محب الدين الخطيب ... تأملات في مشروعه النهضوي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
محب الدين الخطيب .. تأملات في مشروعه النهضوي

موقع إخوان ويكي (ويكيبيديا الإخوان المسلمين)

إعداد / محمد الصياد


النشأة والتكوين

نشأ محب الدين الخطيب في بلاد الشام في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر حيث ولد في دمشق في آخر يوليو 1886 .

وكان والده الشيخ أبو الفتوح الخطيب (1834-1897) من علماء دمشق ومدرسيها وأئمتها وخطبائها وكان أمين دار الكتب الظاهرية بدمشق منذ تأسيسها 1879 إلي يوم وفاته.

وأما جده فهو الشيخ عبد القادر الخطيب ( 18081871 ) فكان من كبار علماء دمشق ، اشتهرت الأسرة في دمشق بأنها بيت علم وخطابة وتدريس .

وقد تحدث الخطيب عن الجو الذي نشأ فيه وهو يقدم لكتاب زميله في مرحلة شبابه الدكتور صلاح الدين القاسمي والذي أسماه باسم "صفحات من تاريخ النهضة العربية في أوائل القرن العشرين" .

قال : إن هذا الكتاب رجع به إلي أسعد أيام حياته إلي بدء نشأته ثم إلي ريعان شبابه إلي مرحلة دراسته الثانوية يم لم يكن للدولة العثمانية في مدينة دمشق إلا مدرسة ثانوية واحدة كان عنوانها الرسمي "المكتب الإعدادي" وكان الدمشقيون يسمونها مكتب عنبر .

وعنبر هذا ثري إسرائيلي من أصحاب الملايين بني لنفسه دارا في دمشق ثم صارت هذه الدار من أملاك الدولة فجعلتها مدرسة ثانوية .

زامل الخطيب في هذه المدرسة صلاح الدين القاسمي وعارف الشهابي وصالح قنباز كما كان من أصدقائها خارجها في هذه الفترة لطفي الحفار ورشدي الحكيم وغيرهم ..

وكانت الدراسة باللغة التركية ، بل إن علم النحو للغة العربية وصرفها كان يدرس من كتاب باللغة التركية يسمي المشذب قررته نظارة المعارف العثمانية لمدارس الأناضول والروم إيلي .

فكان مفروضا علي مدارس الحكومة في الولايات العربية كذلك أن تستعمله في تعليم أبناء العرب النحو الخاص بلغتهم وصرفها ..

ويقول الخطيب : بل كان معلم العربية في مدرستنا شيخا تركيا مسنا أرسلوه إلينا ليعلمنا العربية..

وكانت آمال النشء العربي في هذه المدرسة وفي كل مدرسة للدولة العثمانية في البلاد العربية أن يحذقوا لغة الترك تكلما وإنشاء وأدبا لتولوا بعد ذلك وظائف الدولة في بلادهم والبلاد العثمانية الأخري وليعيشوا في ظل القومية التركية مثقفين بالثقافة التركية متقدمين في خدمتها ، منفذين لخططها الإدارية ، وسياستها الفردية التي عرف بها زمن سلطته الخليفة العثماني عبد الحميد الثاني .

أما العربية فلا تكاد تعلم يومئذ إلا في مدارس التبشير المسيحي والمدارس الطائفية غير الإسلامية ، بأساليب ركيكة ومنطق غير سليم . هكذا كانت الحال في العواصم العربية ، دمشق ، بيروت ، القدس ، بغداد ، الموصل ، البصرة ، ومكة ، والمدينة ، وصنعاء .

كانت العروبة علي حد قول الخطيب يومئذ عنوانا لمدلول نسيه العرب منذ ألف سنة ، وتنكروا للمورد الكريم الذي صنعها الله منه ليقوم أهلها برسالة الإنسانية العليا فتعود بهم إلي أهداف الحق والخير .

كانت بلاد الشام في الفترة التي نشأ فيها محب الدين الخطيب موئلا للبعثات التبشيرية الفرنسية اليسوعية والبروتستانتية الأمريكية والتي كانت المنافسة بينهما في فتح المدارس والكليات قائمة في بيروت والقدس . ويمثل محب الدين الخطيب جيل الشباب العربي الذي لم ينهل من مدارس التبشير وهو الجيل الذي وجد في شخصية طاهر الجزائري نموذجا يقتدي يُؤخذ العلم منه ..

شهدت دمشق في الفترة التي ولد فيها الخطيب زيادة في عدد المدارس والمعلمين كما كان لوجود مدحت باشا حاكما علي دمشق في الفترة القريبة السابقة علي مولده دوره الذي لا ينكر في نهضة دمشق .

إذا كان لمدحت دوره في حركة الإصلاح التي شهدتها الدولة العثمانية وإعلان المشروطية الأولي 1876 ، فإن دوره في البلاد العربية لا يمكن إنكاره .

فكما كان له دور في بغداد عندما تولي أمرها في 30 أبريل 1869 من استتباب الأمن واستقرار له وقيام العديد من المشروعات العمرانية وإنشاء أول مطبعة وجريدة الزوراء كان له دوره في دمشق .

جاء مدحت إلي دمشق سنة 1878 وما تزال في أذهان الناس فتنة 1860 التي أرجعها مدحت إلي الجهل الذي انتشر بين أهلها .

ومما يؤثر عنه قوله : إن المسلمين في بلاد الشام قد فشا بينهم الجهل ، ومدارس الإفرنج تتقدم يوما بعد يوم تقدما ملموسا وليس للحكومة سوي بعض المدارس الإبتدائية يقرأ فيها الأحداث القرآن فكنت أفكر في أمر تعليم أبناء المسلمين وإصلاح مدارسنا .

وشكل مدحت الجمعيات في سوريا وجمع الإعانات وفتح المدارس ، كما أنشأ مدرسة للصنائع وأخري للفنون ، وملجأ للأيتام .

وأصلح المساجد وجعلها كلها مدارس ووضع عقوبة لولي أمر الطفل إذا بلغ ابنه السادسة ولم يرسله إلي المدرسة واستعان بأموال الأوقاف في أمور التعليم ، فتأسست في عهده جمعية المقاصد الخيرية لإنشاء المدارس وتمكنت من افتتاح خمس وثلاثين مدرسة وارتفع عدد الطلاب إلي خمسة آلاف طالب بينما زاد عدد الطالبات إلي ألفين بحيث ضمت مدارس دمشق خمس طلاب الشام وسدس طالباتها .

كانت هناك شخصية مهمة من وراء مدحت باشا تحثه وتقنعه أن الخطر كل الخطر أن ينهل الشباب الإسلامي من مدارس إرساليات التبشير ، تلك هي شخصية الشيخ طاهر الجزائري .

والشيخ طاهر ولد في دمشق سنة 1856 حين جاء أبوه صالح الجزائري مع من جاءوا إلي المشرق العربي بعد مجيء الأمير عبد القادر الجزائري إليها .

وأصبح ضليعا في علوم اللغة العربية والعلوم الدينية ، وكان مجيدا للغة التركية عارفا بالفارسية إلي جانب إلمامه بالعلوم العصرية والرياضية .

وسمع مدحت بطاهر الجزائري عند مجيئه واليا علي دمشق الذي حدثه عن ضرورة العناية باللغة العربية وآدابها وعبر عن استيائه من أن اللغة العربية أصبحت لا تجد موئلا لها إلا في مدارس الإرساليات الأجنبية من بروتستانتية وكاثوليكية وأوضح الشيخ طاهر لمدحت خطورة هذا الأمر كما أقنع الشيخ طاهر مدحت بذلك .

نجح في إقناع بهاء بك رئيس ديوان الولاية وأعد الشيخ طاهر مشروعا لإنشاء جمعية المقاصد الخيرية تكون شبه رسمية تعينها الحكومة بالمال وتخصص لها أبنية وقفية وحكومية وتوجه نشاطها لفتح المدارس وتقيم المطابع لطبع الكتب . وظل الشيخ طاهر يدافع عن فكرته في إنشاء هذه الجمعية بعد نقل مدحت إلي ولاية أزمير علي عهد واليها الجديد حمدي باشا . فأقنع الوالي الجديد بالفكرة ونجحت الجمعية في مهمتها .

ثم استطاع الشيخ طاهر أن يحقق أمنية من أعظم أمانيه وهي جمع الكتب الموقوفة علي المساجد في قبة الملك الظاهر بدمشق فتألفت من تلك الكتب نواة المكتبة الظاهرية التي تتبع المجمع العلمي العربي .

وقد جمع فيها الشيخ بضعة آلاف من المخطوطات العربية النفيسة . وفي أواخر سنة 1882 أصدر السلطان إرادة سنية باستبدال جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية بمجلس معارف عين له رئيسا العالم الشريف محمود أفندي حمزة مفتي دمشق وعلاء الدين أفندي أحد علماء دمشق .

في ذلك الوقت كان يتحلق حول الشيخ طاهر مجموعة من الشباب العربي الذين لعبوا دورا هاما في الحركة العربية منهم عبد الحميد الزهراوي ورفيق العظم ومحمد كرد علي .

لكن هذه الدراسة التي تدرس كانت دراسة أدبية ودينية وأما المتخصصون في العلوم والصنائع المختلفة فقد أصبحوا في حكم النادر القليل .

يقول الأستاذ محمد كرد علي : أدركت مدينة دمشق وليس فيها طبيب قانوني ولا صيدلي قانوني ولا حقوقي قانوني ممن درسوا هذه العلوم علي الأصول وعرفوا صناعتهم معرفة تامة ، وليس فيها محاسب لأن الأمة عاشت وتريد أن تعيش بدون حساب .

أما العلوم الرياضية التي كان يدرسها أجدادهم مع علوم القرآن فقد غدت عندهم أسماء بلا مسميات . تلك هي حال دمشق في الفترة التي ولد فيها محب الدين الخطيب ...

دخل محب الدين الخطيب المدرسة الابتدائية الأميرية التابعة للدولة العثمانية في دمشق وكان اسمها مدرسة الترقي النموذجية وكانت في نفس البناء الكبيرة الذي تقوم فيه في الجانب القبلي منه دار الكتب الظاهرية التي كان والده يتولي أمانتها وقد حصل منها بتاريخ 5 يوليو 1896 علي الشهادة الابتدائية وكان بين العاشرة والحادية عشرة من عمره وذلك قبل وفاة والده بسنة واحدة .

وألحقه والده وهو في السنة الأخيرة من حياته بالتعليم الثانوي .

وصار من العسير علي محب الدين الخطيب بعد وفاة والده أن يكمل تعليمه لولا معاونة الشيخ طاهر الجزائري له في تكليفه بنسخ بعض الكتب مقابل أجر يتقاضاه .

وفي المدرسة التجهيزية كانت لغة التدريس هي اللغة التركية حتى اللغة العربية كانت تعلم من كتاب باللغة التركية مؤلف للتلاميذ الترك بمدارس الدولة العثمانية وكانت اللغة الفارسية بقواعدها ومطالعتها من كتاب كلستان واللغة الفرنسية تدرسان إلي جانب التركية .

ولاحظ الشيخ طاهر الجزائري أن محب الدين الخطيب تعوزه الثقافة العربية الإسلامية فأشار عليه وكان بمنزلة أبيه الروحي أن ينتفع من فضائل عالم جليل ضليع هو الشيخ النويلاتي .

وفي مناسبة مرور مائة عام علي وفاة الشيخ نشرت صحيفة الفتح في مجلدها الرابع عشر بحثا للشيخ البيطار أثني فيه محب الدين الخطيب علي أستاذه هذا ثناء عاطرا .

وفي مدرسة عبد الله باشا العظيم بين سوق المدينة في دمشق وسوق السلاح وفي غرفة من الدور الأوسط التقي محب الدين الخطيب بأستاذه الشيخ النويلاتي في مبني وصفه محب الدين أنه كان احد حصون الدعوة إلي الإصلاح في العاصمة الأموية ، ففيه غرفة للشيخ طاهر الجزائري يجتمع فيها مع الشيخ طاهر طائفة من حلقته ومنهم محمد كرد علي والشهيد عبد الحميد الزهراوي وأمثالهما وفي الدور الأعلي من هذه المدرسة غرفة للشيخ جمال الدين القاسمي تختلف إليه فيها جماعة من تلاميذ غير الذين يختلفون إليه في منزله الكبير .

لازم محب الدين الخطيب شيخه النويلاتي حيث درس أصول النحو وأجاد قراءة القرآن وكان من شأن ذلك في هذه الفترة المبكرة من حياته أن بدأ تفكيره ينضج وصار يلقح ثقافته الشخصية العربية والإسلامية بما يتلقاه في المدرسة من علوم تجريبية وعلمية كالرياضة وغيرها ، وبما يضيفه إليها من مطالعاته المتواصلة في دار الكتب الظاهرية .

ودأب علي الاطلاع في في غرف للقراءة أسستها جمعية القديس يوحنا الدمشقي الأرثوذكسية في مدخل حي المسحيين بدمشق حيث كانت تأتيها المجلات الكبرى المصرية وغيرها ولا سيما المقتطف والهلال والضياء وغيرها ثم بما يقتنيه هو شخصيا من الكتب العصرية والإسلامية مما يستورده باعة الكتب في دمشق من القاهرة وبيروت واستنبول وغيرها..

فكانت هذه المطالعات المتواصلة ليل نهار والتفكير فيها سبيلا لتكوين نضوج فكري لديه .

ومن أهم ما آمن به محب الدين الخطيب في هذه المرحلة علي حد ما دونه في سيرته أن جميع أمم الأرض كانت في بداوتها وجاهليتها ضيقة الفكر ، ضعيفة المدارك .

وكانت لغتها تبعا لذلك بدائية جافة فقيرة قبل استفحال الحضارة إلا العرب ولغتهم في بداوتهم فكانوا واسعي المدارك دقيقي الإحساس ، مرهفي الشعور ، ولغتهم في عصر البداوة ليس لأمة أخرى في بداوتها لغة تضارعها في سعتها ودقتها وتعبيرها عن ألطف المشاعر ، ودلالتها علي المستوي الإنساني الرفيع الذي كان لأهلها .

وساعده اطلاعه علي مؤلفات ابن تيمية في التعرف إلي الإسلام من ينابيعه الصافية وفطرته المجردة من البدع والطوارئ .

ووقف في زمن مبكر علي مزايا الصحابة والتابعين الذين اضطلعوا وحدهم بحمل أمانة الإسلام ، وتكوين هذا العالم الإسلامي وهذه الرقعة الشاسعة من أرضه ودياره .

ولما رأي أن هذا مما خص به العرب والذين تطبعوا بسجاياهم واندمجوا في فضائلهم ، تكونت عند محب الدين الخطيب حسب ما دونه في مذكراته بأن للناطقين بالضاد ومن سار في قافلتهم من المسلمين والإنسانيين رسالة هم المسئولون الأولون عنها وعن القيام بها في كل زمان ومكان ، وأن علي من يدرك هذه الحقيقة منهم أن يبادر إلي الإيمان بهذه الرسالة ودعوة الآخرين إلي الإيمان بها .

وهذه العقيدة ظلت ثابتة في قلب محب الدين الخطيب حسبما يؤكد ذلك لم يتجدد له بعد ذلك مما يغيرها أو يدخل عليها أي تعديل .

ومن هذا المنطلق كان إذا وقع في يده كتاب جديد ككتاب أم القري لعبد الرحمن الكواكبي ، أو كتاب الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية للشيخ محمد عبده أو رد الشيخ محمد عبده علي هانوتو ، يقرأه أولا لنفسه فإذا رآه مما يدخل في معاني الرسالة التي آمن بها يحرص علي أن يعيد قراءته مع طالب آخر يختاه من بين زملائه وكان يعيد قراءة تلك الكتب مرات متعددة مع هؤلاء الأصدقاء أمثال عارف الشهابي الأخ الأكبر للأمير مصطفى الشهابي وصلاح الدين القاسمي الأخ الأصغر للشيخ جمال الدين القاسمي ونابغة حماه الشهيد صالح قنباز ولطفي الحفار أحد الذين تولوا رئاسة الوزراء السورية فيما بعد وابن عمه زكي الخطيب وسيف الدين الخطيب من مؤسسي المنتدي الأدبي في العاصمة العثمانية وأحد شهداء مشانق جمال باشا ورشدي الحكيم من كبار رجال وزارة العدل السورية ومن نوابغ الأدب في دمشق وعثمان مردم الأخ الأكبر لجميل مردم أحد رؤساء سوريا السابقين .

وبدأ محب الدين الخطيب يمرن قلمه علي الإنشاء بترجمة بعض المقالات العلمية والقطع الأدبية عن اللغة التركية في مجلاتها وكتبها وأخذ يرسل بما يترجمه أو ينشئه إلي صحيفة "ثمرات الفنون" التي كان يحررها في بيروت الشهيد أحمد حسن طباره فكان في اول الأمر يوقع علي ما يكتبه بحرفي م.خ فلما أنس القبول ، بل التشجيع علي هذه المقالات ، صار يوقع علي ما يكتبه باسمه الصريح .

وفي مخطوط لمحب الدين الخطيب أوضح في أوله جهود الشيخ طاهر الجزائري في نهضة الشام حتى اشتبهت فيه حكومة الآستانة فأرادت عزله من إشرافه علي المعارف في جميع الديار الشامية .

فلما عرفت أن الرجل لا يعمل إلا للصالح العام والشعب مؤمن بإخلاصه فإذا عزل كان لذلك وقع سيء في الديار الشامية فاحتالت علي عزله بإلغاء مفتشيات المعارف كلها في جميع الولايات ليكون عزله كأنه غير مقصود في الظاهر وبقي سنوات لا مورد له إلا من بيع الكتب المخطوطة الموروثة له من والده ، وكان والده مفتي المالكية في دمشق . ومما اقتناه هو من النفائس التي لا يعرف شرقي ولا مستشرق قدرها كما يعرفه هو .

وظل الشيخ طاهر بدون وظيفة حتى سعي اثنان من أبناء الأمير عبد القادر الجزائري هما الأمير محمد باشا والأمير محي الدين باشا في تعيينه في وظيفة مفتش دور الكتب في الديار الشامية كلها وفي خلال ذلك زار القدس وأقنع راغب الخالدي بتأسيس المكتبة الخالدية وطبع فهرستها . فلما اشتدت المضايقة عليه نزح إلي مصر .

وقبل نزوحه إلي مصر كانت تلتف حوله الحلقات : حلقة الشيخ البيطار والقاسمي ورفيق العظم وكرد محمد علي .

وكذلك كان للخطيب حلقة مؤلفة من الأمير عارف الشهابي وبعض بني عمه وصلاح الدين القاسمي ولطفي الحفار وأخويه .

كانت الأحاديث في هذه الاجتماعات تدور حول مسائل ومباحث من العلم تعرض لبعض المجتمعين أثناء مطالعاتهم وبحوثهم أثناء الأسبوع ، فيسأل الواحد منهم الشيخ طاهر الجزائري عنها فيجيب علي ذلك بجمل موجزة بحكمة يقول عنها الخطيب :

إنه يخيل منها لسامعيها أن هذا الرجل العجيب كأنه كان معاصرا للأجيال السابقة في ماضي العروبة والإسلام ، ومشاركا في كافة التيارات الفكرية والمذاهب العلمية التي شغلت أذهان علماء هذه الأمة ، ولو شاء الباحث أن يصل عن طريق البحث والمراجعة إلي مثل ما يستفيد من كلمات الشيخ طاهر الجزائري القليلة المرتجلة عفو الساعة لاحتاج إلي شهور يراجع فيها ما لم يسمع به ولا باسم مؤلفه من المراجع والنصوص كذلك كان الأستاذ كرد علي أو غيره يعرض في هذا الاجتماع مقالا يكون أعده ليرسله إلي مجلة المقتطف أو غيرها ، وفي أثناء تلاوته يسدد الشيخ طاهر بعض الخطوات في ذلك أو يعدل في شيء من الآراء الواردة فيه .

وأحيانا كان يدور الحديث في هذه الاجتماعات حول الأحوال الجارية في الدولة العثمانية أو في المحيط الدولي مما تشير إليه الصحف فيعلق عليه الشيخ طاهر بما يكشف عن خفايا الاتجاهات كما لو كان الرجل لا عمل إلا دراسة مثل هذه الأمور .

ويصف محب الدين الخطيب حلقة الشيخ طاهر بأنه قلما يسمح الزمان بمثلها في بلد واحد ولا سيما إذا كان ذلك البلد في مثل حالة النوم الذي كانت عليه دمشق مستغرقة فيه في السنوات العشر الأخيرة من سلطنة السلطان عبد الحميد . ويقول بأن مكانة الشيخ طاهر كان يعرفها المستشرقون .


أما تأثر محب الدين الخطيب بالشيخ طاهر الجزائري فيقول :

ومن نعم الله علي كاتب هذه السطور أنه عرف الشيخ طاهر الجزائري من طفولته واتخذه أبا فعرفت طريقي بتوجيهه ونظرت إلي أهدافي بعينيه وحررت رسالتي في الحياة بالذوق والمشرب اللذين اقتبستهما منه .

وأهم ما استفاده الخطيب من العلامة الشيخ طاهر الجزائري أنه في السنوات الأولي من دراسته تعلم حب التثبت من كل شيء ، وعدم التسرع في الحكم علي أمر من الأمور إلا بعد الإحاطة بحقيقته والوقوف علي دخيلته . وكذلك تعلم منه الوفاء لهذه الأمة ومعرفة أقدار عظمائها والنظر بعين الرضا والحرمة لتراثهم العلمي وجهادهم القومي وتضحيتهم لتكوين كياننا الذي يحتاج منا غلي بعثه وإعادة الحياة إليه .

وكان من نتيجة هذا وذاك الإيمان بأن من واجبه أن يعمل علي تأليف حلقة من أبناء جيله تخلف حلقة الشيخ طاهر وتواصل مهمتها وتصلح لأن تكون امتدادا لها ونتجنب ما قد يكون قد لاحظه في بعضهم من نواحي ضعف فحرص علي أن تكون حلقته لها دورها وتأثيرها .

كان يختار من زملائه تلاميذ مكتب عنبر أو من خارج المدرسة من يري منهم القابلية للخير يبث فيهم الحماس لأمتهم والعمل من أجلها .

وبعدما انتقل محب الدين الخطيب من مدرسة دمشق إلي مدرسة بيروت انتقل معه الكثيرون من نوابغ تلاميذ مدرسة دمشق الثانوية ومنهم جميع الأمراء الشهابيين من أبناء وادي النيل . وقد حصل محب الدين الخطيب علي هذه الشهادة بتاريخ 14/6/1905م .

أبحر محب الدين الخطيب بعدها علي باخرة روسية إلي الآستانة لإكمال تعليمه هناك وتقابل في هذه الباخرة بعبد الكريم قاسم الخليل حيث نزلا سويا في الآستانة في شارع طاووق بازاري من حي جنبرلي طاش .

ووصل بعد ذلك الأمير عارف الذي أقام مع محب الدين إلي أن هيأ لنفسه مكانا للإقامة .

وعند وصول محب الدين الخطيب إلي الآستانة التحق بكليتين معا : الحقوق والآداب .

ويبرر ذلك بأنه ليس الغرض منه الإكثار من العلم بقدر ما هو الإكثار من الآفاق التي يغشاها ليكثر من الإخوان الذين يصطفيهم ويعقد الروابط الفكرية معهم . وليقيموا للأمة مجدها ويبثوا فيها روحها المفقودة .

علاقة الخطيب برجال الصحوة الإسلامية

ننشر هذا المقال النادر والمهم، والذي يستمد أهميته وخطورته من عدة أشياء :

  • أولاً: هو أول مقال يكتب عن الأستاذ البنا، وأول إشارة إلى الدور الإيجابي الذي تقوم به جماعة الإخوان المسلمين، وذلك في فترة مبكرة جدًّا من حياة الدعوة عام 1930م.
  • رابعًا: أن كاتبه كان عالمًا "سلفيًّا " جليلاً.. وفي هذا نموذج للعلماء الفقهاء الذين قدروا الإمام البنا وانضووا تحت قيادته وهم كثير، ولعل في هذا درسًا للمتعالمين المتطاولين على الإمام ودعوته.
  • خامسًا: أن كاتب المقال هو آخر من كتب عن الإمام البنا في حياته (سبتمبر 1948) مشيدًا بجهدِه وجهادِه ودعوتِه وأثرها في كل الميادين، ومذكرًا بأنه كان أول من تنبَّه إلى ما يمتلكه هذا الشاب الموفق من طاقات وملكات، وما ينتظره من مستقبل حافل مجيد.
(نص المقال)

جمعية الإخوان المسلمين :

"لا شك أن الإسلام وأهله إلى خير لأن الله اختص هذا الدين بطائفة من أهله لا يزالون قائمين على الحقِّ إلى يوم القيامة، يعملون له غير ملتفتين إلى حمد مَن يحمدهم ولا إلى شغب من يشغب عليهم .

ومن هذه الطائفة إخوان لنا في مختلف أنحاء القطر المصري يعملون، ولعل هذه الإشارة إلى أعمالهم في الفتح هي الأولى من نوعها.

فقد أسسوا في الإسماعيلية ومحمودية البحيرة وشبراخيت مراكزَ لجمعية الإخوان المسلمين تحض على التحلِّي بمكارم الأخلاق، وتسعى لعمارة ما يتهدم من المساجد، وتتوسط في إزالة الخصومات التي تقع بين أفراد المسلمين وجماعاتهم .

وكل مَن يعلم بلدة الإسماعيلية القائمة على قناة السويس يعلم أنها تكاد تكون بلدةً إفرنجية، والمسلمون فيها كانوا يشعرون بحاجةٍ إلى من يتولَّى إرشادهم ويسير بهم في طريق الخير، فقامت هذه الجمعية، وعلى رأسها أخونا المجاهد في سبيل الله الأستاذ حسن البنا، بسد حاجة مسلمي الإسماعيلية من هذه الجهة .

وكان من أعمالها أداء واجب الإرشاد والتعليم وأنشأت مسجدًا كانت البلدة في مسيس الحاجة إليه، واستطاع أخونا الأستاذ حسن البنا أن يقنعَ شركة قنال السويس بدفع خمسمائة جنيه للاستعانة بها في إنشاء هذا المسجد حتى تمَّ على أحسن حال ولله الحمد .

وفي بلدة شبراخيت أسست هذه الجمعية المباركة مكتبًا لتحفيظ القرآن، أطلقت عليه اسم (مكتب حراء) على اسم الغار الشريف الذي كان يتحنَّث فيه هادينا الأعظم صلى الله عليه وسلم، وفيه نزل الوحي بالقرآن المجيد .

ومن أعمال جمعية شبراخيت تأسيسها لجنة المصالحات؛ وهي تباشر أعمالها بين المسلمين، و(لجنة المسجد) وهي تسعى لعمارة وتصليح المساجد، و(لجنة المحاضرات والدروس الدينية) تقوم بالإرشاد والتعليم ليليًّا في نادي الجمعية، وأسبوعيًّا ببعض المساجد، و(لجنة المكتب) وأول آثارها مكتب حراء فيه ما يربو على مائة من أبناء المسلمين يحفظون كتاب الله ويتعلمون مجانًا على معلمين أكفاء تدفع لهم الجمعية راتبهم الشهري .

وفي مقدمة القائمين بهذه الجمعية في شبراخيت أخونا العالم العامل الأستاذ الشيخ حامد عسكرية، كما أن في مقدمة القائمين بالعمل في جمعية محمودية البحيرة أخونا المخلص العمل لله الأستاذ أحمد أفندي السكري، فنرجو لهم من الله المثوبة والتوفيق .

وقد ردَّ عليه الأستاذ الإمام الشهيد البنا بخطابٍ طيبٍ، تبرز فيه سمات الداعية الموفق الذي يستشعر التقصير في حق الله ودعوته مع ما يبذله من جهد ويقدمه من عمل، وتبرز به سمات دعوة الإخوان المسلمين كما عبر عنها مؤسسها الإمام، حين ذكر أن من أهم سماتها "إيثار الناحية العملية على الأقوال والدعاية"، وحين تساءل مثبتًا ومؤكدًا "هل نحن قوم عمليون؟".

(نص المقال)

حول جمعية الإخوان المسلمين

سيدي الأستاذ الأجل السيد محب الدين الخطيب صاحب الفتح الأغر:

أحييك وأحيي روحك الطيب الذي يشع نور الهداية على قلوبِ المؤمنين فيضيء لهم سبيل العمل لخدمة العروبة والإسلام والشرق المحبوب.

وأشكر لك جهادًا متواصلاً شكره الله لك قبل خلقه، وعرفه منك قبل أن يعرفه الناس، وقدره صالحو المؤمنين حقَّ قدره إذ تطلع به غرة الفتح مبشرةً بالنصر المبين، فالسلام عليك ورحمة الله وبركاته .

وبعد.. فما كنت أود أن نتحدَّث إلى قراء مجلتنا ومجلة الإسلام (الفتح) عن جمعية الإخوان المسلمين الآن وهي نبت لم يتكامل نموه بعد، وكنت أوثر السكوت حتى تنطق آثار الجمعية بغاياتها، ويراها الناس في جهودها، ويسمعون صوتها بلسان أعمالها، فقد تكلمنا كثيرًا فيما مضى حتى شغلنا القول عن العمل، وفكرنا حتى أنسانا التفكير سبيل التنفيذ، وقد مللنا هذا السبيل، ولعله داء الشرق الوبيل .

وإن من الناس مَن يفهم الأمر على غير وجهه وينسى حسن المقصد فيه فيظن- من الكلمة التي كتبها صاحب الفتح في العدد الماضي عن الجمعية- أننا نحاول الإعلان عن أنفسنا أو المفاخرة بجهود هي أقل مما أوجبه الله على كل مسلم .

ولهذَيْن السبَبَيْن كنت أتحاشى ذكر شيء عن أعمال جمعية الإخوان المسلمين تاركًا للزمن أن يعرفها للناس .

أما ما ذكره الفتح بخصوصي فلا أعتقد أني أديت عُشر الواجب عليَّ، وأصارحك يا سيدي بأني وجدت من الأهلين هنا بالإسماعيلية تشجيعًا كبيرًا وتقبلاً حسنًا لكلمة الحق واستعدادًا عظيمًا لمعاضدة الدعاة إلى الله، وهم يحبون دينهم كل الحب ويتفانون في الذود عنه، إلى أنهم على جانبٍ عظيمٍ من التقوى والخير وكرم النفوس، فلهم الفضل الأول في معاونة الجمعية في مهمتها ومساعدتها على تحقيق أغراضها الشريفة، وكذلك كان موقف الجمهرة العظمى من الأهلين في البلدان التي أُنشئت فيها مراكز للجمعية مما نحمد الله عليه ونذكره لحضراتهم بالإعجاب والثناء .

وأما وقد نشر الفتح كلمته الطيبة يستعجل بها البشرى إلى قلوب المسلمين، ويحدوهم بها إلى النهوض والعمل لخير هذا الدين، فلا يسعني إلا شكر هذه النية الصالحة، وأن أعتب على السيد الأجل عتبًا محمودًا عواقبه بما شهَّر بي، غفر الله له، وأمدَّه بالقوَّة التي تحقق آمال الإسلام والمسلمين فيه .

19 من ذي القعدة سنة 1349 حسن أحمد البنا

وقد ألمح رجب البيومي إلي علاقة الخطيب ببذور الصحوة الإسلامية المعاصرة فقال :

أوجز ما يقال عن محب الدين الخطيب أنه كان أمة في واحد ، لأن أكثر حركات التنوير والتحرر الإسلامي في الأمة العربية عرفت منه الظهير المؤيد ، والمقترح المصمم ، ولكن طبيعة الجندي في نفسه جعلته لا يطمح إلي منزلة القائد الرسمية .

أما في الواقع العملي فهو قائد حقا ، وأنت حين تعرض أسماء حسن البنا وشكيب أرسلان وصالح حرب وعبد الرحمن عزام وعزيز المصري .. تجد ارتباطا قويا بينهم وبين محب الدين الخطيب في كثير من المواقف الحاسمة علي مدي نصف قرن متطاول .

لأن محب الدين الخطيب قد انتقل في دنيا الكفاح الإسلامي ما بين دمشق وبيروت وتركيا والقاهرة واليمن ومكة انتقال المكافح الذي يقف في مقدمة الصفوف ، وليس انتقال الموظف الذي يحرص علي مرتبه الشهري ، وما قامت حركة عربية في الشام لعهده إلا كان محب الدين الخطيب صاحب الرأي الوطني المخلص في مسيرها .

وإذا كان في عهده الأخير قد قنع بالرأي في صحيفة دون الاشتراك بالعمل في ميدانه ، فلأن المسرح الذي يجمع زملاءه قد باعد بينهم وبين ما ينشدونه من عمل وكبار الآمال ، اكتفاء ببعض دون بعض .

وهيهات لمن كانت جذوة النضال تتوقد في أضلاعه أن يستنيم إلي الراحة . وإذن فلابد من امتشاق القلم في المجلات والصحف الإسلامية شرقا وغربا ، فإذا لم يجد لدي أصحابها متسعا فسيحا لآرائه الحرة فلابد أن يصدر مجلة الزهراء ، ومجلة الفتح .

وأن ينشر مجموعة الحديقة في أربعة عشر جزء ومجموعة المنتقي في ثلاثة أجزاء ، ولابد أن ينشئ المطبعة السلفية لتنشر الكتب الهادفة في خطين متوازيين ، خط لأطايب التراث العلمي لدي الأجداد ، وخط للمبتكر من الشئون المعاصرة أدبا وعلما وسياسة وإرشادا ، بل لابد من النشرات الصغيرة في كتيبا متواضعة لا يزيد ثمنها الرمزي عن قرشين لتنشر ما يجب نشره من الآراء الإسلامية ذات التوجيه السديد !.

هذا بعض ما قام به محب الدين الخطيب في عمره السعيد بحيث لم ينقطع يوما واحدا عن التفكير في العمل الجاد ليهدي إي الصراط القويم .

كان من ديدن محب الدين الخطيب أن يلابس الأحداث مباشرة إذ لم يكن ممن يجلسون في مكاتبهم ليدبجوا المقالات وحدها ، وإن كانت في صميم المشكلات الحيوية . ومن هنا كان اتصاله المباشر بذوي التوجيه الفعال ممن يملكون أزمة الأمور .

وقد وجد نفسه محدودا بمكتبته ومطبعته ومجلته ، وثلاثتها تستنفذ جهد الكاتب المفكر المدبر ، ولكنه فكر في ضرورة ملزمة تحتم إنشاء جمعية إسلامية تقف في وجه التيار المتحلل ، وتصد الإلحاد الوافد مع من ذهبوا إلي أوربا ورجعوا بأراجيف أعداء الإسلام ، لتكون حقائق علمية تدرس في الكليات ، فتتسم بها أفكار ناشئة لا يملكون تصحيح الأخطاء ، وإذ ذاك دعا إلي إنشاء جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة لتمتد فروعها داخلا وخارجا في آفاق المحيط الإسلامي .


التجديد في رؤية الخطيب

يري الخطيب أن التجديد يكمن في "أن نأخذ من كل مكان ما نحن في حاجة إليه من أسباب العزة والقوة ، وأن نحتفظ بكل ما في كياننا الوطني والديني مما لا يعد من عوامل الذل وبواعث الوهن .

وكلما كان ما نستعيره من الأمم الأخري محدودا لا يتجاوز منفعته المؤكدة كان ذلك أحري أن لا نذوب في غيرنا ونخرج من أنفسنا ، فنحن نطلب من التجديد ما ننظم به حياتنا وما نستغني به عن مصنوعات الأمم الأخري بما ننتجه بأيدينا نحن .

أما التجديد القائم علي انتهاز ما نحن فيه من ذل وانحدار لإقناعنا بأننا لم نكن شيئا مذكورا ، فمعناه أننا سنبقي في منحدر الهوان ولن نتبوأ مقاعد العز . فالعلاقة بيننا وبين كل داع إلي التجديد والإصلاح أن ننظر فيما يدعوننا إليه ، فإن كان يدعوا إلي أسباب القوة من معارف وفضائل ، وتتجلي في دعوته قرائن النصح لقوميته ، والحرقة لمفاخرها ، والإحياء لمآثرها ، فهو داعية إصلاح حقيقي .

وإن كان من الذين يريدون مخادعة الشباب الطاهر ليعزلوه عن تاريخه ويخرجوه عن نفسه بالاندماج في أمة تستعبده وتحتله ، فمثل هذا مدسوس علينا ، ولعل العدو المجاهر بالعداوة أقل ضررا من حامل هذه الثمار الخبيثة إلي أمة مستكينة تنشد العز والاستقلال .

وإذا كان لابد من الاستقلال العلمي والارتقاء التجريبي كي نبلغ ما نريد من المكانة ، فإن العلم ليس وقفا علي الدول الغربية وحدها حتى نستذل لمعارفها ، ولكن العلم قاسم مشترك بين الأمم جميعها ، تنقل من بدء الخليقة من مكان لآخر ..

فأسهمت الأمم كلها في تكوينه ، فإذا طلبناه اليوم ممن تقدمنا في ركب المدينة فإننا نطلب ميراثا كان لأجدادنا الفضل في تكوينه ، وسيعود إلينا لنضيف بعض الجديد مما يعلي بناءه .

يقول الخطيب : العلم عالمي ، لا تختص به أمة دون أخري ، ولا تحتكره قارة من قارات الأرض فيكون غيرها عالة عليها فيه ، إنه مشاع كالهواء الذي نتنفسه ، وكالبحار التي تحيط باليابسة ، لأنه مجموعة الحقائق التي توصل إليها العقل البشري في مراحل تفكيره وتجاربه وملاحظاته المتسلسلة بتسلسل الزمن .

فجدول الضرب من المعارف الإنسانية العريقة وسيبقي حاجة من الحاجات الأولية لطلاب علم الحساب في كل وطن ولولا ما كان معروفا قبل المسلمين من علم الحساب ما توصلوا إلي إتحاف الإنسانية بالحقائق الأولية من قواعد علم الجبر والمقابلة .

ولولا علم الجبر والمقابلة الذي توصل علماؤنا إليه من مئات السنين لما تقدمت في العصور الأخيرة علوم الرياضيات التي وصلت بها الأعمال الهندسية إلي غايتها ، ولا غضاضة علي أمة تطلب العلم بها حيث تجده ، وكذلك الطب وعلوم الطبيعة ، لأن العلم واحد في كل امة وهو السبيل الأوحد للقوة في الحرب والسلم ، ولابد من توصيله .


القومية في رؤية الخطيب

يقول الخطيب : إذا كنت شريكا لرجل في عمل مالي فمن حق هذه الشركة أن تكون أمينا لها حريصا علي إنمائها ، فأنا بصفتي مسلما شريكٌ لكل محمدي في جامعة الإسلام ، وهي عندي أشرف الجامعات ، فإن لم أقم بمصالح هذه الشركة بأمانة وإخلاص كان ذلك خيانة مني لهذه الرابطة ، ودليلا علي أني عضو عاطل يتغذي من الجسم دون أن يفيده شيئا .

وأنا بصفتي متوطنا في مصر ، اخترتها من دون آفاق الدنيا فإنني شريك لكل مصري في جامعة الوطن وهي من أقرب الجامعات إلي ، لأني متصل بها مباشرة ، أنفعها بجهودي ، وأنتفع منها في أعمالي ، فإذا لم أقم بمصالح هذه الشركة بأمانة وإخلاص كان ذلك تقصيرا يصيبني قسط منه ، وتقع علي نتائجه .

وأنا بصفتي من أبناء هذه اللغة ليس لي لغة غيرها ، ولا تصح نسبتي لغيرها ، فأنا أري نفسي عربيا يشارك كل عربي علي وجه الأرض ، في بيانه وقوميته ومفاخره مهما اختلفت الألوان التي قضت السياسة أن تتلون بها الأقطار العربية ، فإذا فرطت في عربيتي فقد أذنبت لأن علامة العربي الحرص علي خير العرب ، ومن كان غير ذلك فقد برئت منه العربية وإن كان من أعرق قبائلها .

يقول البيومى معلقا علي كلام الخطيب : إن القومية في الحضارة مناطها اللغة والمولد والشعور المشترك ، وهذا هو المعول عليه في أوربا ، بل في أشد بلاد أوربا تعصبا للقوميات ، ومصر علي رأس القيادة الفكرية في العالم العربي ، ولا يخطر في وهم أحد أنها ستعدل عن البيان العربي إلي غيره ، إلي يوم الدين .

هذا ما أكده محب الدين من الناحية السياسية إزاء محاولة التنكر لعروبة مصر من أفراد يضعون علي أعينهم الغشاوة فلا يبصرون ، ويسدون أسماعهم عن الحق فلا يعون ، وقريب من ذلك ، ما كرره بإزاء الدعوة المغرضة إلي ما يسمي بالأدب الإقليمي ، وهي دعوة ظاهرة الرحمة وباطنها من قبله العذاب .

وتزداد الحملة بلبلة واضطرابا حين يظهر دعاتها بمظهر من يفهمون حقائق علوم النفس والاجتماع والتاريخ ، ويؤكدون أنها جميعا تدل علي صدق ما ينتحون ، ولهم في تقرير هذه الأراجيف تطاول وغطرسة يكاد صاحبها أن ينتفخ متورما إلي حيث ينفجر .

ومحب الدين يسبر أغوار هؤلاء ، ولا يوجد أجدي من الصراحة الواضحة التي تتجلي في مثل قوله : الأدب مرآة للبيئة التي ينشأ فيها ، وعلي صفحاته تنعكس ألوان السماء التي ينمو تحتها ، وبين سطوره يجب أن تتجلي الآم الأمة وآمالها ، فالأدب في وادي بَرَدَي وبين جبال الشام يجب أن يسمعنا خرير مياه العيون منحدرة كالرحيق السلسل بين الصخور البلورية ، وعلي ضفاف النيل وبين حقول الزمردية ، يجب أن يشعرنا بهيبة السكينة التي تحمل لجج هذا النهر المبارك من المنطقة الاستوائية حتى تنتهي بها الرحلة إلي شعب الدلتا الداخلة في غمار البحر الأبيض .

فإذا كان المراد من الأدب المصري أن يكون مرآة للبيئة المصرية تنعكس عليها حقائق الحياة في حواضر هذا الوادي وقراه ، فأنا أقول بأن البلاد التي لا يقوم أدبها بهذه المهمة إنما هو أدب مزور علي وطنه ، إذ يجب علي الأدب العربي في كل قطر من أقطاره أن يؤدي هذه المهمة ليكون للشعوب العربية من مجموعه ثروة أدبية واسعة .

وإذن فالأدب المصري المحمود هو الذي تنطبع فيه ألوان الطبيعة في أرض مصر وسمائها ومائها ، وهو الذي تنعكس علي صفحاته أطوار الحياة المصرية بآلامها وآمالها .

"انظر النهضة الإسلامية لرجب البيومي 2/327 " .

ومن كل ما سبق يتجلي المشروع النهضوي عند محب الدين الخطيب ، ويتبلور في إصلاح حال اللغة العربية ، وبعث الحضارة الإسلامية ، وتنمية الروح ، وشد أواصر الصلة مع الجمعيات الإسلامية العاملة علي الساحة ، ونحو ذلك .

ونجد أن صلة وثيقة بين فكر الإمام البنا ورؤيته الإصلاحية وبين رؤية محب الدين الخطيب .

لكن الإمام الشهيد حسن البنا يبقي متفردا عن كل من سبقه وعاصره بأنه لم يكتفي بدائرة التنظير المجرد ، أو مخاطبة النخبويين والمثقفين فقط ، بل نزل لساحة العوام والناس العاديين وجعل منهم وقودا يشتعل ويلتهب ويحمل المشروع الإسلامي الذي من المحال أن ينتصر بدون هؤلاء إذا ما استمر في حوزة المثقفين فقط .

ومن الممكن أن يقال بأن محب الدين الخطيب مارس التنظير المجرد في مخاطبته للنخبة وكذلك خاطب العوام وتعاطي مع الأحداث المجتمعية بتأسيسه جمعية الشبان المسلمين .

نقول بأنه وإن كان قد أسس جمعية الشبان المسلمين إلا أنها لم تكن محور مشروعه ، وعموده الفقري ، فكانت عاملا من ضمن العوامل العديدة التي ارتأى فيها سبيلا للنهضة بجانب المطبعة والكتاب / التصنيف ، والمجلة وما أشبه ، علاوة علي أنه لم يضع لها الدستور والإطار الذي يقيها التفتت والتشرذم بعد موته ، ولم يخلف الكوادر المؤهلة بعده لهذه المهمة ، المؤمنين بها والمتفانين من أجلها . بخلاف جماعة الإخوان المسلمين ، التي أسسها الإمام الشهيد وهي محور مشروعه النهضوي ، وعموده الفقري في الإصلاح ، وأعد الكوادر التي تذوب من أجل ذلك المشروع وتتفاني فيه وله ، وتحمل المهمة من بعده .

وعلي كل حال ن فنحن في ميادين الدعوة نشكر كلا علي جهوده ، ولذلك فنحن لا زلنا نقر بأننا عندما نقرأ أدبيات محب الدين الخطيب لا يمكن أن ننكر أننا أمام قامة شامخة من قامات الفكر الإسلامي المتوقد الوهاج الذي يرميهم القدر علي دنيانا ليجددوا الدنيا بالدين ، وليسوقوا البشر إلي باريهم ، وليكونوا أنموذجا حسنا يقتدي به المسلمون علما وعملا .


المراجع

1- محب الدين الخطيب ودوره في الحركة العربية 1906-1920 ، د/ محمد عبد الرحمن برج ، ط/ الهيئة المصرية العامة للكتاب .

2- النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين ، د/ محمد رجب البيومي ، ط/ دار القلم دمشق .

3- تاريخ الإصلاح في الأزهر ، عبد المتعال الصعيدي ، ط/ قصور الثقافة .

4- حسن البنا الداعية الموهوب .