صبيح براك

مقدمة
إن إكرام الضيف من مكارم الأخلاق، وجميل الخصال التي تحلَّى بها الأنبياء، وحثَّ عليها المرسلون، واتصف بها الأجواد كرام النفوس، فمَنْ عُرِفَ بالضيافة عُرِف بشرف المنزلة، وعُلُوِّ المكانة، وانقاد له قومُه، فما ساد أحد في الجاهلية ولا في الإسلام، إلا كان من كمال سُؤدده إطعام الطعام، وإكرام الضيَّف، كما قال ابن حِبَّان يرحمه الله: "والعرب لم تكن تعدُّ الجودَ إلا قِرَى الضَّيف، وإطعام الطعام، ولا تعدُّ السَّخيَّ من لم يكن فيه ذلك".
وقد حثَّنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على إكرام الضيف؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليُكرم ضيفَه" "رواه البخاري ومسلم"، ومن هؤلاء الذين اشتهروا بين الناس بإكرام الضيف – في عصرنا الحديث – والإحسان إلى عابري السبيل العم صبيح براك عبدالمحسن الصبيح.
حياته
ولد صبيح بن براك بن عبد المحسن الحمد اليوسف الصبيح في (فريج سعود) بمنطقة القبلة عام 1319هـ الموافق لعام 1901م وقد ذاق مرارة اليتم وهو طفل صغيرا لم يتجاوز عمره العامين حين توفت والدته فأخذته جدته لأبيه وقامت بتربيته والعناية به فأحسنت تربيته
وتعلم مبادئ القراءة والكتابة وتلاوة القرآن الكريم في منطقة القبلة فأجاد واخذ القرآن الكريم دستورا له طوال حياته فاكرمه الله سبحانه وتعالى ايما كرم واعطاه، وكان جده يوسف عبد الرزاق الصبيح من رجالات الكويت الذين اشتهروا بالكرم والعطاء. (1)
نشاطه التجاري
كان صبيح البراك - رحمه الله - شغوفا بالتجارة محباً لها فبدأ حياته التجارية ونشاطه بمبلغ زهيد من المال مشاركا زميله وصديقه المرحوم خالد سليمان العدساني وكان ذلك في فترة الخمسينيات ثم استقل عنه معتمدا على الله سبحانه وتعالى فبارك الله في تجارته فنمت واتسعت وشملت مجالات عديدة خاصة في مجالي المقاولات والعقارات وفتح ابوابا كثيرة للعيش الكريم لأناس كانوا يعملون معه
فقام ببناء بيوت كثيرة في منطقة كيفان وعدة مدارس في منطقة الشويخ فاتسع نشاطه وذاع صيته ورغم كل ذلك كان متواضعا لدرجة الابهار والدليل على هذا اشرافه بنفسه على كل صغيرة وكبيرة في اعماله وتجارته بل وكان - رحمه الله - يستخدم سيارته الخاصة والمتواضعة في النقل والتصريف وكل ما يخص اعماله التجارية. (2)
لما ذاع صيت صبيح البراك في مجال المقاولات والعقارات وأصبح اسمه يتردد كثيرا بين الناس لنزاهته واخلاصه في أعماله وتجارته وكرمه مع الناس كل الناس رأي أولاده ان السيارة التي يستخدمها والدهم لا تليق بمكانته واسمه فقرروا شراء سيارة جديدة له..
يروي الاستاذ محمد بن ابراهيم الشيباني في مقالة له بالزميلة "القبس" نقلا عن مشاري ولد صبيح البراك قصة تلك السيارة قائلا:
- رأينا ان نشتري للوالد سيارة تليق بمقامه فاشترينا هذه السيارة لكنه في البداية رفضها لأنه يرى ذلك تمايزا على الناس ومع الحاحنا قبلها لكن بعد ايام وجدنا "الهدسن" وقد علق بها الغبار والطين وكانت المفاجأة في الداخل حيث وجدنا المقعد الخلفي كله أكياس اسمنت وشيئا لا يوصف من الغبار فلما سألناه عن ذلك قال ألستم تريدون مني استعمالها؟ لقد استعملتها فجعلت المقعد الخلفي لكيس الاسمنت والطابوق والادوات والمقعد الامامي لي فقط انظروا اليه نظيفا ليس فيه اي اتربة وخلافه. (3)
كان يعمل في مجال البناء وتجارة الإسمنت والطابوق، وقد تنامت ثروته وبارك الله فيها، حتى بلغ رصيده اكثر من مائة مليون روبية خلال الحرب العالمية الثانية وهذا المبلغ يعتبر ثروة كبيرة في ذلك الوقت فكان رصيده أيام الحرب العالمية الثانية أكثر من 100 مليون روبية
وكانت سحوباته اليومية بالملايين وكان يودع أمواله في (البنك الشاهي البريطاني) (1942م) وهو فرع من البنك الرئيس في لندن ، كان موقعه بداية في السوق الداخلي ثم نقل من مكانه إلى مكان بني خصيصاً له في ساحة الصفاة ثم تغير اسم البنك إلى (البنك الإمبراطوري) ثم إلى (البنك البريطاني للشرق الأوسط)
لما رأى مدير البنك (مايتسن) إيداع وسحوبات هذا الرجل بالملايين أبلغ البنك الرئيس في لندن بذلك ، فأمر رئيس مجلس إدارة البنك هناك بدعوته إلى لندن كي يتحاور معه ويقف على كيفية حصوله على هذه المبالغ وعن كيفية حساباته اليومية لها.
لم يمانع من السفر إلى لندن لمعرفة ما يريدون فمن البصرة إلى البحرين ومنها إلى الهند ثم إلى لندن وفي لندن حجزوا له في لوكاندة غرفة وطلب منهم أن تكون قرب الحمام ليستطيع الوضوء والتطهر للصلاة من دون مشقة
قال له رئيس البنك الشاهي :
- رأينا أنك تسحب وتودع في اليوم ملايين فأردنا معرفة كيف تحسب هذه الأموال ؟ وكان للتجار الأولين حسبة لا يعرفها إلا القليل من الناس وطريقتهم، وعندما رجع من لندن وبعد أن مكث فترة من الوقت دعي وابنه مشاري إلى حفل القنصلية البريطانية في البصرة وكان هذا الحفل خاصاً بالتجار الكويتيين وقد صور الاحتفال على فيلم سينمائي. (4)
أخلاقيات التاجر الصدوق
كان صبيح البراك - رحمه الله - مثالا للتواضع الشديد عن رفعة والصبر والاحسان واللطف.. حدث ان طلب منه احد اصدقائه ذات يوم ان يعتني بنخلة كانت امام منزله فوافق مرحبا على طلبه ورغم الحرارة الشديدة بدأ العمل في الحديقة ولما رأت زوجة الجار ذلك قالت لخادمها: "اذهب بالغداء الى العامل في الحديقة" فرد عليها زوجها: "لا يسمعك.. هذا صبيح البراك!".
موقف اخر طريف يرويه صهره سعد خيران المطيري فيقول:
- كان المرحوم صبيح البراك يمتلك في منطقة الخبر في المملكة العربية السعودية الكثير من الاملاك ولديه العديد من المشروعات هناك فاصطحبني يوما الى هذه المنطقة ووصلنا اليها مبكرا ذات صباح وانتظرنا على دكة المحل الرئيسي للمرحوم صبيح البراك فلم يعرفه حارس المحل الذي عين حديثا فهزنا طالبا منا الانصراف وعدم الجلوس على مدخل المحل فليس هذا مكان انتظار
- ولما كدت ان انهره اوقفني المرحوم صبيح قائلا: "الحارس لا يعرفنا وهو يؤدي واجبه فلا تلمه بل اشكره على اداء واجبه" وبالفعل تحركنا من امام المحل وانتظرنا في السيارة حتى موعد الدوام ولما حضر العمال وبدأوا اعمالهم وحان وقت الغداء شاهد الحارس وكيل المحل ينادي: "تفضل يا عم صبيح وهنا أدرك الحارس من يكون الرجل فتقدم إليه واعتذر عما بدر منه لكن المرحوم صبيح لم يعاتبه أو يؤنبه على ما فعل" (5)
وهكذا ضرب لنا التاجر صبيح البراك رحمه الله نموذجاً رائعاً من الاعتماد على النفس، والمثابرة والجد في سبيل الوصول إلى الغايات وتحقيق الآمال، كما امتزج ذلك الطموح والنجاح بتواضع جم وبر وإحسان، حتى أنه كان - رحمه الله – لا يرد السائل فإذا لم يعطه شيئاً يقول له : (يصير خير) أي سيعمل ما في وسعه لمساعدته، كان يحج عاماً ويبقى عاماً ويُسيّر معه على حسابه نفراً من الحجاج
يقول الدكتور عبدالمحسن الخرافي:
- "لقد روى لي ذلك شخصيا بعض من الاعمام الأفاضل الذين حجوا معه وذكروا لي من تواضعه انه كان يقوم بتوزيع الطعام بنفسه على حجاج بيت الله الحرام غير معتمد على الخدم والعمال حتى شهدت ذلك بنفسي حين رافقته في الحج بصحبة العم عبداللطيف العلي الشايع فعرفت من التواضع والكرم معناهما الكبير".
ويشهد أهل الزبير والخبر انه اذا نفذ مشروعا فيه تمديد مياه أو تعبيد طرق سحب لهم منها نصيبا مفروضا على حسابه الخاص احتسابا لوجه الله تعالى. (6)
بل كان يقوم به من توزيع صدقاته بنفسه ويذهب للإنسان المحتاج دون أن ينتظره ليطرق عليه الباب خاصة اذا علم بحاجته، لقد كان - رحمه الله - دائم المساعدة لكل انسان في أي مكان فمن أبرز أعمال المساعدة التي قام بها اهتمامه الكبير بأهل منطقة البير في نجد بالمملكة العربية السعودية مسقط رأس جده يوسف عبدالرزاق الصبيح حيث قام وساعد أهل هذه المنطقة في حفر آبار المياه في الأربعينيات والخمسينيات.
وكان يمتلك ديوانا في القبلة بجوار مسجد الساير وكان هذا الديوان مفتوحا ليل نهار لكل عابر سبيل أو ضيف ويقدم فيه الطعام يوميا للمحتاجين والفقراء.. هذا جانب أما الجانب الاخر فقد امتد عشقه لعمل الخير الى الجيران تحديدا في مناطق الزبير والمدينة المنورة والخبر لدرجة أنه كان لا يدخر وسعا في شراء المساكن للذين لا مأوى لهم ولا سكن. (7)
كان - رحمه الله - من شدة حبه للزراعة والنخيل وتربية الأغنام كان يرعاها بنفسه ويهتم بها اهتماما كبيرا فقد كانت متعته في الحياة.. ولأن النخلة شجرة مباركة فكان لا يبخل على احبائه وأصدقائه بفسائل النخل الجيدة حيث انه كان يمتلك نخلا كثيرا في البصرة لذلك كان من عاداته أن يسأل عن أصحابه وجيرانه الذين لا يملكون نخيلا ويذهب إليهم بنفسه ويعطيهم منها.
كما قام ببناء المساجد في الكويت وغيرها من المناطق المجاورة.. فقام ببناء مسجد في كيفان سنة 1389هـ الموافق لعام 1969م ومازال هذا المسجد قائما يحمل اسمه حتى الان.. كما ساهم في بناء العديد من المساجد في المدينة المنورة والخبر والزبير.
وكان ويقوم بإرسال المرضى الذين يحتاجون الى العلاج بالخارج على نفقته الخاصة في سرية تامة.. كما كان له دور فعال في ارسال الطلاب للدراسة في الخارج على نفقته الخاصة وتحمله بعض نفقات الطلاب غير القادرين. (8)
دوره الوطني
عندما وقع العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956م سارع بالتبرع لها بمبلغ وقدره 3 ملايين روبية اسوة بغيره من التجار الكويتيين الذين وقفوا بجانب مصر وقفة مشرفة لذلك فقد منحه جمال عبد الناصر وسام الاستحقاق تقديرا له على هذا الموقف النبيل.
أحد مؤسسي جمعية الإصلاح الإجتماعي
كانت صفات العم صبيح براك الصبيح تدفعه للتعاون من أجل العمل لدين الله وخدمة الناس والاحسان للمحتاجين، فما أن اجتمع ثلاثون رجلاً من خيرة رجالات الكويت في يوم السبت 16 من محرم الحرام 1383 هـ الموافق 8 من يونيو 1963 م ، في ديوان الحاج فهد الحمد الخالد – رحمه الله – وتباحثوا في ضرورة قيام كيان إسلامي في هذا البلد الطيب ليسهم في الحفاظ على دين وأخلاق المجتمع
حتى اتفق الحضور على تأسيس جمعية جديدة باسم (جمعية الإصلاح الإجتماعي) - حيث كانت امتداداً طبيعياً لجمعية الإرشاد التي تأسست في 1372 هـ الموافق 1952م، وكان أبرز من حضر عبد الله المطوع وفهد الخالد وعبدالرحمن المجحم ومحمد يوسف العدساني وصبيح براك الصبيح ويوسف الحجي وعبدالعزيز المزيني وغيرهم حيث كانت في منطقة أم صدة بمنطقة الرقاب قبل أن تنتقل لموقعها الحالي في منطقة الروضة. (9)
وفاته
شاءت ارادة الله سبحانه وتعالى أن يتوفى هذا الرجل الكريم المحسن المضياف صبيح البراك الصبيح في حادث سيارة في طريق الدمام - الاحساء بالمملكة العربية السعودية في عام 1395هـ الموافق 14 يوليو 1975م، وكان رحيله صدمة لجميع من عرفوه وزاملوه وعاشروه.
المصادر
- صحيفة الشاهد: محسنون من بلدي، العدد 2018، الأربعاء 23 يوليو 2014، صـ8.
- *صبيح براك عبدالمحسن الصبيح .. حياة حافلة بالبذل والعطاء (جريدة الوطن)
المراجع
- رياض عواد: الوسط، العدد 3193، السنة 12، 5 رمضان 1439هـ - 21 مايو 2018م، صـ9.
- محسنون من بلدي: الشاهد، العدد 257، 12 سبتمبر 2008م، الحلقة 21.
- محمد بن إبراهيم الشيباني: ما لم يكتب عن صبيح البراك الصبيح جريدة القبس: العدد 9874 – 23 ديسمبر 2000م، نسخة إلكترونية
- محمد بن إبراهيم الشيباني: ما لم يكتب عن صبيح البراك الصبيح، مرجع سابق.
- بيت الزكاة الكويتي: محسنون من بلدي، الجزء الثالث، صـ 55 - 70
- عبدالمحسن الخرافي: جريدة القبس الكويتية، العدد 9860، الموافق 29 نوفمبر 2000م.
- عبدالعزيز سعود العويد: معجم مساجد الكويت، طـ1، شركة غراس للدعاية والنشر والتوزيع، 1431هـ/ 2011م، صـ156.
- بيت الزكاة الكويتي: محسنون من بلدي، الجزء الثالث، صـ 55 - 70
- علي فهد الزميع: الحركات الإسلامية السنية والشيعية في الكويت (الجزء الأول 1950 - 1981)، نهوض للدراسات والنشر، طـ1، 2018م، صـ169.