قطعة من وطننا
بقلم / الإمام حسن البنا
فى الأنباء الخارجية الأخيرة أن المجلس الفاشستى قرر اعتبار إقليم طرابلس الغرب وطنا إيطاليا، وكان الأثر العملى لهذا القرار أن نقلت الحكومة الإيطالية 1800 أسرة تتكون من عشرين ألف شخص لنقل الثقافة الفاشستية إلى أرض لوبيا الإسلامية العريقة فى الإسلام.
نقلت الجرائد الإفرنجية هذا الخبر فأثنت على السنيور موسولينى الذى يعمل على تنوير أفريقيا بالمدنية الغربية، ونقلت جرائدنا العربية هذا الكلام بدون تعليق كما تنقل أى خبر عادى كأن الأمر لا يعنيها، وكأن لوبيا هذه من مجاهل الأرض وليست جزءا من الوطن الإسلامى العام، وهكذا نسينا أنفسنا ونسينا أوطاننا ونسينا كل شىء حتى صار أمرنا هينا على كل الناس.
لم تنته قضية فلسطين بعد، وإن كتب أهلها كل يوم صفحة حمراء من دمائهم الطاهرة فى سجل المجد والجهاد الكريم ورووا شجرة الحرية فيها بأزكى الدماء. وفى المغرب الأقصى جهاد وعمل مشكور وإن صحبه الإعنات والإرهاق، وإن من معتقلى زعماء شباب المغرب من لا يعرف أهله عنه شيئا منذ عدة شهور، ومن هؤلاء السيد "محمد علال الفاسي" وإخوانه فى الجهاد، وذلك كله يبشر بخير كثير، فإن اليقظة أول التحرر والخلاص، وفى هذا الوقت تقضى السياسة الإيطالية على ما بقى من معالم الإسلام والعروبة فى أرض عقبة بن نافع والسنوسى وعمر المختار.
أيها المسلمون: منذ الآن ليست طرابلس قطرا إسلاميا عربيا، فقد تفضل السنيور موسولينى فمنحها نعمة اللحاق بإيطاليا وكتب لها فخار التجنس بجنسية الطليان بعد أن كانت تحت راية القرآن.
أيها المسلمون: ستسألون بين يدى الله عن هذه القطعة من صميم الأوطان الإسلامية فى غرب مصر، وفى شرق تونس، وعلى شاطئ بحر الروم، وفى شمال السودان، وليس فيها إلا عربى مسلم. كيف تركتموها طعمة للناهبين وغرضا للطامعين.
أيها المسلمون: إن الوطن الإسلامى لا يتجزأ، وإن كل شبر أرض فيه مسلم يقول لا إله إلا الله، أو رفعت عليه يوما من الأيام راية الله قد صار أمانة فى يد المسلمين قاطبة ولله ولرسوله، ووجب عليهم أن يفدوا حريته بالنفوس والأرواح، وأن يبذلوا فى سبيل المحافظة عليه الدماء والأموال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[الأنفال: 27].
ليست الأقطار الإسلامية المشرقة بنور الإسلام والتى تفيض بأخلص عواطف التراحم والتواد وتعلم الدنيا جميعا أقدس مبادئ الحق والعدالة والسلام، فى حاجة إلى إلحاد أوروبا وفجورها، ولا إلى إباحيتها وتهتكها، ولا إلى ماديتها وجحيم العداوة والبغضاء الذى تتلظى به جوانب أبنائها المتهالكين على الخطايا والآثام، حتى يخلصها السنيور موسولينى بعشرين ألفا من الجياع.
أيها المصريون: نحن لا نقول لكم قصروا فى حقوق أوطانكم، ولا ندعوكم إلى أن تتركوا مصر وتعملوا لطرابلس أو لفلسطين، فإنه إذا كان الإسلام يفرض عليك -وأنت مصرى- أن تعمل لفلسطين ولطرابلس وللمغرب لأنها من أرض الإسلام، فإنه يفرض عليك ذلك لمصر؛ لأنها من أرض الإسلام؛ ولأن لها مرتبة الصدارة فى أرض الإسلام؛ ولأنها أقرب الميادين إليك، فمن واجبك أن تقوم بحقها وأن تعمل جاهدا لتحريرها وخيرها.
ولكنا نقول لك: إن من واجبك -مع هذا- أن تعرف حدود وطنك العام، وألا تهمل فى حق جزء منه يهدد بالضياع والإفناء وتذكر دائما واعمل دائما للوطن الإسلامى الفسيح الأكناف.
أيها المسلمون: اذكروا دائما وعلموا أبناءكم أن طرابلس ليست وطنا إيطاليا ولن تكون كذلك فى يوم من الأيام، وإن أرادت ذلك الدنيا بحذافيرها, وإن انتقل إليها سكان إيطاليا أجمعين، وستظل بحول الله وقوته. واستعدوا لساعة الخلاص وإنها لآتية. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ﴾[البقرة: 214].
أما جرائدنا العربية فلسنا نطمع منها فى غير هذه الخطة، فإنما يفكر أصحابها وكتابها والقائمون بالأمور فيها بعقول وقلوب وأرواح وأقلام لم تتذوق طعم الإسلام، ولم تستشعر حلاوة الإيمان، ولم تكن للحق والخير العام يوما من الأيام، وحسبها ما هى فيه من مادية تجارية أو مشاحنات حزبية أو غير ذلك من النزعات والأشواق. وإلى الله المشتكى.
المصدر: مجلة النذير، العدد (23)، السنة الأولى، 8 رمضان 1357ه- 31 أكتوبر 1938م،