محمد القراقصي
مقدمة
(اركب أي سيارة أجرة وقل للسائق: "الإخوان المسلمين يا أسطى" ولا تزد، ولن يلتفت إليك السائق ليسألك: ماذا تقصد بالإخوان المسلمين ولا أين تقع هذه الدار التي يطلق عليها هذا الاسم، بل سيقودك إلى هناك دون سؤال، بعد أن يرحب بك بابتسامة لم تتعود أن تراها على وجوه سائقي سيارات الأجرة وقد يرفض أن يتناول منك أجرًا، ولا شك أنه سيُحمّلك سلامه قبل أن تغادره إلى فضيلة الأستاذ حسن البنا، المرشد العام للإخوان المسلمين)
بهذه الكلمات افتتح إحسان عبدالقدوس مقاله معبرا به عن تلاحم الإخوان وكثرة عددهم، وهي الكلمات التي جاءت في مقالا تحت عنوان "الرجل الذي يتبعه النصف مليون".
فقد ضمت جماعة الإخوان المسلمين بين صفوفها أعدادا تجاوزت المألوف في زمنها، حيث لم تحظ جماعة أو حركة أو حزب بمثل ما حظيت به جماعة الإخوان المسلمين في التاريخ، ومن ثم فهو يفسر عدم معرفة الكثيرين بسيرة كل من التحق بهذه الجماعة وعمل في صفوفها خدمة لدينها ووطنها، ومنهما الأستاذ محمد فهمي القراقصي، والمهندس محمد إبراهيم القراقصي، وكانا أحد رجالات الإخوان الذين سطروا صحائف من نور في سجل تاريخ الإخوان المسلمين.
محمد فهمي القراقصى
ولد الأستاذ محمد فهمي القراقصي في مدينة دمنهور بالبحيرة في عام 1885م تقريبا، وبعد تخرجه من الجامعة تدرج في المناصب حتى أصبح مدير منطقة دمنهور التعليمية. تعرف على دعوة الإخوان منذ وصلت إلى مدينة دمنهور حيث نشط وسط أخوانه، وكان أحد أعضاء مجلس الشورى فيها.
وحينما تشكلت الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين عام 1945م وجمعت الرعيل الأول من الإخوان وكان لكل محافظة عدد في الهيئة أختير الأستاذ محمد فهمي القراقصي كأحد أعضاءها عن محافظة البحيرة برفقة إخوانه الحاج عبد القادر عثمان تاجر بدمنهور، الشيخ أحمد عبد الحميد حامد الطحان من كفر بولين البحيرة، والأستاذ عبد الغفار الديب من كوم حمادة، والأستاذ محمود عبد الحليم من رشيد.
ظل الأستاذ محمد فهمي القراقصي ثابتا على دعوته رغم تعرضها للكثير من المحن سواء عام 1948م أو بعد مقتل مؤسسها، ثم كانت المحنة الكبرى في عهد عبدالناصر.
مواقف ومحن للأستاذ محمد فهمي
ومن المواقف التي يذكرها الحاج فتحي رخا للأستاذ محمد فهمي القراقصي:
- أنه في عام 1946 كان الأمام حسن البنا يؤدي فريضة الحج وكان أحمد السكري وكيل الجماعة وكان إسماعيل صدقي رئيس الوزارة في ذلك الوقت وكان هناك توتر بالعلاقة بينه وبين الجماعة فكان هناك يوم أسمه يوم الحريق على مستوى الجمهورية بدأ هذا اليوم في مدينة دمنهور بعرض عسكري للجوالة وكانت الأوامر أن يرتدي كل أخ زى الجوالة وفوقه جلباب حتى يصل أمام شعبة الإخوان بالقلعة
- وهو مكان انطلاق العرض الذي جاب مدينة دمنهور كلها مرورا على شعب المدينة وكان هذا العرض في أول شهر محرم وصدرت الأوامر بخروج سيارات الأمن من سكناتها بالجنود لمنع هذا العرض ويقول رخا أن كانت دمنهور بها 3 سيارات أمن فقط وعداد العساكر كان خوذة حديد وعصاه فقط وتمركزوا عند نقطة الشرطة وكان مسئول العرض الأستاذ محمد القراقصي رحمه الله وبالفعل نجح العرض وفي أخر اليوم كان الحريق
- وهو عبارة عن تجمع الإخوان في الميادين الرئيسية وحرق كتب وعلم الإنجليز والتنديد بالنظام القائم والاحتلال الإنجليزي والهتاف ضدهم وبالفعل تم بميدان شلبي أمام عمارة شلبي وتحركت أول عربه أمن للوصول لمنع هذا الحريق لكنه قد تم وقام الاهالى بإطفاء الحريق قبل وصول الأمن وأخذ بعضهم باقي الكتب ليباع لصالحه ثم كان إخوان شبرا قد بدئوا أيضا بنفس المخطط وحرق العلم ولكنهم وضعوا العاب النارية الخاصة برمضان في وسط الحريق فخاف الجميع أن يقترب منها واستمرت ونجح اليوم وعندما وصلت سيارات الأمن كان اليوم قد نجح وأنصرف الإخوان.
- اعتقل الأستاذ محمد فهمي رغم كبر سنة وزج به في السجن مع بقية إخوانه من الإسكندرية في أحداث 1954م.
ومما يذكره الأستاذ عباس السيسي في مذكراته في السجن قوله:
- كنت شديد الحرص على التعرف على أكبر مجموعة من الإخوان وكان الأخ عماد الدين حسين شرف الدين من هؤلاء – وكان يسكن في زنزانة مع الإخوة الأستاذ محمد فريد عبد الخالق والأستاذ محمد فهمي القراقصي مدير منطقة دمنهور التعليمية . وبعد الفجر قال لإخوانه أنه قد رأي في منامه الليلة أن والده قد توفي إلى رحمة الله وأنه شخصيا قد شارك في تشييع الجنازة فقال له الإخوة إنها رؤيا مطبوعة بالجو الحزين الذي تعيش فيه وطمأنوه وهدأت نفسه .
- ولم يمض وقت طويل حتي جاء من يستدعيه لمقابلة مدير السجن وهناك قدموا له التعزية في وفاة والده (موظف كبير في القصر الجمهوري) وارتدي ملابسه وخرج في صحبة أحد الضباط بالملابس المدينة .. ولازمه حتي استكمل تشييع الجنازة العزاء ثم عاد به مرة أخري إلى زنزانته . وكان هذا الذي حدث مما ضعف حب الإخوان للأخ عماد.
خرج من السجن مع من خرج عام 1957م لكنه اعتقل مرة أخرى في أحداث 1965م حيث يذكره الأستاذ محمود عبدالحليم في سرده للأحداث التي جرت في ذلك الوقت بقوله:
- في خلال فترة إقامتنا في "أبو زعبل" نودي مرتين ، كل مرة علي عدد من الإخوان نحو الخمسين أو الستين من الإخوان الكرام الذين ذكرت أنهم لم يكونوا في يوم من الأيام هدفاً للاعتقال .. وسلموا أماناتهم وهنأناهم بالإفراج .وفي منتصف أكتوبر نودي علي عدد كبير من الإخوان يبلغ بضع مئات ، أكثرهم من الإخوان ذوي النشاط وفيهم مجموعة كبيرة من إخوان الإسكندرية وكنتم منهم
- كما كان منهم الإخوة الأساتذة نجيب عبد العزيز ومحمود السعدني ومحمد فهمي القراقصي وغيرهم من خيرة إخوان الإسكندرية والقاهرة وبعض الأقاليم .. وأمرنا بتحضير حقائبنا، وسلمتنا إدارة السجن أماناتنا ، وقدمت لنا التهنئة للإفراج كما فعلوا مع المجموعات السابقة .
- وجلسنا في فناء السجن ننتظر حضور السيارات التي تقلنا. وجلس الإخوان من حولي يتحدثون ولمحات السرور علي وجوههم وفي ثنايا حديثهم للإفراج الذي جاء مبكرًا، لكن لم يكن قلبي سعيد خاصة إذا إدرك هؤلاء الإخوة أن هذا ليس إفراجا لكنه انتقال إلى سجن أخر لكن صمت، حتى تحركت السيارات واتضحت الرؤيا حيث تم نقلنا إلى سجن سجن مزرعة طره.
ويقول دوجلاس تومسون في مذكرات يوسف ندا:
- عندما كان يوسف ندا فى السجن اعتقلت الشرطة العالم المعروف محمد القراقصى وكان فى الثمانين من عمره وحالته الصحية سيئة ورغم ذلك وضعوه فى السجن وكان القراقصى يرتدى نظارة طبية سميكة يرى بها الشىء القليل وبصورة مهزوزة وكان الحراس القساة يتخذون من عجزه مادة لألعابهم وكانوا يضربونه بالسوط من ورائه ويسألونه أن يدُلهم عمن ضربه ومهما كانت إجابته يعتبرونها خاطئة وبناء عليه يعيدون ضربه مرة أخرى ورغم هذا التعذيب اليومى كان الرجل يدعو للرجل الممسك بالسوط قائلا : متعك الله بالصحة يابنى "
- كان الشاب يوسف ندا يغضب من هذا القول ويقترح على الشيخ ان يدعو الله أن يشل يد جلاده أو يكسرها وهو بهذا يتخذ موقفا بين التسليم بما يحدث والثورة عليه ولكن محمد القراقصى ضحية هذا التعذيب الهمجى كان يتطلع إلى يوسف من خلال عدساته السميكة
ويقول :
- يابنى يايوسف ماذا أستفيد إذا شُلت يد الرجل ؟ هل نسيت آيات القرآن عن العفو والصفح ورغم مرور السنوات الطوال ما زالت عينا يوسف تدمعان كلما روى هذه القصة : " كان الشيخ يبتسم وهو يقول لى : يا يوسف هل أنت أحمق أم مجنون ؟ ماذا أكسب إذا غُلت يداه وماذا أستفيد إذا كُسرت رقبته ؟ ربما يُحسن الله إليه فيتغير ويلحق بالآخرين فيصنع شيئا فيه خير للناس وللإسلام "
- " ونظرت إليه نعم أحدنا مجنون إما هو وإما أنا ورغم كل ما أصابه لم يغير موقفه وظل يريد الخير للآخرين فكان الشيخ أكثر نقاء منى وكان هذا درسا لا يُنسى".
وهو ما جعل يوسف ندا يتأثر به فيقول:
- أما إذا ذكر الطغيان فنحن سُعداء بتواضعنا وعندما يستخدم أحدهم عضلاته ضدنا فنحن مسرورون بالرد عليه بالعقل والحكمة نحن تلامذة محمد القراقصى الذى سألنى عما سوف أجنيه من العنف والاجابة لا شىء إن مجرد التفكير فى القضاء على حياة إنسان آخر فكرة تثير فى نفسى الغثيان.
- ولا ندري على وجه الدقة بقية مسيرة هذا المربي الفاضل الذي كان ملأ السمع والبصر في عهد الإمام البنا وخليفته المستشار حسن الهضيبي، لأن كل أخباره انقطعت فجأ، ولا أعتقد أنه يوجد أحد ممن عايشوه يعرف بقيه مسيرته.
المهندس محمد إبراهيم القراقصي
كانت الشخصية الثانية التي اشتركت معه في نفس الأسم هو المهندس محمد إبراهيم القراقصى الذي كان استاذا فى كلية الهندسة بالإسكندرية، وكان أحد كبار الإخوان في مدينة الإسكندرية وعايش الإمام البنا وحضر معه كثير من المواقف.
فقد دأب الإمام البنا على زيارة الأقاليم للتعريف بالدعوة أكثر وللقاء الأحبة هناك وكانت الإسكندرية من الأماكن التي يزورها الإمام البنا باستمرار، وفي عام 1946م زارها لإلقاء محاضرة ولمتابعة سير العمل الإخواني، وكان بصحبته عباس السيسي وحسن سالم ومحمد مختار عبد العليم وأمين مرعي مسئول المكتب الإداري لإخوان الإسكندرية والمهندس محمد القراقصي والشهيد عبد الرحيم عبد الحي (الذي استشهد في حرب فلسطين) ومحمد عبد السلام ومحمد بكير وسيد رشدي ومحمد منصور وغيرهم.
وليس ذلك فحسب بل التقى سماحة المفتى أمين الحسيني بصحبة الأستاذ أمين مرعي رئيس الإخوان بالإسكندرية والاستاذ محمد مختار عبد العليم المحامى، والاستاذ مصطفى خضر المحامى، والاستاذ محمود عبد السلام والاستاذ عادل بهجت.
وتفاعلا مع القضية الفلسطينية أيضا صحب الإمام البنا في العديد من الأعمال الخاصة بهذه القضية وكان في صحبتهم عام 1947م الاستاذ محمد عبد الفتاح جميعي رئيس الإخوان بالإسكندرية والدكتور شفيق الخشن والدكتور عبده سلام (وزير الصحة السابق) والدكتور عبد القادر سرور – ومن الوقوف عن اليمين الاستاذ مختار عبد العليمالمحامى وعن اليسار المهندس محمد القراقصى وفى وسط الصف الاستاذ أحمد شحاته المحامى.
كان أحد أعضاء الجماعة التي اتجهت لقصر رأس التين بالإسكندرية مندوبا عن الإخوان لتسجيل اعتراض الإخوان على أحداث فلسطين. وحينما كان الأستاذ حسن البنا في عزبة حسن عبد الحافظ المحامى صحبه المهندس محمد القراقصي والأستاذ حسنى كاوتش، والاستاذ مختار عبد العليم، والاستاذ حسن عبد الحافظ، وشقيق حسن عبد الحافظ.
وحينما وقعت فتنة الأستاذ أحمد السكري والأستاذ أمين مرعي فزع إخوان الإسكندرية وأوفدوا وفدا رفيعا من إخوان الإسكندرية لمقابلة الأستاذ البنا
حيث يقول الأستاذ عباس السيسي:
- أشفق الاخوان بالإسكندرية على مصير الدعوة من هذا الحدث الخطير الذى يهدد دعوة الإخوان المسلمون، لهذا فكر الإخوان فى ايفاد مجموعة من الإخوان الى الاستاذ المرشد العام للتفاهم معه بشأن انقاذ الموقف وعلى هذا توجه الاخوة المهندس محمد القراقصي لمقابلة الإمام فى منزله بشارع الخازن بجوار المركز العام ..
- واستقبلنا فضيلة المرشد فى حجرة متواضعة بجوار باب المنزل وجلسنا معه على الارض حيث كان يجلس الى مكتبه المرتفع عن الارض قليلا يطالع بعض الكتب وبعد أن رحب بنا وسألنا عن الاخوة بالإسكندرية تحدثنا معه فى الموضوع الخاص بالاستاذ أحمد السكري فصمت الرجل قليلا وبدت عليه علامات الحزن ثم قال لنا : ان موضوع الاستاذ السكرى موضوع قديم ومتشعب وكان لزاما أن يقضى فيه برأى حتى لا يستشرى ثم يستعصى حله بعد ذلك وربما تأتى ظروف يغيب فيها أحد الاطراف لهذا فقد رأينا أن نشكل لجنة مستقلة للتحقيق فى الوقائع المنسوبة اليه.
- وبعد أن انتهي المؤتمر المؤتمر الشعبي الثاني بالإسكندرية والذي استمر أكثر من أربع ساعات متصلة ازدحم الناس ليسلموا علي فضيلته فأقبل عليهم بانشراح وبعد أن انتهي خرج إلي الباب فوجد الأستاذ فؤاد سراج الدين ينتظره بسيارته ، فلما دعاه ليركب معه شكره واعتذر له حيث أن شعبة محرم بك علي مقربة من المكان . ولما ذهب فضيلته إلي شعبة محرم بك وقف الإخوان من حوله يسلمون عليه ، وقد لاحظت أن الأخ يعود مرة أخري للسلام ، وطلبت من الإخوان أن ينصرفوا حتى يعطوا لفضيلة المرشد فرصة للراحة ، فانصرف الإخوان.
يقول السيسي:
- وحين ذهبنا إلي منزل المهندس محمد القراقصي للمبيت عنده طلبني الأستاذ المرشد ، وسألني في عتاب : لماذا أمرت الإخوان في شعبة محرم بك بالانصراف ؟ فقلت : لأنني أشفقت علي فضيلتكم من التعب والإرهاق . فقال : ومن قال أنني متعب . قلت : السفر طويل والمؤتمر الذي استمر أكثر من أربع ساعات ، ثم إن بعض الأخوة يسلمون عليك أكثر من مرة . فقال : وهل هذا تعب ؟! قلت : نعم . قال : كنت أظن أنك قد فهمت ، ولكن يبدو أنك لم تفهم .. إن سعادتي لا تقدر حين أضع يدي في يد إخواني .. إنها روح وحياة وسعادة تمسح التعب والألم والإرهاق ، فأطرقت خجلا وبدأت أفهم بل أتذوق.
وكسابقه أخيه محمد فهمي كان هو كذلك حيث لم نعرف بقية مسيرة حياته ولا متى انتهت