منهجية الإختلاف في الرأي بين السبب والأدب في فكر الإِمام البنا

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
منهجيةُ الاختلافِ في الرأي بين السَّببِ والأدبِ في فِكْرِ الإِمَامِ البَنا

موقع إخوان ويكي (ويكيبيديا الإخوان المسلمين)

  • بقلم: محمد الصياد .. معيد بجامعة الأزهر


تمهيد

الإمام حسن البنا الذي ضرب أروع الأمثلة في تقبل الرأي الآخر

من أقوال الإمام البنا الشهيرة: "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه".

وهذه الجملة الموجزة تمثل فلسفة الإمام الأستاذ البنا في قضية تشرذم الأمة وتفككها ، فأراد أن يلم الشمل ويجمع الصف ، ويوحد الجميع تحت راية واحدة وخطوط عريضة وملامح عامة ، تمثل الأركان والثوابت التي لا خلاف عليها عند العقلاء من الأمة .

عاصر الإمام الشهيد حسن البنا نحارير العلماء في عهده يُقيمون المعارك الطاحنة من أجل القضايا الفرعية بل التافهة ، وكان الشافعي لا يصلي وراء الحنفي ، ويتخاصمون لأن فلانا يذكر الله جهرا وبعضهم يراها بدعة ، وبعضهم ينطق في التشهد بلفظ "سيدنا" قبل النبي صلي الله عليه وسلم وبعضهم لا ينطق ، ونحو هذا الخبل ، الذي أعاق أمتنا عن النمو في مجالات الحياة .

ولقد بيّن لنا مدى هذا التشرذم والتفكك بسبب المسائل الفرعية التافهة ، بين علماء الأمة ، الذين لم يبالوا بسقوط الخلافة العثمانية ، ولا بتزحزح المسلمين عن مكانتهم العالمية ، ولم يبالوا بدعائم الدين وأسس الدولة ، ولا بمن يقود معركتهم ويتولي زمامهم .

يقول الإمام الشهيد رحمه الله في هذا الصدد: "وفي إحدى الليالي شعرت بروح غريبة .. روح تحفز وفرقة ، ورأيت المستمعين قد تميز بعضهم من بعض ، حتى في الأماكن ولم أكد أبدأ –في الحديث- حتى فوجئت بسؤال : ما رأي الأستاذ في مسألة التوسل ؟! فقلت له : يا أخي أظنك لا تريد أن تسألني عن هذه المسألة وحدها ، ولكنك تريد أن تسألني كذلك في الصلاة والسلام بعد الآذان ، وفي قراءة سورة الكهف يوم الجمعة ، وفي لفظ السيادة للرسول صلي الله عليه وسلم في التشهد ، وفي أبوي النبي صلي الله عليه وسلم ، وأين مقرهما ؟! وفي قراءة القرآن هل يصل ثوابهما للميت أو لا يصل ؟! وفي هذه الحلقات التي يقيمها أهل الطرق وهل هي معصية أو قربة إلي الله ؟!

وأخذت أسرد له مسائل الخلاف جميعا التي كانت مثار فتنة سابقة وخلاف شديد فيما بينهم ، فاستغرب الرجل ، وقال : نعم أريد الجواب علي هذا كله ؟ فقلت له : يا أخي إني لست بعالم ، ولكني رجلٌ مدرس مدني أحفظ الآيات وبعض الأحاديث النبوية الشريفة وبعض الأحكام الدينية من المطالعة في الكتب ، وأتطوع بتدريسها للناس . فإذا خرجت بي عن ذا النطاق فقد أحرجتني، ومن قال لا أدري فقد أفتي ، فإذا أعجبك ما أقول ورأيت فيه خيرا ـ فاستمع مشكورا ، وإذا أردت التوسع في المعرفة فسل غيري من العلماء والفضلاء المختصين ، فهم يستطيعون إفتاءك فيما تريد ، وأما أنا فهذا مبلغ علمي ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها .

فأخذ الرجل هذا القول ولم يجد جوابا وأخذت عليه ، بهذا الأسلوب ، سبيل الاسترسال ، وارتاح الحاضرون أو معظمهم إلي هذا التخلص ، ولكني لم أرد أن تضيع الفرصة فالتفت إليهم وقلت لهم : "يا إخواني أنا أعلم تماما أن هذا الأخ السائل ، وأن الكثير من حضراتكم ، ما كان يريد من وراء هذا السؤال إلا أن يعرف هذا المدرس الجديد من أي حزب هو ؟ أمن حزب الشيخ موسي أو من حزب الشيخ عبد السميع ؛ وهذه المعرفة لا تفيدكم شيئا ، وقد قضيتم في جو الفتنة ثماني سنوات وفيها الكفاية .

وهذه المسائل اختلف فيها المسلمون مئات السنين ولا زالوا مختلفين والله تبارك وتعالي يرضي منا بالحب والوحدة ويكره منا الخلاف والفرقة ، فأرجو أن تعاهدوا الله ، أن تَدَعوا هذه الأمور الآن ، وتجتهدوا في أن نتعلم أصول الدين وقواعده ونعمل بأخلاقه وفضائله العامة ، وإرشاداته المجمع عليها ، ونؤدي الفرائض والسنن وندع التكلف والتعمق حتى تصفو النفوس ويكون غرضنا جميعا معرفة الحق لا مجرد الانتصار للرأي ، وحينئذ نتدارس هذه الشئون كلها معا في ظل الحب والثقة والوحدة والإخلاص ، وأرجو أن تتقبلوا مني هذا الرأي ويكون عهدا فيما بيننا علي ذلك" ، وقد كان ، ولم نخرج من الدرس إلا ونحن متعاهدون علي أن تكون وجهتنا التعاون وخدمة الإسلام الحنيف ، والعمل له يدا واحدة ، وطرح معاني الخلاف ، واحتفاظ كل برأيه فيها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ؛ انتهي .... "مذكرات الدعوة والداعية ص61"

ارتدّ الإمام الشهيد ببصره ليجد أوروبا بدأت تشعر بخطورة التشرذم وبدأت تُعيد بيتها الداخلي وتطرح خلافاتها الدينية جانبا . كانت أوروبا قد شهدت حروبا دينية طاحنة بين الكاثوليك والبروتستانت سالت فيها الدماء وقطعت فيها العلاقات ثم استطاعت القارة البيضاء أن تجمع الشتات وتلم الشمل وتظهر فكرة وبوادر العملة الواحدة والاتحاد الذي يجمع دول القارة ليحفظ مصالحها التجارية الاقتصادية والسياسية .

تعجّب الإمام البنا رحمه الله ، كيف يمكن لأوربا أن تتوحد وهم أبناء لغات مختلفة وأديان متباينة واشتدت وطأة الحروب بينهم لعشرات السنين ..

كيف يمكن ذلك في الوقت الذي لا يفكر المسلمون –مجرد التفكير- في وحدة صفهم ودرء الخلافات جانبا . ولما علم الإمامُ البنا أن الاختلافات من المستحيل أن تزول لأنها طبيعة بشرية دعا إلي التعاون في ظل الاختلاف . وهي فلسفة السمو العقلي والذهني ، لأنه استطاع أن يفرق بين الخلاف العلمي والخلاف الشخصي ، ودعا إلي التعاون في المتفق عليه .

إذا تأملنا وأمعنا النظر في تلك الفلسفة عرفنا أن من وراءها عقلٌ يدركُ الفقه المقاصدي ، ويستمسك بالخيوط الكلية والأركان العظمي التي يجب أن يفطنها المسلمون ، وما وراءها فمن قبيل السفسطة والجدل التي تزحزح الأمة عن ثوابتها وتُنسيها الأسس والأركان .

عرف الإمام البنا أن الشجرة الكبيرة المتجذرة في الأرض لا تبالي بالرياح العاتية لكنها ربما تذبل وتزول بالسوس الذي ينخر في مناكبها ، وهكذا الاختلاف بين الأمة إذا لم تحسن فهمه وترشيده والتعاون في إطاره كان هو ذلك السوس .

وعرف العدو الاستشراقي ذلك وعمل عليه ووضع لرواده وأتباعه جملة / نظرية مهمة يجب أن يفطنوا إليها وهم في ديار الإسلام ، هي : "فرِّق تَسُد" ، أي اعمل علي تفرقتهم تكون سيدهم . فصدهم الإمام البنا بفلسفته ونظريته المضادة : "نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه".

لم ينس الإمام البنا أن قضية الاختلاف قضية شائكة ، تحتاج إلي تؤدة وتمهل في التعاطي معها والاشتباك مع أدبياتها .

لكننا نلفت النظر إلي شيء مهم جدا وهو أن البعض يتصور أن الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله يدعو لقبول الآخر بغثه وسمينه ويقبله بإطلاقه ، ومن ثم يقولون بأن الإخوان يحتوون الجميع وهم يعتنقون مذهب اللامذهب . لكننا نقول بأن هناك فارق كبير بين قبول الآخر واحتواءه وبين العمل برأيه والاقتناع به ، ناهيك علي أن الإمام الشهيد وضع ضابطين هامين لقبول الآخر واحتواءه في بوتقة الاختلاف ، وهما : أن يكون للخلاف سبب ، وأن يكون مقرونا بأدب ، وهو ما سنفصله في ثنايا الكلام .

فالاختلاف العلمي في الإسلام ليس من أجل الخلاف وزيادة الفجوة الفارقة بين المذاهب المتباينة ، بل إنما هو في الأساس طبيعة بشرية لها أسبابها ومزاياها ، ومن ثم لها كذلك شروطها ولوازمها التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار أثناء التعامل مع القضايا الخلافية .

فكل اختلاف يجب أن يكون له سبب ، وبعد معرفة السبب يجب أن يقترن الرد العلمي بالأدب الجم.

عندما شرع الإسلام في حث المسلمين لإعمال العقول والنظر في السماوات والأرض ، وعندما رغب أئمة المسلمين في الاجتهاد وعدم الجمود علي رأي بعينه ، كان من البدهي أن يحصل الخلاف ، وإلا كيف يكون الاجتهاد اجتهادا لو قلد الأئمةُ بعضهم ؟!

نطوف في هذا البحث علي رؤية الإمام الشهيد للخلافات التي كانت قائمة في عهده بين التيارات المختلفة وكيف نظر إليها وكيف تعامل معها ؟! وكيف تعامل مع كثير من أتباعه ورواده وتلامذته إذا ارتأوا رأيا مخالفا له ؟! وكيف استقي فلسفة السلف في تلك القضايا ؟! وكيف فهم التراث الإسلامي فهما عميقا ؟ واستقي منه فلسفة الاختلاف ، ثم كيف استطاع بعد ذلك كله أن يعبر بجماعته –الإخوان المسلمون- مواضع الخلاف التي تضر ولا تنفع وتعيق الدعوة عن نموها وتألقها ؟!


أسباب الإختلاف في نظر الإمام الشهيد

يقول الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله: "لكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماما من أئمة المسلمين ، ويحسن به مع هذا الاتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلة إمامه ، وأن يتقبل كل إرشاد مصحوب بالدليل متى صح عنده صدق من أرشده وكفايته ، وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر" .

وهنا في هذه الفقرة أقر الإمام الشهيد مبدأ الاختلاف ، لكن بين العلماء المجتهدين الذين بلغوا مراتب الاجتهاد والنظر في النصوص ، كما هو الحال في كل العلوم ، أَلاَ تري أن الطبيب حديث التخرج لا يفتي في المسائل الطبية العويصة والعمليات الجراحية الشائكة ، هكذا في ميدان الدين . أما العوام ومن ليسوا بمتخصصين في العلوم الدينية بسبب تخصصهم في علوم أخري أو انشغالهم في أمور الحياة المختلفة والمتشعبة ، علي هؤلاء أن يختاروا مذهبا لأحد العلماء الأئمة المجتهدين ويقلدوه .

ويعتبر الإمام البنا أن الاختلاف العلمي سائغٌ ومقبول وينبغي أن يُحترم صاحبه ما دام قد روعي فيه الضوابط والأسباب وليس خلاف من أجل الخلاف .

فيقول الإمام البنا رحمه الله تحت عنوان "الخلاف ضروري" : ونحن مع هذا نعتقد أن الخلاف في أمور الدين أمرٌ لابد منه ضرورة ، ولا يمكن أن نتحد في هذه الفروع والآراء والمذاهب لأسباب عدة :

1- اختلاف العقول في قوة الاستنباط أو ضعفه وإدراك الدلائل والجهل بها والغوص إلي أعمق المعاني . وارتباط الحقائق بعضها ببعض ، والدين آيات وأحاديث ونصوص يفسرها العقل والرأي في حدود اللغة وقوانينها ، والناس في ذلك جد متفاوتين فلابد من خلاف .
2- سعة العلم وضيقه : وإن هذا بلغه ما لم يبلغ ذاك والآخر شأنه كذلك . وقد قال مالك لأبي جعفر : إن أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار وعند كل قوم علم ، فإذا حملتهم علي رأي تكون فتنة .
3- اختلاف البيئات ، حتى إن التطبيق ليختلف باختلاف كل بيئة ، وإنك لتري الإمام الشافعي رضي الله عنه يفتي بالقديم في العراق ويفتي بالجديد في مصر ، وهو في كليهما آخذ بما استبان له وما اتضح عنده لا يعدو أن يتحري الحق في كليهما .
4- اختلاف الاطمئنان القلبي عند التلقين لها ، فبينما نجد هذا الراوي ثقة عند هذا الإمام تطمئن إليه نفسك وتطيب بالأخذ عنه ، تراه مجروحا عند غيره لما علم عن حاله .
5- اختلاف تقدير الدلالات ، فهذا يعتبر عمل الناس مقدما علي خبر الآحاد مثلا وذلك لا يقول معه به وهكذا .

ويُفَصِّلُ الشيخُ محمد الغزالي –تلميذُ الإمامِ الشهيدِ- تلك العناصر في شرحه علي الأصول في كتابه المسمي "دستور الوحدة الثقافية" فيقول ما ملخصه : للاختلاف بين العلماء أسباب كثيرة ، ويجب أن نعرف أولا أن الاختلاف بين العلماء ليس من أجل رد النص ورفضه بل إنّ الخلاف سببه الرئيسي التباين بين العلماء في فهم النص ، كأن يكون النص ظني الدلالة ، وما أشبه . ويمكننا إجمال الأسباب في الآتي :

1- الطبيعة اللغوية .. فهناك كلمات تفيد الشيء وضده . فإذا قال الله تعالي ﴿والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾ ، فإن الفقهاء قد يختلفون في تحديد معني القرء ، أهو الحيض أم الطهر ؟ ومن ذلك اختلاف الفقهاء في تفسير كلمة ﴿أو لامستم النساء﴾ هل اللمس المراد أيَّ لمس؟ أو هو لمس خاص –الجماع- ؟ ونشأ عن ذلك القول بأن لمس المرأة لا ينقض الوضوء لأن الآية تعني الاتصال الجنسي ، والقول الآخر أن اللمس ينقض الوضوء لأن المراد باللفظ العموم .
2- أحاديث الآحاد : كتب الإمام ابن تيمية رسالة جليلة في أسباب الخلاف بين العلماء كان فيها قمة من قمم العلم والنصفة .
صور وجهات النظر المتباينة بأمانة وإحاطة دون أن يكون لرأيه الخاص أثر في تشويه رأي معارض.
نعم ، أجملَ أسباب الخلاف ، وحدد نتائجه ، في حياد نزيه ، ولمن شاء أن يقرأ رسالته "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" ليستفيد منها فوائد جليلة ...

وقد ذكر عشرة أسباب للخلاف الفقهي ودور أحاديث الآحاد في تعدد المذاهب ، ونحن نقتطف منها ما يشرح القضية ، متصرفين في العبارة علي نحو يقرب المعنى إلي القراء المعاصرين:

أ‌- ربما لا يبلغ الحديثُ الفقيهَ المجتهد ، فإن الأحاديث كثيرة ، والإحاطة بها متعذرة . وقد كان أبو بكر لا يعلم السنة في ميراث الجدة حتى أخبره من يرويها . وكان عمر لا يعلم سنة الاستئذان حتى اطلع عليها من أبي موسي الأشعري وغيره . ومن لم يبلغه حديث ما ربما اعتمد علي ظاهر آية أو علي حديث آخر ، أو علي قاعدة عامة ، أو لجأ إلي القياس .. إلي غير ذلك .
فالأحناف لم يجيزوا الجمع بين الصلاتين في السفر –وأحيانا في الحضر- لأن السنن في ذلك لم تبلغهم ، وأسانيدها قائمة .
ب- من الفقهاء من يشترط في قبول خبر الواحد شروطا لا يوافقه غيره عليها ، مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث علي كتاب الله وسنة رسوله ، أو اشتراطه أن يكون المحدث فقيها ، فإن جودة الحفظ لا تغني عن حدة الذهن ، أو اشتراطه في كل أمر شأنه العموم أن يجئ من طرق كثيرة فإن انفراد واحد وحسب بحديث في قضية عامة مشهورة قد يثير التهمة .
ج- اعتقاد ضعف الحديث لفكرة خاصة ، فإن كثيرا من الحجازيين مثلا يرون ألا يحتجون بحديث رواته عراقيون أو شاميون إن لم يكن لهذا الحديث أصل بالحجاز ، ومع أن الحجاز هو البيئة الأولي للسنن الأولي فإن هذا الاعتداد بالأسانيد الحجازية وحدها رأي خاص .
د- أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكنه نسيه ، وذلك كنسيان عمر لحديث التيمم من الجنابة حتى ذكرّه به عمار بن ياسر .. وكأن عمر رضي الله عنه لم يفهم من القرآن إلا أن التيمم يرفع الحدث الأصغر وحده .

وعدم العلم بدلالة الحديث ، مثل ما ورد "لا طلاق في إغلاق" : هل الإغلاق هو الإكراه ؟ أم هو استغلال الذهن وانسداد أبواب الفهم لسبب عارض ، كالغضب الشديد أو سبب مستمر كالجنون والعته ..؟ وقد اختلفت الفتاوى باختلاف الأفهام في الكلمة .

ه- وقد يكون اللفظ مشتركا أو مجملا ، أو مترددا بين الحقيقة والمجاز ، فإن بعض الصحابة فهم من قوله تعالي : ﴿ كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر﴾ أن المراد حبل أبيض وحبل أسود ، حتى عرفهم الرسول بأنه بياض النهار وسواد الليل .
وربما كانت دلالة النص خفية لا يلحظها كل ذهن .
و- اعتقاد الفقيه أن لا دلالة في الحديث علي ما يراد .. والفرق بين هذا ومال قبله أن الأول لم يعرف جهة الدلالة ، أما هنا فقد عرف الجهة وردها لسبب قائم عنده .

خذ مثلا حديث "إنما الأعمال بالنيات" هل المقصود كمالها أم صحتها ؟

وحديث "لا يدخل الجنة نمام" ، هل يمتنع دخوله علي التأبيد ، أم لا يدخلها مع الأفواج الأولي ويقضي في جهنم ردحا من الزمن ؟

وحديث "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" هل يكون كافرا ، أم الإيمان موجود مشلول؟ ..."دستور الوحدة الثقافية 44"

ويقول في موضع آخر رحمه الله : إن الخلاف لا يفسد للود قضية ، ولا يقطع وشيجة ، وجل ما رأيت من شقاق يعود إلي أمراض نفسية كامنة ، وسنري أن الشهوات الأدبية أخطر وأعنف من الشهوات المادية ... "دستور الوحدة الثقافية 103"

فالاختلاف بين الفقهاء مرده لاختلاف الأفهام بسبب طبيعة النص ودلالاته لا بسبب رده ورفضه ، وفارقٌ كبير بين الأمرين .

وهو ما لمحه العلامة الفقيه الأصولي محمد أبو زهرة بقوله في "المذاهب الإسلامية" : إن اختلاف الآراء في الفروع الفقهية لا يدل علي انحراف في الدين ما دام لم يخرج عن المقررات الشرعية المجمع عليها من السابقين ، ومن جاء بعدهم . بل إن الاختلاف ما دام أساسه طلب الحق يفتح باب التوسعة علي الناس فيما يختارون ويفتح للعقول الطريق للاختيار الصحيح فإنه من وسط اختلاف الآراء وتعرف أوجه النظر فيها ينبلج نور الحق ساطعا بينا واضحا ؛ انتهي .

وقول الشيخ أبي زهرة "ما دام لم يخرج عن المقررات الشرعية المجمع عليها من السابقين" هو بمثابة الشرط غير الموجود في نفس الأمر ، لأن الإجماع في مسائل الفروع أبعد من أن ينضبط.

وهو ما عناه الإمام الشهيد حسن البنا بقوله: "الإجماع علي أمر فرعي متعذر : للأسباب التي سبق ذكرها ، نعتقد أن الإجماع علي أمر واحد في فروع الدين مطلب مستحيل ، بل هو يتنافي مع طبيعة الدين ، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقي ويخلد ويساير العصور ويماشي الأزمان ، وهو لهذا سهلٌ مرن هين لا جمود فيه ولا تشديد" ؛ انتهي .

وما قاله الإمام الشهيد رحمه الله في هذا السياق نابعٌ عن استقراء تام لتاريخ الأمة الإسلامية ودراسة باصرة لمواطن الذلل التي سقطت فيها الأمة فأدت إلي تخلفها ، ومواضع الداء التي تجنبتها فأخذت بها إلي سبل الرقي والحضارة .

وقد لمح هذا الجانب الدقيق الأئمة الكبار فصنفوا عددا من المؤلفات في أسباب الاختلاف .

فصنف الشيخ عبد الله بن المحسن التركي كتابه الماتع "أسباب اختلاف الفقهاء" وهو مطبوع بدار الرسالة - بيروت . وصنف العلامة المروزي كتاب "اختلاف العلماء" وهو مطبوع في عالم الكتب بتحقيق صبحي السامرائي .

وصنف العلامة البطليوسي كتابه "الإنصاف في التنبيه علي الأسباب التي أوجبت الاختلاف" . وصنف العلامة الدهلوي كتابه "الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف" . ومن رسائل الإمام أبي محمد ابن حزم البارعة في هذا الجانب رسالته المسماة "الرسالة الباهرة" وتعرض فيها لأسباب اختلاف الفقهاء في بعض مسائل الفقه مع بيان عظم فضلهم والثناء عليهم وأنهم معذورون في أخطائهم غير متعمدين ، وهذا غير المعروف عن أبي محمد ابن حزم شدته علي المخالفين .

وصنف العلامة المفسر ابن جرير الطبري كتابه "اختلاف الفقهاء" ، وصنف ابن هبيرة كتابه "اختلاف الأئمة العلماء" .

هذا غير المباحث المتضمنة في كتب العلماء وفي الأبحاث العلمية والرسائل الجامعية التي تؤصل لهذه المسألة . وقد لمس الإمام البنا هذه الفلسفة التي سارت عليها الأمة في تاريخها العريق في قبول الآخر واحتواءه ، وترشيد الاختلاف والتعايش في كنفه ، وبناء حضارة تعتمد علي كافة ركائز المجتمع وتحفز مبدأ التنوع والمشاركة لا الإقصاء والمغالبة . بل إن الاختلاف كان عاملا نهضويا وتنمويا من عوامل النهضة في الدول الإسلامية ، وهو ما أراد حسن البنا أن يحييه من جديد .

إذن ، لم يكن حسن البنا صاحب فلسفة شاذة أو غريبة بل كانت رؤيته امتدادا وبعثا وإحياء لفلسفة السلف في أوج نهضة الأمة وحضارتها ، عندما كانت الأمة مليئة بالتيارات المتباينة والفلسفات المختلفة ، وكلٌ منهمكٌ في بناء الدولة وأركانها ، ولم يكونوا في معزل عن أحداث الأمة والمشكلات التي تعوق تقدمها .

لكننا اليوم نشاهد قوما نسوا ضياع التركستان والقرم ، ولم ينسوا الخلاف علي الجهر بالبسملة أول الفاتحة ، كما يقول الغزالي رحمه الله .

إذن نخلص من هذا كله أن كل اختلاف علمي أو فقهي بين العلماء له سبب صراح ، ولا يصح أن يختلف أحدٌ مع مذهب لعالم من غير سبب ، فقط لمجرد الاختلاف .. هذا لا يصح .

وقد حدث الخلاف –النابع عن سبب- في عهد النبي صلي الله عليه وسلم بين الصحابة الكرام ولم يُنكر علي أحدٍ منهم .

فقد روي البيهقيُّ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال لأصحابه: عزمت عليكم ألا تصلوا صلاة العصر حتى تأتوا بني قريظة ، فغربت الشمس قبل أن يأتوهم فقالت طائفة من المسلمين : إن رسول الله لم يرد أن تَدَعوا –تتركوا- الصلاة ، فصلوا . وقالت طائفة : والله إنا لفي عزيمة رسول الله وما علينا من إثم . فصلَّت طائفة إيمانا واحتسابا وتركت طائفة إيمانا واحتسابا ، ولم يعنف رسول الله واحدا من الفريقين .

فالنبي صلي الله عليه وسلم في هذه الحادثة يُقرُّ مبدأ الاختلاف بين المجتهدين النابع عن حرص للوصول إلي الحق .

ولم يعنف النبيُّ صلي الله عليه وسلم أحدا من الفريقين لأن كلا منهما اجتهد وبذل ما في وسعه للوصل إلي ما ارتآه صوابا ، واختلف كلٌّ منهما في فهم النص ، لكن ثمة فرق بين رفض النص وبين فهمه وإعماله مع تباين وجهات النظر .

وتعقيبا علي هذا الحديث يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: وذلك يمثل احترام الإسلام لاختلاف وجهات النظر ما دامت عن اجتهاد برئ سليم .

والناس غالبا أحد رجلين ، رجلٌ يقف عند حدود النصوص الظاهرة ، لا يعدوها ، ورجلٌ يتبين حكمتها ويستكشف غايتها ، ثم يتصرف في نطاق ما وعي من حكتها وغايتها ، ولو خالف الظاهر القريب . وكلا الفريقين يشفع له إيمانه ، واحتسابه ، سواء أصاب الحق أو ندّ عنه ! ومن العلماء من أهدر الوقت المعين للصلاة بعذر القتال . وذلك مذهب البخاري وغيره ، وهذا –عندي- أدني للصواب . فإن ترتيب الواجبات المنوطة بأعناق العباد من أهم ما يحدد رسالة المسلم في الحياة ، بل إنه لا يفهم دينه فهما صحيحا إلا إذا وافقه هذا الترتيب المطلوب .

إن الإسلام تعاليم وأعمال شتى ، فيها الفرائض وفيها النوافل . ولابد أن نعلم أن الله لا يقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة . فالرجل الذي يستكثر من أعمال التطوع في الوقت الذي يهمل فيه فرائض لازمة .. رجلٌ ضال . والفرائض المطلوبة لحفظ الإيمان ، كالأغذية المطلوبة لحفظ الجسم .

والإمام البنا –كما قلنا- لم يكن مميعا للدين بفلسفته الداعية للم الشمل والاحتواء بل كان صارما حازما فيما فيه نصٌ قطعيٌ صراح ، ففي إحدى الليالي الرمضانية زار الإمام البنا القاضي الشرعي بالإسماعيلية واجتمع في هذه الزيارة مأمور المركز القاضي الأهلي وناظر المدرسة الابتدائية ومفتش المعارف ولفيف من الأدباء والفضلاء والمحامين والأعيان ، وكانت جلسة سمر لطيف ، وطلب القاضي الشاي فقدم إليه أكوابا من الفضة ، وجاء دور البنا فطلب كوبا من الزجاج فقط .

فابتسم القاضي وقال: أظنك لا تريد أن تشرب لأن الكوب من فضة ..

فقال الإمام البنا: نعم ، وخاصة ونحن في بيت القاضي .

فقال القاضي: إن المسألة خلافية وفيها كلام طويل ونحن لم نفعل كل شيء حتى نتشدد في مثل هذا المعني .

فقال الإمام البنا: يا مولانا إنها خلافية ، إلا في الطعام والشراب فالحديث متفق عليه والنهي شديد ، والنبي صلي الله عليه وسلم يقول : "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها" . ولا قياس مع النص ولا مناص من الامتثال وحبذا لو أمرت بأن نشرب جميعا في أكواب من زجاج .

وتدخل بعض الحاضرين في الأمر فقال القاضي الأهلي يا فضيلة القاضي ما دام هناك نص فالنص محترم ، ولسنا ملزمين بالبحث عن الحكمة وإيقاف العمل بالنص حتى تظهره وعلينا الامتثال أولا.

فانتهزها الإمام البنا فرصة وشكر القاضي وقال له مشيرا إلي أصبعه: وما دمت قد حكت فاخلع هذا الخاتم فإنه من ذهب ، والنص يحرمه ، فابتسم القاضي الأهلي وقال : يا أستاذنا أنا احكم بقوانين نابليون ، وفضيلته يحكم بالكتاب والسنة ، وكل منا ملزم بشريعته فدعني وتمسك بقاضي الشريعة .

فقال الإمام البنا: إن الأمر قد جاء للمسلمين عامة وأنت واحد منهم ، فخلع خاتمه . ولم يداهن البنا في الحق أحدا .

وهذا دليل قاطع نرد فيه علي من لا يفهمون التفرقة بين الثوابت وغيرها ، وكذلك الذين لا يفهمون التفرقة بين الاختلاف العلمي والاختلاف الشخصي ، فالإمام البنا خالف القاضي في مسألة علمية لكنه تكلم بأدب ونصحه بفطنة ولم يجرح أو يُفسق أو يُكشر عن أنيابه ، فآل الأمر بتقويم المُعوَّج وإصلاح الخلل والفساد في الرأي ، وظل الجميع إخوانا متحابين .


أدب الاختلاف برؤية الإمام البنا

الاختلاف بين العلماء –في كافة المجالات وشتى الاتجاهات- أمر لا مفر منه ومن المستحيل إلغاؤه كما قال الإمام البنا رحمه الله . ولكن هذا الخلاف يجب أن يتم في سياق الضوابط والأسباب التي حددها الإمام الشهيد سابقا تَبَعاً لغيره من العلماء –كما سنبين لاحقا- ، ثم بعد ذلك يجب أن يكون مقرونا بأدب بإبداء وجهات النظر بين المجتهدين في مسألة الاختلاف المثارة بين الأطراف ، من غير تفسيق أو تجريح ونحو ذلك من صور الإرهاب الفكري التي يمارسها البعض . وقد قرر الإمام البنا ذلك وأخذ جماعته ورواده وتلاميذه بتلك الفلسفة الأدبية المحترمة الرفيعة في كافة الاختلافات والردود العلمية الرصينة . لكن البعض يجد متعة في قضايا الخلاف ليثور ويفور ، وظاهر أمره الغضب للدين ، وهو في الحقيقة ينفّس عن طبيعة معتلة ، وتربية ناقصة أو مفقودة . وبيان ذلك أن الاختلاف إنما يكون من أجل تقرير مسألة علمية معينة ، بغض النظر من صاحبها ومن القائل بها ؟!

وقد اختلف الأئمة الكبار مع بعضهم لكن لم يتحول الأمر إلي شقاق وشجار أو إلي تفسيق وتجريح للمخالف كما نري بعض المتشددين في عصرنا.

وقد جمع تلك الفلسفة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في عبارة / نظرية ، رائعة ، حيث قال : "لا يجوز أن يستحيل الخلاف الفقهي إلي خلاف شخصي" .

وهذه الفلسفة كانت سائدة عند السلف الصالح ، فربما خالف بعضهم بعضا ، ثم تجالسوا وتعاونوا وقدَّسوا الأخوة الإسلامية والرابطة الإيمانية ، واستشعروا قول الله عز وجل ﴿وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون﴾ (سورة المؤمنون 52) ، وقوله تعالي ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدو ﴾ (الأنبياء 92) . وقول الرسول صلي الله عليه وسلم : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمي" .

لكننا نرتد بأبصارنا في هذا العصر فنجد أن لا أحد يقبل الآخر ، أو يرتضي قول المخالف ، مع أن في الأمر سعة ، ومع أنه إذا كان حقا مخلصا للعلم ما اعتدي علي مخالفه بالسب والقذف بل سيفند قوله بالتحقيق العلمي والتأصيل المنهجي فقط "إنما أنت نذير" .

ولفت الإمام ابن مفلح نظر العالمين إلي هذا المنهج الرصين في أدب الاختلاف عندما ساق قاعدة شرعية ونسبها إلي الإمام أحمد بقوله "لا يجوز للفقيه أن يحمل الناس علي مذهبه" . ويقول الإمام النووي رحمه الله :"لا إنكار في المختلف فيه" .

ونريد أن نبين أن الإمام البنا كان صاحب مدرسة الإحياء في ذلك الشأن وكان باعثا لا مبتدعا .

فهناك نماذج كثيرة لأدب الاختلاف بين العلماء الكبار نسوق بعضها كي نقف علي أقوالهم وأفعالهم في ذلك الجانب ، كي تعرف أن الإمام البنا كان وقافا ومستقرئا لتاريخ أمتنا جيدا .

يقول الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله: لما وقف الحافظ الإمام عبد الغني بن سعيد الأزدي المصري علي كتاب "المدخل إلي الصحيح" للإمام الحاكم النَّيسابوري صاحب "المستدرك علي الصحيحين" ، واطلع علي ما فيه من أغلاط وتصحيفات : نبّه عليها مع تصحيحها في جزء وأرسله إلي الحاكم ، وجاء في مقدمة هذا الجزء من كلام عبد الغني الأزدي ما نصه : (فإني نظرت في كتاب المدخل الذي صنفه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري ، فإذا فيه أغلاط وتصحيفات أعْظَمتُ أن تكون غابت عنه ، وأكْثَرتُ جوازها عليه ، وجَوَّزتُ أن يكون جرى من ناقل الكتاب له ، أو حامله عنه ، مع أنه لا يَعْري بشرٌ من السهو والغلط .

واستخرت الله تعالي ، وجردتُ ذلك في هذه الأوراق ، وبينته وأوضحته ، واستشهدت عليه بأقاويل العلماء ، مجتهدا في تصحيحه ، متوخيا إظهار الصواب فيه ، وبالله أستعين ، وإياه أسأل السداد والتوفيق بمنه وكرمه) .

وهكذا يكون الجمع بين الأدب والنصيحة بإظهار الحق .

ولما وصل هذا الجزء إلي الحاكم فكان منه ما حكاه الحافظ عبد الغني نفسه حيث قال : (لمات وصل كتابي الذي عملته في أغلاط أبي عبد الله الحاكم ، أجابني بالشكر عليه ، وذكر أنه أملاه علي الناس ، وضمَّن كتابه إليّ الاعتراف بالفائدة ، وبأنه لا يذكرها إلا عني ، فعرفت أنه رجلٌ عاقل) .

وكانت هناك جفوة بين شيخ الأزهر الإمام الشيخ حسن القويسني والعلامة الجليل الشيخ محمد الأمير ، وبلغ ذلك حاكم البلاد ، فأرسل للشيخ الأمير يسأله عن سبب الجفوة ، وأخبره أن الشيخ القويسني حدثه عنها ، إلا أن الشيخ الأمير قال : ليس بيننا إلا الخير ، وما أظن الشيخ القويسني حدثك بشيء من هذا ، وأثني الشيخ الأمير علي الشيخ القويسني خيرا ، ولما انصرف من عند الوالي ذهب إلي الشيخ القويسني وأخبره بما حدث ، فقال له : صدقت في ظنك ، ما قلت للحاكم شيئا ، فقال الشيخ الأمير : "هكذا أهل العلم ، يسوون ما بينهم في خاصتهم ، وأما مظهرهم فيجب أن يكون قدوة للتآلف والخير وإمساكا علي عروة الإسلام ، وحفظا لكرامة العلم". وبذلك زال ما بينهما من جفاء .

وهنا لمحات نقف عليها :

  • فهذا الأدب الرفيع بين أهل العلم تجده عند سلفنا الصالح ، وللشيخ العلامة عبد الفتاح أبو غدة رسالة لطيفة في هذا الصدد اسمها "رسائل الأئمة السلف وأدبهم العلمي" .
  • هذا النموذج رائع للعلماء واحترام بعضهم لآراء بعض ، ولما كانوا عليه من التواد والتآخي مع اختلافهم في المسائل العلمية ، وشدة المراعاة للألفة والمحبة بينهم .
  • هذا مثال عملي حي يعبر عن منهج علماء الأمة في أدب الاختلاف ، إنهم أرادوا أن يلفتوا أنظارنا إلي شيء مهم جدا ، وهو أن الاختلاف طبيعة بشرية وسنة كونية "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة" ، بيد أن المهم أن يظل الاختلاف في أروقة العلم وحظائر المعرفة ، فلا يتعدي إلي ممن ليسوا من أهل الفن . أَلاَ تري أن خلافات الأطباء حول تشخيص داء لا تنسحب إلي ساحات المرضي ! بل تظل في الحقل الطبي الأكاديمي البحت ، وحجة الإسلام الغزالي عندما صنف "إلجام العوام عن علم الكلام" كان هذا المعنى هو مرماه .
  • كذلك لا ينبغي أن يستحيل الخلاف العلمي المحض إلي خلاف شخصي ، ينبغي أن نتعلم كيف نختلف علميا ونتآلف إنسانيا ، تلك هي الثورة الثقافية التي ندعو إليها ، وما هي إلا اتباع لمنهج السلف الذي يجب أن نعتني به وندندن به تنظيرا وتطبيقا .
  • لذلك فالإمام البنا في فلسفته التي آمن بها ودعا إليها لم يكن شاذا في الرأي ولم يكن مبتدعا لرأي جديد بل كان كما قلنا باعثا لفكر الأمة العقلاني المنفتح في أوج حضارتها وقمة تقدمها ، وأخذ الإمام البنا علي كتفيه مهمة إزاحة التراب من علي هذه الدرر ، لكنه أخذ أتباعه بها فجعلها تنظيرا وتطبيقا .
  • وكان الإمام الشهيد رحمه الله مؤدبا في خلافه ، فاختلف مع القصر ، واختلف مع مشايخ الأزهر، واختلف مع كثير من معاصريه إلا أنه كان مؤدبا في اختلافه ، ولم يُصادر رأي الآخر ، ولم يفصم الوثاق الإسلامي ولا الأخوة الإيمانية بينه وبين مخالفيه . وقد بينا ذلك في مقدمة البحث عندما سأله أحد الناس في مسألة خلافية ، فجاوب الإمام الشهيد إجابة تخطف الألباب ، وتجمع القلوب ، وتوحد الهدف ، وتُفرد الراية .


الإمام البنا يستلهم فلسفة السلف

نري أن نظرة الإمام البنا في مسائل الاختلاف إنما هي عودة لفلسفة السلف من هذه الأمة في ائتلافهم وتعاونهم الوثيق حتى في ظل الاختلاف .

ففي عصر الإمام البنا وما قبله كان إذا خالف أحدٌ أحدا في مسألة علمية ، هجَره وقطع الرباط الذي بينهما .

فأراد الإمام البنا أن يجعل من الخلاف العلمي سندا للرأي ، وإثراء لوجهات النظر ، لا سندا للتخاصم والشقاق .

وتلك الفلسفة نجدها عند الأئمة الكبار في عصور النهضة والتألق للدولة الإسلامية .

فالإمام الذهبي وهو حنبلي العقيدة شافعي المذهب ، يُثني كثيرا علي تقي الدين السبكي مع أنه أشعري العقيدة ، وكان تقي الدين من أشد خصوم ابن تيمية أستاذ الذهبي .

وتتلمذ العلامة المحدث إمام أهل الجرح والتعديل في زمنه الشيخ الدارقطني علي العلامة المتكلم الباقلاني الأشعري ، وذهب الدارقطني إلي الباقلاني وقبله بين عينيه وقال : هذا يرد علي أهل الأهواء باطلهم ودعا له ... "تاريخ ابن كثير 11/342"

وتتلمذ العلامة المحدث ابن سكينة الصوفي –أحد المجاذيب الأبدال- علي الشيخ ابن الجوزي، وابن الجوزي أحد خصوم التصوف الأقوياء وهاجم الصوفية هجوما شرسا في صيد الخاطر ، وتلبيس إبليس وغيرهما من كتبه . ومع ذلك أبقي علي المودة الإنسانية والرابطة الإسلامية ، مع تلامذته الذين خالفوه في لب المذهب ولم يمنعهم علمه أو مودته .

وكذلك تتلمذ ابن الجوزي نفسه علي علماء متصوفة وكانوا من أساتذته الكبار ، كما ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء . فمن مشايخه وأساتذته الصوفية الشيخ العلامة أبو الوقت السجزي الصوفي حدث عنه ابن عساكر والسمعاني وابن الجوزي .

وكذلك تلقي حجة الإسلام الغزالي الصحيحين علي الشيخ المحدث أبي الفتيان عمر الرواسي ، واستقبله في بيته وأكرمه ، والغزالي صوفي كبير بل هو مُنظّر التصوف السني علي الإطلاق ، والرواسي أحد كبار السلفية في عصره . ويقول شيخ مشايخنا العلامة المحدث عبد الفتاح أبو غدة معقبا علي هذا الخبر : وفيه من الفرائد سماع الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالي الصحيحين عليه ، وهو غير سماعه "صحيح البخاري" من أبي سهل الحفصي ، وهي لمعة في حياة الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالي .

وفيه إكرام الغزالي الصوفي للمحدث السلفي ، وبيان ما كان بينهما من تسامح ومكارمة وتقدير ..."صفحات أبي غدة 73"

فهذه فلسفة السلف في عصر النهضة الإسلامية وسيادة المسلمين ، فجاء حسن البنا رضي الله عنه وعمل علي بعثها وتذكير الخلائق بها من جديد . أن لا نهضة إلا بالاحتواء وقبول الآخر ، ونسيان الخلافات التافهة والثانوية مقابل الاهتمام بالدعائم والأسس والأركان . ولما طبقت هذه الفلسفة تقدم المسلمون ولما تفرغوا للمشاحنات الجانبية فقدوا هيبتهم وتناسوا ثوابتهم وهويتهم وصاروا في أذناب الأمم .

أيعقل أن نظل نقيم المعارك الطاحنة من أجل اللحية والنقاب والجلباب ، وما أشبه . وديار الإسلام تتخطف من جنباتها ؟!

أيقبل عاقل أن تقام المعارك الطاحنة للوضوء من لحم الجذور وما أشبه ؟!

إن الإمام الشهيد رحمه الله ، استقي فلسفة السابقين الأولين ، وتشربها ، وأمعن نظره فيها ثم أراد أن يبعثها في أبهي حلة وأرقي صورة ، كي تُجبذ أنظار العالمين إلي هذا السمو ، وتلك العبقرية التي استطاعت أن تبني حضارة قائمة علي المشاركة والتنوع .

إذا فُهمت فلسفة الإمام الشهيد في منهجية الاختلاف عموما –وليس الاختلاف الديني الفقهي فقط- سوف تتلاشي الخلافات السياسية والاجتماعية والعلمية بين طوائف المجتمع ، لأننا وقتئذ لن نطالب الآخر بتغيير منهجه بل سنطالبه بالتعاون والمشاركة ، وسوف نعتبر ذلك إثراء للحياة العلمية والسياسية ..والاجتماعية .

قد يظن أحدهم أن تلك مدينة أفلاطون !! لكنها كانت واقعا عمليا عايشه المسلمون في عصور حضارتهم ، وبعثه البنا وأذاعه ونشره ، وأخذ به أتباعه ، فهل نلتفت إلي صوت الإمام الشهيد في ظل هذا الضجيج والصخب الذي نعيشه الآن ؟!!


المراجع

1- رسائل الإمام البنا ، ط/ العلمية للتراث .

2- مذكرات الدعوة والداعية ، ط/ دار الدعوة .

3- حسن البنا في عيون تلامذته ومعاصريه ، محمود خليفة ، ط/ مؤسسة اقرأ .

4- في نور الإسلام ،محمود أبو رية 2/300، التوزيع والنشر الإسلامية .

5- دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين ، محمد الغزالي ، ص44 ، ط1/ دار الشروق 1997م.

6- مباحث في علم الجرح والتعديل لقاسم علي سعد ص 143 ، 144 – ط/دار البشائر بيروت".

7- فقه السيرة للغزالي ، ص239 ، ط4/ الشروق .

8- قول الصحابي عند الأصوليين ، د/ علي جمعة ، ط/ الرسالة علاء سرحان .

9- مقال بمجلة منبر الإسلام بعنوان "نختلف لكن لا نفترق" ، للدكتور السيد رزق الطويل ص32 ، نوفمبر 1994م=جمادي الآخرة 1415ه .

10- السيرة النبوية للصلابي 2/233 ، ط/ مؤسسة اقرأ .

11- نماذج من رسائل الأئمة السلف وأدبهم العلمي للعلامة المحدث عبد الفتاح أبي غدة ، ص56 ، ط2/دار البشائر 1999م .

12- مقال لمحمد السيد الصياد بعنوان "عالم الأزهر وأدب الخلاف ثقافة أزهرية وتنشئة إلهية" ، دورية رسالة الأزهر ، ص36 ، ط/الرابطة العالمية لخريجي الأزهر ذو القعدة 1432ه ، الإصدار الثاني .

13- البداية والنهاية ، ابن كثير ، ط/ دار الحديث بالقاهرة .

14- صفحات من صبر العلماء علي شدائد العلم والتحصيل ، عبد الفتاح أبو غدة ، ط8/دار البشائر بيروت .

15- سير أعلام النبلاء للذهبي ، ط/الرسالة بيروت .

16- الإحكام للقرافي ، بعناية أبي غدة ، ط/دار السلام بالقاهرة .

للمزيد عن الإمام حسن البنا

Banna banner.jpg

.