شهداء وقتلة في ظل الطغيان
بقلم / عادل سليمان ، عصام سليمان
الإهداء
إلى السماء.... تبكي لهم.... وتبكي عليهم... تهتز لجرائمهم الشنعاء، وتفتح جنات الخلد لضحاياهم الأبرياء....!!
إلى السماء ... وهي تستقبل الشهداء وقتلتهم على حد سواء.....!!
إلى السماء ... وهي تستقبل بالرحمة والنور كل شهيد يشع جبينه بالضياء.
إلى السماء ...وهي تستقبل بالعذاب والحسرة قتلة الشهيد تجلل وجوهم ظلمة قتل الأبرياء...
إليها... تستلهمها الصبر... ونضرع إليها بالرحمة.....
والعفو... والغفران... حتى لمن لم يعرفوا في حياتهم الرحمن... وبالغوا في اقتراف كل صنوف العذاب... الهوان.. ضد الإنسان على أرض مصر...!!
إليها نطلب أن تسود على الأرض شريعة الرحمن... «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب» صدق الله العظيم.
مقدمة
«لا يحب الله الجهر بالسوء من القول ألا من ظلم، وكان الله سميعا عليما»
صدق الله العظيمكانت هزيمة الشعب المصري تأتيه على مدار التاريخ من الداخل قبل الخارج... كان يهزم من داخله قبل أن تحتل أرضه بفعل الغزاة من أعدائه ... وكانت الهزيمة الداخلية... التي هي دائما مقدمة كل احتلال... تأتيه من حاكم ظالم يتسلط عليه، أو من زمرة من الجلادين والطغاة تفتك بالكرامة داخله، وتقتل إنسانية الإنسان فيه...حتى إذا قدم الغزاة لأرضه وجدوا الإنسان المصري عليها لقمة سائغة لهم... جعل منه جلادوه وظلمته مجرد هيكل...
أجوف.. بلا كرامة... بلا إنسانية .. بلا إيمان ... وكلها هي أعز ما يعتز به الإنسان في كل الأمم، وعلى مر العصور... بل إن جلادي الشعب المصري، وقتلة الكرامة فيه، قدموه لعدوه مجردا حتى من الإحساس بالانتماء والولاء للأرض التي يعيش عليها، والانتماء .. من أهم الأسباب التي تجعل المواطن يستبسل دائما دفاعا عن شرف أرضه وطهارة ثراها.. لقد ترك جلادو الشعب المصري وظلمته إنسان مصر مجردا من كل قيمة شريفة يدافع عنها الإنسان.
ولذلك أضحي في ساعات لقمة سائغة لأعدائه.
وضاع خمس ثراه «سيناء الحبيبة» في نصف ساعة...!!
من هنا... لك ذلك تكون زمرة البغي من الجلادين الظلمة قد ارتكبت بفعلتها أشد وأفظع الجرائم في حق الوطن.
فإذا ما أضيف إلى ذلك أن زمرة «الجلادين» الطغاة قد ارتكبت جرائم أخرى يعاقب عليها القانون الوضعي والسماوي على حد سواء... ابتداء من تعذيب الإنسان .. إلى قتله....فإن الأمر يصبح جديرا بنظرة عامة من سائر الأمة ... لأن الجرائم التي يتعدى أثرها الفرد أو الجماعة وتمتد آثارها وأضرارها إلى الأمة وحضارتها تلك الجرائم مؤلمة تأثيما بليغا، إذ أن الأمر في هذه الحالة يتعلق بالوطن كله وحضارة الأمة بأسرها لذلك.. فهو جد خطير...
وجدير بنا جميعا أن نطيل البحث فيه، ونجيل النظر إليه، إلى آثاره الضارة حتى يمكن منع مثل هذه الظاهرة أو هذا البلاء من النزول بالوطن مستقيلا ... وحتى لا تفتك بالمواطن مرة أخرى... وذلك حفاظا على شرف الوطن وعرضه وطهره، ولتجنبه شروا لم يعد في قدرته احتمال المزيد منها.
ولم يعد في مصر... بل لم يعد في العالم العربي أجمع من يشك بأن ما نزل بأرض مصر... مما لا تزال وستظل هذه الأرض الطيبة تعاني منه إلى آماد بعيدة إنما مرجعه إلى قتل الكرامة والكبرياء والإحساس بالانتماء لهذا الوطن في الإنسان المصري، وذلك في زنازين التعذيب وفي السجون والمعتقلات ... وبواسطة الكلاب البوليسية والآدمية ... على حد سواء...!!
أن تدمير الإنسان هو كبيرة الكبائر، أو جريمة الجرائم، ولعل هزيمة 1967 كانت المحصلة الطبيعية لهذه الجريمة ... وهي قهر الإنسان المصري جسدا وفكرا.. روحا وعقلا.. منذ عام 1952 حتى وقعت تلك الطامة الكبرى... والهزيمة الساحقة لجيش قوامه 180ألف جندي وضابط في أقل من 6ساعات وبتكاليف وصلت «16141» مليون جنيه.
ولعله لم يعد في مصر .. أيضا ولا في غير مصر كذلك من يشك أن مصر أصبحت بعد الذي حدث لها تعاني من أمور ثلاثة على جانب كبير من الخطواة:
أولا: احتلال عسكري لجزء كبير من التراب الوطني لم يحدث أن اقتطع من جسد الوطن على هذه الصورة على طوال عصر التاريخ.
ثانيا: دمار أخلاقي يتمثل في تلك الصورة غير العادية للتحلل في كافة ميادين العمل، والانفلات من كل الصور الشريفة المتعارف عليها من القيم الخلقية الموروثة منذ الأزل.
ولعل الضباب الذي اكتنف –وما زال- صورة ما قبل هزيمة الخامس من يونيه 1967 وأسلوب الحكم، ودور الجلادين وغلاظ الأكباد فيه، هو الصورة التي لا يمكن مع بقائها أن تكون هناك جدوه لأي صلاح.
ولعل عدم كشف الحقائق –أيا كانت- عن هذه الفترة، وعن الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة المروعة هو الخطأ الجسيم والسقطة الكبرى لعصر الانفتاح الاقتصادي، و الديمقراطية إذا كان في الأمر انفتاح حقيقي....!
ذلك أنه من المؤكد أن عداء «حرية الشعب المصري» تلك الحرية السياسية أو الاقتصادية، إنما يستغلون هذا الضباب الذي يكتنف فترة الحكم الماضية, والذي يساهم في صنعه رجال الحكم الحالي، أسوأ استغلال، وذلك لطعن الشعب المصري أولا، وطعن رجال الحكم الحالي ثانيا.... ولا شك أننا نأمل على يديه في ديمقراطية سليمة وحقيقة ... يملك الشعب فيها مصيره بيده.. وترك الأمور على ما هي عليه من ظلمة وظلام... لا يفيد منه إلا أعداء النور، ولا يدفع ثمنه إلا الشعب والوطن بأسره والحاكم الداعي لحرية حقيقية للشعب.
إنه لمن الواجب على كل شريف يجب هذا الوطن بنبضات القلب، ويضع كل ولائه لهذه الأمة أن ينبه إلى أنه لم يكون هناك انفتاح اقتصادي أو انفتاح ديمقراطي ... أو أمل في مستقبل مشرق مشرف بالحرية ما لم تسلط الأضواء الكاشفة على ربع قرن من الزمان .. مضي بسيئاته وحسناته...!! أو بإيجابياته وسلبياته...!! على حد قول بقايا المنتفعين بعهد القمر والظلام، وهم ما زالوا للأسف بين ظهرانينا كثيرين، ويعملون بهمة نشاط...!
إن الأمم لا يمكن أن تضع مستقبلها القريب في غيبة من ماضيها القريب بالذات، وخاصة إذا ما كان هذا الماضي قد أنزل بهذا الشعب وبالوطن كوارث رهيبة مثل كثف الليل ربما تظل آثارها الجانبية تصنع الأخاديد الجسيمة والتجاعيد المخيفة على جبين هذه الأمة لسنين طوال مقبلة، لا يعلم مداها إلا الله.
ومن الحقائق المعروفة أن الماضي مرآة المستقبل ولا يمكن أن يكون هناك انفصام بين ماضي وحاضر ومستقبل، وأن أ ي إنسان لا يمكن أن تكون خطواته إلى المستقبل مطمئنة ما لم يحاول كل فترة زمنية إعادة تقييم خطواته الماضية، فالذي يكون منها مفيدا يعيده بشكل أكثر انتظاما واتساقا... والذي يكون منها خاطئا أو مميتا يتجنبه ولا يكرره ... وهذا هو الأمر الذي يضمن ألا يسير الإنسان في «سكة الندامة» وهو يظن أنه يسير في «سكة السلامة» ولا يوقظه في مسيرته الخاطئة إلا وقع الكوارث التي لا منجاة منها.
أن عادة تقييم الخطوات هي دأب الأمم الناجحة، أو التي تريد أن تنجح وتتجنب مزيدا من الكوارث. وإذا كان القضاء المصري يحاكم اليوم مجموعة من الجلادين، غلاظ الأكباد الذين كانوا سياط للحكام، يقتلون لهم معارضيهم، ويعذبون لهم أصحاب الآراء فيهم، فإن هذه الظاهرة يجب ألا تترك بلا دراسة متأنية واعية لعدة أسباب.
أولها:
أن وجود هؤلاء «الجلادين» بين يدي قضاء حر عادل «غير عسكري أو استثنائي» هو دليل صحة لما نسير فيه... ولكن من المهم ألا يترك الرأي العام بعيدا عن هذه المحاكمات، أو أن يبعد بحجة عدم التأثير على القضاء ....
بل إن الجماهير المصرية يجب أن تعيش في ساحات هذه المحاكم لحظة بلحظة ... لأن الأمر يتعلق بحياتها... بماضيها بكل مرارته وقساواته، وبحاضرها ومستقبلها ... وبكل ما ترجوه في هذا الحاضر والمستقبل من حريات وبسمات وطمأنينة, حرمت منها جميعا قرابة ربع قرب من الزمان ... وكان حصادها الشوك والحسرة والندم على أيام طويت بغير تقدم في ميادين كثيرة.
الأمر الثاني:
إن هؤلاء القتلة، أو الجلادين «عير عاديين» فهم ليسوا مثل قتلة «الصعيد الجواني» قتلوا لثأر، ولشرف، أو لعرض، وإنما هم قتلوا لوأد الرأي في مهده، أو دفن عقيدة حرة في صدر صاحبها ... ولا يمكن لوطن أن يبني نفسه والآراء «توأد» فيه والعقائد «تقتل» في صدور أبنائه... ذلك محال...!
الأمر الثالث:
أن العبرة بالماضي مسأل ضرورية للاستفادة بالأيام القادمة..ولا يمكن لحاضر سليم أن يبني بغير رؤية موضوعية للماضي، وخاصة إذا كان هذا الماضي في ظلمة الليل تسبب في نكبات كسواده، في مرارة العلقم.
ولقد أصبح من المؤكد أن الرؤية الموضوعية الصحيحة ليست رؤية الحاكم...وإنما هي رؤية المحكومين تلك حقيقة لا جدال فيها.... فالحاكم على صورة تعزله مشاكل الحكم عن الرؤية الموضوعية لدروس التاريخ وعبره وعرض الحقائق الموجود في هذه المحاكمات عرضا أمينا، من واقع التحقيقات مسألة ضرورية لأخذ العبرة والعظة إذا كنا نريد عبرة أو عظة أو مستقبلا أفضل...!!
الأمر الرابع:
القتلة من الجلادين القابعين في انتقاص القضاء العادل هذه الأيام، والشهداء رحمهم الله –الذين رحلوا ضحية بطشهم كانوا جميعا من أبناء هذه الأمة ... ولكن الشهداء كانوا بما يعبرون عنه من وراء – تعارضت مع أراء البعض منا –كانوا يشكلون بصورة أو بأخرى عقل الأمة المصرية وضميرها ... ومن حسن الحظ أن شهداء مصر لم يسقطوا فقد من حاملي أفكار اليمين، وإنما سقطوا كذلك من حاملي أراء اليسار، وهو الأمر الذي يؤكد ضرورة إلقاء الأضواء على هؤلاء ... الشهداء ماداموا مصريين .... لا يفرق بينهم أن بعضهم كان يمينا، وبعضهم كان يسارا وبعضهم كان وسطا، أما القتلة فلا يمكن أن يكون إلقاء الضوء قاصرا على وجوهم الكئيبة وإنما ... أيضا لابد أن يشمل دورهم اللعين في واد الحرية والفكر والعقيدة في عقول وصدور أبناء مصر من كافة الاتجاهات... وفي تشكيل لون الحكم الذي ساد، وهذا ما سنحاوله ما وسعنا الجهد في هذا الكتاب.
شهداء وقتلة في ظل الطغيان.
تحية لرجال مكتب قضايا التعذيب
تحية للمستشار المحمدي الخولي الرجل الذي جعل من قضايا التعذيب قضية رأي عام عندما أسند إليه تحقيق أول عدد من بلاغاتها... فأنجزه بهمة بالغة, وفي سرعة فائقة، تحية لأمانته ولجرأته ولنزاهته وتجرده عن كل هوى.
وتحية للمستشار هاشم قراعة ومعاونيه... الأستاذ حنفي رزق رئيس النيابة والأستاتذة وكلاء أوائل النيابة وفيق الدهشان... و محمد جلال الدين ... و عبد الوهاب عبد الرازق... والأستاذ شهاب بركات وكيل النيابة الذين واصلوا الطريق في أمانة ونزاهة وحيدة وشجاعة هي جديرة بمن أتوا بماء النيل واستظلوا بسماء مصر التي أهدر على ثراها مرتكبو جرائم التعذيب كرامة وإنسانية الإنسان المصري. تحية لهم من على الأرض ونحن لا نشك أن لهم أعظم منها من السماء... وابتداء نحب أن نؤكد للرجال العالمين في مكتب تحقيقات قضايا التعذيب عدة أمور:
أولا: أنهم بعملهم الجليل الذي يقومون به إنما يقومون بإظهار الحقيقة في قضايا التعذيب لوجه الله ولوجه الحقيقة ثانيا ولوجه الوطن ثالثا.
ذلك أن قضايا تعذبي الإنسان إنما هي إهدار لأدمية من قال فيه سبحانه وتعالى «إني جاعل في الأرض خليفة» ثم «وكرمنا بني آدم» فالله سبحانه وتعالى كرم الإنسان ثلاث مرات واحدة عندما استخلفه في الأرض ولم يستخلف سواه، وثانية عندما ميزه على جميع مخلوقاته بالعقل، وثالثة عندما أمر الملائكة بالسجود له... لذلك عندما يأتي جلادو التعذيب ليهدروا قيمة الإنسان فإنما هم في الحقيقة قد أهدروا قيما أرسى دعائمها الخالق جل شأنه. لذلك فإن الأساتذة رجال القضاء في مكتب تحقيقات قضايا التعذيب يؤدون إلى الله بعملهم صلاة وتسبيحا.. ويؤدون للوطن بعملهم صلاة وتسبيحا .. ويؤدون للحقيقة وللقانون بعملهم أجل الخدمات ... ذلك أن الإنسان هو قوام الوطن... التعذيب هو إهدار لكرامة الإنسان... ولا كرامة لوطن يعيش المواطنون على أرضه أذلاء مضيعي الكرامة...!
ثانيا: إنهم بعملهم الجليل إنما يؤدون أجل الخدمات ليس للجيل الحاضر فقط، وإنما للأجيال القادمة من أبناء مصر –وهي الأمل- ذلك أنه إذا لم يتخذ الردع مبدأ في مثل جرائم التعذيب، مع الجلادين مرتكبيها، فإن ذلك يعني أن هذه الجرائم قابلة للتكرار .. وأن الجلادين قابلون للظهور في مجتمعنا مرة أخرى...وتلك نكسة ما بعدها نكسة .. ذلك أنه من المعروف أن هزيمة 1967لم تكن لقلة في الرجال أو السلاح بقدر ما كانت لأننا خضنا الحرب بإنسان خائف ومذعور، ومهدد الكرامة ومحطم الآدمية.. ذلك إلى جوار سوء التدبير، والتخطيط الفاسد للحرب.
والإنسان هو قوام الجيوش وأساسها.. كان دائما وسيظل .. لذلك فإننا نعتبر تحطيم الإنسان سببا فوق كل الأسباب التي صنعت هزيمة 1967، وألا فلو لم يكن الإنسان حطاما لقاتل أيام .. بل شهورا حتى بغير سلاح... ولم تكن الهزيمة لتقع في نصف ساعة كما قال الرئيس السادات في خطاب أخيرا.
أننا على يقين أن مكتب تحقيقات قضايا التعذيب توضع أمامه العراقيل، ويحارب من مراكز قوى خفية هي بطبيعة تكوينها امتداد لمركز القوى الساقطة، وامتداد للجلادين .. بل أن فيهم شركاء وتلاميذ مازالوا قابعين في مراكز سلطة حساسة مخلصين لماضيهم ولأساتذتهم في البطش والقهر.
فالأمر الذي لا شك فيه أن الجهد الذي يقوم به مجموعة الرجال الذين يتكون منهم مكتب تحقيقات قضايا التعذيب هو جهد وطني فوق أنه عمل قضائي بخدمة العدالة.. ذلك أن إبراز الحقيقة في هذا الموضوع لا تخدم العدالة وحدها .. وإنما ينتصر لحق الشعب الذي أضاعه هؤلاء الجلادون وأمثالهم على مدار ربع قرن من الزمان... من هنا... فهو عمل وطني بالدرجة الأولى....
ومن هنا أيضا.. تقول أن العمل الوطني في هذا المضمار لا يحب أن يقتصر على رجال النيابة والقضاء وحدهم .. إنما يجب أن نشترك فيه جميعا... كل في ميدانه.. بوسائله.. ولا شك أن العالم وسيلة هامة من وسائل العمل الوطني.
لذلك فإننا نقول للأساتذة أعضاء مكتب تحقيق قضايا التعذيب: على بركة الله سيروا فإن مصلحة الوطن فوق مصلحة كل جلاد أو طاغية أو كل امتداد لهذا الجلاد أو ذلك الطاغية.. الله معكم والحقيقة معكم... والقانون معكم ... والشعب يحميكم بأعناق الرجال.
ونحن نناشد الصحافة والزملاء الصحفيين باسم الضمير.. وباسم الوطن... وباسم الإنسان الذي كرمه الله أن يبرزوا أعمال هذا المكتب. لتكون قضايا التعذيب قضايا رأي عام وليست مجرد أخبار توضع في صفحات الحوادث بطريقة أبسط ما نصفها به –نحن الصحفيين- إنما مقتولة!!
الحوادث بطريقة أبسط ما نصفها به –نحن الصحفيين- إنها مقتولة!! لأنها غير مبرزة بشكل كاف منسب لأهمية الحدث ودلالة الجريمة.
المؤلفان
زملاء الصحافة الإعلام تعالوا إلى كلمة سواء ..!!
أعرف... وتعرفون كيف كنتم تؤمرون في ظل عهود القهر، وحكم الفرد وسيطرة مراكز القوة، بأن تحملوا أقلامكم وآلات تصويركم إلى حيث المحاكم الاستثنائية لتنقلوها إلى الناس... وليت الأمر كان نقل الصورة بأمانة... بل كان الأمر مشفوعا بالدمغ المسبق لمن ستحضرون محاكمتهم ... بأنهم خونة ... ومجرمون... ومتآمرون...ذلك لأنهم اتهموا، أو لفقت لهم تهم «قلب نظام الحكم» وتغيير دستور الدولة بالقوة.. وعليكم أن تركزوا عليهم بالأضواء بهذه الصورة الشوهاء لكي تصب الجماهير لعناتها عليهم... ولكي تقنعوها بفداحة جرمهم... وبالتالي استحقاقهم للأحكام الرادعة المجحفة الموضوعة سلفا... والتي ليس لأعضاء المحكمة من فضل إلا النطق بها.
وتعرفون.. واعرف أنكم كنتم تؤمرون فتصدعون بالأمر .. ولم يكن أحد منكم يجرؤ على أن يكتب على لسان مسجون «سياسي منا» وهو في القفص كيف أنه عذب بريريا رهيبا ... وإلا فالمصير معروف.. من الذي علمني الحكمة: رأس الذئب الطائر...!!
واعرف وتعرفون أن قضاة الظلم والمحاكم الاستثنائية والعسكرية سواء المعقود منه سريا أو علنيا في عهد الظلام والقهر .. كان هؤلاء القضاة المختارون من قبل السلطة يفرضون عليكم نجوما تتصدر صورها صفحاتكم الأولى... وبرامج التليفزيون العديدة.
تجرون معهم الحوار تلو الحوار لفلسفة الظلم والبطش والإرهاب ...
كان اسمهم: القضاء ولم يكن في الحقيقة سوى جناة....
اعرف تعرفون أن قضاة اليوم .. في محاكم اليوم ... العادية والعادلة... والمفتوحة بالا سرية ..وغير المختارين من الحكام .. لا يدعوكم أحد –أي أحد- لمناقشتهم أو وضع صورهم في صفحاتكم الأولى، وتلك –بغير شك- إحدى سمات نزاهتهم.. إلا أنه من الغبن للمجني عليه في تلك القضية التي ينظرونها –وهو الشعب المصري –أن تتركوا قضاته دون إجراء الحوارات ... أو تصوير المحاكمات وكيف تجرى ... لكي يعرف المواطن الفرق بين قضاء اليوم –الذي يحاكم مجرمي الشعب وقضاء الأمس القريب الذي حاكم أحرار الأمة ومناضليها.
ومن عجب يا أخوة الصحافة أن نتجاهل جريدة كالأهرام مثلا كان يرأس تحريرها يوما «جلاد يفلسف للجلادين خطاياهم» جلاد صنع لنفسه ثروة تقدر بالملايين من دم الضحايا والأبرياء.
وقد كان قبلا فقير الحال يتدثر بالستر وشهادة التجارة المتوسطة.
والأهرام تلك الجريدة التي يعتتز بها الشعب المصري يصبح نصيب قضايا تعذيبه من اهتماماتها اسطر مبتورة في صفحة الحوادث.. ولا تحظى هذه الأسطر بمجرد إشارة في الصفحة الأولى كباقي الصحف مثلا.
أيها الزملاء العاملون في الأهرام أفيقوا فقضايا التعذيب أكبر من أن تكون قضايا أفراد... أنها قضية الشعب المصري الأولى.. قضية الإنسان المصري... قضية الإنسانية المهدرة على الإطلاق.. قضية كل إنسان يؤمن بأن له ربا وعقلا ووجدانا، فهل يضمن أي منكم أن ما جرى لأخيه في يوم سلف من الزمان ... يحدث لشخصية في أي يوم قادم من ذات الزمان!.
أفيقوا يا أخوة الأهرام فالقضية أكبر مما تتصورون ..أنها أكبر من أن تكون قضية «خط الصعيد»... أو «مجموعة لصوص تسر قطارا بالإكراه» .... بل إنها سمة عهد نرجو أن تكرسوا أقلامكم لتصويرها كي لا تتكرر مأساتها ثانية... أن لكم .. أو لأولادكم من بعدكم.. أو حتى لأحفادكم...!!
يا زملاء الصحافة والإعلام، لعل ذاكرتكم لم تسقط منها الماضي الكئيب .. القريب مما أعرف.. وتعرفون!!
وقد جاء اليوم ليحاكم الذين ارتكبوا جرائم التعذيب ضد أنباء مصر .. أصحاب الآراء والعقائد الذين كانوا يلفقون لهم الاتهامات.
واعرف.. وتعرفون أن النيابة التي حققت مع المتهمين، واستخلصت الأدلة المادية ضدهم، قامت بعملها في ظل مناخ قانوني، وإنساني هيأته لجميع المتهمين، بعكس ما كان يجري في عهد هؤلاء المتهمين وسادتهم، من أهدار لأبسط قواعد القانون .... ومنها حبس المتهم فيغير سجنه الطبيعي .. .والتحقيق معه في غير سراي النيابة .. حيث كان التحقيق يجري داخل مكاتب المخابرات أو في مكاتب السجن الحربي، وعملية التعذيب تدور لتهيئ المتهمين للاعتراف أو كان الجلادون يسمونها «عملية التجهيز» .. والنيابة العامة في ظل سيادة القانون حققت وجمعت الأدلة ضد المجرمين، دون اللجوء إلى أية وسيلة غير قانونية أو غير إنسانية.. بل كانت كل تحقيقاتها في جو طبيعي للغاية.
وإن لم يكن لعهد سيادة القانون إلا هذا لكفاه فخرا.. وإن لم يكن للنيابة إلا أن توفر للمتهمين هذا المناخ القانوني لكفاها نزاهة وشرفا.
وإن لم يكن لعهد سيادة القانون إلا هذا لكفاه فخرا.. وإن لم يكن للنيابة لا تدخل في لب الموضوع، ولا تمت إليه بصلة لكفاها عدلا.
ولكن الذي أعرف.. وتعرفون أيضا لا تصدر إليكم الأوامر بإبراز قضايا التعذيب .. بصرف النظر عن أنكم تتلقون توجيهات في أمور أخرى قد تخص سيادة الدولة العليا وتمس مصلحتها..!
ولا شك أننا لا نحب ولا نرضى –عدالة- أن تصدر إلينا الأوامر من الأجهزة الحاكمة بإبراز محاكمات قضايا عمليات التعذيب الرهيبة والمخيفة ... فذلك أمر يخرج بالحكم عما نريده له ونحبه به. ولكن الذي أعرف.. وتعرفون أيضا أن رفاق وتلاميذ القهر والبغي السابق ما زالوا يعيشون في جيوب خطيرة وفي أماكن حساسة, ويسعد هؤلاء أن تظل أخبار قضايا التعذيب تمثل أضيق المساحات في صفحات الحوادث بالصحف، ولا تطلق عليها الأضواء اللأزمة لإبراز خطورتها وأثرها في حياة الأمة بأسرها ومستقبل مصرنا كلها .. حيث يتحقق لهم العمل في الظلام لإعادة أساليب الماضي في الحكم والقهر، التي لا يستفيد منها سواهم وزمرة الجلادين والذين معهم.
والذي يجب أن أذكره .. وتذكرون، أن مصلحة مصر وشعب مصر، ومستقبل مص هو في تسليط الأضواء الكاشفة على أساليب الحكم في الماضي، وعلى قضايا التعذيب، كأسلوب أساسي في أساليب حكم الشعب .. لا نزيد أن نلون الصورة بهذا اللون أو بذلك.. حاشاي أن أطلب منكم ذلك .. نريد أن ننقل الصورة بأمانة مطلقة لشعبنا .. لكي يتجنب الوقوع مرة أخرى في ذات «الشراك» التي نصبت له ووقع فيها في الماضي. لذلك..... تعالوا بنا إلى كلمة سواء..نريد إبراز الحقيقة في قضايا التعذيب ... بكل أمانة وبكل صدق.. وبكل إخلاص.. حتى إن كان للجلادين دفاعا سنقوله .. ونكتب عنه ونصوره... ولا يجب، ونحن ننقل ما فعلوا، أن نتجاهل حقوق الدفاع للمتهم كما كانت سادتهم يفعلون وهم يفعلون ويأمرون فقد نريد الخروج من مؤامرة الصمت على جرائم التعذيب... أن جرائم التعذيب لم تقع الأشخاص من وقعت عليهم بالفعل جسدا.. وإنما كان وقوعها على الشخصية المصرية بالدرجة الأولى قبل وقوعها على أصحابها جسدا.. ذلك لأن حصادها من الحصرم والشوك والقتاد جنته مصر بأسرها ... أرضا وشعبا.. منذ عام 1976 وإلى الآن..
وإلى زمن يعلمه الله.. والله بنا رؤوف رحيم.
فهيا يا رجال الإعلام اكسروا جدار الصمت عن قضايا التعذيب وانقلوها من صفحات الحوادث إلى الصفحات الأولى.. وإلى مقالات السياسة والكتب معها.. فإنها جديرة بذلك لتنقل كاميراتكم وأقلامكم الصورة أمينة للشعب من داخل محاكم عادية.. وبلا حراس .. وبلا أسرار... ليعرف الشعب كيف كان.. وكيف أصبح .. وماذا ينتظره أن هو فرط في حريته كما سبق أن فعل في عهد الطغاة.
إن واجب مصر عليكم يقضي منك أن تجعلوا من قضايا التعذيب قضية الرأي العام الأولى .. وذلك من اقتناعكم المحض أن ذلك يحقق المصلحة لبلدكم ولشعب بلدكم... ولا تتركوا القضاء يعمل وحده.. لأن الذيول من ذئاب مراكز القوى تتربص به وبالأمة بأسرها..!!
إنني على يقين من صفاء الوجدان الوطني لغالبيتكم، لذلك فإنا أدعوكم إلى كلمة سواء بيننا .. أن ننقل الحقيقة بضمير لا يبغي سوى الله والوطن.
عادل سليمان ... صحفي ومسجون سياسي
تمت محاكمته أمام محكمة عسكرية استثنائية وفي جلسات سرية بتهمة قلب نظام الحكم.
نداء إلى مجلس الشعب
إننا ندعو مجلس الشعب لاستصدار قانون خاص لمحاكمة جلادي الشعب، ممن ارتكبوا جرائم تعذيب ضد الإنسان المصري.. على أن تكون لهذا القانون سمة الردع للأسباب التالية:
1- جرائم التعذيب من الجرائم التي تمس ثروة هذه الأمة وتلك الثورة قوامها الإنسان المصري.
2- تعذيب أي مصري هو عدوان وتحطيم لهذه الثروة .
3- تعذيب المصري تحطيم لقيم حضارته وأخلاقية ورثناها عن الأجداد ونفخر بها..
4- تعذيب المصري عدوان على دين الله فهو تعذيب للإنسان الذي استخلفه الله في الأرض، والذي كرمه على جميع مخلوقاته، وأمر الملائكة بالسجود له.
5- كان تعذيب الإنسان المصري، وتحطيم آدميته، وكرامته في زنازين «الحربي» والمخابرات العامة أحد أسباب هزيمة يونيو الأساسية .. إذ كيف لفاقد الكرامة أن يحارب عن كرامة سلبية.. وكيف للخائف من جلاديه أن يدافع ببسالة عن أرض لا تحميه .. تلك حقيقة يجب ألا نهرب منها.
6- ولكي لا تتكرر الصورة البشعة لعمليات التعذيب «القذرة» التي قهرت الإنسان المصري على مدار ربع قرن من الزمان... ولكي لا تولد جلادون جدد على أرضنا، ولكي لا يولد مقهورون جدد بين أبنائنا أجيال المستقبل التي نأمل أن ترفع عن كاهلنا عار هزيمة صنعها جلادونا.
من أجل ذلك كله يجب أن يصدر تشريع رادع لا تقل العقوبة فيه عن الإعدام لكل من عذب إنسانا مصريا لأي سبب من الأسباب.. مهما كان .. فالتعذيب شريعة مرفوضة.. وشريعة غاب.. شريعة لا يرضى عنا الخالق الذي قال «ولقد كرمنا بني آدم» ...و القائل: «إني جاعل في الأرض خليفة» والقائل «وإذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم».
هكذا كرم الله سبحانه وتعالى الإنسان في كتابه العزيز.
فيا أعضاء مجلس الشعب.. ويا أيها الأحرار في بلدنا... كرموا الإنسان كما كرم خالقه و خالقكم بإصدار تشريع عاجل ورادع بإعدام كل من تثبت ضده جريمة تعذيب .. على أن ينسحب القانون على جرائم ربع القرن الماضي.
نداء إلى لجنة حقوق الإنسان في مصر والأمم المتحدة
نأمل أن يأتي اليوم الذي تضع فيه الأمم المتحدة إلى جوار حقوق الإنسان قانونا لمعاقبة الإنسان الذي يعذب إنسانا آخر لأي سبب من الأسباب، وإن تكون العقوبة رادعة لا تقل عن الإعدام –لمن تثبت الجريمة ضده... بالأدلة المتعارف عليها قانونا...
ونأمل أن تساهم لجنة حقوق الإنسان في مصر التي يرأسها زميل مناضل شريف هو الأستاذ إبراهيم يونس، في الدعوة إلى إصدار قانون رادع لمعاقبة المعذبين للإنسان في مصر للاعتبارات التي سبق أن ذكرناها في ندائنا إلى أعضاء مجلس الشعب المصري...
كما نرجو أن تساهم اللجنة في محاولتنا لجعل قضايا التعذيب قضايا رأي عام للأسباب التي شرحناها في مقدمة هذا الكتاب.. حين أن عدم تكرار تلك المآسي البشعة، هدف يجب أن يكرس الجميع له الجهد باعتبار أن تلك المآسي كانت سببا في كارثة قومية على مستوى الوطن كله وكانت سببا في فجيعة إنسانية على مستوى الأمة العربية جمعاء.
نداء إلى مصطفى أمين
عندما سألتني بالتليفون هل ستشهد في قضيتي أم لا .. قلت لك لو أن صهيونيا قد عذب أمامي لشهدت بأن هذا الصهيوني عذب أمامي...
أما كون الصهيوني بعد ذلك عدوا لي فهذا أمر آخر .. أنا وهو في ميدان القتال.. لذلك أرجو ألا تسمع لمن يقولون لك أن عادل لن يشهد في قضيتك لأنه يختلف معك في الرأي.
وأنا حقيقة اختلف معك في كل شيء.. وآخر ما اختلف معك فيه أنك أدرت معركة الإعلام في قضايا التعذيب إدارة جيدة واعية وجندت لها كافة إمكانياتك وإمكانيات تلاميذك، إلى أن حصلت على حكم ضد صلاح نصر تعتبره أنت يبرئ ساحتك من قضية التخابر، وهو ما تعتبره نصرا شخصيا لك عليه... هنا بدأت همتك وحماستك لقضايا التعذيب تفتر، لقد حققت المراد من رب العباد لذاتك هل هكذا أنت.. وهل إلى هذا الحد.. تنسى أن قضايا التعذيب هي قضايا الإنسان ضد جلاديه.. وقضية الشخصية المصرية ضد من أراد سحقها وقهرها فجلب العار والهزيمة لمصر...
مصطفى أمين.. أنني أناشدك... وأناشد مصريتك ..أناشد ضميرك الوطني...
قضايا التعذيب هي قضايا الإنسان المصري.. وليست مجرد نصر يحققه مصطفى أمين على صلاح نصر..
فمصطفى أمين زائل.. و صلاح نصر زائل.. وكلنا إلى زوال.. وتبقى مصر.
وفي النهاية أرجو من الله صادقا أن يكون سوء ظني بك –كرأي دائما فيك- قد بلغ هذه المرة شوطا أبعد، وأن تثبت أنت بسلوكك وقلمك عكسه...يا رب..
الفصل الأول : السفاح الهارب شمس بدران
• شمس بدران مطلوب القبض عليه لمحاكمته في سبع قضايا تعذيب صدرت حتى الآن وفي الاشتراك في تعذيب إسماعيل الفيومي –حارس عبد الناصر حتى الموت.
• الفريق الرومي يقف انتباه للعقيدة شمس..!!
• طبيب السجن الحربي يشهد...
• شمس بدران يصرف ألف كرباج لمحامي ...!!
• شاهد يقول: فقدت عيني اليمنى وإحدى خصيتي من التعذيب.
• هل صحيح أن شمس بدران سافر بجواز سفر دبلوماسي وأن معاشه يحول إليه بالعملة الصعبة..؟
• وتجلى «سبحانه» في الزنزانة...
• شمس وقانون الأحكام العسكرية.
• شمس يتحدى عبد الناصر..
• عبد الناصر في شنطة عربية...!!
• متى قال شمس بدران لعبد الناصر : أنت آخر من يتحدث عن الوطنية..!!
هكذا كانت تحكم مصر
بحكم عملي كصحفي ترددت كثيرا على المشير عبد الحكيم عامر قائد الجيش والنائب الأول لرئيس الجمهورية... وجلست لمرات عديدة في مكتب شمس بدران انتظر مقابلة تحددت للقاء المشير.. ولقد رأيت في هذه الجلسات القليلة العجب العجاب.. رأيت ساعي المكتب يدخل مرة ليعلن للعقيد شمس بدران قدوم اللواء «م. ن» قائد السلاح «س» للجيش .. ويمط العقيد مدير مكتب المشير «عامر» شفتيه وينطق على مهل وفي عدم أكتراث يصل إلى حد التأفف.
- جاي لوحده؟
- أيوه يا فندم.
- زي بعضه دخله.
ويفتح الباب وإذا بي أمام منظر غريب ... اللواء يعبر مدخل الباب في خطوات سريعة كأنها القفزات ويتخشب أمام مكتب «لعقيد...» ويشد نفسه وكأنه يمزقها ويرفع يده إلى أعلى جبهته بالتحية حتى تكاد من قوة تخشبها وتصلبها ترتعش...
اللواء «م.ن»: - تمام يا أفندم.
العقيد «شمس»:- ينظر للواء نظرات صارمة من فوق لتحت دون كلام...
اللواء: القوام يزداد تخشبا.. واليد المرفوعة بالتحية تزداد أرتعاشا.
العقيد «شمس»: - ذات النظرات الباردة بلا كلام.
اللواء «م.ن» - في ذات الموقف والبوظ «المتخشب»...وقد بدأت الصفرة تلون الوجه.. وحبات العرق تطفو على الجبين.
وأخيرا نطق العقيد «شمس» من بين أسنانه ببرود شديد يزيد من صرامة نغمة الصوت:- عايز حاجة؟
اللواء – في لهفة من لدغته أفعى –سيادتك يا أفندم اللي مستدعيني...
العقيد «شمس»: بذات النبرة الباردة الصلفة - «أية بتقول إيه»؟
اللواء: يقول سيادتك للي مستدعيني...
العقيد «شمس» وقد بدأت نبرته تتحول إلى السخرية بعض الشيء:
...أيه ... يا خويه.. مستدعيك... مستدعيك عن طريق مين؟
اللواء: «ونبرات صوته تكاد تستغيث» عن طريق القيادة.. عن طريق القيادة يا أفندم.. إشارة سريعة عاجلة النهاردة يا أفندم...
العقيد «شمس»: يزداد صوته برودة وصرامة –طيب أقعد ويشير بيده على كرسي في طرف الحجرة.
اللواء – يتراجع بظهره لأنه لا يريد أن يعطي ظهره «للعقيد» صاحب الصوت الصارم البارد..ويكاد يتعثر في الكرسي .. يرتمي عليه بكل جسده.. حتى لكأنه قد بقي دهرا بأكمله واقفا.. أو حتى لكأنه قد بعث من جديد.
العقيد «شمس»: ينشغل بمداعبة مجموعة من الأوراق على مكتبه...
وتمر فترة صمت أختلس فيها النظرات إلي سيادة «اللواء» الجالس أمامي على الكرسي وكنت جالسا على يمين العقيد في كرسي من الجلد، فأرى الرجل يكاد يرتجف على كرسيه الخشبي، ونظره متعلق بين أنامل العقيد التي تعبت بالوريقات على مكتبه ووجهه الصارم لاه تماما عن النظر ناحية اللواء المسكين.. وتمر اللحظات كئيبة... خلتها تمر دهورا على اللواء المنكود الحظ.. إلى أن تتحرك يد العقيد وتضغط على زر أمامه وهنا أحس منظرا لن أنساه طوال حياتي... رن الجرس وفي ذات الوقت قفز اللواء من على كرسيه وكان عقربا قد لدغته، أو كأن هذه الضغطة من أصبع «العقيد البارد» على زر الجرس أمامه قد أطلقت صاروخا من تحت كرسي اللواء فنظر الصاروخ «المزعوم» واقفا على قدميه ونظر العقيد «شمس» ناحية اللواء «م.ن» في اشمئزاز وبرود، في حين دخل أحد حراس مكتب العقيد الإمبراطور، فسأله قائلا:
- العقيد: مين عندك تاني.
- الحارس: الفريق الدجوي يا أفندم...
- العقيد «في برود»: دخله...
الفريق المستأنس في خيمة سرك العقيد...!!
رفعت ستارة خيمة سيرك «العقيد الإمبراطور» عن منظر جديد غريب، وعجيب، وغير مألوف في ذات الوقت، ولكن يبدون أن كل ما هو مألوف في هذه الغرفة لا يهم إطلاقا أن يكون مستهجنا, وغير مقبول، وغير مألوف في أي مكان من العالم، وعلى أي مستوى!! حتى لو كان التعامل في الغابة بين الحيوانات... حيث لا يمكن لكائن حتى لو كان من نوع «الشامبنزي» الراقي –أن يستوقف أسدا على هذه الصورة الكريهة حتى لو كان هذا الأسد عجوزا كركوبا... وبلا أنياب.. وبلا مخالب.. وبلا لبدة .. بل أنه لا يمكن لأي «شامبنزي» أن تستوقف «لبؤة» الأسد على هذه الصورة الزرية.. وهذه هي صورة الفريق الدجوي في مكتب شمس بدران كما حدث في مكتب العقيد «الغول».
رفعت الستارة ودخل الفريق المخيف «الدجوي» .. لم يمكن مخيفا ولا مستأسدا في تلك المرة التي رأيته فيها، كان كالأسود «المستأنسة» تحت قبة خيمة السيرك القومي، يأمره العقيد بتخطي أطواق النار، فيقفز داخلها في رشاقة صادعا بالأمر مطاطئ الرأس في هوان...
في البداية كان الفريق «الدجوي» منفوشا كالديك الرومي، وقفز في خطوات حتى صار واقفا أمام مكتب العقيد «شمس» وشد جسمه كله ورفع يده إلى مفترق جبهته بالتحية.
الفريق: تمام يا أفندم، وكرر، تمام يا سيادة العقيد...
العقيد «شمس» بعد نظرة طويلة باردة: تمام يا خوية.. أمال «الأيافة» مش تمام ليه.. أمال لو مكنتش فريق كنت عملت أية...؟
وخيل إلي أن الفريق قد ارتكب شيئا «إذا» دلت على ذلك العينان الناريتان المصوبتان إلى «الفريق» من العقيد... ولكن «العقيد» سرعان ما وضح نفسه.
العقيد: تبقى فريق يا أخي وتدخل على بالكرفتة مفكوكة.. أمال خليتو أيه للضباط الصغيرين.. واللا للعساكر.
وانهالت كلمات «الفريق» الرومي: أسفا واعتذار, وكأنه قد ارتكبت بالفعل جرما كبيرا وضبت معاه لخمه، يا ترى ينزل أيده اليمين، ويصلح الكرافتة..؟ أو يصلح الكرافتة بأيده الشمال.. ورفع شماله ليصلح الكرافتة.. ويبدو أنها لم تسعفه.. فأعاد اعتذاره وأنزل «اليمين» التي كانت «ترتجف» بالتعظيم لتساعد اليسرى في إصلاح الكرافتة... لكي تتم «القيافة».
وكدت أضحك... بل كدت «أقهقه» رغم معرفتي أن فعله بلهاء كهذه قد تكون الحياة ثمنا لها... وضاع خاطر الضحك.. أو القهقهة من خاطري عند المشهد التالي من المنظر الكوميدي للفريق «الدجوي» أو الفريق الرومي ..!!
أحكم «الفريق» رباط عنقه... فتمت بذلك «القيافة» المطلوبة للعقيد «شمس» .. ثم أسرع الفريق يرفع يمناه بتصلب مرتعش بالتحية ثانية, وصاح بصوت يصم الآذان:
الفريق: الدجوي: تمام الإيافة يا أفندم
وافتر ثغر «العقيد» شمس عن ابتسامة كالثلج أيضا وهمس في كبرياء الملوك.
العقيد «الامبراطور شمس بدران»: أهو كده دلوقتي فريق بحق وحقيق يا دجوي...
وكانت ابتسامة الإمبراطور «العقيد شمس» قد جعلت الطمأنينة تتسلل إلى نفس «الفريق الرومي» .. فقال: الفريق الدجوي: إن شاء الله تأخذ فريق أول أمتى يا أفندم.
العقيد: «شمس» وبتكشيرة وشخط: أما راجل طماع يا أخي أنت لست «بلغت» رتبة فريق لما تطلب فريق أول اختشي يا راجل يا عجوز....
لما تبقى تعمل «بفريق» نديلك فريق أول...!!
-الفريق «الدجوي» وهو ما يزال في موجة «الانبساط» وكأن التكشيرة والشخطة لم تؤت مفعولها بعد في نفسه:
- ما هو لازم ندلع عليكم يا أفندم... أمال إذا ما أدلعناش عليكم ندلع على مين..؟
- العقيد البارد «شمس» في صرامة وقسوة : تتدلع ... هو العسكرية فيها دلع ..!! انتباه يا راجل عيب على سنك.
ويبدو أن الفريق كان قد نسي نفسه في موجة النشوة وهو يطالب برتبة فريق أول فتهاون في شد قوامه الشد المطلوب.
- الفريق الدجوي «في رعب»: أسف آسف يا أفندم.. ما أقصدش والله.. ما أقصد.
- العقيد «شمس» يخرج من درج مكتبه مظروفا أصفر مختوما بالشمع الأحمر ويناوله في خفاء للفريق المرتجف قائلا:
- خذ الأحكام دي نفذها بكرة فورا.. متصدق عليها من الرئيس متفتحش الظرف إلا قدام المحكمة.
- الفريق الدجوي «مرتجفا» حاضر يا أفندم.
- العقيد «شمس»: يا الله انصراف... انصراف يا فريق.
وانتهى المنظر الثاني المضحك المبكى في ذات الوقت تحت خيمة سرك العقيد شمس بدران، مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر. أو الصاغ عبد الحكيم عامر.. وكنت أجلس عن يمينه وقد ابتلعني كرس الجلد الوثير، بينما في المواجهة وفي طرف غرفة العقيد الرهيب قليلا اللواء «م.ن» على طرف «اليته» على كرسي الخشب وهو ينظر للعقيد الإمبراطور في رعب ...! وأخذت اختلس النظر إلى «اللواء» المسكين وخيل إلي أنه «مغمي عليه» أو أنه فعل شيئا «طفوليا» على نفسه... !! كان العرق يتصبب منه... ومضت لحظة صمت كأنها دهر.. وأخذ العقيد فيها يعبث بأطراف الأوراق أمامه بشكل ملحوظ.. .. وكأنه يريد أن يقول «اللواء» ...انظر، هذه الأوراق تخصك أنها تقرير عنك.. لكن لا يريد له الراحة..يريد له لحظات الرعب التي يعيشها..وكأنه يريد أن يقتله بالرعب، وانتهت لحظة «الدهر» بهرج ومرج خارج مكتب العقيد «شمس» ودخل من يقول: وصل «المشير»... يقصد الصاغ عبد الحكيم عامر.
وخرج العقيد «الصارم» ليعود قائلا لي: أتفضل سيادة المشير عايزك.
وتركت خيمة سيرك مكتب العقيد شمس بدران ورأس يغلى بالذي رأيت، وقلبي مع اللواء المسكين، الذي تركته قابعا على كرسيه يرتعد.. .ومنظر الفريق «الدجوي» المضحك لا يفارق مخيلتي ... وأخذت بيني وبني نفسي أتساءل يا رب .. يا لطيف اللطف إ، كان هناك مجال للطف ولكن يبدون أنه سبحانه كان قد قضى ولا راد لقضاء الله.
«وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا». صدق الله العظيم.
ولذا لم يكن بغريب أن يهزم جيش يقوده «العقيد شمس بدران ومشيره» «الصاغ» عبد الحكيم عامر على الصورة التي حدثت في الخامس من يونيو 1976، وفي أقل من نصف ساعة كما أقر الرئيس السادات في خطاب أخير له بعد أحداث 18، 19 يناير 1977.
تلك صورة من قريب كما رأيتها لسفاح مصر المبرز والذي أصدرت محكمة جنايات القاهرة الدائرة السادسة يوم 7 إبريل 1977 برئاسة المستشار صلاح عبد المجيد، وعضوية المستشارين على جمال الدين العيسوي، و محمد صلاح الشريف أمرا بالقبض عليه لكي يحاكم بتهمة تعذيب عدد من الإخوان المسلمين حتى الموت...
الوقوف على ساق واحدة..!!
كذلك فقد صدر ضد شمس بدران هذا سبعة قرارات اتهام في قضايا تعذيب مواطنين مصريين آخرين، وكان آخرها هو قرار الاتهام الذي أعلنه المحامي العام هاشم قراعة رئيس مكتب تحقيقات التعذيب يوم 30/ 3/ 1977 في القضية رقم (15) الخاصة بتعذيب (19 موظفا بشركة أسكو) ... حيث كان شمس بدران يأمر بجمع هؤلاء الناس وحملهم على الاعتراف بجرائم لم يرتكبوها... ويأمر بتعذيبهم بأبشع الوسائل ويهددهم بهتك العرض وبتر الأطراف... وفقا الأعين والقتل ... والوقوف على قدم واحدة عدة ساعات آخر قائمة التعذيب المروعة التي نزل بكل أوقعه قدره على هذا الجلاد العريق في الإجرام.
طبيب السجن الحربي يشهد:
العقيد طبيب محمد حامد عبد الهادي حمادة طبيب السجن الحربي يقف أمام محكمة الجنايات ليؤكد ما شهد به أمام وكلاء نيابة مكتب تحقيقات قضايا التعذيب.. فيقول: كنت أعالج المصابين من نزلاء السجن الحربي من إصابات بأجسادهم نتيجة ضرب الكرابيج، أو العصي وقال أنه لا يذكر أسماء من عالجهم لكثرتهم...!! وأنه كان يستدعي لنقل المصابين إلى مستشفى السجن من مكتب شمس بدران شخصيا.. وأن تعليمات شمس بدران المباشرة كانت تمزيق كل الأوراق العلاج بعد شفاء المصابين من المعتقلين بالسجن.. وألا يدرج في الدفاتر ما يصرف لهم من دواء...!!
هكذا كانت تجري الأمور في باستيل مصر الحربي.. حيث انتزعت كرامة آلاف المصريين..!! وقتل أي إحساس بالانتماء للإنسان...!
« شمس » يصرف ألف كرباج لمحام
وصمة صورة أخرى يرويها المحامي محمد شمس الدين الشناوي أحد ضحايا شمس بدران وزبانيته أمام محكمة جنايات القاهرة الدائرة السادسة فيقول: أنه اعتقل عام 1965 بالسجن الحربي.. وهناك استقبله الجلاد «صفوت الروبي» و هاني محمد إبراهيم بألوان من الضرب شتى، حيث وضع فيها كان يسمى مخزن (2) وهو الذي يوضع فيه المحتضرون من المسجونين ومن ينتظرون دورهم في التعذيب .. وأضاف الشاهد أنه عندما استدعي إلى مكتب شمس بدران وكان هناك جلال عمر الديب، و محمد عبد المقصود الجنزوري وغيرهم من جلادي التعذيب.
وقد قال شمس بدران لصفوت الروبي: خدوا الواد ده.. مصروف له ألف كرباج.
ويستطرد المحامي شمس الدين الشناوي قائلا: وبالفعل علقوني على فلقة وضربوني بالسياط حتى أغمى علي... وبعدها أمروني بالجري حول فسقية السجن لكي يجري الدم في عروقي ويعاودوا ضربي.. ثم بدأوا يطفون السجاير المشتغلة في جسدي... وجعلوني آكل لحمي...
ضابط يفقد السمع من الضرب:
ويحكي للمحكمة الشاهد مصطفى راغب وهو من الضباط الأحرار برتبة مقدم قائلا:
اعتقلت يوم 22 بالسويس، ثم أحلت إلى المباحث الجنائية العسكرية بعابدين، وحاول شمس بدران أن يحصل مني على اعتراف بالتآمر على قلب نظام الحكم .. وعندما رفضت أمر شمس بدران المساعد محمد رجب بتعليفي على «فلقة» وضربني بالسياط، ثم نقلت بعد ذلك إلى السجن الحربي... وبدأ شمس بدران في تعذيبي هناك، وكان يصدر أوامره بالتعذيب إلى «صفوت الروبي» و «محمد على المراكبي».. حيث انهالوا علي صفعا بالأكف، وقبضات الأيدي وبالعصي على قدمي.. وشدوا وثاقي وضربوني بالسياط.. وقد حدث لي نتيجة ذلك عدة إصابات وعاهات منها أنني فقدت السمع بأذني اليسرى...
شاهد يفقد إحدى خصيتيه وعينه اليمنى من التعذيب:
وصورة رابعة يرويها جمال فوزي.. فيقول: كنت بالسجن الحربي عام 1965... وترددت على شمس بدران مرات.. لأذوق العذاب ألوانا .. حتى كانت ليلة أصر شمس بدران على أن ينتزع مني أقوالا أنهم فيها أبرياء.. فلما عز عليه ذلك علقوني على الفلقة ونهض بنفسه يلهب جسمي وقدمي فإذا ما تعب أمر أذنابه.. وهكذا... ثم فكوا وثاقي وأخذوا يضربونني بأقدامهم.. وعندما أراد شمس أن يضربني في موضع قاتل تكورت فتجنبت الضربة القاتلة فأمسكني صفوت الروبي، وقذفني شمس بحذائه، وأظلمت الدنيا ومزقتني الآلام.. ورحت في غيبوبة تامة, وافقت لأجد سلانا من الدم حول فمي.. آلام الدنيا تحطمني ثم اكتشفت السبب.. لقد فقدت أحدى خصيتي.. الخصية اليسرى ... والآلام تقتلني... وكلن هل توقف تعذيبهم ..؟ كلا فقد أرسل لي شمس بدران وأنا ما زلت أعاني الآلام وأمر بمضاعفة التعذيب .. وظللت أذوق العذاب على أيدي الجبابرة.. ربطت كما ربط غيري في السقف مرات ومرات... وفي الفلقة العروسة حتى فقدت عيني اليسرى أيضا وانزلق غضروفي...
وهكذا خرجت من السجن الحربي ومن تحت يد الجلادين شمس بدران و صفوت الروبي بثلاث عاهات...فاقد الخصية اليسرى، والعين اليسرى، ومصاب بانزلاق غضروفي.
هل صحيح أن معاش شمس بدران يحول إليه في لندن بالعملة الصعبة؟
لعلنا الآن قد استطعنا أن نرسم بعض ملامح الصورة للشيطان السفاح الذي يعيش في لندن على فوائد الملايين التي هربها من أموال الشعب المصري إلى بنوك لندن... والذي نشر عنه...أنه يقيم في شقة فاخرة.. ويتردد من أسلوب حياته أن له ثروة ضخمة في البنوك، ويركب سيارة مرسيدس فاخرة... والذي قال عنه أحد المتهمين من جلادي السجن الحربي «حسن كفافي» أنه خرج من مصر بجواز سفر دبلوماسي.. وأن معاشه يحول له في لندن بالعملة الصعبة.
إذا صح ما أعلنه الجلاد حسن كفافي أمام محكمة جنايات القاهرة بجلسة 23/ 6/ 1976 فإن الأمر يحتاج التحقيق وتحديد المسئولية..
إن جناية تعذيب السياسيين ليست جناية عادية... إنها أخطر جريمة ترتكب ضد الإنسان المصري والشخصية المصرية.
وتجلى سبحانه في زنزانة
وتبقى ملامح أخرى تنتظر من يصفها أو يرويها، لكن هذا الجزء من الصورة لم ترسمه يد إنسان.. وإنما رسمته يد الخالق جلت قدرته ولم تبدعه قريحة مخلوق.... وإنما أبدعه صانع كل شيء وهو على كل شيء قدير ...
فالذي يجمع الفاصل الوحيد بين سفاح وضحاياه مجرد جدار لزنزانة في سجن أن هو ألا أحكم الحاكمين القائل: «ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين» وهو الذي وضع بحكمته وحده وتدبيره جل شأنه «شمس بدران» سجينا في عنبر التأديب بليمان طره.
وهو ذات العنبر الموجود فيه ضحايا «شمس» وتلفيقه وتعذيبه من خيرة شباب الإخوان المسلمون-لم يكن يفصل بينهم وبينه سوى جدار الزنزانة...
ويصف الشاويش «أ.م» سجان عنبر التأديب بليمان طره المشهد الإلهي قائلا:
«عندما حكم على الإخوان المسلمين في قضايا 1965 لم يحضروهم إلى ليمان وإنما مكثوا مدة طويلة في السجن الحربي...واحضر فقط بعض زعمائهم مثل الأستاذ حسن الهضيبي حيث تم وضعه في زنزانة انفرادية مع السياسيين في عنبر اسمه «عنبر واحد» وهو مخصص للسياسيين بالليمان ... على ما أذكر احضروا لنا شباب الإخوان بعد هزيمة 1967 مع تعليمات مشددة بوضعهم في مكان مشدد عليه الحراسة وبعيد كل البعد عن كافة المسجونين.
واتجهت إدارة السجن إلى عنبر تأديب المسجونين حيث فصلته إلى شقين..
نصف وضع فيه شباب الإخوان، والنصف الثاني بقي لتأديب المسجونين.
وظل الحال هكذا حتى تمت محاكمة شمس بدران ضمن مؤامرة «مجموعة المشير» بعد النكسة وحكم عليه عام 1968 ولما نقل هو وجلل هريدي وغيره من ضباط الصاعقة وضعتهم إدارة ليمان طره في «سجن مزرعة طره» وهو جزء يقع تحت إدارة منطقة سجون طره, وإدارة ليمان طرة بالذات، كان مخصصا للمسجونين العاديين، فأخلى وجهز لشمس بدران ومجموعته.. وبالفعل تم ترحيلهم إلينا من السجن الحربي، ووضعتهم الإدارة في الجزء المخصص لهم في مزرعة طرة.. ذلك أن أغلب السياسيين –سواء الموجودين بعنبر واحد «بالليمان» أو شباب الإخوان الموجودين «بتأديب ليمان طره» -من ضحايا شمس بدران وبينهم وبينه ثارات، لذلك كانت التعليمات مشددة بعدم الجمع بين شمس وبين أي واحد من السياسيين خوفا على حياته منهم.
وذات ليلة وكانت خدمتي على عنبر التأديب «الجزء المخصص لتأديب المسجونين» وفي ساعة متأخرة من الليل فوجئت بالضابط النوبتجي يفتح باب العنبر ويطلب مني إخلاء زنزانة في الجزء المخصص لتأديب المسجونين لمسجون سياسي، وكانت التعليمات دائما عدم الجمع بين أي مسجون سياسي ومسجون عادي في زنزانة واحدة، وخاصة بعد أن قتل أحد المسجونين العاديين في التأيب مسجونا من شباب الإخوان المسلمين( ) المهم أنني أخليت الزنزانة دون أن أعرف شخصية المسجون السياسي الذي سيسكنها، وفي لحظات وضع الضابط النوبتجي المسجون ده مهم ...ده... شمس بدران.. عارفه.
الشاويش السجان: حد ما يعرفش شمس بدران يا بيه وزير الحربية قبل هزيمة 1967 المشئومة واللي كان بيعذب الإخوان.
الضابط السجان: بلاش غلبة يا شاويش .. المهم أنك تشدد الحراسة عليه.. وتأخذ بالك منه.
الشاويش السجان: سبحان الله يا بيه ... ألا آخد بالي منه... ده أنا هاخد بالي... وبالي... وبالي.
هاخد بالي قوي
الضابط السجان: يعني أيه... أيه يا شويش... هتاخد بالك... وبالك وبالك.. بتتريق ولا أيه.
الشاويش السجان: استغفر الله العظيم يا بيه أنا أتريق برضه.
الضابط السجان: أما قصدك أيه.. قول بسرعة.
الشاويش السجان: أنا قصدي أن عيني عمرها ما هتغمض لحظة واحدة الليلة دي بعدما عرفت أن «النبي حارسه» اللي في الزنزانة شمس بدران.
الضابط السجان: أمال أيه أنت هتهزر يا شاويش.. أقف أنتباه.
الشاويش السجان: تمام يا أفندم بس عايز أقول لك أنا عيني عمرها ما هتغمض الليلة دي ليه.
الضابط السجان: قول... بسرعة.. خلصني.
الشاويش السجان: لأني هفضل يا بيه أفكر في خالق الليل والنهار وأسبح بحمد الله... لأني شايف معجزة من معجزاته الليلة دي.. شايف سبحانه متجلي بقدرته وعظمته في الزنزانة اللي قدامي دي.. دي معجة يا بيه.
الضابط السجان: معجزة أيه يا شويش؟
الشاويش السجان: معجزة زي جمعة سبحانه وتعالى اللبن والدم في ضرع الجاموسة من غير مؤاخذه يا سعادة البية... جمع اللبن والدم من غير ما يسيبه على بعض يا بيه.
الضابط السجان: أنت بتتكلم ألغاز يا شاويش؟
الشاويش السجان: ولا ألغاز ولا حاجة يا بيه...شمس بدران لما بتواجد في سجن واحد وفي عنبر واحد مع الإخوان المسلمين مش معجزة يا بيه؟
سجن الراجل الظالم مع الناس إلي ظلمهم.. مش معجزة يا بيه؟
سجن الراجل إلي عذب مع الناس إلي عذبهم في مكان واحد... مش معجزة يا بيه؟
الضابط السجان: «يهمهم» معجزة ... معجزة .. المهم نأخذ بالنا من شغلنا .. إحنا شغلنا سجن وبس.. ظالم .. مظلوم .. دي مش شغلنا .. شغلنا نسجن وبس.
«ينصرف الضابط السجان»
ويستكمل الشاويش «أ. م» روايته للقصة قائلا:
«وبعد أن انصرف الضابط في حالة ذهول.. لم أكن أصدق أن الذي أحضروه لي الآن هو بلحمه ودمه «شمس بدران» وزير الحربية السابق والذي حكي لنا المسجونون من الإخوان المسلمين حكايات أسطورية عن وحشيته وقسوته وألوان التعذيب التي ارتكبا ضدهم.
وتقدمت خطوات وئيدة نحو الزنزانة التي أغلقتها لتوي على المسجون الذي أحضروه لي في التأديب وقال لي الضابط عنه أنه «شمس بدران» ... وفي نفسي هواجس تقول: لا ... إنه ليس «شمس بدران»!!
كانت بالفعل تلك الهواجس تدور بخطري عندما تقدمت إلى زنزانة المسجون «الخطر» وطرقتها .. عدة طرقات .. ولكن لم أتلق إجابة فورية فأعدت الطرق...ولكني أيضا لم أتلق الطريق على طرقاتي وخالجتني الوساوس الشيطانية.. فرفعت يدي عن الطرق على الباب بسرعة من لدغته عقرب، وأزحت غطا النظارة... وهو جزء صغير في وسط الباب يتيح للعين أن ترى ما في الزنزانة حتى تصبح حياة من بداخلها مكشوفة تماما للسجان.. وكانت لحظات رعب رهيبة.. لا أعرف كم كانت سرعة دقات قلبي حينها.
أنني تصورت أن المسجون الشيطان الذي أدخله الضابط أمامي منذ لحظة قد فر.. يا له من شيطان.. ويا لها من ليلة سوداء حالكة الظلام على وعلى أولادي.. إنها مصيبة.. ولكن من أين فر.. وكانت الزنزانة مظلمة لا أرى ما بداخلها جيدا.. وإلى أن تعودت عيني على الظلام بداخلها رأيت الشبح.. شبح المسجون الذي أدخله الضابط أمامي للزنزانة لتوه، وأدعي لي الضباط بعد أن أغلقنا بابها عليه أنه «شمس بدران» وعندما وقعت عيناي على شبح المسجون الخطر هدء قلبي في صدري.. وعادت طمأنينتي إلي... وعدت أطرق الباب بعنف وأنادي: أنت يا مسجون ياللي جوه اسمك أيه؟ وتجاهلني المسجون مرة ثانية وفي الثالثة علا صوتي بالويل والثبور وعظائم الأمور أن هو لم يجب على سؤالي وهنا سمعت صوتا باردا يأتي من الزنزانة قائلا: شمس.. أنا شمس بدارن يا شاويش.
الشاويش السجان: طيب مش ترد يا أخي على سؤالي وتخلي عندك حيا.
شمس بدران: لا .. بلاشي قلة أدب .. أبقى مؤدب
الشاويش السجان: والله يا أخي ما فيه حد قليل الأدب غيرك
شمس بدران: وبعدين معاك.
الشاويش السجان: وبعدين معاك أنته.. يعني لو كان ده واحد من المساجين اللي كانوا عندك في السجن الحربي وسالته على أسمه ومردش عليك كنت عملت فيه أية؟
شمس بدران: كنت خليت الكرباج يقطع في لحمه أو الكلاب تأكل منه.
الشاويش السجان: يا ساتر يا رب.. .يا ظالم... يا ظالم.. يا ظالم.
ويستطرد الشاويش السجان في روايته قائلا: وظللت أردد بصوت مسموع «يا ظالم» حتى ظن زميلي في النصف الثاني من العنبر اللي فيه الإخوان أنني أصبت بنوبة فسألني: ماذا بك... فقصصت عليه قصة «شمس بدران» وقلت: عشت وشفت «الله في الزنزانة» وأقصد المعجزة في الزنزانة ... إذ أن شباب الإخوان كانوا يقولون لنا دائما أنشمس بدران كان يقول لهم أثناء عمليات تعذيبهم وهم يستغيثون بالله أنه قادر على أن يحبس الله في زنزانة بجوازهم، وها أنا أرى معجزة من تطاول شمس على ذاته في هذا التطاول اللعين.. ويبدو أن زميلي نقل الخبر لشباب الإخوان المسلمين الموجودين في صف الزنازين التي في صف الزنازين التي في ضهر زنزانة «شمس بدران».
ومع اقتراب الفجر بدأت أسمع مئات من قبضات الأيدي تضرب في هدوء الليل الجدار الفاصل بينها وبين شمس وهي ترتل في نغم جميل ملائكي «الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر».
لقد كانت قبضات أيدي المظلومين من شباب الإخوان المسلمين الذين جمعهم الله معه تحت سقف واحد.. كانت قبضات الأيدي تضرب الجدار في عنف وفي رتم يشكل مع نداءات «الله أكبر» لحنا كأنه موسيقى صادرة من السماء... وبدأت مئات الأيدي مع مئات الحناجر تصمت فجأة مع ارتفاع صوت المؤذن بآذان الفجر.
وعند انتهاء الآذان ارتفع صوت حلو كأنه صادر من السماء يرتل الآية الكريمة «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير أنك على كل شيء قدير».
ويظل الصوت يرتل الآية الكريمة إلى أن يشرق في الأفق نور الصباح... وظل هذا المسمع يتكر في كل ليل!! وفي الليلة الثالثة وجدت الصوت البارد الذي كان يحدثني في غطرسة يطرق باب زنزانة التأديب في عصبية ويصيح في هستيرية: حرام عليكم هتجننوني.. !! حرام عليكم بطلوا بأه...!! انتهازي من يومه!!
لقد كان شمس بدران انتهازي من يومه.. هذه حقيقة عن السفاح الهارب.. ليس أدل على صدقها من أنه كان أحد الضباط الذين ضمتهم حركة 23 يوليو، ولكنه لم يفعل شيئا يفيد الحركة.. ورغم هذا فقد قال يوم مغادرة الملك البلاد.. «هيه أيه الحكاية .. همه خلاص أكلوها لوحدهم..!».
يقد بذلك أعضاء مجلس قيادة الحركة.
وإن شمس بدران استطاع أن يفرض نفسه على السلطة من خلال عمله كمدير لمكتب عبد الحكيم عامر.. فقد استطاع أن يتسلل بأعوانه تحت شعار الدفاع عن النظام، وذلك بأن شكك أولا في أسلوب الأمن المتبع حيث كان يتولى أمن الجيش في كل سلاح ضابط من الضباط الأحرار ينتمي إلى نفس السلاح.. ولكن شمس بدران همس في أذن المشير بالمخاوف من هذا الأسلوب.. واقترح عليه أن يوضع مسألة الأمن في قبضة واحدة «وطبعا» كانت قبضته..!
وقبل ذلك كان شمس بدران قد استغل وجوده في مكتب المشير، ونقل إلى المخابرات الحربية من يرضى عنهم من أفراد دفعته...!!
وهكذا وبصورة شبه طبيعية، وبلا ضجة، صار أمن الجيش كله في يد شمس بدران.. مدير مكتب المشير. ومن ثم كبرت سلطاته .. وانتفخ حجمه.. استعدادا للخطوة القادمة في برنامجه للقفز إلى الحكم.. حكم مصر.
شمس بدران وقانون الأحكام العسكرية
وبدأ شمس بدران مخططه للوصول إلى حكم مصر.. وذلك بالزحف من الجيش إلى القطاع المدني.. حيث كان له الدور الأول والأساسي في إصدار قانون الأحكام العسكرية في 23 مايو سنة 1966.. وهو القانون الذي ألغي في عام 1968.. وهذا القانون وضع حكم الدولة في أيدي الشرطة العسكرية, والمباحث الجنائية العسكرية التي كان يرأسها حسن خليل أحد صنائع شمس بدران والذي سبق أن أستصدر له شمس قرارا جمهوريا باستثنائه من قوانين الجيش لزواجه من أجنبية..!!
المهم أنه بمقتضى هذا القانون كان للشرطة العكسرية، والمباحث الجنائية العسكرية سلطة الضبطية القضائية بالنسبة للمدنيين، وبمقتضى هذا القانون أيضا كانت تتولى سلطات التحقيق العسكرية والمحاكم العسكرية كل القضايا التي يكون طرفا فيها أحد العسكريين، أو حتى تقع وقائعها في مكان يشغله العسكريون.. سواء كان مؤسسة أو مصنعا أو سفينة أو مركبة, بل وكل قضايا النزاع إذا كان أحد أطرافها من العسكريين.
ولأن القانون بصورته هذه يلغي اختصاص المحاكم المدينة في أغلب القضايا، ويجعل دورها ثانويا.. فقد أفتى مستشار عبد الناصر الأستاذ المرحوم محمد فهمي السيد عندما عرض عليه القانون ليقول رأيه فيه قبل أن يوقعه عبد الناصر بضرورة إدخال بعض التعديلات الجوهرية على مشروع القانون قبل توقيعه لكي تستقيم الأمور.. وحتى لا يصبح دور المحاكم المدنية ثانويا.. ولكي لا تتدخل الشرطة العسكرية, والمباحث الجنائية في كل صغيرة وكبيرة في حياة المدنيين.
وهذا ما قاله مستشار الرئيس القانوني في مشروع القانون قبل أن يوقعه الرئيس.
ولأن مشروع القانون بصيغته هذه كان مصدره مكتب المشير عبد الحكيم عامر.. فقد أمر جمال عبد الناصر بإرسال التعديل إلى مكتب المشير.
ولكن شمس بدران ذهب إلى جمال عبد الناصر واستطاع أن يحصل على توقيعه على مشروع القانون الأصلي، ودون إدخال أي من التعديلات التي اقترحها المستشار القانوني للرئيس !! كيف حدث هذا..؟ تلك بعض جوانب الضعف في شخصية عبد الناصر، والقوة في شخصية شمس بدران...!!
شمس بدران يتحدى عبد الناصر
والتساؤل المطروح هو: لماذا وافق عبد الناصر أن يوقع مشروع القانون لشمس بدران بدون إدخال أي من التعديلات التي اقترحها مستشاره القانوني الأستاذ المرحوم محمد فهمي السيد..؟!
هل لأن شمس بدران كان قد استفحل خطره بصورة تجعل الكل يخشاه، ويطيعه، وينفذ ما يريده.. أن منير حافظ يقول:
«لقد أمر جمال عبد الناصر بالإفراج عن المعتقل الذي قدم بلاغا إلى مكتبه ضد زينب الغزالي ومع ذلك فقد طال اعتقاله مدة ستة شهور.. وأن المعتقل ذكر بعد الإفراج عنه أن شمس بدران هو الذي كان يحقق معه وأن السؤال الوحيد الذي وجهه إليه: لماذا توجهت بمعلوماتك إلى مكتب الرئيس... ولم تتوجه بها إلى القيادة أو الشرطة العسكرية؟!
وأنهم عندما قرروا الإفراج عنه «يقصد شمس وأتباعه» هددوه بأفظع مما جرى له إذا ما عاود اتصاله بمكتب الرئيس، أو حتى حكي ما شاهده في أثناء اعتقاله...
عبد الناصر في « شنطة عربية »
هكذا كان «شمس بدران» ينفذ ما يريده هو وليس ما يريده الآخرون منه.. حتى ولو كان هؤلاء الآخرون هم شخص رئيس الجمهورية ذاته... فقد وصل الأمر بشمس بدران وتحديه لرئيس الجمهورية آنذاك إلى أنه بعد هزيمة يونيه 1967، وتنحية المشير عبد الحكيم عامر عن قيادة القوات المسلحة ... اجتمع باتباع المشير المشير المبعدين أيضا عن السلطة وبدأ معهم الخطة لإعادة مشيرهم إلى الحكم مرة ثانية. وبالقوة .. وبالفعل وضعوا الخطة .. كانت بسيطة في مضمونها .. وأيضا في تنفيذها.. فقد اتفقوا على أن يقوم «شمس بدارن» بزيارة عبد الناصر بدعوة إصلاح ما بينه وبين المشير وسوف يترك سيارته بالقرب من الباب الداخلي وفي داخل السيارة سوف يختبئ أثنان بالبنادق السريعة الطلقات وكالعادة عندما ينتهي الزيارة سوف يقوم جمال عبد الناصر بتوديع شمس إلى الباب الداخلي، وأيضا سوف يقترب من السيارة وهو يصافح شمس، وفي هذا الوقت يخرج المختبئان من حقيبة السيارة, ويرغمان عبد الناصر ومعهم شمس على دخول السيارة، التي تنطلق بهم فورا إلى بيت المشير... وأنهى شمس كلامه قائلا: لازم أجبهملكم في شنطة العربية..!!
ملحوظة: نفس أسلوب قاطعي الطريق ولصوص شيكاغو..!!
عندما قال « شمس » لعبد الناصر : أنت آخر من يتحدث عن الوطنية..!!
وشاء القدر ألا تتم الخطة.. خطة عبد الناصر في شنطة سيارة شمس بدران، وأن يكون بين الذين حضروا الاجتماع وضع الخطة «جاسوس» لعبد الناصر.. ويوصل الجاسوس الخطة لعبد الناصر.. ويقول أن صاحبها وواضعها هو «شمس» ووافقه عليها الجميع.
ويستدعي عبد الناصر شمس ويقول له: ما هذا الذي تصنعه أنت والمشير يا شمس.. لماذا تلتقي «بفلان» وتطلب منه أن يقف بجوار المشير وتطلب منه النتسيق معكم... ثم لماذا تلتقي «بفلان» ليلا وفي سرية وحذر كاملين.. وتتحدثون عن ضرورة تحريك الجيش لإعادة المشير ثم لماذا عقدتم يوم «كذا» الساعة 3 مساء اجتماعا سريا في منزل إحدى المغنيات ضم معظم زملاء دفعتك... وتعاهدتم على ضرورة عودة المشير.. ووقف أحد الضباط وقال: أنه سيكون عار علينا جميعا أن يحاول المشير إلى استيداع، ولا نتحرك لإعادته..لقد كان رجلا معنا جميعا.. وقد آن الأوان..لأن نرد له بعضا من جميله علينا.. وقلت أنت في هذا الاجتماع أن الكلمات الإنشائية لا تكفي.. وإنما المطلوب هو عمل جاد وحاسم.. حتى يفيق عبد الناصر ... ويعرف قيمة المشير وقدره بيننا .. ثم إنك يا شمس ...ترسم الخطط للوحدات العسكرية لقلب نظام الحكم وإعادة عبد الحكيم إلى القيادة مرة أخرى، هل يرضيك يا شمس أن نبدو أمام الشعب في صورة عصابة تتآمر على بعضها البعض .. أنا لم أتخذ ضدكم أي إجراء . وتركت لكم كل المميزات التي حصلتم عليها.....فلماذا هذا كله.. ليه كده يا شمس..؟!!
ويرد شمس بدران قائلا:
«أنت تعرف أن زميلنا ... متزوج من المغنية... وأننا كثيرا ما نقضي سهراتنا عندها، أما أن يتحدث بعضنا في لحظة حماس عن جميل المشير علينا جميعا، فذلك لا يشكل مؤامرة... وأنا قلت لمن كانوا معنا في السهرة:هل تريدون عودة المشير حقيقة.. أو أن المسألة مسألة كلام وتهريج...إذا كنتم تريدون عودته حقيقة فاتخذوا من الأسباب والوسائل ما يمكنكم من ذلك وأنتم تملكونها ..وإذا لم تكونوا تريدون.. والمسألة لا تخرج عن كونها كلاما إنشائيا وحماسيا نعلم جميعا أنه سيصل إلى المشير .. فاتركوا عبد الناصر يتفرغ لإعادة ترتيب الأوضاع بما يحقق سيطرته الكاملة على الموقف.. ولا تزعجوه بما تقولون وتسببوا له البلبلة أما حكاية صدقي محمود فأنت تعرف القصة جيدا... وتعرف ما صنعته في هذا الشأن، لقد كنت تلجأ إلى الإيقاع بيننا وتطلب من البعض منا أن يهاجم سلطات البعض الآخر، ويطالب بالحد منها، ثم تقول أنت للطرف الآخر، إن هذا الاعتداء على سلطته اعتداء على شخصه قبل كل شيء وبالتالي فإن أي تنازل منه يعتبر ضعفا في شخصيته، وهكذا تغذي كلا من الطرفين بأفكار معينة حتى تصل الأمور إلى طريق مسدود.. وهنا تبرز أنت تمسك بخيوط الموقف، وتبدو أمام الكل بأنك على الحياد وأن الآخرين يضعونك في المواقف الحرجة, ويضيعون وقتك بخلافاتهم، وتفرض الحلول التي تراها ملائمة لمصالحك، والتي تتيح لك القضاء على كل من يفكر في التمرد عليك، عن طريق إثارة الخلاف بينه وبين الآخرين تبقى أنت في القمة, لا يجرؤ أحد على الاقتراب منك، فلديهم صراعاتهم مع مراكز القوى الأخرى الموجودة في الدولة، والأخطر من ذلك –وأنت سيد العارفين- أ،ك تجتمع بالطرف المهزوم، وتوحي إليه عن طريق رجالك، أنك حزين جدا من أجله –مع أنك الذي صنعت الحل- ثم تنصح بالدخول في معركة جديدة وسيضمن أنك ستقف ضد الطرف الآخر، وتعوضه عن هزيممته، وهكذا تستمر اللعبة.... أما عن المسسؤلية عن حرب يونيو، فأنت تعرف على من تقع المسئولية أنت يا عبد الناصر تعرف الحقيقة كاملة.. لماذا تحاول إخفاءها .. إن التاريخ سوف يحكي هذا كله...وأراك تبتسم ساخرا..وأعرف أنك تتساءل بينك وبين نفسك: منذ متى يجرؤ شمس على الحديث إلى بهذه الصورة... ومنذ متى بدأ شمس يتحدث عن الحقائق، وعن حكم التاريخ، وهو لو كان حقيقة يعرف حكم التاريخ لما قام بالأعمال التي قام بها أثناء وجوده في السلطة، أعترف أن السلطة تصيب الإنسان بالعجرفة... أما حديثك عن عدم معاملتنا بالقسوة فليس تفضيلا منك كما تحاول أن توهمني، فأنا أعرف أصول اللعبة جيدا.. بل إنك لا تجرؤ على القبض علينا وتعذيبنا لأن لنا قوى تحبنا داخل الجيش لن تسمح بحدوث هذا. وستنقلب الأمور ضدك.. وأما محاولتك إيهامي أيضا بأنك تعرف تحركاتنا باليوم والساعة والمكان فهي لعبة مكشوفة، لأنك لا تعرف الحقيقة, والدليل هو استدعائي.. هل تريد منا أن نكون صرحاء أو نلف على بعضنا.
ويرد عبد الناصر:
يا شمس.. إنني أعلم أنك تتحرك من خلال تنظيمك السري في الجيش، وأنت تعتمد على أفراد دفعتك الذين عينتهم في المراكز الحساسة وفي الوحدات المختلفة والأفرع المختلفة.. وأنت تعلم يا شمس، أنه لابد من إجهاض هذه التنظيمات.. فمن غير الممكن أن تظل هذه الخلايا بعيدة عن أعين القادة ...ومتصلة بك، وأنت خارج الخدمة، وإنني أقول لك الصدق إنني أعلم بكل أعضائها.. لذلك أطلب منك أسماء أعضاء تنظيمك كلها لتتم مواجهتهم بأحد أمرين: أما أن يقطعوا صلتهم بك، أو يحالوا إلى التقاعد.. إنني أطلب هذا، وأنا أعلم مسبقا احتمال رفضك بأسلوب ما. لكن انظر إلى الأمر مع اعتبار الوطن- نظرة إنسانية. وإذا لم أعرف من هم أعضاءك بالضبط فسوف تجدني مضطرا إلى إحالة كل أفراد دفعتك إلى التقاعد، تأمينا للقوات المسلحة، وحفاظا على الوحدة الوطنية.
ويرد شمس بدران:
مش قلت لك بلاش اللف والدوران وتعالى نبقى صراح كده مع بعض.. لك أيه حكاية الاعتبار الوطني دي.. أنت لسه متأثر بكلام هيكل برضه.. أنت أخر واحد يحق له أن يتحدث عن الاعتبار الوطني والوحدة الوطنية.. ثم ما هذا التهديد بإحالة كل أفراد دفعتي إلى التقاعد.. أنا لا أكل من هذه التهديدات.. أرم ورقك بصراحة... ماذا تريد بالضبط؟ سوف أحكي لك الاتفاقات التي تمت بيننا، وضربت بها عرض الحائط عندما استرددت قوتك، من يضمن لي ألا تفعل نفس الشيء مرة أخرى، ألم نتفق –أنا وأنت وعبد الحكيم- على أن أتولى رئاسة الجمهورية وكان ذلك يوم 8 يونيو 1967.. ثم بعد أيام التقينا لتعرض علي رئاسة الوزراء.. حديثنا .. أسمع .. في يوم «كذا» حدث «كذا».....واستمر شمس يسرد وقائع بينه وبين عبد الناصر والمشير... وامتد الحوار.. والحوار أن دل على شيء فإنما يدل بالدرجة الأولى على مدى ما وصل إليه غرور شمس بدران بنفسه وثقته بقوته.. وكيف أن غروره ..وثقته في قوته كان هدفهما حكم مصر بأية وسيلة..!
ومن أجل حكم مصر لم يتورع عن قتل وتعذيب الضحايا في «باستيل مصر الحربي»...
ومن اجل هذا الهدف اللعين.... كان لشمس ضحية في كل قرية وكل مدينة.. وربما كل حي.. وكل شارع.. وفي كل كفر من كفور مصر ونجوعها.. بطولها وعرضها... كم حطم الأسس واللوعة قلوب الأمهات والزوجات المصريات بسبب ما حدث لعائلهن أو لأبنهن... والسبب كان دائما «شمس بدران» .. أو أخاه في الإجرام صلاح نصر ومعهما زبانيتهما وجلادوهما العديدون.. الذين يجب ألا يفلتوا من يد العدالة والقانون.
فحتى لا تتكر المأساة على أرض الكنانة ثانية.. المأساة التي ما زلنا نعاني من آثارها حتى اليوم ...وحتى لا نرى بعد اليوم أبناء صهيون يدنسون باحتلالهم أرض سيناء الطاهرة... يجب أن ينزل بالجلادين العقاب الرادع لأنهم الذين استهانوا بالإنسان المصري.. .فهزموا مصر كلها.. بئس ما فعلوا. ويبقى القاتل صغيرا:
يبقى القاتل صغيرا حتى وإن وصل إلى أرفع الدرجات ويبقى المجرم حقيرا حتى وأن أقتعد أعلى الكراسي، وأكثرها أبهة وعظمة، وسيظل الأمر كذلك بالنسبة لشمس بدران وزير الحربية السابق، والذي كان واحدا من قلائل قادوا مصر في فترة حالكة السواد من تاريخا بالحديد والنار... عذبوا أبناءها... وفضحوا أعراضها.. وهتكوا ستر كل قيمة شريفة وطاهرة ورثها هذا البلد الأمين منذ أقدم العصور عن أجداد عرفوا علم الأخلاق يوم كانت البشرية لا تعرف أي نوع من الحضارة ولا الأخلاق. فهل جاء اليوم الذي يصبح فيه صانعوا علم الأخلاق هم مدمروه؟ أم أننا سنضرب بقوة على يد كل ابن عاق تمتد بالخراب لتراث أمتنا من القيم الحضارية والأخلاقية التي ورثناها عن أعظم الأجداد... أننا إن فعلنا نجونا.. وإن لم نفعل فما تزال الهوة السحيقة فاغرة فاها اللعين...!!
السفاح الهارب سرق أموال الشعب
إن شمس بدران يعيش حياة الملوك في لندن.. يملك المرسيدس والرولزريس ... ويلعب القمار.. ويصرف ببذخ الأمراء العرب فمن أين له هذه الأموال التي تقدر بالملايين..؟
سؤال يطرح نفسه على الساحة المصرية...
ويجد من يجب عنه بأن شمس بدران كان يعرف الأرقام السرية لحسابات العملة الصعبة لسادته القدامى.. ما بين رئيس ومشير في بنوك الخارج.. وأنه عندما خرج من مصر.. استغل معرفته لتلك الأرقام في سحب عدة ملايين من تلك الحسابات..
فهل هذا صحيح..؟ سؤال آخر يطلب إجابة.
ولكن الإجابة عنه ليست عسيرة.. حيث يصعب إيجاد مصدر لثروة شمس بدران الطائلة –وهو يعيش في لندن- غير خطفه من حسابات خطافين غيره أودعوا أموال الشعب المصري في حسابات سرية لهم في بنوك أجنبية وأن شمس كان يعلم بأرقام هذه الحسابات.
والبديل الوحيد لهذه الإجابة هو أن «شمس » شخصيا خطف من أموال مصر وهو في الحكم ما أودعه بنوك الخارج.. وهذا أمر يتطلب التحقيق منه.. ولكن هل يضير القاتل أن يكون لصا.. إ، الذي يسرق أرواح الناس التي وهبها الله لهم لا يستبعد أن يسرق أموال الشعب التي ليست له.
الفصل الثاني : فصول مأساة استشهاد إسماعيل الفيومي الحارس الخاص لعبد الناصر
• البداية .. مؤتمر صحفي في جنيف، وخبر هروب في صحف القاهرة..!!
• على طريق الله...
• المماليك الناصرية وصراع الحكم والمخططات الشيطانية...
• الفيومي يصمد أمام «الغول»و «النملة» و «خرشوف»...
• الفيومي مع 20 لوح ثلج في فسقية الحربي...
• شمس بدران وغيبوبة الشواذ...
• المشهد الحزين.
• ضرب الميت
• هل حقا كان الفيومي ينوي اغتيال عبد الناصر..؟!
التمثيلية الملفقة
'إنها تمثيلية...'قوامها خبران ... أحدهما من مكتب شمس بدران إلى مكتب الرقابة على الصحف المصرية كي يوزع عليها لتنشره.
ومفاد الخبر الأول هو أن الشرطي إسماعيل الفيومي قد هرب من السجن الحربي وكان متهما في قضايا الإخوان المسلمين الذي أعلن جمال عبد الناصر عن اعتقال 40ألفا منهم في ليلة واحدة في خطاب بموسكو وبقرار جمهوري صدر في 6/ 9/ 1965.
والغريب أن خبر هروب الفيومي نشر بالصحف المصرية ومعه الجملة التالية:
«مكافأة مالية لمن يرشد عنه»..
وقد كانت هذه الجملة أمعانا في إخفاء حقيقة دامية وراء هذا الخبر المفبرك...
والخبر المفبرك الثاني:
نشرته جريدة الأهرام أيضا على أنه وارد من جميع وكالات الأنباء مفاده... «إن الشرطي إسماعيل الفيومي قد تمكن من الهرب إلى سويسرا» .. ولم تكتف الصحيفة التي كان يرأس تحريرها الصحفي الأوحد محمد حسنين هيكل «أشد المقربين إلى رئيس الجمهورية عبد الناصر» بهذا الشق من الخبر.. بل أوردت أن الشرطة المصري المسكين الذي يقرأ العربية بالكاد، عقد مؤتمرا صحفيا «بالفرنسية» في جنيف العاصمة السويسرية وهاجم في المؤتمر المزعوم نظام الحكم في مصر في ذلك الحين «وهو نظام عبد الناصر» .. هكذا انطق الطغيان فلاحا مصريا بالفرنسية.
ولم يكن أحد من مصر يدري في ذلك الحين الذي أسدلت فيه ستائر من الضباب على كل الحقائق على أرض الوطن.. أن الخبرين يخفيان وراءهما مأساة إنسانية... وقصة قتل مروعة اهتزت لها السماء قبل الأرض...
وإذا كانت جريمة القتل قد أحيطت بتمثيلية أغرب من الخيال.. فقد كانت فصول الجريمة في واقعها أوضح من كل حقيقة, إذ أنها واقع حدث بشهادة الشهود.
ويبقى التساؤل الكبير مطروحا، وهو: كيف تمت فصول قتل الشرطي إسماعيل الفيومي الحارس الخاص لجمال عبد الناصر .. ولماذا .. حوكم وحكم عليه بالمؤبد من محكمة الفريق الدجوي بزم أنه «هارب» بينما هو في الحقيقة مدفون في ثرى صحراء مدينة نصر مسربل في أبدية الهية تتسامى فوق أبديتهم الدنيوية.
من دفتر السجن الحربي
وقيل أن نبدأ في سرد مأساة قتل الشهيد إسماعيل محمد عبد الحميد الفيومي تعالوا بنا نتصفح دفتر السجن الحربي لعام 1965 لنقف على بعض الحقيقة منه.. في إحدى صفحات دفتر السجن وحدنا اسم إسماعيل الفيومي وبجواره «دخل في 19/8/ 1965 وأنه هرب بتاريخ 12/ 9/ 1965.. وأنه كان يقطن الزنزانة «144» .. فهل هرب إسماعيل حقيقة..؟ ووصل إلى سويسرا ..؟ لا.. بل التزوير في دفاتر السجن الحربي كان جزءا من التمثيلية الملفقة الدامية التي كذبها شهود رؤية مأساة قتل إسماعيل الفيومي، داخل أسوار السجن الحربي في تلك الفترة.
وقد تأكد الأستاذ وفيق الدهشان وكيل أول النيابة بمكتب تحقيق بلاغات التعذيب أن هؤلاء الشهود جميعا هم من نزلاء السجن الحربي في تلك الفترة التي قتل فيه الشهيد الفيومي وهم:
3- محمد علي المراكبي . وكان مجندا بالسجن في تلك الفترة.
4- سليم عفيفي جمعه.
5- طاهر عبد العزيز.
ولكن لماذا قتلوه، ثم حاكموه على أنه هارب.. ذلك تساؤل مطروح .. لعل الفصول القادمة تضع تصورا معقولا للإجابة عنه.
الضحية في الطريق على آذان الغرب :
في الوقت الذي كان فيه إسماعيل محمد عبد المجيد الفيومي، في إجازة من عمله ببلدته عرب الحصن يسير مع صديقه بجوار ساقية تدور لتروي أجزاء من الأرض الحبيبة لتنتج الحب لأهلها الطيبين .. ليأكلوا من طيباتها حلالا طيبا وليشكروا الله.. تداعت إلى سمع الرجل المؤمن نداءات المؤذن ينادي لصلاة المغرب، وكان يسير مع الشهيد في ذلك الوقت صديقان لا تربطهما به سوى المحبة في الله والوطن، وهما عبد الحميد عفيفي و محمد عبد الرسول، ومال الثلاثة إلى أقرب مصلى ليؤدوا فريضة من فرائض الخالق سبحانه، ولم يدر بخلد أي منهم.. أن عينا رابعة كانت تتلصص عليهم لحساب عقل متآمر، يختار ضحايا نزواته وتآمره، من أي موقع يناسب مؤامرته، بصرف النظر عن براءة الضحية، وبعدها عما يرسمه لها في عقله المتآمر من دور أن أفلت صاحبه من حبل المشنقة فلا بديل له إلا السجن المؤبد.
المماليك الناصرية .. وصراع الحكم
لقد كان شمس بدران بالاشتراك مع صلاح نصر يخططان للإيقاع بجهاز المباحث العامة والشرطة كلها، وعلى رأسها وزيرها في ذلك الحين عبد العظيم فهمي .. وذلك بهدف زعزعة ثقة رئيس الجمهورية في ذلك الوقت «جمال عبد الناصر» والاستحواذ على ثقة بقصد السيطرة عليه.. بنفس أسلوب المماليك في حكم السلاطين في عصر انحطاط الحكم الأيوبي...
كان ذلك سائدا بين المماليك «الناصرية» منذ أوائل الستينات.. وسنحت الفرصة في أغسطس عام 1965 لتنفيذ إحدى المؤامرات التي تزيد من نفوذ المماليك «الناصرية» وتقربها إلى السيطرة الكاملة على الحكم وزيفت التقارير التي تؤكد أن الإخوان المسلمين يقومون بمؤامرة لاغتيال كان رجال الحكم وأن المباحث العامة «نايمة في العسل بدران» ورفعت هذه التقارير إلى المشير عبد الحكيم عامر من «شمس بدران» ومن «صلاح نصر» وهكذا بدا صراع أجهزة الجستابو الناصري يأخذ شكلا حادا...
وكان من نتيجة رفع هذا التقارير أن استدعي المشير عبد العظيم فهمي وزير الداخلية في ذلك الحين وأنبه على إهماله وإهمال رجاله وقال له بالحرف الواحد:
«ماذا يفعل في الإسكندرية وقد كادت القاهرة تقع في يد انقلاب ينظمه الإخوان المسلمون؟ أن المخابرات العامة أنقذت أعناقنا بأعجوبة من الشنق .. وأنت ووزارة داخليتك نائمون في العسل.. عندك طائرة في مطار الدخيلة تنتظرك .. تركبها أنت وأعوانك فورا، ومن مطار القاهرة إلى مكتبك لتنظيم علمية تصفية المؤامرة.
فقال عبد العظيم فهمي للمشير: سيادتك تشير إلى تقارير ثبت أنها غير صحيحة ولا توجد مؤامرة إخوانية ولا حاجة.. وأنا مسئول..
فقال عبد الحكيم عامر: وكمان بتكذب تقارير المخابرات؟ على كل حال تأخذ الطائرة إلى القاهرة الآن... ولنا بعد ذلك كلام.
فقال عبد العظيم فهمي للمشير : ولكن الرئيس سيغادر الإسكندرية إلى جدة، وأمنه الخاص من مسؤليتي وهو رأس النظام.. ومن غير المعقول، حتى إذا افترضنا أن هناك مؤامرة، أن أترك رئس الجمهورية في الإسكندرية وأسافر أنا إلى القاهرة...
قال عبد الحكيم عامر: هذا أمر.
وسافر عبد العظيم فهمي إلى القاهرة بالطائرة وإذا بشمس بدران يذهب إلى الرئيس عبد الناصر ويقول له أن وزير داخليتك ترك الإسكندرية بخلايا الإخوان المسلمين المتربصة لاغتيالك، ولا قضاء على النظام، وذهب إلى القاهرة لغرض غامض!
بدأت الخطة المجنونة
عندما كان جمال عبد الناصر عائدا من مؤتمر جدة الذي عقد من أجل الخروج من مأزق اليمنالمأسوي، كان هناك من يهمس في أذنه بالمطار.
- من هنا يا سيادة الرئيس.
- جمال عبد الناصر: ليه بأه غيرتم خط السير.. فيه حاجة
- حياتك يا سيادة الرئيس في خطر.
- جمال عبد الناصر: يا سلام. .إزاي بأه..؟
- وهنا همس «الهامس المجنون» ينفث فيه سم الأفعى في أذن أكبر رأس في الدولة «جمال عبد الناصر» مشفوعة باسم «إسماعيل الفيومي» كان الشهيد رحمه الله يعيش رحلة عذاب رهيبة لا يقدر على تحملها إلا من آمن بالله واليوم الآخر.
- استقبلوه في السجن الحربي بالركلات وأفظع الشتائم واللعنات وأحطها والكرابيج من أيدي وأفواه وحوش آدمية ممن كانوا يتقاضون نقواد من الدولة يطلق عليها «علاوة إجرام».. مزقت الوحوش الآدمية جسد المسكين «إسماعيل الفيومي» وكان قوي البنية.. قوي الإيمان ولكن هؤلاء الجلادين الصغار كانوا يختارون ممن لا يعرفن الرحمة، ويعرفون في باسيتل مصر الحربي.. «بالنملة» ....«تمثال الجهل».. الديزل... النوبي .. على الأسود.. على زومة.. الغول.. «خرشوف».. «وسامبو».. و «زغلول»...الذي كانت الكلمة التقليدية على لسانه وهو يعذب كل من يسوقه قدره إلى إدارة شياطين التآمر.. إلى السجن الحربي.
«البية الكبير شمس بدران قال: الواحد منكم زي الكلب والكلب أحسن منه كمان.. نقتله هنا وندفنه في الجبل ولا من شاف ولا من سمع».
وكان على رأس هؤلاء الجلادين.. غلاظ الأكباد المجرم العتيد «الروبي» الذي كان يردد دائما.. أنتم مش داخلين علينا بعدد ومش لازم طبعا تخرجوا بعدد.... فاهمين» وقد بلغ التبجح بأحد هؤلاء المعذبين لأن يقول متفاخرا أو مشير ا إلى صدره... «أنتم فاكرين إن في هنا قلب هيحن لصراخكم... اصرخوا...!!» وسمع الفيومي مع غيره من المجني عليهم قول الجلاد الصغير المتطاول على سيده وسيد العالم أجمعين: سمعه يقول «لو جه ربكم هنا هحبسه في زنزانة زيكم»
وعندما يرد عليه الرجل المؤمن الفيومي بأنه لا يستطيع .. تكون الإجابة مزيدا من السياط.. ومزيدا من الجسد الممزق واللحم المتناثر...!!
وكان هؤلاء «المجرمين» المتأصلين في الإجرام يتبارون.... من منهم يقدر على أن يطرح ضحيته أرضا بضربة قلم واحد على صدغه... مباراة لا يقوم بها إلا الشواذ والمتخلفون عقليا...!!
وعندما تعبت أيدي وألسنة الكلاب الآدمية من نهش جسد وروح الفيومي الطاهرة.. أطلقت عليه الكلاب البوليسية لتنهش لحمه ولترغمه على الاعتراف بجريمة ملفقة لم تقع إلا في خيال صاحبها الشيطاني... وطالبوا الفيومي بالاعتراف على شركاء له فيها.. كل ذنبهم أنه يعرفهم أو أنهم أصدقاء له أو معارف. كان الاعتراف مطلوبا بأي ثمن من الفيومي... والثمن هذه المرة كان قطعا من «لحم الفيومي» في فم الكلاب البوليسية وكما لم تستطع القطع من لحمه التي تناثرت تحت وطأة الجلد بالسياط أن تجبر النفس الأبية على الاعتراف كذبا على فعل مكذوب، وعلى أناس محرضين لا صلة لهم به... كذلك لم تفلح تلك القطع من اللحم في فم الكلاب البوليسية المدربة في إجبار الرجل المؤمن على قول ما ليس بحق... ولا صدق.
وصمد الفيومي لكل صنوف العذاب الذي يتعرض له ضحايا باستيل مصر الحربي، وخاصة من يكون في مثل تهمة إسماعيل الفيومي.. من كي بالنار إلى طفى سجاير في جسده.. إلى نتف شعر صدره وذقنه أو حرقه .. وغير ذلك من وسائل غير إنسانية...
الفيومي مع 20 لوح ثلج في فسقية الحربي
وأثار صمود الفيومي حنق «المجنون» فطفحت في عينيه نوايا الشر، وثارت في نفسه نوازع الغدر. ولمع الحقد في عينيه، وطغى على كل ذرة رحمه. .قد يكون ما زال لها مكان في قلب قاس لعين مثل قلبه.. إذ كيف لإرادة إنسان بسيط مثل إرادة الشرطي إسماعيل الفيومي أن تحطم مخططاته الإجرامية في استلاب لب رئيس الجمهورية.. وبالتالي تهدد آماله الكبار في السيطرة على الرجل، وعلى مقاليد الحكم في طول مصر وعرضها..؟
... كيف .. كيف لإنسان مثل «إسماعيل الفيومي» مجرد «شرطي» عسكري يعني .. أن يقف أمال آمال العقيد شمس بدران وإرادته الحديدية..؟ أنها لأم الكبائر في عرف العقيد المغرور القاسي المولع بالسلطان.
وكيف لإرادة بسيطة مثل إرادة هذا الإنسان الحشرة أن توقف مخططا كبيرا اشترك فيه شياطين المخابرات في مصر، وعلى رأسهم صلاح نصر.. وكرر السفاح الآثم .... «شمس» كلمة حشرة... حشرة.. مرات ومرات بينه وبين نفسه، وعندما امتلأ فمه بها للمرة الثالثة صاح مناديا «صفوت الروبي» كبير كلاب التعذيب «أو كبير الجلادين بالسجن الحربي» فأننا ضد كلمة «ميسترو التعذيب»، إذ أن إطلاقها عليه تعتبر تلويثا لكلمة كلها رحمة وفن وذوق بينما خلا قلب هذا الإنسان –إذا افترضنا أنه من أبناء آدم –من كل ذرة من الأشياء الجميلة .. ومن الإنسانية.
وحضر كلب التعذيب الأكبر«صفوت الروبي» .. وبهوس وعصبية مجنونة قال لهشمس بدران: هات الحشرة إسماعيل الفيومي ما دام حضراتك مش عرفين تخلوه يعترف لغاية دلوقتي.
الروبي: حاضر يا أفندم
شمس: وعايزكم تجهزوه قبل ما تجيبوه قدامي
الروبي: ميت كرباج يا أفندم
شمس: لا ثلاثمائة المرة دي
الروبي: ونحطة في فسقية الثلج
شمس: أيوه وحط معاه عشرين لوح تلج كمان.. خليه لوح بين ألواح التلج ..فاهم.
الروبي: حاضر يا أفندم
شمس: ومتنساش تفوته على الكلاب علشان يصحصحوه قبل ما تجيبوه.
الروبي: أمرك يا أفندم
شمس: ومتنساش تسخنه بكان سيخ حديد وهو طالع من فسقية التلج.
الروبي: حاضر يا أفندم
شمس: وخد معاك علبه السجاير دي «وهو يضحك ضحكه هستيرية».. كنت .. يا ملك التعذيب أتكيف أنت ورجالتك ...ومتنساش إن الطفاية بتاعتكم هتكون معاكم.. العسكري «النتن» الفيومي.
الروبي: مفهوم يا أفندم
شمس :يعني ألاقي كل حتة مفهاش جروح بالكرابيج ولا عض للكلاب بلسع السجاير..
الروبي: هو أنا مستجد يا سعادة البيه.. أنت نسيت أن أنا صفوت الروبي اللي حضرتك شهدت له إمبارح أن إذا كان فيه ملك لمملكة التعذيب يبقى أنا الملك الوحيد فيها.
شمس: طيب ياللا يا ملك .. أحسن عدم اعتراف الفيومي هيطير نفوخي
الروبي: «وهو ينصرف» لا.... المرة دي هيعترف يا سعادة البيه..
الروبي: «مناديا الغول» ياللا يا واد «يا غول» هات ابن الكلب الفيومي من معتقل «2» شمس بدران وغيبوبة الشواذ...
وجلس السفاح الآثم يفكر وهو ينفث دخان سجارته ويرفع رجله إلى أعلى في مستوى رأسه على مكتب وضع أمامه..
أخذت خيالات إسماعيل الفيومي تملأ رأس شمس بدران وهو يخاطب نفسه «همسا»: كيف لهذا الإنسان أن يتحمل هذا العذاب..؟ وأي عذاب .. لكن هؤلاء الخنازير تستهويهم جنة السماء .. ومن أجلها، ومن أجل نعيمه يهون لديهم كل عذاب دنيوي.. أنهم كفرة.. كيف يتحملون الويل المصبوب..
ولكن هل هم الكفرة الذين يتحملون هذا العذاب المصبوب أم نحن الكفرة, نحن الذين نجرعهم العذاب ألوانا وصنوفا، دون أن يختلج منا قلب أو يرتجف لنا رمش عين.
وصاح «السفاح الآثم قلبه وعقله ويداه» لنفسه قائلا: ... لا ... لا .. ليست هذه طريقة تفكير يا شمس .. كيف تفكر بهذه الطريقة.. وأنت من يقف أمامك في المكتب «اللواءات» بل «الفرقاء» يرتعدون من قوة شخصيتك وإرادتك الحديدية.. ولكن هل هي الإرادة الحديدية يكاد يكسرها إنسان بسيط شرطي .. شرطي شرطي.. وعلا صوته بالكلمة إلى درجة أحضرت أحد الجلادين الذين كانوا يقفون خارج غرفته يتلهون بتعذيب المسجونين المساكين الموجودين بالسجن الحربي فدخل عليه مسرعا.
-نعم يا أفندم.. فيه حاجه.
شمس، هو يأخذ سمت «الرزانة»: لا مفيش حاجة.. همه جابو إسماعيل الفيومي من زنزانته.
الشرطي: أيوه وبيجلدوه يا أفندم.
شمس: تماما.. انصراف. .خلصوا عليه.... بسرعة وهاتوه ليه أكمل عليه.
واستغرق سفاح مصر الهارب في غيبوبة الشواذ.. بعد أن أصم أذنيه حتى لا يسمع نداءات تصدر عن أعماقه لتقول له:
لقد هزمك الإنسان.. هزمك مصري من عرب الحصن... هزمك الفيومي.. وعلا صراخ شمس بدران مرة أخرى: هاتوه.. هاتوه.. هاتوه.. الحشرة.. الحشرة.
ودخل زبانية الحرب جميعا على زعيمهم وهو في حالة هياج وعصبية وكان أحدهم يمسك بكوب به شراب مهدئ تجرعه شمس بدران جرعة واحدة وصاح ثانية.
هاتوه.. الحشرة.. هاتوه.. مش ممكن يبوظ مخططاتي المجرم .. المجرم لأزم أربيه... لازم أنفذ إللي أنا عايزه... لازم لازم.. لازم.
المشهد الحزين
أسرع الجلادون الصغار، ينفذون إرادة الجلاد الأكبر «شمس بدران» وهو في حالة هذيانه المجنون. ودخل اثنان منهما يجران خلفهما جثة إنسان تدل الأنات الخافقة الصادرة منه على أن الحياة ما تزال تنبض به ولكن في خفوت .. كان المسكين كالخرقة البالية التي لا تستطيع أن تصلب حيلها... كان كبير الجلادين «صفوت الروبي» ومساعده يجران جثة المسكين «إسماعيل الفيومي» بعد أن «جهزوه» بلغة كبيرهم شمس بدران هذا التجهيز الذي بدا معه على هذه الصورة المحزنة الأليمة. .مجرد جثة يتردد فيه نفس لم يخب بعد، وعندما وقعت عينا الأفعى في شمس بدران على المشهد يجره من رجليه اثنان من جلاديه.. أمرهما أن يجلساه.. ووجهه في مواجهته.. ولأن المسكين كان لا يقوى على الجلوس «صالبا حيله» أمر بإجلاسه ساندا ظهره إلى الحائط المقابل .. وفعل الجلادان.. اسندا ظهر الفيومي إلى الحائط ليكون في مواجهة شنس، وحملقت عينا الأفعى شمس بدران في الإنسان البسيط الجالس أمامه في تهالك شديد.. ووجه كلامه إلى كبير جلاديه «صفوت الروبي» قائلا اعترف
الروبي: لا يا أفندم مصر على الانكار
بدران: الحشر دا مش عارفين تخلوه يعترف
الروبي: استعملنا معاه كل الأساليب
واقترب بدران من إسماعيل الفيومي وكانت في يده سيجارة فأطفأها ي وجه الرجل... ولم يتفوه إسماعيل حتى بآهة.. لأن الآهات كانت قد فقد معناها.. . أو لأن كثرة الآلام كانت قد أفقدت الحس نوع الارتجاج الخارجي للألم بما يعبر عنه عادة بالأهه أو الصياح أو الصراخ.. كل الذي فعله «البطل» الفيومي عندما أفأ «شمس بدران» سيجارته على خده وأسفل أحدى عينيه أن أغمض تلك العين.. وكان هذا هو التعبير الوحيد عن الألم الذي تبقى للمسكين .. من كثرة ما مر به . .فقد الألم معناه، حيث تشبع به الرجل جسدا وروحا.
وصاح السفاح «بدران»: اعترف يا حشرة
واهتزت شفتا «الفيومي» وتعلقت بهما أذنا الجلاد الأكبر «بدران» وخرجت من الجثة المكرمة إلى جوار الحائط كلمات قوية .. كلمات تدل على أن كل شيء مات في الرجل إلا إرادته، إلا إحساسه بالكرامة.. قال الفيومي متهالكا وهو يحاول التماسك قدر المستطاع –أنا أولا مش حشرة يا سفاح.. وثانيا ما أعرفش حاجه ومعنديش حاجة أعترف بيها يا جلاد.
وهاج كبير مجرمي باستيل مصر الحربي.. وتقلصت عضلاته ووجهه القاس .. وتجمع كل بعض العالم في يديه.. ثم تسلل الأثم الدامي إلى أصابعه فتصلبت وتخشبت .. وبحركة سريعة قام وأطبق بها على عنق مصري بسيط تحدى كل قوة البغي، ثم رفعها قائلا:
شمس: هاوريك إن كنت أنا سفاح بحق وحقيق ولا أيه .. هتشوف شغل السفاحين التمام.
ونادى بأعلى صوته وبهستيرية برغم وجود من ينادي عليهم حوله. يا روبي –يقصد الروبي- علقه في الفلقة.. ما ينزلش من عليها. ألا يا معترف يا ميت.. فاهم.
الروبي: فاهم يا بيه.
وعلق المسكين إسماعيل الفيومي في «الفلقة» وأخذ الزبانية يضربون ويستريحون.. اشترك في ضربه أربعة من جزارين السجن الحربي هم:
1- صفوت الروبي.
3- سعيد بدوي.
4- نجم الدين مشهور.
اثنان يتبادلان الضرب واثنان يستريحان واستمروا يضربونه من الصباح حتى العصر..
وتكرر مشهد بلال في بطحاء مكة.
إسماعيل الفيومي: أحد. أحد.
الجلادون: يضربون .. ويضربون.
إسماعيل الفيومي: أحد.. أحد.
واستمر التعذيب من الصباح .. حتى هتف المؤذن «الله أكبر» لصلاة العصر.. عندها لفظ الشهيد إسماعيل الفيومي آخر أنفاسه.
وكانت نهاية مناضل... ومولد جريمة ستظل تطارد أصحابها إلى يوم الحساب.. سيرونها في أيديهم وهم يأكلون بها.. وفي أصابعهم وهم يغسلون وجهوهم بها كل صباح.. ستظل لعنة الشهيد تطاردهم إلى أن تنتهي بهم الحياة إلى حيث العدالة الإلهية والعقاب الحقيقي ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب.
يضربونه وهو ميت
أثناء الجلد... وهو معلق على «الفلقة» صعدت روح البطل إلى بارئها... ولم يفق الجلادون ممن هذيان القسوة، وغيبوبة الشواذ... وواصلوا ضربه.. وفي هذه الأثناء .. مر اللواء حمزة البسيوني قائد السجن الحربي وكبير الجلادين فيه، ونظر في رأس الضحية ورقبته متدلي من الفلقة فقال: الواد مات.... خلاص بلغوا عنه فرار.
وهنا أنزلوه من على «الفلقة»، وكالعادة لكي يتأكدوا من موته ضربوه بالسياط على جسده، عليه يتأوه تبقى فيه الروح .. ولما لم يتأوه... أو يتحرك .. أيقنوا أنه مات.
ومع ذلك لم يصدق الجلاد «الروبي» فقام بجر الشهيد من أمام غرفة التعذيب القابع بها شمس إلى فسقية الماء الموجودة بحوش السجن وبدأ يرش على الشهيد ماء، ليرى آثاره عليه... فإذا به أمام جثة لا حراك بها.
وهنا جري الروبي إلى شمس بدران بحجرة التعذيب وقال له:
الروبي: الواد خلص يا بيه...
شمس: «ببرود» طيب طلعوه الزنزانة بتاعته .. وفي العتمة أدفنوه.. وانشروا خبر هروبه..!! هل كان الفيومي سيغتال عبد الناصر حقا؟!
الفيومي يعمل حارسا خاصا لعبد الناصر لمدة ثماني سنوات متواصلة .. وبعد مقتل الفيومي في السجن الحربي غير عبد الناثر عددا كبيرا من حرسه.. عزل حوالي 300 عسكري من الحرس، والتهمة كانت أنهم متدينون.. ويؤدون الصلاة ... ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو:
هل كان الفيومي ينوي اغتيال عبد الناصر حقيقة.. والإجابة على لسان أحد زملاء الفيومي في الحرس الجمهوري ذاته واسمه «عبد المنعم» ... وهو يعمل مع إسماعيل الفيومي في الحرس الجمهوري منذ عام 1958 حتى يوم القبض عليه يقول:
«قبل القبض على إسماعيل بيومين كنا في القطار الخصوصي في عربة عبد الناصر، وكان في القطار جميع الوزراء .. ودي العادة دائما .. «أنا وإسماعيل» كنا نطلع كل سفرية مع الرئيس في عربته الخاصة.. لأن إسماعيل كان الأول في ضرب النار.. كان مدرس في مدرسة ضرب النار.. وأنا كنت الثاني.
المهم لو أن إسماعيل كان عايز يقتل عبد الناصر كان قتله في اليوم ده... مش بس قتله لوحده.. وإنما قتل كل الوزراء اللي معاه.
وأنا باستغرب .. يعني اشمعنى ما عرفوش إن إسماعيل الفيومي من الإخوان إلا دلوقتي بالرغم أن المخابرات بتكتب تقرير كل ستة شهور عن كل واحد فينا أحنا عساكر «الحرس الجمهوري» ... وبتحصي علينا حتى النفس اللي بناخده... يعني تعرف كل صغيرة وكبيرة عننا.. وإسماعيل لحد يوم القبض عليه كان بقي له ثمان سنوات مزاملني في الحرس الخصوصي للرئيس عبد الناصر.
.. على كل حال حكاية الاغتيال دي حكاية متخشش دماغ حد.. لأن الشهيد كان عالي الأخلاق .. ومش ممكن يقتل حد أبدا..
وأنا قلت.. إذا كان إسماعيل عايز يقتل عبد الناصر كان يقدر يقتله هو والوزراء بتوعية كلهم قبل القبض عليه.. لكن المؤكد أن دي كانت تلفيقة مشتركة فيها الأجهزة اللي كانت عايزه توهم عبد الناصر أنه في خطر.. وأنه مدين بحياته لحمايتهم.. يعني مسألة مصالح شخصية..!!
شهود الرؤية ومقتل الفيومي
انعقدت محكمة جنيات القاهرة يوم 2 أبريل عام 1977 لمحاكمة التهمين بتعذيب الإخوان المسلمين بالسجن الحربي عام 1965 وكانت القضية الأولى التي نظرتها المحكمة هي قضية تعذيب إسماعيل الفيومي حتى الموت بالسجن الحربي والمتهم فيها:
1- شمس بدران وزير الحربية السابق.
2- العقيد متقاعد حسن خليل مدير المباحث الجنائية العسكرية السابق.
3- والرائد متقاعد حسن كفافي.
4- العقيدمحمد عبد المقصود الجنزوري.
5- هاني محمد إبراهيم المقدم السابق بالدفاع الشعبي.
6- الملازم شرف صفوت الروبي.
7- الملازم شرف سعيد محمود بدوي
8- الجندي نجم الدين حلمي مشهور.
لأنهم خلال شهر أغسطس عام 1965 بالسجن الحربي بدائرة قسم مدينة نصر بصفتهم موظفين عموميين أمر الخمسة الأوائل الضباط بالقوات المسلحة باقي المتهمين من ضباط الصف بتعذيب إسماعيل محمد عبد الحميد الفيومي بأن شدوا وثاق يديه وقدميه وكان ذلك بقصد حمله على الاعتراف بارتكاب جناية محاولة تغيير دستور الدولة، وشكل الحكومة بالقوة والاشتراك مع آخرين في اتفاق جنائي الغرض منه ارتكاب هذه الجناية .. وقد مات المجني عليه من شدة التعذيب.
وفي بداية الجلسة قالت النيابة: أن المتهمين أهدروا كرامة الإنسان المصري، وسلبوه في عهد مراكز القوى، وأسقطوا القانون، وأهدروا سيادته، وأن السجن الحربي تحول إلى باستيل جديد..
وأضافت النيابة بأن أحد المتهمين في قضايا تعذيب الإخوان المسلمين واسمه محمد علي المراكبي اعترف بأنه قام «بتغسيل» الفيومي قبل دفنه في الجبل بعد موته من التعذيب وفي الرابع من إبريل ... أي بعد يومين من بداية نظر القضية وقف شاهدا الإثبات مجدي عبد العزيز متولي، و على عبده عفيفي ليدلي بشهادتهما .. فلماذا قالا..؟
- قال الشاهد الأول مجدي عبد العزيز أنه رأى المجني عليه إسماعيل الفيومي ملقي داخل السجن الحربي وجسده كله ينزف دما، ولم يكن قادرا على الحركة.. وأن شمس بدران كان يأمر بتعذيبه.. وأنه بعد ذلك بربع ساعة، سمع بأن واحدا من الحرس الجمهوري هرب ولأنه «أي الشاهد» يعرف أنه لا يوجد بالسجن الحربي سوى «إسماعيل الفيومي» من الحرس الجمهوري.. فإنه علي حد قوله استعجب الأمر، لأن إسماعيل الفيومي كان ملطخا بالدماء ولا يستطيع التقاط أنفاسه فكيف يهرب..!؟ ويقف الشاهد الثاني على عبده عفيفي أمام هيئة المحكمة أيضا يقرر أنه رأى المجني عليه محمولا على نقاله، وأنهم «المعذبون» وضعوه في عرب ركبها بعض الجنود الذين كانوا يحملون الفئوس .. وكان صفوت الروبي يستعجلهم.
ويسطرد الشاهد قائلا: أنه عرف بعد ذلك أنهم دفنوا الجثة في صحراء مدينة نصر.
رحم الله الشهيد، ولعن الله قاتليه.
دعاء يجب أن يردده كل مصري لأنه عزاء وسلوى لأطفال صغار ولزوجة مكلومة وأشقاء مجروحين هم أسرة المرحوم إسماعيل الفيومي.
اعتقلوا أسرة الشهيد و «نتفوا» شنب شقيقه...!!
في منزل أسرة الشهيد إسماعيل بقرية عرب الحصن... كان للمأساة بقية.. يرويها لنا والد الشهيد وأخوته.. فيقول الأب صاحب السبعين عاما:
«بعد أن قبض على ابني بخمسة شهور كاملة طلبوني في قسم المطربة.. وهناك قال لي ضابط المباحث: خلى بالك من ولاد ابنك إسماعيل .. ولو حبيت تسافر خارج القاهرة في أي وقت لازم تبلغنا الأول.. وأوعى تسافر قبل ما تبلغنا!!»
ويسطرد والد الشهيد قائلا:
«تصور أنه من يوم ما خدوا ابني إسماعيل من بيته وموتوه في السجن الحربي لحد النهاردة متصرفش ليه ولا لأولاده الستة وزوجته مليم واحد يعيشوا منه.. لا أخدوا مكافأة.. ولا حتى معاش ... واشتكينا كثير لكن ما حدش سأل فينا...!!»
ويلتقط الحديث شقيق الشهيد الأكبر على الفيومي فيقول: بعد أن قبضوا على أخويا ب12 يوما.. يعني في يوم 31 أغسطس 1965 حضرت المباحث العامة وقبضت على وعلى نسيب أخويا على عبد الباسط وقعدت معتقل ست سنين..مخرجتش إلا في 5 فبراير عام 1971
ويقول زكريا الشقيق التالي لإسماعيل: بعد ما قبضوا على أخويا إسماعيل .. ومن بعده أخويا على جم وقبضوا عليه أنا الآخر في أواخر شهر 9عام 1965 .... وقعدت 40 يوم معتقل منهم شهر 30 يوم في السجن الحربي.. طبعا أخدت فيهم نصيبي من الضرب والبهدلة.. وكان فيه عسكري اسمه «سامبو» يوقفني انتباه وينتفلي شنبي بالشعرة.
ويقول الجميع: علاوة على كل اللي أنت سمعته ده كان المخبرين بييجوا كل يوم البيت ويهددونا ويخوفونا.. ويسألونا .. مين جالكم النهاردة.. وجالكم ليه؟ أنتم عارفين إسماعيل فين؟ فين أصحاب إسماعيل اللي كانوا بيجوا له؟
ويقول الجميع بنبرات جزينة: وبعدما ما كان بيننا ما بيخلاش من الضيوف والأقارب أصبح الكل بيخاف يسأل علينا أو يفوت من قدام بيتنا .. وبقينا عايشين زي الغرب بين الناس في بلدنا.
الجلاد «سامبو» في سطور
• هو تقي الدين سليمان شرف الدين. .. الشهير ب(سامبو) ولا يحمل من التقوى والصلاح سوي اسمه فقط.
• عسكري مجند بالسجن الحربي ابتداء من منصف نوفمبر عام 1965.
• نقل من السجن الحربي بعد ثلاث سنوات وبالتحديد في 15 سبتمبر عام 1968 إلى مستشفى القوات المسلحة.
• من مواليد طلخا دقهلية عام 1945
• فلاح
• كان كثير الابتسام وهو داخل قفص الاتهام، أمام محكمة الجنايات، الدائرة السادسة وكأ،ه في نزهة جميلة أو في فرح.
• عندما سألته لماذا كنت تعذب الناس يا سامبو داخل السجن؟ قال:
- أولا –مفيش حد شهد أنني ضربته.
- ثانيا- أنا كنت باخدم على قوة السرية الأولى اللي مهمتها حراسة البوابة.
• قال زكريا شقيق إسماعيل الفيومي: إنه عندما اعتقل بالسجن الحربي.. كان العسكري (سامبو) بيوقفه وينتف شبنه.
• وهو متهم أيضا.. في قضية تعذيب المقدم مصطفى راغب الذي فقد سمعه بسبب التعذيب.
• متهم في قضية تعذيب محمد جمال الدين الشرقاوي... وما يستجد من بلاغات وقضايا.
• الانطباع الذي يخرج به الإنسان من رؤيته ومناقشته: الاستهتار التام، وعدم الاكتراث بما ارتكب.. وكأن الأمر مسألة عادية...!!
الفصل الثالث : راسم زهرة اللوتس على جسد ضحاياه!
• راسم زهرة اللوتس فوق جسد ضحاياه
• الأومباشي روبي يجلد لواء بالجيش.
• الروبي يجبر ضحاياه على أكل لحوم أجسادهم.
• متى بكى القاتل الروبي...؟
• نظريات «لومبروزو» و «ديتوليو» وإجرام الروبي.
• المجرم الفاجر وملك التعذيب ورأي علم العقاب.
من المدهش أن يجد الإنسان نفسه أمام قاتل يندم، ليس على جرائم قتلة.. وإنما لأن أيام «العز» أو أيام «القتل» قد انتهت..!!
ومن النادر أن يوجد مجرم يتفنن في إلحاق الأذى بضحيته كأن يرسم مثلا زهرة اللوتس على جسد الضحية بالكرباج..أو يعطيه رتبا بأسياخ الحديد المحمي في النار... وليس من شك أن هذا الطراز من المجرمين يستحق وقفة تأمل كبيرة.. للتعمق في نفسه ودراسة شخصيته . فلعله يجد ما يبرر هذا القدر الهائل من الحقد الذي تمتلئ به نفس شيطان كهذا .. حيث أن الذي يلذ له إيذاء الناس لابد أن تمتلئ نفسه بالحق عليهم حتى يطفح الحقد في النهاية على شكل إيذاء... من أي نوع .. .قتل أو تعذيب.. أو غير ذلك من ألوان الإيذاء التي تمكنه منه قدراته وتساعده عليه ظروفه المحيطة.. حتى أنه يتفنن في ابتكار صنوف الإيذاء الشاذة... بل يتمتع ويتلذذ برؤية ضحيته وهو يعاني الألم.. وعندما يجلس «صفوت الروبي»كبير معذبي السجن الحربي، وكبير القتلة فيه إلى «منير حافظ» أيام كان نزيلا بالسجن بعد زوال دولة «حمزة البسيوني» و «شمس بدران» ليبكي هذه الأيام التي كان فيها بالسجن «سجن بحق وحقيق» وليقول أن السجن بصورته الحالية برغم كل القيود والزنازين يعتبر «لوكاندة» ... بل ويجهش في البكاء ليس ندما...!! وإنما لضياع أيام «العز» التي كان فيها القتل زي شربة المية ..!! وحرق أجساد الناس في مثل لذة سيجارة مصنوعة من نوع جيد من الدخان! ورسم زهرة اللوتس على أجساد الضحايا هواية لأمثاله من الشواذ!!
ولقد كان الأجدر بمجرم مثل الروبي أن يكون ندما .. ندما إنسانيا كذلك الذي جاء في كتاب رب العزة...إذ يقول:
«ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل. وربنا فآتهم ضعفين من العذاب وألعنهم لعنا كبير»
ولكن....
عندما يجلس «جلاد» كالروبي ليبيكي على الأيام الخوالي التي كان فيها الإجرام بلا حدود.. يسرح كالنبات الشيطاني الذي يمتص رحيق الحياة من إنسان مصر فإن الأمر مع «الروبي» يحتاج إلى وقفة علمية فهو بغير شك لون فريد من المجرمين يستحق نظرة تأمل متفحصة مدققة قبل أن نروي طرفا من جرائمه . .وقبل أن ننقل صورا من جوانب شخصيته المعقدة الشاذة المجنونة بلون الدم... كالكلاب المسعورة يغريها أن الناس تجري أمامها.. ويدفعهم مرضهم إلى نهش لحم الناس.. ولكن الكلاب المسعورة معذورة فهي مصابة بمرض عضوي... ولكن أمثال الروبي ماذا يقول العلم فيهم.. وعلى سبيل المثال ماذا يقول «لومبروزو» في مثل صفوت الروبي:
مجرم بالميلاد
لقد ظل العالم الإيطالي «لومبروزو» أستاذ للانثروبولوجيا الجنائية حتى وفاته.
وقد اهتم بجراحة المخ وحاول في عدة مؤلفات له أن يفسر العلاقة بين الجريمة والأمراض العقلية والفكرة الأساسية لدى «لومبروزو» أن المجرم هو نمط أو نوع معين من البشر يتميز بملامح عضوية خاصة, وسمات نفسية، ترتد به إلى صفات المخلوقات البدائية وقد سرد «لومبروزو» ملامح انحلال في الإنسان المجرم، ومنها عدم انتظار شكل الجمجمة, وضخامة الكفكين، وبروز عظام الخد ،وشذوذ في تركيب الأسنان وغزارة في شعر الرأس والجسم، وعيوب في التجويف الصدري، وزيادة في طول الأذرع والأصابع والأرجل، وكثرة وتنوع في تجاعيد البشرة وقد توصل «لومبروزو» بذلك إلى أن المجرم مطبوع بالإجرام، مدفوع إليه أي أنه «مجرم بالميلاد».
تلك فكرة العالم الإيطالي» لومبروزو» عن المجرم بالطبيعة.
نظرية الاستعداد الإجرامي و صفوت الروبي
وفي دراستنا للإجرام في شخصية «صفوت الروبي» كبير جلادي السجن الحربي.. الذي يبكي على السجن الحربي لأن التعذيب توقف فيه فأصبح السجن- بغير قتل وتعذيب- من وجهة نظره مجرد «لوكاندة»!! في هذا الصدد ونستمع إلى وجهة نظر أخرى في الموضوع لعالم من علماء القانون وهو العالم الإيطالي «ديتوليو» الذي تصدى لتحليل شخصيات أمثال القاتل صفوت الروبي هذا... يبدأ العالم الإيطالي ذلك بتوجيه سؤال هام هو: كيف يستجيب للجريمة بعض الأفراد دون البعض الأخر، رغم وحدة الظروف الخارجية... ويؤكد العالم الإيطالي في إجابة عن سؤاله بوجود «ميل سابق للإجرام» لدى بعض الأفراد نتيجة تكوين خاص للشخصية الفردية, واتسامها بصفات نفسية وعضوية خاصة, وراثية أو طبيعية أو مكتسبة, تنمي قوى إقرار الذات الغريزية الطبيعية، وتضعف قوى التحكم الإرادي، فيصبح الشخص أكثر استعدادا لارتكاب الجرائم، إذا توافرت مؤثرات خارجية بسيطة فالاستعداد للإجرام مثل الاستعداد للإصابة بالأمراض العقلية قد يكون فطريا ودائما.
دور الظروف الاجتماعية في صناعة المجرم «صفوت الروبي» :
قال صفوت الروبي لمنير حافظ و جوده سجينا بالسجن الحربي منذ خمس سنوات أثناء حراسته له، وكان عصر التعذيب قد انتهي قال المجرم السجان لسجينه أنه يخشى من إخوته على زوجته الحامل في شهرها الرابع وقص عليه القصة التالية «الكلام لمنير حافظ»
«توفي أبوه وتركه مع خمسه من الأخوة كلهم رجال.. .لكن من أم غير أمه... وورث الجميع عن أبيهم مطحنا كبيرا في بلدتهم وهم يديرونه، وينقمون عليه –أي صفوت الروبي- أنه يشاركهم في إيراده.. بينما لا يساهم معهم في العمل لأنه في وظيفته بالسجن الحربي... وهم يقبلون هذا الوضع على مضض.. ولكن زاد الطير بلة أنه تزوج من ابنة عمه على غير رضاهم.. وقد تركها بينهم تحت رعايتهم بالقرية، وهي حامل في أربعة أشهر، وهو يخشى عليها من منغصاتهم، نتيجة كراهيتهم لزواجه بها.. وفجأة ودت حارس المفتول العضلات في ثيابه الرسمية يجهش بالبكاء كطفل صغير..!!
وسألته: إلى هذا الحد يخشى عليها؟ .. .لا أعتقد أنهم مجرمون إلى هذا الحد..
ترى على أي شي بكي المجرم الروبي.. على أيام العز.. أيام إطلاق الكلاب البوليسية على البشر تأكل لحمهم .. أم على الأيام التي يحرق فيها أجساد الضحايا في السجن الحربي بأسياخ الحديد المحماة في النار.. أم على رسمه بالكرباج زهرة اللوتس على جسد ضحيته.. أم لضربه رأس ضحيته في فسقية المياه بالسجن حتى يرى مخ الضحية يبرز ويلفظ الضحية المسكين آخر أنفاسه وهو بين يدي الغول البشري؟ أم لتقطيعه جسد ضحاياه وإجبارهم على أكله.. أم هذه اللذة والنشوة التي كان يشعر بها وهو يرى الدماء تسيل ممن يضربهم بالكرباج فتزداد يده ضغطا على الكرباج وتشتد قبضته عليه فتنزل ضرباته أشد عنفا وقسوة على الضحية المسكنية التي ساقها سوء الطالع والقدر تحت يديه الآثمتين.. هل يبكي الروبي ضياع كل هذا... أي مجنون هو... وأي نوع من المجرمين..؟
وانتقل من تلك الواقعة إلى تحديد موقف القاتل في صفوت الروبي من الجريمة.. فهناك نظرية ثالثة في عالم الجريمة تؤكد على أهمية العوامل الاجتماعية في حياة المجرم، ودفعه إلى طريق الجريمة. وكان أول من نادى بها في إيطاليا هو العلامة «فيري»، حيث أكد أن الجريمة هي ثمرة عدة عوامل داخلية وخارجية، وقد رجح هو العوامل الأخيرة «الخارجية» ثم ظهرت نظريات أخرى في فرنسا تستند إلى التفسير الاجتماعي للجريمة حيث يقول «دوركيم» «أن الجريمة تقع أساسا من المجرم بسبب عدم التوافق بين الفرد والمجتمع»
الأمباشي صفوت الروبي يعترف بجلده لواء بالجيش !!
ننتقل من كل هذا الآراء .. إلى محاولة تطبيق هذه النظريات على قاتل مثل صفوت الروبي]] «كبير المعذبين» في السجن الحربي، والذي تواترت كل الروايات على أنه بلغ في قسوته على من يسوقهم القدر في يده حدودا غير معقولة ولا مقبولة من أي إنسان سوى أو طبيعي.
ويتضح عند تطبيق النظريات السالفة الذكر على المثال الموجود بين يدينا لقاتل ومعذب مثل «صفوت الروبي» .. أن النظريات الثلاث تكاد تنطبق في كثير من جوانبها عليه حتى أوصاف «لومروزو» للمجرم بالطبيعة وهي الأوصاف الجسدية، فمن يدقق النظر في «الروبي» يجد الكثير من الأوصاف الجسدية للمجرم بالطبيعة موجودة فيه، أما النظرية الثانية التي تقول بالميول الإجرامية فهي أيضا تنطبق عليه تماما الانطباق، فالذي يمعن النظر في الأمر يجد أن هناك عساكر ومجندين كثيرين عملوا في إدارة السجن الحربي ومع ذلك لم يرتكبوا ما ارتكبه الروبي برغم ورود آلاف المجندين على السجن كعاملين فيه فلم يخرج من بينهم على مدار خمسة وعشرين عاما غير «صفوت الروبي» واحد... وهو ذلك السفاح الرهيب الذي كان يخشاه الجميع في السجن الحربي. ليس فقط من المسجونين ولكن أيضا من زملائه العاملين بالسجن، كانوا يخشون قسوته وبأسه اشد الخشية, بالرغم من أنه لم يكن سوى أومباشي، وقد كان هناك من الضباط من يخافه، ويخشاه حتى بين العاملين في إدارة السجن، ولعل القصة التالية التي يرويها السفاح نفسه لمنير حافظ في مذكراته لخير دليل ..
يقول منير حافظ: قال لي صفوت الروبي ذات يوم:
«أنت شايف يا بيه السجن اللي حواليك ده... مابقاش سجن دلوقتي .. ده بقى لوكندة يا سعادة البية يا سلام.. كانت أيام.. الله يرحمه.. اللواء حمزة البسيوني ... يا سلام عليه.. كان راجل سبع.. كان الكل يرتعش حواليه لما يرمش بعينه.. كان يدب صباعه في أجعص جعيص يخرق عينيه قدام الكل... ولا حد يقدر يفتح بقه.. ولا حد يقدر يتدخل .. يا سلام .. كانت أيام .. وكان الواحد فينا تكبر قيمته في عين سيادة اللواء لما يتفنن في اللي هو عايزه.
مرة أمرني إني أجلد واحد «لواء» كان مسجون عندنا، كان زميلة.. لكن جابوه السجن .. فأخذني وأمرني أني أجلده .. في الأول تهيبت أني أجلد لواء .. دي «لواء» حاجة كبيرة قوى.. لكن نظرة من حمزة بيك خلتني نسيت نفسي وبدأت أجلد اللواء قعد يصرخ ويقولي في عرضك يا أمباشي روبي. زأنا سمعت كدة وحسيت أني مابقيتش بني آدم.. حسيت أني عظيم.. قعدت أجلد فيه.. أجلد لما أغمي عليه.. وأتلفت لي سيادة اللواء حمزة وقال ي: عفارم عليك ..!! ومن يومها وبقى يناديني كل ما يعوز يوضب واحد توضيبه تمام.
وأجهش الأمباشي «روبي» مرة أخرى بالبكاء.. ثم قال: «سجن! هو ده بقى سجن يا سعادة البية؟ عارف الزنزانة إللي قدام زنزانة سيادتك دي.. قعدت فيها زينب الغزالي سنتين ما تعرفش مين إللي في الزنزانة اللي جنبها.. ولا تخرج فسح ولا حاجة أبدأ .. يا دوب تدينا هدومها عشان تروح الغسيل». ماذا فعل الأومباشي «روبي» لكي يثبت أنه مش خرع؟
وننتقل إلى فقرة ثالثة يرويها القاتل الروبي لمنير حافظ في مذكراته حيث يقول:
«العلامة الحمراء بتاعة السجن الحربي دي إلي على دراعي كانت بتخليني فوق .. فوق خالص في السماء.. حتى بتوع الشرطة العسكرية ماكانوش بيهوبوا ناحيتنا..!!
كان لينا مقام تاني.. والواحد كل ما يحس بكده يزيد فيها.. وبينا وبين بعضينا هنا في السجن.. كان كل واحد عايز يبين أنه أجدع من الباقين ... وأنه مش خرع».
يؤكد هذا الكلام دور الظروف الاجتماعية.. ومساهمتها في صناعة المجرم، فتربيته في بيئة تتسم بالكراهية لدرجة أنه كان يخشى أخوته غير الأشقاء على زوجته ويحس كراهيتهم له.. كل ذلك دعاه لأن يثبت لهم أنه مهم، ولو كانت نفسه سوية وطبيعية لأثبت لهم ذلك عن طريق العلم مثلا كان يصبح عالما، أو كان يصبح مبرزا في عمله، أو كان يصبح بطلا رياضيا شهيرا.. أو محاربا قديرا، أو عن طريق التقوى بأن يكون صالحا ومصليا محبوبا، ولكن لأنه كان مجرما بالطبيعة أولا، ولديه ميل طبيعي للإجرام ثانيا فقد استجاب لكل هذه الميول ... واندفع في هذا الطريق الخاطئ يحاول أن يثبت وجوده فيه بالجريمة والقسوة.. وإلا فكم من الآلاف عرض عليهم أن يفعلوا مثل ما فعل «صفوت الروبي» ولكنهم، إما رفضوا، وإما فشلوا في أن يكونوا عتاة إجرام لأنهم يفتقدن في أنفسهم شخصية المجرم الذي وجدها «صفوت» في نفسه ببساطة أولا، ثم أنهم لا يجدون الدوافع والميول الإجرامية التي غذتها الظروف الاجتماعية فأخرجت لمصر قاتلا من طراز حقير.. يقتل الأبرياء والعزل من كل سلاح.. أو معذبا.. أو جبانا يعذب الرجال ويجلدهم وهم مقيدون بالسلاسل.
السلطة الفاسدة المفسدة
وإذا كانت السلطة مفسدة.. فما بالنا إذا وضعت في يد من لا يحسن استخدامها، أو في يد فاسدة بطبيعتها، ولا شك أنها تكون والحالة هذه أكثر إفسادا وخاصة إذا كان إطلاقها في الفساد ذاته، وهي تمعن في الفساد إذا استعملها قاتل بالطبيعة والميول والغرائز والدوافع الاجتماعية مثل صفوت الروبي، ولذلك فإننا نرى أن صفوت الروبي وأمثاله هم آفات اجتماعية يجب على كل مجتمع ينشد صلاح أحواله التخلص منهم، وهو مثل قطاع الطريق تنطبق عليهم الآية الكريمة «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أو يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض».
شذوذ الروبي.. وزهرة اللوتس
قيمة الواحد نا كانت تكبر في عين اللواء «حمزة البسيوني» قائد السجن الحربي لما يتفنن في اللي هو عايزه... وكل واحد من أفراد السجن .. كان عايز يبين أنه أجدع من الباقين.
هكذا كان الجلاد «صفوت الروبي» جبارا .. شرسا في التنكيل بكل من يقع تحت يده من ضحايا السجن إلى درجة جعلت لواءه ومثله الأعلى «حمزة البسيوني» يعينه كبيرا للجلادين. ودليل ذلك أيضا مأخوذ من فم ضحاياه.. الذين تخضبت يداه بدمائهم وهو يشبع شهوة الشذوذ لديه بالتفنن في ألوان التعذيب يعجز أي خيال عن تصورها.
يقول كمال الفرماوي المحامي بشركة الأزيا الحديثة والذي اعتقل بالسجن الحربي عام 1965 وعاش عذاباته: أدخلت حجرة واسعة على أرضيتها برش من الليف الخشن .. وفي الحجرة حمالات التعذيب .. يقيد الإنسان بها فتوضع يداه بين قدميه حتى يصير كالكرة ثم تشد السلسلة المتصلة بالحمالة فينقلب الشخص بحيث تصبح قدماه ويداه إلى أعلى ورأسه إلى أسفل ... والجلادون من حوله كالجزارين حول الذبيحة يمزقونه بالكرابيج والسياط.
ويستطرد الشاهد في شهادته قائلا: نظر إلى الواقعون حول الحمالة ثم نظروا إلى الضابط المحقق.. وفجأة إذا بواحد منهم يجذبني من ملابسي ويمزقها كلها ... ويقوم اثنان آخران بإلقائي على الأرض.. أوقعوني .. ثم أوثقوا يدي ورجلي بالسلسلة الحديدية .. وجعلوا رأسي إلى أسفل ويدي وقدمي إلى أعلى.. وأخذ الجلادون ينهالون على بالسياط، .. كانوا ستة أشخاص منهم «صفوت الروبي» جلاد السجن الحربي الذي رقى من «أومباشي» إلى رتبة «ضابط شرف» لمهارته في التعذيب وقسوته .. استمر الضرب حتى تطايرت أظافر يدي ورجلي وبدأ يتساقط الجلد على وجهي، واستمر الحال مدة طويلة, ولم أعد أشعر بعدها بمثل ما كنت أشعر به من ألم في البداية.. وسال الدم أسود على وجهي .. وفي النهاية قال «صفوت الروبي» بانتشاء: «أريد أن أرسم شكل زهرة اللوتس على رجله» وكان مشهورا في الضرب بالسوط.. وفعلا بدأ يفعل ذلك والسياط تقطع من لحم رجلي ويدي حتى قال: «ها هي زهرة اللوتس قد أكتمل شكلها»..!
«الروبي» يمنع الطبيب من إسعاف مصاب حالته خطره!
وصورة ثانية عن الجلاد «صفوت الروبي» يرويها الدكتور ماجد حمادة طبيب السجن الحربي عام 1965 لمحكمة جنايات القاهرة الدائرة السادسة .. يوم 9 إبريل عام 1977 فيقول:
«شاهدت أحد الأشخاص في مكتب شمس بدران مصابا في يديه وقدميه بسبب التعذيب.. وكانت حالته خطيرة.. لذلك فقد طلبت سيارة لنقله إلى مستشفى لإسعافه.. ولكن صفوت الروبي طلب مني عدم نقله وقال: «سيبه شويه آهو راح يتكلم»..!!
لحم المحامي نجس ..!
ويشهد المحامي محمد شمس الدين الشناوي أمام ذات الدائرة.. في نفس اليوم بأن صفوت الروبي كان يطفئ السجائر في جسده.. ويقطع من لحمه ويقدمه له قائلا: «دوق اللحم النجس»!!
ونفس هذا الشيء فعله الجلاد مع عطية القرش.. حيث قام بوضعه في ماء بارد.. وانتزع شعر صدره.. وحرق شعر لحيته.. وقام بإطفاء السجائر المشتعلة في جسده .. ولم يكتف الجلاد الروبي بذلك.. وإنما أيضا قام بتحريش الكلاب المدربة على الضحية المسكين.. واشترك مع غيره من الزبانية في جلد الضحية بالسياط.
الجلاد يعترف..!!
وأعترف الجلاد «صفوت الروبي» في التحقيقات التي أجرتها النيابة العسكرية عندما كانت تحقق بلاغات التعذيب في السجن الحربي عام1966 بأن الضرب كان في بعض الأحيان وسيلة لأخذ الاعتراف من المعتقلين، وأن الأوامر كانت تصدر إليه بضرب المعتقلين فيقوم بتنفيذها!!
عذر أقبح من الذنب:
إذا صح ما قاله «الروبي» في أن الضرب كانت تصدر به أوامر فيقوم بتنفيذها .. فهو عذر أقبح من الذنب ... فليس الأمر بالخطايا مبررا لارتكابها.
ثم إذا كان الضرب تصدر به أوامر. .فمن الذي كان يصدر الأمر بالتفنن في التعذيب ووسائله..؟ سؤال مطلوب من أعماق السفاح المعقدة الإجابة عنه.
المجرم الفاجر وملك التعذيب ورأي علم العقاب:
إذا كان علماء الجريمة قد انتهوا من دراستهم لمجموعة عوامل السلوك الإجرامي، إلى أن الجريمة هي حصيلة عوامل داخلية أي تكوينية، وعوامل خارجية أي بيئية.. ويبدو أن الله قد حبا مجرمنا «الروبي» بأكبر قدر من النوعين المكونين للسلوك الإجرامي لصفوت الروبي .. فجاء مجرما «فذا» أن صح هذا التعبير .. أو مجرما «فاجرا» كما تسميه أهل بلدنا.
ومن حسن الحظ مجرم مثل «صفوت الروبي» أن العلماء لم يتركوه دون التنبؤ بمستقبله.
فقد قال علماء الجريمة ي دراستهم للمجرمين. .وعوامل السلوك الإجرامي.. أن ظاهرة الإجرام تبلغ ذروتها في مرحلة معينه من عمر المجرم، ثم تأخذ في الهبوط التدريجي وبصورة منتظمة حتى نهاية العمر.. وأضاف علماء الجريمة قائلين «كما لوحظ أنه كلما كان الفرد صغيرا لحظة ارتكابه للجريمة الأولى، كلما كان احتمال ارتكابه جرائم أخرى قويا، كما كان الراجح استمراره في السلوك الإجرامي لفترة طويلة».
ونظن أن الإمباشي «الروبي» مارس الجريمة مبكرا جدا.. وذلك منذ دخوله السجن الحربي مجندا حتى اكتشف فيه كبار الجلادين نواة الإجرام، فنموها فيه.. حتى تأصلت.. ووصلت به إلى أن أصبح اسمه في السجن الحربي «ملك التعذيب».
وما نظن القانون بتارك المجرم الفاجر أو «ملك التعذيب» لكي يسير في طريق الجريمة المظلم... فعلم العقاب يأخذ بيده وينشله من المستقبل البائس الذي ينتظره، ويرفعه من وهدة الجريمة ويحمي المجتمع منه أيضا وقد نشأت مدرسة في علم العقاب هي مدرسة السياسةالجنائية الوضعية أو «الجزاء والوقاية»... وتزعمها أيضا الأستاذ «لمبروزو» وشاركه فيها الفقيهان «جاروفالو» و «فيري» ... وقد أرسلوا قواعد نظرية الوقاية والحماية الاجتماعية أو الوضعية الجنائية, على أساس أن الأفكار التقليدية في العقوبة كدفاع اجتماعي يحقق الردع العام.. وقد أعلن «العالم» جارو فالو أن وظيفة الجزاء الجنائي أو العقوبة هي المنع الخاص أو «الفردي» بالإضافة إلى المنع العام... والمعيار هو خطورة المجرم..!! فما بالنا وقد أطلق على «مجرمنا» بالطبيعة «ملك التعذيب» أي أنه أصبح ملكا في إجرامه.. أي بلغ الذروة في ميدانه.. حيث أن الملك هو ذروة الأشياء...!! وتعتمد السياسة الجنائية التي تقترحها مدرسة «الجزاء والوقاية» على طائفتين أساسيتين من التدابير.... هما التدابير الوقائية المانعة، وتدابير الدفاع أو الأمن.. وكلاهما يواجه نوعا معينا من الخطورة.
وإلى جانب هذه السياسة الجنائية الوقائية تقترح المدرسة الوضعية مجموعة من التدابير لمواجهة حالات الخطورة الناجمة عن جريمة ما، وتلك هي «تدابير الأمن» وتتعدد هذه التدابير، وتختلف فقد تكون استئصالية كالإعدام، أو عازلة كالاعتقال مدى الحياة، أو رادعة كالسجن، أو علاجية كالإيداع في مستشفى للأمراض العقلية، ولا نظن ألا أن مجرمنا الفاجر في حاجة أمس من الاستئصال ذاته، وذلك بما أساء في الماضي للأجيال ولشعب بأسره، بل بما يمكن أن يكون عليه وجوده في المجتمع مستقبلا من خطورة على أجيال المستقبل.. حين أن الوجود ذاته في مثل جريمة كالتعذيب بما تمثله من خطورة على المجتمع، وتهديد لقيمة وخاصة أجياله المستقبلة.
وهنا تصبح وظيفة الاستئصال أو «الإعدام» أو السجن مدى الحياة هي العقوبة المحققة للجزاء والأمن في نفس الوقت... وهي العقوبة الرادعة لمجرم فاجر مثل صفوت الروبي.
الفصل الرابع : أدلة جديدة على التعذيب في باستيل مصر
بسم الله الرحمن الرحيم
«ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون»
صدق الله العظيم
دليل جديد على التعذيب نقدمه لنيابة تحقيق قضايا التعذيب :
صورة خطية لأخر صفحة من إقرار كتبه متهم من الإخوان المسلمين تحت التعذيب، ومؤشر عليه بالأرفاق من نقيب المباحث الجنائية.. يبدو من توقيعه الموضوع أن أسمه هاني :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيد المرسلين
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن محمد عبده ورسوله
أوصي والدتي ووالدي وإخواني وزوج والدتي .... أن يعبدوا لله وحده لا شريك له .. فاطر السموات والأرض الذي ليس كمثله شيء ..
وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ويصوموا رمضان .. ويحجوا إلى البيت الحرام من استطاع إليه سبيلا وأن لا يموتوا إلا وهم مسلمون
وأن يطيعوا الله في كل ما أمرهم لا يغرهم عن الله الزمان والناس والعرف والعادة.. وسبيل نجاتهم الكتاب والسنة.
وإلى جمال زوج أختي .. عليه بالتوبة.. والصلاة
وأقول لكم لا إسلام لمن لا صلاة له.. فسارعوا قبل أن تأتي ملك الموت كتبي جميعا أعطوها لأخي صلاح عبد الحق أو مجدي لإعطائها للجماعة تتصرف فيها كيف تشاء .. على أن تعطى بعضها للمساجد .. عدا تفسير محمد فريد وجدي فهو لوالدتي ... وإذا لم يعثروا عليهم فتوزع على المساجد . وملابسي كلها تعطى للفقراء.
ووصيتي هذه للثلث.. ما أملك .. فإذا كانت هذه الأشياء التي ذكرتها ثلث ما أملك فتصرفوا فيها كما ذكرت .. وإذا كانت أكثر فتصرفوا في الثلث على نحو ما بينت.
اعلموا أن من لقي الله شهيد فموعده الجنة..
إفرحوا من أجلي .. واستغفروا لي ... وتمنوا أن تكونوا مثلي والحمد لله الذي لا نغرب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض .
وأخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين
العبد الذليل: محمود أحمد فخري.
صورة خطية مكتوبة تحت التعذيب والإكراه كتبها شاب وصف نفسه بأنه «العبد الذليل» محمود فخري .. وعليها تأشيرة إرفاق من ضابط المباحث الجنائية العسكرية هاني إبراهيم وهو واحد من الجلادين المتهمين في قضايا التعذيب.
إننا نهديها إلى النائب العام طالبين التحقيق في كيفية صدورها من صاحبها.. إن كان ما يزال على قيد الحياة.
أن الوثيقة دليل على أن المباحث الجنائية هي التي كانت تحقق وليست النيابة العامة .. هي التي كانت تنتزع الاعترافات ... وأساليبها لانتزاع الاعترافات معروفة.
سبحان الله...!!
جلادوا الأمس .. سجناء اليوم ..!!
ودار الزمان دورته.. وأثبت للمارقين حقيقته... أن جاء اليوم.. قفوا لا دوام.. ولا ضمان... ولا أمان.... إلا لله وحده .. الملك له وحده.. العظمة له.. سبحانه.. والإنسان هو الإنسان ..له الهوان إذا ما تصور لحظة أنه إله على أي وجه كان.. إذا ما نسي قول الملك الديان «وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، أقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا»
آه... لو فهم الإنسان أنه إنسان
آه لو فهم حقيقة .. وحدود ما رسم الله له.. لما أجرم في حق الله والناس وحق نفسه.
ترى هل كان شمس بدران –أيام كان يصرف «الألف كرباج» لبشر من إخواته المصرين في السجن الحربي –يتوقع حلول يوم كهذا... وسجن وقضبان ... وأخيرا مطارده.. ولمن..؟ لمن كانت مهمته مطاردة الأبرياء..
«وجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة، أولئك هم الكفرة الفجرة» صدق الله العظيم.
هكذا يقذف الله الحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق... ذلك الفصل من الكتاب يضم بالصور والمستندات بعض جرائم المجرمين الذين صنعوها على أجساد المصريين الأبرياء بالكرباج والعذاب المهين.
ولقد شاءت إرادة القادر أن يصبح جلادو الأمس هم سجناء اليوم.. والذين يقدمون الناس إلى المحاكم الاستثنائية ويسلمون أعناقهم لأعواد المشانق هم اليوم مطلوبون بالحق والعدل للقضاء ليقضي فيهم بما أنزل الله «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب»
لقد نسي هؤلاء الجلادون الله فأنساهم أنفسهم، وتوهموا أن يوم الحساب غير آت.. ولم يدر بخلدهم أن تجيء تلك الأيام التي يعيشون فيها وتبرز إليهم سوءات أعمالهم من ظلمات الزمان.
إنها لعبرة.. وعظة.. فهل نحن متعظون.....؟!!!!!!
بسم الله الرحمن الرحيم
«ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين»
صدق الله العظيم.
الفصل الخامس الميت الحي أو القتيل الهارب !
قتلني حسن كفافي..
قتلني حسن كفافي ..
قتلني حسن كفافي..
قالها محمد بن علي بن عبد الله لزملائة الأربعة:
• علي إسماعيل سبيع ترزي بكفر الشرفا الشرقي بالمطرية
• محمد عبد المنعم شاهين باحث بوزارة التخطيط
• كمال أحمد إبراهيم خالد موظف بشركة مطاحن شرق الدلتا بالمنصورة
• يوسف فرج يوسف مزارع بكفر البشابشة مركز طلخا
وفي دفتر المقبوض عليهم في السجن الحربي وجد اسم محمد علي عبد الله تحت الرقم (629) وأنه مقبوض عليه بتاريخ 6/ 9/ 1965. مدرس بمدرسة سنيت بالقليوبية، وأنه هرب من تحت التحفظ، وأخطرت المباحث العامة للبحث عنه!! وبعد ذلك بعشر سنوات أرسل الأستاذ وفيق الدهشان وكيل أول النائب العام بمكتب تحقيقات قضايا التعذيب، يسأل وزارة الداخلية عن مصير محمد علي عبد الله، لأن زوجته فتحية عيد إبراهيم حمودة تقدمت ببلاغ يفيد أن زوجها قتل من التعذيب في السجن الحربي، وأنه لم يهرب، وأن تحت يدها حكما بوفاة زوجها، وحقق الأستاذ وفيق الدهشان وكيل النائب العام بمكتب قضايا التعذيب بلاغ السيدة فتحية عيد حمودة.. وكان طبيعيا أن يكتب إلى وزارة الداخلية سائلا عن المواطن المذكور.. فماذا كان رد وزارة الداخلية؟
ورد إلى الأستاذ وفيق الدهشان وكيل النائب العام الرد التالي وهو مطبوع في سجلات نيابة تحقيق قضايا التعذيب في القضية رقم 665سنة 1976 مدينة نصر تعذيب حتى الموت.
الرد يقول:
• أفادت مصلحة الأمن العام بكتابها المؤخ 11/ 1/ 1975 أن المجني عليه سبق أتهامه في قضية الإخوان عام 1965 كما سبق النشر عنه بالجريدة الجنائية بالعدد رقم 41 لسنة 1965 بتاريخ 11/ 10/ 1965 تحت بند (2) لهروبه من حارسه أثناء التحقيق معه في السجن الحربي.
وكذلك ورد الرد التالي من نائب وزير الداخلية:
• أفاد نائب وزير الداخلية لمباحث أمن الدولة بكتابة المؤخ 23/ 3/ 1975 أن المجني عليه ضبط في 6/ 9/ 1965 ورحل إلى السجن الحربي بتاريخ 18/ 9/ 1965 وأن قائد السجون الحربية أخطر المباحث العام في عام 1965 بهروبه من السجن الحربي، وأنه لم يتم ضبطه حتى تاريخ تحرير الكتاب.
• كذلك قرر أبو زيد مرعي أبو زيد في تحقيقات الجناية رقم 418 لسنة 1976- مدينة نصر وهي خاصة باستشهاد محمد عواد بالسجن الحربي أيضا وتهمتها القتل العمد مع سبق الإصرار، والمحدد لها جلسة 1/5 أمام الدائرة السادسة بمحكمة جنايات القاهرة، وهو من جنود السجن الحربي 1965 أن السجن الحربي أوقع عليه وعلى زملاء له من السجن جزاءات صورية، لم تنفذ برغم مسؤوليتهم عن هروب بعض المقبوض عليهم ممن ماتوا في التعذيب بالسجن .. كما أعترف بأنه وبعض زملائه من الجنود دفنوا جثة أحد المعذبين في صحراء مدينة نصر .. وأنه يجزم بعدم هروب أي معتقل من السجن الحربي. وقال شاهد ثاني:
• وكذلك قرر محمد السيد متولي خاطر الجندي السابق بالسجن في القضية رقم 418 لسنة 1976 جنايات مدينة نصر أنه ساهم مع آخرين من الجنود في دفن بعض من مات عام 1965 في منطقة جبلية خارج السجن، كما أنه قرر أنه من المتعذر هروب أي معتقل من السجن الحربي.
وشهد ثالث فقال:
• قرر محمد علي المراكبي الجندي السابق بالسجن في ذات القضية وفي قضايا أخرى أنه ساهم مع آخرين من الجنود في دفن بعض من مات من المعذبين في منطقة جبلية خارج السجن الحربي.
فالذي نخلص إليه من كل ما تقدم... أن هناك قتيلا.. وهاربا أو جريمة قتل، وجريمة هروب.. فمن هو القتيل ومن هو الهارب في كلتا الحالتين؟
وهل الأمر لا يتعدى أن يكون جريمة قتل وأن جريمة الهرب افتعلت افتعالا واختلفت اختلاقا لتغطية جريمة القتل؟
ثم كيف تمت عملية القتل وعلى أي صورة ومتى؟
هذا ما سنتناوله في تحقيقنا وراء شخصية الشهيد ضحية جريمة القتل لحظة بلحظة؟
سوف نعد عليه أنفاسه لنعرف متى لفظ آخرها...؟ وأين... ؟. وعلى يد من؟.... ولماذا...؟
أن هذه مسئولية أمام الله... والحقيقة والقانون والشعب المصري كل الشعب ... بل والإنسانية جمعاء.
فإذا كانت جريمة تعذيب قد أودت بحياة الشهيد، فهو الأمر الذي تقشعر له الأبدان، ويستنكره كل إنسان .. على اختلاف الأجناس والأديان.. فالإنسان إنسان أولا وإنسان أخيرا.. ثم بعد ذلك هو مسلم أو مسيحي ..ثم بعد ذلك هو مصري أو صهيوني.
وفي صورة للصفحة الأولى من الجريدة الجنائية العدد رقم«4» الذي صدر يوم الإثنين الموفق 11 أكتوبر عام 1965.
فيها أسماء ثلاثة معلن أنهم هاربون وجاري البحث عنهم، وهم في الحقيقة مقتلون بالسجن الحربي.. أحدهم رقم «2» الشهيد محمد علي عبد الله.
أنني أطالب قبل أن أبدا التحقيق للبحث عن الحقيقة بأن تكون جرائم التعذيب جرائم دولية... يعاقب مرتكبها بالإعدام بمقتضى قانون دولي.
كيف كانت البداية
البداية كانت جملة على السبورة كتبها محمد بن علي عبد الله للتلاميذ الصغار في قرية سنيت مركز كفر شكر قليوبية.. تقول الجملة:
سقطت الملكية .... وأعلنت الجمهورية.. تحيا الجمهورية.
- سأل التلاميذ: يعني أيه يا أستاذ؟
- فقال محمد بن على بن عبد الله: يعني الشعب هيحكم نفسه بالديمقراطية وهذا ما يريده الشعب.
- التلاميذ: يعني أيه الديمقراطية يا أستاذ؟
- المدرس: حكم الشعب بالشعب ولمصلحة الشعب.
- التلاميذ: يعني الإنجليز مش هيحكمونا بعد كدة.
- المدرس: لا
- التلاميذ: يبقى ضباط الثورة إللي هيحكمونا؟
الزوجة فتحية والأولاد منى... وعلي .. ومها ينتظرون الوالد الغائب الذي طال غيابه منذ عام 1965 حتى الآن..!!
- المدرس: ولاده المفروض يحصل كمان.
- التلاميذ: أمال أيه المفروض يحصل يا أستاذ؟
- المدرس: المفروض أن الضابط دول قاموا بحركتهم علشان يخلصوا الشعب من حكم الملك الفاسد والأحزاب المتواطئة معاه، ويسلموا زمام الحكم للشعب هو يكون الأحزاب اللي تعجبه.. أحزاب جديدة تحكم البلد بالديمقراطية.
- التلاميذ: أمال ضابط الثورة دول بيعملوا أيه يا أستاذ؟
- المدرس: مهمتهم أقدس... من أنهم يحكموا البلد.
- التلاميذ: تبقى أيه المهمة الأقدس من حكم البلد؟
- المدرس: الدفاع عن أرض الوطن... وأظن دي مهمة أقدس من الحكم... ثم إن الناس المؤهلين للدفاع عن استقلال الوطن وسلامة أراضية.
لقد كان عشق الشهيد لعملة كمدرس نابع من إيمان برسالة العلم في إرساء قواعد الحضارات وبناء الأمم والشعوب.. ولقد انطلقت علاقات الشهيد بتلاميذ فصله في قرية سنيت من هذا المفهوم الحضاري للعلم، ولذلك مزج السياسية بتعليمه للتلاميذ الضغار.. وكان ذلك لأن مفهومه للتدريس جاء من منطلقات روحية، بدأت يوم قرأ قوله تعالى لنبيه
«اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم».
من هنا أحب المدرس محمد علي عبد الله مهمة التدريس، وازداد إيمانه بعظمته عندما قرأ قول الرسول الكريم «أطلبوا العلم ولو في الصين» كذلك أدرك أهمية العلم في بناء الأمم والحضارات من مسلك الرسول الكريم في غزوة بدر عندما أمر بإطلاق سراح كل أسير يعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة.
إذن فالأمم تعيش بالعلم، ولا تعيش بالجهل.. والحضارات تنمو وتزدهر بالعلم، وتتقلص وتضمحل بانتشار الجهالة.. وهكذا كان فهم المدرس محمد علي عبد الله لمسلك النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة بدر.. ولذلك فتح الشهيد كل ذاته لتعليم تلاميذه كل ما يمكن أن يتعلموه ولكنهم لم يتركوه يعلم الصغار ما يفعله الكبار.. لم يتركوه يؤهل الصغار لحياة الكبار.. وإنما اختطفوه.. نعم اختطفوه في عام 1954 .. حيث قبض عليه في 23/11/ 1954- ليظل بين جدران السجن الحربي عامين .. لم يستطيع خلالهما باستيل مصر أن يرسل المعلم محمد عبد الله شهيدا إلى السماء.. وإنما كان نصيبه عشر سنوات أشغال شقاة مع وقف التنفيذ.
من باستيل مصر الحربي .. إلى الشارع :
وفي 23/ 11/ 1956 خرج المدرس محمد علي عبد الله .. من باستيل مصر الحربي.. إلى الشارع.. لا إلى المدرسة وفصله وتلاميذه الأحباء .. وأسلمه الشارع .. إلى الجوع هو وأهله وأطفاله.. فقد كانت وزارة التربية قد أصدرت قرارا بفصله من العمل بتاريخ 32/11/ 1954أي بعد القبض عليه بأسبوع واحد بتهمة الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين.
كان الانتماء إلى جماعة دينية كفيلا بتجويع الإنسان وترويعه.. عجب..!
وظل المدرس الذي آمن بأهمية مهنة التعليم في بناء الأجيال وإرساء قواعد الحضارات.. يطرق كل باب باحثا عن عمل يقتات منه هو وأولاده الصغار وزوجته.. كان يجد قوت الأولاد الصغر يوما، ولا يجده معظم الأيام.. وكم بات أطفاله الصغار جوعى... وكم ظل هو يذرع الشوارع بلعق أذرع إخطبوط الضياع الذي خرج من باستيل مصر يتسربل به ... ولكنه كان مصرا على الافات من أذرع هذا الإخطبوط اللعين.. واستعان بإيمانه، وبارادة الحرية في الإنسان المؤمن .. وكان قد بدأ ينشئ فصولا خاصة يعلم فيها الصغار. .بدأ يتخذ من الرصيف والحقل فصلا للتدريس للصغار.. يعلمهم كيف يكونون نافعين لبلادهم ومجتمعاتهم.. وبدأ يكسب قوت العيال.. ولكنه لم ينس الكفاح من أجل حقه في العمل على أرض بلده.. وكانت ثمرة كفاحه، وكفاح إخوانه في المحنة صدور القرار الجمهوري رقم 167 لعام 1960.
وهكذا ظل المدرس المؤمن بأجل الرسالات للمعلم شريدا أربع سنوات .. لم يضيعها، وإنما استثمرها في العمل من أجل تعليم الصغار.. ومن أجل تقوية إيمانه برسالته، وبالحياة..!!
وعاد إلى عمله ليعاود نفس الدور.. ليعلم الصغار ما يتعلم الكبار.. كي يكونوا كبارا.. ويكونوا بذلك وطنا أكبر، وأكثر تقدما وحضارة.. ولكن أجهزة قهر الإنسان، والتجسس عليه في مصر تترصد بالرجل ... .وتتبعة ولا تتركه يعيش ويوم 20/ 8/ 1965، وفي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل يزوره زوار الفجر من المباحث العامة, ويقبضون عليه بعد ترويع أولاده الصغار وزوجته.. وبعد أسبوع من الابتلاء بالبلاء والهوان لا يجدون شيئا ضد الرجل.. أنه مدرس يعمل من أجل مهنته، ومن أجل تأدية رسالة المعلم على أكمل وجه.. لا يصرفه شيء عن عمله.. وتفرج المباحث العامة عن الرجل في 4/ 9/ 1965 .
حملة بربرية للمباحث الجنائية
تصبح بعدها الصغيرة بكماء ...صماء!! ولكن بعد أسبوع تقوم قيامة المباحث الجنائية العسكرية لإفراج المباحث العامة عن المدرس.. إذ كيف لا يكون له –للرجل الذي لا هم له سوى عمله دور فيما يبيتون ويدبرون... لقد رسمت المباحث الجنائية العسكرية دورا مروعا للمدرس محمد عبد الله.. تبينه مكتب تحقيقات قضايا التعذيب بعد إطلاعه على الجناية رقم 12 لعام 1965 أمن دولة عليا .. وهي خاصة بالتنظيم السري للإخوان المسلمين والذي أسند لأعضائه جنايتي تغيير دستور الدولة وشكل الحكومة بالقوة ... ولكن ماذا خص المدرس في هذه القصة؟
• مهما محمد علي عبد الله .. .صغرى بنات الشهيد .. عندما حضرت الحملة البربرية لاعتقال والدها كانت أمها تحملها ولا يتجاوز عمرها 12 شهرا.. إنها تلميذة بالصف الأول الإعدادي.
• كان محمد على عبد الله الابن الثاني بعد «منى» كان عمره وقت اعتقال والده أربع سنوات. بإصرار الأم البطلة أصبح تلميذا في الثانوي.
• الزوجةفتحية عيد إبراهيم حمودة
• كان عمرها وقت اعتقال زوجها 25 عاما.
• صارعت حيتان الطغيان 12 عاما منذ اختطاف زوجها ليلا.
• لم تيأس .. بالرغم من أنها عندما انقطع عنها مرتب الزوج ... ووجدت نفسها بلا أي دخل تعيش منه..ذهبت إلى محافظة القليوبية تطلب الوظيفة أو إرجاع الزوج، أو حتى صرف المرتب – فما كان من أحد أذناب الطغاة إلا أن قال لها:
وظيفة مش هنوظفك...!!
جوزك مش هيرجع لك تاني...!!
مرتب له مفيش.. !! عايزه فلوس.. أنت عارفه الطريق إللي ممكن تكسبي منه دهب..!!
منى محمد على عبد الله كبرى أولاد الشهيد تبلغ من العمر 18 عاما .. كانت، وقت اختطاف والدها بواسطة المباحث الجنائية العسكرية عام 1965 طفلة لا يزيد عمرها عن ست سنوات
كانت تسمع وتتكلم ..وهي اليوم وبسبب الحملة البربرية صماء.. بكماء.. مصابة بأمراض عدة في القولون والأعصاب .... ومصابة بالحساسية .. وتعيش على السوائل.
تضمنت القضية البلاغ رقم (5) المحرر بمعرفة العميد «سعد زغلول عبد الكريم» مدير الشرطة العسكرية في 3/ 6/ 1965 والمرفق بالقضية الجنائية المذكورة أن التحريات أسفرت أن عبد الفتاح إسماعيل عضو مجلس قيادة التنظيم السري لجماعة الإخوان المسلمين، والذي حكم بإعدامه عام 1965 من محكمة الدجوي كون تنظيما سريا لهذه الجماعة بمحافظة القليوبية، انضم إليه المجني عليه الذي أثبت قرين اسمه أنه «هارب» ولم يرد اسم المجني عليه ضمن من قدموا للمحاكمة في هذه القضية..!!
وإلى هنا انتهت الملحوظة التي دونها الأستاذ وفيق الدهشان المحقق في مكتب تحقيقات قضايا التعذيب. ولكن كيف سارت الأمور مع الضحية المسكين، عقب الدور الذي رسمته له المباحث الجنائية العسكرية, بتقرير أحد خبراء التلفيق فيها بالبلاغ رقم (5) الذي حرره أحد كبار رجالها وهو العميد «سعد زغلول عبد الكريم»...؟
أن الذي جري بعد ذلك صورة لها وجهان: وجه مأساوي إنساني... ووجه بربري وحشي.
والوجهان لصورة واحدة.. .والصورة تتبلور في أنه في ذلك اليوم المشئوم السادس من سبتمبر عام 1965 وكان لم يمض على الإفراج عن المدرس المسكين محمد عبد الله من المباحث العامة سوى يومين بعد ثبوت براءته.. بعد هذين اليومين كانت الأسرة الريفية الصغيرة الفقيرة تحتفل بعودة عائلها.. ببراءة ساحته.. الأب والزوجة والأبناء الثلاثة أكبرهم ابن في الإعدادية، وأصغرهم بنت في الثالثة من عمرها.. عمر الزهور.. الجميع في فرحة ونشوة لعودة الأب إلى دفء أسرته بعد اعتقال ظنوه يطول، وحمد لله أنه لم يصل لأكثر من أسبوع.. كان هذا لسان حال رجال أسرة المدرس الفقير.. وكانت المفاجأة التي أذهلت الأسرة ليلة احتفالها بعائلها الوحيد.. نازلة ككوارث الأقدار، ومع نزولها بدأت مأسات إنسانية مروعة... حلمة بربرية على الأسرة العزلاء الوديعة دمرت جميع ما في البيت.. حتى المراتب والمخدات مزقت وأخرجت قطنها حتى سرير الأسرة كسروه.. ضربوا الأولاد... لدرجة أن الصغار بما سمعوه من أبيهم عن وحشية الإنجليز ظنوهم قد عادوا.. وخاصة أن القادمين يحملون شارات حمراء على أذرعهم كخدود جنود الإنجليز، تلك التي وصفها لهم أبوهم المدرس من قبل.. وخدود المداهمين أيضا وردية حمراء منتفخة من كثرة التعذية.. إنها نفس صورة الإنجليز في أذهانهم الصغيرة.. فلماذا لا يكونون إنجليزا؟ ولكنهم يتكلمون العربية, ويسألون الأم فتخبرهم بأنها المباحث الجنائية العسكرية. وانتهت الحملة البربرية المغولية على البيت الآمن بتدميره واقتياد رب البيت أسيرا.. وهنا حدثت مأساة إنسانية: الابنة الصغير للمدرس محمد علي عبد الله تتعلق بثوب أبيها، وهم يختطفونه، وكان يأكل لتوه معها ويداعبها، وتهوى كف غليظة لواحد من الجبابرة على وجه الطفلة التي لم تتعد الثلاث سنوات.. عمر الزهور.. وتصمت الصغيرة إلى اليوم ... خرساء ... صماء أيضا.. لها الله .. وللمجرم انتقام السماء والله عزيز ذوا انتقام..
بكاء على البعد ... ورحيل على البعد:
منذ ذلك اليوم 6/9/ 1965 لم يعرف الأسرة مكان اعتقال عائلها ولا التهمة المنسوبة إليه، وعاشت الأسرة حالة ضياع.. أبلغت الزوجة كل مسئول عن اختطاف زوجها، وأنها تريد فقط أن تعرف مصيره. أين هو الآن ... هل هو حي أم ميت..؟
هل يأكل أم يصوم...؟ هل مريض أم سليم..؟
وعشرات الأسئلة التي تكون في ذهن الزوجة التي اختطف عائلها وأبو أولادها من فوق «طبلية» الطعام، وهم ملتفون حولها.. دون أن يقول لهم إلى أين .. ولماذا يقتاده ذوو الشرائط الحمراء والوجوه الحمراء؟
إن الرد الوحيد الذي تركه هؤلاء للأسرة المسالمة هو الخراب، والدمار في البيت بتمزيق وتكسير كل ما فيه.. والركلات.. والصفعات حتى للصغار.. ولم تنج من ذلك حتى الزوجة «الحرمة» المسكينة ولا الصغيرة التي «انحاش صوتها» و «طرشت» آذانها إلى الأبد.
ولجأت الزوجة فتحية عيد إبراهيم حمودة إلى كل وسيلة لتعرف مصير زوجها.. أبلغت القسم والمباحث العامة ... وكانت الإجابة دائما لا نعرف عنه شيئا.. كانت في المرات الأولى تعرف أنه معتقل .. وتعرف أيضا مكان اعتقاله.. ولكنهم هذه المرة يرفضون أن يقولوا لها شيئا.. أي شيء.. حتى ما إذا كان حيا أو ميتا.. يأكل أم صائم.. مريض أم سليم؟ ولم تكن تدري المسكينة وهي في بحثها الدائم أن كلابا آدمية، وكلابا بوليسية تنهش في لحم زوجها المسكين.
وجاءت ساعة كان كل من في الأسرة، الزوجة والابن الأكبر والابنة الصغيرة «الخرساء الصماء» من يوم الحادث المشئوم يبكون ... وجدوا أنفسهم يبكون.. وبحرقة.. وبلا سبب يبكون.. ترى هل كانوا يعلمون..؟ أنها ساعة الرحيل لعائلهم الوحيد الشهيد المدرس محمد علي عبد الله.. رحمه الله. كان بكاء على البعد.. ورحيل على البعد... ولكنها السماء تفعل ما تشاء.
أسرة بدون عائلها في غابة وحوش
وقبل أن تعيش لحظات الرحيل المرعبة... سوف تعيش أيام الغربة القاسية الرهيبة التي عاشتها الأسرة بأكملها.. في ظل دولة كبيرة، ومجتمع متحضر، وكأنها تعيش في غابة، الوحوش فيها تتربص بها كل سبيل...!!
فجأة .. بلا مقدمات وجدت الأسرة نفسها بلا عائل، وفجأة وبلا مقدمات.. انقطع مصدر رزقهم الوحيد.. المتبلور في مرتب المدرس.. ربما لم يكن هذا جديدا على الأسرة فقد سبق أن تعرضت لمثل هذه المحنة عام 1954.. ولكن في تلك الأيام البعيدة كانت القلوب رحيمة مؤتلفة!. ولكن هذه المرة كان الأمر مختلفا تماما، كان الناس على غير عادة أهل الريف وخلقهم .. يخشون الاتصال بالأسرة على عكس عام 1954 حيث لم يكن البيت يخلو من الزوار ألا ليمتلئ في تلك الحقبة التي تبدو وكأنها تنتمي إلى عصر غريب آخر.. بل إلى شعب وناس آخرين...
هل فعل الإرهاب والخوف كل هذا التغيير في الناس.. أصبح الناس يخشون البطش والسجن والاعتقال ومصادر الأموال التي أصبحت سيفا مصلتا بغير أسباب على كل الرقاب.. كل هذه الأشياء تنزل بالإنسان مصر كما ينزل به الموت تماما...بلا مقدمات ولا أسباب .. لذلك أغلق كل إنسان عليه بابه، وعانت الأسرة من الوحشة في قريتها وبلدها وبين أهلها وذويها.. الكل يخشى!! وكل الجدران لها آذان . وعيون في كل مكان.
ومن يقدم على فعل الخير.. بالخير يؤخذ...!!
ومن يمد يده بالسيف والاعتقال يده تقطع...!!
ولم تمتد هذه المرة للأسرة المسكينة التي اختطف عائلها بالعون يد واحدة..!!
ولا حتى لسان بالسؤال..!!
كانت الألسنة كأنها مبتورة، والأيدي كأنها مقطوعة..
في العيون كلام أخرس !! وفي حركة الرموش حديث أبكم بلا صوت.. حديث الخوف والرعب .. من السجن.. والحراسة والاعتقال .. وهوان الهوان.. الذي يسمع عنه الجميع في كل مكان .. في السجن الحربي.. وفي المخابرات العامة.
أحست الأسرة برعب الغابة, بالرغم من أنها لا تزال تعيش في بيتها، وبين مجتمعها في قرية مصرية. وأصبحت الأسرة بعد أن فصلت وزارة التربية والتعليم عائلها بتاريخ 1/ 10/ 1965 بلا دخل.. ولكنها صبرت.. أخذت تنظر هنا وهناك فتواجه بجدار الصمت في كل مكان.. والتحجر في كل قلب.. وكل يد حتى الوزارة رفضت أن تصرف معاشا لأبناء الغائب المساكين.
أولاد الغائب يطلبون الطعام:
ولما «قرص» الجوع الصغار، فكرت الزوجة في محاولة جديدة لإنقاذهم .. تشجعت الزوجة-التي ترملت وهي لا تدري أنها أضحت أرملة- وذهبت إلى محمد كمال أبو الفتوح محافظ القليوبية، وقد كان ضابطا بالمخابرات العامة, وقرأ عن المدرس المتهم أنه هارب.. وكواحد من الأجهزة الحاكمة في ذلك الحين كان يعرف معنى كلمة هارب في قاموسهم..!!
وكان الرجل لحسن الحظ مؤمنا طيبا، فأمر بصرف معاش لأسرة على مسئوليته الخاصة.. وأصدر أوامره بذلك إلى مديرية التربية والتعليم ببنها .. فماذا حدث حيال أوامر المحافظ من المخابرات أيضا. كانت أوامر الجلادين أقوى من أوامر محافظ، حتى ولو كان خريج جهاز المخابرات.!!
لذلك أصرت وزارة التربية والتعليم على موقفها في تجويع الأسرة.. فلا مرتب .. ولا معاش!!
وكان لابد للزوجة من البحث عن مخرج لما يعانيه الصغار من الجوع، فهي أم تتمزق وهي ترى أولادها جوعى ... عرايا.. وسط مجتمع يقول أنه مجتمع الكفاية والعدل.. !! وكلما طرقت بابا أوصده «الجلادون» في وجهها في عنف وقسوة .. وكأنهم يقولون لها: أغربي من وجوهنا أنت لعينة.. أنت طريدة.. كتب عليك وعلى أولادك التشرد إلى يوم الدين.. ورفعت الأرملة يدها إلى السماء..!! فلم يبق لها في هذه الأرض سوى عون السماء...!!
الهامس المجهول وحكم بالموت وكلمة (لا) أيضا!!
وجاء من «يهمس» وهو يتلفت يمنه ويسرة.. ألقي بالهمسة، وفر جريا فرار السليم من المجذوم.!! ولم تضع الزوجة وقتا.. فلم يعد لديها وقت ليضيع، وأولادها يتعذبون، مع مطلع كل شمس أمام عينيها.. حبست الهمسة في صدرها، وجمعت كل الشجاعة في قلبها، وذهبت إلى محكمة بنها تطلب إثبات غيبة ووفاة زوجها..!!
وبعد إجراءات مطولة، وجلسات عديدة أحرزت أول نجاح لها منذ اختطف الزوج في 6/ 9/ 1965بمعرفة المباحث الجنائية العسكرية إذ حصلت على حكم قضائي بوفاة زوجها للغيبة الطويلة، وذلك في 18/ 11/ 1970.. وهكذا وضعت نهاية لما هي فيه، حيث لا هي أرملة ولا هي زوجة...!!
أخيرا أصبحت أرملة، وظنت أن تلك نهاية المشوار.. وتقدمت إلى مديرية التربية والتعليم لتسوية معاش زوجها «لها ولأولادها القصر» ولكن المديرية قالت أنها لا تعترف بهذا الحكم... لماذا .. لا ندري..؟ إلا أنه نوع جديد من الأوامر –غير المرئية- بوضع الشوك في طريق الأسرة .. وكأنه لم يكفهم ما فعلوه بعائلها، أو مازال نتيجة ذلك بها.
وأصرت مديرية التربية والتعليم على تسوية المعاش بصفة معاش أحياء، بحجة أنه سبق أن صدر قرار بفصل صاحبه قبل أن يصدر الحكم القضائي باعتباره متوفى.
وهنا يبرز سؤال: وما هو الفرق.. ما هو معاش وبس..؟
لكن الفرق يعرفه من وضعوا هذا العراقيل متعمدين.. .؟.. أنهم لا يريدون للأولاد القصر أن يأكلوا ملء بطونهم حتى بعد أن قتلوا لهم أباهم غيلة وغدرا.. ذلك أن معاش الأحياء 40% من المرتب بينما معاش حالات الوفاة هو 60% .. لا يجب أن يأكل أولاد الشهيد المقتول حتى يشبعوا.. يجب أن يأكلوا نصف بطن.. يجب ألا تمتلئ بطونهم جزاء ما جناه والدهم .. وجناية «أبيهم» حتى الآن غير معروفة ولا مفهومة!!
الرفاهية للشعب .. والموت لمن يفكر من أبنائه!!
أكثر من ذلك لغير ما سبب مفهوم.. خالفت مديرية التربية والتعليم بالقليوبية القوانين والقرارات الجمهورية الصادرة بخصوص من فصلوا لسبب سياسي، وأسقطت مدة فصله بسبب الاعتقال وهي المدة من 23 ديسمبرعام 1954 إلى ديسمبر عام 1960 من المعاش والأقدمية في الترقية .... بالرغم من قيام المديرية نفسها بتطبيق القرارات الجمهورية أرقام 3602، 3309 لعام 1966 على أمثاله من الموظفين الأحياء باعتبار مدة الفصل السياسي مدة عمل متصلة.
وهكذا حكم على هذه الأسرة بحالة من الرعب والخوف التي اجتاحت جميع المواطنين لهول ما كان يتخذ من إجراءات تعسفية. لمن كانت تقام ضده مظنة التعاون، أو الشفقة, والمساعدة لأسرة شهيد من شهداء الإخوان المسلمين بالسجن الحربي.
وهكذا نرى أنه في هذا الأيام السوداء من تاريخ مصر التي كانت ترفع شعار «الرفاهية للشعب» كان الموت للعائل لا يكفي .. وإنما أيضا على أسرته أن تعاني الجوع والعري من بعده..!!
وهكذا كانت الشعارات جوفاء بلا مضمون.. وأن صح لها مضمون .. فهو الرفاهية لجلادي الشعب، والموت لا يكفي جزاء لمن يكفر من أبنائه.. بل لا بد أن تطارد لعنة الجوع أولاده من بعده هم ومن يجرؤ على تشغيل مخة من أبناء الشعب. .أو اعتناق مذهب أو عقيدة .. حتى لو كانت تلك العقيدة هي دين الله.. وكان ذلك في نظر الجلادين هو العدل بعينه..!!
رحلة رعب تمهيدية
ونترك الأولاد القصر للشهيد المدرس محمد علي عبد الله في معاناتهم الرهيبة.. حرمان من الأب .. وحرمان من لقمة العيش، لنعود إليه.. إلى الضحية ذاتها.. ونعود إليه في رحلة عذابه من يوم اختطافه من وسط أولاده بتاريخ 6/ 9/ 1965 إلى أن ارتفعت روحه إلى بارئها يوم 27/ 9/ 1965 أي عبد حوالي 21يوما.
كان الشهيد الضحية كما عرفنا قد مر برحلة رعب تمهيدية .. حيث قبضت عليه المباحث العامة في منتصف ليل 28 أغسطس عام 1965، فتوقع الهول الذي عاناه في السجن الحربي عام 1954 لمدة عامين .. ولكن يبدو أن الله كان رفيقا به هذه المرة فلم تطل مدة الرعب عن أسبوع حيث لم يثبت ضده شيء، فأفرجت المباحث عنه في 4 سبتمبر عام 1965.. فهل كانت براءة الرجل كاملة.. أم أن البراءة كانت نسبية عند الأجهزة المتعددة الحاكمة في مصر في ذلك الحين؟
... قد تكون بريئا عند المباحث العامة، مدانا عند المخابرات العامة, متآمرا وقاتلا عند المباحث الجنائية العسكرية...!!
لقد كانت مهزلة حقيقة.. مهزلة أجهزة «الجستابو» في مصر، وصراعاتها من أجل السيطرة على الحكم، والجالسين على قمة الحكم...!!
المهم أن محمد علي عبد الله نعم بأسبوع من راحة البال بعد الإفراج عنه من المباحث العامة.. وذات ليلة حدثت أشرس الهجمات على منزلة .. حيث هبطت قوة من رجال حسن خليل «المباحث الجنائية العسكرية» وعاثوا في المنزل الريفي فسادا.. روعوا الأطفال الصغار بما ارتكبوه في تلك الليلة، حتى أن صغراهن أصيبت «بالخرس والصمم» منذ تلك الليلة المشئومة وحتى اليوم.. ولم يتركوا مرتبة أو مخدة ألا مزقوها.. لم يتركوا سريرا، ولا كنبة, ولا كرسي، إلا كسروه.. كانت حملة تخريب لا حملة اعتقال .. وعندما اعترض الأب على هذا الأسلوب في التفتيش أهين وضرب أمام أطفاله، ثم أخذوه إلى السجن الحربي.. حيث رحلة العذاب التي انتهت بصاحبها إلى القبر..!!
الزنزانة 99 تتكلم
ويروي زملاء الشهيد في الزنزانة «99» بالسجن الحربي حيث كان ينزل قصة استشهاده .. فيقولون: دخل علينا الشهيد في شهر سبتمبر عام 1965... وفي أواخر هذا الشهر استدعي كالعادة إلى مكاتب التحقيق بالسجن الحربي.. فغادر الزنزانة وهو في حالة طبيعية سائرا على قدميه، ثم عاد إليها في نفس اليوم خائر القوى لا يقدر على السير، وكان يحمله الجنود على نقالة، وقذفوا به على أرض الزنزانة وانصرفوا .. وأغلقوا الباب وراءهم، وكانت آثار ضربه بالكرابيج بادية على جميع أجزاء جسده، وخصوصا القدمين، والساقين، والظهر.. وبدأ زملاء الشهيد في زنزانته يستفسرون منه عما ألم به فقال لهم «حسن كفافي قتلني»..!!
ثم أسترسل في حديثة المتأوه مع زملاء الزنزانة: على إسماعيل سبيع، و محمد عبد المنعم شاهين، و كمال أحمد إبراهيم، و يوسف فرج يوسف فقال:
طلب مني حسن كفافي الاعتراف بانتمائي إلى تنظيم سري للإخوان المسلمين، وإننا نتآمر على «قلب نظام الحكم» والعمل على تغيير دستور الدولة بالقوة.. ولما لم أمتثل له أنهال على ضربا بالسياط وبعد أن تعب أمر بعض الجنود بشد وثاق قدمي ويدي ومواصلة الضرب بالسياط بغية حملي على الاعتراف.
ويستطرد شهود الرؤية وزملاء المجني عليه في روايتهم قائلين:
«وظل المجني عليه يردد هذه الواقعة في الزنزانة ثلاثة أيام متوالية، تفاقمت فيها إصاباته، وتورمت ساقاه وتغير لونها، وكانت تنتابه حالات إغماء إلى أن فقد الوعي نهائيا. .وهنا طرقنا باب الزنزانة «99» مخالفين بذلك التعليمات، ومعرضين أنفسنا لخطر الضرب والتعذيب .. ولكن ما حيلتنا وواحد منا يموت..!!
«المهم أن أحد الجنود حضر، وسمح لثلاثة منا: على سبيع، و كمال أحمد، و يوسف فرج، بنقل الشهيد إلى فناء السجن الكبير بجوار حوض المياه حيث ترابيزة غيار «الميكروكروم».
ويستكمل الثلاثة الذين حملوا الشهيد الرواية.. رواية بقية المأساة قائلين:
«وصلنا إلى ترابيزة الميكروكروم.. وما أن وضعنا الشهيد على الترابيزة حتى فارق الحياة.. ولاحظ شاويش من السجن ذلك، فامرنا بالدوران إلى الخلف والجري سريعا «مرش» إلى الزنزانة!
من ثقب الزنزانة شاهدنا إجراءات الدفن...
ويسطرد شهود الرؤية الثلاثة في شهادتهم: نفذنا أمر الشاويش وعدنا إلى الزنزانة.. وفي الزنزانة أبلغنا زميلنا الرابع محمد عبد المنعم شاهين بخبر موت محمد علي عبد الله.. فقام بالنظر من ثقب الباب وهو ما يطلق عليه اسم «النظارة» فرأى شاويش السجن نجم الدين مشهور يأمر بعض الجنود بنقل الجثة بعد لفها في بطانية إلى حجرة تسمى المخزن.. بالدور الأرضي بجوار بوابة السجن الكبير.. ثم حضر بعض الجنود بعد ذلك إلى الزنزانة وأخذوا منها كافة مهماته.
حسن كفافي ... هو القاتل
وينفرد الشاهد يوسف فرج من زملاء الشهيد محمد عبد الله بالزنزانة «99» علاوة على كل ما سبق –بشهادة عن القاتل حسن كفافي فيقول:
«بأنه في أحد الأيام استدعى هو والشهيد للتحقيق واقتيدا معا للمكاتب حيث دخل المجني عليه مكتب حسن كفافي.. أما الشاهد فقد وقف أمام المكتب المجاور والذي كان يجري التحقيق به المتهم رياض إبراهيم».
ويقول الشاهد:
بعد قليل شاهدت بعيني المجني عليه مقيدا إلى فلقة تتدلى من مظلة خشبية أمام مكتب حسن كفافي.. وشاهدت بعض الجنود ينهالون على الشهيد بالسياط، بأمر حسن كفافي، إلى أن صدر الأمر بإعادتنا إلى الزنزانة، بعد انتهاء التعذيب، أو التحقيق كما كانوا هم يطلقون عليه في السجن الحربي.
ولما أنزل الشهيد محمد على عبد الله من الفلقة، كان مصابا في قدميه وساقيه إصابات أعجزته عن السير، فحمله الجنود إلى الزنزانة .. ..وكنت في صحبتهم أيضا...!
روح طاهرة:
وهكذا .. ارتفعت إلى السماء روح طاهرة لتستقبلها الملائكة بالبسمات لتجعلها في جنات الخلد مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.. وليكتب المولى سبحانه وتعالى أن أثما كبيرا وقع على أرض مصر اهتزت له السماء.. ولا يمكن أن تهتز السماء دون أن تهتز الأرض التي وقع عليها الإثم.. ولكن كل شيء بميقات.. وتضحكون وتضحك الأقدار. .. وتكيدون وكيد الله أكبر.. وتمكرون ويمكر الله والله خيرا الماكرين.
تحية لفتحية...
وللحقيقة يجب أن نقرر أنه إذا كانت السماء ما تزال فرحة بروح طاهرة صعدت إليها ..وهي متمسكة بإيمانها بالله.. والوطن.. والحق، هي روح الشهيد محمد عبد الله فإن الأرض ما تزال تنعم بأ، تدب عليها أخت مناضلة... بطلة.. كريمة.. هي فتحية زوجة الشهيد محمد علي عبد الله. التي قاومت كل شياطين المغريات... برغم محاولة الجلادين الجادة لدفع الزوجة الأم فتحية بكل الأساليب الشيطانية إلى طريق الغواية .. ولكنها صمدت.. وكافحت وتمسكت بشرفها وإيمانها.. ولم تستسلم لليأس. أنهم أحاطوا بكل ما يدعو إلى اليأس .. وكان حصاد هذا الصمود البطل وذلك الإيمان الراسخ لسيدة مصرية أنها عاشت لترى بوادر انتصار الحق والحقيقة.. فألف تحية لفتحية، ولكل مصرية من طراز الأخت فتحية.. على طريق النضال.
بسم الله الرحمن الرحيم
«ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها.. ولهم أعين لا يبصرون بها.. ولهم آذان لا يسمعون بها.. أولئك كالأنعام بل هم أضل.. أولئك هم الغافلون»
صدق الله العظيم
الفصل السادس : القاتل الأسود زوج السويسرية الذي أذل المصريين
• قاتل بقرار جمهوري وحسناء سويسرية.
• أهم جريمتين بدأ بهما القاتل مسيرته في عالم الجريمة!
• مهمة قائد المباحث العسكرية بتأديب الشعب المصري..!
• الحقيقة وراء التجريدات المغولية على الشعب المصري.!
• المحامون في عشش الفراخ..!
• من الذي ساعد حسن خليل على الهرب من مصر..!
• اعتراف وهروب ومستندات جديدة..!!
إجرام بقرار جمهوري
تعلم حسن خليل كيف يحطم نظم بلاده، وقوانين بلاده حتى وهو يحب .. فقد كان ملحقا عسكريا وأحب سويسرية, وبدلا من أن يستقبل من الجيش من أجل الحب وزواجه ممن يحب كما تقضي بذلك قوانين الجيش.. سمى إلى خرق هذه القوانين .... وهنا عرف طريقه إلى «شمس بدران»، وعرف شمس بدران طريقه إلى صيد جديد، يستعبده بذلة جديدة.. ويستغله لتحقيق أهدافه ونزواته.
سعي الصاغ حسن خليل إلى شمس بدران مدير مكتب المشير عامر راجيا أن يمكنه من زواجه من السيدة السويسرية التي يحبها، وأن يبقى بالجيش، رغم مخالفة ذلك لقوانين البلاد.. ووجدها شمس بدران فرصة جديدة، إلى رجل جديد من رجاله يضمن ولاءه له بهذا الخرق للقانون ويضمن تسيره على هواه، وفي الطريق الذي يريده.. كان لابد من استصدار قرار جمهوري باستثناء حسن خليل من ضباط الجيش الذين يمنع القانون زواجهم من أجنبيات حرصا على سلامة وأمن البلاد، وعدم تسرب أسرار الجيش عبر الأجنبيات.
ورفع شمس قرارا بذلك إلى جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية في ذلك الحين لتوقيعه.. ولكن جمال تأخر في توقيع القرار تحسبا.
ولأن شمس كان يتعجل استغلال «صيده» الجديد بعد «كسر عينه» فقد ذهب إلى جمال عبد الناصر، تحت إلحاح الصاغ حسن خليل، وخرج شمس من عند جمال عبد الناصر والقرار الجمهوري في يده، باستثناء الصاغ حسن خليل ضابط الجيش من قانون عدم زواج ضابط الجيش من أجنبيات..!!
وهكذا بدأ الرجل حياته بالافتئات على قانون عام هام من قوانين البلاد.. فكيف لمثل هذا الإنسان أن يحافظ على القانون طوال حياته .. أمر مشكوك فيه طبعا..!!
لقد بدأت رحلة الصاغ حسن خليل في عالم الجريمة بقرار جمهوري أصدره له جمال عبد الناصر بمعاونة شمس بدران... هكذا بدأت خطواته على طريق الجريمة تزداد إيغالا فيها.. يكبر مع الجريمة, وتكبر الجريمة به.
جريمتان بدأ بهما القاتل مسيرة الجريمة في حياته:
لما كان لابد للصياد أن يستغل كلب صيده أحسن استغلال كذلك كان لابد لكلب الصيد أن يمارس هوايته وولعه بالصيد.. وهكذا اجتمعت الإرادتان.. إرادة شمس بدران و حسن خليل. على أهداف واحدة.
ولما كان لابد لكلب الصيد أن يمارس هوايته في عالم الجريمة لصالحه، ولما كان مكر الثعلب في شمس بدران يعرف أنه كلما ورط كلب صيده في جرائم شخصية، كلما ضمن ولاءه له، وتنفيذه لتعليماته بعد ذلك... من هنا ساعد كلاهما الآخر على تحقيق مآربه وهواياته –كلب الصيد وصاحب الكلب.
بدأ حسن خليل أولى خطواته على طريق الجريمة بجريمتين، أولا إكراه تاجر بالأزهر على أن يدفع له مبلغ 2500 جنيه.. والثانية السطو على شقة مهندس على النيل وعلى وجه التحديد في عمارة «فرانسوا تاجر» وطرده منها لكي يجعل منها عشا للزوجة الجديدة.. محبوبة القلب السويسرية.
مارس ذلك قبل أن يعينه سيده الجديد، وولي نعمته شمس بدران «مديرا للمباحث الجنائية العسكرية» في 15 نوفمبر 1962.
الملحق العسكري السابق.. قادم من الخارج بثلاثة أشياء. .. سيارة مرسيدس.. ومحبوبة سويسرية.. ديون لمكتبه يعلم الله إن كانت نتيجة غرقه في ملذات أعمال الملحق العسكري..!! أو نتيجة غرقه في عسل حب الأجنبيات..!!
الملحق العسكري يبيع السيارة المرسيدس لأحد تجار الأزهر ويتقاضى من ثمنها خسمة آلاف جنيه.. ويبقى على التاجر 2500 جنيه اتفق البائع والشاري في عقد بيع بإرادتهما الحرة, أن يسدد المبلغ الباقي بعد سنتين وهي المدة المفروض انقضاؤها بحكم القانون على السيارة المستوردة لكي يمكن بيعها ولكن الملحق لا يسدد ديونه لمكتبه.. وتمتد يد صديقه شمس بدران .. لتخدش حياء القانون أولا، ولتساعد «الصيد» أو «كلب الصيد» الصديق ثانيا.. أرسل ضابط الشرطة العسكرية إلى تاجر الأزهر ليطالبه بسداد مبلغ الـ2500 جنيه للملحق العسكري «اللص» .. ويقول التاجر: حرام أنه اتفاق مكتوب.. لا تعبأ المباحث العسكرية، وتجره إلى الصاغ الملحق العسكري.. ويناشد التاجر ضمير حسن خليل في صورة الوفاء بالدين المكتوب.. ولكن سلاح التهديد يظهر .. لا فائدة الدفع أو الحبس والبهدلة.. ويدفع الرجل وهو صاغر.. تماما كأسرى الحرب.. !!
ويتقاضى الصاغ حسن خليل الـ2500 جنيه لكنه لا يسدد منها ديونه لمكتبه، بل ينفقها على عش الزوجية المغتصب على النيل.
ويقهقه الشيطان في أعماق شمس بدران.. هكذا يجب أن يكون رجاله دائمي الولاء له.. بما لهم عليه من ديون، وبما هم متورطون فيه من جرائم مخجلة..!
ومنذ ذلك التاريخ بدأت سلسلة من الجرائم في حق هذه الأمة .. ارتكبها المباحث الجنائية بقيادة قائدها الجديد حسن خليل. .بدأ ثلاثون ضابطا وخمسمائة جندي يلبسون الملابس المدنية ويقومون بأعمال إرهاب وترويع للشعب المصري بكافة طبقاته وهيئاته.. وامتد عبث هؤلاء إلى كل مكان يمكن أن تصل إليه أيديهم ..بل إلى كل مكان بعيد عن أيديهم أيضا.
مهمة قائد المباحث العسكرية تأديب الشعب المصري
وإحقاقا للحق وإرجاعا لكل فضل إلى ذويه ..فإن تدخل المباحث الجنائية العسكرية في مجال الحياة العامة على الصورة التي سنبينها لم يبدأ بشكل وبائي إلا عقب خطبة لجمال عبد الناصر في مجلس الأمة في ذلك الحين، أعلن فيها أنه سيوجهها إلى المجمعات الاستهلاكية... وعندما انطلقت المباحث الجنائية العسكرية بقيادة حسن خليل، كمجموعة من مصاص الدماء المتعطش لمص دماء الناس في كل مجال.. وفي كل اتجاه.. وكان الذي يدفع الثمن دائما هو الإنسان المصري.
في السياسة: كان لهم الدور الأكبر في تلفيق قضية حسين توفيق ومحاولته اغتيال جمال عبد الناصر، وأيضا تلفيق قضايا «الإخوان المسلمون» وتعذبهم وقتلهم في السجن الحربي عام 1965.
في المؤسسات العامة: كانت كل مؤسسة في مصر في ذلك الحين معرضة لتجريدة من «فرقة حسن خليل» في المباحث الجنائية .. لا لسبب إلا لهوى في نفس شمس بدران لتحقيق أهدافه السياسية في السيطرة على الحكم، ونزواته، الشخصية في سحق إرادة معارضية وتدبير المكائد لأي إنسان لمجرد أنه من أتباع فلان أو علان أو إلى أحد أصدقائه أو أقاربه، بل وصل الأمر إلى حد أن أي شكوى مجهولة كفيلة بشن تجريدة على أية هيئة أو مؤسسة عامة دون مراعاة لأية أصول قضائية أو قانونية.. وما هو القانون وما هو القضاء ما دام هؤلاء الذين أطلقوا على الشعب المصري –قد منحوا حق الضبطية القضائية .. بل وحق إهدار أي قانون، يقف عقبة في سبيل أغراضهم... كان أي إنسان معرضا للاحتجاز لمدد طويلة في غير السجون العامة.. كالحربي وزنازين المخابرات العامة وزنازين الشرطة العسكرية في عابدين وغيرها دون أن يعرف أهله أين هون وأحيانا دون أن يعرف لماذا حدث له ذلك، أنه ليس له أن يسال لماذا يعذب.. عليه في النهاية أن يعترف بما هو منسوب إليه .. وأحيانا لم يكن في النهاية يستخلص ما يمكن أن يشكل أمرا ينسبه إلى الإنسان المعذب، أو المحتجز تحت وطأة أعمال تعذيب جنونية كان يجبر بعض المحتجزين فيها على شرب بوله مثلا.... لذلك كان يطلق سراح المحتجزين ولا من شاف ولا من دري..!! وعلى المحتجز أن يعلم أن هناك من يستطيع أن يلقنه علقة تأديبية أسوأ من تلك التي جرت عليه إن هو تفوه بكلمة عما جرى... يعني يجب أن يقطع الخوف لسانه فلا يتفوه بكلمة كده وإللا كده..!!
تجريدات مغولية على الشعب المصري:
وهكذا انطلق حسن خليل، ومجموعة العاملين معه من ضباط وجنود الشرطة العسكرية، يؤدبون الشعب المصري بكل طوائفه.. واتجاهاته.. حدثت تجريدة على جريدة الجمهورية .. .لاقي حقه من التأديب فيها الزملاء الأفاضل إسماعيل شوقي .. و عبده خليل.. ووليم مرقص... و سعيد النادي.. ذاقوا الهوان في زنازين الشرطة العسكرية بعابدين.. اقلها إجبار بعض منهم على شرب بوله.. ولم يثبت في النهاية شيء على الضحايا الأبرياء..
وحدثت تجريدة مشابهة على مؤسسة المطاحن، وحدثت أيضا تجريدة على مؤسسة سينا للمنجنيز.
تجريدات كثيرة.. مثل تجريدات الجيش الإنجليزي على المؤسسات الوطنية.. كانت تقوم بها قوات حسن خليل قائد المباحث العسكرية على أية مؤسسة.. دون إذن نيابة ... أو أية جهة مسئولة ... ودون ما مراعاة لأية أصول أ و أي عرف أو قانون.. كانت تجريدات أقل ما يمكن أن يطلق عليها أنها تجريدات همجية.. على غرار تجريدات هولاكو والمغول على العالم الإسلامي.
محامون في عشش الفراخ
ومن تجريدات شرطة حسن خليل العسكرية تجريد كمشيش المشهورة. تلك التجريدات ذات قصة طويلة، حيث وضع فيه محامون كبار في عشش الفراخ وأجبروا على أن يحدثوا بأفواههم أصواتا مماثلة لما يحدثه الدجاج وهو يبيض.. وتلك كانت بداية ملحمة التعذيب الرهيبة التي تعرض لها أهالي كمشيش على يد رجال حسن خليل من أمثال رياض إبراهيم وغيره.. وفي كل هذه التجريدات كانت تستباح كل الحرمات ... ولا يكون لأي شيء قدسية تماما كما كان يفعل المغول عندما يستبيجون مدينة من المدن الإسلامية والعربية في زحفهم المعروف على الشرق بقيادة هولاكو.
الانتقام من رجال وزارة التموين
هكذا تحولت المباحث الجنائية بقيادة رجل شمس بدران «حسن خليل» إلى سوط يلهب به ظهر من يريد، ويروع به من يغضب عليه، ويعصف بمن يريد العصف بهم، وفي ذات الوقت تنفذ أهدافه السياسية في الزحف على أجهزة الدولة بقصد السيطرة على الحكم.. ومن الوقائع التي تؤكد ذلك... واقعة توزيع الأسماك.. حيث اتفق على استيراد كمية من الأسماك المثلجة لمواجهة نقص اللحوم في البلاد وكان وزير التموين ونائب رئيس الوزراء في ذلك الحين هو كمال رمزي ستينو.. ويطالب شمس بدران بأن يتولى الجيش توزيع السمك .. ويعترض دكتور كمال رمزي ستينو.. ولأول مرة يجد شمس بدران من يعارضه، بل وينتصر عليه، لأن عبد الناصر تدخل وأمر بأن يترك توزيع الأسماك لوزارة التموين.
ولكن نتيجة معركة كهذه لا يمكن أن ترضي سفاحا كشمس بدران.. وبإشارة من أصبعه يعطي الضوء الأخضر «لعميله» حسن خليل كي ينطلق في أثر رجال وزارة التموين يبحث عن ثغرة ينقض منها عليهم.. وذلك عله يجد ما يستطيع عن طريقه أن يشهر بهم، وبسوء إدارتهم لسير الأعمال. .. فيحقق بذلك نصرا على الدكتور «سيتنو» يعوض به الهزيمة الماضية. وفعلا تتصيد المباحث الجنائية مجموعة من المعاونين للوزير كمال رمزي استينو في مؤسسة الصوامع والغلال . وتقوم بحملة إعلامية واعتقالية واسعة.. وتطالب بتقديم بعض معاوني وزير التموين إلى المحاكمة وبالفعل يقدمون وتثبت براءتهم. ولكن شمس لا ينهزم .. فعندما يصدر رئيس الدولة قرارا بإعادة هؤلاء إلى أعمالهم وينشر القرار في الصحف.. يوقف الدكتاتور القاتل تنفيذ القرار.. حتى لا تكون الهزيمة نصيبه في النهاية ولكنه نسي الحكمة القائلة «العبرة بالخواتيم»؟
من الذي ساعد حسن خليل على الهرب؟
المهم أين حسن خليل الآن .. لم يسال إلا في قضية واحدة من كل قضايا التعذيب التي هو فيها تقريبا قاسم مشترك أعظم.. ذلك أنه عندما أحس الخطر.. هرب إلى لندن في 12 يناير 1976 ..لحق بسيدهشمس بدران .. والسؤال كيف هرب.. ومن الذي ساعده على ذلك.. مطلوب الإجابة على هذا التساؤل ... ولعل الإجابة تسفر عن حقائق خطيرة تؤكد تغلغل جيوب مراكز القوة وأجهزة الجستابو القديمة في كل مؤسسات الدولة، وخاصة ف المراكز الحساسة....!!
اعتراف وهروب ومستند جديد!!
إن القضية الوحيدة التي سأل فيها الجلاد الهارب «حسن خليل» هي قضية تعذيب المستشار على جريشة لإجباره على الاعتراف بالتآمر على قلب نظام الحكم وتغيير دستور الدولة بالقوة والانتماء لجماعة الإخوان المسلمين.. فماذا قال فيها؟
- قال: «كنت ضابطا بالجيش برتبة عقيد... وكنت أشغل منصب رئيس فرع المباحث الجنائية العسكرية...وقد كلفت أنا والضباط التابعون لي بتتبع التنظيمات السرية لجماعة الإخوان المسلمين.. والتي أشرف على التحقيقات الخاصة بها في السجن الحربي شمس بدران مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر آنذاك... وعملي انحصر في جمع التحريات عن أعضاء هذه التنظيمات، وتجهيز الحملات للقبض على المتهمين، وتقديمهم لشمس بدران في السجن الحربي هكذا اعترف الجلاد الهارب بأنه كان يجمع التحريات وكان يجهز الحملات للقبض على الناس ... حملات الإرهاب البربري بعد منتصف الليل ويحاول أن يقف عند هذا الحد ليلقى بتهمة ما حدث داخل السجن الحربي على ..شمس بدران سيده.. وإذا كان المتهم قد اعترف بداية بأنه كان يجهز الحملات للقبض على الناس. فإننا نقول له: إذن فأنت مسئول عما حدث للناس أثناء القبض عليهم، فأهالي كمشيش ما زالوا أحياء يشهدون على جرائمك وجرائم أتباعك .. وأيضا موظفو دار التحرير للطبع والنشر ما زالت وحشية المباحث الجنائية العسكرية عند مهاجمتها للدار محفورة في أذهانهم... وكذلك الجمعيات التعاونية... وكل من داهمتهم أنت في ظلمة الليل لتختطفهم من بين أهليهم وذويهم لتسلمهم إلى شمس بدران على حد تعبيرك.
وإن كان شهود الرؤية يكذبونك في ذلك أيضا حيث قال محمد جمال الدين الشرقاوي مدير الشركة العقارية أمام مكتب تحقيقات قضايا التعذيب أنه قبض عليه يوم 23 يوليو 1965 ولما سألته أنت عن نشاطه السياسي ومحاولته قلب نظام الحكم أنكر ما نسب إليه فأمرت جنودك بتعذيبه لحمله على الاعتراف . ثم بعد ذلك أمرت بنقله إلى السجن الحربي.
ونحن اليوم وعلى صفحات كتاب «شهداء وقتلة» نقدم للنائب العام مستندات جديدة على تدخلك، وتدخل زبانيتك في التحقيقات التي كانت تجري تحت وطأة التعذيب بالسجن الحربي.. وهي عبارة عن صورة خطية أخذت من المتهمين في قضايا الإخوان المسلمين عام 1965، تحت وطأة كرابيج زبانيتك وكلابهم البوليسية المتوحشة.... منها وصية كتبها صاحبها واسمه محمود أحمد فخري... ويبدو أنه كان قد أشرف على الموت من التعذيب فكتب وصية لوالدته ووالدة وأخوته... وذكر لهم أنه أن مات فسيموت شهيدا...
ولكنه لم يذكر سبب موته طبعا... وذلك دليل على أن رجالك هم الذين كانوا يشرفون على انتزاع مثل هذه الاعترافات تحت الإكراه البدني والتعذيب الوحشي الذي رواه شهود الرؤية العديدون .. وهذه الصورة الخطية من أحد رجالك وهو النقيب هاني إبراهيم أحمد المتهمين في قضية مقتل إسماعيل الفيومي.
ونحن إذ نرفعها إلى النائب العام راجين التحقيق في كيفية صدورها من أصحابها.. نرفع معها صورا للمتهمين من شباب الإخوان المسلمين في قضايا عام 1965.. وحالتهم باد عليها التعذيب، وواضح من رؤوسهم الحليقة تماما.. وفي الجروح الناطقة بالصور.
إن هذه الصور لهي أبلغ دليل على ما كنت تقوم به أنت وزبانيتك من تعذيب الأبرياء والعزل ... وسبحان الله.... هل كنت تتوقع أن تظهر هذه الصور اليوم؟ مؤكد أنك لم تكن تتوقع مثل هذا اليوم... ولكنها إرادة الله القادر على أمثالك يا مسكين.. ممن أعماهم جبروتهم فنسوا أن الله يعز من يشاء ويذل من يشاء ...ويؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء.. وهو على كل شيء قدير.
بسم الله الرحمن الرحيم
" رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين "
صدق الله العظيم.
الفصل السابع : التعذيب مسئولية من...؟ الجلادين .. أم النظام الذي يحميهم؟
هناك مثل متداول في ريفنا المصري يقول «يعملها الصغار ويقع فيها الكبار» ...وإذا قلنا أن الصغر هم «القتلة» و«المعذبين» و «الجلادين» من أمثال شمس بدران، الروبي، و حسن خليل وغيرهم ..يصبح الكبير هنا هو النظام ... النظام في البلد الذي تقع فيه جرائم التعذيب، وجرائم الموت من التعذيب .. ثم النظام العالمي عامة.
أما مسئولية النظام القائم في البلد الذي يقع فيه جرائم التعذيب فهي مسئولية مباشرة.. لأن النظام يطلق عليه نظاما لأنه لا يسمح للفوضى بأن تكون أحد مكوناته.. أو أحد أساليبه، أو أحد مكونات المجتمع المسئول عنه هذا النظام، أو أحدى الحقائق السائدة في ذلك المجتمع... وبقدر خلو النظام من مكونات الفوضى سواء في كيانه أو في المجتمع المنوط به الحكم فيه بقدر ما يكون الحكم أو اكتماله.
من هنا فإنه لا يمكن القول بأن الجلادين والمعذبين مسئولون وحدهم عما ارتكبوا من عمليات تعذيب وقتل... فالنظام الذي أعطاهم سلطة التعذيب أو خولهم حق القتل مسئول مسئولية تضامنية مع الجلادين والمعذبين صغارا كانوا «من كلابه» كالروبي «والنملة» «والديزل» «وخرشوف» «وتمثال الجهل» و «والنوبي» و «سامبو» وغيرهم من المجندين الذين استعملوا أدوات قهر للإنسان. أو «ديناصورات» من عمد النظام «كشمس بدران» و «صلاح نصر» و «حسن عليش» و «محمد عبد الخالق شوقي» وغيرهم مما ستظهرهم الأيام والأحداث.
من هنا فإننا نرى أن النص في الأحكام على مسئولية النظام مع جلاديه له ما يبرره للأسباب التالية:
أولا: أن جرائم التعذيب لم تكن ترتكب أصلا لولا اتصالها هذا الوثيق بوجود نظام الحكم.
ثانيا: إن جرائم التعذيب ل تكن ترتكب أصلا لولا اتصالها هذا الوثيق بوجود نظام الحكم.
ثالثا: أن المعذبين لم يكونوا ليمارسوا علمهم بهذا الشكل المطلق وبتلك السلطات الواسعة التي وصلت إلى حد القتل، والتي اتسمت بإعطاء مجرمي التعذيب ما أطلق عليه في ذلك الحين «علاوة إجرام» إلا إذا كانت هناك حماية من النظام لهم.. بل تفويض كامل من النظام لهم...!!
رابعا: التعذيب لم يكن ليقع في غفلة من النظام أو في غيبة منه، ولا يمكن أن يقال بذلك على الإطلاق، فهذا القول مردود عليه بأن التعذيب كان شريعة سائدة.. وسمع به القاضي فكيف لا يسمع بها الداني...؟!
بالإضافة التي أنه كان يجري في مؤسسات النظام وأجهزة حمايته..؟!
ثم إنه ليس واقعة واحدة أو اثنيتين حتى نقول أنهما تمتا اختلاسا أو خلسة..!!
لكل هذه الأسباب مجتمعة ولغيرها من وصول وقائع التعذيب في حينها إلى أذن كل المسئولين عن النظام فإن كلا منهم يكون منغمسا حتى شوشته في تلك الجريمة البريرية.. وإدانته على ذلك تكون واجبة.. وإشراكه للأفراد الجلادين في المسئولية مسألة عدل وتقرير واقع.
وما هي حدود مسئولية النظام العالمي...؟
وإذا ما طرحنا تساؤلا يقول: هذه هي مبررات مسئولية النظام المحلي عن جرائم التعذيب التي تقع في مجتمعه، فما هي مسئولية النظام العالمي عن تلك الجرائم الخارجية عن سلطانه...؟!
تكون الإجابة المنطقية على هذا التساؤل المطروح: إذا كان النظام العالمي قد وصل إلى قوانين تحمي الإنسان وحرياته وحقوقه.. وتحمي المجتمع العالمي من خطر أسلحة «كالغازات القاتلة» و «الأسلحة الذرية» ... وتم من أجل ذلك عقد المعاهدات، وتم وضع العقوبات المرتبة على مخالفة ذلك.. فإنه من المهم ... بل من الضروري والحتمي حماية الإنسان من أخطر أسلحة تجريده من إنسانيته... ذلك السلاح هو التعذيب وهو لا يجرد «الإنسان» الواقع عليه التعذيب وحده من آدميته وإنسانيته بإهداره لهذه الآدمية ولحقوقه الإنسانية.. بل أنه يجرد حتى الجلاد «فاعل» التعذيب من هذه القيمة الإنسانية التي ميزه الله سبحانه وتعالى بها عن الحيوانات المتوحش وذلك بارتكابه لهذه الفظائع التي يندى لها جبين البشرية .... ويخجل منها الإنسان .. أيا كان.. وفي أي مكان.. فلا يمكن لبشر أن يقرأ ويفخر بالذي حدث في مصر، من أمثال الذي دار في «باستيل مصر الحربي» وفي غرف وزنازين التعذيب جميعها بشهادة شهود لا سبيل إلى تكذيبهم، وبوجود بصمات التعذيب باقية على أجساد الضحايا... وهي أدلة مادية لا يمكن إنكارها.
والدليل الأهم سقوط بعض الضحايا قتلى من التعذيب.
مطلوب معاهدة لخطر تعذيب الإنسان...!!
من هنا فإن سن تشريع عالمي يحرم التعذيب ويضع العقوبات الرادعة للنظم السياسية التي تتبعه ضد مواطنيها كوسيلة لانتزاع اعترافات من المتهمين في القضايا ... أيا كانت... سياسية وغير سياسية.. أو اتباعه لقهر الخصوم السياسيين للنظام في المعتقلات ... ومعسكرات غسيل المخ...!!
مثل هذا التشريع العالمي في عصر الحضارة، أصبح ضرورة لحماية الإنسان من أفتك سلاح يدمر إنسانيته... حيث أن هذا السلاح أضحى من الأسلحة التي لا تقل خطورة على الإنسان من «الغازات السامة» أو من «خطر السلاح النووي».
من هنا يصبح مطلب عمل معاهدة «لتحريم التعذيب» أو «حظر التعذيب» مطلبا إنسانيا وحضاريا ملحا، لحماية الإنسان من أخطر أسلحة دمار إنسانيته.. .وسلاح أشد فتكا من الغازات السامة إذ الأخيرة تخنق الإنسان في لحظات، وينتهي كل شيء أما التعذيب فهو يسبب للإنسان آلاما غير محدودة قبل أن يفتك به.. وسلاح التعذيب أبشع من السلاح الذري حيث أنه لا يترك بصماته على جسد الإنسان فحسب، بل يتركها بشكل أعمق على نفسيته وعقله في أغلب الأحيان.
ونقترح أن تنضم إلى هذه المعاهدة «معاهدة خطر تعذيب الإنسان» كل دولة منضمة إلى الأمم المتحدة، وأن رفضت أو خالفت نصوصها تفصل من الأمم المتحدة وتوقع عليها العقوبات الرادعة والمناسبة للمخالفة.
ذلك اقتراح من أجل الأمان في عهد روع بتعذيب الإنسان، كما لم يروع في عهود الغاب والديناصورات وسيادة الحيوان.
لهذا الكتاب بقية
أنها البداية وليس النهاية.. إن انتهاء الصفحات في هذا الجزء من الكتاب لا يعني نهايته.. فكتاب الطغيان ما يزال مفتوحا، وحافلا بالأخبار والأسرار التي لم ننته بعد من سردها... والتي تعتبر ملكا لهذا الجيل، والتي هي بالتأكيد حقائق يجب أن تعرفها وتعيها جيدا الأجيال القادمة.. حتى لا تترك أمرها أبدا في يد مطلقة لطغاة جدد يصنعون من أحرارهم شهداء، ويقتلونهم غيلة وغدرا ويدفنونهم تحت جنح الظلام في رمال صحراء القاهرة.
أن مقبرة الطغيان في مدينة نصر ما تزال تضم بين رفات الأحرار فيها المزيد من شهداء البطش والقهر والتسلط.
ومن المؤكد أن هؤلاء الشهداء كانوا طرازا فذا في الصمود والجلد.. ورمزا للإيمان الواثق بربه وشعبه وبلده.. ولذلك لم يستسلموا حتى أسلموا الروح..!!
من هنا كان لابد أن نقدم قصص حياتهم.. وقصص مقاومتهم واستشهادهم الباسل من أجل مبادئهم.
ومن هنا كان لابد أن نقم الطراز الأخر أيضا .. .طراز الآدميين الجبناء الذين تخصصوا في تعذيب العزل، هذا الطراز من الوحوش الآدمية التي كانت تتقاضى ما يسمى «علاوة إجرام » لكي تعذب، وبوحشية أبناء مصر من أصحاب الرأي والعقيدة ... وكم قتلوا وهم يعذبون..؟! وكم تركوا من الرجال الأصحاء الأقوياء ذوي عاهات ..ومرضى مدى الحياة .. يعيشون وبصمات التعذيب فوق أجسادهم ونفوسهم...؟! أن في حياة هؤلاء «الشهداء» و «الجلادين القتلة» قصة مصر.. وقصة كفاحها من أجل الحرية و الديمقراطية .. وقصة الشعب المصري الذي لم يستسلم طوال خمسة وعشرين عاما سقط خلالها مئات من الضحايا على درب النضال.
إنها لقصة حزينة مخضبة بدماء الضحايا الأبرياء ... ولكنها أيضا قصة فذة، فيها روعة البطولة والشجاعة والفداء.
إن في حياة الشهداء وقتلتهم.. قصة مصر المهزومة, والمنتصرة في آن واحد..!!
إن في المجرمين والأبطال عبرة وعظة.. أن شهداء مصر بغير شك شموع على طريق الحرية..!!
كما أن قتلة الشهداء –بغير جدال طلائع خزي وعار.. بشروا بالهزيمة قبل أن تحدث بسنين طوال..!!
والقصة مع هؤلاء .. وهؤلاء.. يجب أن يعرفها شعب مصر الباسل بكل طبقاته.. وليس ما تضمنه هذا الجزء من «مجموعة» «شهداء وقتلة» إلا حلقة في سلسلة كتب انتهى جزءها الأول ليبدأ جزءها الثاني ... وهي أيضا حلقة من تاريخ مصرالماضي والحاضر والمستقبل...
وها هي محاكمات هؤلاء المجرمين تجري.. وقد حاولنا تتبعها وعرض بعضها في هذا الجزء من الكتاب مع عرض حياة الشهداء والقتلة.
وإن كنا قد أعددنا هذا الجزء من الكتاب على عجل ليواكب حكم القضاء في أول دفعة من قضايا التعذيب حتى الموت، فإننا نعد القارئ بأن تكون الحلقات القادمة للكتاب أكثر دراسة..
وإلى اللقاء مع حلقات أخرى من تاريخ مصر المصنوع بدماء شهدائها وصمود أبنائها.. وسياط الجلادين من طغاتها.