وصية مجاهد
بقلم: م. خالد حفظي
منذ يومين قمت بزيارة أستاذنا وشيخنا الحاج أبو الفتوح عفيفي (شيخ المجاهدين) حفظه الله، وتقبَّل منه جهاده.. اللهم آمين.
كانت وفاة المجاهد العظيم الحاج أحمد حسنين هي محور حديثنا؛ حيث إن الحاج أبو الفتوح كان قد ذهب إلى قليوب (وهو ابن الثمانين عامًا) لحضور جنازة أخيه رحمه الله, وقد لمست من حديث شيخنا- حفظه الله- حبًّا جارفًا يتدفَّق، ورابطةً قويةً لا يصيبها وهَنٌ، تجمع بين هؤلاء المجاهدين، رحم الله مَن توفاهم، وحفظ من لا زال على قيد الحياة محافظًا على العهد ثابتًا على الدرب.. اللهم آمين ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَه وَمِنْهُم مَّن يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23)، نسأل الله أن نكون منهم، وأن يجمعنا بهم في مستقر رحمته في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
أردت أن أغتنم الفرصة، وأستنصح الشيخ فسألته حفظه الله: ماذا ترى مِن فرقٍ بين جيلنا وجيلكم؟ فردَّ بتلقائية عجيبة: أنتم تتكلمون كثيرًا وتعملون قليلاً، فقلت: كيف؟ قال حفظه الله: خذ مثالاً لذلك فقيدنا الحاج أحمد حسنين رحمه الله، كان قليل الكلام كثير العمل ولا يسمع به أحدٌ، وكان كثيرَ التصدُّر لعظائم الأمور، دون جلبة أو طلب شهرة.
فقلت: أعطنا مثلاً لذلك، فقال حفظه الله: كان الحاج أحمد حسنين يقوم بتزويدنا بالسلاح في حرب فلسطين مع اليهود, ولم يكن يسمع به أحد، ولم يكن هو- رحمه الله- يحب الحديث عن نفسه ولا عن أعماله أبدًا، وكان إذا قابلته مشكلات أو معوقات يعالجها ويتغلَّب عليها دونما إزعاج لإخوانه أو لقيادته, وكان السلاح يأتينا على الجبهة، لا نعرف كيف حصل عليه ولا كيف أوصله إلينا، وبعد ذلك علمنا كيف كان يسير الليالي الطوال بالليل في غياهب الصحراء، وكيف كان يعاني حتى يوصل إلينا السلاح في الجبهة.
قلت للشيخ: فماذا عن علاقتكم ببعضكم كأفراد؟ فقال حفظه الله: كان لفاء الأسرة الأسبوعي لا يكفي لريِّ ظمأ اشتياق بعضنا لبعض, فاتفقنا فيما بيننا على لقاء أسبوعي آخر كنا نسمِّيه اللقاء الروحي.. تتلاقى فيه الأرواح لا الأجساد, كان أفراد الأسرة يتفقون على يوم محدَّد، يجلس فيه كلُّ أخ بعد صلاة العشاء في جماعة في مسجده الذي اعتاد الصلاة فيه، ويقضي وقته في الصلاة والذكر والدعاء لإخوانه بظهر الغيب، كلّ باسمه، وقد وصل بنا الحال- يكمل الشيخ- إلى أنَّ كلَّ واحد منا كان بمجرد انتهائه من الصلاة يشعر وكأن إخوانه حاضرون يؤدون الصلاة معه.
قلت للشيخ: حفظك الله.. زدني، فقال حفظه الله: كنا نتدارس العلم، ويراجع بعضنا بعضًا فيما نتعلمه, وكنا نركِّز في طلب العلم ومذاكرته، خاصةً بعد دروس الأستاذ رحمه الله، يقصد الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله، وكان الواحد منا يُسائل أخاه بعد انتهاء الدرس: بماذا خرجت من درس اليوم؟! ما هي أكثر نقطة لفتت انتباهك؟ ونظل هكذا يراجع بعضُنا بعضًا حتى نتيقَّن من استيعابنا للدرس, وكنا نتفق فيما بيننا على تنفيذ ما نسمعه من توجيهات تربوية في الدرس الأسبوعي، فلا نأتي للقاء التالي حتى نكون قد أنفذنا ما تعلمناه في الدرس الذي يسبقه.
قلت للشيخ: أوصنا، فقال حفظه الله- وكأنها وصية مودع-: خذوا حذركم, أنتم تواجهون عدوًّا جبانًا لا قِيَمَ لديه ولا أخلاق, وانتبهوا حتى للكلمة قبل أن تنطقوها, ولا تتلفَّظوا بلفظة وأنتم غير مدركين لمعانيها ولا لعواقبها ولا تضعوا أرجلَكم إلا حيث تعلمون، وخذوا لذلك مثلاً وعبرةً من قصة موسى عليه السلام مع صاحبه الذي أفشَى سرَّه وسبَّب له مصيبةً عظمى بكلمة واحدة زلَّ بها لسانه ﴿كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ﴾ (القصص: من الآية 19)، وكان هذا سببًا في معرفة فرعون ومَلَئهِ بأمر موسى، وأنه هو الذي قتل رجلاً من رجالات فرعون لتجبُّره وطغيانه، وهو الأمر الذي كان سرًّا بينه وبين صاحبه.
ونتيجةً لذلك تآمر فرعون مع الملأ لقتل موسى، ولكن عناية الله وحفظه لنبيه عليه الصلاة والسلام، جعلت رجلاً مؤمنًا يستشعر الخطر المحدق بموسى ودعوته، ويُسرع لإبلاغ موسى وتحذيره من المؤامرة ﴿وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)﴾ (القصص).
ثم يكمل الشيخ حفظه الله: تأمل هذا الموقف من هذا الرجل المؤمن الذي حمل همَّ دعوته، انظر إلى قول الله تبارك وتعالى﴿مِنْ أَقْصَى الْمَدِيْنَةِ﴾ من هناك- يكمل الشيخ- من الصعيد الجواني ولم يقل "وأنا مالي"، ولم يقل "أكيد القيادة عارفة هي بتعمل إيه"، ولم يخطر بباله أن الإخوة الكبار" عاملين حسابهم على كل شيء!! لم يخطر على باله شيءٌ من هذا مطلقًا, إنما استشعر مسئوليته وعَدَّ نفسه المسئول الوحيد عن هذه الدعوة، وأسرع يحذر القيادة من الخطر، ويقدم لها في نفس الوقت النصح الذي يُمليه عليه ضميرُه وحرصُه على دعوته وحبُّه لها ﴿فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾ هذه هي وصيتي إليكم- يختم الشيخ كلامه- احملوا همَّ دعوتكم، وقدِّموا لقيادتكم النصح, ولا يقولن أحدكم "وأنا مالي".
تلك أحبتي الكرام كانت وصية المجاهد المربي لي ولإخواني، أحببت أن أنقلها إليكم؛ عسى الله أن ينفع بها جميع الإخوان والعاملين للإسلام.. اللهم آمين آمين آمين.
المصدر
- مقال:وصية مجاهدإخوان أون لاين