بعض جوانب المرشد الثاني للإخوان المستشار حسن الهضيبي

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
بعض جوانب المرشد الثاني للإخوان المستشار حسن الهضيبي


إخوان ويكي

مقدمة

المستشار حسن الهضيبي

انطلقت الدعوة وسط جموع الشعب المصري الأصيل بمدينة الإسماعيلية وحمل رايتها ستة نفر من العمال قبل أن ينضم إليها مختلف فئات الشعب بعد ذلك حيث كانت دعوة لا تفرق بين غني ولا فقير، ولا وزير أو غفير، قبل أن تنتشر في ربوع الأرض.

كون الإمام حسن البنا دعوته وهو شاب ناهز العشرين عاما بقليل لكنه امتلك أسلوب الدعوة والتربية معنا، فلم يقتصر على الخطابة فحسب، بل اهتم بتأليف الرجال الذين استطاعوا أن يفتحوا قلوب الناس بحسن قدوتهم لهم. حتى أن الكثيرون من أصدقاء حسن البنا من عارفي فضله من العلماء يحثونه على تأليف كتب في التفسير وفي مختلف فنون الإسلام ، ويلحون عليه في ذلك حرصا على تزويد المكتبة الإسلامية بنظرات عميقة وأفكار غير مسبوقة مما يسمعونه منه في بعض دروسه وفي مجالسه الخاصة معهم ..

ولكنه كان يقول لهم:

" دعوني من تأليف الكتب ، فمهما حوى الكتاب من نظرات وأفكار فإن هذه النظرات والأفكار ستظل حبيسة دفتيه، رهينة صفحاته حتى تصادف قارئا أهلا لفهمها قادرا على الانتفاع بها .. وقلما تصادف الكتب هذا اللون من القراء .. فأكثر المؤهلين لذلك لا تسعفهم ظروفهم باقتناء الكتب ولا بقراءته ..
أما أكثر الذين يقتنوها فإنهم يقتنونها ليزينوا بها أثاث بيوتهم – والمكتبة الإسلامية متخمة بالمؤلفات في جميع العلوم والفنون ، ومع هذا فإنها لم تغن عن المسلمين شيئا حين قعدت هممهم وثبطت عزائمهم وركنوا إلى الدعة والخمول ، واستكانوا للترف فركبهم الأعداء من كل جانب . والوقت الذي أضيعه في تأليف كتاب أستغله في تأليف مائة شاب مسلم ، يصير كل شاب منهم كتابا حيا ناطقا عاملا مؤثرا ، أرمي به بلدا من البلاد فيؤلفها كما ألف هو.
وهكذا وصلت الدعوة لكثير من الأماكن بفضل الرجال الذين ألفهم حسن البنا ورباهم على حقيقة الإسلام والتضحية من أجله، حتى أنهم ضحوا بأنفسهم في سبيله بما فيهم الإمام حسن البنا الذي تكالبت عليه قوى الشر فعمدت لاغتياله ظانين أنهم بذلك قضوا على دعوته عام 1949م، لكن تفاجأوا بما لم يضعوا في الحسبان من عودة الجماعة أشد فتية وكأن مرشدها ومؤسسها قد اغتيل أو مات.
وخاضت الجماعة غمار الدروب القانونية لاسترداد حقها المسلوب وإلغاء الأحكام الجائرة التي طبقت عليها وحدها في ظروف اشتثنائية حتى نالت حريتها وحكم لها بالعودة القانونية مرة أخرى، فكان لازاما عليها اختيار قائد ليقود المسيرة خلفا للبنا.
واجهت الجماعة بعض الظروف في هذا الوقت حتى استقر رأى قادت الجماعة على اختيار قيادة مرحلية تستطيع أن تجمع وتوحد صفوف الإخوان وتنظم صفوفها مرة أخرى بمعاونة مؤسسات الجماعة، فكان أن وقع الاختيار على المستشار حسن إسماعيل الهضيبي، وإن كان هذا الاختيار لاقى ترحابا من الإخوان إلا أن البعض أثار حوله الشبهات كونهم لا يعرفون تاريخ الرجل جيدا أو لم يكن أحد قادة الإخوان الكبار المتصدرين وجه الجماعة آنذاك.

غير أن الأستاذ محمود عبد الحليم يلقى الضوء على جانب مهم من جوانب شخصية المستشار الهضيبي وسبب اختياره لقيادة هذه المرحلة، حيث قال:

أولا: خبرته في الشئون السياسية والاجتماعية

كان الأستاذ حسن الهضيبي مستشارا بمحكمة النقض والإبرام وكان من القلائل الذين اشتهروا بين رجال القضاء بالجمع بين العلم والنزاهة والحصافة وقوة الشخصية وبعد النظر .. وله تاريخ عريق في المطالبة بجعل الشريعة الإسلامية قانون البلاد، ولا زالت مضابط مجلس الشيوخ المصري تسجل أروع دفاع له عن التشريع الإسلامي أمام أساطين علماء القانون في مصر الذين كان يضمهم هذا المجلس – حين كان المجلس في صدد مناقشته تعديل القانون المدني

وانتدب اثنين من كبار رجال القضاء للاشتراك في هذه المناقشة فانتدب رئيس محكمة النقض والأستاذ حسن الهضيبي وكنت أحتفظ فيما أحتفظ به بنسخة من مضبطة هذا المجلس بها جزء مما دافع به هذا الرجل عن الشريعة الإسلامية .. وقد كان جل همه أن يقنع المجلس بأن التشريع الإسلامي هو أوفي تشريع بمصالح الناس وأنه يجب أن يكون هو تشريع البلاد ..

ومما يجب أن يستحضره القارئ في خاطره إذ يقرأ هذا الذي أكتبه الآن أن مجرد الحديث في ذلك الوقت عن التشريع الإسلامي كان أمرا مستغربا ، بل أستطيع أن أقول أنه كان أمرا مستهجبنا، لأن الفكرة الإسلامية بوجه عام كانت لا تزال فكر مشوهة في أذهان الناس عامة وفي أذهان قادة البلاد خاصة

نتيجة الجهود المتواصلة التي بذلها المستعمر طيلة ما يقارب القرن من الزمان .. ولذا كان حديث الأستاذ الهضيبي في مجلس الشيوخ يعده الأكثرون في ذلك الوقت ضربا من الخرافة والرجعية ، ولولا أن الرجل كان على إيمان راسخ بما يقول ، ولولا أنه كان شخصية قوية ما استطاع أن يجهر بهذه الآراء .

والأستاذ الهضيبي ينحدر من أسرة عربية تقطن في مركز شبين القناطر . وقد تدرج في السلم القضائي من أول درجة فيه حتى وصل إلى أعلي درجاته ، وقد أثرت عنه مواقف قضائية مشرفة في مختلف هذه الدرجات ،وقد وضع الأستاذ محمد شوكت التوني – وهو محام كبير – كتابا يعد الفريد في بابه ولعله أول كتاب باللغة في موضوعه ، وهو كتاب "المحاماة فن رفيع"

وقد أتيحت لى فرصة قراءته في الأيام الأخيرة من معتقل سنة 1954 ،وهو يقع في أكثر من خمسمائة صفحة من القطع الكبير ، وقد استعرض كل ما يتصل بالمحاماة التي سماها القضاء الواقف في جميع دول العالم كما تحدث بإفاضة عن القضاء الجالس ..وكانت الشخصية الوحيدة التي اتخذها مثالا لأسمي صور العدالة والنزاهة والشجاعة والأدب والعلم وبعد النظر وسعة الأفق هي شخصية الأستاذ حسن الهضيبي .

وقد سجل في نفسي أول لقاء مع هذا الرجل – وكان ذلك في الجلسة التي كانت في بيته في المندرة والتي أشرت إليها آنفا – أن هذا الرجل يجمع في شخصيته صفتين هما أشبه بما وصف به المؤمنون الأقوياء من أنهم " رهبان بالليل فرسان بالنهار " فقد كان هذا الرجل مع صلابة عزمه رقيق القلب سريع الاستجابة للضعفاء بقدر ما هو عنيد لا ينثني أمام الأقوياء فلقد طأطأ ونسي عناده وانثني أمام دموع يوسف طلعت بعد أن كان مصرا على عناده أمام إخوان القاهرة وأعضاء مكتب الإرشاد حتى أدخل اليأس في قلوبهم .

ومعلوماتنا عن هذا الرجل في مدى احتكاكه بالأحداث الاجتماعية والسياسية لبلاده قد استقيناها من مصادر مختلفة بعضها وثائق مطبوعة ، وبعضها الآخر من زملاء له وأصدقاء .. أما الرجل نفسه فقد كان حريصا على أن تظل هذه المعلومات في طي الكتمان لأنه قد يري في الإفضاء بها نوعا من التباهي والتفاخر الذي كان يتجافي عنه ويكرهه .

وقد كنت في مسودة هذه المذكرات قد سردت هذه المعلومات سردا ، ولكن لما حان وقت تبييض هذه المسودات كان قد ظهر في السوق كتاب الأستاذ مصطفي أمين "سنة ثلاثة سجن" قرأت فيه بابا ضم هذه المعلومات نفسها لكن ميزته أنه أوردها عن لسان المرشد العام نفسه . فآثرت أن أوردها كما جاءت عن لسانه حيث جاءت أوضح وأكثر تفصيلا .

ولقد عجبت كيف استطاع مصطفي أمين أن ينتزع هذه المعلومات من بين شفتي الرجل الكتوم الشديد الحرص على ألا يبوح بشئ يتصل بنفسه ولكن يبدو أن براعة مصطفي أمين الصحفية بالإضافة إلى الظروف التي كانت محيطة بهما في السجن من طول المدة والفراغ الذي لا حدود له هي التي هيأت الفرصة للحصول على هذه المعلومات الدفينة في أعماق النفس .

وإلى القارئ نص ما نقله الأستاذ مصطفي أمين عن لسان الأستاذ الهضيبي في هذا الشأن تحت عنوان : السر الذي أخفاه المرشد العام الجديد ليمان طره في 8 سبتمبر سنة 1967.

أمضيت وقتا طويلا مع الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين وجاري في الزنزانة. وتحدث عن رأيه في الاغتيال السياسي فقال :

إنه من حق الشعب عندما يحتله جيش أجنبي أن يقاومه بالرصاص ولكنه لا يوافق على أن يقتل الناس خصومهم في الرأي . وروي لى أنه دخل الأزهر ومكث فيه سنة واحدة ولم يستفد شيئا . ثم دخل مدرسة باب الشعرية الابتدائية ثم مدرسة الخديوية الثانوية . وكان في أول الأمر تلميذ منطويا على نفسه ، يتفرج على الأحداث ولا يشترك فيها .
وبعد أن حصل على شهادة البكالوريا التحق بمدرسة الخديوية ، وقد سميت كذلك نسبة إلى الخديوي عباس . وذات يوم اتصل به زميله الطالب أمين صدقي وحدثه عن دخول جمعية سرية تعمل ضد الإنجليز . ورحب بأن يدخل الجمعية وأقسم على القرآن والمسدس ألا يفشي أسرارها لأى مخلوق . وكانت هذه الجمعية تنقسم إلى عدة خلايا وكانت الخلايا لا تعرف بعضها . وكانت الخلية السرية مؤلفة من خمسة أشخاص : رئيس وأربعة أعضاء .
وكان زملاء الهضيبي في الخلية الطالب حسن مختار رسمي الذي أصبح فيما بعد وكيلا لوزارة المالية ورئيسا لمجلس إدارة شركة غزل المحلة ، والطالب مغازي البرقوقي الذي أصبح بعد ذلك قاضيا ونائبا وفديا ووكيلا لمجلس النواب ،وأمين صدقي الذي أصبح بعد ذلك محاميا وحصل على دكتوراه في الحقوق ، والطالب عبد الخالق عطية الذي أصبح وكيلا لمجلس النواب .. وكان الزعيم محمد فريد هو رئيس الجمعية السرية .
وكان كل عضو من أعضاء الجمعية السرية مكلفا بأن يجند عضوا آخر ، وكان لحسن الهضيبي زميل في الفصل يأتمنه ويثق به فعرض عليه الأمر أن ينضم للجمعية السرية فوافق بعد أن سأل عن غرضها

فقال له الهضيبي :

إن غرضها قتل الإنجليز وعملاء الإنجليز ورحب الصديق بالفكرة ، ولكنه في اليوم التالي عاد يقول أنه رأي نفسه في المنام في الليلة السابقة يخنق أخته ففزع ،ولهذا فهو قد عدل عن الانضمام إلى الجمعية السرية – وأسقط في يد الهضيبي وأسرع إلى رئيس خليته يبلغه ما حدث . وأسرع رئيس الخلية إلى قيادة الجمعية يبلغها بما جري .
وعقدت القيادة محكمة لمحاكمة حسن الهضيبي .. أخذوه إلى شقة في بيت مهجور في حي سحيق وأدخلوه غرفة مظلمة..وجلس ثلاثة شبان إلى مائدة فوقها قرآن ومسدس وبدأ القضاة السريون يحاكمون حسن الهضيبي، يوجهون إليه أسئلة ويجيب عليها .. ثم أصدروا حكمهم أنهم تبينوا من التحقيق الذي أجروه أن حسن الهضيبي لم يفش لصاحبه سر الجمعية ، وأنهم لو كانوا شعروا من المحاكمة بأنه أفشي أسرارها لقتلوه على الفور رميا بالرصاص ، وأنهم لهذا يصدرون عليه حكم البراءة .

وتنفس الهضيبي الصعداء . وكان من حسن حظه أن زميله كان كتوما فلم يفش سر صاحبه لأحد. ولكن الهضيبي تعلم من هذا درسا لم ينسه طوال حياته . أن يكون حذرا وأن يكون كتوما . وذات يوم أصدرت قيادة الجمعية أمرا إلى الخلية السرية بأن تستعد للقيام بعملية هامة وهي الهجوم على قسم شرطة السيدة زينب والاستيلاء على كل ما فيه من أسلحة وتسليمها إلى قيادة الجمعية .

وعقدت الخلية السرية اجتماعا وضعت فيه خطة الهجوم على قسم الشرطة ووزعت على أفرادها الأدوار التي سيقوم بها كل واحد منهم . وذهب أعضاء الخلية وعاينوا مكان القسم واختاروا الوقت الملائم للهجوم وهي الساعة التي عرفوا أن عدد الجنود في القسم فيها يقل إلى حده الأدني . وتحددت ساعة الصفر للانقضاض .. وقالت لهم الجمعية إنها عملية انتحارية وقد يموتون فيها جميعا . وعاد الهضيبي ليلتها إلى بيته في حارة سليم بالسيدة زينب وأحرق كل أوراقه ، وبدأ يصلي استعدادا لكي يموت شهيدا .

وعند منتصف الليل دق الباب ، وتصور الهضيبي أن المؤامرة انكشفت وأن البوليس جاء ليقبض عليه... وتقدم إلى الباب ليفتحه وإذا بأحد زملائه أعضاء الخلية السرية يبلغه أن قيادة الجمعية قررت تأجيل العملية الانتحارية .. وسأل عن السبب فقيل له أنه ليس من حقه أن يسأل عن السبب . وسأل عن موعد التنفيذ فقال له صاحبه أن الأوامر ستصدر في الوقت المناسب .

وبعد ذلك أطلق إبراهيم الورداني الرصاص على بطرس باشا غالي رئيس الوزراء لأنه اتفق مع الإنجليز على الحكم الثنائي في السودان وأراد تجديد اتفاقية قناة السويس .

وسقط رئيس الوزراء قتيلا ، وقبض على عدد من أعضاء الجمعية ... وعرف الهضيبي عندئذ أن جمعيته هي التي اغتالت بطرس غالي .. فهل كانت الفكرة في أول الأمر هي مهاجمة قسم السيدة زينب والاستيلاء على أسلحته ليستعملها أعضاء الجمعية في هجوم جماعي على مجلس الوزراء يقتلون فيه رئيس الوزراء عند خروجه من رياسة مجلس الوزراء وحده بدل عشرة أشخاص كان المفروض أن يقوموا معا بهذه العملية .. أن حسن الهضيبي لم يعرف هذا السر أبدا .

وكل ما يعرفه ان أحد أعضاء جمعيته قتل رئيس الوزراء وأن العملية الانتحارية التي كان مكلفا بها لم تتم. ولم يقبض البوليس على حسن الهضيبي بين عشرات من أعضاء الجمعية الذين قبض عليهم للإشتباه ، ولم يتطرق الشك إلى أحد أن هذا التلميذ المنزوي الطيب المطيع هو عضو في الجمعية السرية التي أمر الإنجليز بالقبض على جميع أعضائها .

وانفرط عقد الجمعية ، ولم يعرف الهضيبي كيف انفرطت ، ولماذا انفرطت ولكنه عرف أن خليته لم تعد تتلقي أوامر أو تعليمات . ثم حدث أن حكمت المحكمة بالسجن لمدة ستة أشهر على الزعيم محمد فريد لأنه كتب مقالا هاجم فيه الخديو والإنجليز . وهرب محمد فريد إلى أوروبا. واختلف رأى الشبان في قرار الزعيم الوطني .

كان من رأى فريق أنه بعد أن قيدت الصحافة عقب مصرع بطرس غالي ، وبعد أن بدأت مطاردة الوطنيين – أصبح مجال العمل ضيقا أمام محمد فريد ، فهو سوف يكون في أوروبا مطلق اليدين ، يهاجم الاحتلال البريطاني والخديوي كما يشاء ويقلب العالم ضد الاحتلال والفساد في مصر. وفريق آخر كان يري أن واجب محمد فريد كان يقضي عليه أن يدخل السجن ولا يتخلى عن مكانه المعركة، وأن يبقي ليقاوم ويؤلب الشعب على الاحتلال .

وكان الهضيبي يؤيدها هذا الرأي الأخير .. فقد شعر أن الجيش أصبح بلا قائد ، وأن العلم الذي كان يجمعهم اختفي فجأة. وزاد في إيمانه أنه رأي أفراد خليته السرية حياري تائهين ثم لم يلبث أن رآهم تفرقوا ، لا يجتمعون ولا يتناقشون.. كأن محمد فريد عندما خرج من مصر أخذ مع حقائبه روح مصر.

وفي سنة 1914 أعلن الإنجليز الحماية على مصر ، وخلعوا الخديو عباس حلمي وأعلنوا الأمير حسين كامل سلطانا على مصر . وشعر الهضيبي كأن خنجرا أغمد في ظهره، ثم ما لبث أن أحسن أن خنجرا أكبر في قلبه .. أعلن الإنجليز الحماية على مصر .. ولم يتحرك أحد من المصريين ، لم تقم مظاهرة واحدة ، لم يلق حجر واحد على الجنود الإنجليز الذين ساروا في موكب من قشلاق قصر النيل إلى قصر عابدين يزفون السلطان الجديد إلى عرش مصر على أسنة حراب الاحتلال.

وأسرع الهضيبي إلى زملائه أعضاء الخلية السرية وإذا بالفجيعة تمزق قلوبهم ، العمل الوحيد الذي قام به بعض المتحمسين منهم أن وضعوا في عنقهم أربطة سوداء .. كانت الكرافتة السوداء هي العلم الوحيد الذي رفعوه. شعر الشباب المصري في تلك الأيام المريرة بالشقاء والذل والخزي والعار .

وأحسوا أن شرف كل واحد منهم لطخ بالوحل والطين .. أحذية الجيش البريطاني داست على رءوسهم جميعا.. أحسوا أكثر بالحاجة إلى القائد .. راحوا يقولون : لو كان محمد فريد موجودا في مصر لعرف كيف ينظم المقاومة وكيف يرد على صفعة الاحتلال .

وأوقف أمين الرافعي إصدار جريدته فضل أن يحطم قلمه على أن ينشر في جريدته نبأ أن مصر أصبحت تحت الحماية البريطانية .. أما جريدة المقطم التي كان يصدرها الدكاترة فارس نمر ويعقوب صروف وشاهين مكاربوس فقد أصدرت ملحقا بعناوين ضخمة في الصفحة الأولي " بشري للأمة المصرية .. إعلان الحماية البريطانية على مصر "

وكان هذا العنوان المخزي أشبه بكفن وضعت فيه جريدة المقطم جثة الشباب الوطني في مصر .. ولكن شباب مصر دفن ولم يمت .. الصدمة المفاجئة جعلته يتسمر في مكانه بلا حراك ..واختفاء محمد فريد من مصر كان أشبه باختفاء المنارة التي كانت تضئ للسفن الهائمة في أثناء العاصفة .

وأعلن السلطان الجديد تغيير اسم مدرسة الحقوق الخديوية إلى اسم " مدرسة الحقوق السلطانية ".. وأذاع قصر عابدين أن عظمة السلطان قرر أن يشرف مدرسة الحقوق السلطانية بزيارته – وكان بناء مدرسة الحقوق مجاورا لقصر عابدين . وتحدد يوم الزيارة .. وفرشت ممرات المدرسة بالرمل الأحمر ، ورفعت الأعلام استعدادا لمقدم السلطان .

وفي يوم الزيارة تلقي طلبة مدرسة الحقوق بطاقة مطبوعة بأن فلانا الطالب بالمدرسة توفي إلى رحمة الله وستشيع جنازته من منزله رقم 11 شارع المناخ في الساعة الحادية عشرة صباحا ، وعلى جميع الطلبة الاشتراك في تشييع الجنازة .

وكانت الساعة الحادية عشرة هي الموعد المحدد لزيارة السلطان . وكان العنوان المكتوب في البطاقة هو عنوان محل جروبي في شارع عدلي الآن . وترك الطلبة المدرسة وذهبوا لتشييع الجنازة الوهمية وفي جروبي تناولوا الجاتوه والحلوى على روح الفقيد المرحوم .. ودخل السلطان حسين إلى المدرسة فلم يجد فيها طالبا واحدا.

وجن جنون السلطان وهاج وماج وثار ... وعرف أن طلبة أكبر مدرسة عالية في مصر في ذلك الوقت أرادوا أن يلطموا السلطان لطمة علنية عقابا له على توليه عرش مصر في ظل الحماية البريطانية .

وقام السلطان ولم يقعد وقام الإنجليز ولم يقعدوا وقامت الحكومة ولم تقعد.. هذه ثورة ضد السلطان وضد الإنجليز وضد الحكومة . وقبض على عدد كبير من طلبة مدرسو الحقوق، وقبض على صاحب المطبعة الذي طبع بطاقة الدعوة لحضور الجنازة .

وعرض النائب العام على صاحب المطبعة كل طلبة مدرسة الحقوق ليتعرف على الطالب الذي طبع بطاقة الجنازة ..ولم يتعرف صاحب المطبعة على واحد منهم وقال أن الشخص الذي جاء لطبع البطاقة كان أكبر عمرا من هؤلاء الطلبة .. وهنا عرضت النيابة أساتذة مدرسة الحقوق على صاحب المطبعة فقال أن المجرم الأثيم ليس واحد منهم .

والواقع أن المجرم الأثيم لم يكن طالبا ولا مدرسا في مدرسة الحقوق وإنما كان عربجيا . كان العربجي الذي يقود العربة الحنطور التي تملكها أسرة الطالب فؤاد حمدى وتحمله كل يوم إلى المدرسة.

وأصدرت الحكومة قرارا بفصل عدد من طلبة الحقوق نهائيا ، وعدد آخر لمدة عامين وعدد ثالث لمدة سنة واحدة . وكان حسن الهضيبي أحد الذين فصلوا لمدة سنة واحدة . وحاول الطلبة أن يتظلموا فوجدوا أن كل الأبواب مغلقة في وجوههم . لا أحد يجرؤ على أن يتوسط لهم والسلطان ثائر ، والإنجليز حانقون والحكومة غاضبة.. سمع الهضيبي من زملائه المفصولين أن سعد زغلول باشا وكيل الجمعية التشريعية التي عطلها الإنجليز يتعاطف معهم .

وذهب مع بعض زملائه وقابلوه ، فإذا به يهنئهم لأنهم أعادوا الاعتبار للشعب المصري عندما لطمه السلطان .. ولكنه يعتبر نفسه ممثل الشعب الذي انتزعت سلطاته بإعلان الحماية .. ودهش الهضيبي لأن رجلا في الستين من عمره يتكلم بلغة الشباب ..وبعد خروجه من بيت زغلول قال لزميل له هذا الرجل يستطيع أن يقود مصر بدلا من محمد فريد..

قال له زميله : مستحيل ... مستحيل .

وبعد أربع سنوات قامت ثورة سنة 1919 بقيادة سعد زغلول وصدقت نبوءة الهضيبي .. وكان طلبة الحقوق المفصولون هم أول الذين مشوا وراء زغلول وأشعلوا الثورة .

ثانيا: هل الهضيبي طارئ على الدعوة ؟

أن الذين يريدون أن يقصروا صفة الإخوان المسلمين على الأشخاص الذين ضمت سجلات العضوية الرسمية أسماءهم والذين يؤدون اشتراكاتهم والذين ينتظمون في تشكيلاتهم – يريدون أن يضيقوا واسعا ويحجروا سهلا ميسورا .. فالإخوان المسلمون ليسوا شيئا مخترعا، ولا فكرا مبتكرا ولا دعوة مبتدعة – وإنما هي الفكرة الإسلامية : من اعتنقها وعمل لها وجاهد في سبيلها فقد صار من الإخوان المسلمين ، له كل حقوقهم ..

وعلى هذا الأساس من المعنى الفسيح الذي أرساه القرآن الكريم بقوله: (إنما المؤمنون إخوة) الحجرات : (10) تحدثت في مكة المكرمة – كما سبق أن ذكرت – إلى السيد أبي الحسن على الندوي في أخطر ما يتصل بالإخوان المسلمين .. ولم يشعر الرجل بغرابة في حديثي معه في هذا الشأن لأن هذا المعني الفسيح الرحب الجامع للإخوة الإسلامية هو أمر مقرر في نفس كل من فهم الإسلام وهو إحدي البديهيات فيه.

وقد أثبت في الصفحات السالفة كيف كان الأستاذ حسن الهضيبي عريقا في فهمه للفكرة الإسلامية وفي جرأته في التقدم بها وفي شرحها وفي الدفاع عنها أمام أعلي هيئة تشريعية في البلاد .. فهل يكون رجل كهذا غريبا على الدعوة الإسلامية ، دخيلا على الجماعة التي رصدت نفسها لنفس الفكرة ولشرحها والدفاع عنها .. وإذا كان مثله يعد دخيلا فمن إذن يكون فيها أصيلا ؟.

ومع ذلك فقد أثبتت الأحداث أن الأستاذ الإمام كان نقادا ماهرا ، وكان قديرا في وزن الرجال ووضعهم في مواضعهم فقد رأي أن الأستاذ حسن الهضيبي كنز ثمين يجب الحرص عليه والانتفاع به .. ولكنه رحمه الله كان يراعي ظروف بعض ذوي الوظائف الحساسة فيعفيهم من الظهور في أوساط الإخوان

ويجعل اتصاله بهم اتصالا شخصيا ، فهو يتبادل معهم الرأي ويشاورهم في الخطير من الأمور ، ويظهرهم على مواقف الدعوة وما يحيط بها من ظروف .. وان هذا هو دأبه مع الأستاذ الهضيبي .. ولذا فلم يكن يعرف علاقة الأستاذ الهضيبي بالإخوان إلا من كانت الظروف تدعو إلى هذه المعرفة من قلة من الإخوان . كما كان يعرف هذه العلاقة قلة من غير الإخوان .

فلقد قرأنا في ثنايا أحداث الأيام السوداء من عهد إبراهيم عبد الهادي أن الأستاذ الهضيبي كان الرجل الوحيد الذي كان بجانب الأستاذ الإمام في أشد هذه الأيام حلوكة وأن الأستاذ الإمام قد اتخذه صفية ومستشاره وموضع سره ، فقد كانا يجلسان معا في دار جمعية الشبان المسلمين على انفراد ..ويبدو أن الأستاذ الإمام قد أفضي إليه بكل ما عنده وشرح له جميع المواقف ، وحلل له كل الشخصيات ، بدليل أنه منذ أول يوم فوتح فيه في خلافة الأستاذ الإمام تحدث عن بعض شخصيات الإخوان حديث العليم الخبير ، مع أنه لم يسبق له اتصال بهم .

وأنقل للقارئ في هذا الشأن فقرة جاءت عرضا في شهادة الأستاذ محمد الليثي رئيس قسم الشباب بجمعية الشبان المسلمين أمام محكمة الجنايات في أثناء نظر قضية اغتيال الأستاذ الإمام وذلك في يوم 11/11/1953

حيث قال :

" ولما أحس البوليس السياسي بأن الشيخ البنا يتردد على الجمعية أخذ يراقبه لمعرفة المتصلين به .. وكنا قد اتفقنا على رموز للتفاهم بها .. حتى إنه حدث أن حضر الأستاذ الهضيبي، ونظرا لعدم معرفتي به أنكرت معرفتي بالشيخ البنا لاعتقادي أنه من البوليس السياسي .. وعرفت أخيرا من الشيخ البنا أنه هو الأستاذ الهضيبي".

وفي 18 / 11/ 1953 وفي أثناء شهادة الأستاذ مصطفي مرعي أمام نفس المحكمة وفي نفس القضية ، وجه إليه الأستاذ عبد القادر عودة – أحد أفراد هيئة الدفاع – سؤالا ودار النقاش على الوجه الآتي :

الدفاع – ألم تفهم الأسباب التي من أجلها كان الشيخ البنا يمهلك في الرد عليك ؟

مصطفي مرعي – كان لديه مستشار .

المحكمة – من المستشار ؟

مصطفي مرعي – الأستاذ الهضيبي .

هذا هو الأستاذ حسن الهضيبي الذي أشاع المغرضون أنه غريب عن الإخوان المسلمين

ثالثا: المقدرة الخطابية أو بين عهدين

لقد وضح تمام الوضوح أن الله تعالي يصنع لدعوته – وهو أعلم بما يصلح لها – فلقد علم أن هذه الدعوة في العشرينات والثلاثينيات قد طمست معالمها ، وشوه وجهها، وغابت تحت الأضاليل قسماتها وحتى أضحت غريبة على أهلها ، ومجهولة لأقرب الناس إليها – فاختار لها داعية من الشباب قوى البدن ذكي الفؤاد ذلك اللسان ، ذا بسطة في العلم والجسم . لا يمل ولا يكل .

فهو واعظ وكاتب وقائد ومعلم ومتنسك وفارس وخطيب .. إذ كانت الدعوة في ذلك الوقت في حاجة إلى من يجالس الناس في المقاهي ، وإلى من يربي من يستجيب له تربية حانية في خفاء ، وإلى من يؤم الناس في المسجد ، ويخطب فيهم خطبة الجمعة والعيدين وإلى من يكتب للناس شارحا دعوته مفندا ما علق بالإسلام من شوائب..وإلى من يبث في الشباب روح الفداء يرتدي الملابس العسكرية ويقف معهم في الصف ويقودهم في الطابور

كانت الدعوة في حاجة إلى من يواصل في سبيلها الأسفار ، فهو كل يوم في بلد وكل أسبوع في مدينة يغشي مجالس الناس ، ويجلجل صوته وسط جموعهم ، بأساليب تناسب هذه الجموع ... ففي جمع من هذه الجموع يناقش شئون الدولة العليا على ضوء الفكرة الإسلامية .. وفي جمع آخر يخاطب الناس فيقول : إن الناس قد فشا فيهم الجهل بالدين حتى إن رجلا مسلما كان يقرأ الفاتحة

فيقول : (بسم الله الرحمن الرحيم . الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين ، إياك نعبد وإياك نستعين. اهدنا الصراط المستقيم) الفاتحة :1-6 . ويعلق على لفظ "اهدم" تعليقا يجعل هذه الجموع تضحك ملء أشداقها ..فيقودهم وقد تفتحت قلوبهم بهذا الضحك إلى معالجة هذا الجعل بالإقبال على كتاب الله وهو ما يدعو إليه الإخوان ..

وهكذا فهو يخاطب كل قوم بأسلوبهم .. وقد يضطر في جمع واحد أن يخاطب في حديث واحد كل الحاضرين بمختلف مستوياتهم الثقافية بحيث لا يشعر أى منهم أنه غريب وسط هذا الجمع . كانت الدعوة بادرة صغيرة ، ونبتة ضعيفة في أمس الحاجة إلى من يحوطها ويطرد عنها الهوام والحشرات والحيوان من حولها حتى لا يفتك بها أو يفترسها .. كانت في أمس الحاجة إلى من ينكفئ فوقها .. يداريها من الرياح والعواصف والحر والبرد والصقيع .

كان حسن البنا هو الداعية الذي أهله الله تعالي بكل هذه المؤهلات .. فأدي دوره أحسن أداء ، ثم ذهب إلى ربه بعد أن بهر العالم بإيمانه وصبره ولسانه وقلمه وعلمه وسعة أفقه وقدرته على التكوين وصنع الرجال – وترك وراءه دعوة قد اكتمل شبابها ورسخت أقدامها وآتت أكلها كل حين بإذن ربها .

لم تعد الدعوة في حاجة إلى كبير عناء لشرحها للناس فقد فهمها الجميع لكثرة ما خوطبوا بحججها باللسان والقلم ، ثم اقتنعوا بها بعد أن رأوا بأعينهم الفاسدين من الشباب وقد صلحوا ،والهازلين وقد جدوا والجاهلين وقد تعلموا وبعد أن رأوا في نهاية الأمر رعيلا كالرعيل الأول من أصحاب رسول الله صلي الله عليه يتسابقون إلى الموت هاتفين (وعجلت إليك رب لترضي) (طه: 84) .

لم تعد الدعوة في حاجة إلى من يذرع البلاد شرقا وغربا ، ويجوبها شمالا وجنوبا، لا يبيت في بيته قدر ما يبيت في القرى والمدن فلقد استجابت البلاد للدعوة من أقصاها إلى أقصاها . ولم تعد فيها مدينة ولا قرية ولا عزبة إلا وفيها شعبة الإخوان ، وفيها قلوب تنبض بحب الدعوة وتفتديها .

لم تعد الدعوة في حاجة إلى ما كانت تحتاج إليه من قبل من حماية ، ولكنها وقد أزهرت وبانت ثمارها جنية شهية تسيل اللعاب .. أضحت في حاجة إلى من يكف أصحابها أنفسهم عنها من أن يسيل لعابهم فيمدوا أصابعهم إلى ثمارها ليقطفوها للاستمتاع الشخصي بها أضحت في حاجة إلى من يقنع الإخوان أنفسهم بأن يعلموا أن ثمار هذه الدعوة ليست ملكا لهم يستمتعون به، وإنما هي من حق الأمة الإسلامية جمعاء ..وإلا لما كان هناك داع لتقديم الدماء والأرواح التي قدمت عن رضا وطواعية لتروى هذه الشجرة العزيزة .

ما أشبه الدعوة في عديها بالدرجتين العليين المشهورتين : الفقير الصابر والغني الشاكر .. الأول كان في حاجة إلى كفاح مستمر ، وكد متواصل ، وجهد لا يفتر ومواصلة الليل بالنهار للحصول على الرزق الكفاف الذي يحفظ عليه الحياة – أما الآخر فقد توفر له الرزق بكل أشكاله وألوانه ، تجبي له الثمرات من كل مكان، فهو لا يحتاج إلى كد ولا كفاح ولا سعي ، لكنه يحتاج إلى أن يكف شهواته عن الانطلاق ،وإلى أن يكبح جماع نفسه ويقف بها عند الحدود .

وقد استطرد فأقول، أن نمو الدعوات لا يعمل فيه الزمن عملا متناسقا مطردا – كما قد يخطر بالبال – فتنمو الدعوة في سنتين ضعف نموها في سنة وفي ثلاث سنوات ثلاثة أمثال وهكذا .. بل إن من السنين ما يوقف النمو ومنها ما يضاعفه أضعافا مضاعفة .. ففي السنتين الأخيرتين قبل استشهاد الأستاذ الإمام انطلقت الدعوة انطلاقا لم نعد نستطيع معه ملاحقتها كأنما نشطت من عقال ..ولعل هاذ كان هو الذي دفع بالمستعمرين وأذنابهم إلى التعجيل بخطتهم للقضاء عليها .

وأذكر أنه قبيل السنتين الأخيرتين هاتين كنت مع الأستاذ الإمام فقال لى : " يا محمود .. لقد شارفت الأربعين ..وأن لكم أن تتولوا عني الكثير مما أقوم بها .. فحسب صاحب الأربعين أن يكون مرجعا يشير بالرأي ويشترك بالتوجيه ". وقد رأيت إثبات أن يكون لأبين أن الأستاذ الإمام – رحمه الله – كأن يتأهب لدور هو أشبه بالدور الذي تقلده ونهض به الأستاذ الهضيبي .. ولا شك في أن الدعوة يوم تسلم قيادتها الأستاذ الهضيبي كانت قد وصلت إلى الوضع الأمثل لهذا الدور .

وأعتقد لو أن حسن البنا – أوسع الله له في جناته – كان على قيد الحياة في سني الخمسينيات ما واصل النهج الذي كان ينتهجه بل كان يعدل عن كثير من هذا النهج ، ولسلك نفس الأسلوب الذي سلكه الأستاذ الهضيبي ، فما عادت الدعوة محتاجة من قائدها إلى خطب ومحاضرات بقدر حاجتها إلى قائد قادر على اتخاذ القرار.

والهضيبي وأن لم يكن من أ÷ل الخطابة واللسن – وعد بعض البسطاء هذا عيبا فيه –فإن الإخوان المسلمين – وهم أدرى الناس بما تفتقر إليه دعوتهم – لم يروا ذلك عيبا فيه .. بل أحسوا بأن هذا الرجل بعزوفه عن الكلام ، مع مقدرته الفائقة على اتخاذ القرار ، وجرأته في الحسم وجلاء بصيرته في النظر إلى الأمور، وبعد نظره في الحكم عليها ..

أحسوا بأن هذا الرجل هو رجل الساعة لأن الظروف التي أحاطت بالدعوة في تلك الحقبة من الزمن كانت أحوج إلى تلك الصفات في القيادة منها إلى ذلاقة اللسان وبراعة البيان لا سيما وجماهير الإخوان كانت تعج بالخطباء والشعراء والكتاب والمحاضرين الذين لا يشق لهم غبار .

ومما يعد برهانا على أصالة هذا الرجل في الدعوة الإسلامية ، وعلى اكتمال عناصر القيادة فيه ، أنه في خلال أقل من عام استطاع أن يحتل قلب كل أخ مسلم، لا في مصر وحدها بل في أنحاء العالم العربي والإسلامي ..ومحال أن يستطيع ذلك إنسان عادي أو إنسان مخادع أو إنسان ضعيف الشخصية أو إنسان تنتابه نوبات الأثرة والأنانية ، أو تتجاذبه رياح الأهواء والشهوات.. لا سيما وجمهور الإخوان المسلمين – مع اتساع نطاقه وكثرة عدده واختلاف مستوياته المادية والاجتماعية – جمهور يقظ مستنير ليس من السهل خداعه ولا التمويه عليه..

هل سخر الهضيبي الدعوة لأغراضه الشخصية؟

وقد أثار المغرضون حول هذا الرجل أخيرا أنه رجل سياسي استغل الدعوة للوصول إلى كراسي الحكم ..وسوف يرى القارئ إن شاء الله في سير الأحداث التي عاشها هذا الرجل ، ومواقفه فيها ما يدحض هذه المفتريات ويقوضها من أساسها ، وما يكشف عن حقيقة التي كان هو حريصا على إخفائها ، ولكن الأيام تكفلت بإظهارها، وأثبتت أن الرجل كان من أزهد الناس في دنيا الناس.

وإلى هؤلاء المغرضين الذين رموا الرجل بأنه سخر الدعوة لأغراضه السياسة الخاصة نسوق القول فنقول : إن الطريق الذي سلكه حسن الهضيبي كان هو نفس الطريق الذي سلكته الدعوة من قبل ، لا في أواخر أيام حسن البنا فحسب ، بل منذ أوائل أيامها ..

ففي عام 1939 ورد في البيان الذي ألقاه حسن البنا في المؤتمر الخامس ما يلي :

" إن انجلترا لا تزال تضايق مصر رغم محالفتها إياها . ولا فائدة في أن نقول أن المعاهدة نافعة أو ضارة أو ينبغي تعديلها أو يجب إنفاذها . فهذا كلام لا طائل تحته ، والمعاهدة غل في عنق مصر ، وقيد في يديها ما في ذلك شك.. وهل نستطيع أن نتخلص من هذا القيد إلا بالعمل وحسن الاستعداد ؟ فلسان القوة هو أبلغ لسان فلنعمل على ذلك ولنكتسب الوقت إذا أردنا الحرية والاستقلال ".

وفي رسالة وجهها الأستاذ الإمام في منتصف الأربعينات إلى رئيس الحكومة وأعضاء الهيئات النيابية ورؤساء الهيئات الشعبية السياسية والوطنية والاجتماعية وإلى الأمة تحت عنوان " مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي "

جاء فيها :

" لقد فاوضنا فلم نصل إلى شئ لتعنت الإنجليز وتصلبهم ومناورتهم ..واحتكمنا فلم نصل إلى شئ كذلك أمام تغليب المصالح والمطامع الاستعمارية .ولقد قال لى كاتب فاضل : إننا وصلنا إلى كسب أدبي عظيم بالدعاية الواسعة لقضيتنا بطرحها أمام العالم كله ، وإخراجها من حيز التفاهم الثنائي الضيق إلى حيز التحاكم الدولي الواسع .. وذلك صحيح – ولكن هذا الكسب الأدبي لن يغني عن الحقيقة الواقعة شيئا وهي أننا مازلنا مع الإنجليز حيث كنا لم نتقدم خطوة ، بل إن هذا الركود مدعاة إلى التساؤل والبلبلة .
لم يبق إذن إلا "النبذ على سواء" بأن نعلنهم بالخصومة الصريحة السافرة ، ونقرر في صراحة إلغاء ما بيننا وبينهم من معاهدات واتفاقات ، ونعلن اعتبار أمة الوادي معهم في حرب – ولو سلبية – وتنظيم حياتنا على هذا الاعتبار: اقتصاديا بالاكتفاء والاقتصار على ما عندنا وعند إخواننا العرب والمسلمين والدول الصديقة – إن كانت – واجتماعيا حتى يأتي أمر الله، وتهيأ نفوس الشعب لذلك بدعاية واسعة تامة كاملة تفعل الأمم إذا واجهت حالة الحرب الحقيقية ، وتتغير كل الأوضاع الاجتماعية علي هذا الأساس .
وهذا العمل لا يتسني للأفراد ولا للهيئات ابتداء ولكن الحكومة هي المسئولة عنه أولا وأخرا . والعجيب أن رئيس الحكومة (النقراشي) أعلن هذا صراحة في مجلس الأمن ثم عاد فلم يعمل شيئا ، ولم يتقدم في هذا السبيل خطوة ..وهذا واجب الحكومة قطعا، وأما الشعب فنحن نقولها في صراحة ووضوح وثقة ،إنه على أتم استعداد لبذل كل شئ لو سلكت الحكومة هذا السبيل ..
إنه مستعد ليجوع وليعري وليموت ويناضل ويكافح بأشد أنواع النضال والكفاح . ولكن على شريطة أن يكون ذلك في سبيل حريته واستقلاله لا في سبيل ارتباك اللجان الحكومية وضعف الوسائل الإدارية ، والتخبط في السياسة الاقتصادية ،والوقوف أمام مكايد الإنجليز وضغطهم موقف المستسلمين العاجزين .
لقد سمعت عاملا فقيرا يقول حين صدرت الأوامر بخلط الخبز: إنني مستعد أنا وأولادي أن نأكل كل يوم مرة واحدة ، إذا وثقنا من أن هذا في سبيل الحرية والتخلص من الإنجليز .. فالشعب على أتم استعداد للبذل ، ولكن في طريق واضحة مرسومة تؤدي إلى الحرية أو الشهادة بقيادة حكومة حازمة ترسم له في قوة وإخلاص مراحل هذا الطريق – أما إذا استمرت الحكومة في ترددها وتراخيها واضطرابها فلن يؤدي ذلك بالشعب إلا إلى أحد أمرين : إما أن يثور وإما أن يموت . وكلاهما جريمة وطنية لا يغتفرها أبدا التاريخ . " هذه هي الطريق فاسلكوها في ضوء الإسلام والله معكم ألا هل بلغت ؟ اللهم فاشهد".

ليت شعرى أليس هذا هو كلام حسن البنا ، أو ليست هذه هي الطريق التي شرحها وفصلها وطلب من الإخوان المسلمين سلوكها ؟.. فهل سلك الهضيبي سبيلا غير هذا السبيل ؟ أم كان كل ما عمله هو مواصلة السير في نفس الطريق دون أن يحيد عنها ؟!

على الذين يتهمون الرجل بأنه خرج بالدعوة عن مسارها الذي رسمه لها قائدها الأول وبأنه حاد بها عن هذا المسار ، وسلك بها نهجا مبتدعا لأطماعه الشخصية .. على هؤلاء أن يقرأوا ما اقتطفناه من توجيهات القائد لأول ليعلموا أن الهضيبي لم يكن في قيادته للدعوة إلا مواصلا للخط الذي رسمه هذا القائد الأول لم يحد عن ذلك قيد أنملة .

وسوف يرى هؤلاء – بعد قليل إن شاء الله – أنه – بمواصلة هذا الطريق المرسوم – قد وصل بالدعوة إلى الوضع الذي صارت فيه مناصب الحكم لا في قبضة يده فحسب بل صارت تحت أقدامه ولكنه عزف عنها ، وترفع بالدعوة الطاهرة عن أن يلحق بها دنس الحكم في ظل عرش آثم ..وليس هذا فحسب ، بل إنه – مبالغة منه في الاحتفاظ للدعوة بنقائها وبعدا بها عن مواطن الشبهات – قرر منع الإخوان من الاشتراك في الانتخابات منعا قاطعا مع أن فوز الأكثرين منهم كان مضمونا.

فهل مثل هذا الرجل يرمي بأنه حاد بالدعوة عن طريقها المرسوم وسلك بها طريقا آخر سخرها فيه لمآربه الشخصية وجريا وراء مناصب الحكم؟ ... ألا فليتق الله ، وليرعوا أولئك الذين لا هم لهم إلا أن يتلمسوا للبرءاء العيب .