عبد الله العبيدي
مقدمة
- واحد من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. ونصره الله العظيم في إحدى المعارك التي خاضها مع أعداء الله والإنسانية.
- والجود بالنفس أقصى غاية الجود.. كلمات قليلة ومدلولاتها كبيرة.. هذه الكلمات تعبر عن المرء الذي يحب شيئا ويضحي فيدفع روحه أو حياته من أجله.. ولا يعرف كيف يكون الجزاء.
- فأقصى غاية الجود وأحسنه وأكرمه من يدفع حياته وروحه ثمنا في سبيل الله العزيز الحكيم ولأجل نشر الدعوة الإسلامية. ولا يقف عند حد في السعي من أجلها حتى تبلغ مداها الأرحب والأوسع أو عندما يراها قد تظل بظلها الوارف كله.
- وهنا تكمن السعادة الحقيقية لمن يعتنق الإسلام الحنيف ويضحي من أجله فيرى أشد العذاب والويل والثبور ولكن كل ذلك هينا طالما كانت النية خالصة لوجه الله العلي القدير.
- وفي هذه المرة نروي قصة حقيقية لأحد الرجال الذين طبقوا قول الله القادر العظيم وكما جاء في الآية الكريمة (ومن المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه).. وعلى لسان السيد عبد الله عبد الواحد إسماعيل علي العبيدي.
نشأته
- ولد في بغداد الكرخ الشيخ صندل 1937 م.
- درس في مدرسة الشواكة الابتدائية.
- اتم الدراسة المتوسطة في متوسطة الكرخ.
- وأكمل دراسته في الثانوية الكرخية المعروفة بهذا الاسم.
- دخل الكلية العسكرية عام 1957.
- تخرج فيها برتبة ملازم ثان عام 1961.
- التحق في القاعدة البحرية في البصرة للتخصص في الشؤون البحرية وحتى رتبة نقيب بحري.
وهناك في البحر متلاطم الأمواج والرياح الشتوية العاتية التي تجعل هيجان البحر وارتفاع أمواجه بارتفاعات كبيرة ونحن على ظهر السفينة العراقية التي سميت باسم إحدى المعارك البحرية الإسلامية (ذات الصواري) تدفعها الأمواج في كل اتجاه..
وعلى ظهرها تتجلى قدرة الله العلي العظيم حيث نرى بين دخول مياه شط العرب عند التقاء نهري دجلة والفرات الخط الفاصل بين ملوحة مياه البحر والمياه الحلوة القادمة من التقاء نهري دجلة والفرات.. والذي يسمى (البرزخ) كما جاء في القرآن الكريم.
أما إذا جن عليك الليل الموحش وهذه الأمواج التي تريد أن تبتلع السفينة ومن فيها تقف أمام إرادة الله العلي العظيم حيران ليس لديك حل سوى الدعوة إلى الله القادر.
فتخر ساجدا لله القدير على عظمة قدرته وإرادته، وهنا وأنت في هذا المكان البعيد عن الأهل والأحبة وأنت مليء بالهموم من شدة هول الرياح والأمواج وانت في عباب البحر ليس أمامك إلا أن تستسلم وتنطق بالشهادتين وتسأل الله السلامة.
اماكن وأحداث تشهد له
وأمام ذلك كله وتحديدا في تموز عام 1971 وبعد التوكل على الله قمنا ومعي بعض الطيبين من المسلمين بافتتاح مسجد صغير داخل هذه السفينة وقد تم تأثيثه من تبرعات الشباب الذين هم من العسكريين الموجودين على ظهر (ذات الصواري)..
وقد اختارني أخوتي في الله على أن أكون إماماً للمصلين في الصلوات المفروضة وأمام كل الذي يحدث لنا من مخاطر كان المسجد يمتلئ بالمنتسبين من طاقم (ذات الصواري).. وكنا نتحدث أثناء الصلاة وفي أيام الجمعة عن ان المنجي هو الله القادر وليس لنا سواه.. وضرورة التقرب إلى الله العظيم.
وبعد انقضاء الصلاة كان عدد من المصلين يحتفون حولي ويسألوني عن الصلاة والعبادة والوضوء وصلاة الجمعة والعيد وغيرها من الأسئلة التي كنت اجيبهم عليها بفضل الله تعالى وكما كنت أرشدهم إلى الطريق السليم الذي يرضي الله الأعظم.. وأقول لهم أن النجاة والخلاص هو التمسك بالإسلام الحنيف.
وتمر الأيام سريعة لأنها أيام سعادة غامرة وفرح كبيران تشاهد فيها طاقم السفينة يأتي ليؤدي الصلاة في أوقاتها متضرعين إلى الله العلي القدير بالمغفرة والتوبة.. وكانت كل الأعمال التي نقوم بها هي تطبيق ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ولم نتعرض إلى الحاكم أو السلطة أو المساس بها وكل الذي كنا نقوله كما جاء في الآية الكريمة (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل: من الآية125). وكل ذلك كان يسيرا بالنسبة الى الدعوة إلى الله العزيز الحكيم واتباع سنة رسوله الكريم.
قضة الاعتقال
وفي الربع الأخير من عام 1971 فوجئت باعتقالي في القاعدة البحرية في البصرة من قبل ممثلين من مديرية الاستخبارات العسكرية وبدون أية مقدمات أو أية أسباب.
وبعد أن اقتادوني معصوب العينين وموثوق اليدين سألتهم ما سبب هذا التصرف لم يجبني أحد منهم ولا أعرف أين مكاني الآن عرفت بعد ذلك إلى أمرية الانضباط العسكري في بغداد وكما هو الحال موثوق اليدين ومعصوب العينين وفي سيارة مغلقة (صندوق حديدي) إلى مكان مجهول شعرت وأنا بهذه الحالة بأنني في مكان أخر.. وسألت إنسانا كان جواري ويمسك بي أين أنا الآن أجابني بأسلوب قذر وبكلام خشن إلا تعلم أنت الآن في (قصر النهاية).. وإذا بي أجلس في غرفة مساحتها متر×متر.
وبعد أن أودعت زنزانة قصر النهاية بوشر معي بالتحقيق فورا حيث كان يحقق معي كل من حسن المطيري ومحمد فاضل مع بعض المحققين وكانت الأسئلة تدور.. حول ارتباطي بالعمل الإسلامي.. ولكنني نفيت ذلك الكلام جملة وتفصيلا.. وقلت لهم أنني اعبد الله كما يعبده الآخرون. فهل هناك ملاحظة بشأن صلاتي.
ثم تكرر السؤال مرة ثانية ليقولوا لي إذا لم تعترف سنرسلك إلى غرفة الموت وأجبتهم بالنفي القاطع الذي لا رجعة عنه.وبعد أن أدليت بهذا الكلام تقدم إليّ شخصان تتسم على وجهيهما علامات الجريمة والإرهاب وأنهما يوحيان إليك أنهما قتلة ومجرمون محترفون.
وبعد برهة قليلة من الزمن انهالوا عليّ ضربا واستخدموا (الكيبل) بالضرب بكل مكان وركلا بالأقدام.. وفي أثناء ذلك بدأت الدماء تنزف من كل جسمي ومن أذني وفمي وأنفي.. ومع ذلك كله كانوا يطلبون مني الاعتراف والإدلاء بالمعلومات عن الارتباطات بالعمل الإسلامي ومن هم الذين تعمل معهم وكيف بدأت العمل.. الخ من الأسئلة وتجاوز ذلك الترهيب الساعة الكاملة دون هوادة أو انقطاع.
ثم جيء بي إلى التحقيق ثانية وسألوني الأسئلة نفسها وأجبتهم الإجابة السابقة نفسها..وقالوا لي وللمرة الأخيرة إذا لم تجب أرسلناك إلى غرفة الموت. وكان جوابي بالنفس القاطع الذي لا رجعة عنه.فأشاروا إلى هذين السجانين ومعنى ذلك أذهبوا به إلى غرفة الموت.
وقبل أن أصلها بخطوة.. أديت الشهادتين.. لأنني كنت متيقنا بأنني لم أعد أرى الحياة ثانية واسلمت أمري إلى الله تعالى وأنني عملت جاهدا لوجه الله العلي العظيم وان مت فالأجر سيكون بقوة الله على الله القدير.
وفي هذه الحالة وأنني أنزف من كل مكان أدخلوني إلى غرفة الموت والتعذيب في قصر النهاية كما أسلفت.. وقد شاهدت في هذه الغرفة. أناسا معلقين في المراوح السقفية من الأيدي.. وآخرين من الأرجل وآخرين من يد واحدة.. وآخرين من رجل واحدة.. وأسمع الأنين من كل مكان..
وهناك قسم معلقون في الخطامات الخاصة بالقصابين وقسم أخر في الأجهزة الكهربائية.. وهناك آخرون يعذبون بأنواع وأشكال الضرب وآخرين يجلسون على الكرسي الكهربائي ذات الفولتية العالية جدا.. وآخرون على الكراسي بين الموت والحياة.. فقالوا لي هذا مصيرك.. وإلا تعترف!!
وفي هذه الأثناء.. فتحوا بوابة حديدية في جدار الغرفة التي تمتلئ بمثل هذه البوابة وهي مساحتها ½ متر × ½ متر.. ففوجئت بان رجلا يجلس القرفصاء في هذه البداية.. وهو هيكل عظمي لم يبق فيه سوى العظم الخاوي والجلد الذي اصبح كالورقة البيضاء. وهو يموت موتا بطيئا.
أن هذا الموقف حقيقة لم استطع نسيانه مادمت حيا.. وهنا أشاروا لي هذان السجانان سنريك أكثر من ذلك.. أو تعترف!! وسألتهم أعترف على شيء لم اعرف عنه شيئاً!!.
عدت مرة ثانية إلى غرفة الموت التي رأيت فيها شتى أنواع التعذيب وبإشراف (ناظم كزار) وآخرها أجلسوني على الكرسي الكهربائي الذي لا مفر منه والموت هو المصير لهذه الحلقة الأخيرة. حيث فقدت وعيي ولمدة 72 ساعة.. ولم أعرف ماذا جرى وأين ذهبت وانها حقيقة كانت رحمة من الله العلي القدير..
وأنني عندما جلست على الكرسي الكهربائي استحضرت أمامي عظمة الله القوي وقلت اللهم أنت تعلم مصيري والأجر عليك ولا اله إلا أنت سبحانك.. وفقدت وعيي.. وكان السجان قد أعطى قوة عالية جدا من القوة الكهربائية لهذا الكرسي الذي افقدني صوابي.
وفي أثناء هذه الحالة جاء (ناظم كزار) يلقي نظرة على الأموات من التعذيب أو الذين مازالوا في التعذيب والموجودين في التحقيق وصل عند جسمي (سمعته يقول القوه في الغرفة ليموت).
في هذه الغرفة لم يأتني أحد لمدة سنة وثلاثة أشهر. باستثناء وجبات لا تليق بالبشر وأنا انتظر ما سيجري لي بعد ذلك.
وجاء يوم اعصبوا عيوني وقيدوني ووضعوني في سيارة (الصندوق) وأذوني وشعرت بأن المكان كان تحت الأرض ومعي كانت مجموعة من السجناء وعند وصولنا قدموا لنا طعاما شهيا من (الكباب، التكة، الكبة) وكل أنواع الأطعمة الأخرى المشهية حيث كان هذا الطعام مسموما بمادة الزرنيخ ومعه حبتان صغيرتان هما اللتان تزيدان مادة الزرنيخ تفاعلا في جسم الإنسان مع الأطعمة لتقضي علينا نهائيا وبصورة بطيئة ولكن...
الحمد لله لم أكل منها.. برغم أننا كنا مراقبين من قبل بعض العاملين في هذا المكان وكانوا يعطوننا الطعام والحبوب إجباريا.
بعد ذلك أخذونا إلى غرفة أخرى في الموقع نفسه وخلعوا جميع ملابسنا ووجهوا علينا أشعة من أجهزة تشبه الكاميرات وشعرت بعدها بحرقة قوية في ظهري.. ويبدو انها جراثيم قاتلة كانت توجه عبر هذه الأشعة لتزيد السجين فتكا وموتا سريعا. وهذه الآثار ظاهرة في جسمي.
بعد ذلك اطلقوا سراحي.وبعد فترة بدأت تخرج حبيبات صغيرة في ظهري وأكلت من ظهري مساحة 40سم × 40سم.. والحمد لله كل عملنا خالص لوجه الله العلي العظيم.
عائلته
وأني لي من الخلق (7) أولاد 4 منهم ذكور و 3 منهم أناث. الذين حاربوهم في ذلك الزمان ولم يعينوا في دوائر الدولة برغم ان شهادتهم عالمية والحمد لله.. ولم يكتفوا بذلك فقد ضربوا أحد أولادي في رأسه وهو معوق الآن.. وأخرجوني من الوظيفة برتبه نقيب بحري.. وهنا أقول أسال الله أن يظلنا في ظله وفي قوله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ) (الأحزاب: من الآية23).. صدق الله العظيم والحمد لله رب العالمين.
المصدر : جريدة دار السلام عدد29