هيا للاعتكاف

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
هيا للاعتكاف

بقلم:الإستاذ محمد مهدي عاكف

مقدمة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد أيها الإخوان المسلمون:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتقبل الله منا جميعًا الصيام والقيام وصالح الأعمال، وها نحن نصل إلى قمة الشهر الكريم، إلى العشر الأواخر منه، حيث نحيي سنة الاعتكاف.

الاعتكاف مغسلة روحية ورياضة قلبية

ولون من ألوان الخلوة بالله، يجتهد فيه السعداء الموفَّقون لإصلاح قلوبهم، عن طريق الانقطاع الكامل والإقبال التام على الله بالصلاة والقراءة والذكر وترك شواغل الحياة وفضول الكلام والطعام والمنام، فالنهار عند المعتكفين ذكرٌ وفكرٌ وتلاوةٌ وتسبحٌ وتحميد، فإذا جنَّ عليهم الليل فإنهم ﴿يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)﴾ (الفرقان: من الآية 64)؛ لأنهم يعلمون أن الليل ساحة القرب من المحبوب، وأن السجود أكمل حالات الاتصال به والمناجاة له فقد قال- صلى الله عليه وسلم-: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء" (مسلم) فهم في الليل يناجون ربهم بلذيذ كلامه، ويُعَفِّرون جباههم بِذُلِّ التوبة وعِزِّ العبودية لله رب العالمين، دموعُهم تبتلُّ منها لحاهم، وقلوبهم ضارعة، يرجون رحمة الله، ويخافون عذابه ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ (الزمر: من الآية 9). ولسان حالهم يقول:

سهر العيون لغير وجهك باطل وبكاؤهن لغير فقدك ضائع

وحتى يتحقق ذلك أيها الأخ الكريم فإنه ينبغي لك ما يلي:

1- أن تحرص على عدم كثرة الخروج من المعتكف إلا لحاجة ضرورية، فقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفًا (البخاري).

2- أن تعتزل في معتكفك مجالس الأنس والسمر ولغو الكلام إلا مجلسًا فيه علمٌ، أو ذكرٌ أو طاعة لله تبارك وتعالى، وأن تحذر تضييع الوقت في طول المنام.

3- أن تجتهد في العشر الأواخر وخصوصًا في الليالي الوترية منها؛ رجاء مصادفة ليلة القدر استجابة لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان" (متفق عليه). وأن تجتهد في الطاعة للحصول على ثوابها استجابةً لقوله- صلى الله عليه وسلم-: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (البخاري).

حاجتنا إلى الاعتكاف

هذا الاعتكاف المشروع حريٌ بأن يخلق المُعْتَكِفَ خلقًا آخر، وأن يخرجه فردًا جديدًا، ممتلئًا بمعاني الإخلاص والصدق، مفعمًا بروح الطهر والإيجابية، متمثلاً معنى الجهاد والتضحية، متعاليًا على كل شهوات الحس ودواعي الغريزة.

وكأنما الاعتكاف مغسلة روحية، يخرج العبد منها أنقى ما يكون من الذنوب، وأصفى ما يكون قلبًا، يستقبل الحياة بروح جديدة كلها فطرة نقية وطبيعة سوية، ويستأنف العمل لرسالته على نور من ربه. وذلك ما يحتاجه ويسعى إليه الإخوان المسلمون.

المعتكفون أجدر الخلق بحمل الرسالة والقيام بها

أيها الإخوان الأكرمون، إن هذه الفئة التي خلت بربها واتصلت يخالقها هي وحدها المؤهلة للقيام برسالة الحق، وتحقيق الخير في دنيا الناس، بما اكتسبت في ليلها ونهارها من أسباب التربية وألوان السمو، وإن التاريخ ليشهد أن طائفة العاكفين الركع السجود الذين براهم الخوفُ، وأكل قلوبَهم الإشفاق، وأبكى عيونَهم القرآن، كانوا أسبقَ الناس إلى كل خير، وأصدقَ الناس في التضحية والبذل، وأحزمَ الناس في إنفاذ الحق وإزهاق الباطل.

إن التفاعل الصحيح مع القرآن ومع المنهاج التربوي السليم في مدرسة الليل والاعتكاف ينتج شخصية متوازنة في كل تصوراتها وسلوكياتها، فترى المسلم الحق راهبًا بالليل له بالقرآن دَوِيٌّ كدَوِيِّ النحل، ولصدره من قراءة القرآن وسماعه أزِيزٌ كأزيز المِرْجَل، فإذا دقت طبولُ الحرب رأيتَه في الحلبة فارسَها، وإذا عُقِدت حلقاتُ العلم والدراسة رأيته فقيهها ورائدها، وإذا دُعِيَ للقضاء بين الناس رأيته العدل بعينه، يحكم بالحق ولا يميل مع الهوى، وإذا دخل ميدان السياسة رأيتَه الكيِّس العاقلَ الذي يضع الأمور في مواضعها، ويوازن بين المصالح والمفاسد، ويبصر ترتيب المصالح المزدحمة، ولا تخدعه المظاهر، ولا يُخدَع عن دينه بمعسول الكلام، وإذا عاشر أهله رأيتَه أبرَّ الناس وأوصلَ الناس وأعرفَ الناس بأصول العشرة السليمة، فإذا عامل الناس وجدته الكريمَ العاقلَ ليس بالخِبّ (أي المخادع) ولا الخِبُّ يخدعه.

هي فئة تتربى في مدرسة الليل على منهاج القرآن الحكيم، فيقذف الله من نوره في قلوبهم، ويضع من حكمته على ألسنتهم، فيلزمون طريق الحق بلا تلون ولا تغير، ويدعون إلى الله على بصيرة، فيفتح الله بهم أقطار القلوب، ويملؤون أسماع الدنيا بهذا النشيد الخالد ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)﴾ (الأنعام)، لا يصرفهم عما ذاقوا من حلاوة الحق صارف، ولا تأخذهم في الله لومة لائم.

وهكذا تكون الشخصية القرآنية الربانية المتوازنة التي تحتاجها الأمة أشد الاحتياج، والتي يسعى الإخوان المسلمون إلى تحقيقها في ذواتهم وفي الأمة من حولهم.

يحيون ليلـهم بطاعة ربـهم بتلاوة وتضـرع وسؤال

في الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الأبطال

فهيا إلى الاعتكاف الصحيح أيها الأخ الكريم، إن كنت ترجو أن تكون منهم، وأن تسلك سبيلهم، وأن تضمك كتيبتهم، والله يتولى توفيقنا وإياك لما يحبه ويرضاه.

والله أكبر ولله الحمد، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

محمد مهدي عاكف

المرشد العام للإخوان المسلمين