مستقبل الثقافة فى مصر .. للحقيقة والتاريخ
بقلم / الإمام حسن البنا
بسم الله الرحمن الرحيم
تحريرا فى 16 من ربيع الآخر سنة 1357ه
سيدى صاحب ......أحمد إليكم الله الذى لا إله إلا هو وأصلى وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله ومن تبع هداه، وأرفع إليك تحية الإخوان المسلمين فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يا صاحب.. إن من أمتن دعائم النهضة وأقوى أركانها وحدة الفكرة ووحدة العاطفة ووحدة الشعور ووحدة الآلام والآمال وذلك كله يتمه وحدة الثقافة، لهذا كانت فكرة توحيد المدارس الدينية والمدنية إلهاما مباركا فى هذا الوقت الذى نتهيأ فيه للعمل والنهوض، ولكن الفكرة وحدها لا تكفى بل لابد من الإنفاذ والعمل، والإنفاذ وحده لا يكفى بل لابد من التفكير فى أفضل طرقه ووسائله حتى لا تنحرف بنا الطريق فتضر أكثر مما تفيد. لهذا كان من واجب الغيورين أن يتقدموا بما عندهم من ملاحظات وآراء والحقيقة رهن البحث والتفكير.
إننا يا صاحب .. أمة متحدة فى كل شىء إلا فى شىء واحد لعله أهم مظاهر الوحدة هو الثقافة والتفكير، ولقد طفت هذا القطر المصرى الكريم من أقصاه إلى أقصاه، وجبت مدنه وقراه، واتصلت بأوساطه المختلفة وبيئاته العديدة فوجدت الوحدة تشمل كل مظاهر حياته من نظام معيشة وتقاليد وعادات إلا بعض الخلاف الموضعى الذى هو وليد الظروف الخاصة فقط وليس هناك تخالف جوهرى فى نظم الحياة العامة.
فنظام حياة الطبقى الوسطى مثلا فى أسوان هو نظام حياة هذه الطبقة فى القاهرة وفى طنطا وفى الزقازيق وفى غيرها شرقا وغربا، فالمأكل واحد والمشرب واحد والملبس يكاد يكون واحدا وهكذا، ولكن الخلاف الصارخ؛ الخلاف العظيم فى التفكير والثقافة والآمال والآلام، ولهذا لا تكاد تلتقى وجهات النظر إذ دار بحث قضية من القضايا فى مجتمع من مجتمعاتنا المصرية.
هذا الخلاف طبيعى بالنسبة للظروف التى اجتازتها الأمة قديما وحديثا ولخطوات التطور التى نخطوها ولعصر الانتقال الذى نجتازه.. مما جعل ثقافة الأمة ذات طابعين متميزين تميزا تاما لا يكاد يلتقى أحدهما بالآخر وإن أخذا يتقاربان. فلقد أتى على مصر زمان كانت ثقافتها فيه تدور حول محور واحد هو فروع الدين وتنحصر فى معهد واحد هو الأزهر وفروعه ففى الأزهر يتخرج العلماء والأئمة والوعاظ والقضاة والحاكمون،
وأبناء الأزهر هم الذين يثقفون الأمة ويطبعونها بالطابع الذى يريدون، واستمر ذلك وقتا رسخت فيه أصول هذه المدرسة وثبتت دعائمها، ثم جاء دور الاتصال بأوروبا والنقل عن أوروبا فى أطواره المختلفة.
فأنشئت المدارس المدنية إلى جوار الأزهر، وعدت على اختصاصاته واحدا فواحدا حتى حصرته فى نطاق ضيق هو نطاق الفكرة الروحية، وأخذت منه كل المظاهر العملية تقريبا، وتعددت أنواع التعليم وتكاثرت وتكررت التجارب فإذا بنا نرى سلسلتين من أنواع المدارس:
فهناك الأزهر وأقسامه وفروعه من الابتدائى والثانوى والكليات وأقسام التخصص ويلحق به فى مهمته مدارس المعلمين الأولية والمدارس الأولية إن شئت ذلك.
وهناك كذلك المدارس المدنية من رياض الأطفال والابتدائى والثانوى والجامعة ويلحق بها المدارس الخصوصية والفنية من زراعية وصناعية وتجارية إن شئت ذلك، وهناك معهدان حائران بين القسمين هما: دار العلوم ومعهد التربية.
لكل من هاتين السلسلتين أثر بالغ فى نفوس قسم من أقسام الأمة، وكل نوع من هذه المدارس يهيمن على عقول وأفكار يوجهها كثيرا ما يكون بعيدا عن توجيه القسم الآخر، وفى ذلك ما فيه من الخطر على أمة ناهضة لا سناد لها إلا الوحدة.
وإذن لابد من أن نبحث فى وحدة الثقافة ولابد من أن نعمل على تحقيقها.
يظن كثير من المدنيين أن فى مقدور الحكومة وفى مقدور الصحف وغيرها من دعاة الفكرة المدنية القضاء على آثار الفكرة الإسلامية وتخليص الأمة منها وصبغ كل شىء بالصبغة المدنية البحتة ويحتجون لذلك بما فعلته بعض الأمم الشرقية فى هذا السبيل، وهم يتحمسون لفكرتهم هذه ويوجهون إليها الشعب بمختلف الوسائل والدعايات، وفاتهم أن الحال فى مصر غيره فى البلاد الأخرى؛
فقد امتزج الإسلام بدم كل مصرى وتغلغل فى قلبه وروحه ودمه وعروقه وآمن به إيمانا هو أبقى على الزمن الباقى من الزمن.
فكل محاولة فى سبيل هدم هذا الإسلام فى نفوس المصريين محاولة فاشلة، إن أخفت مظاهرها حينا فلن تقضى عليه، وإنها لتظهر بأقوى مجاليها فى أحيان أخرى كثيرة والواقع أعدل شاهد على ذلك، فقد ظن الناس فى وقت قريب أن الإسلام قد وهن فى نفوس الشعب حتى عجز عن حماية نفسه، وإذا بهذا الإسلام ينتفض فتتحطم باسمه هيئات راسخة، وتتغلب باسمه حكومات وطيدة ويهرم الدهر بعد ذلك و الإسلام إسلام.
ويظن كثير من الدينيين أن هذه المظاهر المدنية شر كلها، وأن تخليص الأمة من شرورها وآثامها هين ممكن، فهم يتحسسون لفكرتهم بدورهم، ويدعون الناس إليها بمختلف الوسائل والأساليب، وإن كانت أجهزتهم أضعف وأسلحتهم أقل، ولكنهم يجدون من الشعب تعزيزا وتأييدا.
وهؤلاء متغالون كذلك؛ فإننا لن نستغنى أبدا عن هذه القوة المادية ولن نتغلب على أعدائنا إلا إن سبقناهم فى ميادين علومهم ومعارفهم، وأعددنا أنفسنا بمثل ما يعدون لنا إن لم يكن فى الكم ففى الكيف على الأقل.
وإذن فلا محيص من المزج بين الفكرتين، وبخاصة و الإسلام دين مرن فسيح يساعد على الإصلاح ولا يقف فى طريقه، ويحض على التعلم ولو بأقصى الأرض، ويأخذ الحكمة وهى ضالة ولا يبالى من أى وعاء خرجت، ويجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وذلك هو واجبنا لتوحيد الفكرة وللقضاء على هذه الفوضى وتكوين الأمة القوية العزيزة الموحدة الأهداف والغايات هو الذى يجعلنا نستقبل فكرة توحيد المدارس الدينية والمدنية فى الدور الابتدائى والثانوى بسرور وفرح واستبشار:
ولهذا يتقدم الإخوان المسلمون بهذه الملاحظات معتقدين أنها ستلقى من عنايتكم ما يتكافأ مع الغاية التى أملتها والشعور النبيل الذى أوحى بها:
أولا- نرجو ألا يكون ذلك على حساب الفكرة الإسلامية، وألا يكون معناه تقليد الغرب فى سلخ مناهج التعليم عن الفكرة الدينية والعدول بها إلى العلمانية البحتة بالتدريج، بل لابد أن يكون المقصود بذلك تكوين الطالب فى أدوار فعلية تكوينا صالحا تتكافأ فيه معلوماته الدينية ومشاعره الروحية وتربيته الخلقية مع ثقافته العلمية.
ثانيا- نرجو أن يكون هذا التوحيد فاتحة تعديل تام فى مناهج التعليم؛ تعديلا يجعلها غذاء صالحا للعقول والأرواح فى كل المعاهد، ويبعد بها عن الحشو واللغو، ويربط سلسلة التعليم بعضها ببعض فيتكون نظام المعاهد فى مصر على النحو الأتى مثلا:
أ- التعليم التحضيرى أو الأولى ومنه رياض الأطفال. ويكون إجباريا ذا منهاج يتناسب مع مدارك الطفل فى هذه السن ومع مطالبه النفسانية.
ب- التعليم الابتدائى. ويستمد من سابقه، وتحذف منه اللغات الأجنبية بتاتا وتضاف دروسها إلى اللغة الوطنية والعلوم الإسلامية الخلقية، وهذا الرأى وهو حذف اللغات الأجنبية من المدارس الابتدائية يقول به معظم حضرات رجال المعارف المختصين بالتربية ودراسة علم النفس، وقد نادوا به من قبل وهو المعمول به فى كل الأمم الأجنبية حيث يخصص هذا الدور من التعليم بإتقان لغة البلاد.
ج- التعليم الثانوى. ويستمد من سابقه، وتدرس فيه لغتان أجنبيتان لغة شرقية ولغة غربية بدلا من لغتين غربيتين، وذلك هو المتفق مع نهضتنا وآمالنا ومطامحنا وصلتنا بالشرق، ويعنى فيه بالدروس الإسلامية والخلقية وتاريخ الإسلام والتربية الوطنية، ويلحق بهذا التعليم ويكمله أو يبنى عليه التعليم الفنى والخصوصى ومدارس المعلمين الصغيرة بعد تخصص فى التربية وعلم النفس.
التعليم العالى أو الجامعى. ويستمد من سابقه، وتتفرع الجامعات فيه إلى الجامعة الأزهرية بأقسامها الحالية بعد تعديل وزيادة بحسب حاجة الأمة ومقتضيات الأحوال، والجامعة المصرية بأقسامها بعد تعديل كذلك، والجامعات الأخرى التى ستتطلبها النهضة، ويلحق بهذا القسم المدارس العسكرية ومدارس المعلمين الراقية بعد تخصص فى التربية وعلم النفس كذلك، أو تكون هذه الدراسة فى كليات جامعية مع توحيد الدرجات وتحديد الاختصاصات فى كل الكليات، ويعنى فى جميعها بالدراسات الإسلامية وتاريخ الإسلام على تفاوت يتناسب مع مهمة كل منها بحيث يخرج الطالب وقد حذق تعاليم الدين والعقائد...
وبذلك تتم مراحل التعليم العادية فى الأمة، ويفتح المجال أمام من أراد الاستزادة من عبادات ومعاملات... إلخ بما رأوا فى إطالته.
وحبذا لو فكر فى اختيار طائفة من خريجى الكليات الإسلامية والعربية المقترحة فى متانة من الخلق وغنى من الثروة، يحتلون هذا المسجد العتيق (الأزهر) ويتفرغون للبحث والتنقيب والكتابة والتأليف وإمداد العالم الإسلامى بما هو فى حاجة إليه من فتاوى ونظم وأحكام، وتجرى عليهم أرزاق كافية ويكونون بعيدين كل البعد عن تقلبات السياسة وعواصف الحكومات وتحكم الملوك والأفراد،
يخدمون العلم للعلم، ويقولون الحق للحق، ويتمكنون من دراسة دين الله، ويختصون بهذه البحوث فى شريعته، ويختارون من بينهم شيخهم فيكون هو شيخ الإسلام، وبذلك ينفصل منصب شيخ الإسلام عن منصب مدير الجامعة الأزهرية، وحبذا لو انفسح صدر هذا المجمع الإسلامى للعلماء من الأقطار الإسلامية الأخرى على اختلاف أقطارهم ومذاهبهم فوسعهم وتعاونوا على إحقاق الحق وتقريب وجهات النظر وجمع شتات المسلمين ودعوتهم جميعا إلى الخير. وحبذا لو تم مشروع توحيد مناهج التعليم فى الأقطار الإسلامية فيسهل بذلك على الطلاب من كل قطر إسلامى أن ينتسبوا رأسا إلى كليات الجامعة الأزهرية.
بقى أمامنا مشكلة لابد من علاجها فى وضوح وجرأة وصراحة؛ تلك هى مشكلة تحفيظ القرآن الكريم: فقد درجت المناهج فى مصر وتقرر فى أذهان الناس أن تحفيظ القرآن جزء من مناهج التعليم لأول أدواره، إذ إن هذه السن هى وقت قوة الحافظة والذاكرة ولا يتيسر حفظه فيما بعد ذلك، وصار هذا عرفا يجد الناس فى مخالفته كثيرا من الحرج ويخيل إليهم أن ذلك ضياعا لكتاب الله، وترى من جانب آخر أن اشتغال الطلبة بحفظ القرآن كله فى هذه السن يفوت عليهم كثيرا من استخدام مواهبهم العقلية، ويعطل كثيرا من قواهم النفسانية، ويرسم القرآن فى عقولهم وقلوبهم ألفاظا لا معنى لها، ويعودهم القراءة بدون تفكير ولا تدبر فى مستقبل حياتهم، فهذه الطريقة إن خرجتهم أوعية القرآن فقد حرمتهم لذة تدبره وثمرة التفكير فى معانيه ومقاصده، والمشكل قديم، وقد عالجه "أبو بكر بن العربى" وأشار إليه،
وأبان أن التحفيظ ابتداء طريقة المشارقة. ونقد هذه الطريقة نقدا مرا وزكى طريقة المغاربة والأندلسيين فى البدء بتعليم اللغة وتذوق الأدب، ثم يأتى دور دراسة القرآن بعد ذلك، ونحن نريد أن نوفق بين حفظ كتاب الله والمحافظة عليه وبين الانتفاع بكل القوى والمواهب فى الطفل وتربيتها جميعا تربية متناسقة بحيث يقوى بعضها بعضا ويمد بعضها بعضا، ولنجمع بين الفائدتين نقترح أن يوزع حفظ ثلث القرآن على الأدوار الثلاثة من أدوار التعليم السابقة الأولى والابتدائى والثانوى، فيحفظ التلميذ فى مدة دراسته التحضيرية أو الأولية جزءا واحدا فقط، وفى دراسته الابتدائية أربعة أجزاء مع استذكار الماضى، وفى دراسته الثانوية خمسة أجزاء مع استذكار ما سبق؛ وبذلك يكون كل متعلم فى الأمة قد حفظ شيئا من كتاب الله، ويكون كل من تخرج من المدارس الثانوية قد حفظ ثلث القرآن. وفى دور الدراسة العالية يحفظ كل طالب فى كليات الأدب أو الدراسات الإسلامية الثلثين الباقيين بحيث لا يجاز بشهادته إلا إذا أدى امتحانا دقيقا تاما فى القرآن كله،
ويحفظ كل طالب فى الكليات الأخرى خمسة أجزاء ليتم بذلك حفظه لنصف القرآن، ولا يعطى شهادته كذلك إلا بامتحان دقيق فى كتاب الله، وللتغلب على صعوبة اختلاف الأديان فى المدارس يكلف غير المسلمين من الطلبة حفظ محفوظات مختارة من جيد النظم والنثر تحل درجاتها محل درجة القرآن الكريم فى الشهادات والامتحانات المدرسية.
ويلفت دائما نظر الكلية إلا أن القرآن شىء يتعبد به فهو للعلم وهو للعبادة، فعليهم أن يقرأوه دائما كذكر لله يطلب به ثوابه ويتقرب به إليه حتى يدوم تعلقهم به، وتستمر ملازمتهم له، ويستذكرونه عن رغبة وإجلال لا عن عنف وإرهاق، وبذلك نخدم كتاب الله ويكثر عدد الحفاظ المتفقهين، ويقضى على الاحتراف بالقرآن الذى ما نزل إلا ليكون نورا وهداية للناس جميعا، وتنحل مشكلة تحفيظ القرآن على أفضل وجه ولا يختص بدراسته قوم دون قوم.
ومن متممات هذا البحث أن نصارح بأنه لابد من التفريق بين منهاج التعليم وأماكنه بين البنين والبنات فى غير الدور التحضيرى، فليس تكوين البنت كتكوين الغلام؛ وليست مهمتها كمهمته، ولا بأس بأن تتعلم ما تشاء وترقى فى درجات التعليم إلى ما شاءت؛ ولكن فى حدود ما يناسب تكوينها ومهمتها، وفى بعد تام عن الفتيان بعد سن التعليم الأولى، ولا يعتذر عن ذلك بقلة الأماكن أو قلة الأموال، فإن صيانة أخلاق الأمة وكيانها الأدبى أمر واجب لا يكثر فى سبيله إنفاق، وقد جربنا مضار هذا الاختلاط واكتوينا بناره وحسبنا هذه التجارب، والرجوع إلى الحق خير من التمادى فى الباطل.
تلك بعض المقترحات الإصلاحية نضعها بين يديكم لمناسبة التفكير فى إصلاح مناهج التعليم وتوحيد أنواعه رجاء دراستها وإنفاذها، وهى نقطة إجمالية ليس هنا موضع تفصيلها، و الإخوان المسلمون على استعداد للتقدم بالتفصيل إذا طلب إليهم ذلك وصحت العزيمة على العمل، كما أنهم على استعداد كذلك لأن يقاوموا بكل ما أوتوا من قوة كل نظام وكل توحيد وكل منهاج يراد به سلخ البقية الباقية من المظاهر الإسلامية فى أية ناحية من نواحى حياة الأمة السياسية أو الاجتماعية أو التشريعية أو الثقافية،
فنحن أمة مسلمة قبل كل شىء لا تعدل بتعليم الإسلام شيئا، ونريد أن نستعيد ما فقدنا من إسلامنا، لا أن نفقد ما بقى منه بين أيدينا وسنعمل لذلك مهما كان الثمن الذى سندفعه غاليا، ومهما كانت التضحية التى نبذلها عزيزة كريمة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر: النذير، العدد (6)، السنة الثانية، 6 صفر 1358ه / 28مارس 1939م