أحمد أبو شادي
إعداد: موقع إخوان ويكي
بقلم: إيمان يس
مقدمة
الداعية أحمد أبو شادي، أحد الرعيل الأول للإخوان المسلمين، صاحب صفحةٍ مشرفةٍ في تاريخ الوطن، عاني مثل غيره من رجالات الإخوان من الظلم والطغيان بعد الثورة، وتم القبض عليه عام 1954م، ثم أُعيد اعتقاله مرةً أخرى في محنة الستينيات، وهو من مواليد أبريل 1928م، في قرية "تفهنا العزب"، مركز زفتى بمحافظة الغربية، تعلم في كُتَّاب القرية، والتحق بالمدرسة الابتدائية، وتدرَّج في الشهادات حتى حصل على ليسانس الحقوق من جامعة عين شمس عام 1958م، وعقب خروجه من السجن عام 1974م، عمل بالكويت حتى الغزو العراقي عام 1990م، ثم عاد إلى مصر ليتفرَّغ للدعوة، ورغم أنه اقترب من الثمانين من عمره إلا أن دعوته ما زالت هي شغله الشاغل، فهو ينتظر رمضان بفارغ الصبر ليصوم نهاره ويقوم ليله، وقد التقينا به ليروي لنا صفحاتٍ من تاريخ نضاله المشرف.
النشأة
يقول في ذلك: نشأتُ في بيئةٍ كانت حريصةً على تعلُّم القرآن الكريم، فرغم اشتغال والدي بالزراعة، إلا أنه كان محبًّا للقرآن الكريم وتاليًا له، كما أنه كان حريصًا على حضور دروس الفقه في القرية، وكانت أمنية والدي أن يراني بالمسجد الجامع خطيبًا يلقن الناسَ دروسَ الفقه؛ ولذلك دفع بي وأنا في الخامسة إلى كُتَّاب القرية، وعزف عن إلحاقي بالمدرسة الإلزامية؛
كي أتفرَّغ للقرآن، ولم يعبأ بما فُرض عليه من مخالفاتٍ مالية، وحظر على أهل الدار أن يكلفني أحدٌ بأي أمرٍ مهما كان بسيطًا، قائلاً لهم: "إنني قد وهبته للقرآن فقط"، وحينما بلغتُ سن 12 سنةً ألحقني والدي بمعهد طنطا الأحمدي، ولكن للأسف لم أوفَّق؛ لأن الشيخ الذي كان يعلِّمُني القرآن فاته أن يُدرِّس لي الحساب الذي امتحنوني فيه في الأحمدي، فلم أوفَّق، وكانت صدمةً لي ولوالدي، وعاودت الكرّة مرةً أخرى، ولم أوفَّق، فالتحقْتُ بمعهد المنشاوي العام، ثمَّ عاودت الكرَّة مع الأحمدي ولم أوفَّق، فعُدت إلى بلدتي؛ ولأنني لم أعمل بالزراعة فظللت فترةً لا أعمل، وكان الجميع يعايرني بالفشل.
وذات يوم جاء أحد أصدقاء والدي لزيارته، ونصحه بإرسالي إلى مدرسة زفتى الأهلية، واسمها "أمير الصعيد"، وكانت تقبل التلاميذ كبار السن، وكان والدي غير مقتنع بهذه الفكرة؛ لأنه كان يعتقد أن هذه المدارس تفشل في تعليم أمور الدين، ودخلت المدرسة، وتفوقتُ فيها، وكنتُ الأولَ في سنيِّ دراستي؛ لأنني كنتُ راغبًا في عمل شيء لاسترداد كرامتي، خاصةً أني قد اشتهرتُ في بلدتي بـ(الساقط)، وحصلتُ على الابتدائية وكانت فرحةً كبيرةً "أحمد أفندي أخذ الشهادة"، فعملتُ كاتبًا بوزارة الدفاع، إلا أنني وجدتُ نفسي أقل المؤهلات، فدخلتُ مدرسةً ليليةً، وحصلتُ على الثقافة، ثم التوجيهية، ثم التحقتُ بكلية الحقوق عام 1950م، وحصلتُ على الشهادة عام 1958م لظروف السجن، كما عملتُ في وزارة العدل لفترة، وبعد خروجي من السجن 1974م سافرتُ إلى الكويت وعملتُ مستشارًا قانونيًّا لديوان المحاسبة في الكويت حتى عام 1990م ثم عدتُ إلى مصر.
معرفته بالإخوان
التحق فيه بجماعة الإخوان المسلمين في رمضان عام 1947م، ويتذكر ذلك بقوله: التحقت بجماعة الإخوان في رمضان من عام 1947م وكنتُ قبلها منتسبًا لحزب الوفد، الذي كان مسيطرًا على الشارع السياسي في مصر، وكنتُ أرى أن الوفد فيه "النحاس باشا"، و"سليمان زكي باشا"، و"فؤاد سراج الدين باشا"، فلماذا أنضمُّ إلى "حسن البنا" المدرس الابتدائي؟!!
وذات مرة دعاني أحد أقاربي، وهو الحاج "إبراهيم سلامة" للانضمام إلى الإخوان المسلمين، وقال لي: تعالى يا أحمد، ندخل الإخوان سنطبق الشريعة، ونمنع الخمور والزنا، وكنتُ أرفض الاستجابةَ له للأسباب السابقة، وعندما كنتُ في القاهرة دعاني ذات مرةٍ للإفطار في منزله بالعباسية، وقال لي عقب الإفطار إن الشيخ "حسن البنا" سوف يلقي محاضرةً في أحد ميادين العباسية، كانت لديَّ فكرة أن الإخوان جماعة عمال وفلاحين غير منظمين..
إلا أنني عندما دخلتُ السرادق ذُهلت لِما شاهدتُه من وجوهٍ يبدو عليها أنَّها متعلمة ومثقفة، وكانت المفاجأة عندما دعاني مقدم الحفل لافتتاح الحفل بقراءة القرآن الكريم، وقرأتُ القرآن إلى أن جاء الشيخ "حسن البنا"، وتعالت الهتافات "الله أكبر ولله الحمد"، وسلمتُ على الشيخ "حسن"، وقال لي:
تقبَّل الله.. ففوجئتُ بنفسي أقبِّل يديه، وكانت هذه أول مرة أسمع له، وتأثرتُ بحديثه؛ حيث قال حديثًا لم أتعوَّد عليه، وأذكر مما قاله: "إذا كانت بريطانيا تزعم أنها سيدة البحار، وأنها الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وإذا كانت روسيا تزعم أن لديها الجيش الأحمر، وإذا كانت أمريكا تتباهى بالقنبلة الذرية... فإننا لدينا ما هو أقوى من ذلك كله، وهو الإيمان بالله".
وفاض في الحديث عن الإيمان، ولفت نظري إجابته على الأسئلة.. حيث كان يجيب عليها، وكأنه يقرأ من كتاب، فأدركتُ وقتها أن هذا الرجلَ بحرٌ من العلم، وبدأت منذ ذلك الحين أتابع جريدة الإخوان المسلمين، ثم التحقتُ بكلية الحقوق، وفي الجامعة كانت الحركات السياسية تظهر بشكلٍ أكبر من ظهورها في الشارع، وعندما كنت أذهب للصلاة في مسجد الجامعة كنت أجد مجموعةً من الإخوان، فأصبح هناك تجاوبٌ إلى أن أعطاني أحدهم كتابًا هديةً، كان لهذا الكتاب الفضل في تغيير حياتي وهو كتاب "الإسلام وأوضاعنا القانونية" للشهيد "عبد القادر عودة".
ثم التحقتُ بشعبة العباسية، وكانت من أعظم شُعَب القطر كله، حيث يتركز بها سلاح الصيانة، وسلاح المهندسين، وكثيرٌ من الكليات الجامعية، وكانت هذه الشعبة كخلية نحل، ولم يكن هناك أي قيود، وكانت هناك عادةٌ طيبةٌ في شهر رمضان حيث كانت الشُعبة تدعو بعضها البعض إلى الإفطار، وكنّا في رمضان نوزع أنفسنا في حي العباسية على أربع مجموعاتٍ تتحرك في أربعة اتجاهات لإيقاظ الناس لصلاة الفجر، فكانت المساجد وقت صلاة الفجر مثل صلاة الجمعة.
وكنا نجمع الزكاة ونوزعها على الأهالي في الشعبة؛ فمن أهداف الجماعة خدمة البنية التحتية للجماهير، وكان الجميع في العشر الأواخر يدخل الاعتكاف بمَن فيهم أعضاء مكتب الإرشاد الذي كان يأخذ إجازةً؛ من أجل الاعتكاف.
الإخوان والثورة
يتذكر الحاج أحمد ذلك بقوله:لا يخفي على أحد أن جماعة الإخوان المسلمين هي السبب الرئيسي للثورة وهي الأم لتنظيم الضباط الأحرار، والتاريخ أوضح ذلك في أكثر من شهادةٍ لمؤرخين، وقادة الثورة أنفسهم ودور عبد المنعم عبد الرؤوف كان معلومًا، بل إن عددًا من قيادات الضباط الأحرار كانوا أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين، وفي بداية الثورة كنا نشعر أنها "بِتَعِتْنَا" فنحن الذين قمنا بتأمين مداخل ومخارج القاهرة والبنايات الهامة والمؤسسات الوطنية، ولكن بعد أقل من عام انقلب الوضع وبدأ الوجه الآخر لقادة الثورة، حتى جاء عام 1954 ليبدأ التنكيل بالإخوان سواء على مستوى القمة أو القاعدة.
وقد اعتقلتُ في 1954م وقضيت رمضانين في المعتقل، ثم اعتقلت مرة أخرى من 65 إلى 71، ومن الذكريات التي لا أنساها أنه في 18 رمضان عام 1955م حدثت واقعة مؤلمة جدًا في السجن الحربي، وضُبط عند أحد الإخوان حديث يحثُّ على الصبر! فقاموا بجلد الإخوان الخمسة الموجودين في الزنزانة في ظهر هذا اليوم أمام الجميع؛ حتى إن أحد الضباط المسيحيين عندما شاهد ذلك قال: "حرام عليك يا حمزة بيه، دول صايمين"، ولم يلتفت حمزة لذلك نهائيًا!!.
وقد صوّر الشيخ "القرضاوي" هذه الواقعة بقصيدة عظيمة يقول فيها عن حمزة البسيوني:
- قانوننا حمزة البسيوني
جلاد مصر الغرّ رمز عذابها
- أسموه زورًا قائدًا لسجون
وجهٌ عبوثٌ قمطريرٌ حاقدٌ
- مستكبر القسمات والعرنيين
في خده شجب ترى من خلفه
- نفسًا معقدة وقلبًا لعينًا
الشر يتبعه كظله كلما
- وافى إلينا الحين بعد الحين
كالذئب تشفيه الدماء إذا جرت
- ولربما ذئبٌ فيه بعض حنين!
سأظل أذكر يوم زار السجن
- في رمضان زورة جاحد مفتون
في صبح غزوة بدر أحيا ذكرها
- بإقام حفلٍ للعذاب مهين
بل للرجال وهم صيامٌ خشّع
- لم يرع حرمة شهرنا المرموم
لم يثنه نظام الشفاء من الأذى
- وخشوع أبصار وجوع بطون
سلط الألوف بالسياط هدية
- بدلاً من الزبيب المشتهى والتين
يا حمزة السفاح يا أعوانه
- من كل أخلق الأذى معجون
ماذا نقمتم من شبابٍ مؤمنٍ
- صلب القناة لدى الخطوب رصين
ألأن يومهم الصيام ويومكم
- فالجلد والشهوات والتسخين
ألا ليلهم القيام وليلكم
- في منكر بادي العواري مشين
ألأن ذكرهم الكتاب وذكركم
- سباب أهل الدين
أم أن حمزة حنّ للدم طبعه
- والطبع غلاب على المأمون
أم ساقه روح الفداء لغزونا
- فاغزُ اليهود وهناك لا تغزونا
اذهب لغزة يا هُمام وأنْسنا
- بجهادك الرامي صلاح الدين
أفعندنا كبش نطاح ونعجة
- وفي الحرب جماء بغير قرون
ويقول الأستاذ أحمد: ومن المواقف التي لا أنساها خلال فترة السجن، ما حدث أثناء تحقيقات عام 65، فقد أجريت معي تحقيقات انتهت ببراءتي، وعادةً ما يصاحب التحقيقات تعذيب شديد نظل على أثره منهكي القوى تمامًا لأيام عديدة، وبعد انتهاء التحقيقات بيومين سمعتُ الشاويش ينادي اسمي مرةً أخرى، فأجبته، فقال مطلوب للتحقيق، وكنتُ ما زلتُ متعبًا جدًّا، فضاق صدري لذلك أيما ضيق وأصابني همٌّ وغمٌّ شديدان، ولكني لا أملك سوى أن أُنفِّذ الأوامر، ونزلتُ إلى مكان التحقيق مع الإخوان الواردة أسماؤهم في الكشف الجديد، وبدأ التحضير للتحقيق من جديد، وقد أمرونا أن نكرر حركة "جلوس ثم وقوف" بشكلٍ متواصلٍ وكنا في شهر أغسطس.
وهو شهر شديد الحرارة والرطوبة، وكانت غرفة التحقيق قريبةً جدًّا، كي نسمع أصوات تعذيب إخواننا الذين يجري معهم التحقيق، والهدف من هذا كله تحطيمنا نفسيًّا، لننهار ونعترف إذا ما بدأ التحقيق معنا، وعادة ما تستمر حركة الجلوس ثم الوقوف لساعةٍ كاملةٍ أو أكثر "حسب مزاج الشاويش"، وألهمني الله أن أعتبرها سجدةً حتى يخفف عني من ألمها وعنائها، فكنت عند النزول أقول:
"سبحان ربي الأعلى"، وعند الصعود أردد: "حسبي الله ونعم الوكيل"، وفجأةً سمعتُ صوت أحد الضباط كان زميلاً لي أيام الدراسة لكنه لم يكمل دراسته بالحقوق، والتحق بكلية الشرطة ليصبح ضابط مباحث، وقد استطعتُ تمييز صوته، واستبشرتُ بذلك أيما استبشار، وهمهمت في نفسي:
"أهه سمير جالي أهه"، وفي نفس اللحظة وبمجرد أن أنهيت الهمهمة، تذكرت الآية الكريمة من سورة يوسف ﴿فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ﴾ (يوسف: من الآية 42)، فأخذتُ أردد: "لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله"، واستغفرتُ ربي كثيرًا، كيف لي أن أترك رب العالمين، وأستعين بالعبد الذي لا يملك لنفسه شيئًا، "سامحني يا رب استغفر الله العظيم".
كيف أركن إلى بشر، كيف بعد التسبيح والدعاء أترك ربي وأستنجد بالبشر، وعدتُ إلى ربي وإلى دعائي، إلى أن جاء دوري، ونادوا اسمي، أحمد أبو شادي، فترقبتُ بداية التعذيب من جديد، سألني المحقق عن اسمي، فأجبته، وهنا كانت المفاجأة، انطق الله أحد الجلادين، فقال: "يا أفندم الراجل ده حققوا معاه قبل كده"، فهو يعرفني لأنه يحضر التحقيق وتعذيب الجميع، وفهمتُ فيما بعد أن مَن ينتهون من التحقيق معه يتم شطب اسمه، لكن المحقق السابق نسي أن يشطب اسمي، فاستدعوني للتحقيق مرةً أخرى- نظر إليَّ المحقق وسألني:
"حققوا معاك"، فقلتُ له: لا أعلم، لأني لم أكن أعلم فعلاً هل انتهى التحقيق معي أم لا، فقام ليحضر ملفًا كبيرًا، به جميع التحقيقات السابقة، فوجد اسمي ممن انتهى معهم التحقيق، فأمر أن أعود إلى الزنزانة، "مفيش حد حط إيده عليّ"، كنت أتوقع "ماتش جامد"، ودخلتُ على إخواني في العنبر، الجميع ينظر إلي وعلامات الدهشة والترقب تدور في أعينهم، فبادرتهم قبل أن يسألوا، ﴿فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾ (آل عمران: من الآية 174)، لأني كنت أقول: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، والآية تقول ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)﴾ (آل عمران).
قد تحققت الآية بكل معانيها، وتعلمنا منها أن جزاء "حسبي الله ونعم الوكيل" هو أنهم ﴿لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ﴾، فعشنا جميعًا هذه المعاني العظيمة، وكأنَّ الآية نزلت لتوها من لدن رب العالمين. وهذه من المواقف العظيمة التي تبين أن تعلق الإنسان بالله تعالى وارتباطه به لا شك أنه عصمة للإنسان، فقد حقق الله لي ما لم أكن أحلم به، بعدما ظننتُ أني معذب لا محالة.
ومن المواقف ايضا ففي اعتقال 1965م، وفي السجن الحربي، جهنم بعينها؛ حيث الإصرار على القضاء على الإخوان القدامى- باعتبار أنهم سبب انضمام أعضاء جدد للجماعة-، وكان معنا الأستاذ محمود منصور وهو مستشار في جامعة الدول العربية، تم اعتقاله بسبب زيارته لي، وأثناء التحقيق سألني الضابط:
"كنتم عاملين أُسر"، فنفيتُ له ذلك، لكنه كرر السؤال مرارًا، وتحت التعذيب الشديد، أضطررت أن أقول له ما يرضيه- ليس اعترافًا ولكن مجاراةً له فقط-، فقلت له نعم، فسألني عن أسماء مَن في الأسرة، فألفت له أسماء لا وجودَ لها ووضعت بينها أسماء إخوة لا يعرفون بعضهم من مختلف أنحاء القطر ومن المستحيل أن يكون بينهم لقاء أسبوعي، فسكت قليلاً، ثم أحضر ورقةً وطلب مني أن أعيد هذه الأسماء مرةً أخرى، فتنبهتُ إلى أنه كتب الأسماء التي ذكرتها ويريد التأكد من صحتها، فقلت له أسماء مختلفة تمامًا، فواجهني بأن الأسماء مختلفة، وسألني أي القائمتين هي الصحيحة؟.
فأجبته ليست أيهما صحيحة ولكني قلت ذلك لأرضيك ما دمت مصرًّا على وجود أسر، فجُنَّ جنونه، وعاد ليحقق مع منصور، فسأله: "كنتم عاملين أُسر"؟، فقال: لا، فصرخ الضابط في وجهه قائلاً: أحمد أبو شادي قال كنتم عاملين أُسر!!.
فأجابه منصور: نعم كنا عاملين أُسر، وهنا ظن الضابط أنه أمسك بطرف الخيط، وأنه سيصل إلى الحقيقة وسارع لمواجهتنا ببعض وقال: لا بد أن أصل إلى الحقيقة الآن وإلا.....، كنتم عاملين أُسر؟ فأجبته: لا لم تكن هناك أي أسر، وصدق منصور على كلامي قائلاً:
"ما كناش عاملين أسر"، فكاد الضابط أن يجُنَّ وصرخ بصوتٍ أعلى موجهًا كلامه لمنصور: "أنت قلت كنتم عاملين أُسر مع أحمد أبو شادي"، فأجابه: "لما أنت قلت لي إنه قال كده ماحبتش أكذب أخويه"، وكان موقفًا رائعًا جدًّا أدهش الضابط، وجعله الله سببًا لانتهاء التحقيق في هذه الجزئية دون أن نعترف على أحد.
وأيضا حدث عام 55 في السجن الحربي في إحدى الليالي.. طرق مجموعةٌ من الإخوان باب الزنزانة التي كانوا فيها ونادوا من شباكها ليطلبوا ماءً، وهذا تصرف عادي كثيرًا ما نفعله، لكن في هذه الليلة تمت معاقبتهم لذلك، حيث أُنزلوا جميعًا وضُربوا بقسوةٍ وعنفٍ شديدين، وكانت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وسمعنا صراخهم لكن لم نستطع تمييز الأصوات أو معرفة السبب، وفي الصباح التقينا ببعضنا في الدور ورأينا إخواننا الذين ضُربوا وقد بدت عليهم علامات الضرب والتعذيب الشديد، وملأت الجراح والدماء وجوههم وأجسادهم، وحزنا جدًّا لما أصابهم فسألناهم وعرفنا السبب.
وكان معنا الأستاذ ماهر خميس نقيب المحامين في المنصورة، وهو من كبار الإخوان، وكثيرًا ما قام بالتواصل بيننا وبين الشاويشية لتقريب وجهات النظر والحصول على بعض الحقوق، فذهب ومعه أحد الإخوان الكبار أيضًا للشاويشية وكلموهم وأبلغوهم بأن الجميع في قمة الغضب مما حدث بالأمس، وأنه لا بد من امتصاص هذا الغضب، فسألهما الشاويشية:
"طيب أنتم عاوزين إيه؟"، فاقترحا أن ننزل جميعًا إلى ساحة السجن ويقوم أحد الإخوان بقراءة قرآن، حتى يهدأ الجميع، فوافق الشاويشية، وكان يومًا تاريخيًّا، نزلنا جميعًا إلى "الحوش"، واختارنا أحد الإخوان المعروف بحسن صوته واختياره للآيات المناسبة للحال، فقرأ، ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)﴾ (إبراهيم).
فكنا نستمع لهذه الآيات وكأنَّ الوحي يتنزل علينا ليخاطبنا نحن دون جميع البشر بهذه الآيات الكريمة، وتابع: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمْ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)﴾ (إبراهيم)، حتى وصل إلى الآية الكريمة ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)﴾ (إبراهيم)، فبكينا جميعًا وأستشعرنا أنها رسالة من الله العزيز الحكيم ليمسح بها على قلوبنا ويثبتنا.
ثم تابع من بعده أخ آخر، فقال: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)﴾ (آل عمران).
فتتابعت دموعنا منهمرةً وأستشعرنا عظمة أن نتلقى عزاءنا من الله وحده، بعد ما أصابنا من إيذاءٍ بدني ونفسي، وعشنا فترةً روحانيةً رائعةً جدًّا لم أعش مثلها إلا في بيت الله الحرام عند الكعبة، مسحت كل آلامنا. ثم ألقى الأخ محمد فريد عبد الخالق كلمةً رائعةً، قال فيها: "هذه المحنة هي منحة من الله عز وجل، فقد جاء بنا الله إلى هذا المكان لنتربى كما تربى موسى في حجر فرعون".
ثم حان موعد أذان المغرب، فاستأذن أحد الإخوان ليرفع الأذان، وارتفع صوت "الله أكبر الله أكبر" مدويًا، في مكانٍ شهد من قبل أحلك اللحظات،- فقد كنا نطلق على هذا المكان اسم "الغابة" لما فيه من ضربٍ وتعذيبٍ وحشي- لكن نداء الله أكبر أحدث رهبةً ووقعًا في نفوس الجميع، تابعتها رهبة الإقامة ثم الصلاة، وانتهى اليوم الإيماني بعد صلاة المغرب وعدنا كلٌّ إلى زنزانته، ولكن بقلوبٍ غير التي ذهبنا بها، وكأنَّ الله مسح على قلوبنا، فمحا منها كل أثر لما لاقينا. فكان يوم جائزة من عند الله.
ولقد رزقه الله بالبنين والبنات ومنهم الدكتور خالد أحمد أبو شادي، كما أن الأستاذ احمد قد ألف كتاب رحلتى مع الجماعة الصامدة.
وفاته
توفى الأستاذ أحمد ابو شادي في يوم 15 فبراير من عام 2010م وقد شيعت جنازته من مسجد رابعة العدوية.
ألبوم الصور