والعدوان عليه ، وفي الأرض مندوحة وفي الأوطان متسع ، وكل تفكير أو تصريح أو عمل يتنافى مع إنصاف العرب ولا يحقق آمالهم في فلسطين لا يكون من ورائه إلا الإثارة والإحراج .
نحن نطالب بهذا لأنه تأمين لحدودنا ومصلحة مباشرة لنا ونطالب به كذلك لأنه حق أمتين عربيتين في الشرق والغرب هم منا ونحن منهم ولن يفرق بيننا شيء وما وحده الله يستطيع أن يفصله الناس .
إريتريا وزيلع وهرر ومصوع
ونريد بعد ذلك أن تؤمن حدودنا الجنوبية بأن تحفظ حقوقنا في إريتريا ثم زيلع وهرر وأعالي النيل .. تلك المناطق التي اختلط بتربتها دم الفاتح المصري وعمرتها اليد المصرية ورفرف في سمائها العلم المصري الخفاق . ثم اغتصب من جسم الوطن ظلماً وعدواناً ، وليس هناك اتفاق دولي أو وضع قانوني يجعل الحق فيها لغير مصر وإن أبي علينا ذلك الناس ، ومن واجبنا ألا نتلقى حدود بلدنا عن غيرنا وأن نرجع في ذلك إلي تاريخنا ولنر أي ثمن غال دفعناه من الدماء والأرواح في سبيل تأمين حدودنا لا لمطامع استعمارية ولا لمغانم جغرافية ولكن لضرورات حيوية لا محيص منها ولا معدي عنها ، والفرصة الآن سانحة لتطالب مصر برد ما أخذ منها في غفلة من الزمن وإهمال من الحكومات وذلك ما نطلب لوادي النيل
البلاد العربية
ونطلب للبلاد العربية أن تثق الدول الكبرى بالجامعة العربية وأن تفسح لها المجال لتقوي وتنهض ، ففي نهضتها وقوتها أكبر عامل يساعد علي استقرار السلام والطمأنينة في الشرق العربي ، كما يجب أن يعترف لكل أمة عربية بحقها في الحرية والاستقلال الكامل ..
فتجلو القوات الأجنبية عن سوريا ولبنان ..
وتعدل المعاهدة العراقية بما يحقق وجهة نظر الشعب العراقي ويصدق أملهم في الحلفاء ..
ويعترف لشرق الأردن بحقه حتى تقتنع الشعوب الصغيرة بضرورة التجمع في زمن لم تعد تصلح فيه العزلة والانفراد ، وتكف الدول الكبرى عن المطامع غير المشروعة في اليمن والحجاز .. هذا في الشرق .
وفي غرب مصر وليبيا خمسة وعشرون مليوناً من المسلمين في تونس والجزائر ومراكش ... نكبوا بالاستعمار الفرنسي تحت اسم الحماية أو الفتح الظالم أو الاحتلال البغيض ، وجاهدوا عشرات السنين وبذلوا في ذلك الضحايا غالية من الحريات والدماء فامتلأت بهم السجون والمعتقلات وسالت بدمائهم الأباطح والأودية وشرد زعماؤهم وشبابهم المجاهد في كل مكان ، وحاول الاستعمار الغاشم أن ينال من دينهم بالتبشير ومن عروبتهم بالعجمة والتنصير ومن حريتهم بالضغط والقهر والجبروت ، فلم يفد ذلك كله شيئاً وثبت المجاهدون علي جهادهم كالرواسي الشامخات .
وجاءت هذه الحرب الأخيرة وانهزمت فرنسا وانضمت للألمان وتنكرت لحلفائها الأقدمين واحتل الحلفاء إفريقيا الشمالية ، فوجدوا من أبناء هذه الأوطان أعظم المساعدة واشتركوا معهم اشتراكاً فعالياً في القتال في إفريقيا وفي إيطاليا وفي حملة فرنسا وثبتوا معهم في أعنف المواقع وفي أحرج الساعات ، وهل كان جيش فرنسا الحرة إلا هؤلاء الأبطال البواسل من أبناء المغرب الشهيد ، وقد اعترف بذلك المستر تشرشل وأثني علي بطولة هؤلاء المجاهدين أطيب الثناء ، وانتهت الحرب ولم تتورع فرنسا ـ وهي لم تنس بعد وقع أقدام المحتلين ـ عن أن تدك المدن والقرى بقذائف الطائرات ، وأن تقتل في الجزائر في ثورة واحدة أربعين ألفاً من المدنيين ، وأن تقضى علي خمس وأربعين قرية عامرة ، ولا ذنب لهؤلاء إلا أنهم أرادوا أن يحقق الحلفاء وعودهم فقاموا يطلبون الحرية والاستقلال وهما الحق الطبيعي لهم . وتريد فرنسا المناهرة في عيون الناس الرماد ، فتدعي أنها ثورة خبز وطعام وتزعم لنفسها حقوقاً موهومة إن بررتها غفلة العرب والمسلمين في الماضي فقد مضي ذلك الأوان ، وستتلاحق الثورات ويتنفس البركان ، و ها هي مراكش تشعل ناراً وجحيماً ، ولا يقل عنها صدر الجزائر وتونس لهباً وحميماً ، وليس علي هذه المشاعر يبني السلام أو يستقر الأمن والاطمئنان ، فنحن نطلب لكل هذه الأوطان وهي قطع من قلب وطننا العربي الكبير أن تنال حقها وأن تنضم انضماماً فعالياً إلي جامعة الدول العربية ، وإذا كان هناك استفتاء لشكل الحكومة التي يجب أن تكون في هذه البلاد فلابد أن يكون هذا الاستفتاء بإشراف مجلس الجامعة وأن تمثل فيه الدول العربية المستقلة علي الأقل .
البلاد الإسلامية و الأقليات الإسلامية
ونطلب : للبلاد الإسلامية و الأقليات الإسلامية أن تستقل وتتحرر وتنال حقوقها ويرفع عنها الظلم والحيف وتكون بمأمن من الظلم والعدوان .
فهذه إيران يجب أن تجلو عنها الجنود البريطانية والروسية طبقاً لتصريح الدول المشتركة في خلال ستة أشهر من انتهاء الحرب مع اليابان ، وهذه إندونيسيا بأقسامها لا مبرر لأن تعود مرة ثانية إلي هولندا ، وحسب هولندا وقد ذاقت مرارة الظلم والجبروت أن تقنع بأرضها وأن تعمل لمصالحها في ظل العدالة والإنصاف وتبادل المنافع وذلك خير وأبقي من استلاب الحقوق واغتصاب الحريات وقضية الهند يجب أن تحل حلاً يحفظ حقوق المسلمين في كل الولايات ويساعد علي رقيهم وحفظ حقوقهم في كل مكان ، ولقد كانت ألبانيا حكومة إسلامية قبل هذه الحرب بما أن غالب سكانها من المسلمين من بقايا المهاجرين من البلقان والترك ، فمن الواجب أن تعود هذه الحكومة ومن العدل والنصفة أن تساعد مساعدة فعلية علي أن تكون حامية لحقوق الأقليات الإسلامية في بلاد البلقان ، ففي يوغسلافيا وفي اليونان وفي بلغاريا وفي غيرها أقليات إسلامية مظلومة يعتدي عليها وتستلب حقوقها ولا يدري بذلك أحد ، والمسلمون في كل مكان أمة واحدة يسعى بذمتهم أدناها إذا اشتكي عضو منهم تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي ، فمن الواجب أن تسند مهمة الإشراف علي إنصاف هؤلاء إلي أقرب الحكومات الإسلامية إليهم .
ولقد فكرت تركيا بعد الحرب الماضية في الانسلاخ من الشرق والأمم الإسلامية و الارتماء في أحضان الغرب والتزلف إلي الدول الأوروبية ظناً منها أن ذلك يساعدها علي أن تطمئن في دارها وتأمن في أرضها ، وأكب الظن أنها بعد هذه الحرب قد أدركت مبلغ ما فاتها من الفوائد بهذه العزلة عن العرب وأمم الإسلام ولا نريد أن نحاسبها الآن علي ما فات فنحن إياها أحوج ما نكون إلي التعاون والتساند في هذا المعترك الطافح بالرغبات والأطماع ولن ندعها منفردة في محنتها ولعلها تدرك ذلك فتعود إلي ما نسيت من إسلامها وتتمسك من جديد بهذه الاخوة الخالدة التي تزول الدنيا ولا تزول ، وتفني الأيام وهي أبقي علي الزمان الباقي من الزمن .
ونحن نريد بعد هذا كله ونتمنى للعالم كله أمناً وطمأنينة وسلاماً طويلاً وراحة بال ولا نظن ذلك يتأتى إلا بالعدل والإنصاف ونحن علي هذه الفطرة جبلنا فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون .
ثالثـاً ـ حـق الإسلام
أيها الاخوة الأعزة الفضلاء ..
أريد بعد ذلك بعد ذلك أقول لكم أن الدول الكبرى قد صرحت أكثر من مرة ، بأنها سوف لا تتدخل في شؤون الأمم الداخلية البحتة ومن ذلك شكل الحكومات ، وبخاصة إذا اتفقت مع قواعد الديمقراطية العامة . وقد ظفرت الفكرة الإسلامية بالتقدير الكامل في مؤتمر لاهاي سنة 1938 ، إذا قرر المؤتمر إنها شريعة مستقلة قابلة للتطور النماء متفقة مع أحدث قواعد التشريع . كما ظفرت بهذا التقرير مرة ثانية في مؤتمر واشنطن مايو 1945 الذي مثل مصر فيه وزير العدل حافظ باشا رمضان ، واستطاع من المؤتمرين بقرار يؤكد القرار السابق ، ويحفظ لمصر بناء علي ذلك الحق في أن يكون لها ممثل في محكمة العدل الدولية باسم الشريعة الإسلامية . ذلك إلي أن الإسلام في ذاته نظام اجتماعي عالمي ، يكفل للناس الخير والسعادة ، ويحل لهم ما في مجتمعهم من مشكلات لو نفذوا إلي روحه وأنفذوه علي وجهه .
وقد قرر الدستور المصري في المادة 149 (إن دين الدولة الإسلام ولغتها الرسمية اللغة العربية) . وقد تهيأت الدنيا من جديد للعودة إلي روح التدين ، وأدركت خطأ الفكرة القديمة .. فكرة التجرد من العقائد والأديان ، حتى إن لجان التعليم في إنكلترا وأمريكا قررت وجوب إدخال الدين إلي المدارس وذهب بعضها في ذلك إلي حد أن يكون الدرس الأول في كل المعاهد صلاة علمية ، وعلي هذا فنحن نطلب من أية حكومة مصرية أولاً وعربية أو إسلامية بعد ذلك أن تعود في نظام حياتها الإسلامية والمدنية إلي الإسلام ، ويكون من المظاهر العملية لذلك :
1 ـ أن تعلن أنها حكومة إسلامية تمثل فكرة الإسلام دولياً تمثيلاً رسمياً .
2 ـ أن تحترم فرائضه وشعائره وأن تلزم بأدائها كل موظفيها وعمالها وأن يكون الكبار في ذلك قدوة لغيرهم .
3 ـ أن تحرم الموبقات التي حرمها الإسلام من الخمر وما يلحق بها ، ومن الزنا وما يمهد له ، والربا وما يتصل به من أنواع القمار والكسب الحرام ، وأن تكون الحكومات قدوة في ذلك فلا تبيح شيئاً من هذا ولا تعمل علي حمايته بسلطة القانون ولا تتعامل مع شعبها علي أساسه .
4 ـ أن تجدد مناهج التعليم بحيث تقوم علي التربية الإسلامية والوطنية ، ويعني بها باللغة العربية والتاريخ القومي عناية فائقة ، وتؤدي إلي طبع نفوس المتعلمين بتعاليم الإسلام وتثقيف عقولهم في أحكامه وحكمه .
5 ـ أن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الأول للقانون .
6 ـ أن تصـدر الحكـومات عن هـذا التوجيه الإسلامي في كـل التصرفات.
ذلك هو حق الإسلام علينا وقد بلغنا ، اللهم اشهد ، ولا نري لهذا وقتاً أنسب من هذا الأوان .
يقول الناس وما تفعلون بالأجانب وبغير المسلمين من المواطنين ، فنقول يا سبحان الله لقد حل الإسلام هذا الأشكال ، وصان وحدة الأمة عن التشقق والانقسام ، وقرر حرية العقيدة والتعبد وما يلحق بهما فقال القرآن الكريم (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة:256) ، كما كان شعا التعامل بين المواطنين في أرض الإسلام دائماً (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) ، وليس وراء ذلك من التسامح زيادة لمستزيد .
علي أننا نعود فنقول : أي نظام في الدنيا ـ ديني أو مدني ـ استطاع أن يفسح في قلوب المؤمنين به والمتعصبين له والفانين فيه لغيرهم من المخالفين ما أفسح من ذلك الإسلام الحنيف الذي يفرض علي المسلم أن يؤمن بكل نبي سبق ، وبكل كتاب نزل ، وأن يثني علي كل أمة مضت ، وأن يحب الخير لكل الناس ، وأن يكون رحيماً بكل ذي كبد رطبة ، حتى إن الجنة لتفتح أبوابها الثمانية لرجل أطفأ ظمأ كلب ، وتسعر النار بأعمق دركاتها لامرأة حبست هرة ، هذا الدين الرحيم لا يمكن إلا أن يكون مصدر حب ووحدة وسلام ووئام .
رابعاً ـ وســائلنـا
أيها الأخوة الكرام ..
ويقول الناس كذلك : وما وسائلكم أيها المغلوبون علي أمركم لتحقيق مطالبكم والوصول إلي حقكم ؟ ونقول نحن في سهولة ويسر : وماذا يريد منا الناس ؟ ولو أننا مغلوبون علي أمرنا مدفوعون عن حقنا ؟ وهل يليق بكريم أن يذل و يستخزى والرسول r يقول : (من أعطي الذلة من نفسه طائعاً غير مكره فليس مني) ؟ والله يقول : (وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون:8) . إن لنا سلاحاً لا يفل ولا تنال منه الليالي والأيام هو (الحق ) والحق باق خالد والله يقول : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء:18) .
ويقول: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ) (الرعد:17) ، ويقول : (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (الإسراء:81) .
ولنا سلاح آخر بعد ذلك وهو (الإيمان) . والإيمان كذلك سر من أسرار القوة لا يدركه إلا المؤمنون الصادقون ، وهل جاهد العاملون من قبل وهل يجاهدون من بعد إلا بالإيمان ، وإذا فقد الإيمان ؟ فهل تغني أسلحة المادة جميعاً عن أهلها شيئاً ؟ . وإذا وجد الإيمان فقد وجدت السبيل إلي الوصول ، وإذا صدق العزم وضح السبيل , (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم:47) ، ولئن تخلي عنا جند الأرض فإن معنا جند السماء (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) (لأنفال:12) .
والأمل بعد ذلك سلاح ثالث فنحن لا نيأس ولا نتعجل ولا نسبق الحوادث ولا يضعف من همتنا طول الجهاد والحمد لله رب العالمين ، لأننا نعلم أننا مثابون متي حسنت النية وخلصت الضمائر وهي خالصة بحمد الله ، فكل يوم يمضي تبنا فيه ثواب جديد والنصر من وراء ذلك لا يتخلف (كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (المجادلة:21) , (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف:110) , ففيم اليأس و فيم القنوط . لن يجد اليأس إلى قلوبنا سبيلاً بإذن الله (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف:87) .
وسنعمل علي ضوء هذه المشاعر وسنعمل بالحق يدفعنا الإيمان ويحدونا الأمل ، فنذيع النشرات والبيانات ونوضح للناس ما خفي عنهم من حقوقهم ونكشف لهم ما ستر من ألاعيب المخادعين لهم والمغررين بهم في الداخل والخارج وسنجمع كلمة الناس علي هذا في مؤتمرات جامعة في كل مكان وسندعو إلي عقد مؤتمر عربي إسلامي جامع لتوحيد الجهود وتنسيق الخطط ، وسنبعث بإخواننا في كل مكان من البلدان الأجنبية يثيرون الشعوب والحكومات في القضية الإسلامية الوطنية فإذا لم يفد ذلك كله ولم نجد النصفة من العالم الجديد الذي يريد أن تتركز الحياة فيه علي الطمأنينة والسلام فسنعرف كيف نضبط أنفسنا ونضع حاجزاً حصيناً قوياً بيننا نحن المؤمنين وبين هؤلاء الظالمين المفترين ، وسيرون أن هذا السلاح السلبي سيفوت عليهم قصدهم ويعكس عليهم عدوانهم ويرد عليهم كيدهم في نحورهم وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ولنا النصر في النهاية والله معنا . (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ) (آل عمران:160).
أيها الأخوة الفضلاء ..
إنها الساعات الفاصلة في تاريخكم ففكروا وقرروا واعملوا واثبتوا واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون والله أكبر ولله الحمـد .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، حسن البنا
بِسْــمِ اللهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيـمِ
رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً
القاهرة عاصمة الديار المصرية في رجب 1366هـ
حضرة صاحب ...
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد , فإنما حملنا على التقدم بهذه الرسالة إلى مقامكم الرفيع رغبة أكيدة في توجيه الأمة التي استرعاكم الله أمرها , ووكل إليكم شأنها في عهدها الجديد , توجيها صالحا يقيمها على أفضل المسالك , ويرسم لها خير المناهج , ويقيها التزلزل والاضطراب , ويجنبها التجارب المؤلمة الطويلة .
ولسنا نبغي من وراء ذلك شيئا إلا أن نكون قد أدينا الواجب وتقدمنا بالنصيحة ... وثواب الله خير وأبقى .
تبعة الراعي
يا صاحب ...
إن الله وكل إليكم أمر هذه الأمة , وجعل مصالحها وشؤونها وحاضرها ومستقبلها أمانة لديكم ووديعة عندكم , وأنتم مسؤولون عن ذلك كله بين يدي الله تبارك وتعالى , ولئن كان الجيل الحاضر عدتكم , فإن الجيل الآتي من غرسكم , وما أعظمها أمانة وأكبرها تبعة أن يسأل الرجل عن أمة : (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) .
وقديما قال الإمام العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (لو عثرت بغلة بالعراق لرأيتني مسؤولا عنها بين يدي الله تبارك وتعالى لِم لَم أسوّ لها الطريق؟) .
وصوّر الإمام عمر بن الخطاب عظم التبعة في جملة فقال : (لوددت أن أخرج منها كفافا لا لي ولا علي).
مـقدمــات
( أ ) عهد الانتقال :
وإن أخطر العهود في حياة الأمم وأولاها بتدقيق النظر عهد الانتقال من حال إلى حال , إذ توضع مناهج العهد الجديد وترسم خططه وقواعده التي يراد تنشئة الأمة عليها والتزامها إياها , فإذا كانت هذه الخطط والقواعد والمناهج واضحة صالحة قويمة فبشر هذه الأمة بحياة طويلة مديدة وأعمال جليلة مجيدة , وبشر قادتها إلى هذا الفوز , وأدلتها في هذا الخير ,بعظيم الأجر وخلود الذكر وإنصاف التاريخ وحسن الأحدوثة .
( ب ) على مفترق طريقين :
ولقد كانت المهمة ذات شطرين :
أولهما : تخليص الأمة من قيودها السياسية حتى تنال حريتها , ويرجع إليها ما فقدت من استقلالها وسيادتها.
ثانيهما : بناؤها من جديد لتسلك طريقها بين الأمم , وتنافس غيرها في درجات الكمال الاجتماعي .
والآن وقد وضع النضال السياسي أوزاره إلى حين , وأصبحتم تستقبلون بالأمة عهدا جديدا , فإنكم سترون أمامكم طريقين، كل منهما يهيب بكم أن توجهوا الأمة وجهتها وتسلكوا بها سبيله، ولكل منهما خواصه ومميزاته وآثاره ونتائجه ودعاته ومروجوه. فأما الأول فطريق الإسلام وأصوله وقواعده وحضارته ومدنيته، وأما الثاني فطريق الغرب ومظاهر حياته ونظمها ومناهجها. وعقيدتنا: أن الطريق الأول طريق الإسلام وقواعده وأصوله هو الطريق الوحيد الذي يجب أن يسلك وأن توجه إليه الأمة الحاضرة والمستقبلة.
( ج ) مزايا التوجه الإسلامي : وإننا إذا سلكنا بالأمة هذا المسلك استطعنا أن نحصل على فوائد كثيرة؛ منها أن المنهاج الإسلامي قد جرب من قبل وشهد التاريخ بصلاحيته، وأخرج للناس أمة من أقوى الأمم وأفضلها وأرحمها وأبرها وأبركها على الإنسانية جميعاً؛ وله من قدسيته واستقراره في نفوس الناس ما يسهل على الجميع تناوله وفقهه والاستجابة له والسير عليه متى وجهوا إليه، فضلا عن الاعتزاز بالقومية والإشادة بالوطنية الخالصة. إذ أننا نبني حياتنا على قواعدنا وأصولنا ولا نأخذ عن غيرنا. وفي ذلك أفضل معاني الاستقلال الاجتماعي والحيوي بعد الاستقلال السياسي.
وفي السير على هذا المنهاج تقوية للوحدة العربية أولاً، ثم للوحدة الإسلامية ثانياً، فيمدنا العالم الإسلامي كله بروحه وشعوره وعطفه وتأييده، ويرى فينا إخوة ينجدهم وينجدونه ويمدهم ويمدونه، وفي ذلك ربح أدبي كبير لا يزهد فيه عاقل.
وهذا المنهاج تام شامل، كفيل بتقرير أفضل النظم للحياة العامة في الأمة عملية وروحية. وهذه هي الميزة التي يمتاز بها الإسلام، فهو يضع نظم الحياة للأمم على أساسين مهمين: أخذ الصالح وتجنب الضار. فإذا سلكنا هذا السبيل استطعنا أن نتجنب المشكلات الحيوية التي وقعت فيها الدول الأخرى، التي لم تعرف هذا الطريق ولم تسلكه، بل استطعنا أن نحل كثيراً من المشكلات المعقدة التي عجزت عن حلها النظم الحالية , وإنا نذكر هنا كلمة جورج برنارد شو:
(ما أشد حاجة العالم في عصره الحديث إلى رجل كمحمد يحل مشكلته القائمة العقدة بينما يتناول فنجان القهوة).
وبعد ذلك كله، فإننا إذا سلكنا هذا السبيل، كان تأييد الله من ورائنا، يقوينا عند الوهن، وينقذنا في الشدائد، ويهون علينا المشاق، ويهيب بنا دائماً إلى الأمام: (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:104) .
( د ) المدنية الغربية الآن :
ومن تمام هذا البحث أن نقول : إن مدنية الغرب، التي زهت بجمالها العلمي حيناً من الدهر، وأخضعت العالم كله بنتائج هذا العلم لدوله وأممه، تفلس الآن وتندحر , وتندك أصولها وتنهدم نظمها وقواعدها , فهذه أصولها السياسية تقوضها الدكتاتوريات، وأصولها الاقتصادية تجتاحها الأزمات , ويشهد ضدها ملايين البائسين من العاطلين والجائعين , وأصولها الاجتماعية تقضي عليها المبادئ الشاذة والثورات المندلعة في كل مكان، وقد حار الناس في علاج شأنها وضلوا السبيل , مؤتمراتهم تفشل , ومعاهداتهم تخرق , ومواثيقهم تمزق , وعصبة أممهم شبح لا روح فيه ولا نفوذ له , ويد العظيم فيهم توقع مع غيره ميثاق السلام والطمأنينة في ناحية , ثم تلطمه اليد الثانية من ناحية أخرى أقسى اللطمات , وهكذا أصبح العالم بفضل هذه السياسات الجائرة الطامعة كسفينة في وسط اليم , حار ربانها وهبت عليها العواصف من كل مكان . الإنسانية كلها معذبة شقية قلقة مضطربة , وقد اكتوت بنيران المطامع والمادة , فهي في أشد الحاجة إلى عذب من سؤر الإسلام الحنيف يغسل عنها أوضار الشقاء ويأخذ بها إلى السعادة .
لقد كانت قيادة الدنيا في وقت ما شرقية بحتة ، ثم صارت بعد ظهور اليونان والرومان غربية ، ثم نقلتها النبوات الموسوية والعيسوية والمحمدية إلى الشرق مرة ثانية ، ثم غفا الشرق غفوته الكبرى ، ونهض الغرب نهضته الحديثة ، فكانت سنة الله التي لا تتخلف , وورث الغرب القيادة العالمية ، وها هو ذا الغرب يظلم ويجور ويطغى ويحار ويتخبط ، فلم تبق إلا أن تمتد يد "شرقية" قوية ، يظللها لواء الله ، وتخفق على رأسها راية القرآن ، ويمدها جند الإيمان القوي المتين ، فإذا بالدنيا مسلمة هانئة ، وإذا بالعوالم كلها هاتفة: (الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ) (لأعراف:43) .
ليس ذلك من الخيال في شيء , بل هو حكم التاريخ الصادق ,إن لم يتحقق بنا , (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) (المائدة:54) .
بيد أننا نحرص على أن تكون مما يحوزون هذه الفضيلة , ويكتبون في ديوان هذا الشرف , (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ) (القصص:68) .
الإسلام كفيل بإمداد الأمة
ليس في الدنيا نظام يمد الأمة الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر كما يمد الإسلام بذلك كله أممه الناهضة , ولقد امتلأ القرآن الكريم بتصوير هذه الناحية خاصة , وضرب الأمثال فيها بالإجمال تارة وبالتفصيل تارة أخرى , وعالج هذه النواحي علاجا دقيقا واضحا , لا تأخذ به أمة حتى تصل إلى ما تريد .
أ ـ الإسلام والأمل
تحتاج الأمة الناهضة إلى الأمل الواسع الفسيح , وقد أمد القرآن أممه بهذا الشعور بأسلوب يخرج من الأمة الميتة أمة كلها حياة وهمة وأمل وعزم , وحسبك انه يجعل اليأس سبيلا إلى الكفر والقنوط من مظاهر الضلال , وإن أضعف الأمم إذا سمعت قوله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ , وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ) (القصص:5-6) .
وقوله تعالى : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ , إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران:139-140) .
وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) (الحشر:2).
وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214) .
إن أضعف الأمم إذا سمعت هذا التبشير كله , وقرأت ما إليه من قصص تطبيقية واقعية , لابد أن تخرج بعد ذلك أقوى الأمم إيمانا وأرواحا , ولابد أن ترى في هذا الأمل ما يدفعها إلى اقتحام المصاعب مهما اشتدت , ومقارعة الحوادث مهما عظمت ,حتى تظفر بما تصبو إليه من كمال .
ب ـ الإسلام والعزة القومية
وتحتاج الأمم الناهضة إلى الاعتزاز بقوميتها كأمة فاضلة مجيدة لها مزاياها وتاريخها , حتى تنطبع الصورة في نفوس الأبناء , فيفدون ذلك المجد والشرف بدمائهم وأرواحهم , ويعملون لخير هذا الوطن وإعزازه وإسعاده . هذا المعنى لن نراه واضحا في نظام من النظم عادلا فاضلا رحيما كما هو الإسلام الحنيف , فإن الأمة التي تعلم أن كرامتها وشرفها قد قدسه الله في سابق علمه وسجله في محكم كتابه فقال تبارك وتعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران:110) , وقال تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة:143) , (وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون:8) , لهي أجدر الأمم بافتداء عزتها الربانية بالدنيا وما فيها.
ولقد عملت الأمم الحديثة على ترسيخ هذا المعنى في نفوس شبابها ورجالها وأبنائها جميعا , ومن هنا سمعنا : (ألمانيا فوق الجميع) , (إيطاليا فوق الجميع) , (وسودي يا بريطانيا واحكمي) . ولكن الفارق بين الشعور الذي يمليه المبدأ الإسلامي وبين الشعور الذي أملته هذه الكلمات والمبادئ , أن شعور المسلم يتسامى حتى يتصل بالله , على حين ينقطع شعور غيره عند حد القول فقط من جهة , ومن جهة أخرى فإن