الإخوان والتصوف

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
شبهة التصوف


مقدمة

وكانت أول المفتريات ، اتهام الشيخ البنا رضوان الله عليه بالصوفية ، كلمة سمعوها كالببغاوات فرددوها بغير معنى ولا معرفة ، ولا علم ولا فقه ، وإذا سألت أحدهم ما هو التصوف ، ومن هم المتصوفة ، أجابك بغير تردد فئة ضالة مضلة كافرة ، هكذا وفي جملة واحدة اختصر القضية ، وأتى بالحكم بدون حيثيات ولا بينات ولا شهود ، ثم انبرى ينسبها إلى كل من يريد ، بسبب وبدون سبب ، اعتمادا على ورود حتى اسمها مجردا على لسان من يتهمون .


قول الإمام الشاطبى في التصوف

ويحسن بنا ونحن نتناول هذه الفرية أن نلقي الضوء على هذا الاسم ، وعلى المنتسبين إليه من واقع أقوال العلماء الراسخين في العلم ، مثل الإمام ابن تيمية ، والإمام الشاطبي - رضي الله عنهما - صاحب كتاب ( الاعتصام ) ذلك الكتاب الذي يعتبر المرجع المبرز في بيان البدع والمبتدعة في الدين ، فقال - رضي الله عنه - في الاعتصام - الجزء الأول ، ص 89 : 91 طبعة المعرفة : ( " الوجه الرابع " من النقل ما جاء في ذم البدع وأهلها عن الصوفية المشهورين عند الناس . وإنما خصصنا هذا الموضوع بالذكر، وإن كان فيما تقدم من النقل كفاية لأن كثيرا من الجهال يعتقدون فيهم أنهم متساهلون في الاتباع ، وأن اختراع العبادات والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه ، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به ، فأول شئ بنوا عليه طريقتهم اتباع السنة واجتناب ما خالفها حتى زعم مذكرهم ، وحافظ مأخذهم ، وعمود نحلتهم ، ( أبو القاسم القشيري ) أنهم إنما اختصوا باسم التصوف انفرادا به عن أهل البدع ؟ فذكر أن المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم " لم يتسم أفاضلهم في عصرهم باسم علم سوى الصحبة ، إذ لا فضيلة فوقها ، ثم سمي من يليهم التابعين ، ورأوا هذا الاسم أشرف الأسماء ، ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين . ثم اختلف الناس وتباينت المراتب ، فقيل لخواص الناس ممن له شدة عناية في الدين : الزهاد العباد .

قال : ثم ظهرت البدع ، وادعى كل فريق أن فيهم زهادا وعبادا فانفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله ، الحافظون قلوبهم عن الغفلة باسم التصوف ، هذا معنى كلامه ، فقد عد هذا اللقب مخصوصا باتباع السنة ومباينة البدعة ، وفي ذلك ما يدل على خلاف ما يعتقده الجهال ومن لا عبرة به من المدعين للعلم .

وفي غرضي - إن فسح الله في المدة وأعانني بفضله ويسر لي الأسباب -أن ألخص في طريقة القوم أنموذجا يستدل به على صحتها وجريانها على الطريقة المثلى ، وأنه إنما داخلتها المفاسد وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح ، وادعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعي ، ولا فهم لمقاصد أهلها ، وتقولوا عليهم ما لم يقولوا به ؟ حتى صارت في هذا الزمان الأخير كأنها شريعة أخرى غير ما أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم.

وأعظم من ذلك يتساهلون في اتباع السنة ، ويرون اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا، وطريقة القوم بريئة من هذا الخباط – بحمد الله –

. فقد قال الفضيل بن عياض : من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة . وقيل لإبراهيم بن أدهم : إن الله يقول في كتابه في" ادعوني أستجب لكم " وتحن ندعوه منذ دهر فلا يستجيب لنا فقال : (ماتت قلوبكم بخمسة أشياء :

أولها : عرفتم الله فلم تؤدوا حقه .

والثانى ، قرأتم كتاب الله ولم تعملوا به .

والثالث : ادعيتم حب رسول الله صلى الله عليه وسلموتركتم سنته .

والرابع : ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه .

والخامس : قلتم نحب الجنة ولم تعملوا لها .

وقال ذو النون المصري : (من علامة حب الله متابعة حبيب الله صلى الله عليه وسلم في أخلاقه وأفعاله وأمره وسننه ) . وقال : (إنما دخل الفساد على الخلق في ستة أشياء : الأول ، ضعف النية بعمل الاخرة .

والثانى : صارت أبدانهم مهيئة لشهواتهم .

والثالث : دخل عليهم طول الأمل مع قصر الأجل .

والرابع : آثروا رضاء المخلوقين على رضاء الله .

والخامس : اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.

والسادس : جعلوا زلات السلف حجة لأنفسهم ودفنوا أكثر مناقبهم ) .

وقال لرجل أوصاه : (ليكن اثر الأشياء عندك وأحبها إليك أحكام ما افترض الله عليك ، واتقاء ما نهاك عنه ، فإن ما تعبدك الله به خير لك مما تختاره لنفسك من أعمال البر التي تجب عليك ، وأنت ترى أنها أبلغ لك فيما تريد ، وكذلك يؤدب نفسه بالفقر والتقلل وما أشبه ذلك ، وإنما للعبد أن يراعي أبدا ما وجب عليه من فرض يحكمه على تمام حدوده ، وينظر إلى ما نهئ عنه فيتقيه على أحكام ما ينبغي ، فإن الذي قطع العباد عن ربهم ، وقطعهم عن أن يذوقوا حلاوة الإيمان وأن يبلغوا حقائق الصدق ، وحجب قلوبهم عن النظر إلى الآخرة ؟ تهاونهم بأحكام ما فرض عليهم في قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم وبطونهم وفروجهم ، ولو وقفوا على هذه الأشياء وأحكموها لأدخل عليهم البر إدخالا تعجز أبدانهم وقلوبهم عن حمل ما رزقهم الله من حسن معونته ، وفوائد كرامته ، ولكن أكثر القراء والنساك حقروا محقرات الذنوب ، وتهاونوا بالقليل مما هم فيه من العيوب ، فحرموا ثواب لذة الصادقين في العاجل ) .

وقال بشر الحافي : ( رأيت النبيصلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي : " يا بشر ! تدري لم رفعك الله بين أقرانك ؟ " قلت : لا يا رسول الله ، قال : " لاتباعك سنتي ، وحرمتك للصالحين ، ونصيحتك لإخوانك ، ومحبتك لأصحابي وأهل بيتي هو الذي بلغك منازل الأبرار ").

وقال يحيى بن معاذ الرازي : (اختلاف الناس كلهم يرجع إلى ثلاثه أصول ، فلكل واحد منها ضد، فمن سقط عنه وقع في ضده :

ا - التوحيد وضده الشرك .

2-والسنة وضدها البدعة .

3 - والطاعة وضدها المعصية) .

وقال إبراهيم القمار : (علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم) .

وقال سليمان الداراني : (ربما تقع في قلبي المسألة من مسائل القوم أياما ، فلا أقبل منها شيئا إلا بشاهدين عدلين : الكتاب والسنة . ) .

وقال أبو القاسم الجنيد : (مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة) .

وقال . (من لم يحفظ القرآن ، ويكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة)

وقال إبراهيم الخواص : (ليس العلم بكثرة الرواية ، وإنما العالم من اتبع الكتاب ، واقتدى بالسنة) . وسئل عن العافية ، فقال : (العافية في أربعة :

1- دين بلا بدعة .

2- عمل بلا آفة .

3- قلب بلا شغل .

4- نفس بلا شهوة .

وقال: (الصبر : الثبات على أحكام الكتاب والسنة) .

هذا قليل من كثير نقله الإمام أبو إسحاق الشاطبي في عشر صفحات من سفره العظيم ، وقال -رحمه الله -: وكلامهم في هذا الباب يطول ، وقد نقلنا منه جملة من أحاديث مشايخهم تربو على اثنين وأربعين شيخا، جميعهم يرون الابتداع ضلالا ، ويأمر بالاستمساك بالكتاب والسنة ، وانما الذي خرج عن هذا الأصل جماعة ضالة من المتأخرين انتسبوا إلى التصوف زورا وحالهم معروف لا يخفي على أحد ( انظر في ذلك "الاعتصام " للشاطبي ص 89 - 98 ) .


التصوف في رأي ابن تيمية

يتكلم الإمام ابن تيمية على التصوف كلام العلماء الأثبات الذين يضعون الأمور في نصابها ، ولا يزيفون التاريخ ، أو يقعون في أعراض الناس ويتهمونهم بغير حق دون خشية من الله ، ولا احترام للعلم ، أو مراعاة للتعاليم الإسلامية .

وأول ما يتكلم ابن تيمية -رحمه الله -تكلم عن اسم التصوف ، فيقول : عرف أن منشأ التصوف كان في البصرة ، وأنه كان فيها من يسلك طريق العبادة والزهد مما له فيه اجتهاد ، كما كان في الكوفة من يسلك طريق الفقه والعلم وله فيه اجتهاد ، وهؤلاء الصوفية نسبوا إلى لبس الصوف ، فقيل في أحدهم : "صوفي " وليس طريقهم مقيدا بلباس الصوف ، ولا هم أوجبوا ذلك ولا علقوا الأمر به ، ولكن أضيفوا إليه لكونه ظاهر الحال.

ثم يقول رحمه الله : ( وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد - وعبد الواحد من أصحاب الحسن - وكان في البصرة من المبالغة في الزهد والعبادة والخوف ونحو ذلك ، ما لم يكن في سائر أهل الأمصار ، ولهذا كان يقال : فقه كوفي ، وعبادة بصرية).

عبادة الصوفية وما يتبعها من مواجد :

ثم يتطرق الإمام ابن تيمية إلى أصول هؤلاء في مواجدهم وكثرة خوفهم من الله ، ويجين رأيه ورأي العلماء في ذلك :

فأولا : يورد الأحوال التي كانت تقع منهم ، ثم يبين المنكرين لها وحججهم ، ثم يبين المجيزين لها وهم جمهور العلماء ، وهو موافق لهم ، ثم يبين أسباب ذلك وأدلته ويرد على المنكرين ، فيقول في بيان الأحوال : ويحكي عن عباد أهل البصرة ، مثل حكاية من مات أو غشي عليه في سماع القرآن ، ونحوه ، كقصة زرارة بن أوفي قاضي البصرة ، فإنه قرأ في صلاة الفجر : " فإذا نقر في الناقور" يخر ميتا ، وكقصة أبي جهير الأعمى الذي قرأ عليه صالح المري فمات ، وكذلك غيره ممن روي أنهم ماتوا باستماع قراءته ، وكان فيهم طوائف يصعقون عند سماع القرآن ، ولم يكن في الصحابة من هذا حاله . من أنكر ذلك "

ثم يقول -رحمه الله -: وممن أنكر ذلك أسماء بنت أبي بكر، وعبد الله بن الزبير ، ومحمد بن سيرين ، وقالوا : إنه تكلف وتصنع ، ومنهم من قال : إن ذلك مخالف لما كان عليه الصحابة.

من أجاز ذلك :

ثم يقول ابن تيمية : ( والذي عليه جمهور العلماء ، أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوبا عليه ، وان كان حال الثابت أكمل منه ، ولهذا لما سئل الإمام أحمد- رضوان الله عليه - عن هذا ، قال : قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه ، ولو قدر أحد أن يدفع عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد، فما رأيت أعقل منه ، ونحو هذا ، وقد نقل عن الإمام الشافعي أنه أصابه ذلك ، وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة ، وبالجملة فهذا كثير ممن لا يستراب في صدقه . لكن الأحوال التي كانت في الصحابة هي المذكورة في القرآن ، وجل القلوب ، ودموع العين ، واقشعرار الجلود ، كما قال تعالى:"إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون"(الأنفال 20) .

وقال تعالى: "إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكياً " (مريم : 58) .

ثم يقول : وحال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه ، فهذا هو الذي يصعق صعق الموت ، أو صعق غشي ، فإن ذلك إنما يكون لقوة الورود ، وضعف القلب عن حمله ، وقد يوجد مثل هذا في من يفرح أو يخاف أو يحزن يرو يحب في أمور الدنيا بل قد يقتله ذلك أو يذهب بعقله .

فإذا كان ذلك منه بدون تفريط ، لم يكن فيه ذنب فيما أصابه ، ولا وجه للريبة. وكان صاحبها-إذا كان العمل مشروعا- محمودا على ما فعل من الخير ، وما ناله من الإيمان ، معذورا فيما عجز عنه وأصابه بغير اختياره ، وهو أكمل ممن لم يبلغ منزلتهم لنقصر إيمانه وقسوة قلبه ونحو ذلك . ثم يقول رحمه الله :

ولكن من لم يزل عقله مع أنه قد حصل له من الإيمان ما حصل لهم أو مثله أو أكمل منه ، فهو أفضل منهم ، وهذا حال الصحابة رضي الله عنهم ، وحال نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه لما أسري به إلى السماء ، وأراه الله ما أراه ، وأصبح كبائت لم يتغير عليه حاله ، فحاله أفضل من حال موسى عليه السلام ، الذي خر صعقا لما تجلى ربه للجبل ، وحال موسى حال جليلة علية فاضلة ، لكن حال محمد صلى الله عليه وسلم أكمل وأعلا وأفضل.

مرتبة هؤلاء المتصوفة، ثم يقول رحمه الله : التصوف عندهم له حقائق وأحوال معروفة ، قد تكلموا في حدوده وسيرته وأخلاقه كقول بعضهم : " الصوفي " من صفا من الكدر ، وامتلأ من الفكر ، واستوى عنده الذهب والحجر ، " التصوف " : كتمان المعاني ، وترك الدعاوى ، وأشباه ذلك ، وهم يسيرون بالصوفي إلى معنى الصديق ، وأفضل الخلق بعد الأنبياء الصديقون ، كما قال الله تعالى : " فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا " (النساء : 69) .

لكنه في الحقيقة نوع من الصديقين ، فهو الصديق الذي اختص بالزهد والعبادة على الوجه الذي اجتهدوا فيه . . فإذا قيل عن أولئك الزهاد والعباد من البصريين : أنهم صديقون ، فهو كما يقال : عن أئمة الفقهاء من أهل الكوفة أنهم صديقون أيضا ، كل بحسب الطريق الذي سلكه من طاعة الله ورسوله بحسب اجتهاده ، وقد يكون من أجل الصديقين بحسب زمانهم ، فهو من أكمل صديقي زمانهم ، والصديق في العصر الأول أكمل منهم والصديقون درجات.

اختلاف الناس فيهم :

وبعد هذا تطرق الإمام ابن تيمية إلى طرق التصوف واختلاف الناس فيهم ، فأبان ذلك بمنطق العالم الباحث الذي يعطي كل شئ حقه . فقال رحمه الله : تنازع الناس في طريقهم : فطائفة ذمت " التصوف والصوفية " وقالوا : مبتدعون خارجون عن السنة ، وطائفة غلت فيهم ، وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء ، وكلا طرفي هذه الأمور ذميم .

رأيه فيهم :

والصواب : أنهم مجتهدون في طاعة الله ، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله ، فيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده ، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين ، وفي كل صنف من قد اجتهد فيخطىء، وفيهم من يذنب فيتوب ، أو لا يتوب ، ولكن هناك طائفة انتسبت إليهم من أهل البدع والزندقة ، وعند المحققين من أهل التصوف أنها ليست منهم مثل الحلاج ، فإن أكثر مشايخ الطرق أنكروه وأخرجوه من الطريق . ثم إن الصوفية بعد ذلك كانوا ثلاثة أصناف ، صوفية الحقائق ، وصوفية الأرزاق ، وصوفية الرسم .

فأما صوفية الحقائق : فهم الذين وصفناهم بالصديقين قبل ذلك .

وأما صوفية الأرزاق ، فهم الذين وقفت عليهم الوقوف ، ويشترط فيهم ثلاثة شروط : أحدها : العدالة الشرعية ، بحيث يؤدون الفرائض ويجتنبون المحارم .

الثاني : التأدب بآداب الطريق ، وهي الآداب الشرعية ولا يلتفتون إلى البدع .

الثالث : لا يتمسك أحدهم بفضول الدنيا، فمن تمسك بجمع المال ، أو تخلق بغير الأخلاق المحمودة ، ولم يتأدب بالآداب الشرعية فليس منهم .

وأما صوفية الرسم: فهم المقصورون على النسبة ، فمنهم اللباس والآداب الوضعية ونحو ذلك ، فهؤلاء في الصوفية بمنزلة الذي يقتصر على زي أهل العلم وأهل الجهاد ، فيظن الجاهل من أقوالهم وأعمالهم أنهم من أهل التصوف ، وليسوا منهم.

هذه أقوال ابن تيمية - رحمه الله - في التصوف والصوفية ، وقد سبقه رأي الشاطبي في ذلك واراء أسماء ، وأما الجهال فلهم رأي آخر لا يلتفت إليه لأنه مبني على غير علم ، وعلى نظرات في أهل الزندقة والأدعياء وليسوا منهم .


التهمة الموجهة إلى الشيخ البنا من المتحاملين عليه

وقد اتهم المتحاملون على الشيخ البنا رضوان الله عليه ، بالتصوف ، وأخذوا هذا من كلامه وليس من أفعاله ، فقد كان الرجل بشهادة الجميع ناصع السيرة ، مجاهدا في سبيل الله ، لا يفتر في ليل ولا نهار، داعية لا يشق له غبار مجدد القرن بغير منازع .

ونحن بدورنا نستعرض ما قاله الإمام البنا مما تذرعوا به ، ونذكر من آرائه ما يرد هذا الاتهام ، ثم ندع للقارئ الحكم على هؤلاء بعد ذلك .

الآن تعالوا بنا نستعرض ما قاله الإمام البنا عن الطريقة الحصافية ، وعن مشاركته فيها وهو في الثانية عشرة من عمره ، وقد أعجب باستقامة جماعة الحصافية فيقول : (وأخذت أواظب على الوظيفة الرزوقية صباحا ومساء ، وزادني بها إعجابا أن الوالد قد وضع عليها تعليقا لطيفا جاء فيه بأدلة صيغها جميعا تقريبا من الأحاديث الصحيحة وسمى الرسالة " تنوير الأفئدة الزكية بأدلة أذكار الرزوقية" ، ولم تكن هذه الوظيفة أكثر من آيات من الكتاب الكريم ، وأحاديث من أدعية الصباح والمساء التي وردت في كتب السنة تقريبا ، ليس فيها من الألفاظ الأعجمية أو التراكيب الفلسفية أو العبارات التي هي إلى الشطحات أقرب منها إلى الدعوات.

ثم يتحدث عن مؤسس هذه الطريقة وعلمه ومنهجه فيقول : كان السيد حسنين - رحمه الله - عالما أزهريا تفقه على مذهب الإمام الشافعي ، ودرس علوم الدين دراسة واسعة ، وامتلأ منها ، وتضلع فيها ، ثم تلقى بعد ذلك الطريق على كثير من شيوخ عصره ، وجد واجتهد في العبادة والذكر والمداومة على الطاعات ، حتى أنه حج أكثر من مرة ، وكان يعتمر مع كل حجة أكثر من عمرة ، وكان رفقاؤه وأصحابه يقولون ما رأينا أقوى على طاعة الله وأداء الفرائض والمحافظة على السنن والنوافل منه –رحمه الله –حتى في آخر أيام حياته ، وقد كبرت سنه ونيف عن الستين ، ثم أخذ يدعو إلى الله بأسلوب أهل الطريق ، ولكن في استنارة وإشراق وعلى قواعد سليمة قويمة . ثم يصف دعوة مؤسسها بقوله : (فكانت دعوته مؤسسة على العلم والتعليم ، والفقه والعبادة والطاعة والذكر ، ومحاربة البدع والخرافات الفاشية بين أبناء هذه الطرق ، والانتصار للكتاب والسنة -على أية حال - والتحرز من التأويلات الفاسدة والشطحات الضارة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وبذل النصيحة -على كل حال -حتى إنه غير كثيرا من الأوضاع التي اعتقد أنها تخالف الكتاب والسنة ، مما كان عليه مشايخه أنفسهم ).

ثم يبين سبب إعجابه بمؤسس هذه الدعوة فيقول:

(وكان أعظم ما أخذ بمجامع قلبي ، وملك علي لبي ، من سيرته -رضي الله عنه - شدته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأنه كان لا يخشى في ذلك لومة لائم ، ولا يدع الأمر والنهي مهما كان في حضرة كبير أو عظيم . ومن نماذج ذلك أنه زار رياض باشا حين كان رئيس الوزارة ، فدخل أحد العلماء وسلم على الباشا ، وانحنى حتى قارب الركوع ، فقام الشيخ مغضبا وضربه على خديه بمجمع يده ونهره قائلا: استقم يا رجل فإن الركوع لا يجوز إلا لله ، فلا تذلوا الدين والعلم فيذلكم الله .

ولم يستطع العالم ولا الباشا أن يؤاخذه بشى .

ودخل أحد الباشوات من أصدقاء رياض باشا ، وفي إصبعه خاتم من الذهب ، وفي يده عصا مقبضها من الذهب كذلك ، فالتفت إليه الشيخ وقال : يا هذا إن استعمال الذهب في الحلية حرام على الرجال ، حل للنساء ، فأعط هذين لبعض نسائك ، ولا تخالف عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأراد الرجل أن يعترض ، فدخل رياض باشا وعرف بعضهما ببعض والشيخ مصر على أنه لابد من خلع المقبض والخاتم معا حتى يزول المنكر . ودخل مرة على الخديوي توفيق باشا مع العلماء في بعض المقابلات ، فسلم على الخديوي بصوت مسموع فرد الخديوي بالإشارة بيده ، فقال له في عزم وتصميم : "رد السلام يكون بمثله أو بأحسن منه ، فقل وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، والرد بالإشارة وحدها لا يجوز " . فلم يسع الخديوي إلا أن يرد عليه باللفظ ويثني على موقفه وتمسكه بدينه . وزار- مرة - بعض مريديه من الموظفين في بعض دوائر المساحة فرأى على مكتبه بعض تماثيل من الجبس فسأله : ما هذا يا فلان ؟ فقال : هذه تماثيل نحتاج إليها في عملنا ، فقال : إن ذلك حرام ، وأمسك بالتمثال وكسر عنقه ، ودخل المفتش الإنجليزي في هذه اللحظة ورأى هذا المنظر فناقش الشيخ فيما صنع ، فرد عليه ردا جميلا ، وأفهمه أن الإسلام إنما جاء ليقيم التوحيد الخالص ، وليقضي على كل مظهر من مظاهر الوثنية في أية صورة من صورها ، ولهذا حرم التماثيل حتى لا يكون بقاؤها ذريعة لعبادتها ، وأفاض في هذا المعنى بما طرب له المفتش الذي كان يظن أن في الإسلام لوثة من الوثنية ، وسلم للشيخ وأثنى عليه . وزار مسجد السيد الحسين – رضي الله عنه – مع بعض مريديه ، ووقف على القبر يدعو الدعاء المأثور : "السلام على أهل الديار المؤمنين " ، فقال له بعض المريدين : (يا سيدنا الشيخ سل سجدنا الحسين يرضى عني ) فالتفت إليه مغضبا ، وقال : (يرضى عنا وعنك وعنه : الله ) ، وبعد أن أتم زيارته شرح لإخوانه أحكام الزيارة ، وأوضح لهم الفرق بين البدعية والشرعية منها . وحدثني الوالد أنه اجتمع بالشيخ –رحمه الله – في منزل وجيه من وجهاء المحمودية هو حسن بك أبو سجد حسن –رحمه الله – مع بعض الإخوان ، فدخلت الخادمة ، وهي فتاة كبيرة ، تقدم له القهوة وهي مكشوفة الذراعين والرأس ، فنظر الشيخ مغضبا وأمرها أن تذهب فتستتر ، وأفي أن يشرب القهوة ، وألقى على صاحب المنزل درسا مؤثرا في وجوب احتشام الفتيات ، وإن كن خدما ، وعدم إظهار الرجال ا لأجانب عليهن ، وله -رحمه الله - في ذلك أمور في غاية الكثرة والدقة معا وكذلك شأنه دائما . هذه الناحية هي التي أثم ارت في نفسي أعظم معاني الإعجاب والتقدير ، وكان الإخوان يكثرون من الحديث عن كرامات الشيخ الحسية ، فلم أكن أجد لها من الوقع في نفسي بعض ما أجده لهذه الناحية العملية ، وكنت أعسقد أن أعظم كرامة أكرمه الله بها هي هذا التوفيق لنشر دعوة الإسلام على هذه القواعد السليمة ، وهذه الغيرة العظيمة على محارم الله - تبارك وتعالى - والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . وكل ذلك ولم يتجاوز سني الثانية عشرة. ونحن بدورنا نتساءل : أولا: هل في هذا الكلام ما يعيب الشيخ كما يدعي هؤلاء ؟ وأما الحكم فمتروك لك أيها القارئ الكريم لترى حجم الجهل الذي اتصف به هؤلاء ، وسوء طويتهم وجرأتهم على الله ثم على الحقائق ، وكم في دنيا الكذب من أعاجيب

ثانيا: ما قاله في وصف شمولية دعوة الإخوان المسلمين في رسالة المؤتمر الخامس : حيث يقول : وتستطيع أن تقول - و لا حرج عليك - : إن دعوة الإخوان المسلمين :

1 - دعوة سلفية: لأنهم يدعون إلى العودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله .

2 -وطريقة سنية : لأنهم يحملون أنفسهم على العمل بالسنة المطهرة في كل شئ ، وبخاصة في العقائد والعبادات ما وجدوا إلن ذلك سبيلا .

3- وحقيقة صوفية: لأنهم يعلمون أن أساس الخير طهارة النفس ، ونقاء القلب ، والمواظبة على العمل ، والإعراض عن الخلق ، والحب في الله ، والارتباط على الخير.

4 - وهيئة سياسية: لأنهم يطالبون بإصلاح الحكم في الداخل ، وتعديل النظر في صلة الأمة الإسلامية بغيرها من الأهم في الخارج ، وتربية الشعب على العزة والكرامة والحرص على قوميته إلى أبعد حد .

ه - وجماعة رياضية : لأنهم يعنون بحبسومهم ، ويعلمون أن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن لبدنك عليك حقا" وإن تكاليف الإسلام كلها لا يمكن أن تؤدى كاملة صحيحة إلا بالجسم القوي ، فالصلاة والصوم والحج والزكاة لابد لها من جسم يحتمل أعباء الكسب والعمل والكفاح في طلب الرزقا ، ولأنهم تبعا لذلك يعنون بتشكيلاتهم وفرقهم الرياضية عناية تضارع وربما فاقت كثيرا من الأندية المتخصصة بالرياضة البدنية وحدها .

6- ورابطة علميه ثقافية : لأن الإسلام يجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ، ولأن أندية الإخوان هي في الواقع مدارس للتعليم والتثقيف ومعاهد لتربية الجسم والعقل والروح .

7. وشركة اقتصادية : لأن الإسلام يعني بتدبير المال وكسبه من وجهه ، وهو الذي يقول نبيه صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للرجل الصالح " ، ويقول صلى الله عليه وسلم : "من أمسى كالا من عمل يده أمسى مغفورا له " ، " إن الله يحب المؤمن المحترف ".

8 - وفكرة اجتماعية: لأنهم يعنون بأدواء المجتمع الإسلامي ، ويحاولون الوصول إلى طرق علاجها وشفاء الأمة منها .

وهكذا نرى أن شمول معنى الإسلام قد أكسب فكرتنا شمولا لكل مناحي الصلاح ، ووجه نشاط الإخوان إلى كل هذه النواحي ، وهم في الوقت الذي يتجه فيه غيرهم إلى ناحية واحدة دون غيرها يتجهون إليها جميعا ، ويعلمون أن الإسلام يطالبهم بها جميعا.

وقد تعامى الشانئون وأصحاب الدخن النفسي عن كل شئ قاله الإمام البنا في وصف شمولية دعوة الإخوان المسلمين السالف الذكر ، مما يتنافي كلية مع أعمال الصوفية الذين يقصدون - والحق يقال -إن هؤلاء المفترين الذين يعيبون الشيخ البنا هم الأقرب إلى الصوفية الفاسدة ، حيث يقصرون الإسلام على بعض الشعائر الدينية ويؤمنون ببعض الكتاب ويتعامون عن بعض ثم بعد ذلك يقولون : لقد قال في دعوته أنها حقيقة صوفية . ونحن بدورنا نسأل هؤلاء :

1- لماذا تجاهلتم أنه ذكر أولا : أنها دعوة سلفية ، ثم طريقة سنية ثانيا ، ثم لقد قال حقيقة صوفية ثالثا ؟

2 – لماذا قال نحن حقيقة صوفية ولم يقل طريقة صوفية ، والفرق كبير كما نعلم بين الحقيقة والطريقة ؟

3- هذا وقد فسر الإمام البنا ماذا يقصد بكل من قوله دعوة سلفية وطريقة سنية وحقيقة صوفية ، وهو بهذا البيان يكون أبعد كل شبهة عن دعوته ، وعن أنها تجنح إلى ما في مخيلات المتلصصين ، فيوضح ذلك في رسائله ، حيث يقول في (رسالة إلى الشباب ص 87 ، 88) :

أيها الشباب : يخطئ من يظن أن جماعة الإخوان المسلمين " جماعة دراويش " قد حصروا أنفسهم في دائرة ضيقة من العبادات الإسلامية ، كل همهم صلاة وصوم ، وذكر وتسبيح ، فالمسلمون الأولون لم يعرفوا الإسلام بهذه الصورة ، ولم يؤمنوا به على هذا النحو ؟ ولكنهم آمنوا به عقيدة وعبادة ، ووطنا وجنسية ، وخلقا ومادة ، وثقافة وقانونا ،

وسماحة وقوة ، واعتقدوه نظاما كاملا يفرض نفسه على كل مظاهر الحياة ، وينظم أمر الدنيا كما ينظم الآخرة ، اعتقدوه نظاما عمليا وروحيا معا فهو عندهم دين ودولة ، ومصحف وسيف .

وهم مع هذا لا يهملون أمر عبادتهم ، ولا يقصرون في أداء فرائضهم لربهم ، يحاولون إحسان الصلاة ، ويتلون كتاب الله ، ويذكرون الله تبارك وتعالى على النحو الذي أمر به ، وفي الحدود التي وضعها لهم ، في غير غلو ولا صرف ، فلا تنطع ولا تعمق ، وهم أعرف بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، إن المنبت لا أرضا قطع ، ولا ظهرا ابقى " ، وهم مع هذا يأخذون من دنياهم النصيب الذي لا يضر باخرتهم ، ويعلمون قول الله تبارك وتعالى: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق " (الأعراف : 32) .

وأن الإخوان ليعلمون أن خير وصف لخير جماعة هو وصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رهبان بالليل فرسان في النهار " ، وكذلك يحاولون أن يكونوا والله المستعان ).

5 – هل قرأ هؤلاء ما كتبه الإمام البنا عن تصحيح أخطاء المتصوفة في رسالة التعاليم ( الأصول : الثالث ، والرابع ، والثالث عشر ، والرابع عشر) .


رأي الإمام البنا في نشأة التصوف وما طرأ عليه

والآن أخي الكريم ، وبعد أن نقلنا لك رأي شيخ الإسلام ابن تيمية فيهم ، ورأي الإمام الشاطبي ، وأقوال علماء التصوف . فهيا نتعرف على رأي الإمام البنا في التصوف من خلال ما سجله في مذكرات الدعوة والداعية حيث يقول :

ولعل من المفيد أن أسجل في هذه المذكرات بعض خواطر (حول التصوف والطرق في تاريخ الدعوة ا لإسلامية ) تتناول نشأة التصوف وأثره ، وما صار إليه ، وكيف تكون هذه الطرق نافعة للمجتمع الإسلامي ، ولن أحاول الاستقصاء العلمي أو التعمق في المعاني الاصطلاحية ؟ فإنما هي مذكرات تكتب عفو الخاطر فتسجل ما يتردد في الذهن وما تتحرك به المشاعر، فإن تكن صوابا فمن الله ولله الحمد، وإن تكن غير ذلك فالخير آردت ولله الأمر من قبل ومن بعد :

حين اتسع عمران الدولة الإسلامية صدر القرن الأول ، وكثرت فتوحها ، وأقبلت الدنيا على المسلمين من كل مكان ، وجبيت إليهم ثمرات كل شئ ، وكان خليفتهم بعد ذلك يقول للسحابة في كبد السماء : شرقي أو غربي فحيثما وقطع قطرك جاءني خراجه . وكان طبيعيا أن يقبلوا على هذه الدنيا يتمتعون بنعيمهما ويتذوقون حلاوتها وخبراتها في اقتصاد أحيانا ، وفي إسراف أحيانا أخرى ، وكان طبيعيا أمام هذا التحول الاجتماعي ، من تقشف عصر النبوة الزاهر إلى لين الحياة ونضارتها فيما بعد ذلك ، أن يقوم من الصالحين الأتقياء العلماء الفضلاء دعاة مؤثرون يزهدون الناس في متاع هذه الحياة الزائل ، ويذكرونهم بما قد ينسونه من متاع الآخرة الباقي " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " (العنكبوت : 64)، ومن أول هؤلاء الذين عرفت عنهم هذه الدعوة الإمام الواعظ الجليل الحسن البصري ، وتبعه على ذلك كثير من أضرابه الدعاة الصالحين ، فكانت طائفة في الناس معروفة بهذه الدعوة إك ذى ر ألله واليوم الآخر ، والزهادة في الدنيا ، وتربية النفوس على طاعة الله وتقواه.

وطرأ على هذه الحقائق ما طرأ على غيرها من حقائق المعارف الإسلامية ، فأخذت صورة العلم الذي ينظم سلوك الإنسان ، ويرسم له طريقا مرت الحياة خاصا ، مراحله : الذكر والعبادة ومعرفة الله ، ونهايته الوصول إلى الجنة ومرضاة الله .

وهذا القسم من علوم التصوف ، وأسميه ( علوم التربية والسلوك ) لا شك أنه من لب الإسلام وصميمه ، ولا شك أن الصوفية قد بلغوا به مرتبة من علاج النفوس ودوائها ، والطب لها والرقي بها ، لم يبلغ إليها غيرهم من المربين ، ولا شك أنهم حملوا الناس بهذا الأسلوب على خطة عملية من حيث أداء فرائض الله ؟اجتناب نواهيه ، وصدق التوجه إليه ، وإن كان ذلك لم يخل من المبالغة في كثير من الأحيان تأثرا بروح العصور التي عاشت فيها هذه الدعوات : كالمبالغة في الصمت والجوخ السهر والعزلة . .

ولذلك كله أصل في الدين يرد إليه فالصمت أصله الإعراض عن أللغو، والجوع أصله التطوع بالصوم ، والسهر أصله قيام الليل ، والعزلة أصلها كف الأذى عن النفس ووجوب العناية بها . . ولو وقف التطبيق العملي عند هذه الحدود التي سمها الشارع لكان في ذلك كل الخير .

ولكن فكرة الدعوة الصوفية لم تقف عند حد علم السلوك والتربية، ولو وقفف عند هذا الحد لكان خيرا لها وللناس ، ولكنها جاوزت ذلك بعد العصور الأولى إلى لخليل الأذواق والمواجد ، ومزج ذلك بعلوم الفلسفة والمنطق ومواريث الأمم الماضية وأفكارها ، فخلطت بذلك الدين بما ليس منه ، وفتحت الثغرات الواسعة لكل زنديق أوملحد أو فاسد الرأي والعقيدة ليدخل من هذا الباب باسم الصوف والدعوة إلى الزهد والتقشف ، والرغبة في الحصول على هذه النتائج الروحية الباهرة . واصبح كل ما يكتب أو يقال في هذه الناحية يجب أن يكون محل نظر دقيق من الناظرين في دين الله والحريصين على صفائه ونقائه.

وجاء بعد ذلك دور التشكل العملي للفكرة فنشأت فرق الصوفية وطوائفهم ، كل على حسب أسلوبه في التربية . وتدخلت السياسة بعد ذلك لتتخذ من هذه التشكيلات تكأة عند اللزوم ، ونظمت الطوائف أحيانا على هيئة النظم العسكرية ، وأخرى على هيئة الجمعيات الخاصة . . . حتى انتهت إلى ما انتهت إليه اليوم من هذه الصورة الأثرية التي جمعت بقية ألوان هذا التاريخ الطويل ، والتي يمثلها الآن في مصر مشيخة الطرق الصوفية ورجالها وأتباعها . ولا شك في أن التصوف والطرق كانا من أكبر العوامل في نشر الإسلام في كثير من البلدان وإيصاله إلى جهات نائية ما كان ليصل إليها إلا على يد هؤلاء الدعاة ، كما حدث ويحدث في بلدان إفريقية وصحاريها ووسطها ، وفي كثير من جهات آسيا كذلك . ولا شك أن الأخذ بقواعد التصوف في ناحية التربية والسلوك له الأثر القوي في النفوس والقلوب ، ولكلام الصوفية في هذا الباب صولة ليست لكلام غيرهم من الناس . . ولكن هذا الخلط أفسد كثيرا من هذه الفوائد وقضى عليها.

ثم يوضح الإمام البنا واجب المصلحين نحوهم فيقول : ( ومن واجب المصلحين أن يطيلوا التفكير في إصلاح هذه الطوائف من الناس ، وإصلاحهم سهل ميسور ، وعندهم الاستعداد الكامل له ، ولعلهم أقرب الناس إليه لو وجهوا نحوه توجيها صحيحا ، وذلك لا يستلزم أكثر من أن يتفرغ نفر من العلماء الصالحين العاملين ، والوعاظ الصادقين المخلصين لدراسة هذه المجتمعات ، والإفادة من هذه الثروة العلمية ، وتخليصها مما علق بها ، وقيادة هذه الجماهير بعد ذلك قيادة صالحة). ثم يقول الشيخ البنا -رحمه الله -: وأتذكر أن السيد توفيق البكري -رحمه الله - فكر في ذلك ، وقد عمل دراسات علمية وعملية لشيوخ الطرق ، وألف لهم فعلا كتابا في هذا الباب ، ولكن المشروع لم يتم ولم يهتم به من بعده الشيوخ ، وأذكر من ذلك أن الشيخ عبد الله عفيفي رحمه الله كان معنيا بهذه الناحية ، وكان يطيل الحديث فيها مع شجوخ الأزهر وعلماء الدين ، ولكنه كان مجرد تفكير نظري لا أثر للتوجه إلى العمل فيه . ولو أراد الله والتصت قوة الأزهر العلمية بقوة الطرق الروحية ، وقوة الجماعات الإسلامية العملية ، لكانت أمة لا نظير لها : توجه ولا تتوجه ، وتقود ولا تنقاد ، وتؤثر في غيرها ولا يؤثر شئ فيها ، وترشد هذا المجتمع الضال إلى سواء السبيل.

هذا. . ويواصل الشيخ البنا تعريفه بالتصوف ومعناه عند أصحابه فيقول:

يراد بالتصوف : الزهد في الدنيا والالتفات إلى الآخرة ، والاجتهاد في طاعة الله تعالى. أو يراد به تطهير النفس من أدران البشرية حتى تصفو وتشرق وتكون مرآة للحقائق الربانية ، والأسرار الإلهية . أو يراد فناء العارف عما سوئ الله تعالى فلا يرى موجودا بذاته غيره أو يراد به اتباع الرسول !ؤ في أقواله وأفعاله وأحواله .

أو يراد به هذه المعاني كلها لتلازمها واتصالها وترتب بعضها على البعض الآخر . وهذا المعنى هو الذي يقصده شيوخ الصوفية المحققون رضوان الله عليهم لا يعدلون به إلى غير ذلك ، وأقوالهم في تعريف التصوف وحده تؤيد هذا القصد . قال الإمام الجنيد بن محمد : التصوف هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به . ولأن : هو أن تكون مع الله بلا علاقة . وقال أبو بكر الشبلي -رضي الله عنه - : الصوفي منقطع عن الخلق متصل بالحق . وقال بعض الشيوخ : وهو الدخول في كل خلق سني والخروج من كل خلق دني . أو هو أخلاق كريمة ظهرت في زمان كريم مع قوم كرام . وقال سهل بن عبدالله -رضي الله عنه -: الصوفي من صفا من الكدر ، وامتلأ من الفكر ، وانقطع إلى الله دون البسر، واستوى عنده المال والمدر .

وقال الشيخ أحمد بن عجيبة-رضي الله عنه -في شرحه لمنظومة المباحث في تعريف الصوفي وذكر خصائصه : الناس ثلاثة : عالم وعابد وعارف ، وكلهم قد أخذ حظا من الوراثة النبوية ، فالعالم ورث أقوال النبي صلى الله عليه وسلم علما وتعليما بشرط إخلاصه وإلا خرج من الوراثة بالكلية ، والعابد ورث أفعاله صلى الله عليه وسلم من صيام وقيام ومجاهدة ، والصوفي ورث العلم والعمل وزاد عليهما بوراثة الأخلاق التي كان عليها باطنه صلى الله عليه وسلم من زهد وورع وخوف ورجاء وصبر وحلم ومحبة ومعرفة . . إلخ .

وقد يطلق التصوف ويراد به الأذواق ما والمواجد ونتائج الكشف التي تعرض للسالكين وتلح للسائرين ، وهذا المعنى خاص بصاحبه لا يصح أن يظهره أو يكتبه أو يشير إليه ولا يصح أن يتخذ حكما شرعيا ولا حجة لحكم ولا يمكن أن تصوره العبارة أو تحده اللغة لأنه من الأذواق التي لا تتناولها مدلولات الألفاظ .

وإلى هذا الإشارة بقول بعض الشيوخ : "علمنا هذا إشارة فإذا صار عبارة فني " .

ويقول صاحب منظومة المباحث الأصلية : ووضعه في الكتب لا يجوز بل هو كنزفي النهى مكنوز إياك أن تطمع أن تحوزه من دفتر أو شعر أو أرجوزة وهذا هو المسمى بعلم المكاشفة ، وهو أمر شخصي يتعلق بصاحبه فقط ، ولا تتناوله الأحكام العامة ، فإن أظهر منه شيئا وافق الأحكام الظاهرة العامة سلم له ، وإن كان مخالفا لها أقيمت عليه حدودها .

وقد يقصد بعض الناس من لفظ التصوف معنى ثالثا عماده المذاهب الفلسفية والآراء النظرية وهو نتيجة ربط الأذواق والمواجد بهذه العلوم وخلطها بأحكامها وقواعدها ويتأدى الباحثون في التصوف بهذا المعنى إلى الوحدة والحلول وغيرهما من الآراء الفلسفية الصرفة ، والتصوف ، بهذا المعنى أمر فلسفي عقلي لا صلة له بالإسلام البتة ولم يكن على عهد السلف الصالح ولم يتكلم فيه كبار الصوفية ، وإنما هو علم أوجده اتساع العلوم واستبحار العمران ، وترجمة كتب الأهم الأخرى ، واختلاط قواعد علومها بعلوم الإسلام كما وقع في علم الكلام ، وقد يؤدي بصاحبه إلى الخروج عن عقيدة آهل الإسلام وهو يظن أنه من خاصتهم .

وقد كان النظر في التصوف بهذا المعنى سببا لبلاء كبير في المسلمين وتكأة لكل إباحي يلتمس السبيل إلى نيل شهواته تحت ستار من العقائد ، أو ملحد يريد أن يهدم الإسلام بتصيد الشبهات ، أو معطل يحاول التخلص من تكاليف الكتاب والسنة .

فعليك أن تتمسك بمدلول المعنى الأول وتعمل به فينكشف لك سر المعنى الثاني ، و أحذر أن يلتبس عليك الطريق فتكون ممن يفهمون التصوف بالمعنى الثالث ، ولممل الله دائما أن يلهمك رشدك ، فإن مزالق الطريق كثيرة ، والله حسبنا ونعم الوكيل.


التصوف والكتاب والسنة

التصوف الإسلامي بمعناه الصحيح يستمد أصوله وقواعده من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كأي علم إسلامي ، وذلك هو الذي تظاهرت عليه أقوال شيوخه وأثمته . قال الجنيد- قدس الله سره ": "علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ، فمن لم يسمع الحديث ويجالس الفقهاء ، ويأخذ أدبه عن المتأدبين أفسد من اتبعه " .

وقال سهل بن عبدالله : "بنيت أصولنا علي ستة أشياء : كغاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكف الأذى ، وأبر الحلال ، واجتناب الآثام ، والتوبة ، وأداء الحقوق " .

وقال أبو عثمان الحيري -رضي الله عنه - : "من أمر السنة على نفسه نطق بالحكمة ، ومن أمر الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة" . وقال أبو القاسم النصر أباذي -رضي الله عنه - : "أصل الغصوف ملازمة الكتاب والسنة ، وترك الأهواء والبدع " .

والأقوال في ذلك كثيرة حتى قال أبو الحسن الشاذلي - رضي الله عنه - : "إذا استند كشف الولي إلى غير الكتاب والسنة فهو كسف شيطاني لا يؤخذ عنه ولا يسلم له " . والقاعدة عندهم أن السنة هي الأصل لأن صاحبها صلوات الله وسلامه عليه

معصوم من الخطأ، وما عداها تابع لأن قائليه غير معصومين فكل كلام غيرها يعرض عليها فإن وافقها قبل وإلا رفض .


مفاهيم خاطئة عن التصوف

وقد صار الناس يطلقون كلمة صوفي ، وابن طريقة ، وولي ، ودرويش (وهي كلمة،فارسية معناها مريد أو ما يقرب من ذلك ) ، على كل من ظهرت عليه علامات التقشف ورثاثة الثياب ، وعدم العناية بنظافة الجسم ، أوكل من ظهرت عليه دلائل البله بشؤون الحياة ، أو كل من تكاسل عن أداء الفرائض الدينية وارتكب المخالفات وادعى لذلك أعذارا مجهولة كأنه يصلي في الكعبة أو أنه ينظر في اللوح المحفوظ فيرى أن المعصية مقدرة عليه فهو ينفذها لذلك ، أو أنه وصل إلى درجة رفع عنه فيها التكليف ، أو أن حقائق الأشياء تنقلب له فيصير الخمر ماء ، إلى غير ذلك من المزاعم ، وقد يستدل بعضهم بما يغب لجعل الشيوخ من قوله : فلا تلم السكران في حال سكره فقد رفع التكليف في سكرنا عنا.

وقد علمت مما سبق أن التصوف بريء من هذه المزاعم مشيد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن الصوفي لا يكون صوفيا إلا بالتمسك بهما ، والولي لا يكون وليا إلا إذا اهتدى بهديهما ، فهما عماد الوصول ومنار طريق السلوك ، ولن يصل السالك إلى شيء من نور الهداية والمعرفة إلا بصدق التوجه والعمل بهما .

وقد نقل محمد بن عجيبة المزيدي في شرحه على المباحث الأصلية عن أبي طالب المكي في لوت القلوب ما يأتي : "وأعرف في زماننا هذا علوما كثيرة من الأباطيل والغرور والدعاوى قد ظهرت وسميت علوما" .

وقال في موضع آخر نقلا عن محيي الدين بن عربي الحاتمي : "حصلت الفترة في الطريقة ، لا بل قد اندرست في الحقيقة ، مضت الشيوخ الذين كان لهم اهتداء ، وبقي الشباب الذين ليس لهم بسيرتهم اقتداء ، زال الورع ، وطوي بساطه ، وقوي الطمع ، واشتد رباطه ، وارتحلت عن القلوب حرمة الشريعة ، فعدوا قلة المبالاة أوثق ذريعة رفضوا التمييز بين الحلال والحرام ، ودانوا بترك الاحترام ، وطرح الاحتشام ، واستخفوا بأداء العبادات ، واستهانوا بالصوم والصلاة ، وركضوا في ميادين الغفلات ، وركضوا إلى اتباع الشهوات وقلة المبالاة".

وهذا معنى قول أبي مدين : واعلم بأن طريق القوم دراسة وحال من يدعيها اليوم كيف ترى هذه أقوال المحققين من الصوفية أنقلها إليك وهي قليل من كثير لتعلم كيف تعلق الناس بالأسماء وتركوا الحقائق ، وأخذوا القشور ورموا اللباب .

وما أظرف قول القائل :

ليس التصوف لبس الصوف

ترقعه ولا بكاؤك إن غنى المغنونا

ولا صياح ولا رقص ولا طرب

ولا اضطراب كأن قد صرت مجنونا

بل التصوف أن تصفو بلا كدر

وتتبع الحق والقرآن والدينا

وأن ترى خاشعا لله مكتئبا

على ذنوبك طول الدهر محزونا

وقول الآخر :

ألم يعلموا أن الطريق كناية

عن العمل الجاري على وفق شرعنا

وذبح النفوس الضاريات بمدية

من الخلف حتى لا تميل إلى الحنا

فما أشد الغفلة ، وما أعظم سلطان الألفاظ ، وما أبعد العرف عن الحقيقة ، فاعرف ذلك جيدا ، واطلب لباب الأمور لتكون من الصادقين في الطلب ، الواصلين إلى درجات القرب ، إن شاء الله.


(الشريعة، والطريقة، والحقيقة) أو علم الظاهر، وعلم الباطن

يكثر إطلاق هذه الألفاظ في علم القوم وحديثهم ، وإذا درست أقوالهم علمت أنهم يريدون المعاني آلاتية :

1 - الشريعة : هي أحكام الدين المأخوذة من الكتاب والسنة سواء تعلقت بالعقائد أو العبادة أو غيرهما .

2 - والطريقة : هي العمل بهذه الأحكام مع إدراك مراميها والأخذ بعزائهما وعدم التواني والكسل في ذلك .

3- والحقيقة : هي الأثر الذي يتركه دوام الطاعات في القلب مع صفاء الروح ، ورقة القلب ، وسرعة الفهم ، وازدياد العمل ، والمعرفة بالله تبارك وتعالى، وانكشاف حقائق بعض الأمور للعلم بالشريعة العامل بالطريقة إلى غير ذلك من الفيوضات الإلهية التي لا تنقطع في المقامات التي لا تحد بوصف كلامي . والثلاثة بهذا المعنى أمور متلازمة لا ينفصل أحدهما عن الآخر . فمن علم بالسريعة وعمل بالطريقة وصل إلى الحقيقة ، ولا وصول إلى الحقيقة إلا بالعلم والعمل ، ومن وقف مع العلم فقط فقد حرم الفهم ، وكان علمه حجة عليه . وهذه المعاني هي المقصودة عند الشيوخ بهذه الألفاظ ، وكل ما زاد عليها أو خالفها فوهم باطل ، وإليك أقوالهم في ذلك : قال صاحب شرح تائية السلوك : "الشريعة أمر العبد بالتزام العبودية ، والحقيقة مشاهدة الربوبية عند التحقق بمقام الإحسان المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه ".

والطريقة : هي سلوك طريق الشريعة مع العمل بالأحوط ، وعدم تتبع الرخص والمراد من الثلاثة إقامة العبودية على الوجه المراد من العبد" . ومن آراء الصوفية في ذلك رأي الشيخ محيي الدين بن عربي الحاتمي ، وكان من قوله فيه بعد أن ذكر خطأ الذين يعترضون على الصوفية وعلماء الظاهر : كثيرا ما يقولون : من أين أتى هؤلاء العلم لاعتقادهم أن أحدا لا ينال علما إلا على يد معلم ، وصدقوا في ذلك ، فإن القوم لما عملوا بما علموا أعطاهم الله تعالى علما من لدنه بإعلام رباني أنزله في قلوبهم مطابقا لما جاءت به الشريعة لا يخرج عنها ذرة، قال تعالى : خلق الإنسان علمه البيان " (الرحمن : 3، 4) "علم الإنسان ما لم يعلم " (العلق : ه ) . وقال في عبده الخضر : " وعلماه من لدنا علما " (الكهف : 65)، فصدق المنكرون فيما قالوا : إن العلم لا يكون إلا بمعلم ، وأخطأوا في اعتقادهم أن الله تعالى لا يعلم من ليس بنبي ولا رسول قال تعالى: " يؤتي الحكمة من يشاء "، والحكمة هي العلم ، وجاء بمن وير نكرة، ولكن هؤلاء المنكرين لما تركوا الزهد في الدنيا وأثروها على الآخرة وعلى ما يقرب إلى الله تعالى وتعودوا أخذ العلم من الكتب ومن أفواه الرجال حجبهم ذلك عن أن يعلموا أن لله تعالى عبادا تولى تعليمهم في سرائرهم إذ هو المعلم الحقيقي للوجود كله ، ثم ختم كلامه بقوله : وأين تكذيب هؤلاء المنكرين لأهل الله تعالى في دعواهم العلم من قول علي بن أبي طالب "كرم الله وجهه-:

"لو تكلمت لكم في تفسير الفاتحة لحملت لكم منها سبعين وقرأ" فهل كان إلا من العلم اللدني الذي أتاه الله تعالى له من طريق الإلهام ، إذ الفكر لا يصل إلى ذلك ؟" انتهى كلامه في الفتوحات وقد أكد المعنى في رسالته إلى الشيخ فخر الدين الرازي .


رأي الشيخ الشعرانى في حقيقة العلم الباطن وانكاره إطلاق هذا الاسم عليه :

قال الشيخ الشعراني في كتابه "الدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة" وكرر هذا المعنى مرارا في كتابه "اليواقيت والجواهر" وأما زبده علم التصوف النقي وضع القوم فجه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة ، فمن عمل بما علم تكلم بما تكلموا به وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده لأنه كلما ترقن العبد في باب الأدب مع الله تعالى ومعه كلامه على الإفهام حتى قال بعضهم لشيخه : إن كلام أخي فلان يدق علي فهمه ، فقال : لأن لك قمصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك ، وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بالعلم الباطن ولير ذلك بباطن ، إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى، وأما جميع ما علمه الخلو على اختلاف طبقاتهم فهو من العلم الظاهر لأنه ظهر للخلق فاعلم ذلك " .

وقال في اليواقيت والجواهر، ونقله عن الشيخ حيي الدين : قال قالت فإن سلمنا للأولياء ما جاءوا به فما حكمه إذا خالف ما جاءت به الرسل ؟ ، فالجواب : حكمه الرد، فإن الولي إذا أتى في كشفه بما يخالف ما كتشف للرسل وجب عه لينا الرجوع إلى كشف الرسل وعلمنا أن ذلك الولي قد طرز عليه في كثسفه خلل إلى آخر ما قال " ، وله في ذلك مؤلف سماه "حد الحسام في عنق من أطلق إيجاب العلم بالإلهام " .

وقد نقل في كتابه المسمى ب "الجواهر والدرر" عن الشيخ محيي الدين ما نصه : "اعلم أنا لا نعني بمدلك الإلهام حيث أطلقناه إلا الدقائق الممتدة من الأرواح المالكية لا نفس الملائكة ، فإن الملك لا ينزل بوحي على غير قلب نبي أصيلا ، ولا يأمر بأمر إلهي جملة واحدة ، فإن الشريعة قد استقرت ، وتعين الفرض والواجب وغيرهما ، فانقطع الأمر الإلهي بانقطاع النبوة والرسالة ، ليس هناك من تقي يأمره الله تعالى بأمر يكون شرعا سحستقلا يتعبد به أبدا" ، وقد أفاض في هذا المعنى كثيرا .

4 قال الشيخ زروق - رضي الله عنه - في كتابه "قواعد التصوف " في القاعدة الخامسة والعشرين : (لا علم إلا بالتعلم عن الشارع أو من ناب مغابه فيما أتى به ، إذ قال عليه السلام : "إن العلم بالتعلم ، وإنما الحلم بالتحلم ، ومن طلب الخير يؤته ومن يتق الشر يوقه " ، وما تفيده التقوى إنما هو فهم يوافق الأصل ويشرح الصدور ، ويوسع العقول ثم هو تقسم لما يدخل تحت دائرة العبارة ، وإن كان مما تتناوله الإشارة ومنه ما لا تفهمه الضمائر ، وإن أشارت إليه الحقائق مع وضوحه عند مشاهده وتحقيقه عند متلقية وبالله التوفيق ) .

وقال في القاعدة السادسة والعشرين : (حكم الفقه عام في العموم ، لأن مقصده إقامة رسم الدين ورفع منارة ، وإظهار كلما ، وحكم التصوف خاص في الخصوم لأنه معاملة بين العبد وربه من غير زائد على ذلك ت فمن ثم صح إنكار الفقهية على الصوفي ولا يصح إنكار الصوفي على الفقيه ولزم الرجوع من التصوف إلف ألفقه والاكتفاء به دونه ولم يكف التصوف عن الفف بل لا يصح دونه ولا يجوز الرجوع منه إليه إلا به ، وإن كان أعلى منه مرتبة فهو أسلم وأعم منه مصلحه ، ولذلك قيل كن فقيها صوفيا ولا تكون صوفيا فقيها ، وصوفي الفقهاء أكمل من فقيه الصوفية وأسلم ، لأن صوفي الفقهاء قد تحقق بالتصوف حالا وعلما وذوقا بخلاف فقيه الصوفية فإنه المتمكن من عمله وحاله ولا يعم له ذلك إلا بفقه صحيح ، وذوق صريح ، ولا يصح أحدهما دون الآخر، كالطب الذي لا يكفي علمه عن التجربة ولا العكس فافهم ) .

وقال في القاعدة الحادية والستين : (إنما يؤخذ علم كل شيء من أربابه فلا يعتمد صوفي في الفقه ، إلا أن يعرف قيامه عليه ، ولا فقيه في التصوف إلا أن يعرف تحقيقه له ولا محدث فيهما ، إلا أن يعلم قيامه بهما، فلزم طلب الفقه من قبل الفقهاء لمريد التصوف وإنما يرجع لأهل الطريقة فيما يخض بصلاح باطنه من ذلك ومن غيره ، ولذلك كان الشيخ آبو محمد المرجاني - رضي الله عنه - يأمر أصحابه بالرجوع إلى الفقهاء في مسائل الفقه وإن كان عارفا به فافهم ) .

وقال في القاعدة السابعة والسبعين : ( أصل كل أصل من علوم الدنيا والآخرة مأخوذ من الكتاب والسنة ومدحا للممدوح ، وذما للمذموم ، ووصفا للمأمور به ، ثم للناس في أخذها ثلاثة مسالك : أولها قوم تعلقوا بالظاهر مع قطع النظر عن المعنى جملة وهؤلاء أهل الجحود من الظاهرية لا عبرة بهم ، والثاني : قوم نظروا لنفس المعنى جمعا بين الحقائق فتأولوا ما يؤول وعدلوا ما يعدل وهؤلاء أهل التحقيق من أصحاب المعاني والفقهاء ، والثالث : قوم أثبتوا المعاني وحققوا المباني ، وأخذوا الإشارة من ظاهر اللفظ وباطن المعنى ، وهم الصوفية المحققون ، والأئمة المدققون ، لا الباطنية الذين حملوا الكل على الإشارة فهم لم يتبنوا لمعنى ولا عبارة فخرجوا عن الملة ، ورفضوا الدين كله ، نسأل الله العافية بمنه ) .

وقال في القاعدة الرابعة والتسعين : (تحديد ما لم يرد في الشرع تحديده ابتداع في الدين لاسيما إن عارض أصلا شرعيا كصيام يومه لفوات إرد ليلته الذي لم يجعل له الشارع كفارة إللا الإتيان به قبل صلاة الصبح أو زوال اليوم وكذا قراءة الفاتحة قبل الصلاة وتوفيه ورد الصلاة ونحوه ما لم يرد من الشارع نص فيه لا ما ورد فيه نص أو إشارة كصلاة الرواتب وأذكار مما بعد الصلاة وقراءة القرآن ، وصيام النفل ، ونحوه ، فافهم ).

نماذج من أقوال الشيوخ .. رضوان الله عليهم:

أ-قال الشيخ عبد القادر الجيلاني - قدس الله سره : " جميع الأولياء لا يستمدون إلا من كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا يعملون إلا بأظهرها" .

ب -وقال الجنيد بن محمد-قدس الله سره - : الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفئ أثر الرسول موسى صلى الله عليه وسلم"

ج- وقال السري السقطي -رضي الله عنه - : "من ادعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم فهو غالط .

د- وقال أبو الحسن النوري : "من رأيته يدعي مع الله تعالى حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقر به ومن رأيته يدعي مع الله حالة لا يشهد لها حفظ ظاهر فاتهمه على دينه " .

هـ –وقال أبو سعيد الخراز : "كل فيض باطن يخالفه ظاهر فهو باطن ".

و – وفي التحفة لابن حجر : قال الغزالي : "من زعم أن له مع الله تعالى حالا أسقط عنه نحو الصلاة أو تحريم شرب الخمر وجب قتله " .

قصة الخضر وموسى عليهما السلام . . ورأي الألوسى فيها :

قصة الخضر وموسى عليهما السلام لا يؤخذ منهما الخلاف بين العلمين لأنه يقال : إن ما فعله الخضر شريعة خاصة ، وإلى هذا أشار العلامة السبكي في بعض أقواله ، ولعل هذا هو المقصود بقول الله تعالى حكاية عن الخضر : وما فعلته عن أمري " (الكهف : 82) .

وعلى ذلك فليس ثم خلاف بينه وبين موسى عليه السلام ، لأن موسى يعمل بشريعته ، والخضر يعمل بشريعته التي أوحيت إليه ، وذلك أوضح على القول بنبوة الخضر ، وهو الراجح ، وعلى القول بولايته فلا دليل فيها على المخالفة أيضا ، لأن الخضر عليه السلام عمل عملا يوافق شريعة موسى بحيث لو كان موسى علم الحكمة كما علمها الخضر لعمل ما عمله الخضر، فكأن الفرق بينهما في العلم بالحكمة فقط ، وقد يقال : إن ذلك يدل على أن الخضر وهو ولي علم ما لم يعلمه موسى وهو نبي ، ونقول على فرض صحة ذلك فإنه لا يقدح في منزلة موسى عليه السلام ، لأن الله أراد أن يريه بذلك أن العلم لا يقف عند حد، فكان الأولى أن يجيب السائل جوابا غير الذي أجابه به حين سأله : هل تعلم أحدا أعلم منك الحديث ؟ ونقول أيضا : ليس معنى أن الخضر يعلم هذه المسائل أنه أعلم من موسى، بل لو قارنا بين علم موسى في جملته وعلم الخضر في جملته لكان علم موسى أوسع ، وفوق كل ذي علما عليم.

وعلى كل حال فالدليل متى تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال ، وفيما ذكرناه في القصة الكفاية ، وهو الذي يفهم من تقرير العلامة الألوسي على القصة في نهاية تفسيرها .

تلخيص أقوال الشيوخ . رضوان الله عليهم . في ذلك وبيان ما تطمئن إليه النفس فيه :

قد رأيت أقوال أئمة التصوف - رضوان الله عليهم - في هذا البحث والذي تطمئن إليه النفس ويهدي إليه الدليل مع تظاهر أقوال المنصفين عليه ما يأتي :

أولا: أن علم الباطن ومعناه نور وقوة وإدراك وفهم يغدقها الله تبارك وتعالى في نفوس المتقين من عباده جزاء عملهم بما علموه من أحكام دينه ، وامتثالهم أمره ونهيه ، وأن ثمرته انكشاف حقائق السريعة لهم .

ثانيا: أن هذا العلم بهذا المعنى ثابت والدليل عليه ما ذكروه من الآيات والأحاديث ، وقد يقال . إن بعضها ضعيف أو في ثبوته شك ، وما ثبت صحته يحتمل التأويل وذلك صحيح ، ولكن كثرتها وتتابعها يجعلها يقوي بعضها بعضا على أن الأمر أيسر من أن يحتاج الإنسان إلى الاستدلال عليه ، فيها نحن نرى لفاوت الناس في الفهم والذكاء ، ونرئ تدرجهم في استكشاف أسرار الكون وتعرف كنه الوجود ، بل يشعر أحدنا من نفسه في بعض الأحوال بصفاء الذهن ، وقوة الخاطر ، فيجيد القول ويجيد الكتابة وهكذا ، ولاسيما في الأوقات التي يكثر فيها من طاعة الله وذكره ، وفي بعض الأوقات يرئ عكس ذلك تماما فليس في الأمر إشكال أبدا .

ثالثا: أن هذا العلم وما ينكشف به من الحقائق لا ينافي حقائق الشريعة ولا الظاهر منها أبدا ، بل يكون مؤكدا لها ومبينا لأسرارها ، وقد رأيت تظاهر أقوال الشيوخ على ذلك ، وهذا هو أهم س ا في الباب ، ومن ذلك تعلم اتفاق كلمة الفقهاء والصوفية على أن أساس الدين وأصله واحد هو الكتاب والسنة ، وأن الخلاف في الفروع يجب أن يسلم كل إنسان فيه للآخر برأيه مادام له دليل وما دام هذا الرأي لا يناقض المعلوم من كغاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم .

رابعها : أن هذا العلم وما ينك!ف به من الحقائق لا يؤخذ به كدليل في التشريع بل إن وافق الشرع ، فالدليل هو دليل الشرع وإن خالفه رد على صاحبه وكان خاصا به ، وقد رأيت اتفاق الشيوخ على ذلك .

خامسا: بعد هذا البيان يظهر لك مغالطة الباطنية في استغلالهم كلمة علم الباطن في قلب حقائقها فلا تنخدع بأقوالهم بعدما علمت أنه لجس ثم إلا الكتاب والسنة . سادسا 4 وإذا عرفت يا أخي أن لله مواهب وأسرارا يفيضها على قلب المتقين من عباده فعليك بمجاهدة نفسك وطاعة ربك ، والإقبال على ذكره والعمل بما علمت من شريعته حتى تتفجر ينابيع الحكمة من قلبك ، ويرزقك الله علم ما لم تكن تعلم ، والله ولي توفيقنا وتوفيقك إلى ما يحبه ويرضاه .

أرأيت بعد هذا يا أخي لتجلية حقيقة التصوف ، لقد تكلم الإمام البنا في التصوف كلام العلماء الباحثين ، وأبان اسق في المسألة من الباطل ، ووضح الطريق للمسلمين في قضية عجز بعضهم عن فهمها وبيان الحق فيها.

تحرير تاريخ هذا الخلاف . . وييان آثاره :

هذا وقد تحدث الإمام البنا "رحمه الله - حول منشأ هذا الخلاف ، وما صار إليه ، وما ينبغي أن يكون عليه المجتمع المسلم فقال . لقد أتى على المسلمين حين من الدهر في عصر الانتقال الأول حين نقلتهم حوادث السياسة والاجتماع من دور الجهاد العملي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة الراشدين المهديين من بعده ، حيث كان هم المسلم إذ ذاك أن يؤدي فريضة ربه ، ويراقب دخيلة نفسه ، ويقيم من نفسه حارسا يحاسبه على كل عمله ، ثم يمضي في البلاد مجاهدا في سجل الله يعرض روحه على الموت في اليوم ألف مرة فلا يظفر إلا بم الحياة العزيزة ، وينشر لواء الله في العالمين حتى يدركه الأجل فيودع الدنيا شهيدا سعيدا ، حين انتقل المسلمون من هذا الدور إلى دور الاستمتاع بمظاهر دنياهم الجديدة والإقبال على تنظيم ملكهم الواسع ، والاستفادة من ثمار هذه الحضارات والمدنيات التي اتصلوا بها ، ودخلت عليهم آثارها من كل مكان : عمرانية ، واجتماعية ، وثقافية ، وعلمية ، فترجموا العلوم الأجنبية ، وتوسعوا في البحث فيها ، ومزجوا كثيرا منها بتعاليم الدين السمحة السهلة ، فسلكوا بدينهم مسلكا فلسفيا قياسيا ، وقد جاءهم فطريا ربانيا نبويا فوق العلوم والفلسفات يخاطب الفطرة من غير وساطة ، ويجذب القلوب بما فيه من جمال وروحانية وصدق توجيه في هذا الدور ، وفي وسط هذه المعمعة انقسم علماء الإسلام إلى معسكرين : معسكر يدعو إلى تطبيق نظريات الدين على نظريات الفلسفة والمزج بينهما ، وبذلك يصطبغ الدين بآراء الفلاسفة فيذهب عنه جلال النبوة وروعة الوحي ، وسماحة الفطرة . وتتقيد الفلسفة بقداسة الدين وجلال العقيدة ، فتنزل بذلك عن أخص خصائصها ، وانما الفلسفة تفكير دائم متواصل ، فيه الخطأ وفيه الصواب ، وفيه الشك وفيه اليقين ، والخطأ فيها سلم للإصابة والشك عندها باعث من بواعث . الإيمان ، وهذا المعسكر أطلق على نفسه أو أطلق الناس عليه ألقابا كثيرة ، فهم أهل الرأي وهم أهل القياس ، وهم النظار ، وهم المتكلمون على تفاوت بينهم في هذه الألقاب وفي مدى تطبيق هذه الآراء ، ومعسكر يدعو إلى أن يظل الدين بعيدا عن كل هذا ، ويؤخذ من منابعه الأولى كتاب الله وسنة رسوله ، ويرجع في بيانه وتفصيله إلى الطريقة التي فهمه عليها السلف الصالح - رضوان الله عليهم - وليتناول العقل بعد ذلك ما شاء من البحوث ، ولتجر الفلسفة على أي غرار شاءت ، و ليخطى العلماء الكونيون أو يصيبوا ولكن في ثوب نظري بحت ، قياسي بحت لا يتناول عقائد الناس ولا يمس عبادتهم ، ولا يقرب الحقائق الدينية المقررة المكفولة بتسليم العقل بأحقيتها وصدقها ؟ وقد أطلق هذا المعسكر على نفسه أو أطلق الناس عليه أهل الحديث أو السلفيون أو أهل السنة ، أو أهل الأثر على تفاوت كذلك في هذه الألقاب وفي مدى الأخذ بهذه الفكرة ، ولاشك أن الحق مع هؤلاء ، ولاشك أن المسلمين لو سلكوا هذا السبيل ولم يشتغلوا بهذا الجدل ، ولم يصبغوا فطرة دينهم بهذه الصبغة ودرجوا على ما كان عليه النبي وأصحابه لكان أمم في ذلك الخير كل الخير ، ولنجوا من انقسامات وفتن كانت من أهم الأسباب لزوال عظمتهم وتوزيع ملكهم ومجدهم ، ولاشك أن كل عاقل يهمه أن يعود للإسلام مجده وعظمته الآن يدعو المصلين إلى الأخذ بهذا الرأي وهو ما نعمل عليه وندعو إليه ونسأل الله المعونة فيه وفتح مغاليق القلوب لفهمه وفقهه .

كان الأخذ والرد والجذب والشد قويا عنيفا بين الفريقين منذ نجم قرن هذا الخلاف:

وأنت خبير بأن خلافا كهذا في صدر الإسلام أو قريبا منه ، ولما يمض على المسلمين بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم أكثر من قرن من الزمان وهو يتصل بالعقيدة وهي أغلى ما يدافع عنه الإنسان لابد أن يصحبه من مظاهر العنف الشيء الكثير وذلك ما كان ، فقد تنابز الفريقان بالألقاب واشتد بينهما التخاصم حتى وصل إلى التكفير والزندقة ، ورمى بعضهم بعضا بأعظم ما يتصور من التهم ، واستخدمت في ذلك الألفاظ المثيرة .

فأهل الرأي والنظر- جهمية معطلة مؤولون حشوية زنادقة - لا يعرفون لهم ربا ، ولا يثبتون له صفة ، وأهل الحديث والأثر مشبهون مجسمون جامدون متعصبون لا ينزهون الله ولا يقدرون عظمته قدرها ويضعونه في صف خلقه ، وألقيت إلى جانب ذلك عبارات شديدة ، وألفت كتب ، وانتصر كل فريق لرأيه ، وبدت الحدة في كل ما قيل وما ألف ، لأن تلك طبيعة الموقف ومقتضيات الخلاف . كان ذلك في هذا الدور الذي ذكرت لك ثم نقلت إلينا نحن ألان بعض هذه الآثار والحال غير الحال ، والموقف غير الموقف ، والفرق غير الفرق .

ليس فينا أهل رأي وأهل حديث - وأنا أعلم أن هذا الحكم قد يكون محل خلاف بيني وبين بعض القارئين -فها هم يرون فريقين ينتصر كل منهما لفريق فما معنى هذا النفي ؟

ولكني أؤكد لحضرات القراء أن طبيعة هذا العصر غير طبيعة العصر الذي شجر فيه الخلاف بين المسلمين ، وأن المشاكل والأفكار التي تشغلنا الان غير تلك المشاكل والأفكار ، وأن الخلاف في هذه المسائل محصور في نطاق لا يكاد يذكر في بعض المجالس وفي جدران بعض الهيئات ، حتى الأزهر نفسه وتلك مهمته مشغول عن هذا الخلاف . الأمة الآن معسكرات مختلفة لكل معسكر فكرته التي يدعو إليها وينادي بها فهناك المعسكر الذي يدعو إلى الاندفاع وراء تلك الأفكار والمظاهر الغربية في كل شيء ، وهناك المعسكر الذي يثير المعنى القومي وحده في النفوس ويريد أن يجعله أساسا للنهوض ، وهناك المعسكر الذي يأخذ بأعناق الناس وجهودهم إلى المسائل السياسية البحتة التي يراد بها استقرار الحكم في الداخل ، وحفظ الكرامة في الخارج ولا يعنيه إلا هذا ، وهناك معسكرات غير هذه ، ومن وراء ذلك كله معسكر محمدي قرآني يهيب بكل هؤلاء أن الإسلام يكفل لكم السعادة والقوة كل ما تريدون فهلموا إليه .

أريد أن أصل من هذا الاستطراد إلى نتيجتين : الأولى ، أننا ليس بيننا في حقيقة الأمر خلاف كالذي كان بين الفلاسفة والسلفيين في القديم ، فلا معنى لإحياء هذا الخلاف من جديد، ولا معنى للاحتجاج كذلك بما قال هؤلاء وأولئك وأولى لنا جميعا أن نترك ذلك الدور بما كتب فيه ، وما كان من أهله في ذمة التاريخ ، ونرجع جميعا في ديننا إلى المعين الأصلي الذي مازال وسيظل صافيا نقيا لا تكدره الحوادث ، ولا ينال منه الزمن ولا يزعزعه الخلاف ، ذلك هو كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة صلى الله عليه وسلم .

والثانية : أن ننصرف في صف مؤمن قوي موحد إلى معالجة مشاكل عصرنا ودعوة الناس إلى محاسن هذا الدين وجلاله وتقوية معسكرنا معشر المنادين بالإسلام فوق كل المعسكرات حتى يكون له النفوذ الفكري والعملي ، فيعود للإسلام ما كان له من هيمنة على الأرواح والأعمال . وبعد . . فذلك رأي أيها السائل في موضع الخلاف .

2 - أما هل يجوز للفريقين أن يتقاذفا بهذه التهم على صفحات الجرائد السيارة ، وأن تذاع هذه البحوث على العامة؟ فذلك ما لا أقرهما عليه ولا أوافقهما فيه ، وفي لين القول وحسن الخطاب مندوحة ، وهذه بحوث دقيقة أولى بها أن تكون بين أهل العلم في حلقهم الخاصة ومجالسهم المحصورة ، وأذكر الفريقين بما رواه البخاري في صحيحه عن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه -: "حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ " .

وما رواه مسلم عن ابن مسعود-رضي الله عنه – قال : "ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" ، فإن كان ولابد من الكلام في هذه المباحث فليكن ذلك في قول لين ، وفي بحث هادئ ، حتى لا تسري عدوى الخلاف والتهاتر من الخاصة إلى العوام ، وفي ذلك فساد كبير كما هو مشاهد في البلاد التي تشتد فيها العصبية لبعض الآراء ، أقول هذا وأنا أعلم ما سيقال حول هذا الكلام من أن العقيدة أساس كل إصلاح ، وأن دين الله تبارك وتعالى جلي واضح لا خفاء فيه ، ولا يليق أن يكتم فيه شيء عن جميع الناس ، وبأن هذه خصومة في الحق وهي جائزة، وهذا هو الغضب لله وهو فضيلة ، وهذا هو الدفاع عن دينه وهو واجب ، وهذا هو الجهاد بالقول والقلم والقعود عنه إثم ، فكيف يراد منا بعد ذلك أن نصرف إلى إصلاح جزئي والعقيدة فاسدة ، وكيف يراد منا أن نجعل هذا الكلام خاصا ودين الله عام للناس جميعا؟ وأحب أن أقول لمن يدور بفكره أو على لسانه وقلبه مثل هذا القول : احترس أيها الأخ من خداع الألفاظ ومزالق الأسماء ، فالعقيدة شيء والخلاف في بعض المسائل التي لا يمكن لإنسان أن يعرف حقيقتها شيء آخر، وأحكام الدين التي هي عامة للناس جميعا شيء ، والأسلوب الذي تؤدي به وتقدم للناس شيء غيرها ، والخصومة والغضب للدين شيء ، وخلق هذه الخصومة وإثارة الفتنة بها شيء آخر، أفلا يكون هذا من الجدل المنهي عنه ، ومن المراء الذي أغضب رسول الله أشد الغضب على المتمارين حتى جعله يقول :

أ - "ما ضل قوم بعد هدئ كانوا عليه إلا أوتوا الجدل " ، ثم قرأ : " ما ضربوه لك إلا جدلا " (الزخرف : 58).

ب -ويقول صلى الله عليه وسلم : "من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة، ومن تركه وهو محق بني له في وسطها ، ومن حسن خلقه بني له في أعلاها".

ج—وروي الطبراني في الكبير عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه - قال : كنا جلوسا عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم نتذاكر ينزع هذا بآية وينزع هذا بآية ، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان ، فقال : "ما هؤلاء ، بهذا بعثتم أم بهذا أمرتم ، لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ".

د - وعن أبي الدرداء ، وواثلة بن الأسقع ، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم - قالوا : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين ، فغضب غضبا شديدا لم يغضب مثله ثم انتهرنا ، فقال : "مهلا يا أمة محمد إنما هلك من كان قبلكم بهذا ، ذروا المراء لقلة خيره ، ذروا المراء فإن المؤمن لا يماري ، ذروا المراء فإن المماري قد تمت خسارته ، ذروا المراء فكفئ إثما ألا تزال مماريا ، ذروا المراء فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة ، ذروا المراء فأنا زعيم بثلاثة أبيات في الجنة في رياضها ووسطها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق ، ذروا المراء فإن أول ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأوثان المراء ".

وقد يقال : إن المراء شيء وما نحن فيه شيء اخر، فأقول : إن لم يكنه فهو نوع منه ، ومن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه ، واتقاء الشبهات استبراء للدين والورع أن تدع ما لا بأس به مخافة الوقوع فيما فيه بأس ، فهل بعد ذلك مذهب لذاهب أيها الإخوان ؟

3 –وأما العمل على التوفيق بين الفريقين فنعما هو ، وما أحبه إلى النفس ، وما أعظم فائدته ، وإنا لمحاولون ذلك إن شاء الله ، وأعتقد أن كثيرا من المختلفين لو التقى بعضهم ببعض وتركوا طريقة التحاور الكتابي إلى طريقة التفاهم الشفهي لأنتج هذا التعارف خيرا كثيرا ، ولأدى إلى حل كثير من الخلافات في هدوء ، وفي توفير الوقت والمجهود ، وحينئذ يستطيع كل رئيس جماعة أن يتقدم إلى جماعته برأي موحد أو بفكرة عامة ، فيؤدي ذلك إلى الوحدة المنشودة إن شاء الله ، وسنترقب الفرصة المناسبة لمثل هذا الإجماع فنعمل على تحقيقه إن شاء الله والله حسبنا ونعم الوكيل .


هل اختلف رأي الإمام البنا عن رأي الإمام ابن تيمية في التصوف ؟

وبعد .. هل اختلف رأي الإمام البنا عن رأي الإمام ابن تيمية في التصوف ؟ وهل هم محقون في وصفهم للإمام البنا بالمتصوف المنحرف ؟

وبعد . . فلعلنا بعد هذه السياحة في أقوال الأئمة الأعلام عن التصوف ، وفي أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية ، والإمام الشاطبي ، والشيخ البنا – رضوان الله عليهم – يتضح لنا بالأدلة الجلية سفه وجهل الخائضين في الأمور بغير علم والذين يخبطون خبط عشواء فيما لا يدركون أو يفهمون أو يعقلون ، ولعل المطلع على قول الإمام ابن تيمية في حديثه عن الصوفية ، والتصوف حيث يقول : إنهم مجتهدون في طاعة الله ، كما اجهد غيرهم من أهل الطاعات ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده ؟ وفيهم المجتهد الذي هو من أهل اليمين ، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطىء، وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب ، ومنهم المنتسب إليهم وهو ظالم لنفسه عاص لربه. وهذا شأن الناس والبشر "وكل بني آدم خطاء ، وخير الخطائين التوابون " ، والأعمال هي المقياس ، والكتاب والسنة هما الحكم على تلك الأعمال ، ولا شك في أن من التزم بالكتاب والسنة ، وراقب الله ، والتزم بالأحكام الإسلامية ، وحقائق الدين فهذا شئ لا غبار عليه ، بل مأمور به وممدوح .

وقد بين الإمام ابن تيمية : أن أصل التصوف وحقيقته لا غبار عليه ، فإن أصله الزهد والعبادة ، وتزكية النفس والصدق والإخلاص ، فقال - رحمه الله - :

" التصوف عندهم له حقائق وأحوال ، وقد تكلموا في حدوده وسيرته وأخلاقه ، كقول بعضهم : الصوفي من صفا من الكدر، وامتلأ من الفكر واستوى عنده الذهب والحجر " . . التصوف : كتمان المعاني ، وترك الدعاوى ، وأشباه ذلك ، وهم يسيرون بالصوفي إلى معنى الصديق. . . ثم يقول الإمام ابن تيمية رضي الله عنه : ( قد انتسب إلى الصوفية طائفة من أهل البدع والزندقة ، ولكن عند المحققين من أهل التصوف ليسوا منهم ، كالحلاج مثلا : فإن أكبر مشايخ الطريق أنكروه ، وأخرجوه عن الطريق مثل الجنيد . . الخ ) .

هذا هو رأي ابن تيمية ، ورأى الشاطبي الذي قدمناه ، ورأي العلماء الإثبات ، ولكن بعض الذين يحبون إطلاق كلمة الشرك والبدع ، لا يقولون بما قال به العلماء ، ولا يرتضونه ، ولمجحبون كلمة الشرك على كل المتصوفة علمائهم وفقهائهم وعبادهم ، وأهل الخير منهم ، وهذا من الجهل واتباع الهوى ، ويريدون بهذا أن يلوثوا سمعة كل رجل عابد أو متبتل قوام صوام ، ما دام لا يتبع ما هم عليه من جهالة وخلط ، ولقد عددت ما تفوه به أحدهم في كتابه من ألفاظ الشرك ، والابتداع التي صار يطلقها على المسلمين فوجدتها تربو على الخمسمائة في صفحات قليلة ، فقلت سبحان الله ، من يرد هؤلاء إلى عقولهم ودينهم ، قبل أن يتسع الخرق على الواقع وتنحرف الزاوية ، ويزداد المسلمون فرقة وقطيعة بسبب هؤلاء الهواة الجدد، ومن أجل هذا جاء الوعيد الشديد على هؤلاء ، والتكبير الكبير على هذا التصرف .

روى البخاري عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يرمي رجل رجلا بالفسق أو الكفر إلا ارتد عليه إن لم يكن صاحبه كذلك ". وعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما -أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من قال لأخيه : يا كافر، فقد باءيها أحدهما". وفي رواية : "إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما" . وفي أخرى : " أيما أمرى ، قال لأخيه : يا كافر فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال وإلا رجعت عليه ".

وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الأموات ، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا " .

وفي رواية أبي داود ، قال : " إذا مات صاحبكم فدعوه ولا تقعوا فيه ".

فهؤلاء الذين لا يتورعون عن سب الإمام البنا رغم استشهاده في سبيل الإسلام ورفعة رايته ، ويتذرعون بالافتراءات ؟ وبنسبته إلى التصوف والبدع ، مع أن الرجل كان عالما عاملا يعرف ما يفعل وما يقول . . ألا يتقون الله ؟ وقد بينا قوله وفعله في الصوفية والتصوف ، وكان لا يخرج عن أقوال العلماء الإثبات وأفعالهم ، بل كان الرجل من أشد المحاربين للبدع والخرافات ، وكان جهاده ودأبه في إيقاظ الأمة لحمل رسالتها ، ولفتها إلى الإسلام الكامل التام المحيط ، نظاما راسخا شاملا ، يتناول مظاهر الحياة جميعها ، باعتباره دولة ووطن ، أو حكومة وأمة ، وخلق وقوة ، أو رحمة وعدالة ، وهو ثقافة وقانون ، أو علم وقضاء ، وهو مادة وثروة ، أو كسب وغنى ، وهو جهاد ودعوة، أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة، وعبادة صحيحة سواء بسواء. كل ذلك شاهد صدق وعدل على أن الرجل - رضوان الله عليه -كان علما من أعلام الإسلام ، ومجاهدا فذا في سبيل دعوة ربه ، وقد فعل في العصر الحديث فعل السحر في الأمة ، واستيقظ على ندائه وتتلمذت على هديه وعلمه جموع المسلمين ، وهذا ما ألب عليه أعداء الإسلام والمسلمين ، من مستعمرين ومارقين وزنادقة ، وهذا ما أقام الدنيا ولم يقعدها على حركات التحرر الإسلامية التي انتفضت هنا وهناك تنادي بالإسلام وتطارد المحتلين والغاصبين وأذنابهم ، وتصرع المستعبدين والمستبدين وأشياعهم ، الذين انطلقوا يلوثون دعوة الإخوان المسلمين ، ويعتبرونها الخطر الأول عليهم ، وأنها هي التي قرعت طبول الجهاد العلمي والنفسي والحربي ضد الطغاة ، واستماتوا في حرب الدعوة الطاهرة ، وأنفقوا الأموال وكل مرتخص وغال في سبيل وقف مدها ، وإطفاء ضوئها ، ولكن هيهات هيهات ، لأن هذا ليس جهد الإخوان أو عمل البشر فقط ، وإنما هو نور الإسلام ، وعناية الله ، وصدق الله : " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون (الصف : 8) .

ومن عجيب أن نرى من قومنا ومن الذين يدعون أنهم يعملون في الحقل الإسلامي عونا لهؤلاء على الإثم والعدوان ، بجرأة غريبة ، واندفاع أعمى ، وتلصص مذهل ، وكم عجبت من تسولهم العجيب ، وإصرارهم المقيت ، على تلويث سمعة الأستاذ الشهيد بإذن الله حسن البنا - رضي الله عنه وأرضاه - ، حتى أنهم يعمدون إلى تلويث سمعة رواد الإصلاح في العصر الحديث ليتوصلوا إلى ذم الشيخ البنا ، فمثلا يعمدون إلى ما قاله أعداء جمال الدين الأفغاني فيذيعوه ليهدموه ، ثم إلى الإمام محمد عبده - رضي الله عنه - فيتهموه ، ثم إلى الأستاذ رشيد رضا لينتقصوه ، ثم إلى كل من دعا بدعوة إصلاح أو وطنية أو ثار على حاكم ظالم أو فاسد ، ليشككوا فيهم ، وينسبون إليهم العمالة والماسونية ، ويتهمونهم بأنهم رافضة ، وزنادقة ، ويهود ، ومخربين ، وعلمانيين ، و . . و . . و . . . إلخ ، كل ذلك ليتوصلوا إلى هدم الشيخ البنا ، لأنه دعا بالإسلام الشامل الكامل الذي يجمع بين خيري الدنيا والآخرة ، وهم في جهلهم وعملياتهم يتخبطون .

فقلت : سبحان الله ، من بقى من قادة الإصلاح بدون هدم أو تلويث أو تهمة أو فرية ؟ أظن أنه لم يبق إلا هؤلاء النكرات الذين يقبعون وراء أحقادهم وأضغانهم بجهل فاضح ، وعزم كليل ، ليخدموا جهات مشبوهة ، وأنظمة متخلفة ظالمة ، تنتظر مصيرها المحتوم وجزاءها العادل على ما قدمت من سوء ، واقترفت من آثام في حق دينها وأمتها ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .


الإمام البنا يكشف أوهام أدعياء التصوف

رأي الإمام البنا فيما يحدث من أخطاء المتصوفة " يقول الإمام البنا في رسالة التعاليم ( الأصل الثالث ) : ( وللإيمان الصادق ، والعبادة الصحيحة ، والمجاهدة : نور وحلاوة ، يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده ، ولكن الإلهام والخواطر والكشف والرؤى ليست من أدلة الأحكام الشرعية ، ولا تعتبر إلا بشرط عدم اصطدامها بأحكام الدين ونصوصه ) .

ومعلوم أن للإيمان والاستقامة حلاوة ، يجدها المؤمن كثمرة للطاعة ، وهذا هو نفس ما قاله الإمام محمد بن عبد الوهاب في كتابه التوحيد الباب الثلاثين تعليقا على الحديث " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان . . . " المسألة الخامسة ( أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها ) ، وفي الباب التاسع والخمسين (ما جاء في منكري القدر ، المسألة الرابعة ) الإخبار بأن أحدا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به ( يقصد القدر ) .

ومعلوم أنه رد ورفض الإلهام والخواطر والكشف والرؤى كأدلة للأحكام ، ومعلوم أنها من أدلة الأحكام عند المتصوفة المنحرفين ، وهذا ما قرره أيضا صاحب كتاب التصوف بين الحق والخلق ( نشر دار السلفية - الكويت - الطبعة الناتجة ، في ص 9 ) ، فيقول : (واستعمل المتصوفة المنحرفة طريقة الكشف والأحلام والخواطر لإثبات صحة كثير من الأحاديث الضعيفة ، وتضعيف كثير من الأحاديث الصحيحة ) . قال الشيخ محيي الدين بن عربي : ( ورب حديث يكون صحيحا من طريق رواته حصل لهذا المكاشف الذي عاين هذا المظهر ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الحديث الصحيح فأنكره - وقال له لم أقله ، ولا حكمت به فيعلم ضعفه ، فيترك العمل به على بينة من ربه ، وإن كان قد عمل به أهل النقل لصحة طريقه ، وهو في نفس الأمر ليس كذلك ) ، وهذا أيضا من عمل دعاة المتصوفة المنحرفين . وفي ص ( 50 ) يقول : (وقد اعتمد ضلال المتصوفة طريقة الكشف والخواطر في تفسير القران الكريم محتجين بحديث يسندونه إلى رسول الله !ؤ جاء فيه : "ما من آية إلا ولها ظاهر وباطن وحد ومطلع ، ولكل مرتبة من هذه المراتب رجال ، ولكل طائفة من هؤلاء الطوائف قطب ، وعلى ذلك القطب يدور فلك ذلك الكشف ") . وبعد : فهل عرف هؤلاء أن الشيخ البنا -رحمه الله - قد قطع على هؤلاء المتجاوزين هذا الطريق بحديثه سالف الذكر الذي حدد فيه مرجع المسلم في تعرف أحكام الإسلام بقوله : (والقرآن الكريم و السنة المطهرة مرجع كل مسلم في تعرف أحكام الإسلام ، ويفهم القران طبقا لقواعد اللغة بغير تكلف ولا تعسف ، ويرجع في فهم السنة المطهرة إلى رجال الحديث الثقات ).

وبذلك يتضح لنا :

أولا: رد الأستاذ البنا على هذه الأوهام لدعاة التصوف ، شأن العلماء الإثبات الذين يكشفون الزيغ أينما كان ، وحيثما كان ، وكان سابقا في الرد على هؤلاء في رسالة التعاليم الأصل الثالث السابق ، والأصل الثاني قبله كذلك .

ثانيا : هل قرأ هؤلاء الأصليين (الثالث عشر والرابع عشر) اللذين يقرر فيهما الشيخ البنا –رحمه الله " محبة الصالحين بدون مخالفة الشريعة شأنه في ذلك شأن إخوانه العلماء ، أمثال ابن تيمية ، ومحمد بن عبد الوهاب والطحاوي وغيرهم ، وهانحن نذكر ما قاله هؤلاء العلماء ، حتى تستبين سبيل الصالحين من غيرهم ، يقول الشيخ البنا في (الأصل الثالث عشر) :

( ومحبة الصالحين واحترامهم والثناء عليهم بما عرف من طيب أعمالهم قربة إلى الله تبارك وتعالى، والأولياء هم المذكورون في قوله تعالى: الذين آمنوا وكانوا يتقون(يونس : 63)، والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية مع اعتقاد أنهم رضوان الله عليهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا في حياتهم أو بعد مماتهم فضلا عن أن يهبوا شيئا من ذلك لغيرهم ) .

ونلاحظ هنا في قول الإمام البنا :

1 - أنه حدد من هو الولي بقوله : (والأولياء هم المذكورون في قوله تعالى:الذين آمنوا وتهانوا يتقون) (يونس : 63) .

2 - أنه أثبت لهم الكرامة بشرائطها الشرعية .

3- أنه نفى عنهم الضر والنفع في حياتهم أو بعد مماتهم لأنفسهم أو لغيرهم . وهذا هو نفس ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في تحديد من هو الولي بقوله : (وأولياء الله هم المؤمنون المتقون -سواء سمى أحدهم فقيرا أو صوفيا أو فقيها أو عالما أو تاجرا أو جنديا أو صانعا أو أميرا أو حاكما أو غير ذلك - قال الله تعالى: " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (يونس : 62).

وفي إثبات الكرامة لهم يقول الإمام ابن تيمية : ( فأولياء الله المتقون هم المقتدون بمحمد صلى الله عليه وسلم فيفعلون ما أمر به فيؤيدهم بملائكته ، وروح منه ، ويقذف الله في قلوبهم من أنواره ، ولهم الكرامات التي يكرم الله بها أولياءه المتقين ).

ثم ذكر طرفا منها في ص 276 ، 277 ، 278 ، 279 ، 280 ، 281 ، 282، فقال : (الكرامات ثابتة بشرائطها الشرعية ، وهذه جملة من كرامتهم ، وبعض أحوالهم "فسعد بن أبي وقاص " كان مستجاب الدعوة ما دعى قط إلا استجيب له وهو الذي هزم جنود كسري وفتح العراق . و "عمر بن الخطاب " لما أرسل جيشا أمر عليهم رجلا يسمى "سارية " فبينما عمر يخطب فجعل يصيح على المنبر : يا سارية الجبل ، يا سارية الجبل ، فقدم رسول الجيش فسئل فقال : يا أمير المؤمنين لقينا عدوا فهزمونا ، فإذا بصائح : يا سارية الجبل ، يا سارلة الجبل ، فأسندنا ظهورنا بالجبل فهزمهم الله .

ولما عذبت " زنيرة " على الإسلام في الله ، فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها ،قال : المشركون أصاب بصرها اللات والعزى ، قالت : كلا والله ، فرد الله عليها بصرها.

ودعا "سعيد بن زيد " على أروى بنت الحكم فأعم بصرها لما كذبت عليه ، فقال : اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها ، واقتلها في أرضها ، فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت .

و" العلاء بن الحضرمي " كان عامل رسول الله في صلى الله عليه وسلم على البحرين ، وكان يقول في دعائه : يا عليم ! يا حليم ! يا علي ! يا عظيم ! ، فيستجاب له ، ودعا الله بأن يسقوا ويتوضئوا لما عدموا الماء والإسقاء فدعا لهم فأجيب ، ودعا الله لما اعترضهم البحر، ولم يقدروا على المرور بخيولهم فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم ، ودعا الله أن لا يروا جسده إذا مات ، فلم يجدوه في اللحد .

وجرى مثل ذلك " لأبي مسلم الخولاني " الذي ألقى في النار فما أصابه شئ ، ومشى هو ومن معه من العسكر على دجلة وهي ترمي بالخشب من مدها ثم التفت إلى أصحابه فقال : أتفقدون من متاعكم شيئا حتى أدعو الله عز وجل فيه ؟ ، فقال بعضهم : فشدت مخلاة، فقال : اتبعني فوجدها قد تعلقت بشئ فأخذها ، وطلبه الأسود العنسي لما ادعى النبوة، فقال له : أتشهد أني رسول الله ، قال : ما أسمع ، قال : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال نعم ، فأمر بنار فألقي فيها فوجدوه قائما يصلي فيها وقد صارت عليه بردا وسلاما ج وقدم المدينة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر الصديق –رضي الله عنهما-وقال : الحمد الله الذي لم يمتني حتى أرى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الله . ووضعت له جارية السم في طعامه فلم يضره . وخببت امرأة عليه زوجته فدعا عليها فعميت ، وجاءت وتابت ، فدعا لها فرد الله عليها بصرها. وكان " عامر بن عبد قيس " يأخذ عطاءه ألفي درهم في كمه ، وما يلقاه سائل في طريقه إلا أعطاه بغير عدد، ثم يجيئ إلى بيته فلا يتغير عددها ولا وزنها . ومر بقافلة قد حبسهم الأسد فجاء حتى مس بغيابه الأسد، ثم وضع رجله على عنقه ، وقال ة إنما أنت كلب من كلاب الرحمن ، وأني استحي أن أخاف شيئا غيره ، ومرت القافلة ، ودعا الله تعالى أن يهون عليه الطهور في الشتاء ، فكان يؤتي بالماء له بخار، ودعا ربه أن يمنع قلبه من الشيطان وهو في الصلاة فلم يقدر عليه .

وتغيب " الحسن البصري " عن الحجاج فدخلوا عليه رجاله ست مرات ، فدعا الله عز وجل فلم يروه ، ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتا .

و "صلة بن أشيم " مات فرسه وهو في الغزو، فقال : اللهم لا تجعل لمخلوق علي منة ، ودعا الله عز وجل فأحيا له فرسه ، فلما وصل إلى بيته ، قال : يا بني خذ سرج الفرس فإنه عارية ، فأخذ سرجه فمات الفرس ، وجاع مرة بالأهواز ، فدعا الله عز وجل واستطعمه ، فوقعت خلفه دوخلة رطب في ثوب حرير ، فأكل التمر وبقى الثوب عند زوجته زمانا، وجاء الأسد وهو يصلي في غيضة بالليل ، فلما سلم قال له : اطلب الرزق من غير هذا الموضع ، فولى الأسد وله زئير .

وكان " سعيد بن المسيب " في أيام الحرة يسمع الأذان من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلاة ، وكان المسجد قد خلا فلم يبق غيره . ورجل من " النخع " كان له حمار، فمات في الطريق ، فقال له أصحابه : هلم نتوزع متاعك على رحالنا ، فقال لهم : أمهلوني هنيهة ، ثم توضأ فأحسن الوضوء ، وصلى ركعتين ، ودعا الله تعالى، فأحيا له حماره فحمل متاعه . ولما مات " أويس القرني " وجدوا في ثيابه أكفانا لم تكن معه من قبل ، ووجدوا له قبرا محفورا فيه لحد في صخرة فدفنوه فيه ، وكفنوه في تلك الأثواب . وكان " عمرو بن عقبة بن فرقد " يصلي يوما في شدة الحر ، فأظلته غمامة ، وكان السبع يحميه وهو يرعن ركاب أصحابه ، لأنه كان يشترط على أصحابه في الغزو أنه يخدمهم .

وكان " مطرف بن عبد الله بن الشخير" إذا دخل بيته سبحت معه آنيته ، وكان هو وصاحب له يسيران في ظلمة فأضاء لهما طرف السوط . ولما مات "الأحنف بن قيس " وقعت قلنسوة رجل في قبره فأهوى ليأخذها، فوجد القبر قد فسح فجه مد البصر.

وكان " إبراهيم التيمي " يقيم الشهر والشهرين لا يأكل شيئا ، وخرج يمتاز لأهله طعاما، فلم يقدر عليه ، فمر بسهلة حمراء فأخذ منها، ثم رجع إلى أهله ففتحها ، فإذا هي حنطة حمراء ، فكان إذا زرع منها تخرج السنبلة من أصلها إلى فرعها حبا متراكبا .

وكان "عتبة الغلام " سأل ربه ثلاث خصال صوتا حسنا ، ودمعا غزيرا ، وطعاما من غير تكلف ، فكان إذا قرأ بكى وأبكى ، ودموعه جارية دهره ، وكان يأوي إلى مغزله فيصيب فيه قوته ولا يدري من أين يأتيه . وكان "عبد الواحد بن زيد " أصابه الفالج ، فسأل ربه أن يطلق له أعضاءه وقت الوضوء ، فكان وقت الوضوء تطلق له أعضاؤه ثم تعود بعده . وهذا باب واسع قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع .

وأما ما نعرفه عن أعيان ونعرفه في هذا الزمان فكثير.

ومما ينبغي أن يعرف أن الكرامات قد تكون بحسب حاجة الرجل ، فإذا احتاج إليها الضعيف الإيمان ، أو المحتاج أتاه منها ما يقوى إيمانه ، ويسد حاجته ، ويكون من هو أكمل ولاية لله معه مستغنيا عن ذلك فلا يأتيه مثل ذلك لعلو درجته ، وغناه عنها ، لا لنقص ولايته ؟ ولهذا كانت هذه الأمور في التابعين أكثر منها في الصحابة ؟ بخلاف من يجري على يديه الخوارق لهداية الخلق ، ولحاجتهم فهؤلاء أعظم درجة .

وهذا بخلاف الأحوال الشيطانية مثل حال " عبد الله بن صياد " الذي ظهر في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ظن بعض الصحابة أنه الدجال ، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم في أمره حتى تبين له فيما بعد أنه ليس هو الدجال ؟ لكنه كان من جخس الكهان ، قال له النبي صلى الله عليه وسلم في : "قد خبأت لك خبأ، قال : الدخ الدخ " .

وقد كان خبأ له سورة الدخان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " اخسأ فلن تعدو قدرك " . يعني إنما أنت من إخوان الكهان ؟ والكهان كان يكون لأحدهم القرين من الشياطين يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من السمع ، وكانوا يخلطون الصدق بالكذب ، كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب ، فتذكر الأمر قضي في السماء ، فتسترت الشياطين السمع فتوجيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم " .

هذا هو ما قاله الإمام ابن تيمية في كرامات الأولياء ، فهل خرج عن كلام الشيخ البنا؟ ، وأقول : لقد زاد عليه بذكر جم غفير من كراماتهم .

وأيضا وافقه فيها الإمام محمد بن عبد الوهاب ، وهو يبين عقيدته لمن سأله عن ذلك ، فيقول . "وأقر بكرامات الأولياء وما لهم من المكاشفات ، إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئا، ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله ).

وهو نفس ما قرره ولده عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب حيث يقول : (ولا ننكر كرامات الأولياء ، ونعترف لهم بالحق ، وأنهم على هدئ من ربهم إذا ساروا على الطريقة الشرعية والقوانين المرعية إلا أنهم لا يستحقون شيئا من أنواع العبادات لا حال الحياة ، ولا بعد الممات ). وهو نفس ما قرره الإمام الطحاوي في العقيدة الطحاوية ( المسألة 98 ، 99 ) بقوله : (ولا نفضل أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء-عليهم السلام -، ونقول نبي واحد أفضل من جميع الأولياء) ، ويقول : (ونؤمن بما جاء من كراماتهم ، وصح عن الثقات من رواياتهم ) .

إقرأ أيضاً

وصلات داخلية

تابع وصلات داخلية

تابع وصلات داخلية

وصلات خارجية